تفسير سورة الأعراف

تفسير البيضاوي
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب أنوار التنزيل وأسرار التأويل المعروف بـتفسير البيضاوي .
لمؤلفه البيضاوي . المتوفي سنة 685 هـ
سورة الأعراف مكية غير ثمان آيات من قوله :﴿ واسألهم ﴾ إلى قوله :﴿ وإذ نتقنا الجبل ﴾ محكمة كلها وقيل إلا قوله :﴿ وأعرض عن الجاهلين ﴾ وآيها مائتان وخمس أو ست آيات.

[الجزء الثالث]

(٧) سورة الأعراف
مكية غير ثمان آيات من قوله: وَسْئَلْهُمْ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ محكمة كلها. وقيل إلا قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وآيها مائتان وخمس أو ست آيات.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١ الى ٢]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
المص سبق الكلام في مثله.
كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف أي هو كتاب، أو خبر المص والمراد به السورة أو القرآن. أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفته. فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي شك، فإن الشاك حرج الصدر أو ضيق قلب من تبليغه مخافة أن تكذب فيه، أو تقصر في القيام بحقه، وتوجيه النهي إليه للمبالغة كقولهم: لا أرينك ها هنا. والفاء تحتمل العطف والجواب فكأنه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك. لِتُنْذِرَ بِهِ متعلق بأنزل أو بلا يكن لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم أو علم أنه موفق للقيام بتبليغه.
وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل النصب بإضمار فعلها أي: لتنذر به وتذكر ذكرى فإنها بمعنى التذكير، والجر عطفاً على محل تنذر والرفع عطفاً على كِتابٌ أو خبر المحذوف.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعم القرآن والسنة لقوله سبحانه وتعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يضلونكم مّنَ الجن والإِنس. وقيل الضمير في مِنْ دُونِهِ ل ما أُنْزِلَ أي: ولا تتبعوا من دون دين الله أولياء. وقرئ «ولا تبتغوا». قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ أي تذكراً قليلاً أو زماناً قليلاً تذكرون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، و «مَا» مزيدة لتأكيد القلة وإن جعلت مصدرية لم ينتصب قَلِيلًا ب تَذَكَّرُونَ. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم تَذَكَّرُونَ بحذف التاء، وابن عامر «يتذكرون» على أن الخطاب بعد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤ الى ٥]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ كثيرا من القرى. أَهْلَكْناها أردنا إهلاك أهلها، أو أهلكناها بالخذلان. فَجاءَها فجاء أهلها. بَأْسُنا عذابنا. بَياتاً بائتين كقوم لوط، مصدر وقع موقع الحال. أَوْ هُمْ قائِلُونَ عطف عليه أي: قائلين نصف النهار كقوم شعيب، وإنما حذفت واو الحال استثقالاً لاجتماع حرفي عطف، فإنها واو عطف استعيرت للوصل لا اكتفاء بالضمير فإنه غير فصيح. وفي التعبيرين مبالغة في غفلتهم وأمنهم من العذاب، ولذلك خص الوقتين ولأنهما وقت دعة واستراحة فيكون مجيء العذاب فيهما أفظع.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي دعاؤهم واستغاثتهم، أو ما كانوا يدعونه من دينهم. إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه تحسرا عليهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦ الى ٧]
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عن قبول الرسالة وإجابتهم الرسل. وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أجيبوا به، والمراد من هذا السؤال توبيخ للكفرة وتقريعهم، والمنفي في قوله: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام. أو الأول في موقف الحساب وهذا عند حصولهم على العقوبة.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل حين يقولون لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، أو على الرسل والمرسل إليهم ما كانوا عليه. بِعِلْمٍ عالمين بظواهرهم وبواطنهم، أو بمعلومنا منهم. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم فيخفى علينا شيء من أحوالهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
وَالْوَزْنُ أي القضاء، أو وزن الأعمال وهو مقابلتها بالجزاء. والجمهور على أن صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعاً للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم فتعترف بها ألسنتهم وتشهد بها جوارحهم. ويؤيده ما
روي: أن الرجل يؤتى به إلى الميزان فينشر عليه تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة فطاشت السجلات وثقلت البطاقة.
وقيل توزن الأشخاص لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إنه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة».
يَوْمَئِذٍ خبر المبتدأ الذي هو الوزن.
الْحَقُّ صفته، أو خبر محذوف ومعناه العدل السوي. فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ حسناته، أو ما يوزن به حسناته فهو جمع موزون أو ميزان وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب.
وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع الفطرة السليمة التي فطرت عليها، واقتراف ما عرضها للعذاب. بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذبون بدل التصديق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي مكناكم من سكناها وزرعها والتصرف فيها. وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أسباباً تعيشون بها، جمع معيشة. وعن نافع أنه همزة تشبيهاً بما الياء فيه زائدة كصحائف. قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ فيما صنعت إليكم.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي خلقنا أباكم آدم طيناً غير مصور ثم صورناه. نزل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره، أو ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه. ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وقيل ثم لتأخير الإخبار. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ممن سجد لآدم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢ الى ١٣]
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣)
قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي أن تسجد ولا صلة مثلها في لِئَلَّا يَعْلَمَ، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبخ عليه ترك السجود. وقيل الممنوع عن الشيء مضطر إلى خلافه فكأنه قيل: ما اضطرك إلى ألا تسجد. إِذْ أَمَرْتُكَ دليل على أن مطلق الأمر للوجوب والفور. قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ جواب من حيث المعنى استأنف به استبعاداً لأن يكون مثله مأموراً بالسجود لمثله كأنه قال: المانع أني خير منه، ولا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به. فهو الذي سن التكبر وقال بالحسن والقبح العقليين أولاً. خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ تعليل لفضله عليه، وقد غلط في ذلك بأن رأى الفضل كله باعتبار العنصر وغفل عما يكون باعتبار الفاعل كما أشار إليه بقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أي بغير واسطة، وباعتبار الصورة كما نبه عليه بقوله: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ وباعتبار الغاية وهو ملاكه ولذلك أمر الملائكة بسجوده لما بين لهم أنه أعلم منهم، وأن له خواص ليست لغيره، والآية دليل الكون والفساد وأن الشياطين أجسام كائنة، ولعل إضافة خلق الإنسان إلى الطين والشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.
قالَ فَاهْبِطْ مِنْها من السماء أو الجنة. فَما يَكُونُ لَكَ فما يصح. أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصي فإنها مكان الخاشع والمطيع. وفيه تنبيه على أن التكبر لا يليق بأهل الجنة وأنه سبحانه وتعالى إنما طرده وأهبطه لتكبره لا لمجرد عِصيانه. فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ممن أهانه الله لتكبره،
قال عليه الصلاة والسلام «من تواضع رفعه الله ومن تكبر وضعه الله».
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤ الى ١٥]
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ أمهلني إلى يوم القيامة فلا تمتني، أو لا تعجل عقوبتي.
قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يقتضي الإجابة إلى ما سأله ظاهراً لكنه محمول على ما جاء مقيداً بقوله تعالى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ وهو النفخة الأولى، أو وقت يعلم الله انتهاء أجله فيه، وفي إسعافه إليه ابتلاء العباد وتعريضهم للثواب بمخالفته.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦ الى ١٧]
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي بعد أن أمهلتني لاجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني بسبب إغوائك إياي بواسطتهم تسمية، أو حملاً على الغي، أو تكليفاً بما غويت لأجله والباء متعلقة بفعل القسم المحذوف لا بأقعدن فإن اللام تصد عنه وقيل الباء للقسم: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ ترصداً بهم كما يقعد القطاع للسابلة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ طريق الإِسلام ونصبه على الظرف كقوله:
لدنٌ بِهَزِّ الكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنُه فِيهِ كَمَا عَسَلَ الطَّرِيقَ الثَّعْلَبُ
وقيل تقديره على صراطك كقولهم: ضرب زيد الظهر والبطن.
ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ أي من جميع الجهات الأربع.
مثل قصده إياهم بالتسويل والإِضلال من أي وجه يمكنه بإتيان العدو من الجهات الأربع، ولذلك لم يقل مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أرجلهم. وقيل لم يقل من فوقهم لأن الرحمة تنزل منه ولم يقل من تحتهم لأن الإِتيان منه يوحش الناس. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: من بين أيديهم من قبل الآخرة، ومن خلفهم من قبل
الدنيا، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من جهة حسناتهم وسيئاتهم. ويحتمل أن يقال من بين أيديهم من حيث يعلمون ويقدرون على التحرز عنه، ومن خلفهم مّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ولا يقدرون، وعن أيمانهم وعن شمائلهم من حيث يتيسر لهم أن يعلموا ويتحرزوا ولكن لم يفعلوا لعدم تيقظهم واحتياطهم. وإنما عدى الفعل إلى الأولين بحرف الابتداء لأنه منهما متوجه إليهم وإلى الأخيرين بحرف المجاوزة فإن الآتي منهما كالمنحرف عنهم المار على عرضهم، ونظيره قولهم جلست عن يمينه. وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين، وإنما قاله ظناً لقوله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ لما رأى فيهم مبدأ الشر متعدداً ومبدأ الخير واحداً، وقيل سمعه من الملائكة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨ الى ١٩]
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨) وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩)
قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مذءوما من ذأمه إذا ذمه. وقرئ «مذوما» كمسول في مسؤول أو كمكول في مكيل، من ذامه يذيمه ذيما. مَدْحُوراً مطروداً. لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ اللام فيه لتوطئة القسم وجوابه:
لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ وهو ساد مسد جواب الشرط. وقرئ «لِمَنْ» بكسر اللام على أنه خبر لأملأن على معنى: لمن تبعك هذا الوعيد، أو علة لأخرج ولأملأن جواب قسم محذوف ومعنى منكم منك ومنهم فغلب المخاطب.
وَيا آدَمُ أي وقلنا يا آدم. اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ وقرئ «هذي» وهو الأصل لتصغيره على ذيا والهاء بدل من الياء. فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ
فتصيرا من الذين ظلموا أنفسهم، وتكونا يحتمل الجزم على العطف والنصب على الجواب.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠]
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠)
فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي فعل الوسوسة لأجلهما، وهي في الأصل الصوت الخفي كالهينمة والخشخشة ومنه وسوس الحلي. وقد سبق في سورة «البقرة» كيفية وسوسته. لِيُبْدِيَ لَهُما ليظهر لهما، واللام للعاقبة أو للغرض على أنه أراد أيضاً بوسوسته أن يسوءهما بانكشاف عورتيهما، ولذلك عبر عنهما بالسوأة. وفيه دليل على أن كشف العورة في الخلوة وعند الزوج من غير حاجة قبيح مستهجن في الطباع.
مَا وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما ما غطي عنهما من عوراتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما ولا أحدهما من الآخر، وإنما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور كما قلبت في أويصل تصغير واصل لأن الثانية مدة وقرئ «سوءاتهما» بحذف الهزة وإلقاء حركتها على الواو و «سوءاتهما» بقلبها واواً وإدغام الواو الساكنة فيها.
وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا إِلاَّ كراهة أن تكونا. مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الذين لا يموتون أو يخلدون في الجنة، واستدل به على فضل الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وجوابه: أنه كان من المعلوم أن الحقائق لا تنقلب وإنما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما أيضا ما للملائكة من الكمالات الفطرية، والاستغناء عن الأطعمة والأشربة، وذلك لا يدل على فضلهم مطلقا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢)
وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي أقسم لهما على ذلك، وأخرجه على زنة المفاعلة للمبالغة.
وقيل أقسما له بالقبول. وقيل أقسما عليه بالله أنه لمن الناصحين فأقسم لهما فجعل ذلك مقاسمة.
فَدَلَّاهُما فنزلهما إلى الأكل من الشجرة، نبه به على أنه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإن التدلية والإِدلاء إرسال الشيء من أعلى إلى أسفل. بِغُرُورٍ بما غرهما به من القسم فإنهما ظناً أن أحداً لا يحلف بالله كاذباً، أو ملتبسين بغرور. فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما أي فلما وجدا طعمها آخذين في الأكل منها أخذتهما العقوبة وشؤم المعصية، فتهافت عنهما لباسهما وظهرت لهما عوراتهما.
واختلف في أن الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما، وأن اللباس كان نوراً أو حلة أو ظفراً. وَطَفِقا يَخْصِفانِ أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ قيل كان ورق التين، وقرئ «يَخْصِفَانِ» من أخصف أي يخصفان أنفسهما ويخصفان من خصف ويخصفان وأصله يختصفان. وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عتاب على مخالفة النهي، وتوبيخ على الاغترار بقول العدو. وفيه دليل على أن مطلق النهي للتحريم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
قَالاَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤)
قَالاَ رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أضررناها بالمعصية والتعريض للإخراج من الجنة. وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ دليل على أن الصغائر معاقب عليها إن لم تغفر. وقالت المعتزلة لا تجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر ولذلك قالوا: إنما قالا ذلك على عادة المقربين في استعظام الصغير من السيئات واستحقار العظيم من الحسنات.
قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو لهما ولإِبليس. كرر الأمر له تبعاً ليعلم أنهم قرناء أبداً وأخبر عما قال لهم متفرقاً. بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موضع الحال أي معتادين. وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ استقرار أي موضع استقرار. وَمَتاعٌ وتمتع. إِلى حِينٍ إلى أن تقضى آجالكم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٦]
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥) يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء وقرأ حمزة والكسائي وابن ذكوان وَمِنْها تُخْرَجُونَ، وفي «الزخرف» كَذلِكَ تُخْرَجُونَ بفتح التاء وضم الراء.
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره قوله تعالى:
وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ. يُوارِي سَوْآتِكُمْ التي قصد الشيطان إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق.
روي: أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة ويقولون لا نطوف في ثياب عصينا الله فيها، فنزلت.
ولعله ذكر قصة آدم مقدمة لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإِنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. وَرِيشاً ولباساً تتجملون به، والريش الجمال. وقيل مالاً ومنه تريش الرجل إذا تموّل. وقرئ «رياشاً» وهو جمع ريش كشعب وشعاب. وَلِباسُ التَّقْوى خشية الله.
وقيل الإِيمان. وقيل السمت الحسن. وقيل لباس الحرب ورفعه بالابتداء وخبره: ذلِكَ خَيْرٌ أو خير وذلك صفته كأنه قيل: ولباس التقوى المشار إليه خير. وقرأ نافع وابن عامر والكسائي وَلِباسُ التَّقْوى بالنصب عطفاً على لِباساً. ذلِكَ أي إنزال اللباس. مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته. لَعَلَّهُمْ
يَذَّكَّرُونَ
فيعرفون نعمته أو يتعظون فيتورعون عن القبائح.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
يا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمحننكم بأن يمنعكم دخول الجنة بإغوائكم. كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها، والنهي في اللفظ للشيطان، والمعنى نهيهم عن اتباعه والافتتان به. يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما حال من أَبَوَيْكُمْ أو من فاعل أَخْرَجَ وإسناد النزع إليه للتسبب. إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ تعليل للنهي وتأكيد للتحذير من فتنته، وقبيله جنوده ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا تقتضي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا. إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم وتمكينهم من خذلانهم وحملهم على ما سولوا لهم. والآية مقصود القصة وفذلكة الحكاية.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٨]
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ (٢٨)
وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم وكشف العورة في الطواف. قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا واحتجوا بأمرين تقليد الآباء والافتراء على الله سبحانه وتعالى، فأعرض عن الأول لظهور فساده ورد الثاني بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأن عادته سبحانه وتعالى جرت على الأمر بمحاسن الأفعال، والحث على مكارم الخصال. ولا دلالة عليه على أن قبح الفعل بمعنى ترتب الذم عليه آجلاً عقلي، فإن المراد بالفاحشة ما ينفر عنه الطبع السليم ويستنقصه العقل المستقيم. وقيل هما جوابا سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم لما فعلوها: لم فعلتم؟ فقالوا: وجدنا عليها آباءنا. فقيل ومن أين أخذ آباؤكم؟
فقالوا: الله أمرنا بها. وعلى الوجهين يمتنع التقليد إذا قام الدليل على خلافه لا مطلقاً. أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله تعالى.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل وهو الوسط من كل أمر المتجافي عن طرفي الإِفراط والتفريط. وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ وتوجهوا إلى عبادته مستقيمين غير عادلين إلى غيرها، أو أقيموها نحو القبلة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كل وقت سجود أو مكانه وهو الصلاة، أو في أي مسجد حضرتكم الصلاة ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. وَادْعُوهُ واعبدوه. مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي الطاعة فإن إليه مصيركم. كَما بَدَأَكُمْ كما أنشأكم ابتداء. تَعُودُونَ بإعادته فيجازيكم على أعمالكم فأخلصوا له العبادة، وإنما شبه الإِعادة بالإِبداء تقريراً لإِمكانها والقدرة عليها. وقيل كما بدأكم من التراب تعودون إليه. وقيل كما بدأكم حفاة عراة غرلاً تعودون. وقيل كما بدأكم مؤمناً وكافراً يعيدكم.
فَرِيقاً هَدى بأن وفقهم للإِيمان. وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق. وانتصابه بفعل يفسره ما بعده أي وخذل فريقاً. إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ تعليل لخذلانهم أو تحقيق
لضلالهم. وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ يدل على أن الكافر المخطئ والمعاند سواء في استحقاق الذم، وللفارق أن يحمله على المقصر في النظر.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ثيابكم لمواراة عورتكم. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لطواف أو صلاة، ومن السنة أن يأخذ الرجل أحسن هيئة للصلاة، وفيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة. وَكُلُوا وَاشْرَبُوا ما طاب لكم.
روي: أن بني عامر في أيام حجهم كانوا لا يأكلون الطعام إلا قوتاً ولا يأكلون دسماً يعظمون بذلك حجهم فهم المسلمون به، فنزلت.
وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال، أو بالتعدي إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره عليه. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة. وقال علي بن الحسين بن واقد: قد جمع الله الطب في نصف آية فقال: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا). إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ أي لا يرتضي فعلهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٢]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب وسائر ما يتجمل به. الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، والحيوان كالحرير والصوف، والمعادن كالدروع. وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذات من المآكل والمشارب. وفيه دليل على أن الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات الإِباحة، لأن الاستفهام في من للإنكار. قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالأصالة والكفرة وإن شاركوهم فيها فتبع. خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم، وانتصابها على الحال. وقرأ نافع بالرفع على أنها خبر بعد خبر. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ أي كتفصيلنا هذا الحكم نفصل سائر الأحكام لهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٣ الى ٣٤]
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما تزايد قبحه، وقيل ما يتعلق بالفروج. مَا ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ جهرها وسرها. وَالْإِثْمَ وما يوجب الإثم تعميم بعد تخصيص، وقيل شرب الخمر. وَالْبَغْيَ الظلم، أو الكبر أفرده بالذكر للمبالغة. بِغَيْرِ الْحَقِّ متعلق بالبغي مؤكد له معنى. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً تهكم بالمشركين، وتنبيه على تحريم اتباع ما لم يدل عليه برهان. وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ بالإِلحاد في صفاته سبحانه وتعالى، والافتراء عليه كقولهم اللَّهُ أَمَرَنا بِها.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدة، أو وقت لنزول العذاب بهم وهو وعيد لأهل مكة. فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ انقرضت مدتهم، أو حان وقتهم. لاَ يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي لا يتأخرون ولا يتقدمون أقصر وقت، أو لا يطلبون التأخر والتقدم لشدة الهول.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي شرط ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل أمر جائز غير واجب كما ظنه أهل التعليم، وضمت إليها ما لتأكيد معنى الشرط ولذلك أكد فعلها بالنون وجوابه: فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ والمعنى فمن اتقى التكذيب وأصلح عمله منكم والذين كذبوا بآياتنا منكم، وإدخال الفاء في الخبر الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ ممن تقول على الله ما لم يقله أو كذب ما قاله.
أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ مما كتب لهم من الأرزاق والآجال. وقيل الكتاب اللوح المحفوظ أي مما أثبت لهم فيه. حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي يتوفون أرواحهم، وهو حال من الرسل وحتى غاية لنيلهم وهي التي يبتدأ بعدها الكلام. قالُوا جواب إذا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي أين الآلهة التي كنتم تعبدونها، وما وصلت بأين في خط المصحف وحقها الفصل لأنها موصولة. قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا. وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
قالَ ادْخُلُوا أي قال الله تعالى لهم يوم القيامة، أو أحد من الملائكة. فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أي كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم يوم القيامة. مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني كفار الأمم الماضية عن النوعين. فِي النَّارِ متعلق بادخلوا. كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ أي في النار. لَعَنَتْ أُخْتَها التي ضلت بالاقتداء بها. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار. قالَتْ أُخْراهُمْ دخولاً أو منزلة وهم الأتباع. لِأُولاهُمْ أي لأجل أولاهم إذ الخطاب مع الله لا معهم. رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا سنوا لنا الضلال فاقتدينا بهم فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ مضاعفاً لأنهم ضلوا وأضلوا. قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أما القادة فبكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فبكفرهم وتقليدهم. وَلكِنْ لاَّ تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكل فريق. وقرأ عاصم بالياء على الانفصال.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا كلامهم على جواب الله سبحانه وتعالى «لاِخْرَاهُمْ» ورتبوه عليه أي فقد ثبت أن لا فضل لَكُمْ علينا وإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من قول القادة أو من قول الفريقين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أي عن الإِيمان بها. لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لأدعيتهم وأعمالهم أو لأزواجهم، كما تفتح لأعمال المؤمنين وأرواحهم لتتصل بالملائكة. والتاء في تفتح للتأنيث الأبواب والتشديد لكثرتها، وقرأ أبو عمرو بالتخفيف وحمزة والكسائي به وبالياء، لأن التأنيث غير حقيقي والفعل مقدم. وقرئ على البناء للفاعل ونصب الأبواب بالتاء على أن الفعل للآيات وبالياء لأن الفعل لله.
وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي حتى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم وهو البعير فيما هو مثل في ضيق المسلك وهو ثقبة الإِبرة، وذلك مما لا يكون فكذا ما يتوقف عليه. وقرئ «الجمل» كالقمل، و «الجمل» كالنغر، و «الجمل» كالقفل، والجمل كالنصب، و «الجمل» كالحبل وهو الحبل الغليظ من القنب، وقيل حبل السفينة. وسم بالضم والكسر وفي سم المخيط وهو والخياط ما يخاط به كالحزام والمحزم. وَكَذلِكَ ومثل ذلك الجزاء الفظيع. نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ.
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش. وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أغطية، والتنوين فيه للبدل عن الاعلال عند سيبويه، وللصرف عند غيره، وقرئ «غَوَاشٍ» على إلغاء المحذوف. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبر عنهم بالمجرمين تارة وبالظالمين أخرى إشعاراً بأنهم بتكذيبهم الآيات اتصفوا بهذه الأوصاف الذميمة، وذكر الجرم مع الحرمان من الجنة والظلم مع التعذيب بالنار تنبيهاً على أنه أعظم الإِجرام.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ على عادته سبحانه وتعالى في أن يشفع الوعيد بالوعد، وَلاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وسعها اعتراض بين المبتدأ وخبره للترغيب في اكتساب النعيم المقيم بما يسعه طاقتهم ويسهل عليهم. وقرئ «لا تكلف نفس».
وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي نخرج من قلوبهم أسباب الغل، أو نطهرها منه حتى لا يكون بينهم إلا التواد.
وعن على كرم الله وجهه: إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير منهم.
تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ زيادة في لذتهم وسرورهم. وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا لما جزاؤه هذا. وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لولا هداية الله وتوفيقه، واللام لتوكيد النفي وجواب لَوْلاَ محذوف دل عليه ما قبله.
وقرأ ابن عامر «ما كنا» بغير واو على أنها مبينة للأولى. لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم.
يقولون ذلك اغتباطاً وتبجحاً بأن ما علموه يقيناً في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة. وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ إذا رأوها من بعيد، أو بعد دخولها والمنادى له بالذات. أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي أعطيتموها بسبب أعمالكم، وهو حال من الجنة والعامل فيها معنى الإِشارة، أو خبر والجنة صفة تلكم وأن في المواقع الخمسة هي المخففة أو المفسرة لأن المناداة والتأذين من القول.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٥]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥)
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا إنما قالوه تبجحاً بحالهم وشماتة بأصحاب النار وتحسيراً لهم، وإنما لم يقل ما وعدكم كما قال مَّا وَعَدَنا لأن ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصاً وعده بهم، كالبعث والحساب ونعيم أهل الجنة. قالُوا نَعَمْ وقرأ الكسائي بكسر العين وهما لغتان. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل هو صاحب الصور. بَيْنَهُمْ بين الفريقين.
أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ وقرأ ابن كثير في رواية للبزي وابن عامر وحمزة والكسائي أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ بالتشديد والنصب. وقرئ «إِن» بالكسر على إرادة القول أو إجراء أذن مجرى قال.
الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صفة للظالمين مقررة، أو ذم مرفوع أو منصوب. وَيَبْغُونَها عِوَجاً زيغاً وميلاً عما هو عليه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان ما لم تكن منتصبة، وبالفتح ما كان في المنتصبة، كالحائط والرمح. وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٦ الى ٤٧]
وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
وَبَيْنَهُما حِجابٌ أي بين الفريقين لقوله تعالى: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ أو بين الجنة والنار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى. وَعَلَى الْأَعْرافِ وعلى أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الفرس وقيل العرف ما ارتفع من الشيء فإنه يكون لظهوره أعرف من غيره. رِجالٌ طائفة من الموحدين قصروا في العمل فيحبسون بين الجنة والنار حتى يقضي الله سبحانه وتعالى فيهم ما يشاء وقيل قوم علت درجاتهم كالأنبياء عليهم الصلاة والسلام، أو الشهداء رضي الله تعالى عنهم، أو خيار المؤمنين وعلمائهم، أو ملائكة يرون في صورة الرجال. يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار. بِسِيماهُمْ بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجه وسواده، فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه، وإنما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة.
وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي إذا نظروا إليهم سلموا عليهم. لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ حال من الواو على الوجه الأول ومن أصحاب على الوجوه الباقية.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا نعوذ بالله. رَبَّنا لاَ تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي في النار.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ من رؤساء الكفرة. قالُوا مَا أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ كثرتكم أو جمعكم المال. وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحق، أو على الخلق. وقرئ «تستكثرون» من الكثرة.
أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ من تتمة قولهم للرجال، والإِشارة إلى ضعفاء أهل الجنة الذين كانت الكفرة يحتقرونهم في الدنيا ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ أي فالتفتوا إلى أصحاب الجنة وقالوا لهم ادخلوا وهو أوفق للوجوه الأخيرة، أو فقيل لأصحاب الأعراف ادخلوا الجنة بفضل الله سبحانه وتعالى بعد أن حبسوا حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم وقالوا لهم ما
قالوا. قيل لما عيروا أصحاب النار أقسموا أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة فقال الله سبحانه وتعالى أو بعض الملائكة هؤلاء الذين أقسمتم. وقرئ «أَدْخِلُواْ» و «دخلوا» على الاستئناف وتقديره دخلوا الجنة مقولاً لهم لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥١]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١)
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أي صبوه، وهو دليل على أن الجنة فوق النار. أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأشربة ليلائم الإِفاضة، أو من الطعام كقوله: علفتها تبنا وماء بارداً. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهما عنهم منع المحرم من المكلف.
الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كتحريم البحيرة والتصدية والمكاء حول البيت واللهو صرف الهم بما لا يحسن أن يصرف به، واللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به. وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسين فنتركهم في النار. كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا فلم يخطروه ببالهم ولم يستعدوا له. وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ وكما كانوا منكرين أنها من عند الله.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٢ الى ٥٣]
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بينا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ مفصلة. عَلى عِلْمٍ عالمين بوجه تفصيله حتى جاء حكيماً، وفِيه دليل على أنه سبحانه وتعالى عالم بعلم، أو مشتملاً على علم فيكون حالا من المفعول. وقرئ «فضلناه» أي على سائر الكتب عالمين بأنه حقيق بذلك. هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حال من الهاء.
هَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون. إِلَّا تَأْوِيلَهُ إلا ما يؤول إليه أمره من تبين صدقه بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوه ترك الناسي. قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي قد تبين أنهم جاءوا بالحق. فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم. أَوْ نُرَدُّ أو هل نرد إلى الدنيا. وقرئ بالنصب عطفاً على فَيَشْفَعُوا، أو لأن أَوْ بمعنى إلى أن، فعلى الأول المسؤول أحد الأمرين الشفاعة أو ردهم إلى الدنيا، وعلى الثاني أن يكون لهم شفعاء إما لأحد الأمرين أو لأمر واحد وهو الرد. فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جوابِ الاستفهام الثاني وقرئ بالرفع أي فنحن نعمل. قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم في الكفر. وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كانُوا يَفْتَرُونَ بطل عنهم فلم ينفعهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٤]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي في ستة أوقات كقوله: وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ أو في مقدار ستة أيام، فإن المتعارف باليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها ولم يكن حينئذ، وفي خلق
الأشياء مدرجاً مع القدرة على إيجادها دفعة دليل للاختيار واعتبار للنظار وحث على التأني في الأمور. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استوى أمره أو استولى، وعن أصحابنا أن الاستواء على العرش صفة لله بلا كيف، والمعنى: أن له تعالى استواء على العرش على الوجه الذي عناه منزهاً عن الاستقرار والتمكن، والعرش الجسم المحيط بسائر الأجسام سمي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك فإن الأمور والتدابير تنزل منه وقيل الملك. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يغطيه به ولم يذكر عكسه للعلم به، أو لأن اللفظ يحتملهما ولذلك قرئ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ بنصب اللَّيْلَ ورفع النَّهارَ. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وأبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه وفي «الرعد» للدلالة على التكرير. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعقبه سريعاً كالطالب له لا يفصل بينهما شيء، والحثيث فعيل من الحث وهو صفة مصدر محذوف أو حال من الفاعل بمعنى حاثاً، أو المفعول بمعنى محثوثاً. وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ بقضائه وتصريفه ونصبها بالعطف على السموات ونصب مسخرات على الحال. وقرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر. أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ فإنه الموجد والمتصرف. تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ تعالى بالوحدانية في الألوهية وتعظم بالتفرد في الربوبية.
وتحقيق الآية والله سبحانه وتعالى أعلم، أن الكفرة كانوا متخذين أرباباً فبين لهم أن المستحق للربوبية واحد وهو الله سبحانه وتعالى، لأنه الذي له الخلق والأمر فإنه سبحانه وتعالى خلق العالم على ترتيب قويم وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك ثم زينها بالكواكب كما أشار إليه بقوله تعالى: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وعمد إلى إيجاد الأجرام السفلية فخلق جسماً قابلاً للصور المتبدلة والهيئات المختلفة، ثم قسمها بصور نوعية متضادة الآثار والأفعال وأشار إليه بقوله وخلق الأرض أي ما في جهة السفل في يومين، ثم أنشأ أنواع المواليد الثلاثة بتركيب موادها أولاً وتصويرها ثانياً كما قال تعالى بعد قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أي مع اليومين الأولين لقوله تعالى في سورة السجدة اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثم لما تم له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبر الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب وتكوير الليالي والأيام، ثم صرح بما هو فذلكة التقرير ونتيجته فقال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ ثم أمرهم بأن يدعوه متذللين مخلصين فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٥ الى ٥٦]
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي ذوي تضرع وخفية فإن الإخفاء دليل الإخلاص. إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، نبه به على أن الداعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، والصعود إلى السماء. وقيل هو الصياح في الدعاء والاسهاب فيه.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم، «سيكون قوم يعتدون في الدعاء، وحسب المرء أن يقول: اللهم إني أسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل ثم قرأ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي. بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الأنبياء وشرع الأحكام. وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً ذوي خوف من الرد لقصور آمالكم وعدم استحقاقكم، وطمع في إجابته تفضلاً وإحساناً لفرط رحمته إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ترجيح للطمع وتنبيه على ما يتوسل به إلى الإجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الرحم، أو لأنه صفة محذوف أي أمر قريب، أو على تشبيهه بفعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو الذي هو مصدر كالنقيض، أو الفرق بين القريب من النسب والقريب من غيره.

[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٧]

وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «الريح» على الوحدة. نَشْراً جمع نشور بمعنى ناشر، وقرأ ابن عامر «نشراً» بالتخفيف حيث وقع وحمزة والكسائي «نشراً» بفتح النون حيث وقع على أنه مصدر في موقع الحال بمعنى ناشرات، أو مفعول مطلق فإن الإِرسال والنشر متقاربان. وعاصم بُشْراً وهو تخفيف بشر جمع بشير وقد قرئ به وبُشْراً بفتح الباء مصدر بشره بمعنى باشرات، أو للبشارة وبشرى. بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدام رحمته، يعني المطر فإن الصبا تثير السحاب والشمال تجمعه والجنوب؟؟؟؟؟
والدبور تفرقه. حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي حملت، واشتقاقه من القلة فإن المقل للشيء يستقله. سَحاباً ثِقالًا بالماء جمعه لأن السحاب جمع بمعنى السحائب. سُقْناهُ أي السحاب وإفراد الضمير باعتبار اللفظ. لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجله أو لإحيائه أو لسقيه. وقرئ «ميت». فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ بالبلد أو بالسحاب أو بالسوق أو بالريح وكذلك. فَأَخْرَجْنا بِهِ ويحتمل فيه عود الضمير إلى الْماءَ، وإذا كان ل لِبَلَدٍ فالباء للإلصاق في الأول وللظرفية في الثاني، وإذا كان لغيره فهي للسببية فيهما. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كل أنواعها. كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى الإشارة فيه إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميت أي كما نحييه بإحداث القوة النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات، نخرج الموتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقوى والحواس. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أن من قدر على ذلك قدر على هذا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٥٨]
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرض الكريمة التربة. يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته وتيسيره، عبر به عن كثرة النبات وحسنه وغزارة نفعه لأنه أوقعه في مقابلة. وَالَّذِي خَبُثَ أي كالحرة والسبخة. لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً قليلاً عديم النفع، ونصبه على الحال وتقدير الكلام، والبلد الذي خبث لا يخرج نباته إلا نكداً فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه فصار مرفوعاً مستترا وقرئ «يخرج» أي يخرجه البلد فيكون إِلَّا نَكِداً مفعولاً ونَكِداً على المصدر أي ذا نكد ونَكِداً بالإِسكان للتخفيف. كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نرددها ونكررها. لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله فيتفكرون فيها ويعتبرون بها، والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأساً ولم يتأثر بها.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٠]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠)
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ جواب قسم محذوف، ولا تكاد تطلق هذه اللام إلا مع قد لأنها مظنة التوقع، فإن المخاطب إذا سمعها توقع وقوع ما صدر بها. ونوح بن لمك بن متوشلح بن إدريس أول نبي بعده، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين. فَقالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي اعبدوه وحده لقوله تعالى: مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وقرأ الكسائي «غيره» بالكسر نعتاً أو بدلاً على اللفظ حيث وقع إذا كان قبل إله من التي تخفض. وقرئ بالنصب على الاستثناء. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن لم تؤمنوا، وهو وعيد وبيان للداعي إلى عبادته. واليوم يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ أي الأَشراف فإنهم يملؤون العيون رواء. إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ زوال عن الحق.
مُبِينٍ بين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٦٢)
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي شيء من الضلال، بالغ في النفي كما بالغوا في الإِثبات وعرض لهم به. وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك باعتبار ما يلزمه، وهو كونه على هدى كأنه قال: ولكني على هدى في الغاية لأني رسول من الله سبحانه وتعالى.
أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ صفات لرسول أو استئناف، ومساقها على الوجهين لبيان كونه رسولاً. وقرأ أبو عمرو أُبَلِّغُكُمْ بالتخفيف وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها أو لتنوع معانيها كالعقائد والمواعظ والأحكام، أو لأن المراد بها ما أوحي إليه وإلى الأنبياء قبله، كصحف شيث وإدريس وزيادة اللام في لكم للدلالة على إمحاض النصح لهم، وفي أعلم من الله تقريراً لما أوعدهم به فإن معناه أعلم من قدرته وشدة بطشه، أو من جهته بالوحي أشياء لا علم لكم بها.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٤]
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
أَوَعَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار والواو للعطف على محذوف أي أكذبتم وعجبتم. أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم. ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رسالة أو موعظة. عَلى رَجُلٍ على لسان رجل. مِنْكُمْ من جملتكم أو من جنسكم، فإنهم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ. لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر والمعاصي. وَلِتَتَّقُوا منهما بسبب الإنذار. وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بالتقوى، وفائدة حرف الترجي التنبيه على أن التقوى غير موجب والترحم من الله سبحانه وتعالى تفضل، وأن المتقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه ولا يأمن من عذاب الله تعالى.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ وهم من آمن به وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة. وقيل تسعة بنوه سام وحام ويافث وستة ممن آمن به. فِي الْفُلْكِ متعلق بمعه أو بأنجيناه، أو حال من الموصول أو من الضمير في معه. وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ عمي القلوب غير مستبصرين، وأصله عميين فخفف وقرئ «عامين» والأول أبلغ لدلالته على الثبات.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٦٦]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦)
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ عطف على نوحاً إلى قومه هُوداً عطف بيان لأخاهم والمراد به الواحد منهم، كقولهم يا أخا العرب للواحد منهم، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح. وقيل هود بن شالح بن أرفخشد بن سام بن نوح، ابن عم أبي عاد، وإنما جعل منهم لأنهم أفهم لقوله وأعرف بحاله وأرغب في اقتفائه. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به ولم يعطف كأنه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ وكذلك جوابهم. أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب الله، وكأن قومه كانوا أقرب من قوم نوح عليه الصلاة والسلام ولذلك قال أفلا تتقون قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد.
إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ متمكناً في خفة عقل راسخاً فيها حيث فارقت دين قومك. وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ سبق تفسيره. وفي إجابة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الكفرة عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا والإِعراض عن مقابلتهم كمال النصح والشفقة وهضم النفس وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. وقرأ أبو عمرو أبلغكم في الموضعين في هذه السورة وفي «الأحقاف» مخففاً. وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي في مساكنهم، أو في الأرض بأن جعلكم ملوكاً فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى شجر عمان، خوفهم من عقاب الله ثم ذكرهم بإنعامه. وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً قامة وقوة. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ تعميم بعد تخصيص. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والأعراض عما أشرك به آباؤهم انهماكاً في التقليد وحباً لما ألفوه، ومعنى المجيء في أَجِئْتَنا إما المجيء من مكان اعتزل به عن قومه أو من السماء على التهكم، أو القصد على المجاز كقولهم ذهب يسبني. فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه بقوله أَفَلا تَتَّقُونَ. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ قد وجب وحق عليكم، أو نزل عليكم على أن المتوقع كالواقع، مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب من الارتجاس وهو الاضطراب. وَغَضَبٌ إرادة انتقام. أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي في أشياء سميتموها آلهة وليس فيها معنى الإِلهية، لأن المستحق للعبادة بالذات هو الموجد للكل، وأنها لو استحقت كان استحقاقها بجعله تعالى إما بإنزال آية أو بنصب حجة، بين أن منتهى حجتهم وسندهم أن الأصنام تسمى آلهة من غير دليل يدل على تحقق المسمى، وإسناد الاطلاق إلى من لا يؤبه بقوله إظهاراً لغاية جهالتهم وفرط غباوتهم، واستدل به على أن الاسم هو المسمى وأن اللغات توقيفية إذ لو لم يكن كذلك لم يتوجه الذم والإِبطال بأنها أسماء مخترعة لم ينزل الله بها سلطاناً وضعفهما ظاهر. فَانْتَظِرُوا لما وضح الحق وأنتم مصرون على العناد نزول العذاب بكم. إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٢]
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ في الدين. بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم. وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي استأصلناهم. وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نجا وبين من هلك
هو الإِيمان.
روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فبعث الله إليهم هوداً فكذبوه، وازدادوا عتواً فأمسك الله القطر عنهم ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذ مسلمهم ومشركهم إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه
قيل بن عنز ومرثد بن سعد في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاوذ بن سام وسيدهم معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه وهو بظاهر مكة أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهراً يشربون الخمر وتغنيهم الجرادتان قينتان له، فلما رأى ذهولهم باللهو عما بعثوا له أهمه ذلك واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم فعلم القينتين:
أَلاَ يَا قِيلُ وَيْحَكَ قُمْ فَهَيْنِم لَعَلَّ الله يُسْقِينَا الغَمَامَا
فَيُسْقِي أَرْضَ عَادٍ إن عَادا قَد امْسوا مَا يُبينُونَ الكَلاَما
حتى غنتا به، فأزعجهم ذلك فقال مرثد: والله لا تسقون بدعائكم ولكن إن أطعتم نبيكم وتبتم إلى الله سبحانه وتعالى سقيتم، فقالوا لمعاوية: احبسه عنا لا يقدمن معنا مكة فإنه قد اتبع دين هود وترك ديننا، ثم دخلوا مكة فقال قيل: اللهم اسق عاداً ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله تعالى سحابات ثلاثاً بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه مناد من السماء يا قيل: اختر لنفسك ولقومك. فقال اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماء، فخرجت على عاد من وادي المغيث فاستبشروا بها وقالوا: هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا فجاءتهم منها ريح عقيم فأهلكتهم ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله سبحانه وتعالى فيها حتى ماتوا.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٧٣]
وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣)
وَإِلى ثَمُودَ قبيلة أخرى من العرب سموا باسم أبيهم الأكبر ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح.
وقيل سموا به لقلة مائهم من الثمد وهو الماء القليل. وقرئ مصروفاً بتأويل الحي أو باعتبار الأصل، وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. أَخاهُمْ صالِحاً صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي وقوله: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف لبيانها، وآية نصب على الحال والعامل فيها معنى الإشارة، ولكم بيان لمن هي له آية، ويجوز أن تكون ناقَةُ اللَّهِ بدلاً أو عطف بيان ولكم خبراً عاملاً في آيَةً، وإضافة الناقة إلى الله لتعظيمها ولأنها جاءت من عنده بلا وسائط وأسباب معهودة ولذلك كانت آية. فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب. وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغة في الأمر وإزاحة للعذر. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهي.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥)
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ أرض الحجر. تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي تبنون في سهولها، أو من سهولة الأرض بما تعملون منها كاللبن والآجر. وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ
بُيُوتاً
وقرئ «تنحتون» بالفتح وتنحاتون بالإِشباع، وانتصاب بُيُوتاً على الحال المقدرة أو المفعول على أن التقدير بيوتاً من الجبال، أو تنحتون بمعنى تتخذون فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي عن الإِيمان. لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي للذين استضعفوهم واستذلوهم. لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من الذين استضعفوا بدل الكل إن كان الضمير لقومه وبدل البعض إن كان للذين. وقرأ ابن عامر وقال الملأ بالواو. أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على الاستهزاء. قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا به عن الجواب السوي الذي هو نعم تنبيهاً على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل ويخفى على ذوي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن به ومن كفر فلذلك قال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على وجه المقابلة، ووضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ رداً لما جعلوه معلوماً مسلماً.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ فنحروها. أسند إلى جميعهم فعل بعضهم للملابسة، أو لأنه كان برضاهم. وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ واستكبروا عن امتثاله، وهو ما بلغهم صالح عليه الصلاة والسلام بقوله: فَذَرُوها. وَقالُوا يَا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٨ الى ٧٩]
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ خامدين ميتين.
روي: أنهم بعد عاد عمروا بلادهم وخلفوهم وكثروا، وعمروا أعماراً طوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خصب وسعة فعتوا وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحاً من أشرافهم فأنذرهم، فسألوه آية فقال أية آية تريدون قالوا: اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم جندع بن عمرو إلى صخرة منفردة يقال لها الكاثبة وقال: له أخرج من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء فإن فعلت صدقناك، فأخذ عليهم صالح مواثيقهم لئن فعلت ذلك لتؤمنن فقالوا: نعم، فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا وهم ينظرون، ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع في جماعة، ومنع الباقين من الإِيمان ذؤاب بن عمرو والحباب صاحب أوثانهم ورباب بن صغر كاهنهم، فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر وترد الماء غباً فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تتفحج فيحلبون ما شاؤوا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون ويدخرون وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشق ذلك عليهم وزينت عقرها لهم عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، فرقي سقبها جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً فقال صالح لهم ادركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه إذ انفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبح وجوهكم غداً مصفرة وبعد غد محمرة واليوم الثالث مسودة، ثم يصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين، ولما كان ضحوة اليوم الرابع تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لاَ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ ظاهره أن توليه عنهم كان بعد أن أبصرهم جاثمين، ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم كما
خاطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهل قليب بدر وقال: «إنا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا».
أو ذكر ذلك على سبيل التحسر عليهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١)
وَلُوطاً أي وأرسلنا لوطاً. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وقت قوله لهم أو واذكر لوطاً وإذ بدل منه. أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ توبيخ وتقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح. مَا سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ما فعلها قبلكم أحد قط. والباء للتعدية ومن الأولى لتأكيد النفي والاستغراق، والثانية للتبعيض. والجملة استئناف مقرر للإِنكار كأنه وبخهم أولاً بإتيان الفاحشة ثم باختراعها فإنه أسوأ.
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بيان لقوله: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وهو أبلغ في الإِنكار والتوبيخ، وقرأ نافع وحفص «إنكم» على الإِخبار المستأنف، وشهوة مفعول له أو مصدر في موقع الحال وفي التقييد بها وصفهم بالبهيمية الصرفة، وتنبيه على أن العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد وبقاء النوع، لا قضاء الوطر. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ إضراب عن الإِنكار إلى الإِخبار عن حالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإِسراف في كل شيء، أو عن الإِنكار عليها إلى الذم على جميع معايبهم، أو عن محذوف مثل لا عذر لكم فيه بل أنتم قوم عادتكم الإِسراف.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي ما جاءوا بما يكون جواباً عن كلامه، ولكنهم قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه فيمن معه من المؤمنين من قريتهم والاستهزاء بهم فقالوا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي من الفواحش.
فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي من آمن به. إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من أهله فإنها كانت تسر الكفر. كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا والتذكير لتغليب الذكور.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي نوعاً من المطر عجيباً وهو مبين بقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ
روي: أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر مع عمه إبراهيم عليه السلام إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله الله إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى الله وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها فأمطر الله عليهم الحجارة فهلكوا.
وقيل خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ٨٥]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥)
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي وأرسلنا إليهم، وهم أولاد مدين بن إبراهيم خليل الله شعيب بن ميكائيل
ابن يسجر بن مدين، وكان يقال له خطيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لحسن مراجعته قومه. قالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يريد المعجزة التي كانت له وليس في القرآن أنها ما هي، وما روي من محاربة عصا موسى عليه الصلاة والسلام التنين وولادة الغنم التي دفعها إليه الدرع خاصة وكانت الموعودة له من أولادها، ووقوع عصا آدم على يده في المرات السبع متأخرة عن هذه المقاولة، ويحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السلام أو إرهاصاً لنبوته. فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي آلة الكيل على الإِضمار، أو إطلاق الكيل على المكيال كالعيش على المعاش لقوله: وَالْمِيزانَ كما قال في سورة «هود» أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ أو الكيل ووزن الميزان، ويجوز أن يكون الميزان مصدراً كالميعاد. وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ ولا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال أشياءهم للتعميم تنبيهاً على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير والقليل والكثير. وقيل كانوا مكاسبين لا يدعون شيئاً إلا مكسوه. وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والحيف.
بَعْدَ إِصْلاحِها بعد ما أصلح أمرها أو أهلها الأنبياء وأتباعهم بالشرائع، أو أصلحوا فيها والإِضافة إليها كالإِضافة في بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ. ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إشارة إلى العمل بما أمرهم به ونهاهم عنه، ومعنى الخيرية إما الزيادة مطلقاً أو في الإِنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٧]
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧)
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ بكل طريق من طرق الدين كالشيطان، وصراط الحق وإن كان واحداً لكنه يتشعب إلى معارف وحدود وأحكام، وكانوا إذا رأوا أحداً يسعى فى شيء منها منعوه. وقيل كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيباً إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون لمن آمن به. وقيل كانوا يقطعون الطريق. وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني الذي قعدوا عليه فوضع الظاهر موضع المضمر بياناً لكل صراط، ودلالة على عظم ما يصدون عنه وتقبيحاً لما كانوا عليه أو الإيمان بالله. مَنْ آمَنَ بِهِ أي بالله، أو بكل صراط على الأول، ومن مفعول تصدون على إعمال الأقرب ولو كان مفعول توعدون لقال وتصدونهم وتوعدون بما عطف عليه في موقع الحال من الضمير في تقعدوا. وَتَبْغُونَها عِوَجاً وتطلبون لسبيل الله عوجاً بإلقاء الشبه، أو وصفها للناس بأنها معوجة. وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عَدَدَكُمْ أو عُدَدَكُمْ. فَكَثَّرَكُمْ بالبركة في النسل أو المال. وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم فاعتبروا بهم.
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا فتربصوا. حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين. وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه ولا حيف فيه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا
أي ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه الصلاة والسلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر مطلقاً، لكن غلبوا الجماعة على الواحد فخوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله. قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ أي كيف نعود فيها ونحن كارهون لها، أو أتعيدوننا في حال كراهتنا.
قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً قد اختلقنا عليه. إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط جوابه محذوف دليله: قَدِ افْتَرَيْنا وهو بمعنى المستقبل لأنه لم يقع لكنه جعل كالواقع للمبالغة، وأدخل عليه قد لتقريبه من الحال أي قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها حيث نزعم أن لله تعالى نداً، وأنه قد تبين لنا أن ما كنا عليه باطل وما أنتم عليه حق. وقيل إنه جواب قسم وتقديره: والله لقد افترينا. وَما يَكُونُ لَنا وما يصح لنا. أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا، وفيه دليل على أن الكفر بمشيئة الله. وقيل أراد به حسم طمعهم في العود بالتعليق على ما لا يكون. وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم. عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإِيمان ويخلصنا من الأشرار. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ احكم بيننا وبينهم، والفتاح القاضي، والفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا حتى ينكشف ما بيننا وبينهم ويتميز المحق من المبطل من فتح المشكل إذا بينه. وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على المعنيين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٠ الى ٩١]
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم. إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم بالبخس والتطفيف وهو ساد مسد جواب الشرط والقسم الموطأ باللام.
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة وفي سورة «الحجر» فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ ولعلها كانت من مباديها.
فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ أي في مدينتهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٢ الى ٩٣]
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي استؤصلوا كأن لم يقيموا بها والمغنى المنزل. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ ديناً ودنيا لا الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا، فإنهم الرابحون في الدارين. وللتنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول واستأنف بالجملتين وأتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ قاله تأسفاً بهم لشدة حزنه عليهم ثم أنكر على نفسه فقال: فَكَيْفَ آسَى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ليسوا أهل حزن لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم، أو قاله اعتذاراً عن عدم شدة حزنه عليهم. والمعنى لقد بالغت في الإبلاغ والإِنذار وبذلت وسعي في النصح والإِشفاق فلم تصدقوا قولي، فكيف آسى عليكم. وقرئ «فكيف أيسي» بإمالتين.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٥]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (٩٥)
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ بالبؤس والضر. لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ حتى يتضرعوا ويتذللوا.
ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ أي أعطيناهم بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة السلامة والسعة ابتلاء لهم بالأمرين. حَتَّى عَفَوْا كثروا عَدَداً وعُدَداً يقال عفا النبات إذا كثر ومنه إعفاء اللحى. وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كفراناً لنعمة الله ونسياناً لذكره واعتقاداً بأنه من عادة الدهر يعاقب في الناس بين الضراء والسراء وقد مس آباءنا منه مثل ما مسنا. فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة. وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٦ الى ٩٧]
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني القرى المدلول عليها بقوله: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ وقيل مكة وما حولها. آمَنُوا وَاتَّقَوْا مكان كفرهم وعصيانهم. لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لوسعنا عليهم الخير ويسرناه لهم من كل جانب وقيل المراد المطر والنبات. وقرأ ابن عامر لَفَتَحْنا بالتشديد. وَلكِنْ كَذَّبُوا الرسل. فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله: فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ وما بينهما اعتراض والمعنى:
أبعد ذلك أمن أهل القرى. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً تبييتاً أو وقت بيات أو مبيتاً أو مبيتين، وهو في الأصل مصدر بمعنى البيتوتة ويجيء بمعنى التبييت كالسلام بمعنى التسليم. وَهُمْ نائِمُونَ حال من ضميرهم البارز أو المستتر في بياتا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٨ الى ٩٩]
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر أَوْ بالسكون على الترديد. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى ضحوة النهار، وهو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت: وَهُمْ يَلْعَبُونَ يلهون من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم.
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى ومَكْرَ اللَّهِ استعارة لاستدراج العبد وأخذه مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ. فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا بالكفر وترك النظر والاعتبار.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٠]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (١٠٠)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي يخلفون من خلا قبلهم ويرثون ديارهم، وإنما عدي يهد باللام لأنه بمعنى يبين. أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أن الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، وهو فاعل يهد ومن قرأه بالنون جعله مفعولاً. وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ عطف على ما دل عليه، أو لم يهد أي يغفلون عن الهداية أو منقطع عنه بمعنى ونحن نطبع، ولا يجوز عطفه على أصبناهم على
أنه بمعنى وطبعنا لأنه في سياقه جواب لو لإفضائه إلى نفي الطبع عنهم فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ سماع تفهم واعتبار.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٢]
تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
تِلْكَ الْقُرى يعني قرى الأمم المار ذكرهم. نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها حال إن جعل الْقُرى خبراً وتكون إفادته بالتقييد بها، وخبر إن جعلت صفة ويجوز أن يكونا خبرين ومِنْ للتبعيض أي نقص بعض أنبائها، ولها أنباء غيرها لا نقصها. وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات. فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بها. بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ بما كذبوه من قبل الرسل بل كانوا مستمرين على التكذيب، أو فما كانوا ليؤمنوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولاً حين جاءتهم الرسل، ولم تؤثر فيهم قط دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة، واللام لتأكيد النفي والدلالة على أنهم ما صلحوا للإِيمان لمنافاته لحالهم في التصميم على الكفر والطبع على قلوبهم. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر. وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ لأكثر الناس، والآية اعتراض أو لأكثر الأمم المذكورين. مِنْ عَهْدٍ من وفاء عهد، فإن أكثرهم نقضوا ما عهد الله إليهم في الإِيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضر ومخافة مثل لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي علمناهم.
لَفاسِقِينَ من وجدت زيدا ذا الحفاظ لدخول أن المخففة واللام الفارقة، وذلك لا يسوغ إلا في المبتدأ والخبر والأفعال الداخلة عليهما، وعند الكوفيين إن للنفي واللام بمعنى إلا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٥]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥)
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى الضمير للرسل في قوله: وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ أو للأمم. بِآياتِنا يعني المعجزات. إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها بأن كفروا بها مكان الإِيمان الذي هو من حقها لوضوحها، ولهذا المعنى وضع ظلموا موضع كفروا. وفرعون لقب لمن ملك مصر ككسرى لمن ملك فارس وكان اسمه قابوس، وقيل الوليد بن مصعب بن الريان. فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ.
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك، وقوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لعله جواب لتكذيبه إياه في دعوى الرسالة، وإنما لم يذكر لدلالة قوله فَظَلَمُوا بِها عليه وكان أصله حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ كما قرأ نافع فقلب لأمن الإِلباس كقوله: وتشقى الرماح بالضياطرة الحمر. أو لأن ما لزمك فقد لزمته، أو للإغراق في الوصف بالصدق، والمعنى أنه حق واجب على القول الحق أن أكون أنا قائله لا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به، أو ضمن حقيق معنى حريص، أو وضع على مكان الباء لإفادة التمكن كقولهم: رميت على القوس وجئت على حال حسنة، ويؤيده قراءة أبي بالباء. وقرئ «حقيق أن لا أقول» بدون على. قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فخلهم حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة التي هي وطن آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال.

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٦ الى ١٠٨]

قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨)
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ من عند من أرسلك. فَأْتِ بِها فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى.
فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره لا يشك في أنه ثعبان وهو الحية العظيمة.
روي: أنه لما ألقاها صارت ثعباناً أشعر فاغراً فاه بين لحييه ثمانون ذراعاً، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر. ثم توجه نحو فرعون فهرب منه وأحدث، وانهزم الناس مزدحمين فمات منهم خمسة وعشرون ألفاً، وصاح فرعون يا موسى أنشدك بالذي أرسلك خذه وأنا أومن بك وأرسل معك بني إسرائيل فأخذه فعاد عصا.
وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه أو من تحت إبطه. فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي بيضاء بياضاً خارجاً عن العادة تجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار لا أنها كانت بيضاء في جبلتها.
روي: أنه عليه السلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثم نزعها فإذا هي بيضاء نورانية غلب شعاعها شعاع الشمس.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٩ الى ١١٢]
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ قيل قاله هو وأشراف قومه على سبيل التشاور في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء وعنهم ها هنا.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أن نفعل.
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ.
يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ كأنه اتفقت عليه آراؤهم فأشاروا به على فرعون، والإِرجاء التأخير أي أخر أمره، وأصله أرجئه كما قرأ أبو عمرو وأبو بكر ويعقوب من أرجأت، وكذلك «أرجئهوه» على قراءة ابن كثير على الأصل في الضمير، أو أرجهي من أرجيت كما قرأ نافع في رواية ورش وإسماعيل والكسائي، وأما قراءته في رواية قالون أَرْجِهْ بحذف الياء فللاكتفاء بالكسرة عنها، وأما قراءة حمزة وعاصم وحفص أَرْجِهْ بسكون الهاء فلتشبيه المنفصل بالمتصل وجعل أَرْجِهْ كابل في إسكان وسطه وأما قراءة ابن عامر برواية ابن ذكوان «أرجئه» بالهمزة وكسر الهاء فلا يرتضيه النحاة فإن الهاء لا تكسر إلا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة، ووجهه أن الهمزة لما كانت تقلب ياء أجريت مجراها. وقرأ حمزة والكسائي «بكل سحار» فيه وفي «يونس» ويؤيده اتفاقهم عليه في «الشعراء».
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٣ الى ١١٤]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤)
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم. قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ استأنف به كأنه جواب سائل قال: ما قالوا إذ جاءوا؟ وقرأ ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم إِنَّ لَنا لَأَجْراً على الإِخبار وإيجاب الأجر كأنهم قالوا لا بد لنا من أجر، والتنكير للتعظيم.
قالَ نَعَمْ إن لكم لأجراً. وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على ما سد مسده نَعَمْ وزيادة على
الجواب لتحريضهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٥ الى ١١٦]
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦)
قالُوا يَا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيروا موسى مراعاة للأدب أو إظهاراً للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله فنبهوا عليها بتغيير النظم إلى ما هو أبلغ وتعريف الخبر وتوسيط الفصل أو تأكيد ضميرهم المتصل بالمنفصل فلذلك:
قالَ بَلْ أَلْقُوا كرماً وتسامحاً، أو ازدراء بهم ووثوقاً على شأنه. فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بأن خيلوا إليها ما الحقيقة بخلافه. وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وأرهبوهم إرهاباً شديداً كأنهم طلبوا رهبتهم. وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فنه.
روي أنهم ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً كأنها حيات ملأت الوادي، وركب بعضها بعضا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٧ الى ١١٩]
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (١١٧) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حية. فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ أي ما يزورونه من الإِفك، وهو الصرف وقلب الشيء عن وجهه، ويجوز أن تكون ما مصدرية وهي مع الفعل بمعنى المفعول.
روي: أنها لما تلقفت حبالهم وعصيهم وابتلعتها بأسرها أقبلت على الحاضرين فهربوا وازدحموا حتى هلك جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصاً كما كانت فقال السحرة: لو كان هذا سحراً لبقيت حبالنا وعصينا.
وقرأ حفص عن عاصم تَلْقَفُ هاهنا وفي «طه» و «الشعراء».
فَوَقَعَ الْحَقُّ فثبت لظهور أمره. وَبَطَلَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر والمعارضة.
فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي صاروا أذلاء مبهوتين، أو رجعوا إلى المدينة أذلاء مقهورين، والضمير لفرعون وقومه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٢]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢)
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ جعلهم ملقين على وجوههم تنبيهاً على أن الحق بهرهم واضطرهم إلى السجود بحيث لم يبق لهم تمالك، أو أن الله ألهمهم ذلك وحملهم عليه حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى وينقلب الأمر عليه، أو مبالغة في سرعة خرورهم وشدته.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ.
رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٣ الى ١٢٤]
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ بالله أو بموسى، والاستفهام فيه للإِنكار. وقرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم وروح عن يعقوب وهشام بتحقيق الهمزتين على الأصل. وقرأ حفص آمَنْتُمْ بِهِ على الإِخبار، وقرأ قنبل قالَ فِرْعَوْنُ، و «آمنتم» يبدل في حال الوصل من همزة الاستفهام واوا مفتوحة ويمد بعدها مدة في تقدير ألفين وقرأ في طه على الخبر بهمزة وألف وقرأ في الشعراء على الاستفهام بهمزة ومدة مطولة في تقدير
ألفين، وقرأ الباقون بتحقيق الهمزة الأولى وتليين الثانية. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي إن هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم وموسى. فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد. لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعنى القبط وتخلص لكم ولبني إسرائيل. فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما فعلتم، وهو تهديد مجمل تفصيله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق طرفاً. ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحاً لكم وتنكيلاً لأمثالكم. قيل إنه أول من سن ذلك فشرعه الله للقطاع تعظيما لجرمهم ولذلك سماه محاربة لله ورسوله، ولكن على التعاقب لفرط رحمته.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٥ الى ١٢٦]
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة فلا نبالي بوعيدك، أو إنا منقلبون إلى ربنا وثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنهم استطابوه شغفاً على لقاء الله، أو مصيرنا ومصيرك إلى ربنا فيحكم بيننا.
وَما تَنْقِمُ مِنَّا وما تنكر منا. إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا وهو خير الأعمال وأصل المناقب ليس مما يتأتى لنا العدول عنه طلباً لمرضاتك، ثم فزعوا إلى الله سبحانه وتعالى فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أفض علينا صبراً يغمرنا كما يفرغ الماء، أو صب علينا ما يطهرنا من الآثام وهو الصبر على وعيد فرعون. وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإِسلام. قيل إنه فعل بهم ما أوعدهم به. وقيل إنه لم يقدر عليهم لقوله تعالى: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٢٧]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧)
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغيير الناس عليك ودعوتهم إلى مخالفتك. وَيَذَرَكَ عطف على يفسدوا، أو جواب الاستفهام بالواو كقول الحطيئة:
أَلَمْ أَكُ جَارَكُم وَيَكُونُ بَيْني وَبَيْنَكُمْ المَوَدَّةُ وَالإِخَاءُ
على معنى أيكون منك ترك موسى ويكون منه تركه إياك. وقرئ بالرفع على أنه عطف على أنذر أو استئناف أو حال. وقرئ بالسكون كأنه قيل: يفسدوا ويذرك كقوله تعالى: فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ، وَآلِهَتَكَ معبوداتك قيل كان يعبد الكواكب. وقيل صنع لقومه أصناماً وأمرهم أن يعبدوها تقرباً إليه ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى وقرئ «إلا هتك» أي عبادتك. قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ كما كنا نفعل من قبل ليعلم أنا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يده. وقرأ ابن كثير ونافع سَنُقَتِّلُ بالتخفيف. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون وهم مقهورون تحت أيدينا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٨ الى ١٢٩]
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا لما سمعوا قول فرعون وتضجروا منه تسكيناً لهم إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ تسلية لهم وتقرير للأمر بالاستعانة بالله والتثبت في الأمر. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ
وعد لهم بالنصرة وتذكير لما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وتحقيق له. وقرئ «والعاقبة» بالنصب عطف على اسم إن واللام في الْأَرْضَ تحتمل العهد والجنس.
قالُوا أي بنو إسرائيل. أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة بقتل الأبناء وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنا بإعادته.
قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ تصريحا بما كنى عنه أولاً لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم.
وقد روي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام
فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى ما تعملون من شكر وكفران وطاعة وعصيان فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (١٣١)
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ بالجدوب لقلة الأمطار والمياه، والسنة غلبت على عام القحط لكثرة ما يذكر عنه ويؤرخ به، ثم اشتق منها فقيل أسنت القوم إذا قحطوا. وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة العاهات.
لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكي يتنبهوا على أن ذلك بشؤم كفرهم ومعاصيهم فيتعظوا، أو ترق قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى الله ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والسعة. قالُوا لَنا هذِهِ لأجلنا ونحن مستحقوها. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ جدب وبلاء. يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ يتشاءموا بهم ويقولوا: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة، فإن الشدائد ترقق القلوب وتذلل العرائك وتزيل التماسك سيما بعد مشاهدة الآيات، وهم لم تؤثر فيهم بل زادوا عندها عتواً وانهماكاً في الغي، وإنما عرف الحسنة وذكرها مع أداة التحقيق لكثرة وقوعها، وتعلق الإرادة بإحداثها بالذات، ونكر السيئة وأتى بها مع حرف الشك لندورها وعدم القصد لها إلا بالتبع. أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي سبب خيرهم وشرهم عنده وهو حكمه ومشيئته، أو سبب شؤمهم عند الله وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. وقرئ «إنما طيرهم» وهو اسم الجمع وقيل هو جمع. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم من الله تعالى أو من شؤم أعمالهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٣]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣)
وَقالُوا مَهْما أصلها ما الشرطية ضمت إليها ما المزيدة للتأكيد، ثم قلبت ألفها هاء استثقالاً للتكرير.
وقيل مركبة من مه الذي يصوت به الكاف وما الجزائية ومحلها الرفع على الابتداء أو النصب بفعل يفسره.
تَأْتِنا بِهِ أي أيما شيء تحضرنا تأتنا به. مِنْ آيَةٍ بيان لمهما، وإنما سموها آية على زعم موسى لا لاعتقادهم ولذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ أي لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا، والضمير في به وبها لمهما ذكره قبل التبيين باعتبار اللفظ وأنثه بعده باعتبار المعنى.
فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ماء طاف بهم وغشي أماكنهم وحروثهم من مطر أو سيل. وقيل الجدري، وقيل الموتان وقيل الطاعون. وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ قيل هو كبار القردان، وقيل أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها.
وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ
روي: أنهم مطروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل
الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل مشتبكة ببيوتهم فلم يدخل فيها قطرة، وركد على أراضيهم فمنعهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعاً فقالوا لموسى: ادع لنا ربك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا فكشف عنهم ونبت لهم من الكلأ والزرع ما لم يعهد مثله ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زروعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب ففزعوا إليه ثانياً فدعا وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها فلم يؤمنوا، فسلط الله عليهم القمل فأكل ما أبقاه الجراد وكان يقع في أطعمتهم ويدخل بين أثوابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم فقالوا: قد تحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا يكشف ثوب ولا طعام إلا وجدت فيه، وكانت تمتلئ منها مضاجعهم وتثب إلى قدورهم وهي تغلي، وأفواههم عند التكلم ففزعوا إليه وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم ثم نقضوا العهود، ثم أرسل الله عليهم الدم فصارت مياههم دماً حتى كان يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على إناء فيكون ما يلي القبطي دماً وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإِسرائيلي فيصير دماً في فيه.
وقيل سلط الله عليهم الرعاف. آياتٍ نصب على الحال. مُفَصَّلاتٍ مبينات لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته عليهم، أو مفصلات لامتحان أحوالهم إذ كان بين كل اثنتين منها شهر وكان امتداد كل واحدة أسبوعاً، وقيل إن موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل. فَاسْتَكْبَرُوا عن الإِيمان. وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٤ الى ١٣٥]
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥)
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله الله عليهم بعد ذلك. قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك، وهو صلة لادع أو حال من الضمير فيه بمعنى ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك، أو متعلق بفعل محذوف دل عليه التماسهم مثل اسعفنا إلى ما نطلب منك بحق ما عهد عندك أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي أقسمنا بعهد الله عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمنن ولنرسلن.
فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حد من الزمان هم بالغوه فمعذبون فيه أو مهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت. وقيل إلى أجل عينوه لإِيمانهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب لما أي فلما كشفنا عنهم فاجؤوا النكث من غير تأمل وتوقف فيه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٦ الى ١٣٧]
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم. فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي البحر الذي لا يدرك قعره. وقيل لجته.
بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها. وقيل الضمير للنقمة المدلول عليها بقوله: فَانْتَقَمْنا.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد وذبح الأبناء من مستضعفيهم. مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني أرض الشام ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة وتمكنوا في نواحيها. الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة العيش. وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ ومضت عليهم واتصلت بالانجاز عدته إياهم بالنصرة والتمكين وهو قوله تعالى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ إلى قوله: ما كانُوا يَحْذَرُونَ وقرئ «كلمات ربك» لتعدد المواعيد بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الشدائد. وَدَمَّرْنا وخربنا. مَا كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات. وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنات أو ما كانوا يرفعون من البنيان كصرح هامان وقرأ ابن عامر وأبو بكر هنا وفي «النحل» يَعْرِشُونَ بالضم. وهذا آخر قصة فرعون وقومه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٣٨]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨)
وقوله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ وَمَا بعده ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله عليهم بالنعم الجسام، وأراهم من الآيات العظام تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم مما رأى منهم، وإيقاظاً للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم.
روي: أن موسى عليه السلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه فصاموه شكراً.
فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ فمروا عليهم. يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ يقيمون على عبادتها، قيل كانت تماثيل بقر وذلك أول شأن العجل، والقوم كانوا من العمالقة الذين أمر موسى بقتالهم. وقيل من لخم، وقرأ حمزة والكسائي يَعْكُفُونَ بالكسر. قالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً مثالاً نعبده. كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها، وما كافة للكاف. قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل المطلق وأكده لبعد ما صدر عنهم بعد ما رأوا من الآيات الكبرى عن العقل.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٩ الى ١٤٠]
إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠)
إِنَّ هؤُلاءِ إشارة إلى القوم. مُتَبَّرٌ مكسر مدمر. مَّا هُمْ فِيهِ يعني أن الله يهدم دينهم الذي هم عليه ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضاً وَباطِلٌ مضمحل. مَا كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها وإن قصدوا بها التقرب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام بإيقاع هؤُلاءِ اسم إِنَّ والإِخبار عما هم فيه بالتبار وعما فعلوا بالبطلان، وتقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبراً لأن للتنبيه على أن الدمار لاحق لما هم فيه لا محالة، وأن الإِحباط الكلي لازب لما مضى عنهم تنفيراً وتحذيراً عما طلبوا.
قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً أطلب لكم معبوداً. وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ والحال أنه خصكم بنعم لم يعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء معاملتهم حيث قابلوا تخصيص الله إياهم من أمثالهم لما لم يستحقوه تفضلاً بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤١ الى ١٤٢]
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١) وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ واذكروا صنيعه معكم في هذا الوقت. وقرأ ابن عامر «أنجاكم».
يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ استئناف لبيان ما أنجاهم منه، أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون أو منهما.
يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل منه مبين. وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ وفي الإِنجاء أو العذاب نعمة أو محنة عظيمة.
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً ذا القعدة، وقرأ أبو عمرو ويعقوب «ووعدنا». وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة. فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً بالغاً أربعين.
روي: أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل بمصر أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره الله بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدته بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشراً.
وقيل أمره بأن يتخلى ثلاثين بالصوم والعبادة ثم أنزل عليه التوراة في العشر وكلمه فيها. وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم. وَأَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم أو كن مصلحاً. وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ ولا تتبع من سلك الإِفساد ولا تطع من دعاك إليه.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا لوقتنا الذي وقتناه، واللام للاختصاص أي اختص مجيئه لميقاتنا. وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير وسيط كما يكلم الملائكة، وفيما
روي: أن موسى عليه السلام كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أرني نفسك بأن تمكنني من رؤيتك، أو تتجلى لي فأنظر إليك وأراك. وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصاً ما يقتضي الجهل بالله ولذلك رده بقوله تعالى:
لَنْ تَرانِي دون لن أرى أو لن أريك أو لن تنظر إليَّ، تنبيهاً على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على معد في الرائي لم يوجد فيه بعد، وجعل السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً خطأ إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبهتهم كما فعل بهم حين قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً ولا يتبع سبيلهم كما قال لأخيه وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإِخبار عن عدم رؤيته إياه على أن لا يراه أبداً وأن لا يراه غيره أصلاً فضلاً عن أن يدل على استحالتها ودعوى الضرورة فيه مكابرة أو جهالة بحقيقة الرؤية. قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي استدراك يريد أن يبين به أنه لا يطيقه، وفي تعليق الرؤية بالاستقرار أيضاً دليل على الجواز ضرورة أن المعلق على الممكن ممكن، والجبل قيل هو جبل زبير. فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ظهر له عظمته وتصدى له اقتداره وأمره. وقيل أعطى له حياة ورؤية حتى رآه. جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكاً مفتتاً والدك والدق أخوان كالشك والشق، وقرأ حمزة والكسائي «دكاء» أي أرضاً مستوية ومنه ناقة دكاء التي لا سنام لها. وقرئ دَكًّا أي قطعاً جمع دكاء. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشياً عليه من هول ما رأى. فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيماً لما رأى. سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجراءة والإِقدام على السؤال من غير إذن. وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ مر تفسيره. وقيل معناه أنا أول من آمن بأنك لا ترى في الدنيا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٥]
قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥)
قالَ يَا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك. عَلَى النَّاسِ أي الموجودين في زمانك، وهارون وإن كان نبياً كان مأموراً باتباعه ولم يكن كليماً ولا صاحب شرع. بِرِسالاتِي يعني أسفار التوراة وقرأ ابن كثير ونافع «برسالتي». وَبِكَلامِي وبتكليمي إياك. فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة. وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة فيه. روي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وإعطاء التوراة كان يوم النحر.
وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مما يحتاجون إليه من أمر الدين. مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ بدل من الجار والمجرور، أي وكتبنا له كل شيء من المواعظ وتفصيل الأحكام. واختلف في أن الألواح كانت عشرة أو سبعة، وكانت من زمرد أو زبرجد، أو ياقوت أحمر أو صخرة صماء لينها الله لموسى فقطعها بيده وسقفها بأصابعه وكان فيها التوراة أو غيرها. فَخُذْها على إضمار القول عطفاً على كتبنا أو بدل من قوله: فَخُذْ ما آتَيْتُكَ والهاء للألواح أو لكل شيء فإنه بمعنى الأشياء أو للرسالات. بِقُوَّةٍ بجد وعزيمة.
وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي بأحسن ما فيها كالصبر والعفو بالإضافة إلى الانتصار، والاقتصاص على طريقة الندب والحث على الأفضل كقوله تعالى: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ. أو بواجباتها فإن الواجب أحسن من غيره، ويجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقاً لا بالإضافة، وهو المأمور به كقولهم الصيف أحر من الشتاء. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ دار فرعون وقومه بمصر خاوية على عروشها، أو منازل عاد وثمود وأضرابهم لتعتبروا فلا تفسقوا، أو دارهم في الآخرة وهي جهنم. وقرئ «سأوريكم» بمعنى سأبين لكم من أوريت الزند و «سأورثكم»، ويؤيده قوله: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٦ الى ١٤٧]
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة في الآفاق والأنفس. الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها ولا يعتبرون بها. وقيل سأصرفهم عن ابطالها وإن اجتهدوا كما فعل فرعون فعاد عليه بإعلائها أو بإهلاكهم. بِغَيْرِ الْحَقِّ صلة يتكبرون أي يتكبرون بما ليس بحق وهو دينهم الباطل، أو حال من فاعله. وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ منزلَة أو معجزة. لاَّ يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم واختلال عقولهم بسبب انهماكهم في الهوى والتقليد وهو يؤيد الوجه الأول. وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم.
وقرأ حمزة والكسائي الرُّشْدِ بفتحتين وقرئ «الرشاد» وثلاثتها لغات كالسقم والسقم والسقام، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم للآيات، ويجوز أن ينصب ذلك على المصدر أي سأصرف ذلك الصرف بسببهما.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي ولقائهم الدار الآخرة، أو ما وعد الله في الدار الآخرة.
حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كانُوا يَعْمَلُونَ إلا جزاء أعمالهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ من بعد ذهابه للميقات. مِنْ حُلِيِّهِمْ التي استعاروا من القبط حين هموا
بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت في أيديهم أو ملكوها بعد هلاكهم. وهو جمع حلي كثدي وثدي. وقرأ حمزة والكسائي بالكسر بالاتباع كدلي ويعقوب على الإِفراد. عِجْلًا جَسَداً بدنا ذا لحم ودم، أو جسداً من الذهب خالياً من الروح ونصبه على البدل. لَهُ خُوارٌ صوت البقر.
روي أن السامري لما صاغ العجل ألقى في فمه من تراب أثر فرس جبريل فصار حياً.
وقيل صاغه بنوع من الحيل فتدخل الريح جوفه وتصوت، وإنما نسب الاتخاذ إليهم وهو فعله إما لأنهم رضوا به أو لأن المراد اتخاذهم إياه إلهاً. وقرئ «جوار» أي صياح. أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر، والمعنى ألم يروا حين اتخذوه إلهاً أنه لا يقدر على كلام ولا على إرشاد سبيل كآحاد البشر حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر. اتَّخَذُوهُ تكرير للذم أي اتخذوه إلهاً. وَكانُوا ظالِمِينَ واضعين الأشياء في غير مواضعها فلم يكن اتخاذ العجل بدعاً منهم.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم فإن النادم المتحسر يعض يده غماً فتصير يده مسقوطاً فيها. وقرئ «سُقِطَ» على بناء الفعل للفاعل بمعنى وقع العض فيها. وقيل معناه سقط الندم في أنفسهم.
وَرَأَوْا وعلموا. أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل. قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوراة. وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة. لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وقرأهما حمزة والكسائي بالتاء ورَبُّنا على النداء.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥١]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً شديد الغضب وقيل حزيناً. قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي فعلتم بعدي حيث عبدتم العجل، والخطاب للعبدة أو أقمتم مقامي فلم تكفوا العبدة والخطاب لهارون والمؤمنين معه، وما نكرة موصوفة تفسر المستكن في بئس والمخصوص بالذم محذوف تقديره بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، ومعنى من بعدي من بعد انطلاقي، أو من بعد ما رأيتم مني من التوحيد والتنزيه والحمل عليه والكف عما ينافيه. أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أتركتموه غير تام، كأنه ضمن عجل معنى سبق فعدى تعديته، أو أعجلتم وعد ربكم الذي وعدنيه من الأربعين وقدرتم موتي وغيرتم بعدي كما غيرت الأمم بعد أنبيائهم. وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدة الغضب وفرط الضجر حمية للدين.
روي: أن التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة ألواح فلما ألقاها انكسرت فرفع ستة أسباعها وكان فيها تفصيل كل شيء وبقي سبع كان فيه المواعظ والأحكام.
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بشعر رأسه. يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهماً بأنه قصر في كفهم، وهارون كان أكبر منه بثلاث سنين وكان حمولاً ليناً ولذلك كان أحب إلى بني إسرائيل. قالَ ابْنَ أُمَّ ذكر الأم ليرققه عليه وكانا من أب وأم. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم هنا وفي «طه» «يا ابن أم» بالكسر وأصله يا ابن أمي فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفاً كالمنادى المضاف إلى الياء، والباقون بالفتح زيادة في التخفيف لطوله أو تشبيهاً بخمسة عشر. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي إزاحة لتوهم التقصير في حقه، والمعنى بذلت وسعي في كفهم حتى قهروني واستضعفوني وقاربوا قتلي. فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بي ما يشمتون بي لأجله. وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ معدوداً في عدادهم بالمؤاخذة أو نسبة التقصير.
قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي بما صنعت بأخي. وَلِأَخِي إن فرط في كفهم ضمه إلى نفسه في الاستغفار
ترضية له ودفعاً للشماتة عنه. وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإِنعام علينا. وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم بنا منا على أنفسنا.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٢ الى ١٥٣]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ما أمرهم به من قتل أنفسهم. وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي خروجهم من ديارهم. وقيل الجزية. وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله ولا فرية أعظم من فريتهم وهي قولهم هذا إلهكم وإله موسى، ولعله لم يفتر مثلها أحد قبلهم ولا بعدهم.
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيئات. وَآمَنُوا واشتغلوا بالإِيمان وما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة. إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة. لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وإن عظم الذنب كجريمة عبدة العجل، وكثر كجرائم بني إسرائيل.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
وَلَمَّا سَكَتَ سكن وقد قرئ به. عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ باعتذار هارون، أو بتوبتهم وفي هذا الكلام مبالغة وبلاغة من حيث أنه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالأمر به والمغري عليه حتى عبر عن سكونه بالسكوت. وقرئ «سَكَتَ» و «أسكت» على أن المسكت هو الله أو أخوه أو الذين تابوا. أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها. وَفِي نُسْخَتِها وفيما نسخ فيها أي كتب، فعلة بمعنى مفعول كالخطبة وقيل فيما نسخ منها أي من الألواح المنكسرة. هُدىً بيان للحق. وَرَحْمَةٌ إرشاد إلى الصلاح والخير. لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، أو حذف المفعول واللام للتعليل والتقدير يرهبون معاصي الله لربهم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي من قومه فحذف الجار وأوصل الفعل إليه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ
روي أنه تعالى أمره أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستة فزاد اثنان فقال:
ليتخلف منكم رجلان فتشاجروا فقال: إن لمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع وذهب مع الباقين، فلما دنوا من الجبل غشيه غمام فدخل موسى بهم الغمام وخروا سجداً، فسمعوه تعالى يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام فأقبلوا إليه وقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فأخذتهم الرجفة
أي الصاعقة، أو رجفة الجبل فصعقوا منها. قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ تمنى هلاكهم وهلاكه، قبل أن يرى ما رأى أو بسبب آخر، أو عنى به أنك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك بحمل فرعون على إهلاكهم وبإغراقهم في البحر وغيرهما فترحمت عليهم بالانقاذ منها فإن ترحمت عليهم مرة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك. أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، وكان ذلك قاله بعضهم. وقيل المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل، والسبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها فغشيتهم
هيبة قلقوا منها ورجفوا حتى كادت تبين مفاصلهم، وأشرفوا على الهلاك فخاف عليهم موسى فبكى ودعا فكشفها الله عنهم. إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك حتى طمعوا في الرؤية، أو أوجدت في العجل خواراً فزاغوا به. تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ضلاله بالتجاوز عن حده أو باتباع المخايل. وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هداه فيقوى بها إيمانه. أَنْتَ وَلِيُّنا القائم بأمرنا. فَاغْفِرْ لَنا بمغفرة ما قارفنا. وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٦]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن معيشة وتوفيق طاعة. وَفِي الْآخِرَةِ الجنة. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ تبنا إليك من هاد يهود إذا رجع. وقرئ بالكسر من هاد يهيده إذا أماله، ويحتمل أن يكون مبنياً للفاعل وللمفعول بمعنى أملنا أنفسنا وأملنا إليك، ويجوز أن يكون المضموم أيضاً مبنياً للمفعول منه على لغة من يقول عود المريض. قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ تعذيبه. وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا المؤمن والكافر بل المكلف وغيره. فَسَأَكْتُبُها فسأثبتها في الآخرة، أو فسأكتبها كتبة خاصة منكم يا بني إسرائيل.
لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي. وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصها بالذكر لإنافتها ولأنها كانت أشق عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشيء منها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٧]
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ مبتدأ خبره يأمرهم، أو خبر مبتدأ تقديره هم الذين، أو بدل من الذين يتقون بدل البعض أو الكل، والمراد من آمن منهم بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وإنما سماه رسولاً بالإِضافة إلى الله تعالى ونبياً بالإِضافة إلى العباد. الْأُمِّيَّ الذي لا يكتب ولا يقرأ، وصفه به تنبيهاً على أن كمال علمه مع حاله إحدى معجزاته. الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسماً وصفة. يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مما حرم عليهم كالشحوم. وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم ولحم الخنزير أو كالربا والرشوة. وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ ويخفف عنهم ما كلفوا به من التكاليف الشاقة كتعيين القصاص في العمد والخطأ، وقطع الأعضاء الخاطئة وقرض موضع النجاسة، وأصل الإصر الثقل الذي يأصر صاحبه أي يحبسه من الحراك لثقله. وقرأ ابن عامر «آصارهم». فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وعظموه بالتقوية. وقرئ بالتخفيف وأصله المنع ومنه التعزير. وَنَصَرُوهُ لي. وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي مع نبوته يعني القرآن، وإنما سماه نوراً لأنه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره، أو لأنه كاشف الحقائق مظهر لها، ويجوز أن يكون معه متعلقاً باتبعوا أي واتبعوا النور المنزل مع اتباع النبي فيكون إشارة إلى اتباع الكتاب والسنة. أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبدية، ومضمون الآية جواب دعاء موسى صلّى الله عليه وسلّم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ الخطاب عام، كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مبعوثاً إلى كافة الثقلين، وسائر الرسل إلى أقوامهم. جَمِيعاً حال من إليكم. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ صفة لله وإن حيل بينهما بما هو متعلق المضاف إليه لأنه كالتقدم عليه، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ وهو على الوجوه. الأول بيان لما قبله فإن من ملك العالم كان هو الإِله لا غيره وفي: يُحيِي وَيُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهية. فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل من كتبه ووحيه. وقرئ «وكلمته» على إرادة الجنس أو القرآن، أو عيسى تعريضًا لليهود وتنبيهاً على أن من لم يؤمن به لم يعتبر إيمانه، وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الإيمان به والاتباع له. وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين تنبيهاً على أن من صدقه ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٩ الى ١٦٠]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى يعنى من بني إسرائيل. أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ يهدون الناس محقين أو بكلمة الحق.
وَبِهِ بالحق. يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم والمراد بها الثابتون على الإِيمان القائمون بالحق من أهل زمانه، أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهاً على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. وقيل مؤمنو أهل الكتاب. وقيل قوم وراء الصين رآهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج فآمنوا به.
وَقَطَّعْناهُمُ وصيرناهم قطعاً متميزاً بعضهم عن بعض. اثْنَتَيْ عَشْرَةَ مفعول ثان لقطع فإنه متضمن معنى صير، أو حال وتأنيثه للحمل على الأمة أو القطعة. أَسْباطاً بدل منه ولذلك جمع، أو تمييز له على أن كل واحدة من اثنتي عشرة أسباط فكأنه قيل: اثنتي عشرة قبيلة. وقرئ بكسر الشين وإسكانها. أُمَماً على الأول بدل بعد بدل، أو نعت أسباط وعلى الثاني بدل من أسباط. وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه. أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ أي فضرب فانبجست وحذفه للإِيماء على أن موسى صلّى الله عليه وسلّم لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثراً يتوقف عليه الفعل في ذاته مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط. مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ ليقيهم حر الشمس. وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا أي وقلنا لهم كُلُواْ. مِنْ طَيِّباتِ مَا رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سبق تفسيره في سورة «البقرة».
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بإضمار اذكر والقرية بيت المقدس. وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مثل ما في سورة «البقرة» معنى غير أن قوله فَكُلُوا فيها بالفاء أفاد تسبب
سكناهم للأكل منها، ولم يتعرض له ها هنا اكتفاء بذكره ثمة، أو بدلالة الحال عليه وأما تقديم قوله قولوا على وادخلوا فلا أثر له في المعنى لأنه لا يوجب الترتيب وكذا الواو العاطفة بينهما. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالغفران والزيادة عليه بالإثابة، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف للدلالة على أنه تفضل محض ليس في مقابلة ما أمروا به. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب «تغفر» بالتاء والبناء للمفعول، وخَطِيئاتِكُمْ بالجمع والرفع غير ابن عامر فإنه وحد وقرأ أبو عمرو «خطاياكم».
فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ مضى تفسيره فيها.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٣]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣)
وَسْئَلْهُمْ للتقرير والتقريع بقديم كفرهم وعصيانهم، والإِعلام بما هو من علومهم التي لا تعلم إلا بتعليم أو وحي ليكون لك ذلك معجزة عليهم. عَنِ الْقَرْيَةِ عن خبرها وما وقع بأهلها. الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه وهي أيلة قرية بين مدين والطور على شاطئ البحر، وقيل مدين، وقيل طبرية. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود الله بالصيد يوم السبت، وإِذْ ظرف ل كانَتْ أو حاضِرَةَ أو للمضاف المحذوف أو بدل منه بدل اشتمال. إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ل «يَعْدُونَ» أو بدل بعد بدل. وقرئ «يَعْدُونَ» وأصله يعتدون ويعدون من الإِعداد أي يعدون آلات الصيد يوم السبت، وقد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة. يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً يوم تعظيمهم أمر السبت مصدر سبتت اليهود إذا عظمت سبتها بالتجرد للعبادة. وقيل اسم لليوم والإِضافة لاختصاصهم بإحكام فيه، ويؤيد الأول إن قرئ يوم إسباتهم، وقوله: وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ
وقرئ «لاَ يَسْبِتُونَ» من أسبت و «لاَ يَسْبِتُونَ» على البناء للمفعول بمعنى لا يدخلون في السبت، وشُرَّعاً حال من الحيتان ومعناه ظاهرة على وجه الماء من شرع علينا إذا دنا وأشرف. كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ مثل ذلك البلاء الشديد نبلوهم بسبب فسقهم. وقيل كذلك متصل بما قبله أي لا تأتيهم مثل إتيانهم يوم السبت، والباء متعلق ب يَعْدُونَ.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٤]
وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤)
وَإِذْ قالَتْ عطف على إِذْ يَعْدُونَ. أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرية يعني صلحاءهم الذين اجتهدوا في موعظتهم حتى أيسوا من اتعاظهم. لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مخترمهم. أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة لتماديهم في العصيان، قالوه مبالغة في أن الوعظ لا ينفع فيهم، أو سؤالاً عن علة الوعظ ونفعه وكأنه تقاول بينهم أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم، وقيل المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعاظهم رداً عليهم وتهكماً بهم. قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ جواب للسؤال أي موعظتنا إنهاء عذر إلى الله حتى لا ننسب إلى تفريط في النهي عن المنكر. وقرأ حفص مَعْذِرَةً بالنصب على المصدر أو العلة أي اعتذرنا به معذرة ووعظناهم معذرة. وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ إذ اليأس لا يحصل إلا بالهلاك.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٥ الى ١٦٦]
فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
فَلَمَّا نَسُوا تركوا ترك الناسي. مَا ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكرهم به صلحاؤهم. أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتداء ومخالفة أمر الله. بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد فعيل من بؤس يبؤس بؤساً إذا
اشتد. وقرأ أبو بكر بَئِيسٍ على فيعل كضيغم، وابن عامر «بئس» بكسر الباء وسكون الهمز على أنه بئس كحذر، كما قرئ به فخفف عينه بنقل حركتها إلى الفاء ككبد في كبد، وقرأ نافع «بيس» على قلب الهمزة ياء كما قلبت في ذئب أو على أنه فعل الذم وصف به فجعل اسما، وقرئ «بيس» كريس على قلب الهمزة ثم ادغامها و «بيس» بالتخفيف كهين و «بائس» كفاعل. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبروا عن ترك ما نهوا عنه كقوله تعالى: وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ. قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ كقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذبهم أولاً بعذاب شديد فعتوا بعد ذلك فمسخهم، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريراً وتفصيلاً للأولى.
روي: أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوماً ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين فقالوا: إن لهم شأناً فدخلوا عليهم فإذا هم قردة فلم يعرفوا أنسباءهم ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم وتدور باكية حولهم ثم ماتوا بعد ثلاث.
وعن مجاهد مسخت قلوبهم لا أبدانهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٧ الى ١٦٨]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي أعلم تفعل من الإيذان بمعناه كالتوعد والإِيعاد، أو عزم لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله وأجري مجرى فعل القسم ك عَلِمَ اللَّهُ وشَهِدَ اللَّهُ. ولذلك أجيب بجوابه وهو: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ والمعنى وإذ أوجب ربك على نفسه ليسلطن على اليهود. مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإِذلال وضرب الجزية، بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بختنصر فخرب ديارهم وقتل مقاتليهم وسبى نساءهم وذراريهم وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس حتى بعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم ففعل ما فعل ثم ضرب عليهم الجزية فلا تزال مضروبة إلى آخر الدهر. إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ عاقبهم في الدنيا. وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن.
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً وفرقناهم فيها بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم تتمة لأدبارهم حتى لا يكون لهم شوكة قط وأُمَماً مفعول ثان أو حال. مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه وهم الذين آمنوا بالمدينة ونظراؤهم وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره ومنهم أناس من دون ذلك أي منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم. وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ بالنعم والنقم. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينهون فيرجعون عما كانوا عليه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٩ الى ١٧٠]
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المذكورين. فَخَلَفَ بدل سوء مصدر نعت به ولذلك يقع على الواحد والجمع. وقيل جمع وهو شائع في الشر والخلف بالفتح في الخير والمراد به الذين كانوا في عصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة من أسلافهم يقرءونها ويقفون على ما فيها... يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشيء الأدنى يعني الدنيا، وهو من الدنو أو الدناءة وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في
الحكومة وعلى تحريف الكلم، والجملة حال من الواو. وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، وهو يحتمل العطف والحال والفعل مسند إلى الجار والمجرور، أو مصدر يأخذون. وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ حال من الضمير في لَنا أي: يرجون المغفرة مصرين على الذنب عائدين إلى مثله غير تائبين عنه. أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي في الكتاب. أَنْ لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ عطف بيان للميثاق، أو متعلق به أي بأن يقولوا والمراد توبيخهم على البت بالمغفرة مع عدم التوبة والدلالة على أنه افتراء على الله وخروج عن ميثاق الكتاب. وَدَرَسُوا مَا فِيهِ عطف على أَلَمْ يُؤْخَذْ من حيث المعنى فإنه تقرير، أو على وَرِثُوا وهو اعتراض. وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مما يأخذ هؤلاء. أَفَلا يَعْقِلُونَ فيعلموا ذلك ولا يستبدلوا الأدنى الدنيء المؤدي إلى العقاب بالنعيم المخلد، وقرأ نافع وابن عامر وحفص ويعقوب بالتاء على التلوين. وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ عطف على الذين يَتَّقُونَ وقوله: أَفَلا يَعْقِلُونَ اعتراض أو مبتدأ خبره: إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير منهم، أو وضع الظاهر موضع المضمر تنبيهاً على أن الإِصلاح كالمانع من التضييع. وقرأ أبو بكر يُمَسِّكُونَ بالتخفيف وإفراد الإِقامة لإِنافتها على سائر أنواع التمسكات.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي قلعناه ورفعناه فوقهم وأصل النتق الجذب. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة وهي كل ما أظلك. وَظَنُّوا وتيقنوا. أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم لأن الجبل لا يثبت في الجو ولأنهم كانوا يوعدون به، وإنما أطلق الظن لأنه لم يقع متعلقه وذلك أنهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة لثقلها فرفع الله الطور فوقهم.
وقيل لهم إن قبلتم ما فيها وإلا ليقعن عليكم. خُذُوا على إضمار القول أي وقلنا خذوا أو قائلين خذوا.
ما آتَيْناكُمْ من الكتاب. بِقُوَّةٍ بجد وعزم على تحمل مشاقه، وهو حال من الواو. وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ بالعمل به ولا تتركوه كالمنسي. لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي أخرج من أصلابهم نسلهم على ما يتوالدون قرناً بعد قرن، ومِنْ ظُهُورِهِمْ بدل مِنْ بَنِي آدَمَ بدل البعض. وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر ويعقوب «ذرياتهم». وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أي ونصب لهم دلائل ربوبيته وركب في عقولهم ما يدعوهم إلى الاقرار بها حتى صاروا بمنزلة من قيل لهم: أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قالُوا بَلى فنزل تمكينهم من العلم بها وتمكنهم منه بمنزلة الإشهاد والاعتراف على طريقة التمثيل ويدل عليه قوله: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ أي كراهة أن تقولوا. إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبه عليه بدليل.
أَوْ تَقُولُوا عطف على أَنْ تَقُولُوا، وقرأ أبو عمرو كليهما بالياء لأن أول الكلام على الغيبة. إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم لأن التقليد عند قيام الدليل والتمكن من العلم به لا يصلح عذراً. أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. وقيل لما خلق الله آدم أخرج من ظهره ذرية كالذر وأحياهم وجعل لهم العقل والنطق وألهمهم ذلك لحديث رواه عمر رضي الله تعالى عنه، وقد حققت الكلام فيه في شرحي لكتاب «المصابيح»، والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا الزام
اليهود بمقتضى الميثاق العام بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية ومنعهم عن التقليد وحملهم على النظر والاستدلال كما قال:
وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي عن التقليد واتباع الباطل.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٥]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ أي على اليهود. نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا هو أحد علماء بني إسرائيل، أو أمية بن أبي الصلت فإنه كان قد قرأ الكتب وعلم أن الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الزمان، ورجا أن يكون هو فلما بعث محمد عليه السلام حسده وكفر به، أو بلعم بن باعوراء من الكنعانيين أوتي علم بعض كتب الله، فَانْسَلَخَ مِنْها من الآيات بأن كفر بها وأعرض عنها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ حتى لحقه وقيل استتبعه. فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ فصار من الضالين.
روي أن قومه سألوه أن يدعو على موسى ومن معه فقال: كيف أدعو على من معه الملائكة، فألحوا حتى دعا عليهم فبقوا في التيه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٦ الى ١٧٧]
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧)
وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار من العلماء. بِها بسبب تلك الآيات وملازمتها. وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا أو إلى السفالة. وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه وأعرض عن مقتضى الآيات، وإنما علق رفعه بمشيئة الله تعالى ثم استدرك عنه بفعل العبد، تنبيهاً على أن المشيئة سبب لفعله الموجب لرفعه وأن عدمه دليل عدمها دلالة انتفاء المسبب على انتفاء سببه، وأن السبب الحقيقي هو المشيئة وأن ما نشاهده من الأسباب وسائط معتبرة في حصول المسبب من حيث أن المشيئة تعلقت به كذلك، وكان من حقه أن يقول ولكنه أعرض عنها فأوقع موقعه أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ، مبالغة وتنبيهاً على ما حمله عليه وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. فَمَثَلُهُ فصفته التي هي مثل في الخسة. كَمَثَلِ الْكَلْبِ كصفته في أخس أحواله وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي يلهث دائماً سواء حمل عليه بالزجر والطرد أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده. واللهث إدلاع اللسان من التنفس الشديد والشرطية في موضع الحال والمعنى: لاهثاً في الحالتين، والتمثيل واقع موقع لازم التركيب الذي هو نفي الرفع ووضع المنزلة للمبالغة والبيان. وقيل لما دعا على موسى صلّى الله عليه وسلّم خرج لسانه فوقع على صدره وجعل يلهث كالكلب. ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ القصة المذكورة على اليهود فإنها نحو قصصهم. لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكراً يؤدي بهم إلى الاتعاظ.
ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي مثل القوم، وقرئ سَاء مَثَل القوم على حذف المخصوص بالذم. الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد قيام الحجة عليهم وعلمهم بها. وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إما أن يكون داخلاً في الصلة معطوفاً على كذبوا بمعنى: الذين جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعاً عنها بمعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم فإن وباله لا يتخطاها، ولذلك قدم المفعول.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٨ الى ١٧٩]
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ تصريح بأن الهدى والضلال من الله، وأن هداية الله تختص ببعض دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء والإِفراد في الأول والجمع في الثاني باعتبار اللفظ، والمعنى تنبيه على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم بخلاف الضالين، والاقتصار في الإِخبار عمن هداه الله بالمهتدي تعظيم لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه في نفسه كمال جسيم ونفع عظيم لو لم يحصل له غيره لكفاه وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها.
وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا. لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ يعني المصرين على الكفر في علمه تعالى.
لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِها إذ لا يلقونها إلى معرفة الحق والنظر في دلائله. وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِها أي لا ينظرون إلى مَا خَلَقَ الله نظر اعتبار. وَلَهُمْ آذانٌ لاَ يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ سماع تأمل وتذكر.
أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه والإِبصار للاعتبار والاستماع للتدبر، أو في أن مشاعرهم وقواهم متوجهة إلى أسباب التعيش مقصورة عليها. بَلْ هُمْ أَضَلُّ فإنها تدرك ما يمكن لها أن تدرك من المنافع والمضار، وتجتهد في جلبها ودفعها غاية جهدها، وهم ليسوا كذلك بل أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار. أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٠ الى ١٨١]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠) وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأنها دالة على معان هي أحسن المعاني، والمراد بها الألفاظ وقيل الصفات.
فَادْعُوهُ بِها فسموه بتلك الأسماء. وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ واتركوا تسمية الزائغين فيها الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنى فاسداً كقولهم يا أبا المكارم يا أبيض الوجه، أو لا تبالوا بإنكارهم ما سمى به نفسه كقولهم: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام واشتقاق أسمائها منها كاللات من «الله»، والعزى من «العزيز» ولا توافقوهم عليه أو أعرضوا عنهم فإن الله مجازيهم كما قال: سَيُجْزَوْنَ مَا كانُوا يَعْمَلُونَ وقرأ حمزة هنا وفي «فصلت» يُلْحِدُونَ بالفتح يقال:
لحد وألحد إذا مال عن القصد.
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ذكر ذلك بعد ما بين أنه خلق للنار طائفة ضالين ملحدين عن الحق للدلالة على أنه خلق أيضاً للجنة أمة هادين بالحق عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإِجماع لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة
لقوله عليه الصلاة والسلام «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله»
، إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن فائدة فإنه معلوم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٤]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سنستدنيهم إلى الهلاك قليلاً قليلاً، وأصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. مِنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ما نريد بهم وذلك أن تتواتر عليهم النعم فيظنوا أنها لطف من الله تعالى بهم، فيزدادوا بطراً وانهماكاً في الغي حتى يحق عليهم كلمة العذاب.
وَأُمْلِي لَهُمْ وأمهلهم عطف على سَنَسْتَدْرِجُهُمْ. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إن أخذي شديد، وإنما سماه كيدا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم. مِنْ جِنَّةٍ من جنون.
روي: أنه صلّى الله عليه وسلّم صعد على
الصفا فدعاهم فخذاً فخذاً يحذرهم بأس الله تعالى فقال قائلهم: إن صاحبكم لمجنون بات يهوت إلى الصباح، فنزلت.
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضح انذاره بحيث لا يخفى على ناظر.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٥ الى ١٨٦]
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال. فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ مما يقع عليه اسم الشيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها ليدلهم على كمال قدرة صانعها، ووحدة مبدعها وعظم شأن مالكها، ومتولي أمرها ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه. وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على ملكوت وأن مصدرية أو مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن وكذا اسم يكون والمعنى: أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم وتوقع حلولها فيسارعوا إلى طلب الحق والتوجه إلى ما ينجيهم، قبل مغافصة الموت ونزول العذاب. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي بعد القرآن. يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان كأنه إخبار عنهم بالطبع والتصميم على الكفر بعد إلزام الحجة والارشاد إلى النظر. وقيل هو متعلق بقوله: عسى أن يكون، كأنه قيل لعل أجلهم قد اقترب فما بالهم لا يبادرون الإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه فإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به.
وقوله: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ كالتقرير والتعليل له. وَنَذَرُهُمْ فِى طُغْيَانِهِمْ بالرفع على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء لقوله مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ، وحمزة والكسائي به وبالجزم عطفاً على محل فَلا هادِيَ لَهُ، كأنه قيل: لا يهده أحد غيره وَيَذَرُهُمْ. يَعْمَهُونَ حال من هم.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (١٨٧)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي عن القيامة، وهي من الأسماء الغالبة وإطلاقها عليها إما لوقوعها بغتة أو لسرعة حسابها، أو لأنها على طولها عند الله كساعة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرسَاؤهَا أي إثباتها واستقرارها ورسو الشيء ثباته واستقراره، ومنه رسا الجبل وأرسى السفينة، واشتقاق أَيَّانَ من أي لأن معناه أي وقت، وهو من أويت إليه لأن البعض أو إلى الكل. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر به لم يطلع عليه ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلا. لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها لا يظهر أمرها في وقتها. إِلَّا هُوَ والمعنى أن الخفاء بها مستمر على غيره إلى وقت وقوعها، واللام للتأقيت كاللام في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ. ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. لاَ تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً إلا فجأة على غفلة، كما
قال عليه الصلاة والسلام: «إن الساعة تهيج بالناس والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته والرجل يقوم سلعته في سوقه والرجل يخفض ميزانه ويرفعه».
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها عالم بها، فعيل من حفى عن الشيء إذا سأل عنه، فإن من بالغ في السؤال عن الشيء والبحث عنه استحكم علمه فيه، ولذلك عدي بعن. وقيل هي صلة يَسْئَلُونَكَ. وقيل هو من الحفاوة بمعنى الشفقة فإن قريشاً قالوا له: إن بيننا وبينك قرابة فقل لنا متى الساعة، والمعنى يسألونك عنها كأنك حفي تتحفى بهم فتخصهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها. وقيل معناه كأنك حفي بالسؤال عنها تحبه، من حفى بالشيء إذا فرح أي تكثره لأنه من الغيب الذي استأثر الله بعلمه. قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرره لتكرير يسألونك لما نيط به من هذه الزيادة وللمبالغة. وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ أن عِلْمُهَا عِندَ الله لم يؤته أحداً من خلقه.

[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]

قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ مَا شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قُلْ لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا جلب نفع ولا دفع ضر، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب. إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ من ذلك فيلهمني إياه ويوفقني له، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ
ولو كنت أعلمه لخالفت حالي ما هي عليه من استكثار المنافع واجتناب المضار حتى لا يمسني سوء. إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ما أنا إلا عبد مرسل للإنذار والبشارة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهما، ويجوز أن يكون متعلقاً بال بَشِيرٌ ومتعلق ال نَذِيرٌ محذوف.
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٩]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم. وَجَعَلَ مِنْها من جسدها من ضلع من أضلاعها، أو من جنسها كقوله: جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً. زَوْجَها حواء. لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليستأنس بها ويطمئن إليها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه، وإنما ذكر الضمير ذهاباً إلى المعنى ليناسب. فَلَمَّا تَغَشَّاها أي جامعها.
حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خف عليها ولم تلق منه ما تلقى منه الحوامل غالباً من الأذى، أو محمولاً خفيفاً وهو النطفة. فَمَرَّتْ بِهِ فاستمرت به أي قامت وقعدت، وقرئ «فمرت» بالتخفيف و «فاستمرت به» و «فمارت» من المور وهو المجيء والذهاب، أو من المرية أي فظنت الحمل وارتابت منه. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. وقرئ على البناء للمفعول أي أثقلها حملها. دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً ولداً سوياً قد صلح بدنه. لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجددة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٠ الى ١٩١]
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١)
فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما فسموه عبد العزى وعبد مناف على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه، ويدل عليه قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ.
أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ يعني الأصنام. وقيل: لما حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب وما يدريك من أين يخرج، فخافت من ذلك وذكرته لآدم فهما منه ثم عاد إليها وقال: إني من الله بمنزلة فإن دعوت الله أن يجعله خلقاً مثلك ويسهل عليك خروجه تسميه عبد الحرث، وكان اسمه حارثاً بين الملائكة فتقبلت، فلما ولدت سمياه عبد الحرث.
وأمثال ذلك لا تليق بالأنبياء ويحتمل أن يكون الخطاب في خَلَقَكُمْ لآل قصي من قريش، فإنهم خلقوا من نفس قصي وكان له زوج من جنسه عربية قرشية وطلبا من الله الولد فأعطاهما أربعة بنين فسمياهم: عبد مناف، وعبد شمس، وعبد قصي، وعبد الدار. ويكون الضمير في يُشْرِكُونَ لهما ولأعقابهما المقتدين بهما. وقرأ نافع وأبو بكر «شركاً» أي شركة بأن أشركا فيه غيره أو ذوي شرك وهم الشركاء، وهم ضمير الأصنام جيء به على تسميتهم إياها آلهة.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٢ الى ١٩٣]
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣)
وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي لعبدتهم. وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ أي المشركين. إِلَى الْهُدى إلى الإسلام. لاَ يَتَّبِعُوكُمْ وقرأ نافع بالتخفيف وفتح الباء، وقيل الخطاب للمشركين وهم ضمير الأصنام أي: إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتبعوكم إلى مرادكم ولا يجيبوكم كما يجيبكم الله. سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ وإنما لم يقل أم صمتم للمبالغة في عدم إفادة الدعاء من حيث إنه مسوى بالثبات على الصمات، أو لأنهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم فكأنه قيل:
سواء عليكم إحداثكم دعاءهم واستمراركم على الصمات عن دعائهم.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٤ الى ١٩٥]
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تعبدونهم وتسمونهم آلهة. عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث إنها مملوكة مسخرة. فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنهم آلهة، ويحتمل أنهم لما نحتوها بصور الأناسي قال لهم: إن قصارى أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم فلا يستحقون عبادتكم كما لا يستحق بعضكم عبادة بعض، ثم عاد عليه بالنقض فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها وقرئ «إِنَّ الذين» بتخفيف «أَن» ونصب «عِبَادِ» على أنها نافية عملت عمل ما الحجازية ولم يثبت مثله، و «يَبْطِشُونَ» بالضم ها هنا وفي «القصص» و «الدخان». قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ واستعينوا بهم في عداوتي. ثُمَّ كِيدُونِ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكر، وهي أنتم وشركاؤكم. فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلون فإني لا أبالي بكم لوثوقي على ولاية الله تعالى وحفظه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٦ الى ١٩٨]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (١٩٨)
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن. وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه.
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ من تمام التعليل لعدم مبالاته بهم.
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لاَ يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ يشبهون الناظرين إليك لأنهم صوروا بصورة من ينظر إلى من يواجهه.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
خُذِ الْعَفْوَ أي خذ مَا عفا لك من أفعال الناس وتسهل ولا تطلب ما يشق عليهم، من العفو الذي هو ضد الجهد أو خُذِ الْعَفْوَ عن المذنبين أو الفضل وما يسهل من صدقاتهم، وذلك قبل وجوب الزكاة.
وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ المعروف المستحسن من الأفعال. وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تمارهم ولا تكافئهم بمثل
أفعالهم، وهذه الآية جامعة لمكارم الأخلاق آمرة للرسول باستجماعها.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ينخسنك منه نخس أي وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب وفكر، والنزغ والنسغ والنخس الغرز شبه وسوسته للناس إغراء لهم على المعاصي وإزعاجاً بغرز السائق ما يسوقه. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ يسمع استعاذتك. عَلِيمٌ يعلم ما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سَمِيعٌ بأقوال من آذاك عَلِيمٌ بأفعاله فيجازيه عليها مغنياً إياك عن الانتقام ومشايعة الشيطان.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ لمة منه، وهو اسم فاعل من طاف يطوف كأنها طافت بهم ودارت حولهم فلم تقدر أن تؤثر فيهم، أو من طاف به الخيال يطيف طيفاً. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ويعقوب «طيف» على أنه مصدر أو تخفيف طيف كلين وهين، والمراد بالشيطان الجنس ولذلك جمع ضميره. تَذَكَّرُوا مَا أَمَرَ الله بِهِ ونهى عنه. فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بسبب التذكر مواقع الخطأ ومكايد الشيطان فيتحرزون عنها ولا يتبعونه فيها، والآية تأكيد وتقرير لما قبلها وكذا قوله:
وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ أي وإخوان الشياطين الذين لم يتقوا بمدهم الشياطين. فِي الغَيِّ بالتزيين والحمل عليه، وقرئ «يمدونهم» من أمد و «يمادونهم» كأنهم يعينونهم بالتسهيل والإغراء وهؤلاء يعينونهم بالاتباع والامتثال. ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ثم لا يمسكون عن اغوائهم حتى يردوهم، ويجوز أن يكون الضمير للإخوان أي لا يكفون عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، ويجوز أن يراد بال «الإخوان» الشياطين ويرجع الضمير إلى الْجاهِلِينَ فيكون الخبر جارياً على ما هو له.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٣ الى ٢٠٤]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣) وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن أو مما اقترحوه. قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها هلا جمعتها تقولاً من نفسك كسائر ما تقرؤه أو هلا طلبتها من الله. قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ مَا يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لست بمختلق للآيات أو لست بمقترح لها. هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ هذا القرآن بصائر للقلوب بها يبصر الحق ويدرك الصواب. وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ سبق تفسيره.
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ نزلت في الصلاة كانوا يتكلمون فيها فأمروا باستماع قراءة الإِمام والإِنصات له. وظاهر اللفظ يقتضي وجوبهما حيث يقرأ القرآن مطلقاً، وعامة العلماء على استحبابهما خارج الصلاة. واحتج به من لا يرى وجوب القراءة على المأموم وهو ضعيف.
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٥ الى ٢٠٦]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عام في الأذكار من القراءة والدعاء وغيرهما، أو أمر للمأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام عن قراءته كما هو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه. تَضَرُّعاً وَخِيفَةً متضرعاً وخائفاً.
وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ ومتكلماً كلاماً فوق السر ودون الجهر فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص. بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ بأوقات الغدو والعشيات. وقرئ «والايصال» وهو مصدر آصل إذا دخل في الأصيل وهو مطابق
47
للغدو. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني ملائكة الملأ الأعلى. لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وينزهونه. وَلَهُ يَسْجُدُونَ ويخصونه بالعبادة والتذلل لا يشركون به غيره، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين ولذلك شرع السجود لقراءته.
وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فعصيت فلي النار»
وعنه صلّى الله عليه وسلّم «من قرأ سورة الأعراف جعل الله يوم القيامة بينه وبين إبليس ستراً وكان آدم شفيعاً له يوم القيامة».
48
Icon