تفسير سورة سورة الجن من كتاب التيسير في أحاديث التفسير
.
لمؤلفه
المكي الناصري
.
المتوفي سنة 1415 هـ
سورة " الجن " مكية
تستغرق سورة " الجن " المكية أكبر جزء من هذا الربع، وإنما سميت باسم سورة " الجن " لما ورد فيها من الإخبار باستماع نفر من الجن إلى كتاب الله، وما كان له من وقع عظيم في نفوسهم، وتأثير قوي على مشاعرهم.
وهذه السورة الكريمة توضح عدة حقائق كانت قبل نزول القرآن مجهولة عند العرب وغيرهم من الأمم.
- الحقيقة الأولى : أن عالم الجن يشابه عالم الإنس في الاستعداد للخير والشر، وأنه يمكن أن يختار الهدى فيكون من المهتدين، وأن يختار الضلال فيكون من الضالين، اللهم إلا إبليس اللعين الذي طرده الله من رحمته، فأقسم على أن يغوي الناس أجمعين، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى هنا في سورة " الجن " :﴿ وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك... ١١ ﴾، ﴿ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون... ١٤ ﴾.
- الحقيقة الثانية : أن عالم الجن لا سلطة له على عالم الإنس، وأن مخاوف الناس من الجن ترجع إلى أسباب وهمية أكثر مما ترجع إلى حقيقة واقعية، وهذا رد على مشركي قريش ومن لف لفهم من العرب وغير العرب، الذين كانوا يعتقدون أن للجن سلطانا على الأرض، وأن لهم قدرة على النفع والضر، حتى كان الواحد منهم إذا نزل بواد أو قفر استعاذ " بعظيم الجن " الذي يعتقد أنه حاكم في تلك الأرض قائلا : " أعود بسيد هذا الوادي من سفهاء قومه "، بينما الجن لا ينفعون الإنس حين يلوذون بهم، بل يزيدون في إرهاقهم ما داموا يعوذون بهم ولا يستعيذون بالله، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى هنا في سورة " الجن " :﴿ وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادهم رهقا٦ ﴾.
- الحقيقة الثالثة : أن عالم الجن لا يعرف من " علم الغيب " شيئا، وأن علم الغيب مقصور على الله تعالى وحده، وهذا إبطال لما كان شائعا في الجاهلية، ولا يزال شائعا حتى اليوم في أوساط الجهّال، من أن الجن تطّلع على الغيب وتخبر به الكهان والعرافين، فذلك إنما هو محض ادعاء وافتراء على الله، ولا سيما بعد نزول كتاب الله، حيث لم يعد " استراق السمع " ممكنا، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى هنا في سورة " الجن " :﴿ وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا٨ وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا٩ وإنا لا ندري أشرّ أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا١٠ ﴾، وبذلك أبطل كتاب الله الكهانة والعرافة من الأساس، وأعلن تحرير العقل البشري من هذا الوسواس.
- الحقيقة الرابعة : أن عالم الجن الذي وجد بين الناس من يعبده من دون الله، ووجد بين مشركي العرب من ينسب إلى الله سبحانه أنه اتخذ من بين أفراده زوجة هي التي تلد له الملائكة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، هو نفسه يكذّب هذا الإدعاء، ويسفه هذا الاعتقاد، منكرا على من يعبدون الجن عبادتهم، ومنكرا على من ينسبون الزوجة والولد إلى الله نسبتهم، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى هنا في سورة " الجن " :﴿ ولن نشرك بربنا أحدا وإنه تعالى جدّ ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ﴾.
- الحقيقة الخامسة : أن عالم الجن يعترف بعجزه وقصوره وضعف حيلته أمام قدرة الله، وبذلك يبين لمن يستعين بهم من الإنس، ولمن يجعل بينهم وبين الله نسبا مثل مشركي قريش، أن القوة الوحيدة والغالبة والمتصرفة في الكون هي قوة الله وحده دون سواه، باعتراف الجن أنفسهم، فالكل مقهور لقدرته، ولا يستطيع الفرار من قبضته، وإلى هذه الحقيقة يشير قوله تعالى هنا في سورة " الجن " :﴿ وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ﴾.
وبعدما بيّنا الحقائق التي تحتوي عليها سورة " الجن " المكية فلنتناول الآيات الكريمة الواردة في هذا السياق على التتابع.
ﰡ
فقوله تعالى :﴿ قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن ﴾، إشارة إلى إخبار الله لرسوله بأن طائفة من الجن –والطائفة ما بين الثلاثة والتسعة- وهذا هو " النفر " - قد استمعت إليه وهو يرتل كتاب الله أثناء صلاته بالمسلمين. وقد أكد ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم بنفسه أبدا، وإنما أخبره الله باستماعهم إلى تلاوته لا غير، قال شيخ الإسلام المصلح الكبير المرحوم السيد محمد الخضر حسين في تعليقه على " موافقات الشاطبي " : " مضى صدر الإسلام، وليس من مدع رؤية الجن، أو التلقي عنهم، أو التزوج بهم، أو استحقاقهم لأن يتقرب إليهم بالذبائح والأطعمة، حتى قام من يزعم ذلك كله، واتسع خرق هذه الضلالة، فكانت إحدى العلل التي فتكت بعقول كثيرة. وألقت بها في تخيلات سخيفة، ومزاعم يتبرأ منها الشرع الحكيم، قبل أن يتهكم بها النظر الصحيح ".
وقوله تعالى :﴿ فقالوا إنا سمعنا قرآناعجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به ﴾، حكاية لوقع القرآن الكريم في نفوس هذا النفر من الجن، وأنهم وجدوه " عجبا "، أي : على غير المألوف والمعهود في كلام الخلق، لأنه تحيطه هالة من الهيبة والجلال، وتنبعث منه أشعة نورانية تخترق جميع الحجب، بوصفه " كلام الله "، وأنهم وجدوه " يهدي إلى الرشد "، أي : يفتح الأبصار، وينير البصائر، ويوجه نحو الطريق السوي في السلوك والمعاملة والتصرف، وأنهم بعدما تأثروا بأسلوبه وروحه ومحتواه لم يسعهم إلا الإيمان به دون تردد :﴿ فأمنا به ولن نشرك بربنا أحدا ﴾.
وقوله جل علاه :﴿ وإنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا ﴾، تنزيه لله تعالى واعتراف بعظمته، وتقدير له حق قدره، " فالجد " هنا بمعنى القدر والمقام، وهذه الآية تكذيب من مؤمني الجن لمشركي قريش فيما كانوا يعتقدونه من تناسل الملائكة عن الجن، ونسبة الصاحبة والولد، إلى الواحد الأحد، الذي لم يلد ولم يولد.
وقوله تعالى :﴿ وإنه كان يقول سفيهنا على الله شططا ﴾، استنكار من مؤمني الجن لما يقوله سفهاء الجن وكفارهم من الافتراء على الله، نظير ما يقوله سفهاء الإنس وكفارهم.
وقوله تعالى :﴿ وإنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا ﴾، أي : ما حسبنا أن الإنس والجن يتمالئون على الكذب والبهتان، فينسبون لله ما يستحيل في حقه من الزوجات والولدان.
وقوله تعالى :﴿ وإنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادهم رهقا ﴾، أي : إن الجن لما رأت أن الإنس يعوذون بهم لخوف الإنس منهم زادوهم تخويفا وإرهابا، وازدادت الجن بذلك جرأة على الإنس.
وقوله تعالى :﴿ وإنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا ﴾، أي : إن أولئك الرجال من الإنس الذين كانوا يعوذون برجال من الجن ظنوا كما يظن كفار الجن أن الله لن يبعث رسولا عقب " الفترة " التي مرت منذ بعثة عيسى عليه السلام، لكن ها هو الرسول قد بعثه الله، وها هو الكتاب قد أنزله الله.
وقوله تعالى :﴿ وإنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا وشهبا وإنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا ﴾، يفيد أن الجن كانوا خلال " عقد الفترة " بين رسالة عيسى عليه السلام ورسالة خاتم الأنبياء والمرسلين يحاولون الاتصال بالملأ الأعلى لاستراق السمع، لكن هذه المحاولة لم يبق لها مكان ولا إمكان، منذ بعث الله رسوله محمدا عليه السلام، وأنزل القرآن، فالطريق إلى الملأ الأعلى محروس بحرس شديد من عند الله، ويحيط به خط من الشهب الموجهة للحيلولة دون التطاول على أسرار علم الله.
وقوله تعالى :﴿ وإنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا ﴾، اعتراف من مؤمني الجن بأنهم لا يعلمون الغيب، وأنهم تبعا لذلك لا يعرفون حكمة الله فيما أحاط به مكنون السماء، من الحرس الشديد، والشهب الثاقبة.
ومن اللطائف هنا ما في التعبير المحكي عنهم من الأدب مع الله، فقد أسندوا " الشر " إلى المجهول، ولم يبينوا فاعله :﴿ لا ندري أشر أريد بمن في الأرض ﴾، بينما أسندوا " الخير " مباشرة إلى الله تعالى :﴿ أم أراد بهم ربهم رشدا ﴾.
وقوله تعالى :﴿ وإنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا ﴾، تقرير لأن عالم الجن يشبه عالم الإنس، بما فيه من الاستعداد للالتحاق بركب الصالحين أو بغير الصالحين، فهم أيضا مختلفون في الاتجاه والعمل، منهم الكافر ومنهم المؤمن.
وقوله تعالى :﴿ وإنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض ولن نعجزه هربا ﴾، إشارة إلى إيمانهم بأن قدرة الله حاكمة عليهم، وأنهم حتى لو حاولوا الهروب منها لما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.
وقوله تعالى :﴿ وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا ولا رهقا ﴾، إعراب عن إيمانهم بكتاب الله بعد سماعه، وعن اهتدائهم بهديه، وعن ثقتهم بوعد الله الذي لا يظلم أحدا من عباده مثقال ذرة.
وقوله تعالى :﴿ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا١٥ ﴾، تأكيدا لأنه يوجد بين الجن مؤمنون وكافرون. ومن اللطائف هنا التعبير عن " الكافر " بلفظ " قاسط " أي : ظالم، لأن الكفر يجامع الظلم ويماشيه، بينما وقع التعبير عما يقابل " القاسط " أي الظالم بكلمة " مسلم "، كأن لفظ " مسلم " مرادف للفظ " عادل "، وذلك إشارة إلى أن المسلم متى كان مسلما حقا لا يكون إلا ملتزما للعدل مطبوعا على الإحسان، عدوا للظلم والظالمين.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٤:وقوله تعالى :﴿ وإنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا١٥ ﴾، تأكيدا لأنه يوجد بين الجن مؤمنون وكافرون. ومن اللطائف هنا التعبير عن " الكافر " بلفظ " قاسط " أي : ظالم، لأن الكفر يجامع الظلم ويماشيه، بينما وقع التعبير عما يقابل " القاسط " أي الظالم بكلمة " مسلم "، كأن لفظ " مسلم " مرادف للفظ " عادل "، وذلك إشارة إلى أن المسلم متى كان مسلما حقا لا يكون إلا ملتزما للعدل مطبوعا على الإحسان، عدوا للظلم والظالمين.
وانتقلت الآيات الكريمة إلى الحديث عن الاستقامة وما يترتب عليها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا١٦ ﴾، وإلى الحديث عن حرمة المساجد وقداستها ورسالتها في الإسلام :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا١٨ ﴾، وإلى الحديث عما يتحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وتكتلهم ضد الدين الحنيف :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا١٩ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:وانتقلت الآيات الكريمة إلى الحديث عن الاستقامة وما يترتب عليها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا١٦ ﴾، وإلى الحديث عن حرمة المساجد وقداستها ورسالتها في الإسلام :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا١٨ ﴾، وإلى الحديث عما يتحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وتكتلهم ضد الدين الحنيف :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا١٩ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ١٦:وانتقلت الآيات الكريمة إلى الحديث عن الاستقامة وما يترتب عليها من الآثار الطيبة في الدنيا والآخرة :﴿ وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقا١٦ ﴾، وإلى الحديث عن حرمة المساجد وقداستها ورسالتها في الإسلام :﴿ وأن المساجد لله فلا تدعو مع الله أحدا١٨ ﴾، وإلى الحديث عما يتحمله رسول الله صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين وتكتلهم ضد الدين الحنيف :﴿ وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا١٩ ﴾.
واتجه الخطاب الإلهي إلى خاتم النبيين والمرسلين، ملقنا إياه ما يرد به هجمات المشركين، وما يبطل ادّعاءاتهم، ويوقف اعتداءاتهم، مشيرا إلى ما يحرس به رسوله من الحفظة الكرام، حتى يبلغ رسالة ربه في حفظ الله ورعايته :﴿ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا٢٨ ﴾.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٢٧:واتجه الخطاب الإلهي إلى خاتم النبيين والمرسلين، ملقنا إياه ما يرد به هجمات المشركين، وما يبطل ادّعاءاتهم، ويوقف اعتداءاتهم، مشيرا إلى ما يحرس به رسوله من الحفظة الكرام، حتى يبلغ رسالة ربه في حفظ الله ورعايته :﴿ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا٢٨ ﴾.