تفسير سورة الأنفال

تفسير القاسمي
تفسير سورة سورة الأنفال من كتاب محاسن التأويل المعروف بـتفسير القاسمي .
لمؤلفه جمال الدين القاسمي . المتوفي سنة 1332 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الجزء الثامن
ويشتمل على تفسير سورتي : الأنفال والتوبة
سورة الأنفال ١
١ بدأت بمحاسن تأويل هذه السورة بعد عودتي من مصر بعد فجر الاثنين ٢٩ ذي القعدة سنة ١٣٢١(مؤلفه).

القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١)
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
روى البخاري «١» عن ابن عباس أن سورة الأنفال نزلت في بدر.
وروى الإمام أحمد «٢» عن عبادة بن الصامت قال: خرجنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فشهدت معه بدرا. فالتقى الناس، فهزم الله تعالى العدوّ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون: وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه. وأحدقت طائفة برسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا يصيب العدوّ منه غرة. حتى إذا كان الليل، وفاء الناس بعضهم إلى بعض، قال الذين جمعوا الغنائم: نحن حويناها وجمعناها، فليس لأحد فيها نصيب.
قال الذين خرجوا في طلب العدوّ: لستم بأحق به منا، نحن نفينا عنها العدو وهزمناهم. وقال الذين أحدقوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لستم بأحق بها منا. نحن أحدقنا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخفنا أن يصيب العدو منه غرة، واشتغلنا به- فنزلت:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ الآية- فقسمها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على فواق من المسلمين.
وهذا الحديث رواه الترمذي أيضا وحسنه، ورواه ابن حبان في صحيحه،
وصححه الحاكم.
ولفظ ابن إسحاق عن عبادة قال: فينا، أصحاب بدر، نزلت، حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلّم، فقسمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المسلمين على السواء.
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، باب قوله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ، حديث رقم ١٨٦٩.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٣٢٣.
252
وروى أبو داود «١» والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابن عباس قال: لما كان يوم بدر، قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: من صنع كذا وكذا فله من النّفل كذا وكذا. فتسارع في ذلك شبّان القوم، وبقي الشيوخ تحت الرايات. فلما كانت المغانم، جاءوا يطلبون الذي جعل لهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنا كنا ردءا لكم، لو انكشفتم لثبتم إلينا. فتنازعوا، فأنزل الله تعالى: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية-
وهذا مما يفيد أن التشاجر كان متنوعا، وأن الآية نزلت لفصله.
والأنفال: هي المغانم، جمع (نفل) محركة، وهو الغنيمة. أي كل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب. قال ابن تيمية: سميت بذلك، لأنها زيادة في أموال المسلمين. أي لأن النفل يطلق على الزيادة- كما في (التاج). ومنه النافلة لصلاة التطوع لزيادتها على الفريضة.
وقوله تعالى: قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ- قال المهايمي: أي ليست هي في مقابلة الجهاد، وإنما مقابله الأجر الأخرويّ، وهذه زائدة عليه، خرجت عن ملك المشركين فصارت ملكا خالصا لله ولرسوله. والرسول خليفة يعطيها، على ما أراه الله، من يشاء. ولما أطلق له صلّى الله عليه وسلّم الحكم فيها، قسمها بينهم بالسوية، ووهب من استوهبه.
فروى الإمام أحمد «٢» عن سعد بن أبي وقاص قال: لما كان يوم بدر قتل أخي عمير وقتلت سعيد بن العاص، وأخذت سيفه، وكان يسمى ذا الكتيفة، فأتيت به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: اذهب فاطرحه في القبض. قال، فرجعت، وبي ما لا يعلمه إلا الله، من قتل أخي، وأخذ سلبي. قال، فما جاوزت إلا يسيرا حتى نزلت سورة الأنفال. فقال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اذهب فخذ سلبك.
وروى الإمام أحمد «٣» والترمذي- وصححه- عن سعد بن مالك قال: قلت: يا رسول الله! قد شفاني الله اليوم من المشركين، فهب لي هذا السيف، فقال: إن هذا السيف لا لك ولا لي، ضعه. قال، فوضعته ثم رجعت، فقلت: عسى أن يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي. قال، إذا رجل يدعوني من ورائي. قال، قلت: قد أنزل الله فيّ شيئا. قال:
كنت سألتني السيف، وليس هو لي، وإنه قد وهب لي، فهو لك. قال، وأنزل الله هذه الآية يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ... الآية.
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٤٤- باب في النفل، حديث رقم ٢٧٣٧.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٨٠ والحديث رقم ١٥٥٦.
(٣) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ١٧٨ والحديث رقم ١٥٣٨.
253
تنبيهات
الأول- ذهب بعضهم إلى أن أنفال بدر قسمت من غير تخميس، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس، فنسخت الأولى.
قال ابن كثير: فيه نظر. ويرد عليه حديث عليّ بن أبي طالب في شارفيه اللذين حصلا له، من الخمس، يوم بدر. فالصواب أنها مجملة محكمة، بيّن مصارفها في آية الخمس.
الثاني- روي عن عطاء أنه فسر (الأنفال) بما شذّ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو أمة أو متاع. قال: فهو نفل للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يصنع به ما يشاء.
قال ابن كثير: وهذا يقتضي أنه فسر (الأنفال) بالفيء، وهو ما أخذ من الكفار من غير قتال.
قلت: صدق (النفل) عليه، لا شك فيه، وأما كونه المراد من الآية بخصوصه، فلا يساعده سبب نزولها المارّ ذكره، لا سيما قوله: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ المشير إلى التنازع المتقدم.
ثم قال ابن كثير: واختار ابن جرير أنها الزيادة على القسم، أي ما يدفع إلى الغازي زائدا على سهمه من المغنم، والكلام الذي قلته قبل، يجري هنا أيضا.
ونقل الرازي عن القاضي أن كل هذه الوجوه تحتمله الآية. قال: وليس فيها دليل على ترجيح بعضها على بعض، وإن صح في الأخبار ما يدل على التعين، قضى به. وإلا فالكل محتمل. وكما أن كل واحد منها جائز، فكذلك إرادة الجميع جائزة، فإنه لا تناقض بينها. أي لصدق (النّفل) عليها.
الثالث- وقع عند الزمخشري أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر، لمن الحكم فيها اللمهاجرين أم للأنصار، أم لهم جميعا؟ فأجيبوا بأن الحاكم فيها الرسول، وليس لأحد فيها حكم. وتأثر الزمخشري أبو السعود في سوقه لما ذكر، وزاد عليه اعتماده له، بتطويل مملّ. ولا أدري من أين سرت لهم هذه الرواية. فإن رواة الآثار لم يخرجوها في صحاحهم ولا سننهم، بل ولا أصحاب السير، كابن إسحاق وابن هشام. وهل يمكن للمسلمين أن يختلفوا للحكم على الغنائم، ويتنازعوا ولايتها، والرسول بين أظهرهم؟ ومتى عهد ذلك من سيرتهم؟ سبحانك
254
هذا بهتان عظيم! ولكن هو الرأي (قاتله الله!) ونبذ كتب السنة، والتقليد البحث، الذي لا يهتم صاحبه بحقائق الأشياء، ولا يريد معرفتها ولا فحصها بالعقل يضع قدمه على القدم، حيث يكون مطواعا لآراء غيره، منقادا لها مصدقا ما ينطق به فمه، غثّا كان أو سمينا. اللهم نوّر بصيرتنا بفضلك.
وقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ أي في الاختلاف والتخاصم، وكونوا متحدين متآخين في الله.
وقوله تعالى: وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ أي أحوال بينكم، يعني ما بينكم من الأحوال، حق تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق.
وقوله تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في قسمه بينكم، على ما أراه الله تعالى. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلق بالأوامر الثلاثة.
قال الزمخشري: جعل التقوى، وإصلاح ذات البين، وطاعة الله ورسوله، من لوازم الإيمان وموجباته، ليعلمهم أن كمال الإيمان موقوف على التوفر عليها: فمعنى قوله: إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي كاملي الإيمان.
ثم بيّن تعالى من أريد بال (مؤمنين) بذكر أوصافهم الجليلة، المستتبعة لما ذكر من الخصال الثلاث، ترغيبا لهم في الامتثال بالأوامر المذكورة، فقال سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢]
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي الكاملون المخلصون فيه الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ أي حقه أو وعيده وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ أي فزعت لذكره، واقشعرت إشفاقا ألا تكون قامت بحقه، وتهيبا من جلاله وعزة سلطانه، وبطشه بالعصاة وعقابه.
قال الجشمي: ومتى قيل: لم جاز وصفهم هاهنا بالوجل والطمأنينة في قوله الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ [الرعد: ٢٨]، فجوابنا فيه وجوه:
منها: أنه تطمئن قلوبهم عند ذكر نعمه، وتوجل لخوف عقابه بارتكاب معاصيه.
ومنها: أن قلوبهم تطمئن لمعرفة توحيده، ووعده، ووعيده، فعند ذلك توجل
لأوامره ونواهيه، خوف التقصير في الواجبات، والإقدام على المعاصي، والمستقبل يتغير حاله. انتهى.
وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ أي حججه وهي القرآن زادَتْهُمْ إِيماناً أي يقينا وطمأنينة نفس، إلى ما عندهم فإن تظاهر الأدلة أقوى للمدلول عليه، وأثبت لقدمه.
وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها، على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب، كما هو مذهب جمهور الأمة. بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد، كالشافعيّ وأحمد بن حنبل وأبي عبيد وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ أي لا يرجون سواه، ولا يخشون غيره، ولا يفوّضون أمورهم إلى غيره.
ولما ذكر تعالى، من أعمالهم الحسنة، أعمال القلوب من الخشية والإخلاص والتوكل، أعقبه بأعمال الجوارح من الصلاة والصدقة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣]
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣)
الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي المفروضة بحدودها وأركانها، في أوقاتها.
والموصول نعت للموصول الأول، أو بيان له، أو منصوب على المدح.
وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ عامّ في الزكاة، وأنواع البر والقربات.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤]
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)
أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا أي لا شك في إيمانهم. وحَقًّا صفة لمصدر محذوف، أي إيمانا حقّا أو مصدر مؤكد للجملة، أي حق ذلك حقّا، كقولك. هو عبد الله حقّا.
قال عمرة بن مرة (في هذه الآية) : إنما أنزل القرآن بلسان العرب، كقولك:
فلان سيّد حقّا، وفي القوم سادة. وفلان تاجر حقّا، وفي القوم تجار. وفلان شاعر حقّا، وفي القوم شعراء. انتهى.
وكأنه أراد الرد على من زعم أن (حقّا) من صلة قوله: لَهُمْ دَرَجاتٌ بعد، تأكيدا له، وأن الكلام تم عند قوله الْمُؤْمِنُونَ، فإن هذا الزعم يصان عنه أسلوب التنزيل الحكيم.
256
وقد تطرف بعض المفسرين هنا لمسألة شهيرة. وهي: هل يجوز أن يقال: أنا مؤمن حقا.
قال الطوسي في (نقد المحصل) : المعتزلة ومن تبعهم يقولون: اليقين لا يحتمل الشك والزوال. فقول القائل: (أنا مؤمن إن شاء الله) لا يصح إلا عند الشك، أو خوف الزوال. وما يوهم أحدهما لا يجوز أن يقال للتبرك. انتهى.
والغزاليّ في الإحياء، بسط هذه المسألة، وأجاب عمن سوّغ ذلك بأجوبة:
منها: التخوف من الخاتمة، لأن الإيمان موقوف على سلامة الخاتمة.
ومنها: الاحتراز من تزكية النفس.
ومنها: غير ذلك. انظره بطوله.
وقال ابن حزم في (الفصل) : القول عندنا في هذه المسألة أن هذه صفة يعلمها المرء من نفسه، فإن كان يدري أنه مصدّق بالله عز وجل، وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما أتى به، وأنه يقر بلسانه بكل ذلك، فواجب عليه أن يعترف بذلك، كما أمر تعالى في قوله: وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ [الضحى: ١١]. ولا نعمة أوكد ولا أفضل، ولا أولى بالشكر، من نعمة الإسلام. فواجب عليه أن يقول: أنا مؤمن مسلم قطعا عند الله تعالى، في وقتي هذا. ولا فرق بين قوله (أنا مؤمن مسلم) وبين قوله (أنا أسود أو أنا أبيض) وهكذا سائر صفاته التي لا يشك فيها. وليس هذا من باب الامتداح والعجب في شيء، لأنه فرض عليه أن يحقن دمه بشهادة التوحيد. وقول ابن مسعود: (أنا مؤمن إن شاء الله) عندنا صحيح، لأن الإسلام والإيمان اسمان منقولان عن موضوعهما في اللغة، إلى جميع البر والطاعات. فإنما منع ابن مسعود الجزم على معنى أنه مستوف لجميع الطاعات، وهذا صحيح. ومن ادعى لنفسه هذا فقد كذب بلا شك. وما منع أن يقول المرء (إنّي مؤمن) بمعنى (مصدق).
وأما قول المانعين: (من قال أنا مؤمن، فليقل إنه من أهل الجنة) فالجواب: إنا نقول إن متنا على ما نحن عليه الآن، فلا بد لنا من الجنة بلا شك. وبرهان ذلك أنه قد صح من نصوص القرآن والسنن والإجماع، أن من آمن بالله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، وبكل ما جاء به، ولم يأت بما هو كفر، فإنه في الجنة إلا أننا لا ندري ما يفعل بنا في الدنيا، ولا نأمن مكر الله تعالى، ولا إضلاله، ولا كيد الشيطان ولا ندري ماذا نكسب غدا، ونعوذ بالله من الخذلان. انتهى كلام ابن حزم رحمه الله، ولقد أجاد فيما أفاد.
257
وقوله تعالى: لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي منازل ومقامات عاليات في الجنة وَمَغْفِرَةٌ أي تجاوز لسيئاتهم وَرِزْقٌ كَرِيمٌ وهو ما أعدّ لهم من نعيم الجنة.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية على أشياء:
منها: أن الإيمان اسم شرعي لثلاث خصال: القول، والاعتقاد، والعمل.
خلاف ما تقوله المرجئة. لأن الوجل وزيادة التصديق من فعل القلب، والتدبر والتفكر كذلك، والصلاة والإنفاق من أعمال الجوارح، والتوكل يشتمل على فعل القلب والجوارح. ثم بين في آخره أن من جمع هذه الخصال فهو المؤمن حقا.
ومنها: أنها تدل على أن الإيمان يزيد وينقص، لأن هذه الطاعات تزيد وتنقص، وقد نص على ذلك في قوله زادَتْهُمْ إِيماناً.
ومنها: أن الواجب عند تلاوة القرآن التدبر والتفكر فيما أمر ونهى، ووعد وأوعد، لينجرّ للرغبة والرهبة. وذلك حثّ على الطاعة، وزجر عن المعاصي.
ومنها: وجوب التوكل عليه. والتوكل على ضربين: منها في الدنيا، ومنها في الدين. أما في الدنيا فلا بد من خصال:
منها: أن يطلب مصالح دنياه من الوجه الذي أتيح له، ولا يطلب محرما.
ومنها: إذا حرم الرزق الحلال لا يعدل إلى محرّم.
ومنها: ألا يظهر الجزع عند الضيق، بل يسلك فيه طريق الصبر، واعتقاد أن ما هو فيه مصلحة له.
ومنها: أن ما يرزق من النعم بعدها، من جهته تعالى. إما بنفسه أو بواسطة.
ومنها: ألا يحبسه عن حقوقه خشية الفقر.
ومنها: ألا يسرف في النفقة ولا يقتر.
فعند اجتماع هذه الخصال يصير متوكلا.
فأما الذي يزعمه بعضهم أن التوكل إهمال النفس، وترك العمل- فليس بشيء. وقد أمر الله تعالى بالإنفاق، وبالعمل. وثبت عن الصحابة- وهم سادات الإسلام- التجارة والزراعة والأعمال. وكذلك التابعين. وبهذا أجرى الله العادة. وقد أمر النبيّ «١» صلى الله عليه وسلّم الأعرابيّ أن يعقل ناقته ويتوكل.
(١) أخرجه الترمذي في: صفة القيامة والرقائق والورع، ٦٠- باب حدثنا عمرو بن عليّ.
258
فأما التوكل في الدين فخصال:
منها: أن يقوم بالواجبات، ويجتنب المحارم، لأنه بذلك يصل إلى الجنة والرحمة.
ومنها: أن يسأله التوفيق والعصمة.
ومنها: أن يرى جميع نعمه منه، إذ حصل بهدايته وتمكينه ولطفه.
ومنها: أن لا يثق بطاعته جملة، بل يطيع ويجتنب المعاصي، ويرجو رحمة ربه، ويخاف عذابه. فعند ذلك يكون متوكلا.
ثم قال الجشمي: وتدل الآية على أن تارك الصلاة والزكاة لا يكون مؤمنا، خلاف قول المرجئة. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥)
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ الكاف في (كما) كاف التشبيه، والعامل فيه يحتمل وجوها، فإما هو معنى الفعل الذي دل عليه قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ، تقديره نزع الأنفال من أيديهم بالحق، كما أخرجك بالحق. وإما هو معنى الحق، يعني هذا الذكر حق، كما أخرجك بالحق. وإما أنه خبر مبتدأ محذوف هو المشبه، أي حالهم هذه في كراهة تنفيل الغزاة، كحال إخراجك من بيتك للحرب في كراهتهم له (كما سيأتي في تفصيل القصة). وهذا هو قول الفرّاء، فإنه قال: الكاف شبهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته، بالقصة المتقدمة، التي هي سؤالهم عن الأنفال وكراهتهم لما وقع فيها، مع أنها أولى بحالهم.
وقوله تعالى: مِنْ بَيْتِكَ أراد به بالمدينة، أو المدينة نفسها، لأنها مثواه.
أي إخراجه إلى بدر. وزعم بعض أن المراد إخراجه صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة للهجرة.
وهو ساقط، برده سياق القصة البدرية في الآيات بعد. وملخصها أن أبا سفيان قدم بعير من الشام في تجارة عظيمة، فخرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه ليغنموها، فعلمت قريش. فخرج أبو جهل ومقاتلو مكة ليذبّوا عنها، وهم النفير. وأخذ أبو سفيان بالعير
طريق الساحل، فنجت. فقيل لأبي جهل: ارجع، فأبى وسار إلى بدر. فشاور صلّى الله عليه وسلّم أصحابه
وقال لهم: إن الله وعدني إحدى الطائفتين
، فوافقوه على قتال النفير، وكره بعضهم ذلك، وقالوا: لم نستعد له، كما قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦]
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦)
يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ وهو الجهاد وتلقي النفير بَعْدَ ما تَبَيَّنَ أي ظهر لهم أنهم ينصرون فيه كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ أي يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت، وهو ناظر إلى أسبابه، وكان ذلك لقلة عددهم، وعدم تأهبهم.
إذ روي أنهم كانوا ثلاثمائة وتسعة عشر رجلا، فيهم فارسان، المقداد والزبير. وقيل الأول فقط. والمشركون ألف، ذوو عدّة وعدّة وفيه تعريض بأنهم إنما يسار بهم إلى الظفر والغنيمة للوعد الحق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧]
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧)
وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ العير أو النفير أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أي تحبون أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وهو العير، لا ذات الشوكة، وهي النفير.
والشوكة: السلاح أو حدته وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ أي يثبته ويعليه، وهو دعوة رسوله بِكَلِماتِهِ أي بآياته المنزلة، وأوامره في هذا الشأن وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ أي يستأصلهم، فلا يبقى منهم أحدا.
ثم بيّن تعالى الحكمة في اختيار ذات الشوكة لهم ونصرتهم عليها، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٨]
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ أي ليثبت الدين الحق، ويمحق الدين الباطل، باستئصال أهله، مع ظهور شوكتهم وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ أي المشركون ذلك.
ثم ذكرهم تعالى التجاءهم إليه، واستمدادهم منه النصر يوم بدر، وإمداده حينئذ بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٩]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ أي تطلبون منه الغوث، وهو التخلص من الشدة، والعون بالنضر عليهم فَاسْتَجابَ لَكُمْ أي الدعاء أَنِّي مُمِدُّكُمْ أي معينكم بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ بكسر الدال، أي متتابعين، بعضهم على إثر بعض، أو مردفين غيرهم. وقرئ بفتحها على معنى أن الله أردف المسلمين بهم، أو مردفين بغيرهم، أي من ملائكة آخرين. وقرئ (بآلاف) بالجمع، كما يأتي.
روى مسلم «١» عن ابن عباس قال: حدثني عمر بن الخطاب قال: لما كان يوم بدر نظر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا فاستقبل نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مدّ يده فجعل يهتف بربه ويقول: اللهم أنجز لي ما وعدتني. اللهم آتني ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض. فما زال يهتف بربه مادّا يديه حتى سقط رداؤه عن منكبيه. فأتاه أبو بكر، فأخذ رداءه، فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه، وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه سينجز لك ما وعدك. فأنزل الله عز وجل إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ.
وروى البخاري «٢» عن ابن عباس أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال يوم بدر: هذا جبريل آخذ برأس فرسه، عليه أداة الحرب.
وروى البخاري «٣» عن معاذ بن رفاعة، عن رافع الزرقيّ، عن أبيه- وكان ممن شهد بدرا- قال: جاء جبريل إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال: ما تعدّون أهل بدر فيكم؟ قال:
من أفضل المسمين- أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة.
تنبيهات:
الأول- قال الجشمي: تدل الآية على أن الملك يجوز أن يتشبه بالآدمي، ولا يخرج من كونه ملكا، بأن يغير أطرافهم دون الأجزاء التي صاروا بها أحياء والذي ينكر أن يقدر أحد على تغيير الصور، بل نقول: إن الله هو الذي يقدر على ذلك.
انتهى.
(١) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ٥٨.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٥.
(٣) أخرجه البخاري في: المغازي، ١١- باب شهود الملائكة بدرا، حديث رقم ١٨٥٣.
261
الثاني- قال الزمخشري: وعن السدّي (بآلاف من الملائكة) - على الجمع- ليوافق ما في سورة آل عمران. فإن قلت: فيم يعتذر لمن قرأ على التوحيد، ولم يفسر (المردفين) بإرداف الملائكة ملائكة آخرين، و (المردفين) بارتدافهم غيرهم؟
قلت: بأن المراد بالألف، من قاتل منهم، أو الوجوه منهم، الذين من سواهم أتباع لهم. انتهى.
وقال شمس الدين ابن القيّم في (زاد المعاد) في بحث غزوة بدر:
فإن قيل: هاهنا ذكر أنه أمدهم بألف، وفي سورة آل عمران قال: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [آل عمران: ١٢٤- ١٢٥]، فكيف الجمع بينهما؟
قيل: اختلف في هذا الإمداد الذي بثلاثة آلاف، والذي بخمسة، على قولين:
أحدهما: أنه كان يوم (أحد). وكان إمدادا معلقا على شرط، فلما فات شرطه، فات الإمداد. وهذا قول الضحاك ومقاتل. وإحدى الروايتين عن عكرمة.
والثاني: أنه كان يوم بدر، وهذا قول ابن عباس ومجاهد وقتادة. والرواية الأخرى عن عكرمة واختاره جماعة من المفسرين. وحجة هؤلاء أن السياق يدل على ذلك.
فإنه سبحانه قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا، إلى أن قال: وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ [آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]. قال هؤلاء: فلما استغاثوا، أمدهم بألف، ثم أمدهم بتمام ثلاثة آلاف، ثم أمدهم بتمام خمسة آلاف، لما صبروا واتقوا. وكان هذا التدريج، ومتابعة الإمداد، أحسن موقعا، وأقوى لتقويتهم وأسرّ لها من أن يأتي مرة واحدة، وهو بمنزلة متابعة الوحي، ونزوله مرة بعد مرة.
وقالت الفرقة الأولى: القصة في سياق (أحد) وإنما أدخل ذكر (بدر) اعتراضا في أثنائها، فإنه سبحانه قال: وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما، وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ [آل عمران: ١٢١- ١٢٢]، ثم قال: وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ، فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ فذكره نعمه عليهم، لما نصرهم ببدر وهم أذلة، ثم عاد إلى قصة (أحد)، وأخبر عن قول رسوله لهم أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ
262
بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ
[آل عمران: ١٢٣- ١٢٦]، ثم وعدهم أنهم إن صبروا واتقوا أمدهم بخمسة آلاف. فهذا من قول رسوله، والإمداد الذي ببدر من قوله تعالى، وهذا بخمسة آلاف، وإمداد بدر بألف، وهذا معلق على شرط، وذلك مطلق. والقصة في سورة آل عمران، هي قصة (أحد) مستوفاة مطولة، و (بدر) ذكرت فيها اعتراضا.
والقصة في سورة الأنفال قصة (بدر) مستوفاة مطولة، فالسياق في آل عمران غير السياق في الأنفال. يوضح هذا أن قوله: وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا [آل عمران: ١٢٥]، قد قال مجاهد: هو يوم (أحد)، وهذا يستلزم أن يكون الإمداد المذكور فيه، فلا يصح قوله إن الإمداد بهذا العدد كان يوم بدر وإتيانهم من فورهم هذا يوم أحد، والله أعلم. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٠]
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠)
وَما جَعَلَهُ اللَّهُ أي هذا الإمداد إِلَّا بُشْرى أي بشارة لكم بالنصر وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ، وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي من غير أن يكون فيه شركة لغيره إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ قال بعض الحكماء: ذكر تعالى في هذه الآية حكمة إخبارهم بالنصر، وأنه يريد بشراهم وطمأنينتهم وتوكلهم عليه، وهو أدعى إلى قوة العزيمة.
فإن العامل إذا أيقن بأن معه قاهر الكون: رفعته تلك الفكرة، وجعلته أقوى الناس، وأقدرهم على صعاب الأمور، لا كما يظنه المنتكسون الجاهلون الكسالى اليائسون من روح الله، حيث جعلوا التوكل ذريعة إلى البطالة، فباءوا بغضب على غضب. انتهى.
ثم ذكّرهم سبحانه بنعم أخرى جعلها سببا لنصرهم، وللعناية بهم، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١١]
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ أي يلقي عليكم النوم للأمن الكائن منه تعالى،
مما حصل لكم من الخوف من كثرة عدوّكم. وقد كان أسهرهم الخوف، فألقى تعالى عليهم النوم فأمنوا واستراحوا. وكذلك فعل تعالى بهم يوم (أحد)، كما قال جل ذكره ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ [آل عمران: ١٥٤]، وقرئ يُغَشِّيكُمُ من الإغشاء، بمعنى التغشية والفاعل في الوجهين هو الله تعالى وقرئ (يغشاكم) على إسناد الفعل إلى النعاس.
وفي الصحيح «١»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما كان يوم (بدر) في العريش مع الصديق رضي الله عنه، وهما يدعوان، أخذت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سنة من النوم، ثم استيقظ متبسما، فقال: أبشر يا أبا بكر، هذا جبريل، على ثغاياه النقع. ثم خرج من باب العريش، وهو يتلوا سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٥].
ثم ذكّرهم تعالى منة أخرى تدل على نصره إياهم بقوله سبحانه: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ أي: من الحدث الأصغر والأكبر، وهو تطهير الظاهر وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ أي وسوسته بأنكم على هذا الرمل لا تتمكنون من المحاربة، ومع فقد الماء كيف تفعلون؟ فأزال تعالى بإنزاله، ذلك. فكان لهم به طهارة باطنة، فكملت لهم الطهارتان، أي من وسوسة أو خاطر سيء، وهو تطهير الباطن وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ أي يقويها بالثقة، بالأمن وزوال الخوف وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي على الرمل. قال مجاهد: أنزل الله عليهم المطر، فأطفأ به الغبار، وتلبدت به الأرض، وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم.
قال الجشمي: قال القاضي: وهو أشبه بالظاهر. وقيل بالصبر وقوة القلب التي أفرغها عليهم، حتى ثبتوا لعدوّهم. وقوله (به) يرجع إلى الماء المنزل، أو إلى ما تقدم من البشارة والنصر.
ثم أشار تعالى إلى نعمة خفية أظهرها تعالى لهم ليشكروه عليها بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٢]
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢)
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أي الذين أمدّ بهم المسلمين أَنِّي مَعَكُمْ أي بالعون والنصر.
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ٧٩- باب ما قيل في درع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والقميص في الحرب.
قال الجشمي: يحتمل مع الملائكة، إذ أرسلهم ردءا للمسلمين، ويحتمل مع المسلمين، كأنه قيل: أوحي إلى الملائكة أني مع المؤمنين، فانصروهم وثبتوهم.
وقوله تعالى: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي بدفع الوسواس وبالقتال معهم والحضور مددا وعونا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ أي الخوف.
ثم علمهم تعالى كيفية الضرب بقوله تعالى: فَاضْرِبُوا أمر للمؤمنين أو للملائكة. وعليه، ففيه دليل على أنهم قاتلوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي أعالي الأعناق التي هي المذابح، تطييرا للرؤوس. أو أراد الرؤوس، لأنها فوق الأعناق وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أي أصابع. جمع (بنانة) قيل: المراد بالبنان، مطلق الأطراف مجازا، تسمية للكل بالجزء، لوقوعها في مقابلة الأعناق والمقاتل. والمعنى: اضربوهم كيفما اتفق من المقاتل وغيرها.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٣]
ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ِكَ
أي الضرب أو الأمر به أَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ
أي خالفوهما فيما شرعا. وقوله تعالى: مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ
تقرير لما قبله، إن أريد بالعقاب ما وقع لهم في الدنيا، أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة، بعد ما حاق بهم في الدنيا، وبيان لخسرانهم في الدارين.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٤]
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
ذلِكُمْ خطاب للكفرة على طريقة الالتفات فَذُوقُوهُ أي ذلك العذاب، أيها الكفار، في الدنيا وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ في الآخرة.
ثم نهى تعالى عن الفرار من الزحف، مبينا وعيده بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ أي الظهور
بالانهزام. و (الزحف) الجيش الكثير، تسمية بالمصدر، والجمع زحوف، مثل فلس وفلوس. ويقال: زحف إليه، أي مشى، وزحف الصبيّ على استه قبل أن يقوم. شبه بزحف الصبيان مشي الجيش الكثير للقتال، لأنه لكثرته يرى كأنه يزحف، أي يدب دبيبا قبل التداني للضراب أو الطعان.
قال أبو السعود: زَحْفاً منصوب، إما على أنه حال من مفعول لَقِيتُمُ أي: زاحفين نحوكم، أو على أنه مصدر مؤكد لفعل مضمر، هو الحال منه، أي يزحفون زحفا.
وأما كونه حالا من فاعله أو منه، ومن مفعوله معا كما قيل- فيأباه قوله تعالى فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ إذ لا معنى لتقييد النهي عن الإدبار بتوجههم السابق إلى العدوّ، أو بكثرتهم. بل توجه العدوّ إليهم وكثرتهم هو الداعي إلى الإدبار عادة، والمحوج إلى النهي عنه.
وحمله على الإشعار بما سيكون منهم يوم حنين، حيث تولّوا مدبرين، وهم زحف من الزحوف اثنا عشر ألفا- بعيد.
والمعنى: إذا لقيتموهم للقتال، وهم كثير جمّ، وأنتم قليل، فلا تولوهم أدباركم، فضلا عن الفرار، بل قابلوهم وقاتلوهم، فضلا عن أن تدانوهم في العدد أو تساووهم.
قال الشهاب: عدل عن لفظ الظهور إلى الأدبار تقبيحا للانهزام، وتنفيرا عنه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٦]
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦)
وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ أي يوم اللقاء دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أي مائلا له.
يقال: تحرف وانحرف واحرورف: مال وعدل. وهذا التحرف إما بالتوجه إلى قتال طائفة أخرى أهمّ من هؤلاء، وإما بالفرّ للكرّ، بأن يخيّل عدوه أنه منهزم ليغره، ويخرجه من بين أعوانه، فيفرّ عنه، ثم يكرّ عليه وحده أو مع من في الكمين من أصحابه، وهو باب من مكايد الحرب أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي منضمّا إلى جماعة أخرى من المسلمين ليستعين بهم فَقَدْ باءَ أي رجع بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمَصِيرُ أي ما صار إليه من عذاب النار.
266
تنبيهات:
الأول- دلت الآية على وجوب مصابرة العدو، أي الثبات عند القتال، وتحريم الفرار منه يوم الزحف، وعلى أنه من الكبائر. لأنه توعد عليه وعيدا شديدا.
الثاني- ظاهر الآية العموم لكل المؤمنين في كل زمن، وعلى كل حال، إلّا حالة التحرف أو التحيز، وهو مروي عن ابن عبّاس واختاره أبو مسلم. قال الحاكم:
وعليه أكثر الفقهاء.
وروي عن جماعة من السلف أن تحريم الفرار المذكور مختص بيوم (بدر)، لقوله تعالى وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ وأجيب بأن الإشارة في يَوْمَئِذٍ إلى يوم لقاء الزحف كما يفيده السياق، لا إلى يوم بدر.
الثالث- ذهب جماعة من السلف إلى أن معنى قوله تعالى أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أي جماعة أخرى من المسلمين، سوى التي هو فيها، سواء قربت تلك الفئة أو بعدت وقد روي أن أبا عبيد قتل على الجسر بأرض فارس، لكثرة الجيش من ناحية المجوس، فقال عمر رضي الله عنه: لو تحيز إلي لكنت له فئة. وفي رواية عنه: أيها الناس! أنا فئتكم. وقال الضحاك: المتحيز إلى فئة، الفارّ إلى النبيّ وأصحابه. وكذلك من فرّ اليوم إلى أميره أو أصحابه. وجنح إلى هذا ابن كثير حيث قال: من فرّ من سرية إلى أميره، أو إلى الإمام الأعظم، دخل في هذه الرخصة. ثم أورد
حديث عبد الله بن عمر المروي عند الإمام أحمد «١» وأبي داود»
والترمذيّ «٣» وغيرهم. قال: كنت في سرية من سرايا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فحاص الناس حيصة، فكنت فيمن حاص، فقلنا:
كيف نصنع وقد فررنا من الزحف، وبؤنا بالغضب، ثم قلنا: لو دخلنا المدينة.
فبتنا! ثم قلنا: لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فإن كانت لنا توبة، وإلا ذهبنا! فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج فقال: من القوم؟ فقلنا: نحن الفرارون. فقال: لا، بل أنتم العكّارون، أنا فئتكم وفئة المسلمين، قال: فأتيناه حتى قبلنا يده
. قال الترمذي: حديث حسن، لا نعرفه إلا من حديث يزيد بن أبي زياد- انتهى- أي وقد تكلم فيه غير واحد من الأئمة. قال الحاكم في (مسألة الفرار) : إن ذلك يرجع إلى ظن المقاتل واجتهاده. فإن ظن المقاومة لم يحلّ الفرار. وإن ظن الهلاك، جاز الفرار
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٢/ ٧٠ والحديث رقم ٥٣٨٤.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ٩٦- باب في التولي يوم الزحف، حديث ٢٦٤٧. [.....]
(٣) أخرجه الترمذي في: الجهاد، ٣٧- باب ما جاء في الفرار من الزحف.
267
إلى فئة وإن بعدت، وإذا لم يقصد الإقلاع عن الجهات. وحمل عليه حديث ابن عمر المذكور.
وعن الكرخي: أن الثبات والمصابرة واجب، إذا لم يخش الاستئصال، وعرف عدم نكايته للكفار، والتجأ إلى مصر للمسلمين، أو جيش، وهكذا أطلق في (شرح الإبانة) فلم يبح الفرار إلا بهذه الشروط الثلاثة، ولم يعتبر العدد الآتي بيانه.
الرابع- روي عن عطاء أن حكم هذه الآية منسوخ بقوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ [الأنفال: ٦٦]، قال الحاكم: إذا أمكن الجمع فلا نسخ وأقول: كنا أسلفنا أن السلف كثيرا ما يعنون ب (النسخ) تقييد المطلق، أو تخصيص العامّ، فلا ينافي كونها محكمة إطلاقهم النسخ عليها.
قال بعض الأئمة: هذه الآية عامة تقضي بوجوب المصابرة، وإن تضاعف عدد المشركين أضعافا كثيرة. لكن هذا العموم مخصوص بقوله تعالى في السورة هذه:
إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً [الأنفال: ٦٥] فأوجب الله المصابرة على الواحد للعشرة. لأنه خبر معناه الأمر. فلما شق ذلك على المسلمين رحمهم الله تعالى، وأوجب على الواحد مصابرة الاثنين، فقال تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ [الأنفال: ٦٦].
وعن ابن عباس: من فرّ من اثنين فقد فرّ، ومن فرّ من ثلاثة فلم يفرّ.
وبالجملة، فلا منافاة بين هذه الآية وآية الضّعف، فإن هذه الآية مقيدة بها، فيكون الفرار من الزحف محرما بشرط ما بينه الله في آية الضّعف.
وفي (المهذب) : إن زاد عددهم على مثلي عدد المسلمين، جاز الفرار. لكن إن غلب على ظنهم أنهم لا يهلكون، فالأفضل الثبات. وإن ظنوا الهلاك، فوجهان:
يلزم الانصراف لقوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥].
والثاني: يستحب ولا يجب، لأنهم إن قتلوا فازوا بالشهادة. وإن لم يزد عدد الكفار على مثلي عدد المسلمين، فإن لم يظنوا الهلاك، لم يجز الفرار. وإن ظنوه فوجهان:
يجوز لقوله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥]. ولا يجوز، وصححوه لظاهر الآية.
ثم بيّن تعالى أن نصرهم يوم بدر، مع قلتهم، كان بحوله تعالى وقوته، فقال سبحانه:
268
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٧]
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أي يقوّتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ أي سبّب في قتلهم بنصرتكم وخذلانهم وألقى الرعب في قلوبهم، وقوى قلوبكم، وأمدكم بالملائكة، وأذهب عنها الفزع والجزع وَما رَمَيْتَ أي أنت يا خاتم النبيين، أي ما بلغت رمية الحصباء إلى وجوه المشركين إِذْ رَمَيْتَ أي بالحصباء، لأن كفّا منها لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى أي بلغ بإيصال ذلك إليهم ليقهرهم. وقال أبو مسلم (في معنى الآية) : أي ما أصبت إذ رميت، ولكن الله أصاب. والرمي لا يطلق إلا عند الإصابة، وذلك ظاهر في أشعارهم.
وقد روي عن غير واحد أنها نزلت في شأن القبضة من التراب التي حصب بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وجوه المشركين يوم بدر، حين خرج من العريش، بعد دعائه وتضرعه واستكانته. فرماهم بها وقال (شاهت الوجوه). ثم أمر أصحابه أن يصدقوا الحملة إثرها، ففعلوا، فأوصل الله تلك الحصباء إلى أعين المشركين، فلم يبق أحد منهم إلا ناله منها ما شغله عن حاله، وانهزموا.
تنبيه:
قال الجشمي: تدل الآية أن فعل العبد يضاف إليه تعالى إذا كان بنصرته ومعونته وتمكينه. إذ معلوم أنهم قتلوا، وأنه رمى، ولذلك قال إِذْ رَمَيْتَ ولهذا يضاف إلى السيد ما يأتيه غلامه. وتدل على أن الإضافة بالمعونة والأمر، صارت أقوى، فلذلك قال فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ.
وقال في (العناية) : استدل بهذه الآية والتي قبلها على أن أفعال العباد بخلقه تعالى، حيث نفى القتل والرمي. والمعنى: إذ رميت أو باشرت صرف الآلات.
والحاصل: ما رميت خلقا إذ رميت كسبا. وأورد عليه أن المدعي، وإن كان حقا، لكن لا دلالة في الآية عليه، لأن التعارض بين النفي والإثبات الذي يتراءى في بادئ النظر، مدفوع بأن المراد ما رميت رميا تقدر به على إيصاله إلى جميع العيون، وإن رميت حقيقة وصورة، وهذا مراد من قال: (ما رميت حقيقة، إذ رميت صورة) فالمنفيّ هو الرمي الكامل، والمثبت أصله، وقدر منه. فالإثبات والنفي لم يردا على
269
شيء واحد، حتى يقال: (المنفيّ على وجه الخلق، والمثبت على وجه المباشرة) ولو كان المقصود هذا لما ثبت المطلوب بها، الذي هو سبب النزول، من أنه أثبت له الرمي، لصدوره عنه، ونفى عنه، لأن أثره ليس في طاقة البشر، ولذا عدت معجزة له، حتى كأنه لا مدخل له فيها أصلا. فمبنى الكلام على المبالغة، ولا يلزم منه عدم مطابقته للواقع، لأن معناه الحقيقي غير مقصود. هكذا ينبغي أن يفهم هذا المقام، إذ لو كان المراد ما ذكر، لم يكن مخصوصا بهذا الرمي، لأن جميع أفعال العباد كذلك بمباشرتهم وخلق الله. انتهى.
وهذا التحقيق جيد، وقد نبه عليه أيضا العلامة ابن القيم في (زاد المعاد) حيث قال: وقد ظنت طائفة أن الآية دلت على نفي الفعل عن العبد وإثباته لله، وأنه هو الفاعل حقيقة، وهذا غلط منهم من وجوه عديدة، مذكورة في غير هذا الموضع.
ومعنى الآية: أن الله سبحانه أثبت لرسوله ابتداء الرمي، ونفى عنه الإيصال الذي لم يحصل برميه، فالرمي يراد به الحذف والإيصال، فأثبت لنبيه الحذف، ونفى عنه الإيصال. انتهى.
وقوله تعالى: وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ أي ليمنحهم من فضله بَلاءً حَسَناً أي منحا جميلا، بالنصر والغنيمة والفتح، ثم بالأجر والمثوبة، غير مشوب بمقاساة الشدائد والمكاره، فيعرفوا حقه ويشكروه.
قال أبو السعود: واللام، إما متعلقة بمحذوف متأخر، فالواو اعتراضية، أي وللإحسان إليهم بالنصر والغنيمة، فعل ما فعل، لا لشيء غير ذلك، مما لا يجديهم نفعا. وإما، برمي، فالواو للعطف على علة محذوفة، أي ولكن الله رمى ليمحق الكافرين وليبلي... إلخ. وتفسير البلاء هنا بالمنحة هو ما اختاره المحققون من قولهم: (أبلاه الله ببلية إبلاء حسنا) إذا صنع به صنعا جميلا، وأبلاه معروفا، قال زهير (في قصيدته التي مطلعها:
صحا القلب عن سلمى وقد كاد لا يسلو وأقفر من سلمى التّعانيق والثّقل
والتعانيق والثقل: مواضع) :
جزى الله بالإحسان ما فعلا بكم وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو
(أي إحسان فعلهما بكم. فأبلاهما خير البلاء، أي صنع الله إليهما خير الصنيع الذي يبتلي به عباده. والإنسان يبلى بالخير والشر) أي صنع بهما خير
270
الصنيع الذي يبلو به عباده. واستظهر الطيبي تفسيره بالإبلاء في الحرب بدليل ما بعده. قال ابن الأعرابيّ: يقال: أبلى فلان إذا اجتهد في صفة حرب أو كرم. ويقال:
أبلى ذلك اليوم بلاء حسنا.
إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ أي لدعائهم واستغاثتهم عَلِيمٌ أي بمن يستحق النصر والغلب وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٨]
ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨)
ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. ومحله الرفع. أي المقصود أو الأمر (ذلكم). وقوله: وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه.
أي مضعف بأس الكافرين وحيلهم بنصركم وخذلانهم، أي أن المقصود إبلاء المؤمنين، وتوهين كيد الكافرين.
قال ابن كثير: هذه بشارة أخرى. مع ما حصل من النصر، فإنه أعلمهم بأنه مضعف كيد الكافرين فيما يستقبل، مصغر أمرهم، وأنه في تبار ودمار. أي: وقد وجد المخبر على وفق الخبر، فصار معجزة للنبيّ صلى الله عليه وسلّم، ولله الحمد والمنة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ١٩]
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ خطاب للمشركين، أي إن تطلبوا الفتح، أي القضاء وأن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين، فقد جاءكم القضاء بما سألتم.
روى الإمام أحمد «١» والنسائي والحاكم، وصححه، عن عبد الله بن ثعلبة. أن أبا جهل قال، حين التقى القوم: اللهم! أقطعنا للرحم. وآتانا بما لا نعرفه، فأحنه- أي فأهلكه- الغداة. فكان المستفتح.
وعن السّدّي أن المشركين حين خرجوا من مكة إلى بدر: أخذوا بأستار
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٥/ ٤٣١.
الكعبة، فاستنصروا الله وقالوا: اللهم؟ انصر أعزّ الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين. فقال تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا... الآية.
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن هذه الآية إخبار عنهم بما قالوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ... الآية- قيل: في هذا الخطاب تهكم بهم، يعني في قوله تعالى فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ لأن الذي جاءهم الهلاك والذلة. كذا في (العناية). وهو مبنيّ على أن الفتح بمعنى النصر، وله معنى آخر وهو الحكم بين الخصمين والقضاء. وبهما فسرت الآية أيضا. وَإِنْ تَنْتَهُوا أي عن الكفر وعداوة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ أي في الدنيا والآخرة وَإِنْ تَعُودُوا أي لمحاربة الرسول نَعُدْ أي لنصره عليكم وَلَنْ تُغْنِيَ أي تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ، وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ أي بالنصر. قرئ بكسر (إن) استئنافا، وفتحها، على تقدير اللام.
تنبيه:
جوّز أن يكون الخطاب في قوله تعالى إِنْ تَسْتَفْتِحُوا للمؤمنين، أي إن تطلبوا النصر باستغاثتكم ربكم، فقد حصل لكم ذلك، فاشكروا ربكم، والزموا طاعته. وقوله تعالى إِنْ تَنْتَهُوا أي عن المنازعة في أمر الأنفال، وعن طلب الفداء على الأسرى الذي عوتبوا عليه بقوله تعالى لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ [الأنفال:
٦٨]، فقال تعالى: وَإِنْ تَنْتَهُوا- عن مثله- فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا إلى تلك المنازعات نعد عليكم بالإنكار، وتهييج العدوّ لأن الوعد بنصرتكم مشروط بشرط استمراركم على الطاعة، وترك المخالفة، ثم لا تنفعكم الفئة والكثرة، إذا لم يكن الله معكم بالنصر، فإنه مع الكاملين في إيمانهم. وهذا الوجه قرره الرازي ونقله عن القاضي.
قال البيضاوي: ويؤكده الآية بعد فإن المراد بها الأمر بطاعة الرسول والنهي عن الإعراض عنه والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٠]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي تعرضوا عنه بمخالفة أمره وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ أي القرآن الناطق بوجوب طاعته، والمواعظ الزاجرة عن مخالفته.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢١]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا أي ادعوا السماع وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ أي سماع تدبر واتعاظ، وهم المنافقون أو المشركون. فالمنفيّ سماع خاص، لكنه أتى به مطلقا للإشارة إلى أنهم نزّلوا منزلة من لم يسمع أصلا، بجعل سماعهم بمنزلة العدم. وقيل: السماع مجاز عن التصديق.
قال الزمخشري: والمعنى أنكم تصدقون بالقرآن والنبوة، فإذا توليتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور، من قسمة الغنائم وغيرها، كان تصديقكم كلا تصديق، وأشبه سماعكم سماع من لا يؤمن.
ثم بيّن تعالى سوء حال المشبه بهم، مبالغة في التحذير، وتقريرا للنهي، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٢]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ أي ما يدبّ على الأرض، أو شر البهائم عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ أي عن سماع الحق الْبُكْمُ أي عن النطق به الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ أي لا يفهمونه.
جعلهم تعالى من جنس البهائم، لصرفهم جوارحهم عما خلقت له، ثم جعلهم شرّها لأنهم عاندوا بعد الفهم، وكابروا بعد العقل، وفي ذكرهم في معرض التشبيه، بهذا الأسلوب، غاية في الذم. وقد كثر، في التنزيل، تشبيه الكافرين بنحو هذا، كقوله تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَنِداءً [البقرة: ١٧١]، وقال تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف: ١٧٩].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٣]
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ أي في هؤلاء الصم البكم خَيْراً صدقا ورغبة لَأَسْمَعَهُمْ أي الحجج والمواعظ، سماع تفهم وتدبر، أي لجعلهم سامعين حتى
يسمعوا سماع المصدقين. أي ولكن لم يعلم الله فيهم شيئا من ذلك، لخلوّهم عنه بالمرة، فلم يسمعهم كذلك، لخلوه عن الفائدة وخروجه عن الحكمة، وإليه أشير بقوله تعالى وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا أي: ولو أسمعهم سماع تفهم، وهم على هذه الحالة العارية عن الخير بالكلية، لتولوا عما سمعوه من الحق وَهُمْ مُعْرِضُونَ أي عن قبوله جحودا وعنادا. قال الرازي: كل ما كان حاصلا فإنه يجب أن يعلمه الله، فعدم علم الله بوجوده، من لوازم عدمه، فلا جرم حسن التعبير عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده.
تنبيه:
قد يتوهم أن الشرطيتين في الآية مقدمتا قياس اقتراني. هكذا: لو علم فيهم خيرا لأسمعهم، ولو أسمعهم لتولوا. ينتج: لو علم فيهم خيرا لتولوا. وفساده بيّن.
وأجيب: بأنه إنما يلزم النتيجة الفاسدة لو كانت الثانية كلية، وهو ممنوع. واعترض بأن هذا المنع، وإن صح في قانون النظر، إلا أنه خطأ في تفسير الآية، لابتنائه على أن المذكور قياس مفقود شرائط الإنتاج، ولا مساغ لحمل كلام الله عليه. وأجيب: بأن المراد منع كون القصد إلى ترتيب قياس، لانتفاء شرط، لا أنه قياس فقد شرطه. كما أنه يمنع منه عدم تكرار الوسط أيضا، وإنما المقصود من المقدمة الثانية تأكيد الأولى، إذ مآله إلى أنه انتفى الإسماع، لعدم الخيرية فيهم، ولو وقع الإسماع، لا تحصل الخيرية فيهم، لعدم قابلية المحل. كذا في (العناية). وقد حاول بعضهم تصحيح كونها قياسا شرطيّا، متحد الوسط، صحيح الإنتاج، بتقدير: لو علم فيهم خيرا في وقت، لتولوا بعده.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٤]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ الاستجابة:
بمعنى الإجابة. قال:
274
(يريد: فلم يجبه. وقائله كعب بن سعد الغنوي. والقصيدة في الأصمعيات رقم ١٤).
والمراد بها الطاعة والامتثال. وإنما وحدّ الضمير في قوله دَعاكُمْ- أي الرسول- لأنه هو المباشر للدعوة إلى الله تعالى.
وقال الزمخشري: لأن استجابته صلّى الله عليه وسلّم، كاستجابته تعالى، وإنما يذكر أحدهما مع الآخر للتوكيد. وقوله لِما يُحْيِيكُمْ، قال عروة بن الزبير- فيما رواه ابن إسحاق- أي للحرب التي أعزكم الله تعالى بها بعد الذل، وقوّاكم بها بعد الضعف، ومنعكم من عدوّكم بعد القهر منهم لكم. وإنما سمي الجهاد حياة، لأن في وهن عدوّهم بسببه حياة لهم وقوة، أو لأنه سبب الشهادة الموجبة للحياة الدائمة، أو سبب المثوبة الأخروية التي هي معدن الحياة، كما قال تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ [العنكبوت: ٦٤] أي الحياة الدائمة، فيكون مجازا مرسلا، بإطلاق السبب على المسبب، أو استعارة. وقيل: لِما يُحْيِيكُمْ أي من العلوم الدينية التي هي مناط حياة القلب، كما أن الجهل موته.
قال الشهاب: وإطلاق الحياة على العلم، والموت على الجهل، استعارة معروفة، ذكرها الأدباء، وأهل المعاني. وأنشد الزمخشري لبعضهم:
وداع دعا يا من يجيب إلى النّدا فلم يستجبه عند ذاك مجيب
لا تعجبنّ الجهول حلّته فذاك ميت، وثوبه كفن
وقد ألمّ فيه بقول أبي الطيّب، من قصيدته التي أولها:
أفاضل الناس أغراض لذا الزمن يخلوا من الهمّ أخلاهم من الفطن
ومنها:
لا تعجبنّ مضيما حسن بزّته وهل تروق دفينا جودة الكفن
والأظهر أن يعنى ب (ما يحييكم) ما يصلحكم من أعمال البر والطاعة. فيدخل فيه ما تقدم وغيره.
تنبيه:
استدل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية على وجوب إجابته إذا نادى أحدا وهو في الصلاة.
روى البخاري «١» عن أبي سعيد بن المعلّى رضي الله عنه قال: كنت أصلي، فمرّ بي
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، ٢- باب: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ، حديث رقم ١٩٦١.
275
النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فدعاني، فلم آته حتى صليت، ثم أتيته فقال: ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا.. الآية.
وقوله تعالى وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ يحتمل وجوها من المعاني.
أحدهما: أنه تعالى يملك على المرء قلبه فيصرفه كيف يشاء، فيحول بينه وبين الكفر، إن أراد هدايته، وبينه وبين الإيمان، إن أراد ضلالته، وهذا المعنى رواه الحاكم في مستدركه عن ابن عباس، وصححه، وقاله غير واحد من السلف. ويؤيده ما
روي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كان يكثر أن يقول: يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك.
فقيل: يا رسول الله! آمنا بك، وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى، يقلبها- رواه الإمام أحمد «١»
والترمذي «٢» عن أنس ولفظ مسلم «٣» : إن قلوب بني آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن، كقلب واحد، يصرفها كيف شاء ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اللهم! مصرف القلوب، صرف قلوبنا إلى طاعتك- انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه عن عبد الله بن عمرو-
وفي رواية: إن قلب الآدميّ بين إصبعين من أصابع الله، فإذا شاء أزاغه، وإذا شاء أقامه- رواه الإمام أحمد «٤» عن عائشة-
. وروي أيضا مثله عن جابر وبلال والنوّاس «٥» بن سمعان وأم سلمة، كما ساقه ابن كثير. وعلى هذا المعنى، فالآية استعارة تمثيلية، لتمكنه من قلوب العباد، فيصرفها كيف يشاء، بما لا يقدر عليه صاحبها. شبه بمن حال بين شخص ومتاعه، فإنه يقدر على التصرف فيه دونه.
ثانيها: أنه حث على المبادرة إلى الطاعة، قبل حلول المنية، فمعنى (يحول بينه وبين قلبه) يميته فتفوته الفرصة التي هو واجدها، وهو التمكن من إخلاص القلب، ومعالجة أدوائه وعلله، ورده سليما، كما يريده الله، فاغتنموا هذه الفرصة، وأخلصوها لطاعة الله ورسوله. فشبه الموت بالحيلولة بين المرء وقلبه، الذي به يعقل، في عدم التمكن من علم ما ينفعه علمه.
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ١١٢.
(٢) أخرجه الترمذي في: القدر، ٧- باب ما جاء أن القلوب بين إصبعي الرحمن.
(٣) أخرجه مسلم في: القدر، حديث رقم ١٧.
(٤) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٦/ ٢٦١.
(٥) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ١٨٢.
276
ثالثها: أنه مجاز عن غاية القرب من العبد، لأن من فصل بين شيئين كان أقرب إلى كل منهما من الآخر، لاتصاله بهما، وانفصال أحدهما عن الآخر. و (يحول) إما استعارة تبعية معناه يقرب. أو استعارة تمثيلية. وهذا المعنى نقل عن قتادة حيث قال: الآية كقوله تعالى وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: ١٦] وفيه تنبيه على أنه تعالى مطلع، من مكنونات القلوب، على ما عسى أن يغفل عنه صاحبها.
وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ أي فيجزيكم بأعمالكم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٥]
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً الفتنة: إما بمعنى الذنب، كإقرار المنكر، وافتراق الكلمة والتكاسل في الجهاد وإما بمعنى العذاب. فإن أريد الذنب فإصابته بإصابة أثره. وإن أريد العذاب، فإصابته بنفسه. ولا تُصِيبَنَّ جواب للأمر، أي: إن إصابتكم لا تختص إصابتها بمن يباشر الظلم منكم، بل تشملهم وغيرهم بشؤم صحبتهم، وتعدي رذيلتهم إلى من يخالطهم، كقوله تعالى ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ [الروم: ٤١]. قاله القاشانيّ.
وقد روى الإمام أحمد «١» عن جرير أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي هم أعز وأكثر ممن يعملون، ثم لم يغيروه، إلا عمهم الله بعقاب.
وروي نحوه عن عدي بن عميرة وحذيفة والنعمان وعائشة وأم سلمة.
قال الكرخي: ولا يستشكل هذا بقوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى [الأنعام: ١٦٤]، لأن الناس، إذا تظاهروا بالمنكر، فالواجب على كل من رآه أن يغيره، إذا كان قادرا على ذلك فإذا سكت فكلهم عصاة. هذا يفعله، وهذا برضاه.
وقد جعل تعالى، بحكمته، الراضي بمنزلة العامل، فانتظم في العقوبة. انتهى.
وذكر القسطلاني أن علامة الرضا بالمنكر عدم التألم من الخلل الذي يقع في الدين بفعل المعاصي، فلا يتحقق كون الإنسان كارها له، إلا إذا تألم للخلل الذي يقع في الدين، كما يتألم ويتوجع لفقد ماله أو ولده، فكل من لم يكن بهذه الحالة
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ٣٦١.
فهو راض بالمنكر، فتعمه العقوبة والمصيبة بهذا الاعتبار. انتهى.
وعن ابن عباس: أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم، فيعمهم الله بالعذاب. وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ أي لمن يخالف أوامره.
ثم نبه تعالى عباده المؤمنين السابقين الأولين على نعمه عليهم، وإحسانه إليهم، حيث كانوا قليلين فكثرهم، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم، ورزقهم من الطيبات، ليشكروه بدوام الطاعة، فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٦]
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
وَاذْكُرُوا أي يا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي في العدد مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أي مقهورون في أرض مكة قبل الهجرة، تستضعفكم قريش تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ أي أهل مكة. و (تخطفه) و (اختطفه) بمعنى استلبه وأخذه بسرعة فَآواكُمْ أي إلى المدينة وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ يعني أعانكم وقواكم يوم بدر بنصره، وذلك بمظاهرة الأنصار، وإمداد الملائكة، والتثبيت الرباني وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي الغنائم لأنها لم تطب إلا لهم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي المولى على ما تفضل به وأولى. وما ذكرنا من كون الخطاب في الآية للمهاجرين خاصة، هو أنسب بالمقام والسياق والسياق يشعر به. وقيل: الخطاب للعرب كافة، وعليه قول قتادة بن دعامة السدوسي رحمه الله في هذه الآية: كان هذا الحيّ من العرب أذل الناس وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأثبته ضلالا. والله! ما نعلم قبيلا من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلا منهم، حتى جاء الله بالإسلام، فمكن به في البلاد، ووسع به في الرزق، وجعلهم به ملوكا على رقاب الناس. وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا الله على نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر في مزيد من الله. انتهى.
وأقول: الأمر في العرب، وإن كان كما ذكر، لكن في تنزيل بعض ألفاظ الآية عليه تكلف لا يخفى فالظاهر ما ذكرنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٧]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ لما ذكّرهم تعالى بإسباغ نعمه عليهم ليشكروه، وكان من شكره الوقوف عند حدوده، بين لهم ما يحذر منها، وهو الخيانة. ويدخل في خيانة الله تعطيل فرائضه، ومجاوزة حدوده. وفي خيانة رسوله رفض سنته، وإفشاء سره للمشركين. وفي خيانة أمانتهم الغلول في المغانم، أي السرقة منها، وخيانة كل ما يؤتمن عليه الناس من مال أو أهل أو سر، وكل ما تعبدوا به. وقد روي في نزول الآية شيء مما ذكرنا. ولفظ الآية مطلق يتناوله وغيره. ومن ذلك ما
رواه سعيد بن منصور عن عبد الله بن أبي قتادة قال: نزلت في أبي لبابة حين حاصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريظة وأمرهم أن ينزلوا على حكم سعد، فاستشار قريظة من أبي لبابة في النزول على حكم سعد، وكان أهل أبي لبابة وأمواله فيهم، فأشار إلى حلقه- أنه الذبح- قال أبو لبابة: ما زالت قدماي حتى علمت أني خنت الله ورسوله، ثم حلف ألا يذوق ذواقا حتى يموت، أو يتوب الله عليه. وانطلق إلى المسجد، فربط نفسه بسارية، فمكث أياما، حتى كان يخرّ مغشيا عليه من الجهد، ثم أنزل الله توبته، وحلف لا يحله إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيده، فحله، فقال: يا رسول الله! إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة، فقال: يجزيك الثلث أن تصدق به.
قال بعض المفسرين: دل هذا السبب على جواز إظهار الجزع على المعصية، وإتعاب النفس وتوبيخها، لأنه صلّى الله عليه وسلّم لم ينكر على أبي لبابة. ودل على أنه يستحب إتباع المعصية بالصدقة، لأنه عليه السلام
قال: يجزيك ثلث مالك
، وهذا سبيل قوله في هود إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [هود: ١١٤].
وفي قوله تعالى: وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ دليل على أن ذنب العالم بالخطيئة أعظم منه من غيره، لأنه المعنى: وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله.
قال الرازي: ثم إنه لما كان الداعي إلى الإقدام على الخيانة هو حب الأموال والأولاد، نبه تعالى على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضارة المتولدة من ذلك الحب فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٨]
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ
أي محنة من الله ليبلوكم، هل تقعون بهما في الخيانة، أو تتركون لهما الاستجابة لله ولرسوله، أو لا تلهون بهما عن ذكره، ولا تعتاضون بهما منه. فسموا (فتنة) اعتبارا بما ينال الإنسان من الاختبار بهم.
ويجوز أن يراد (بالفتنة) الإثم أو العذاب، فإنهم سبب الوقوع في ذلك.
قال الحاكم: قد أمر الله بالعلم بذلك. وطريق العلم به التفكر في أحوالهما وزوالهما، وقلة الانتفاع بهما، وكثرة الضرر، وأنه قد يعصي الله بسببهما.
وقوله تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
أي لمن آثر رضاه على جمع المال وحب الولد، فلم يورط نفسه من أجلهما. وقد جاء التحذير من فتنتهما صراحة مع الترهيب الشديد في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ [المنافقون: ٩]. قيل:
هذه الآية من جملة ما نزل في أبي لبابة، وما فرط منه لأجل ماله وولده.
ولما حذر تعالى، فيم تقدم، عن الفتنة بالأموال والأولاد، بشر من اتقاه في الافتتان بهما، وفي غيره بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ قال المهايمي: أشار تعالى إلى أن من ترك الخيانة، واستجاب لله، فلا يخاف على أهله وماله وعرضه، أي كما خاف أبو لبابة. فإن من اتقاه تعالى فلا يجترئ أحد على أهله وحوزته، لأنه يؤتى فرقانا يفارق به سائر الناس من المهابة والإعزاز. انتهى.
وقيل: فُرْقاناً أي نصرا، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين الكفر بإذلال حزبه، والإسلام بإعزاز أهله. ومنه قوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ [الأنفال: ٤١]. وقيل:
بيانا وظهورا يشهر أمركم، ويبث صيتكم وآثاركم في أقطار الأرض من قولهم: بت
أفعل كذا حتى سطع الفرقان، أي طلع الفجر. وقيل: فصلا بين الحق والباطل، ومخرجا من الشبهات. كما قال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: ٢٨].
والفرقان (كالفرق)، مصدر (فرق)، أي فصل بين الشيئين، سواء كان بما يدركه البصر، أو بما تدركه البصيرة. إلا أن الفرقان أبلغ، لأنه يستعمل في الفرق بين الحق والباطل، والحجة والشبهة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٠]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ لما ذكّر الله تعالى المؤمنين نعمه عليهم بقوله تعالى:
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ذكر نبيه صلّى الله عليه وسلّم نعمته عليه خاصة، في حفظه من مكر قريش به ليشكره تعالى في نجاته من مكرهم، واستيلائه عليهم. وذلك أن قريشا، لما أسلمت الأنصار، وأخذ نور الإسلام في الانتشار، فرقوا أن يتفاقم أمره، فاجتمعوا في دار الندوة (وهي دار بناها قصّي بن كلاب ليصلح فيها بين قريش. ثم صارت لمشاورتهم. وهي الآن مقام الحنفيّ. والندوة الجماعة من القوم، وندا بالمكان اجتمع فيه، ومنه النادي) ليتشاوروا في أمره صلّى الله عليه وسلّم. فقال أبو البحتريّ بن هشام: رأيي أن تحبسوه في بيت، وتشدوا وثاقه، وتسدوا بابه، غير كوّة، تلقون إليه طعامه وشرابه منها، وتتربصوا به ريب المنون. وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: لِيُثْبِتُوكَ أي ليحبسوك ويوثقوك، لأن كل من حبس شيئا وربطه فقد جعله ثابتا لا يقدر على الحركة منه. ثم اعترض هذا الرأي شيخ نجدي دخل معهم، فقال: بئس الرأي! يأتيكم من يقاتلكم من قومه، ويخلصه من أيديكم! ثم قال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل، وتخرجوه من بين أظهركم، فلا يسركم ما صنع، واسترحتم.
وهذا ما أشير إليه بقوله تعالى: أَوْ يُخْرِجُوكَ، يعني من مكة، ثم اعترض النجدي أيضا بقوله: بئس الرأي! يفسد قوما غيركم، ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل- لعنه
الله-: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاما، وتعطوه سيفا، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. وهذا ما ذكره تعالى بقوله: أَوْ يَقْتُلُوكَ. ثم قال النجدي اللعين: صدق هذا الفتى، هو أجودكم رأيا. فتفرقوا على رأي أبي جهل، مجمعين على قتله. فأخبر جبريل عليه السلام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأمره أن لا يبيت في مضجعه، وأذن الله له في الهجرة. فأمر عليا. فنام في مضجعه،
وقال له: اتشح ببردتي، فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. ثم خرج النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وأخذ قبضة من تراب، فأخذ الله بأبصارهم عنه، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يقرأ: يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إلى قوله فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ [يس: ١- ٩]. ومضى مع أبي بكر إلى الغار، وبات المشركون يحرسون عليّا، يحسبون أنه النبيّ. فلما أصبحوا ساروا إليه ليقتلوه، فرأوا عليّا، فقالوا: أين صاحبك؟ فقال: لا أدري! فاتبعوا أثره، فلما بلغوا الغار، رأوا نسج العنكبوت على بابه، فقالوا: لو دخله لم يبق لنسج العنكبوت أثر.
وخيب الله سعيهم، وأبطل مكرهم. ثم مكث صلّى الله عليه وسلّم فيه ثلاثا، ثم خرج إلى المدينة.
روي ذلك عن ابن عباس من طرق عند ابن إسحاق والإمام أحمد والحاكم والبيهقي-
دخلت روايات بعضهم في بعض-.
وقوله تعالى: وَيَمْكُرُ اللَّهُ أي يدبر ما يبطل مكرهم. وقوله: وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي أعظمهم تأثيرا، قاله المهايمي وأفاد أيضا في مناسبة هذه الآية مع ما قبلها أن هذه تشير إلى أن المتقي كما يجعل الله له فرقانا يمنع من الاجتراء على أهله وماله وعرضه ظاهرا، يحفظه من مكر من مكر به، بل يمكر له على ماكره.
انتهى.
ثم أخبر تعالى عن كفر قريش وعتوّهم وتمردهم ودعواهم الباطل عند سماع آياته تعالى بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣١]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا أي مثل هذا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا أي المتلوّ. وهذا غاية المكابرة، ونهاية العناد. كيف لا؟ ولو استطاعوا شيئا من ذلك،
فما الذي كان يمنعهم من المشيئة، وقد تحدّوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله، وقرّعوا على العجز، وذاقوا من ذلك الأمرين، ثم قورعوا بالسيف، فلم يعارضوا سواه، مع فرط أنفتهم، واستنكافهم أن يغلبوا، خصوصا في باب البيان الذي هم فرسانه، المالكون لأزمته، وغاية ابتهاجهم به.
وقوله تعالى: إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي ما سطروه وكتبوه من القصص.
قيل: (أساطير) لا واحد له، وقيل: هو جمع أسطر وسطور وأسطار، جموع سطر، بسكون الطاء وفتحها، فهو جمع الجمع. وقيل: هو جمع أسطورة، كأحدوثة وأحاديث. والأصل في السطر الخط والكتابة. يقال: سطر: كتب، ويطلق على الصف من الشيء كالكتاب والشجر. كذا في القاموس وشرحه.
وقد روي أن قائل هذا. النضر بن الحارث من كلدة، وأنه كان ذهب إلى بلاد فارس، وجاء منها بنسخة حديث رستم وإسفنديار، ولما قدم ووجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد بعثه الله، وهو يتلو على الناس ما قصه تعالى من أحاديث القرون. قال: لو شئت لقلت مثل هذا، فزعم أنه مثل ما تلقفه. وكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس، جلس فيه النضر فحدثهم من متلقفاته، ثم يقول: بالله! أينا أحسن قصصا، أنا أو محمد؟ وقد أمكن الله تعالى منه يوم بدر، وأسره المقداد، ثم أمر صلّى الله عليه وسلّم به، فضربت عنقه. وإسناده قوله إلى الجميع، إما لرضا الباقين به أو لأن قائله كبير متبع.
وقد كان اللعين قاصّهم الذي يعلمهم الباطل ويقودهم إليه، ويغرهم بمثل هذه الجعجعة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٢]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢)
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ هذا أسلوب من الجحود بليغ، لأنهم عدوّا حقية القرآن محالا، فلذا علقوا عليه طلب العذاب الذي لا يطلبه عاقل، ولو كان ممكنا لفرّوا من تعليقه عليه. والمعنى، إن كان هذا القرآن حقّا منزلا، فعاقبنا على إنكاره بالسجّيل، كما فعلت بأصحاب الفيل، أو بعذاب آخر. وفي إطلاقهم (الحق) عليه، وجعله من عند الله تهكم بمن يقول ذلك من النبي أو المؤمنين. وفائدة التعريف فيه الدلالة على أن
283
المعلق به كونه حقّا على الوجه، يدعيه صلّى الله عليه وسلّم، وهو تنزيله، لا الحق مطلقا، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع، غير منزل، كالأساطير. فالتعريف للعهد. وفَأَمْطِرْ استعارة أو مجاز ل (أنزل) قال الزمخشريّ: وقد كثر الإمطار في معنى العذاب. فإن قلت:
ما فائدة قوله مِنَ السَّماءِ، والإمطار لا يكون إلا منها؟ قلت: كأنه أريد أن يقال:
فأمطر علينا السجيل، وهي الحجارة المسوّمة للعذاب، فوضع حِجارَةً مِنَ السَّماءِ، موضع (السجيل) كما تقول: صبّ عليه مسرودة من حديد، تريد درعا. وقوله بِعَذابٍ أَلِيمٍ أي سوى الإمطار المذكور، أو من عطف العامّ على الخاص.
وعن معاوية، أنه قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! قال: أجهل من قومي قومك! قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دعاهم إلى الحق: إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة، ولم يقولوا إن كان هذا هو الحق فاهدنا له.
أي الذي هو الأصلح لهم، ولكن لشدة جهلهم وعتوهم وعنادهم استفتحوا على أنفسهم، واستعجلوا تقديم العقوبة، كقوله تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ، وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [العنكبوت: ٥٣].
وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ [ص: ١٦]. وقوله: سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ [المعارج: ١- ٣] وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة، كما قال قوم شعيب له: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء: ١٨٧].
وعن عطاء ومجاهد وسعيد بن جبير أن قائل ذلك النضر بن الحارث، صاحب القول السالف. قال عطاء: لقد أنزل في النضر بضع عشرة آية، فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر.
وروى البخاري «١» عن أنس أن قائل ذلك أبو جهل.
وروى ابن مردويه عن بريدة قال: رأيت عمرو بن العاص واقفا يوم أحد على فرس وهو يقول: اللهم إن كان ما يقول محمد حقا فاخسف بي وبفرسي.
وقوله تعالى:
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، ٣- باب قوله تعالى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ، حديث ٢٠٠٧.
284
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٣]
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣)
وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ بيان للموجب لإمهالهم، وعدم إجابة دعائهم. واللام لتأكيد النفي، والدلالة على أن تعذيبهم، والنبيّ بين أظهرهم، غير مستقيم في الحكمة، لأن سنته تعالى، وقضية حكمته، ألا يعذب أمة ونبيها بين ظهرانيها، لأنه لو نزل العذاب في مكانهم لأصاب كل من كان فيه. وفيه إشعار بأنهم مرصدون بالعذاب إذا هاجر عنهم.
وقوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ذكروا فيه ثلاثة أوجه:
الأول- أن المراد استغفار من بقي بين أظهرهم من المسلمين المستضعفين.
قال الطيبي: وهذا الوجه أبلغ، لدلالته على أن استغفار الغير مما يدفع به العذاب عن أمثال هؤلاء الكفرة.
والثاني- أن المراد به دعاء الكفرة بالمغفرة، وقولهم: (غفرانك) في طوافهم بالبيت، كما رواه ابن أبي حاتم. فيكون مجرد طلب المغفرة منه تعالى مانعا من عذابه، ولو من الكفرة.
والثالث- أن المراد بالاستغفار التوبة، والرجوع عن جميع ما هم عليه من الكفر وغيره، فيكون القيد منفيّا في هذا، ثابتا في الوجهين الأولين.
قال القاشاني: العذاب سورة الغضب وأثره، فلا يكون إلا من غضب النبيّ، أو من غضب الله المسبب من ذنوب الأمة، والنبيّ عليه الصلاة والسلام كان صورة الرحمة، لقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ [الأنبياء: ١٠٧]. ولهذا لما كسروا رباعيته قال: (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) ولم يغضب كما غضب نوح عليه السلام وقال رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [نوح: ٢٦].
فوجوده فيهم مانع من نزول العذاب، وكذا وجود الاستغفار، فإن السبب الأوّليّ للعذاب لما كان وجود الذنب، والاستغفار مانع من تراكم الذنب وثباته، بل يوجب زواله، فلا يتسبب لغضب الله، فما دام الاستغفار فيهم فهم لا يعذبون. انتهى.
روى الترمذي «١» عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أنزل الله
(١) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، ٤- باب حدثنا سفيان بن وكيع.
عليّ أمانين لأمتي وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ.. الآية. فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة.
قال ابن كثير: ويشهد لهذا ما
رواه الإمام أحمد «١» والحاكم وصححه، عن أبي سعيد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك، ولا أبرح أغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال الله: فبعزتي وجلالي لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني.
وروى الإمام أحمد «٢» عن فضالة بن عبيد عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: العبد آمن من عذاب الله عز وجل ما استغفر الله عز وجل.
ثم بيّن تعالى أنهم أهل للعذاب لولا المانع المتقدم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٤]
وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤)
وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي وأيّ شيء لهم في انتفاء العذاب عنهم، وحالهم الصد عن المسجد الحرام، كما صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلّم عام الحديبية. ومن صدهم عنه إلجاء رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين إلى الهجرة.
قال القاشاني: أي ليس عدم نزول العذاب لعدم استحقاقهم لذلك بحسب أنفسهم، بل إنهم مستحقون بذواتهم، لصدودهم، وصدهم المستعدين، وعدم بقاء الخيرية فيهم. ولكن يمنعه وجودك ووجود المؤمنين المستغفرين معك فيهم. ثم قال: واعلم أن الوجود الإمكاني يتبع الخير الغالب، لأن الوجود الواجبيّ هو الخير المحض. فما رجع خيره على شره فهو موجود بوجوده بالمناسبة الخيرية، وإذا غلب الشر لم تبق المناسبة، فلزم استئصاله وإعدامه. فهم ما داموا على الصورة الاجتماعية كان الخير فيهم غالبا، فلم يستحقوا الدمار بالعذاب. وأما إذا تفرقوا فما بقي إلا شرهم خالصا فوجب تدميرهم، كما وقع في وقعة بدر. ومن هذا يظهر تحقيق المعنى الثاني في قوله تعالى: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٢٩.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٣/ ٢٠.
[الأنفال: ٢٥]، لغلبة الشرع على المجموع حينئذ. انتهى.
وقوله تعالى: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ ردّ لما كانوا يقولون: نحن ولاة البيت والحرم، نصدّ من نشاء، وندخل من نشاء. أي ما كانوا مستحقين ولاية أمره، لشركهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ أي من الشرك، فلهم أن يصدوا المفسدين وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أي أنهم لا ولاية لهم عليه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٥]
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً أي تصفيرا وَتَصْدِيَةً أي تصفيقا بالأكفّ.
روى ابن أبي حاتم أن ابن عمر رضي الله عنهما حكى فعلهم، فصفر، وأمال خده، وصفق بيديه.
وعن ابن عمر أيضا قال: إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفرون ويصفقون.
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، يصفرون ويصفقون.
وعن مجاهد أنهم كانوا يصنعون ذلك ليخلطوا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم صلاته.
وقال الزهري: يستهزئون بالمؤمنين.
وهذه الجملة إما معطوفة على وَهُمْ يَصُدُّونَ، فيكون لتقرير استحقاقهم للعذاب، أو على قوله: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، فيكون تقريرا لعدم استحقاقهم لولايته.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما وجه هذا الكلام؟ قلت: هو نحو من قوله (أي الفرزدق) :
وما كنت أخشى أن يكون عطاؤه أداهم سودا أو محدرجة سمرا
والمعنى أنه وضع القيود والسياط موضع العطاء. ووضعوا المكاء والتصدية موضع الصلاة.
287
وذلك أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة، الرجال والنساء، وهم مشبكون بين أصابعهم، يصفرون فيها ويصفقون. وكانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في صلاته، يخلطون عليه. ما كنت أخشى، أي: ما كنت أعلم. وأداهم: جمع (أدهم) وهو الأسود من الحيات. والعرب تذكر (الأدهم) وتريد به (القيد) كما في قصة القبعثري. والمحدرجة: السياط. انتهى.
فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ أي اعتقادا وعملا، وفيه إشعار بأن هذا الفعل المبطل لحرمة البيت، كفر، للاستهانة بشعائره تعالى والسخرية بها. والعذاب المذكور هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي، كما قاله غير واحد من السلف، واختاره ابن جرير.
تنبيه:
قال ابن القيّم في (إغاثة اللهفان) : المتقربون إلى الله بالصفير والتصفيق، والمخلطون به على أهل الصلاة والذكر والقراءة، أشباه هؤلاء المشركين قال ابن عرفة وابن الأنباري: المكاء والتصدية ليسا بصلاة، ولكن الله تعالى أخبر أنهم جعلوا، مكان الصلاة التي أمروا بها، المكاء والتصدية. فألزمهم ذلك عظيم الأوزار. وهذا كقولك: زرته فجعل جفائي صلتي، أي أقام الجفاء مقام الصلة. والمقصود أن المصفقين والصفارين في يراع أو مزمار، ونحوه، فيهم شبه من هؤلاء، ولو أنه مجرد الشبه الظاهر، فلهم قسط من الذم، بحسب تشبههم بهم، وإن لم يتشبهوا بهم في جميع مكائهم وتصديتهم، والله سبحانه لم يشرع التصفيق «١» للرجال وقت الحاجة إليه في الصلاة إذا نابهم أمر، بل أمروا بالعدول عنه إلى التسبيح، لئلا يتشبهوا بالنساء. فكيف إذا فعلوه، لا لحاجة، وقرنوا به أنواعا من المعاصي قولا وفعلا.
انتهى.
وقال قبله: ومن مكائد عدوّ الله ومصايده التي كاد بها من قلّ نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد بها قلوب الجاهلين والمبطلين، سماع المكاء والتصدية، والغناء بالآلات المحرمة الذي يصدّ القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان.
(١)
أخرجه البخاري في: الأذان، ٤٨- باب من دخل ليؤم الناس فجاء الإمام الأول، فتأخر الآخر أو لم يتأخر جازت صلاته، والحديث رقم ٤٢٩ عن سهل بن سعد الساعدي وهو حديث طويل، وفيه قوله صلّى الله عليه وسلّم «من رابه شيء في صلاته فليسبّح. فإنه إذا سبّح التفت إليه. وإنما التصفيق للنساء»
. [.....]
288
وقال شيخه تقي الدين بن تيمية رحمه الله تعالى، في بعض فتاويه: وأما اتخاذ التصفيق والغناء والضرب بالدفوف والنفخ بالشبابات والاجتماع على ذلك، دينا وطريقا إلى الله وقربة، فهذا ليس من دين الإسلام، وليس مما شرعه لهم نبيّهم محمد صلى الله عليه وسلّم، ولا أحد من خلفائه، ولا استحسن ذلك أحد من أئمة المسلمين. بل ولم يكن أحد من أهل الدين يفعل ذلك على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا عهد أصحابه، ولا تابعيهم بإحسان، ولا تابعي التابعين. بل لم يكن أحد من أهل الدين من الأعصار الثلاثة، لا بالحجاز ولا بالشام ولا باليمن ولا العراق ولا بخراسان ولا المغرب ولا مصر يجتمع على مثل هذا السماع، وإنما ابتدع في الإسلام بعد القرون الثلاثة، ولهذا قال الشافعيّ- لما رأى ذلك-: خلفت ببغداد شيئا أحدثته الزنادقة يسمونه (التغبير)، يصدون به الناس عن القرآن. وسئل عنه أحمد فقال: أكرهه، هو محدث. قيل، أتجلس معهم؟ قال: لا! وكذلك كرهه سائر أئمة الدين، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه. فلم يحضره مثل إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الدارانيّ ولا أحمد بن أبي الحواريّ، ولا السري السقطي، وأمثالهم. والذين حضروه من الشيوخ من المحمودين، تركوه في آخر أمرهم. وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما ذكر ذلك الشيخ عبد القادر، والشيخ أبو البيان وغيرهما من الشيوخ: وما ذكره الإمام الشافعيّ رضي الله عنهم أنه من إحداث الزنادقة، من كلام إمام خبير بأصول الإسلام. فإن هذا السماع لم يرغّب فيه، ويدعو إليه في الأصل، إلا من هو متهم بالزندقة، كابن الراونديّ والفارابيّ وابن سينا وأمثالهم.
ثم قال رحمه الله: نعم! قد حضره أقوام من أهل الإرادة والمحبة، وممن له نصيب في المحبة، لما فيه من التحريك لهم، ولم يعلموا غائلته، ولا عرفوا مغبته.
كما دخل قوم من الفقهاء في أنواع من كلام الفلاسفة المخالف لدين الإسلام ظنّا منهم أنه حق موافق، ولم يعلموا غائلته. ولا عرفوا مغبته، فإن القيام بحقائق الدين علما وقولا وعملا وذوقا وخبرة لا يستقل به أكثر الناس، ولكن الدليل الجامع هو الاعتصام بالكتاب والسنة.
ثم قال رحمه الله: ومن كان له خبرة بحقائق الدين، وأحوال القلوب، ومعارفها وأذواقها، عرف أن سماع المكاء والتصدية لا يجلب للقلب منفعة ولا مصلحة، إلا وفي ضمن ذلك من المفسدة ما هو أعظم منه. فهو للروح، كالخمر للجسد، يفعل في النفوس، أعظم ما تفعله حميّا الكؤوس.
289
ثم قال: وبالجملة فعلى المؤمن أن يعلم أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم لم يترك شيئا يقرّب إلى الجنة، إلا وقد حدث به، ولا شيئا يبعد عن النار، إلا وقد حدث به. وإن هذا السماع، لو كان مصلحة، لشرعه الله ورسوله، فإن الله يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ.. [المائدة: ٣] الآية. وإذا وجد السامع به منفعة لقلبه، ولم يجد شاهد ذلك من كتاب الله ولا من سنة رسوله، لم يلتفت إليه. كما أن الفقيه إذا رأى قياسا لا يشهد له الكتاب والسنة، لم يلتفت إليه انتهى.
وقد سلف لنا شيء من هذا البحث عند قوله تعالى: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ فليراجع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٦]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ نزلت فيمن ينفق على حرب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من المشركين، وبيان سوء مغبة هذا الإنفاق، وقد ذهب الضحاك إلى أنه عني بها المطعمون منهم يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كل واحد منهم، كل يوم عشرة جزر.
وروي عن مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم أنها نزلت في أبي سفيان، ونفقته الأموال في (أحد) لقتال رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
روى محمد بن إسحاق عن الزهري أنه لما أصيبت قريش يوم بدر، ورجع فلّهم إلى مكة، ورجع أبو سفيان بعيره، مشى رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر، فكلموا أبا سفيان، ومن كانت له في تلك العير تجارة، قالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم، وقتل خياركم، فأعينونا بهذا المال على حربه، لعلنا أن ندرك منه ثأرا بمن أصيب منا، ففعلوا. قال: ففيهم، كما ذكر عن ابن عباس، أنزلت الآية.
ولا يخفى شمول الآية لجميع ذلك. واللام في (ليصدوا) لام الصيرورة، ويصح أن تكون للتعليل، لأن غرضهم الصد عما هو سبيل الله بحسب الواقع، وإن لم يكن كذلك في اعتقادهم. وسبيل الله طريقه وهو دينه، واتباع رسوله، ولما تضمن الموصول معنى الشرط، والخبر بمنزلة الجزاء، وهو فَسَيُنْفِقُونَها اقترن
بالفاء. ويُنْفِقُونَ إما حال، أو بدل من كَفَرُوا وفي تضمن الجزاء من معنى الإعلام والإخبار، التوبيخ على الإنفاق، والإنكار عليه، كما في قوله: وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ [النحل: ٥٣]. وفي تكرير الإنفاق في شبه الشرط والجزاء، الدلالة على كمال سوء الإنفاق، كما في قوله: إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آل عمران: ١٩٢]. وقولهم: من أدرك الصّمّان. فقد أدرك المرعى. والمعنى: الذين ينفقون أموالهم لإطفاء نور الله، والصدّ عن اتباع رسوله صلّى الله عليه وسلّم، سيعلمون عن قريب سوء مغبة ذلك الإنفاق، وانقلابه إلى أشد الخسران، من القتل والأسر في الدنيا، والنكال في العقبي: قال المتنبي:
إذا الجود لم يرزق خلاصا من الأذى فلا الحمد مكسوبا ولا المال باقيا
(والأذى هنا المنّ) وفي جعل ذات الأموال تصير حَسْرَةً أي ندما وتأسفا- وهي عاقبة أمرها- مبالغة. والمراد بالغلبة في قوله: ثُمَّ يُغْلَبُونَ الغلبة التي استقر عليها الأمر، وإن كانت الحرب بينهم سجالا قبل ذلك. فإن قلت: غلبة المسلمين متقدمة على تحسرهم، بالزمان، فلم أخرت بالذكر؟ قلت: المراد أنهم يغلبون في مواطن أخر بعد ذلك. كذا في (العناية).
تنبيه:
قال بعضهم ثمرة الآية خطر المعاونة على معصية الله تعالى، وأن الإنفاق في ذلك معصية، فيدخل في هذا معاونة الظلمة على حركاتهم في البغي والظلم، وكذلك بيع السلاح والكراع، ممن يستعين بذلك على حرب المسلمين.
وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٧]
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ أي الكافر من المؤمن، أو الفساد من الصلاح.
واللام متعلقة ب يُحْشَرُونَ أو يُغْلَبُونَ. أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. مما أنفقه المسلمون في نصرته، واللام متعلقة بقوله ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً، وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ
أي: فيجمعه ويضم بعضه إلى بعض، حتى يتراكبوا لفرط ازدحامهم، أو يضم إلى الكافر ما أنفقه، ليزيد به عذابه، كمال الكانزين أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، لأنه مقدر بالفريق الخبيث، أو إلى المنفقين هُمُ الْخاسِرُونَ لخسرانهم أنفسهم وأموالهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٨]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني أبا سفيان وأصحابه. فالتعريف فيه للعهد أو للجنس، فيدخل هؤلاء دخولا أوليّا إِنْ يَنْتَهُوا أي عن الكفر وقتال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ أي من الكفر والمعاصي وَإِنْ يَعُودُوا إلى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ أي الذين تحزبوا على الأنبياء بالتدمير، أو الذين حاق بهم مكرهم يوم بدر. وقوله فَقَدْ مَضَتْ إلخ دليل الجزاء. والتقدير: انتقمنا منهم فقد مضت إلخ.
تنبيه:
استدل بالآية على أن
الإسلام يجبّ ما قبله، كما جاء في الحديث «١»
وأن الكافر إذا أسلم، لا يخاطب بقضاء ما فاته من صلاة أو زكاة أو صوم أو إتلاف مال أو نفس. وأجرى المالكية ذلك كله في المرتد إذا تاب، لعموم الآية، واستدلوا بها على إسقاط ما على الذمي من جزية وجبت عليه قبل إسلامه. أخرج ابن أبي حاتم من طريق ابن وهب عن مالك: لا يؤاخذ كافر بشيء صنعه في كفره إذا أسلم، ولم يعد طلاقهم شيئا، لأن الله تعالى قال إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ كذا في (الإكليل).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٣٩]
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩)
وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي شرك أو إضلال لغيرهم، وفتن منهم للمؤمنين عن دينهم وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ أي يخلص التوحيد لله، فلا يعبد غيره فَإِنِ انْتَهَوْا أي عن الكفر والمعاصي ظاهرا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ أي ببواطنهم
(١) أخرجه الإمام أحمد في المسند ٤/ ١٩٩، من حديث طويل، عن عمرو بن العاص.
بَصِيرٌ أي فيجازيهم، وعليه حسابهم، فكفوا عنهم، وإن لم تعلموا ببواطنهم.
كقوله تعالى فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ.. [التوبة: ٥] الآية- وفي الآية الأخرى فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ [الأحزاب: ٥]
وفي الصحيحين «١» عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزّ وجلّ».
وفي الصحيح «٢» أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لأسامة: لما علا ذلك الرجل بالسيف، فقال: لا إله إلا الله، فضربه فقتله، فذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال لأسامة: أقتلته بعد ما قال:
لا إله إلا الله، فكيف تصنع ب (لا إله إلا الله) يوم القيامة؟ فقال: يا رسول الله! إنما قالها تعوّذا، فقال: هلا شققت عن قلبه؟ وجعل يقول ويكرر عليه: من لك ب (لا إله إلا الله) يوم القيامة؟ قال أسامة: حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٠]
وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته نِعْمَ الْمَوْلى فلا يضيع من تولاه وَنِعْمَ النَّصِيرُ فلا يغلب من نصره.
ثم بيّن تعالى مصرف ما أحله لهذه الأمة وخصها به، وهو الغنائم، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤١]
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١)
وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ أي قلّ أو كثر من الكفار فَأَنَّ لِلَّهِ أي الذي
(١) أخرجه البخاري في: الإيمان، ١٧- باب فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، حديث رقم ٢٤، عن ابن عمر.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ٣٦.
(٢) أخرجه البخاري في: المغازي: ٤٥- باب بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أسامة بن زيد إلى الحرقات من جهينة، حديث رقم ١٩٢٠.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث رقم ١٥٨.
293
منه النصر المتفرع عليه الغنيمة خُمُسَهُ شكرا له على نصره وإعطائه الغنيمة وَلِلرَّسُولِ أي الذي هو الأصل في أسباب النصر وَلِذِي الْقُرْبى وهم بنو هاشم والمطلب وَالْيَتامى أي من مات آباؤهم ولم يبلغوا، لأنهم ضعفاء وَالْمَساكِينِ لأنهم أيضا ضعفاء كاليتامى وَابْنِ السَّبِيلِ وهو المسافر الذي قطع عليه الطريق ويريد الرجوع إلى بلده، ولا يجد ما يتبلغ بهم.
وفي هذه الآية مسائل:
الأولى- قال الفقهاء: (الغنيمة) المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب، أي ما ظهر عليه المسلمون بالقتال. وهل هي والفيء والنفل شيء واحد أو لا؟ وسنفصله في آخر المسائل.
الثانية- (ما) في أَنَّما بمعنى الذي، والعائد محذوف، وكان حقها، على أصولهم، أن تكتب مفصولة. قال الشهاب: وقد أجيز في (ما) هذه أن تكون شرطية.
الثالثة- قوله تعالى: مِنْ شَيْءٍ، بيان للموصول، محله النصب، على أنه حال من عائد الموصول، قصد به الاعتناء بشأن الغنيمة، وألا يشذ عنها شيء، أي ما غنمتموه كائنا ما كان يقع عليه اسم الشيء، حتى الخيط والمخيط.
الرابعة- (الخمس) بضم الميم، وسكونها، لغتان قد قرئ بهما.
الخامسة- أفادت الآية أن الواجب في المغنم تخميسه، وصرف الخمس إلى من ذكره الله تعالى، وقسمة الباقي بين الغانمين بالعدل، للراجل سهم، وللفارس ذي الفرس العربيّ ثلاثة أسهم، سهم له، وسهمان لفرسه. هكذا قسم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عام خيبر. ومن الفقهاء من يقول: للفارس سهمان. والأول هو الذي دلت عليه السنة الصحيحة، ولأن الفرس يحتاج إلى مؤونة نفسه وسائسه، ومنفعة الفارس به أكثر من منفعة رجلين. ومنهم من يقول: يسوى بين الفرس العربيّ والهجين في هذا.
الهجين يسمى البرذون والأكديش. ويجب قسمتها بينهم بالعدل، فلا يحابي أحد، لا لرئاسته ولا لنسبه ولا لفضله، كما كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وخلفاؤه يقسمونها.
وفي صحيح البخاري «١»
أن سعد بن أبي وقاص رأى أنّ له فضلا على من دونه،
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ٧٦- باب من استعان بالضعفاء والصالحين في الحرب، حديث رقم ١٣٨٤.
294
فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم؟
وفي مسند أحمد «١» أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله الرجل يكون حامية القوم. يكون سهمه وأسهم غيره سواء؟ قال: ثكلتك أمك ابن أمّ سعد! وهل ترزقون وتنصرون إلا بضعفائكم. كذا في (السياسة الشرعية) لابن تيمية.
وفي (زاد المعاد) لابن القيّم: كان صلّى الله عليه وسلّم إذا ظفر بعدوّه، أمر مناديا فجمع الغنائم كلها، فبدأ بالأسلاب فأعطاها لأهلها، ثم أخرج خمس الباقي فوضعه حيث أراه الله وأمره به من مصالح الإسلام، ثم يرضخ من الباقي لمن لا سهم له من النساء والصبيان والعبيد، ثم قسم الباقي بالسوية بين الجيش: للفارس ثلاثة أسهم، وللراجل سهم. وكان ينفل من صلب الغنيمة بحسب ما يراه من المصلحة. وقيل: بل كان النفل من الخمس. وجمع لسلمة بن الأكوع، في بعض مغازيه، بين سهم الراجل والفارس، فأعطاه خمسة أسهم، لعظم غنائه في تلك الغزوة.
قال ابن تيمية: وما زالت الغنائم تقسم بين الغانمين في دولة بني أمية وبني العباس، لما كان المسلمون يغزون الروم والترك والبربر.
السادسة- ذهب الجمهور إلى أن ذكر الله تعالى في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ للتعظيم، أي تعظيم الرسول، كما في قوله تعالى: وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: ٦٢]. أو لبيان أنه لا بد في الخمسة من إخلاصها لله تعالى، وأن المراد قسمة الخمس على المعطوفين عليه، وتمسك بعضهم بظاهر ذلك، فأوجب سهما سادسا لله تعالى، يصرف في وجوه الخير، أو يؤخذ للكعبة قال: لأن كلام الحكيم لا يعرّى عن الفائدة، ولأنه ثبت اختصاصه في آية الصدقات في قوله تعالى: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ [التوبة: ٦٠]، فكذا هنا. وهذا مروي عن أبي العالية، والربيع والقاسم وأسباطه ويؤيد ما للجمهور، ما
رواه البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شقيق عن رجل قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وهو بوادي القرى، وهو معترض فرسا، فقلت: يا رسول الله! ما تقول في الغنيمة؟ فقال: لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش. قلت:
فما أحد أولى به من أحد؟ قال، لا، ولا السهم تستخرجه من جيبك، ليس أنت أحق به من أخيك المسلم. ومن لطائف الحسن أنه أوصى بالخمس من ماله وقال: ألا
(١) أخرجه في المسند ١/ ١٧٣، والحديث رقم ١٤٩٣.
295
أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؟
السابعة- خمس النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الذي جعله الله له، كان أمره في حياته مفوّضا إليه، يتصرف فيه بما شاء، ويرده في أمته كيف شاء.
روى الإمام أحمد «١»
أن أبا الدرداء قال لعبادة بن الصامت: يا عبادة! كلمات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس؟ فقال عبادة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى بهم في غزوهم إلى بعير من المقسم، فلما سلّم قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فتناول وبرة بين أنملتيه فقال: إن هذه من غنائمكم، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم، فأدوا الخيط والمخيط، وأكبر من ذلك وأصغر، ولا تغلّوا فإن الغلول نار وعار على أصحابه في الدنيا والآخرة، وجاهدوا الناس، في الله تبارك وتعالى، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر، وجاهدوا في سبيل الله، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة. ينجي الله تبارك وتعالى به من الغم والهم.
قال ابن كثير: هذا حديث حسن عظيم.
وروى أبو داود «٢» والنسائي عن عمرو بن عبسة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلّى بهم إلى بعير من المغنم، فلما سلّم أخذ وبرة من جنب البعير ثم قال: ولا يحلّ لي من غنائمكم مثل هذا إلا الخمس والخمس مردود عليكم
- واستدل به على أنه عليه الصلاة والسلام كان يصرفه لمصالح المسلمين.
وكان له صلّى الله عليه وسلّم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه، عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك، رواه أبو داود «٣» عن محمد بن سيرين والشعبي مرسلا، وأحمد والترمذي عن ابن عباس.
وللعلماء فيما يصنع بخمسه صلّى الله عليه وسلّم من بعده مذاهب: فمن قائل: يكون لمن يلي الأمر من بعده. قال ابن كثير: روي هذا عن أبي بكر وعليّ وقتادة وجماعة. وجاء
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٣١٦.
(٢) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٤٩- باب في الإمام يستأثر بشيء من الفيء لنفسه، حديث رقم ٢٧٥٥.
(٣) أخرجه أبو داود في: الخراج والإمارة والفيء، ٢١- باب ما جاء في سهم الصفي، الحديث رقم ٢٩٩١ عن عامر الشعبيّ، والحديث رقم ٢٩٩٢ عن محمد بما يقارب هذا اللفظ.
296
فيه حديث مرفوع. ومن قائل: يصرف في مصالح المسلمين. قال الأعمش عن إبراهيم: كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الكراع والسلاح. ومن قائل:
بأنه يصرف لقرابته صلّى الله عليه وسلّم. ومن قائل: بأنه مردود على بقية الأصناف: ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. واختاره ابن جرير. وللمسألة حظ من النظر.
الثانية- أجمعوا على أن المراد ب (ذوي القربى) قرابته صلّى الله عليه وسلّم. وذهب الجمهور إلى أن سهم ذوي القربى يصرف إلى بني هاشم وبني المطلب خاصة. لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية، وفي أول الإسلام ودخلوا معهم في الشعب غضبا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وحماية له. مسلمهم طاعة لله ولرسوله، وكافرهم حمية للعشيرة، وأنفة وطاعة لأبي طالب عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل، وإن كانوا ابني عمهم، لم يوافقوهم، بل حاربوهم ونابذوهم، ومالئوا بطون قريش على حرب الرسول، ولهذا كان ذمهم أبو طالب في قصيدته بقوله منها:
جزى الله عنّا عبد شمس ونوفلا عقوبة شرّ عاجلا غير آجل
نوفل: هو ابن خويلد. كان من شياطين قريش. قتله عليّ بن أبي طالب يوم بدر).
بميزان قسط لا يخيس شعيرة له شاهد من نفسه غير عائل
(لا يخيس، من قولهم: خاس بالعهد إذا نقضه وأفسده. والعائل: الحائر)
لقد سفهت أحلام قوم تبدّلوا بني خلف قيضا بنا والغياطل
(قيضا: عوضا. والغياطل: بنو سهم) :
ونحن الصّميم من ذؤابة هاشم وآل قصيّ في الخطوب الأوائل
(الصميم: الخالص من كل شيء. والذؤابة: الجماعة العالية، وأصله الخصلة من شعر الرأس).
وقال جبير بن مطعم بن عديّ بن نوفل: مشيت أنا وعثمان بن عفان، إلى النبيّ صلى الله عليه وسلّم، فقلنا: أعطيت بني المطلب من خمس خيبر، وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة منك؟ فقال: إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد- رواه مسلم.
وفي رواية: أنهم لم يفارقوني في جاهلية ولا إسلام- أفاده ابن كثير.
وقد روي عن ابن عباس وزين العابدين والباقر أنه يسوّى في العطاء بين غنيّهم وفقيرهم، ذكورهم وإناثهم، لأن اسم القرابة يشملهم، ولأنهم عوّضوه لما حرمت
297
عليهم الزكاة، وقياسا على المال المقرّ به لبني فلان. واعتبر الشافعي أن سهمهم استحق بالقرابة، فأشبه الميراث. قال: فللذكر منه مثل حظ الأنثيين، انتهى.
وقال في (العناية) : إنه كان لعبد مناف، جد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم خمس بنين: هاشم وعبد شمس ونوفل والمطلب وأبو عمرو، وكلهم أعقبوا إلا أبا عمرو.
التاسعة- سهم اليتامى: قيل يخص به فقراؤهم، وقيل: يعم الأغنياء والفقراء.
حكاه ابن كثير. والأظهر الثاني. والسرّ فيه ما قدمناه في سورة البقرة، فتذكره فإنه مهم.
العاشرة- المساكين: المحاويج الذين لا يجدون ما يسدّ خلتهم ويكفيهم.
وابن السبيل: ذكرنا معناه أولا.
الحادية عشرة- قال بعضهم: يقتضي ما ذكر في هذه الآية، وما في صدر هذه السورة من الأنفال، وما في سورة الحشر من قوله تعالى: ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ [الحشر: ٦- ٧]، أن القسمة في الأموال المظفور بها ثلاثية: نفل: وغنيمة، وفيء.
ويقتضي إطلاق جعل النفل لله ولرسوله، والغنيمة لمن ذكر مخمسة، والفيء لمن ذكر بلا قيد التخميس- أن لكل من الثلاثة حكما يخالف الآخر، وإن النفل ما يعطى لمن له من العناية والمقاتلة ما ليس لغيره، وفاء لعدته بذلك، قبل إحراز الغنيمة كالسّلب. وإن الغنيمة ما أحرز بالقتال، سوى ما شرط التنفيل به، لأنه لا بخمس.
والفيء ما أخذ من الكفار بغير قتال، كالأموال التي يصالحون عليها، والجزية والخراج، ونحو ذلك، وإلى هذا التفصيل ذهب الجمهور. وذهب بعضهم إلى اتحاد الثلاثة، وعدم التفرقة بينها، وإلى دخولها في الغنيمة، وقال: ما أطلق في آية الأنفال، وآية الحشر، مقيد بآية الغنيمة هذه. وهذا هو مراد قول بعضهم: إنهما منسوختان بهذه، بمعنى أن إطلاقهما مقيد بهذه. والله أعلم.
وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ أي فاعملوا بما ذكر، وارضوا بهذه القسمة فالإيمان يوجب العمل بالعلم، والرضا بالحكم.
وقد جاء في الصحيحين «١» من حديث عبد الله بن عباس، في حديث وفد عبد القيس: أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: «وآمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: آمركم
(١) أخرجه البخاري في: الإيمان، ٤٠- باب أداء الخمس من الإيمان، حديث رقم ٤٨.
وأخرجه مسلم في: الإيمان، حديث ٢٣ و ٢٤ و ٢٥.
298
بالإيمان بالله. ثم قال: هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وأن تؤدوا الخمس من المغنم»،
الحديث- فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان، وقد بوّب البخاري على ذلك في باب الإيمان من صحيحه، فقال: (باب أداء الخمس من الإيمان) وساق الحديث المذكور.
وقوله تعالى: وَما أَنْزَلْنا معطوف على بِاللَّهِ أي إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل عَلى عَبْدِنا أي محمد عليه الصلاة والسلام، أي من الآيات والملائكة والنصر يَوْمَ الْفُرْقانِ أي يوم بدر، فإنه فرق فيه بين الحق والباطل. و (الفرقان) بمعناه اللغوي، والإضافة فيه للعهد يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ يعني جمع المؤمنين وجمع الكافرين. فالتعريف للعهد. وكان التقاؤهما يوم الجمعة. لسبع عشرة مضت من رمضان والمؤمنون يومئذ ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة، فهزم الله المشركين، وقتل منهم زيادة على سبعين، وأسر منهم مثل ذلك وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير، كما فعل بكم يوم بدر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٢]
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢)
إِذْ أَنْتُمْ بدل من (يوم الفرقان)، أو ظرف لمحذوف، أي: اذكروا إذ أنتم يا معشر المؤمنين بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا يعني بشفير الوادي الأدنى من المدينة وَهُمْ يعني المشركين أبا جهل وأصحابه بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى أي البعدى عن المدينة، مما يلي مكة وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أي العير التي فيها أبو سفيان، بما معه من التجارة التي كان الخروج لأجلها، أسفل من موضع المؤمنين إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من (بدر).
لطيفة:
قال الزمخشري: فإن قلت: ما فائدة هذا التوقيت، وذكر مراكز الفريقين، وأن
299
العير كانت أسفل منهم؟ قلت: الفائدة فيه الإخبار عن الحال الدالة على قوة شأن العدوّ وشوكته وتكامل عدته، وتمهّد أسباب الغلبة له، وضعف شأن المسلمين، والتياث أمرهم، وأن غلبتهم في مثل هذه الحال، ليست إلا صنعا من الله سبحانه، ودليلا على أن ذلك أمر لم يتيسر إلا بحوله وقوته، وباهر قدرته، وذلك أن العدوة القصوى الّتي أناخ بها المشركون، كان فيها الماء، وكانت أرضا لا بأس بها. ولا ماء بالعدوة الدنيا، وهي خبار (ما لان من الأرض واسترخى) تسوخ فيه الأرجل، ولا يمشي فيها إلا بتعب ومشقة، وكانت العير وراء ظهور العدوّ، مع كثرة عددهم، فكانت الحماية دونها تضاعف حميّتهم، وتشحذ في المقاتلة عنها نياتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحرب بظعنهم وأموالهم، ليبعثهم الذبّ عن الحريم، والغيرة على الحرب، على بذل جهيداهم في القتال، وألا يتركوا وراءهم ما يحدّثون أنفسهم بالانحياز إليه، فيجمع ذلك قلوبهم، ويضبط همومهم، ويوطن نفوسهم، على ألا يبرحوا موطنهم، ولا يخلوا مراكزهم، ويبذلوا منتهى نجدتهم، وقصارى شدتهم، وفيه تصوير ما دبّر سبحانه من أمر وقعة بدر، ليقضي أمرا كان مفعولا، من إعزاز دينه، وإعلاء كلمته، حين وعد المسلمين إحدى الطائفتين، مبهمة غير مبيّنة، حتى خرجوا ليأخذوا العير، راغبين في الخروج، وشخص بقريش مرعوبين مما بلغهم من تعرّض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأموالهم، حتى نفروا ليمنعوا غيرهم، وسبب الأسباب حتى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا، وهؤلاء بالعدوة القصوى، ووراءهم العير يحامون عليها، حتى قامت الحرب على ساق، وكان ما كان، انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وهذا الفصل من خواص حسنات الزمخشري، وتنقيبه عن أسرار الكتاب العزيز.
وقوله تعالى: وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي ولو تواعدتم أنتم وأهل مكة على موعد تلتقون فيه للقتال، لخالف بعضكم بعضا، فثبطكم قلتكم وكثرتهم، على الوفاء بالموعد، وثبطهم ما في قلوبهم من تهيّب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين، فلم يتفق لكم من التلاقي ما وفقه الله وسبب له. قاله الزمخشري.
وفي حديث كعب بن مالك قال: إنما خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون يريدون عبر قريش، حتى جمع الله بينهم وبين عدوّهم على غير ميعاد.
وروى ابن جرير عن عمير بن إسحاق قال: أقبل أبو سفيان في الركب من الشام، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، فالتقوا ببدر، ولا يشعر
300
هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء، حتى التقى السقاة وشهد الناس بعضهم إلى بعض.
وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي ولكن جمع بينكم على هذه الحال على غير ميعاد، ليقضي ما أراد من إعزاز الإسلام وأهله، وإذلال الشرك وأهله، من غير ملأ منكم. وقوله كانَ مَفْعُولًا أي حقيقا بأن يفعل. وقيل: كانَ بمعنى (صار) أي صار مفعولا، بعد أن لم يكن. وقيل: إنه عبر به عنه لتحققه حتى كأنه مضى. وقوله تعالى: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ أي إنما جمعكم مع عدوّكم في مكان واحد على غير ميعاد، لينصركم عليهم، ويرفع حجة الحق على الباطل، ليصير الأمر ظاهرا، والحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة، فحينئذ يهلك من هلك، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره، أنه مبطل لقيام الحجة عليه. ويؤمن من آمن عن حجة وبصيرة ويقين، بأنه دين الحق، الذي يجب الدخول فيه، والتمسك به. وذلك أن ما كان من وقعة (بدر)، من الآيات الغرّ المحجّلة، التي من كفر بعدها، كان مكابرا لنفسه، مغالطا لها.
لطائف:
الأولى- قوله تعالى لِيَهْلِكَ بدل من لِيَقْضِيَ أو متعلق ب مَفْعُولًا.
الثانية- الحياة والهلاك استعارة للكفر والإسلام، وقرئ لِيَهْلِكَ بفتح اللام.
الثالثة- حَيَّ يقرأ بتشديد الياء، وهو الأصل، لأن الحرفين متماثلان متحركان، فهو مثل شدّ ومدّ. ومنه قول عبيدة بن الأبرص:
عيّوا بأمرهم كما... عيّت ببيضتها الحمامه
ويقرأ بالإظهار وفيه وجهان:
أحدهما- أن الماضي حمل على المستقبل، وهو (يحيا) فكما لم يدغم في المستقبل، لم يدغم في الماضي، وليس كذلك شدّ ومدّ، فإنه يدغم فيهما جميعا.
والوجه الثاني: أن حركة الحرفين مختلفة، فالأولى مكسورة، والثانية مفتوحة، واختلاف الحركتين، كاختلاف الحرفين، ولذلك أجازوا في الاختيار: لححت عليه، وضبب البلد، إذا كثر ضبة، ويقوي ذلك أن الحركة الثانية عارضة، فكأن الياء الثانية ساكنة، ولو سكنت لم يلزم الإدغام، وكذلك إذا كانت في تقدير الساكن، والياءان أصل، وليست الثانية بدلا من (واو)، فأما الحيوان، ف (الواو) فيه بدل من الياء. وأما
301
الحواء، فليس من لفظ (الحية)، بل من (حوى يحوي) إذا جمع- قاله أبو البقاء-.
وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ أي بكفر من كفر وعقابه، وإيمان من آمن وثوابه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٣]
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا منصوب ب (اذكر)، أو بدل آخر من (يوم الفرقان). وذلك أن الله عزّ وجلّ أراه إياهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتا لهم وتشجيعا على عدوّهم وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ أي لجبنتم وهبتم الإقدام وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أي أمر الإقدام والإحجام، فتفرقت كلمتكم وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أي عصم وأنعم بالسلامة من الفشل والتنازع بتأييده وعصمته إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ أي يعلم ما سيكون فيها من الجرأة والجبن والصبر والجزع. ولذلك دبر ما دبر.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٤]
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وذلك تصديقا لرؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وليعاينوا ما أخبرهم به، فيزداد يقينهم، ويجدّوا، ويثبتوا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه: لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال: أراهم مائة! فأسرنا رجلا منهم، فقلنا له: كم كنتم؟
قال: ألفا! - رواه ابن أبي حاتم وابن جرير وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ أي في اليقظة، حتى قال أبو جهل: إن محمدا وأصحابه أكلة جزور مثل في القلة، ك (أكلة رأس) أي أنهم لقلتهم يكفيهم ذلك. و (أكلة) بوزن (كتبة)، جمع آكل، بوزن فاعل، والجزور الناقة، كذا في (العناية). لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً أي من إظهار الخوارق الدالة على صدق دين الإسلام، وكذب دين الكفر كانَ مَفْعُولًا أي كالواجب فعله على الحكيم، لما فيه من الخير الكثير. قاله المهايمي.
302
لطائف:
الأولى- قال الزمخشري: فإن قلت: الغرض في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهر، فما الغرض في تقليل المؤمنين في أعينهم؟ قلت: قد قللهم في أعينهم قبل اللقاء، ثم كثّرهم فيها بعده، ليجترؤوا عليهم، قلة مبالاة بهم، ثم تفجؤهم الكثرة، فيبهتوا ويهابوا، وتفلّ شوكتهم، حين يرون ما لم يكن في حسابهم وتقديرهم، وذلك قوله: يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ [آل عمران: ١٣] ولئلا يستعدوا لهم، وليعظم الاحتجاج عليهم باستيضاح الآية البينة من قلتهم أولا وكثرتهم آخرا.
الثانية- قال الزمخشري أيضا: فإن قلت: بأي طريق يبصرون الكثير قليلا؟
قلت: بأن يستر الله عنهم بعضه بساتر، أو يحدث في عيونهم ما يستقلون به الكثير، كما أحدث في أعين الحول ما يرون به الواحد اثنين قيل لبعضهم: إن الأحول يرى الواحد اثنين- وكان بين يديه ديك واحد- فقال: مالي لا أرى هذين الديكين أربعة؟ انتهى.
قال الناصر في (الانتصاف) : وفي هذا- يعني كلام الزمخشري- دليل بيّن على أن الله تعالى هو الذي يخلق الإدراك في الحاسة، غير موقوف على سبب من مقابلة، أو قرب، أو ارتفاع حجب، أو غير ذلك. إذ لو كانت هذه الأسباب موجبة للرؤية عقلا، لما أمكن أن يستر عنهم البعض، وقد أدركوا البعض، والسبب الموجب مشترك. فعلى هذا يجوز أن يخلق الله الإدراك مع اجتماعها، فلا ربط إذن بين الرؤية ونفيها في مقدرة الله تعالى؟ وهي رادّة على القدرية المنكرين لرؤية الله تعالى، بناء على اعتبار هذه الأسباب في حصول الإدراك عقلا، وأنها تستلزم الجسمية، إذ المقابلة والقرب وارتفاع الحجب إنما تتأتى في جسم. فهذه الآية حسبهم في إبطال زعمهم، ولكنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون، والله الموفق.
الثالثة: لا يقال: إن قوله تعالى: لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا مكرر مع ما سبق. لأنّا نقول: إن المقصود من ذكره أولا هو اجتماعهم بلا ميعاد ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين، على وجه يكون معجزة دالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم، والمقصود منه هاهنا بيان خارق آخر، وهو تقليلهم في أعين المشركين، ثم تكثيرهم للحكمة المتقدمة.
وفي قوله تعالى: وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ تنبيه على أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها، وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زادا ليوم المعاد.
ثم أرشد تعالى عباده المؤمنين إلى آداب اللقاء في ميدان الوغى، ومبارزة الأعداء، بقوله سبحانه:
303
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٥]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥)
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا أي إذا حاربتم جماعة فاثبتوا للقائهم واصبروا على مبارزتهم، فلا تفروا ولا تجبنوا ولا تنكلوا. وتفسير (اللقاء) ب (الحرب) لغلبته عليه، كالنزال ولم يصف الفئة بأنها كافرة، لأنه معلوم غير محتاج إليه وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي في مواطن الحرب، مستظهرين بذكره مستنصرين به، داعين له على عدوّكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي تظفرون بمرادكم من النصرة والمثوبة.
وقد ثبت في الصحيحين «١» عن عبد الله بن أبي أوفى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في بعض أيامه، التي لقي فيها العدوّ انتظر حتى مالت الشمس. ثم قام في الناس فقال:
«يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدوّ، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف».
ثم قال: اللهم! منزل الكتاب. ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم.
وفي الآية إشعار بأن على العبد ألا يفتر عن ذكر ربه، أشغل ما يكون قلبا، وأكثر ما يكون همّا، وأن يلتجئ إليه عند الشدائد، ويقبل إليه بكليته، فارغ البال، واثقا بأن لطفه لا ينفك عنه في حال من الأحوال.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٦]
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ أي في كل ما يأمران به وينهيان، وهذا عامّ،
(١) أخرجه البخاري في: الجهاد، ١١٢- باب كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا لم يقاتل أول النهار أخر القتال حتى تزول الشمس، حديث رقم ١٣٤٦.
وأخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ٢٠.
304
والتخصيص بالذكر هنا فيه تأكيد وَلا تَنازَعُوا أي باختلاف الآراء، أو فيما أمرتم به فَتَفْشَلُوا أي تجبنوا، إذ لا يتقوى بعضكم ببعض. وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ أي قوتكم وغلبتكم، ونصرتكم ودولتكم، شبه ما ذكر في نفوذ الأمر وتمشيته، بالريح وهبوبها، ويقال: هبت رياح فلان، إذا دالت له الدولة ونفذ أمره، قال:
إذا هبّت رياحك فاغتنمها فإن لكلّ خافقة سكون
ولا تغفل عن الإحسان فيها فما تدري السكون متى يكون
وَاصْبِرُوا أي على شدائد الحرب، وعلى مخالفة أهويتكم الداعية إلى التنازع، فالصبر مستلزم للنصر إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ أي بالنصر.
قال ابن كثير رحمه الله: وقد كان للصحابة رضي الله عنهم، في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله، وامتثال ما أرشدهم إليه، ما لم يكن لأحد من الأمم، والقرون قبلهم ولا يكون لأحد من بعدهم. فإنهم ببركة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وطاعته فيما أمرهم، فتحوا القلوب والأقاليم شرقا وغربا، في المدة اليسيرة، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم. من الروم والفرس والترك والصقالبة والبربر والحبوش وأصناف السودان والقبط وطوائف بني آدم. قهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، في أقل من ثلاثين سنة، فرضي الله عنهم وأرضاهم أجمعين.
تنبيه:
قال بعض المفسرين في قوله تعالى: وَلا تَنازَعُوا، أي لا تختلفوا فيما أمركم به من الجهاد، بل ليتفق رأيكم. قال: ولقائل أن يقول: استثمر من هذا وجوب نصب أمير على الجيش ليدبّر أمرهم. ويقطع اختلافهم، فإن بلزوم طاعته، ينقطع الاختلاف. وقد فعله صلّى الله عليه وسلّم في السرايا،
وقال «١» : اسمعوا وأطيعوا، وإن أمّر عليكم عبد حبشي.
انتهى.
ولما أمر تعالى المؤمنين بالثبات والصبر عند اللقاء، أمرهم بالإخلاص فيه، بنهيهم. عن التشبه بالمشركين، في انبعاثهم للرياء، بقوله سبحانه:
(١) أخرجه البخاري في: الأحكام، ٤- باب السمع والطاعة للإمام ما لم تكن معصية، الحديث رقم ٤٣٤ عن أنس. وفيه (استعمل) عوضا عن (أمّر).
305
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٧]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧)
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً أي فخرا بالشجاعة وَرِئاءَ النَّاسِ أي طلبا للثناء بالسماحة والشجاعة وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ أي لا تكونوا كأبي جهل وأصحابه، وقد أتاهم رسول أبي سفيان، وهم بالجحفة: أن ارجعوا، فقد سلمت عيركم. فأبوا وقالوا: لا نرجع حتى نأتي بدرا، فننحر بها الجزر، ونسقي بها الخمر، وتعزف علينا فيه القيان، وتسمع بنا العرب.
فذلك بطرهم ورثاؤهم الناس بإطعامهم. فوافوها، فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان، أي: لا يكن أمركم رياء ولا سمعة ولا التماس ما عند الناس، وأخلصوا لله النية والحسبة، في نصر دينكم، ومؤازرة نبيّكم، لا تعملوا إلا لذلك، ولا تطلبوا غيره، و (الرئاء) مصدر (راءى)، إذا أظهر العمل للناس ليروه غفلة عن الخالق، وقد يقال رأياه مراياة ورياء، على القلب. وبَطَراً وَرِئاءَ إما مفعول من أجله، أو مصدر في موضع الحال. و (يصدون) إما حال، بتأويل اسم الفاعل، أو بجعله مصدر فعل هو حال، وإما مستأنف. ونكتة التعبير بالاسم أولا ثم الفعل، الإعلام بأن البطر والرياء دأبهم، بخلاف الصد فإنه تجدد لهم في زمن النبوة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٨]
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ أي في معاداة الرسول والمؤمنين، بأن وسوس إليهم وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ أي من النبيّ صلى الله عليه وسلّم وأصحابه وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ أي مجير ومعين لكم فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي تلاقتا، وتراءت كل واحدة صاحبتها، فرأى الملائكة نازلة من السماء لإمداد المؤمنين نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ أي
306
ولّى هاربا على قفاه وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ أي من عهد جواركم إِنِّي أَرى أي من الملائكة النازلة لإمداد المؤمنين ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أي أن يعذبني قبل يوم القيامة وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ أي فلا يبعد مع إمهالي إلى القيامة، أن يعذبني لشدة عقابه.
تنبيه:
ذكروا في التزيين وجهين:
أحدهما: أن الشيطان وسوس لهم من غير تمثيل، في صورة إنسان، وهو مروي عن الحسن والأصم. فالقول على هذا مجاز عن الوسوسة. والنكوص وهو الرجوع استعارة لبطلان كيده.
وثانيهما: أنه ظهر في صورة إنسان، لأنهم لما أرادوا المسير إلى بدر، خافوا من بني كنانة، لأنهم كانوا قتلوا رجلا، وهم يطلبون دمه، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتمثل إبليس اللعين في صورة سراقة الكناني، وقال: أنا جاركم من بني كنانة، فلا يصل إليكم مكروه منهم. فقوله (إني جار لكم) على الحقيقة. وقال الإمام: معنى (الجار) هنا الدافع للضرر عن صاحبه، كما يدفع الجار عن جاره.
والعرب تقول: أنا جار لك من فلان، أي حافظ لك، مانع منه. وهذا القول الثاني ذهب إلى جمهور المفسرين.
روى مالك «١» في الموطأ عن طلحة بن عبيد الله بن كريز، مرسلا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: ما رؤي الشيطان يوما هو فيه أصغر ولا أدحر ولا أحقر ولا أغيظ، منه في يوم عرفة. وما ذاك إلا لما يرى من تنزل الرحمة، وتجاوز الله عن الذنوب العظام.
إلا ما رأى يوم بدر، فإنه قد رأى جبريل يزع الملائكة.
قال الإمام: وكان في تغيير صورة (إبليس) إلى صورة (سراقة) معجزة عظيمة للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأن كفار قريش لما رجعوا إلى مكة قالوا: هزم الناس سراقة، فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم، حتى بلغتني هزيمتكم، فعند ذلك تبين للقوم أن ذلك الشخص ما كان سراقة، بل كان شيطانا.
(١) أخرجه في الموطأ في: الحج: حديث ٢٤٥.
307
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٤٩]
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ أي بالمدينة. و (إذ) منصوب ب (اذكر) مقدرا، أو ب (زين) وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يجوز أن يكون من صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، لأن هذه صفة للمنافقين، لا تنفك عنهم.
قال تعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [البقرة: ١٠]. أو تكون الواو داخلة بين المفسّر والمفسّر نحو: أعجبني زيد وكرمه. ويجوز أن يراد: الذين هم على حرف، ليسوا بثابتي الأقدام في الإسلام. وعن الحسن: هم المشركون. غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين دِينُهُمْ فظنوا أنهم ينصرونهم به على أضعافهم وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ أي من يعتمد عليه سبحانه وتعالى فإنه ينصره على أضعافه، بالغين ما بلغوا، لأنه عزيز غالب على ما أراد، وهو يريد نصر أوليائه حكيم، وحكمته تقتضي نصرهم. وهو جواب لهم من جهته تعالى، ورد لمقالتهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٠]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠)
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا أي يقبض أرواحهم الْمَلائِكَةُ أي ملائكة القهر والعذاب مما يناسب هيئات نفوسهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ لإعراضهم عن الحق، ولهيآت الكبر والعجب والنخوة فيها وَأَدْبارَهُمْ لميلهم إلى الباطل، وشدة انجذابهم إليه، ولهيئات الشهوة والحرص والشره وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على (يضربون) بإضمار القول. أي: ويقولون ذوقوا بشارة لهم بعذاب الآخرة.
وجواب (لو) محذوف، لتفظيع الأمر وتهويله.
وقال ابن كثير: وهذا السياق، وإن كان سببه وقعة بدر، ولكنه عامّ في حق كل كافر. وفي سورة القتال مثل هذه الآية. وتقدم في الأنعام نحوها، وهو قوله تعالى:
وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ [الأنعام:
٩٣]، أي بالضرب فيهم بأمر ربهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥١]
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١)
ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من الضرب والعذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ أي ما كسبتم من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أي بأن يأخذهم بلا جرم.
فإن قيل: ما سر التعبير ب (ظلّام) بالمبالغة، مع أن نفي نفس الظلم أبلغ من نفي كثرته، ونفي الكثرة لا ينفي أصله، بل ربما يشعر بوجوده، وبرجوع النفي للقيد؟
وأجيب بأجوبة:
منها: أنه نفي لأصل الظلم وكثرته، باعتبار آحاد من ظلم، كأنه قيل: ظالم لفلان ولفلان وهلم جرّا. فلما جمع هؤلاء عدل إلى (ظلّام) لذلك، أي لكثرة الكمية فيه.
ومنها: أنه إذا انتفى الظلم الكثير، انتفى الظلم القليل، لأن من يظلم، يظلم للانتفاع بالظلم فإذا ترك كثيره، مع زيادة نفعه في حق من يجوز عليه النفع والضر، كان لقليله مع قلة نفعه أكثر تركا.
ومنها: أن (ظلاما) للنسب، ك (عطار)، أي لا ينسب إليه الظلم أصلا.
ومنها: أن كل صفة له تعالى في أكمل المراتب، فلو كان تعالى ظالما، كان ظلاما، فنفى اللازم، لنفي الملزوم.
ومنها: أن نفي (الظلام) لنفي الظالم، ضرورة أنه إذا انتفى الظلم انتفى كماله، فجعل نفي المبالغة كناية عن نفي أصله، انتقالا من اللازم إلى الملزوم.
ومنها: أن العذاب من العظم بحيث، لولا الاستحقاق، لكان المعذب بمثله ظلاما بليغ الظلم متفاقمه. فالمراد تنزيهه تعالى، وهو جدير بالمبالغة.
وأيضا: لو عذب تعالى عبيده بدون استحقاق وسبب، لكان ظلما عظيما، لصدوره عن العدل الرحيم. كذا في (العناية).
وفي صحيح مسلم «١» عن أبي ذرّ رضي الله عنه عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن الله
(١) أخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب، حديث رقم ٥٥.
تعالى يقول: إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا. يا عبادي! إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه
. والحديث طويل جليل. معروف، عند المحدثين، بالحديث المسلسل بالدمشقيين.
ثم بين تعالى أن سير المشركين المستمر، وعادتهم الدائمة، مع ما أرسل به النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كسير الأمم السالفة مع رسلهم، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٢]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ خبر لمقدر، أي دأب هؤلاء، كدأب آل فرعون ومن تقدمهم من الأمم، كقوم نوح، وهو عملهم الذي دأبوا، أي استمروا عليه، ثم فسره فقال: كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أي قبل يوم القيامة بِذُنُوبِهِمْ أي كما أخذ هؤلاء، لأنهم اجترءوا على معاصيه بما رأوا لأنفسهم من القوة. فضعّفهم، إظهارا لقوته إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ
قال المهايمي: تأخير العذاب إنما يكون للرحمة، لكنه لما اشتد عنادهم، اشتد غضبه، لأنه شديد العقاب لمن اشتد عناده معه، فلا يكون في حقه رحمة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٣]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣)
ذلِكَ أي التعذيب الذي علم كونه مؤاخذة بالذنوب بِأَنَّ اللَّهَ أي بسبب أنه تعالى لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ بتبديله إياها بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من موجبات تلك النعم من اعتقاد أو قول أو عمل. وهذا إخبار عن تمام عدله وقسطه في حكمه، بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه، كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد: ١١].
قال القاشاني. كل ما يصل إلى الإنسان هو الذي يقتضيه استعداده، ويسأله بدعاء الحال، وسؤال الاستحقاق. فإذا أنعم على أحد النعمة الظاهرة أو الباطنة
لسلامة الاستعداد، وبقاء الخيرية فيه لم يغيرها حتى أفسد استعداده، وغير قبوله للصلاح، بالاحتجاب وانقلاب الخير الذي فيه بالقوة إلى الشر، لحصول الرين وارتكام الظلمة فيه، بحيث لم يبق له مناسبة للخير، ولا إمكان لصدوره منه، فيغيرها إلى النقمة عدلا منه وجودا، وطلبا من ذلك الاستعداد إياها بجاذبة الجنسية والمناسبة، لا ظلما وجورا. انتهى.
وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ أي فيغير إذا غيّروا، غضبا عليهم بما يسمع منهم أو يعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٤]
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فكان مبدأ تغييرهم أنهم كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي الذي رباهم بالنعم، فصرفوها إلى غير ما خلقت له بمقتضى تلك الآيات، فكانت ذنوبا فَأَهْلَكْناهُمْ أي زيادة على سلبه النعم بِذُنُوبِهِمْ أي بما صرفوا بها النعم إلى غير ما خلقت له وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ لإغراقهم النعم في بحر الإنكار بنسبتها إلى فرعون حيث أقروا بآلهيته وَكُلٌّ أي من الفرق المكذبة الكافرة،. أو من آل فرعون، ومن قبلهم، وكفار قريش: كانُوا ظالِمِينَ أي بصرف النعم إلى غير ما خلقت له، وهو نوع من الإغراق لها في بحر الإنكار لأنه مرجع التغيير لها. كذا أوّل المهايمي. وفيه إشارة إلى دفع ما يتوهم من التكرار في الآيتين، بتغاير التشبيهين فيهما، فلا يحتاج إلى دعوى التأكيد. فمعنى الأول: حال هؤلاء كحال آل فرعون في الكفر، فأخذهم وآتاهم العذاب. ومعنى الثاني: حال هؤلاء كحال آل فرعون في تغييرهم النعم، وتغيير الله حالهم بسبب ذلك التغيير، وهو أنه أغرقهم وقيل: إن النظم يأباه، لأن وجه التشبيه في الأول كفرهم المترتب عليه العقاب، فينبغي أن يكون وجهه في الثاني قوله كَذَّبُوا لأنه مثله، إذ كل منهما جملة مبتدأة بعد تشبيه، صالحة لأن تكون وجه الشبه، فتحمل عليه، كقوله تعالى: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [آل عمران: ٥٩] وأما قوله: ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً... فكالتعليل لحلول النكال، معترض بين التشبيهين، غير مختص بقوم، فجعله وجها للتشبيه بعيد عن الفصاحة. كذا في (العناية).
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٥]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي أصرّوا على كفرهم ورسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ أي فلا يتوقع منهم إيمان.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٦]
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦)
الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ أي لا يخافون عاقبة الغدر، ولا يبالون بما فيه من العار والنار.
تنبيهات:
الأول- قال المهايمي: أشار تعالى إلى أنه كيف يترك نعمه على من غيّر أحواله التي كانت أسباب النعم، وقد كان بها إنسانيته، فبتغييرها لحق بالدوابّ، وبإنكار المنعم صار شرّا منها. والنعم تسلب ممن لا يعرف قدرها، فكيف لا تسلب ممن ينكر المنعم؟.
الثاني- دلت الآية على جواز تحقير العصاة، والاستخفاف بهم، حيث سماهم تعالى (دوابّ) وأخبر أنهم (شرّ الدواب).
الثالث- قالوا: نزلت الآية في يهود بني قريظة، رهط كعب بن الأشرف، فإن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، كان عاهدهم ألا يحاربوه، ولا يعاونوا عليه، فنقضوا العهد، وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا.
فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد أيضا. ومالئوا الكفار على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم الخندق. وركب كعب بن الأشرف إلى مكة، فوافقهم على مخالفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
الرابع- (الذين) بدل من الموصول الأول، أو عطف بيان له، أو نصب له على الذم. وضمن (عاهدت) معنى الأخذ، حتى عدّي ب (من) أي أخذت منهم عهدهم. وقيل: (من) صلة، وقال أبو حيّان: هي للتبعيض، لأن المباشر بالذات للمعاهدة بعض القوم، وهم الرؤساء والأشراف.
الخامس- قوله: وَهُمْ لا يَتَّقُونَ، حال من فاعل (ينقضون)، أي يستمرون على النقض، والحال أنهم لا يتقون العار فيه، لأن عادة من يرجع إلى دين وعقل وحزم
أن يتقي نقض العهد، حتى يسكن الناس إلى قوله، ويثقون بكلامه. فبيّن الله عزّ وجلّ أن من جمع بين الكفر ونقض العهد، فهو شرّ من الدواب.
ثم شرع تعالى في بيان أحكام الناقضين، بعد تفصيل أحوالهم، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٧]
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧)
فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ أي فإما تصادفنهم وتظفرنّ بهم فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ أي فرّق بهم من وراءهم من المحاربين يعني: بأن تفعل بهم من النكال وتغليظ العقوبة، ما يشرّد غيرهم خوفا، فيصيروا لهم عبرة. كما قال: لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي لعل المشرّدين يتعظون بما شاهدوا ما نزل بالناقضين، فيرتدعوا عن النقض أو عن الكفر. قال في (التاج) : وقيل: معنى فَشَرِّدْ بِهِمْ فسمّع بهم، وقيل: فزّع بهم، ولا يخفى أن هذه المعاني متقاربة. وأصل التشريد الطرد والتفريق.
ويقال. شرد به تشريدا، سمّع الناس بعيوبه. قال:
أطوّف بالأباطح كلّ يوم مخافة أن يشرّد بي حكيم
معناه أنّ يسمّع بي و (حكيم) رجل من بني سليم كانت قريش ولّته الأخذ على أيدي السفهاء.
استشهد به في اللسان في مادة (ش ر د).
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٨]
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨)
وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً بيان لأحكام المشرفين إلى نقض العهد، إثر بيان الناقضين له بالفعل. و (الخوف) مستعار للعلم. أي: وإما تعلمن من قوم من المعاهدين نقض عهد فيما سيأتي، بما لاح لك منهم من دلائل الغدر، ومخايل الشرّ فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ أي فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ أي على طريق مستو قصد، بأن تظهر لهم النقض، وتخبرهم إخبارا مكشوفا بأنك قد قطعت ما بينك وبينهم من الوصلة، ولا تناجزهم الحرب وهم على توهم بقاء العهد، كي لا يكون من قبلك شائبة خيانة أصلا، وإن كانت في مقابلة خيانتهم.
313
وقوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ، إما باعتبار استلزامه النهي عن مناجزة القتال، لكونها خيانة، فيكون تحذيرا له صلّى الله عليه وسلّم منها، وإما باعتبار استتباعه للقتال، فيكون حثّا له صلّى الله عليه وسلّم على النبذ أولا، وعلى قتالهم ثانيا، كأنه قيل. وإما تعلمن من قوم خيانة فانبذ إليهم، ثم قاتلهم، إنّ الله لا يحب الخائنين، وهم من جملتهم، لما علمت من حالهم. أفاده أبو السعود.
تنبيه:
دلت الآية على جواز معاهدة الكفار لمصلحة، ووجوب الوفاء بالعهد إذا لم يظهر منهم أمارة الخيانة، وتدل على إباحة نبذ العهد لمن توقع منهم غائلة مكر، وأن يعلمهم بذلك، لئلا يعيبوا علينا بنصب الحرب مع العهد.
روى أصحاب السنن «١»
أنه كان بين معاوية وبين الروم عهد، وكان يسير نحو بلادهم ليقرب، حتى إذا انقضى العهد غزاهم. فجاء رجل على فرس أو برذون وهو يقول: الله أكبر! الله أكبر! وفاء لا غدر. فإذا هو عمرو بن عبسة، فأرسل إليه معاوية فسأله، فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: من كان بينه وبين قوم عهد، فلا يشد عقدة ولا يحلها حتى ينقضي أمدها، أو ينبذ إليهم على سواء: فرجع معاوية.
وروى الإمام أحمد «٢» عن سلمان الفارسي أنه انتهى إلى حصن أو مدينة، فقال لأصحابه: دعوني أدعوهم كما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم، فقال: إنما كنت رجلا منكم فهداني الله عزّ وجلّ للإسلام، فإن أسلمتم فلكم مالنا، وعليكم ما علينا، وإن أنتم أبيتم، فأدوا الجزية وأنتم صاغرون، فإن أبيتم نابذناكم على سواء، إن الله لا يحب الخائنين. يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها.
هذا، وما ذكر من وجوب إعلامهم، إنما هو عند خوف الخيانة منهم وتوقعها، كما هو منطوق الآية. وأما إذا ظهر نقض العهد ظهورا مقطوعا به فلا حاجة للإمام إلى نبذ العهد، بل يفعل كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأهل مكة لما نقضوا العهد بقتل خزاعة، وهم في ذمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلم يرعهم إلا وجيش رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمرّ الظهران، وذلك على أربعة فراسخ من مكة.
(١) أخرجه أبو داود في: الجهاد، ١٥٢- باب في الإمام يكون بينه وبين العدّ عهد فيسير إليه، حديث رقم ٢٧٥٩.
وأخرجه الترمذي في: السير، ٢٧- باب ما جاء في الغدر. [.....]
(٢) أخرجه في المسند ٥/ ٤٤٠.
314
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٥٩]
وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
وَلا يَحْسَبَنَّ قرئ بالياء والتاء الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا أي فاتوا وأفلتوا من أن يظفر بهم إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ أي لا يفوتون الله من الانتقام منهم، إما في الدنيا بالقتل، وإما في الآخرة بعذاب النار. وقرئ بفتح (أن) على تقدير لام التعليل، وهذا كقوله تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا، ساءَ ما يَحْكُمُونَ [العنكبوت: ٤]، وقوله تعالى: لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ، وَمَأْواهُمُ النَّارُ، وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ [النور: ٥٧] وقوله تعالى: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، وَبِئْسَ الْمِهادُ [آل عمران: ١٩٦- ١٩٧].
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٠]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠)
وَأَعِدُّوا لَهُمْ أي لقتال ناقضي العهد السابق ذكرهم، أو الكفار مطلقا، وهو الأنسب بسياق النظم الكريم مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أي من كل ما يتقوى به في الحرب من عددها، أطلق عليه القوة مبالغة.
قال الشهاب: وإنما ذكر لأنه لم يكن لهم في (بدر) استعداد تام، فنبّهوا على أن النصر من غير استعداد لا يتأتى في كل زمان.
وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ (الرباط) في الأصل مصدر ربط، أي شدّ، ويطلق بمعنى المربوط مطلقا، وكثر استعماله في الخيل التي تربط في سبيل الله. فالإضافة، إما باعتبار عموم المفهوم الأصلي، أو بملاحظة كون الرباط مشتركا بين معان أخر، كانتظار الصلاة وملازمة ثغر العدوّ، والمواظبة على الأمر، فإضافته لأحد معانيه للبيان، ك (عين الشمس) ومنه يعلم أنه يجوز إضافة الشيء لنفسه إذا كان مشتركا.
وإذا كان من إضافة المطلق للمقيد، فهو على معنى (من) التبعيضية. وقد يكون (الرباط) جمع ربيط، كفصيل وفصال. قال في (التاج) : يقال: نعم الربيط هذا، لما
315
يرتبط من الخيل. ثم إن عطفها على (القوة) مع كونها من جملتها للإيذان بفضلها على بقية أفرادها، كعطف جبريل وميكائيل على الملائكة تُرْهِبُونَ بِهِ أي تخوّفون بذلك الإعداد عَدُوَّ اللَّهِ وهو المثبت له شريكا، المبطل لكلمته وَعَدُوَّكُمْ أي الذي يظهر عداوتكم، فتخوفونهم لئلا يحاربوكم باعتقاد القوة في أنفسهم دونكم.
تنبيه:
دلت هذه الآية على وجوب إعداد القوة الحربية، اتقاء بأس العدوّ وهجومه.
ولما عمل الأمراء بمقتضي هذه الآية، أيام حضارة الإسلام، كان الإسلام عزيزا، عظيما، أبي الضيم، قوي القنا، جليل الجاه، وفير السنا، إذ نشر لواء سلطته على منبسط الأرض، فقبض على ناصية الإفطار والأمصار، وخضد شوكة المستبدين الكافرين، وزحزح سجوف الظلم والاستعباد، وعاش بنوه أحقابا متتالية وهم سادة الأمم، وقادة مشعوب، وزمام الحول والطول وقطب روحي العز والمجد، لا يستكينون لقوة، ولا يرهبون لسطوة. وأما اليوم، فقد ترك المسلمون العمل بهذه الآية الكريمة، ومالوا إلى النعيم والترف فأهملوا فرضا من فروض الكفاية، فأصبحت جميع الأمة آثمة بترك هذا الفرض. ولذا تعاني اليوم من غصته ما تعاني. وكيف لا يطمع العدوّ بالممالك الإسلامية، ولا ترى فيها معامل للأسلحة، وذخائر الحرب، بل كلها مما يشترى من بلاد العدوّ؟ أما آن لها أن تتنبه من غفلتها، وتنشئ معامل لصنع المدافع والبنادق والقذائف والذخائر الحربية؟ فلقد ألقي عليها تنقص العدوّ بلادها من أطرافها درسا يجب أن تتدبره، وتتلافى ما فرطت به. قبل أن يداهم ما بقي منها بخيله ورجله، فيقضي- والعياذ بالله- على الإسلام وممالك المسلمين، لاستعمار الأمصار، واستعباد الأحرار، ونزع الاستقلال المؤذن بالدمار. وبالله الهداية.
وقوله تعالى آخَرِينَ أي وترهبون قوما آخرين مِنْ دُونِهِمْ أي من دون من يظهر عداوتكم، وهم المنافقون لا تَعْلَمُونَهُمُ أي أنهم يعادونكم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ أي أنهم أعداؤكم، يظهرون عداوتهم إذا رأوا ضعفكم. ثم شجعهم سبحانه على إنفاق المال في إعداد القوة، ورباط الخيل، مبشرا لهم بتوفية جزائه كاملا، بقوله تعالى وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي الذي أوضحه الجهاد يُوَفَّ إِلَيْكُمْ أي في الدنيا من الفيء والغنيمة والجزية والخراج، وفي الآخرة بالثواب المقيم وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ أي بترك الإثابة.
316
تنبيهات:
الأول- هذه الآية أصل في كل ما يلزم إعداده للجهاد من الأدوات.
الثاني- في قوله تعالى تُرْهِبُونَ بِهِ إشارة إلى التجافي عن أن يكون الإعداد لغير الإرهاب كالخيلاء.
وفي حديث الإمام مالك عن أبي هريرة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: الخيل ثلاثة: لرجل أجر، ولرجل ستر ولرجل وزر. فأما الذي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله، ورجل ربطها تغنيا وتعففا، ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها، فهي له ستر. ورجل ربطها فخرا ورياء ونواء لأهل الإسلام، فهي على ذلك وزر.
الثالث- ما ذكرناه في تأويل (الآخرين) من أنهم المنافقون، يشهد له قوله تعالى وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ، وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ، نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ [التوبة: ١٠١].
ثم بين تعالى جواز مصالحة الكفار بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦١]
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١)
وَإِنْ جَنَحُوا أي مالوا وانقادوا لِلسَّلْمِ بكسر السين وفتحها، لغتان، وقد قرئ بهما. أي الصلح والاستسلام، بوقوع الرهبة في قلوبهم، بمشاهدة ما بكم من الاستعداد، وإعتاد العتاد فَاجْنَحْ لَها أي فمل إلى موافقتهم وصالحهم وعاهدهم، وإن قدرت على محاربتهم، لأن الموافقة أدعى لهم إلى الإيمان. ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح، ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم تسع سنين، أجابهم إلى ذلك، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر. و (السلم) يذكر ويؤنث- كما في القاموس- قال الزمخشري: (السلم) تؤنث تأنيث نقيضها، وهي الحرب. قال العباس بن مرداس:
السّلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب يكفيك من أنفاسها جرع
وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي لا تخف في الصلح مكرهم، فإنه يعصمك من مكرهم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ أي بأحوالهم، فيؤاخذهم بما يستحقون، ويردّ كيدهم في نحرهم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٢]
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢)
وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ أي بالصلح لتكفّ عنهم ظاهرا، وفي نيتهم الغدر فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ أي كافيك بنصره ومعونته. قال مجاهد: يريد قريظة. ثم علل كفايته له، بما أنعم عليه من تأييده صلّى الله عليه وسلّم بنصره وبالمؤمنين، فقال تعالى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ أي يوم بدر بعد الضعف، من غير إعداد قوة ولا رباط وَبِالْمُؤْمِنِينَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٣]
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي جمع بين قلوبهم وكلمتهم، بالهدى الذي بعثك الله به إليهم، بعد ما كان فيها العصيبة والضغينة لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً أي من الذهب والفضة ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ إذ لا يدخل ذلك تحت قدرة البشر، لكونه من عالم الغيب وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أي بين قلوبهم بدينه الذي جمعهم إليه إِنَّهُ عَزِيزٌ أي غالب في ملكه وسلطانه على كل ظاهر وباطن حَكِيمٌ أي فاقتضت حكمته ذلك، لما فيه من تأييد دينه، وإعلاء كلمته.
قال الزمخشري رحمه الله تعالى: التأليف بين قلوب من بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم، من الآيات الباهرة. لأن العرب، لما فيهم من الحمية والعصبية، والانطواء على الضغينة، في أدنى شيء، وإلقائه بين أعينهم، إلى أن ينتقموا، لا يكاد يأتلف منهم قلبان. ثم ائتلفت قلوبهم على اتباع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، واتحدوا وأنشأوا يرمون عن قوس واحدة، وذلك لما نظم الله من ألفتهم، وجمع من كلمتهم، وأحدث بينهم من التحابّ والتوادّ، وأماط عنهم من التباغض والتماقت، وكلفهم من الحب في الله، والبغض في الله ولا يقدر على ذلك إلا من يملك القلوب، فهو يقلبها كما شاء، ويصنع فيها ما أراد. وقيل: هم الأوس والخزرج، كان بينهم من الحروب والوقائع ما أهلك سادتهم ورؤساءهم، ودق جماجمهم. ولم يكن لبغضائهم أمد ومنتهى.
وبينهما التجاور الذي يهيج الضغائن، ويديم التحاسد والتنافس. وعادة كل طائفتين كانتا بهذه المثابة أن تتجنب هذه، ما آثرته أختها، وتكرهه وتنفر عنه، فأنساهم الله تعالى ذلك كله، حتى اتفقوا على الطاعة، وتصافوا وصاروا أنصارا وعادوا أعوانا،
318
وما ذاك إلا بلطيف صنعه، وبليغ قدرته. انتهى.
وإنما ضعف القول الثاني لأنه ليس في السياق قرينة عليه. كذا في (العناية).
أقول: لكن شهرة ما كان بين هذين البطنين من التعادي الذي تطاول أمده، واستحال قبل البعثة نضوب مائه، يصلح أن يكون قرينة. ونقل علماء السيرة أن النبيّ صلى الله عليه وسلّم، لما لقي في الموسم الرهط من الخزرج، ودعاهم إلى الله تعالى. فأجابوه وصدقوه، قالوا له: إنا قد تركنا قومنا، ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، وعسى أن يجمعهم الله بك، فسنقدم عليهم فندعوهم إلى أمرك، نعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين، فإن يجمعهم الله عليه فلا رجل أعزّ منك. رواه ابن إسحاق وغيره.
وفي الصحيحين «١»
أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما خطب الأنصار في شأن غنائم (حنين) قال لهم يا معشر الأنصار! ألم أجدكم ضلّالا فهداكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ كلما قال شيئا قال: الله ورسوله أمنّ.
لطيفة:
روى الحاكم أن ابن عباس كان يقول: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء. ثم يقرأ: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ...
الآية.
وعند البيهقي نحوه. وقال: ذلك موجود في الشعر:
إذا بتّ ذو قربى إليك بزلة فغشّك واستغنى فليس بذي رحم
ولكنّ ذا القربى الذي إن دعوته أجاب، وأن يرمي العدوّ الذي ترمي
قال: ومن ذلك قول القائل:
ولقد صحبت الناس ثم سبرتهم وبلوت ما وصلوا من الأسباب
فإذا القرابة لا تقرّب قاطعا وإذا المودة أقرب الأسباب
قال البيهقي: لا أدري هذا موصولا بكلام ابن عباس، أو هو قول من دونه من الرواة.
(١) أخرجه البخاري في: المغازي، ٥٦- باب غزوة الطائف في شوّال سنة ثمان، الحديث رقم ١٩٣١ عن عبد الله بن زيد بن عاصم.
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم ١٣٩.
319
قال الرازي: احتج أصحابنا بهذه الآية، على أن أحوال القلوب من العقائد والإرادات، كلها من خلق الله تعالى. وذلك لأن الألفة والمودة والمحبة الشديدة إنما حصلت بسبب الإيمان ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم. انتهى.
ولما بين تعالى كفايته لنبيه صلّى الله عليه وسلّم عند مخادعة الأعداء، في الآية المتقدمة، أعلمه بكفايته له في جميع أموره مطلقا، فقال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٤]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ قال العلامة ابن القيّم في مقدمة (زاد المعاد) في تفسير هذه الآية: أي الله وحده كافيك، وكافي أتباعك، فلا يحتاجون معه إلى أحد. ثم قال: وها هنا تقديران:
أحدهما- أن تكون الواو عاطفة ل (من) على الكاف المجرورة، ويجوز العطف على الضمير المجرور بدون إعادة الجار، على المذهب المختار، وشواهد كثيرة، وشبه المنع منه واهية.
والثاني- أن تكون الواو واو (مع)، وتكون (من) في محل نصب عطفا على الموضع فإن (حسبك) في معنى كافيك، أي الله يكفيك، ويكفي من اتبعك، كما يقول العرب: حسبك وزيدا درهم، قال الشاعر:
إذا كانت الهيجاء وانشقّت العصا فحسبك والضحاك سيف مهنّد
وهذا أصح التقديرين. وفيها تقدير ثالث، أن تكون (من) في موضع رفع بالابتداء، أي ومن اتبعك من المؤمنين، فحسبهم الله وفيها تقدير رابع، وهو خطأ من جهة المعنى، وهو أن يكون (من) في موضع رفع عطفا على اسم الله، ويكون المعنى: حسبك الله وأتباعك. وهذا، وإن قال به بعض الناس، فهو خطأ محض، لا يجوز حمل الآية عليه، فإن الحسب والكفاية لله وحده، كالتوكل والتقوى والعبادة.
قال الله تعالى: وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ، هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ [الأنفال: ٦٢] ففرق بين الحسب والتأييد، فجعل الحسب له وحده، وجعل التأييد له بنصره وبعباده. وأثنى الله سبحانه على أهل التوحيد والتوكل من عباده، حيث أفردوه بالحسب، فقال تعالى: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل
عمران: ١٧٣]، ولم يقولوا: حسبنا الله ورسوله. فإذا كان هذا قولهم، ومدح الرب تعالى لهم بذلك، فكيف يقول لرسوله: الله وأتباعك حسبك؟ وأتباعه، قد أفردوا الرب تعالى بالحسب، ولم يشركوا بينه وبين رسوله فيه، فكيف يشرك بينهم وبينه في حسب رسوله؟ هذا من أمحل المحال، وأبطل الباطل. ونظير هذا قوله: وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: ٥٩]، فتأمل كيف جعل الإيتاء لله ولرسوله كما قال تعالى: وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ [الحشر: ٧]، وجعل الحسب له وحده، فلم يقل: وقالوا حسبنا الله ورسوله، بل جعله خالص حقه، كما قال: إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ [التوبة: ٥٩]، ولم يقل وإلى رسوله، بل جعل الرغبة إليه وحده. كما قال تعالى: فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ [الشرح: ٧]، فالرغبة والتوكل والإنابة والحسب، لله وحده. كما أن العبادة والتقوى والسجود، لله وحده. والنذر والحلف لا يكون إلا له سبحانه وتعالى ونظير هذا قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ [الزمر: ٣٦]، ف (الحسب) هو (الكافي)، فأخبر سبحانه وتعالى أنه وحده كاف عبده، فكيف يجعل أتباعه مع الله في هذه الكفاية؟ والأدلة الدالة على بطلان هذا التأويل الفاسد، أكثر من أن نذكرها هنا. انتهى.
قال الخفاجي (في العناية) : وتضعيفه الرفع لا وجه له، فإن الفراء والكسائي رجّحاه، وما قبله وما بعده يؤيده. انتهى.
وأقول: هذا من الخفاجيّ من الولع بالمناقشة، كما هو دأبه، ولو أمعن النظر فيما برهن عليه ابن القيّم وأيده بما لا يبقى معه وقفة، لما ضعفه. والفراء والكسائيّ من علماء العربية، ولأئمة التأويل فقه آخر. فتبصر، ولا تكن أسير التقليد.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٥]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي حثهم عَلَى الْقِتالِ، إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ
صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٦]
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ، وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ.
في الآية مسائل:
الأولى- مشروعية الحضّ على القتال، والمبالغة في الحث عليه. وقد كان النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحرض أصحابه عند صفهم، ومواجهة العدوّ، كما
قال لهم «١» يوم بدر، حين أقبل المشركون في عددهم وعددهم: قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض، فقال عمير بن الحمام: عرضها السموات والأرض؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: نعم! فقال:
بخ بخ. فقال: ما يحملك على قولك بخ بخ؟ قال: رجاء أن أكون من أهلها. قال:
فإنك من أهلها. فتقدم الرجل، فكسر جفن سيفه، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن، ثم ألقى بقيتهن من يده، وقال: لئن أنا حييت حتى آكلهن، إنها لحياة طويلة ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه.
الثانية- ذهب الأكثرون إلى أن قوله تعالى إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً شرط في معنى الأمر بوجوب مصابرة الواحد للعشرة أي بألا يفرّ منهم.
روى البخاري «٢» عن ابن عباس قال: لما نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ كتب عليهم ألا يفر واحد من عشرة، ولا عشرون من مائتين. ثم نزلت الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... الآية- فكتب أن لا يفر مائة من مائتين.
(١) أخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ١٤٥ عن أنس بن مالك.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٨- سورة الأنفال، ٦- باب يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ، و ٧- باب الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً، الحديث رقم ٢٠٠٨.
322
وفي رواية أخرى عنه قال: لما نزلت إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ شق ذلك على المسلمين، فنزلت الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ... الآية- فلما خفف الله عنهم من العدة، نقص عنهم من الصبر، بقدر ما خفف عنهم.
قال في (اللباب) : فظاهر هذا أن قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ناسخ لما تقدم في الآية الأولى، وكان هذا الؤمر يوم بدر. فرض الله سبحانه وتعالى على الرجل الواحد من المسلمين قتال عشرة من الكافرين، فثقل ذلك على المؤمنين، فنزلت الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ- أيها المؤمنون- وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً يعني في قتال الواحد للعشرة، فإن تكن منكم مائة صابرة محتسبة يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله. فردّ العشرة إلى الاثنين. فإذا كان المسلمون على قدر النصف من عدوّهم لا يجوز لهم أن يفروا. فأيما رجل فرّ من ثلاثة فلم يفر، ومن فر من اثنين فقد فرّ. انتهى.
قال في (العناية) : وذهب مكيّ إلى أنها مخففة لا ناسخة، كتخفيف الفطر للمسافر. وثمرة الخلاف أنه لو قاتل واحد عشرة، فقتل، هل يأثم أو لا؟ فعلى الأول يأثم، وعلى الثاني لا يأثم.
وقال الرازي: أنكر أبو مسلم الأصفهاني دعوى النسخ في الآية، وقال: الأمر الذي فهم من الآية مشروط بكون العشرين قادرين على الصبر، أي إن حصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين، فليشتغلوا بمقاومتهم. ثم دل قوله تعالى: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ على أن ذلك الشرط غير حاصل منهم، فلم يكن التكليف لازما عليهم. وبالجملة، فالآية الأولى دلت على ثبوت حكم عند شرط مخصوص، والثانية دلت على أن ذلك الشرط مفقود في حق هؤلاء الجماعة، فلم يثبت ذلك الحكم. وعلى هذا فلا نسخ، ولا يقال إن قوله تعالى الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ مشعر بأن هذا التكليف كان متوجها عليهم قبله، لأن لفظ التخفيف لا يستلزم الدلالة على حصول التثقيل قبله، لأن عادة العرب الرخصة بمثل هذا الكلام، كقوله تعالى في ترخيصه للحرّ في نكاح الأمة يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ [النساء: ٢٨] وليس هناك نسخ، وإنما هو إطلاق نكاح الأمة لمن لا يستطيع نكاح الحرائر. فكذا هاهنا. ومما يدل على عدم النسخ ذكر هذه الآية مقارنة للأولى وجعل الناسخ مقارنا للمنسوخ، لا يجوز إلا بدليل قاهر.
قال الرازي: بعد تقرير كلام أبي مسلم: إن ثبت إجماع الأمة قبل أبي مسلم
323
على حصول النسخ في الآية، فلا كلام عليه، وإلا فقول أبي مسلم صحيح حسن.
انتهى.
الثالثة- في قوله تعالى: بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ إشارة إلى علة غلبة المؤمنين عشرة أمثالهم من الكفار، فالظرف متعلق ب يَغْلِبُوا أي بسبب أنهم قوم جهلة بالله تعالى واليوم الآخر، لا يقاتلون احتسابا وامتثالا لأمر الله تعالى، وإعلاء لكلمته، وابتغاء لرضوانه، كما يفعله المؤمنون، وإنما يقاتلون للحمية الجاهلية، واتباع خطوات الشيطان، وإثارة نائرة البغي والعدوان، فلا يستحقون إلا القهر والخذلان.
أفاده أبو السعود.
الرابعة- قال الرازي: احتج هشام على قوله (إن الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلا عند وقوعها) بقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً إذ يقتضي أن علمه بضعفهم ما حصل إلا في هذا الوقت. وأجاب المتكلمون بأن معناه: الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله. وأما قبل ذلك فقد كان الحاصل العلم بأنه سيقع أو سيحدث. انتهى.
وقال الطيبي رحمه الله: معناه الآن خفف الله عنكم لما ظهر متعلق علمه تعالى، أي كثرتكم الموجبة لضعفكم بعد ظهور قتلكم وقوتكم.
الخامسة- في (الضعف) لغتان: الفتح والضم، وبهما قرئ. وهو يؤكد كونهما بمعنى فيكونان في الرأي والبدن. وقيل: (الفتح) في الرأي والعقل، (الضم) في البدن. وهو منقول عن الخيل. وقرئ (ضعفاء) بصيغة الجمع.
السادسة- إن قيل: إن كفاية عشرين لمائتين تغني عن كفاية مائة لألف وكفاية مائة لمائتين تغني عن كفاية ألف لألفين، لما تقرر من وجوب ثبات الواحد للعشرة في الأولى، وثبات الواحد للاثنين في الثانية، فما سر هذا التكرير؟ أجيب: بأن سره كون كل عدة بتأييد القليل على الكثير لزيادة التكرير المفيد لزيادة الاطمئنان، والدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة، لا تتفاوت، فإن العشرين قد لا تغلب المائتين. وتغلب المائة الألف. وأما الترتيب في المكرر فعلى ذكر الأقل ثم الأكثر على الترتيب الطبيعي.
قال في (الفتح) : وقد قيل، في سر ذلك، إنه بشارة للمسلمين بأن جنود الإسلام سيجاوز عددها العشرات والمئات إلى الألوف.
السابعة- قال في (البحر) : انظر إلى فصاحة هذا الكلام، حيث أثبت في
324
الشرطية الأولى قيد الصبر، وحذف نظيره من الثانية، وأثبت في الثانية قيد كونهم من الكفرة وحذفه من الأولى. ولما كان الصبر شديد المطلوبية أثبت في جملتي التخفيف وحذف من الثانية، لدلالة السابقة عليه، ثم ختمت بقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ مبالغة في شدة المطلوبية. ولم يأت في جملتي التخفيف بقيد الكفر، اكتفاء بما قبله.
قال الشهاب: هذا نوع من البديع يسمى الاحتباك، وبقي عليه أنه ذكر في التخفيف بِإِذْنِ اللَّهِ وهو قيد لهما. وقوله: وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ إشارة إلى تأييدهم، وأنهم منصورون حتما لأن من كان الله معه لا يغلب. وبقي فيها لطائف.
فلله درّ التنزيل ما أحلى ماء فصاحته! وأنضر رونق بلاغته!
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٧]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧)
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ
روى الإمام «١» أحمد عن أنس قال: استشار النبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الأسارى يوم بدر فقال: إن الله قد أمكنكم منهم فقال عمر بن الخطاب: يا رسول الله! اضرب أعناقهم، فأعرض عنه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. ثم عاد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لمقالته وقال: إنما هم إخوانكم بالأمس، وعاد عمر لمقالته، فأعرض عنه صلّى الله عليه وسلّم. فقام أبو بكر الصديق فقال: يا رسول الله! نرى أن تعفو عنهم، وأن تقبل منهم الفداء. قال فذهب عن وجه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما كان فيه من الغمّ، فعفا عنهم، وقبل منهم الفداء.
وأخرج مسلم «٢» في (أفراده) من حديث عمر بن الخطاب قال ابن عباس: لما أسروا الأسارى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لأبي بكر وعمر: ما ترون في هؤلاء الأسارى؟
فقال أبو بكر: يا رسول الله! هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار، فعسى الله أن يهديهم إلى الإسلام. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال: قلت لا، والله! يا رسول الله! ما أرى الذي رأى أبو بكر. ولكني أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم، فتمكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من
(١) أخرجه في المسند ٣/ ٢٤٣.
(٢) أخرجه مسلم في: الجهاد والسير، حديث رقم ٥٨.
العباس فيضرب عنقه، وتمكنني من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديده. فهوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت. فلما كان من الغد جئت، فإذا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر يبكيان، فقلت: يا رسول الله! أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك، فإن وجدت بكاء بكيت، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبكي على أصحابك- من أخذهم الفداء. لقد عرض عليّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- لشجرة قريبة من نبيّ الله صلى الله عليه وسلّم- فأنزل الله عز وجل ما كانَ لِنَبِيٍّ... الآية. ذكره الحميديّ في (مسنده) عن عمر بن الخطاب، من أفراد مسلم بزيادة فيه.
ومعنى ما كانَ لِنَبِيٍّ ما صح له وما استقام وقرئ (للنبيّ) على العهد.
والمراد على كلّ، نبيّنا صلّى الله عليه وسلّم، وإنما نكّر تلطفا به، حتى لا يواجه بالعقاب. وقرئ أُسارى. ومعنى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يكثر القتل ويبالغ فيه، حتى يذل الكفر، ويقل حزبه، ويعز الإسلام، ويستولي أهله. يقال: أثخن في العدوّ، بالغ في قتلهم.
كما في (الأساس) وأثخن في الأرض قتلا إذا بالغ. وقال ابن الأعرابي: أثخن إذا غلب وقهر.
قال الرازي: وإنما حمله الأكثرون على القتل، لأن الدولة إنما تقوى به. قال المتنبّي:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى... حتى يراق على جوانبه الدم
ولأنه يوجب قوة الرعب، وشدة المهابة، فلذلك أمر تعالى به.
وقوله تعالى تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا أي متاعها الزائل، بفداء أسارى بدر.
و (العرض) ما لا ثبات له ولو جسما. ومنه استعار المتكلمون (العرض) المقابل (للجوهر)، قاله الشهاب. وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ أي يريد لكم ثوابها وَاللَّهُ عَزِيزٌ أي غالب على ما أراد حَكِيمٌ أي فيما يأمر به عباده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٨]
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨)
لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ أي لأصابكم فِيما أَخَذْتُمْ أي بسببه، وهو الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ أي شديد، بقدر إبطالكم الحكمة العظيمة، وهي قتلهم، الذي هو أعزّ للإسلام، وأهيب لمن وراءهم وأفلّ لشوكتهم. والمراد ب (الكتاب)
326
الحكم، وإنما أطلق عليه لأنه مكتوب في اللوح. ولأئمة التفسير أقوال في تفسيره.
فقيل: هو أنه لا يعذب قوما إلا بعد تقديمهم النهي، ولم يتقدم نهي عن ذلك، وقيل:
هو أنه لا يعذب المخطئ في اجتهاده. وقيل: هو كون أهل بدر مغفورا لهم. وقيل:
هو حلّ المغانم.
وللرازي مناقشة في هذه الأقوال. واختار أن (الكتاب) هو حكمه في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة، لأنه كتب على نفسه الرحمة، وسبقت رحمته غضبه.
أقول: لعل الأمسّ في تهويل ما اكتسبوه، تفسير (الكتاب) بما في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الأنفال: ٣٣]. والله أعلم.
تنبيهات:
الأول- قال الرازي: قال ابن عباس: هذا الحاكم إنما كان يوم بدر، لأن المسلمين كانوا قليلين. فلما كثروا وقوي سلطانهم، أنزل الله بعد ذلك في الأسارى حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها [محمد: ٤].
وأقول: هذا الكلام يوهم أن قوله فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً يريد حكم الآية التي نحن في تفسيرها. وليس الأمر كذلك، لأن الآيتين متوافقتان، فإن كلتيهما تدلّ على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء. انتهى.
وقال بعضهم: لا تظهر دعوى النسخ من أصلها، إذ النهي الضمني، كما هنا، مقيد ومغيّا بالإثخان. أي كثرة القتال اللازمة لها قوة الإسلام وعزته. وما في سورة القتال من التخيير، محله بعد ظهور شوكة الإسلام بكثرة القتال، فلا تعارض بين الآيتين، إذ ما هناك بيان للغاية التي هنا. نقله في (الفتح).
الثاني- قال القاضي: في الآية دليل على أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يجتهدون، وأنه قد يكون خطأ، ولكن لا يقرّون عليه.
الثالث- قال ابن كثير: وقد استمرّ الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخيّر فيهم، إن شاء قتل، كما فعل ببني قريظة، وإن شاء فادى بمال، كما فعل بأسرى بدر، وبمن أسر من المسلمين، كما فعل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين.
327
وإن شاء استرقّ من أسر. هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة. وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة، مقرر في موضعه.
الرابع- قال بعض مفسري الزيدية: في هذه الآية سؤال وهو أن يقال: إن كان فعلهم اجتهادا وخطأ، فلم عوتبوا؟ ويلزم أن لا معصية. وإن تمكنوا من العلم وقصروا، فكيف أقرّهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم؟ وجواب ذلك من وجهين:
الأول- عن أبي عليّ أن ذلك كان معصية صغيرة. قال الحاكم: وكانوا متمكنين من العلم، إذا ما عاتبهم.
وقيل: كان خطأ وقصروا فعوتبوا على التقصير انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٦٩]
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً أي كلوا بعضه، بعد إخراج الخمس حلالا، أي مطلقا عن العتاب والعقاب، من (حل العقال). طَيِّباً أي لذيذا هنيئا. أو حلالا بالشرع، طيبا بالطبع. قيل: هذا الأمر تأكيد لحل المغانم، لأنه علم مما تقدم من قوله وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ... الآية- وإشارة لاندراج مال الفداء في عمومها، ف (ما غنمتم) هنا، إما الفدية، لأنها غنيمة، أو مطلق الغنائم. والمراد بيان حكم ما اندرج فيها من الفدية وجعل الفاء عاطفة على سبب مقدر، أي أبحت لكم الغنائم، فكلوا- قد يستغنى عنه بعطفه على ما قبله لأنه بمعناه، أي لا أؤاخذكم بما أخذ من الفداء فكلوه. كذا في (العناية).
قال أبو السعود: والأظهر أنها للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي دعوه فكلوا مما غنمتم. ثم قال: وقيل (ما) عبارة عن الفدية، فإنها من جملة الغنائم، ويأباه اتساق النظم الكريم وسياقه. انتهى. وهو متجه.
وَاتَّقُوا اللَّهَ أي في مخالفة أمره ونهيه إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فيغفر لكم ويرحمكم إذا اتقيتموه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٠]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠)
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى أي لمن في ملكتكم، كأن
أيديكم قابضة عليهم وذلك تخليصا لهم من أسر الضلال بضعف الإيمان إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً أي قوة إيمان وإخلاصا فيه يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ أي من الفداء، إما أن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧١]
وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)
وَإِنْ يُرِيدُوا أي الأسرى خِيانَتَكَ أي نكث ما بايعوك عليه من الإسلام بالردة، أو منع ما ضمنوا من الفداء فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ أي من قبل (بدر) بالكفر به فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي فأمكنك منهم، أي أظفرك بهم قتلا وأسرا، كما رأيتم يوم بدر، فسيمكن منهم إن عادوا إلى الخيانة وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ أي عليم بما في بواطنهم من إيمان وتصديق، أو خيانة ونقض عهد. حكيم يجازي كلا بعمله، الخير بالثواب، والشر بالعقاب.
روى ابن هشام في السيرة أن فداء المشركين يوم بدر كان أربعة آلاف درهم بالرجل إلى ألف درهم، إلا من لا شيء له. فمنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عليه.
وقال ابن إسحاق: كان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس، وذلك أنه كان رجلا موسرا، فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهبا.
وفي صحيح البخاري «١» عن أنس أن رجالا من الأنصار قالوا: يا رسول الله! ائذن لنا، فنترك لابن أختنا عباس فداءه. قال: لا والله! لا تذرون منه درهما.
وروى ابن إسحاق «٢» أن العباس قال: يا رسول الله! قد كنت مسلما. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: الله أعلم بإسلامك، فإن يكن كما تقول، فإن الله يجزيك. وأما ظاهرك فقد كان علينا، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل وحليفك عتبة. قال:
ما ذاك عندي يا رسول الله! قال: فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل، فقلت لها:
إن أصبت في سفري هذا، فهذا المال الذي دفنته لبني: الفضل وعبد الله وقثم؟ قال:
والله! يا رسول الله، إني لأعلم أنك رسول الله، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري
(١) أخرجه في: المغازي، ١٢- باب حدثني خليفة، حديث رقم ١٢٤٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في المسند ١/ ٣٥٣، والحديث رقم ٣٣١٠.
329
وغير أم الفضل، فاحسب لي، يا رسول الله، ما أصبتم من عشرين أوقية من مال كان معي. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لا. ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك.
ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه، فأنزل الله عز وجل فيه: (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ... الآية.
قال العباس: فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام، عشرين عبدا كلهم في يده مال، يضرب به. مع ما أرجو من مغفرة الله عزّ وجلّ.
وروى ابن إسحاق أيضا أن العباس كان يقول: فيّ نزلت، والله! حين ذكرت لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إسلامي.
وروى ابن جريج عن عطاء بن عباس أن عباسا وأصحابه قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: آمنا بما جئت به، ونشهد أنك رسول الله، لننصحنّ لك على قومنا، فأنزل الله تعالى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ... [الأنفال: ٧٠] الآية.
قال، فكان العباس يقول: ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وأن لي الدنيا، لقد قال: يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ فقد أعطاني خيرا مما أخذ مني مائة ضعف. وقال: وَيَغْفِرْ لَكُمْ وأرجو أن يكون قد غفر لي.
وروي البيهقي عن أنس قال: أتي رسول الله صلى الله عليه وسلّم بمال من البحرين، فقال:
انثروه في مسجدى. قال، وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فخرج إلى الصلاة، ولم يلتفت إليهم، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه، فما كان يرى أحدا إلا أعطاه، إذ جاءه العباس فقال: يا رسول الله! أعطني، فاديت نفسي، وفاديت عقيلا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: خذ! فحثا في ثوبه، ثم ذهب يقلّه، فلم يستطع. فقال: مرّ بعضهم يرفعه إلىّ، قال: لا، قال: فارفعه أنت عليّ، قال: لا! فنثر منه، ثم احتمله على كاهله، ثم انطلق، فما زال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتبعه ببصره حتى خفى عنه، عجبا من حرصه.
فما قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وثمّ منها درهم. وفي رواية: وما بعث إلى أهله بدرهم.
ورواه البخاري «١» تعليقا.
وفي رواية: فجعل العباس يقول وهو منطلق: أما إحدى اللتين وعدنا الله فقد
(١) أخرجه البخاري في: الجزية والموادعة، ٤- باب ما أقطع النبيّ صلى الله عليه وسلّم من البحرين وما وعد من مال البحرين، حديث رقم ٢٧٧.
330
أنجزنا، وما ندري ما يصنع في الأخرى! ثم ذكر تعالى أصناف المؤمنين، وقسمهم إلى مهاجرين وأنصار فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٢]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا أي من مكة إلى المدينة لنصر الله ورسوله وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي طاعته وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أي وطنوا المهاجرين وأنزلوهم منازلهم وبذلوا إليهم أموالهم، وآثروهم على أنفسهم، ونصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي يتولّى بعضهم بعضا في النصرة والمظاهرة، ويقوم مقام أهله ونفسه، ويكون أحق به من كل أحد. ولهذا آخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين المهاجرين والأنصار.
قال ابن إسحاق: وآخى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين أصحابه من المهاجرين والأنصار، فقال فيما بلغنا: تآخوا أخوين أخوين ثم أخذ بيد عليّ بن أبي طالب فقال: هذا أخي.
وكان حمزة بن عبد المطلب أسد الله وأسد رسوله وعمّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وزيد بن حارثة مولى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أخوين. وإليه أوصى حمزة يوم (أحد) حين حضره القتال إن حدث به حادث الموت. وجعفر ذو الجناحين الطيار في الجنة ومعاذ بن جبل أخوين. وأبو بكر الصديق وخارجة بن زيد أخوين. وعمر بن الخطاب وعتبان بن مالك أخوين. وأبو عبيدة بن الجراح وسعد بن معاذ أخوين. وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع أخوين. والزبير بن العوام وسلمة بن سلامة أخوين، وعبد الله بن مسعود وعثمان بن عفان وأوس بن ثابت أخوين وطلحة بن عبيد الله وكعب بن مالك أخوين. وسعيد بن زيد وأبيّ بن كعب أخوين. ومصعب بن عمير وأبو أيوب الأنصاري أخوين. وأبو حذيفة وعباد بن بشر أخوين. وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان أخوين. وأبو ذرّ الغفاري والمنذر بن عمرو أخوين. وسلمان الفارسي وأبو الدرداء أخوين. وحاطب بن أبي بلتعة وعويم بن ساعدة أخوين. وبلال الحبشي وأبو رويحة الخثعمي أخوين.
331
ولما خرج بلال إلى الشام، وأقام فيها مجاهدا، قال له عمر: إلى من نجعل ديوانك؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبدا، للأخوّة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عقد بينه وبيني. فضم إليه، وضم ديوان الحبشة إلى خثعم، لمكان بلال منهم.
قال ابن إسحاق. فهؤلاء من سمى لنا ممن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم آخى بينهم من أصحابه.
تنبيه:
نقل الواحدي عن ابن عباس وغيره، أن المراد من هذه الولاية، هي الولاية في الميراث. قال ابن كثير: لما تآخوا كانوا يتوارثون بذلك إرثا مقدما على القرابة، حتى نسخ الله ذلك بالمواريث. ثبت ذلك في صحيح البخاري عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد.
قال الخفاجي: فكان المهاجري يرثه أخوه الأنصاري، إذا لم يكن له بالمدينة وليّ مهاجري، ولا توارث بينه وبين قريبه المسلم غير المهاجري. واستمر أمرهم على ذلك إلى فتح مكة، ثم توارثوا بالنسب بعد، إذ لم تكن هجرة. و (الولي) القريب والناصر. لأن أصله القرب المكانيّ، ثم جعل للمعنوي، كالنسب والدين والنصرة.
فقد جعل صلّى الله عليه وسلّم، في أول الإسلام، التناصر الديني أخوّة، وأثبت لها أحكام الأخوّة الحقيقة من التوارث، فلا وجه لما قيل إن هذا التفسير لا تساعده اللغة، فالولاية على هذا، الوراثة المسببة عن القرابة الحكمية. انتهى.
ومراده ب (ما قيل) ما ذكره الرازي في تضعيف تفسير الولاية بالوراثة، حيث قال:
واعلم أن لفظ الولاية غير مشعر بهذا المعنى، لأن هذا اللفظ مشعر بالقرب على ما قررناه في مواضع من هذا الكتاب. ويقال: السلطان وليّ من لا وليّ له، ولا يفيد الإرث. وقال تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس: ٦٢]، ولا يفيد الإرث، بل الولاية تفيد القرب، فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظما للبعض، مهتما بشأنه، مخصوصا بمعاونته ومناصرته. والمقصود أن يكونوا يدا واحدة على الأعداء، وأن يكون حب كل واحد لغيره جاريا مجرى حبه لنفسه. وإذا كان اللفظ محتملا لهذا المعنى، كان حمله على الإرث بعيدا عن دلالة اللفظ، لا سيما وهم يقولون: إن ذلك الحكم صار منسوخا بقوله تعالى في آخر الآية: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ [الأنفال:
٧٥]، وأي حاجة تحملنا على حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثم
332
الحكم بأنه صار منسوخا بآية أخرى مذكورة معه؟ هذا في غاية البعد، اللهم إلا إذا حصل إجماع المفسرين على أن المراد ذلك، فحينئذ يجب المصير إليه. إلا أن دعوى الإجماع بعيدة. انتهى.
وأقول: لعموم هذا الخطاب ونظمه وجه في إثبات التوارث، لا سيما وقد نفى تعالى ولاية من لم يهاجر نفيا استغرق أقرب الأقارب حيث قال: وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا أي بأن أقاموا في بواديهم ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي إلى المدينة. وقوله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ أي إذا استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال دينيّ، فيجب عليكم أن تنصروهم على أعدائهم المشركين، لأنهم إخوانكم في الدين إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أي عهد ومهادنة إلى مدة، فلا تعينوهم عليهم، لئلا تخفروا ذمتكم، وتنقضوا عهدكم وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فلا تخالفوا أمره.
تنبيهات:
الأول- احتج من ذهب إلى أن المراد من قوله تعالى: ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ أي من توليتهم في الميراث، وأنه هو المراد في الآية السابقة أيضا، بقوله تعالى: وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فإن هذا موالاة في الدين، فحينئذ لا يجوز حمل الموالاة المنفية، على النصرة والمظاهرة، لأنها لازمة لكل حال لكلا الفريقين. وأجاب الرازي بما معناه: إن الولاية هنا ليس المراد بها مطلق التولي حتى يرد ما ذكروه، بل عنى بها معنى خاص، وهو علاقة شديدة، ومحبة أكيدة، وإيثار قويّ، وأخوة وثيقة. ولا يلزم من النصر التولي. فقد ينصر المرء ذميّا لأمر ما ولا يتولاه، ويدافع عن عبده أو أمته ويعينهما ولا يتولاهما- والله أعلم-.
الثاني- يظهر أن هذه الآية كسوابقها مما نزل إثر واقعة بدر، وطلب من كل من آمن من البادين أن يهاجر، ليكثر سواد المسلمين، ويظهر اجتماعهم، وإعانة بعضهم لبعض، فتتقوى بألفتهم شوكتهم، ولم يزل طلب الهجرة إلا بفتح مكة،
لقوله صلى الله عليه وسلّم: لا هجرة بعد فتح مكة. رواه البخاري «١» عن مجاشع بن مسعود.
(١) حديث مجاشع بن مسعود أخرجه البخاريّ في: الجهاد، ١١٠- باب البيعة في الحرب ألا يفرّوا، حديث رقم ١٤١٣ و ١٤١٤.
وأخرجه مسلم في: الإمارة، حديث ٨٣ و ٨٤.
ونصه: قال: أتيت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أبايعه على الهجرة فقال «إن الهجرة قد مضت لأهلها».
333
الثالث- شمل نفي الموالاة عن الذين لم يهاجروا وقتئذ، حرمانهم من المغانم والفيء.
روى الإمام أحمد «١» عن بريدة بن الحصيب الأسلمي رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا بعث أميرا على سرّية أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيرا. وقال: اغزوا بسم الله في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله. إذا لقيت عدوّك من المشركين فادعهم إلى ثلاث خصال أو خلال، فأيتها ما أجابوك إليها فاقبل منهم، وكفّ عنهم ادعهم إلى الإسلام، فإن أجابوك فاقبل منهم، وكفّ عنهم. ثم ادعهم من التحول من دارهم إلى دار المهاجرين، وأعلمهم إن فعلوا ذلك، أن لهم ما للمهاجرين، وأن عليهم ما على المهاجرين، فإن أبوا واختاروا دارهم، فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين، يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين، ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب، إلا أن يجاهدوا مع المسلمين، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية، فإن أجابوا فاقبل منهم، وكفّ عنهم، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم.
قال ابن كثير: انفرد به مسلم «٢»
، وعنده زيادات أخر.
الرابع- قرأ حمزة (ولايتهم) بكسر الواو، والباقون بفتحها.
قال الشهاب: جاء في اللغة: (الولاية) مصدرا بالفتح والكسر، فقيل: هما لغتان فيه بمعنى واحد، وهو القرب الحسي والمعنوي، وقيل: بينهما فرق، فالفتح ولاية مولى النسب ونحوه. والكسر ولاية السلطان. قاله أبو عبيدة. وقيل الفتح من النصرة والنسب. والكسر من الإمارة. قاله الزجاج. وخطأ الأصمعيّ قراءة الكسر، وهو المخطئ لتواترها. واختلفوا في ترجيح إحدى القراءتين. ولما قال المحققون من أهل اللغة: إن (فعالة) بالكسر في الأسماء لما يحيط بشيء، ويجعل فيه كاللفافة والعمامة. وفي المصادر يكون في الصناعات وما يزاول بالأعمال، كالكتابة والخياطة- ذهب الزجاج وتبعه غيره إلى أن الولاية لاحتياجها إلى تمرن وتدرب شبهت بالصناعة، لذا جاء فيها الكسر، كالإمارة. وهذا يحتمل أن الواضع حين وضعها شبهها بذلك، فتكون حقيقة ويحتمل- كما في بعض شروح الكشاف- أن تكون استعارة، كما سموا الطب صناعة. انتهى.
(١) أخرجه في المسند ٥/ ٣٥٨.
(٢) أخرجه في: الجهاد والسير، حديث رقم ٣.
334
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٣]
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي فلا يتولاهم إلا من كان منهم، ففيه إشارة إلى نهي المسلمين عن موالاتهم. وإيجاب مباعدتهم ومصارمتهم، وإن كانوا أقرب وقد استدل به على أنه لا توارث بين المسلمين والكفار.
روى الحاكم في (مستدركه) عن أسامة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: لا يتوارث أهل ملتين، ولا يرث مسلم كافرا ولا كافر مسلما، ثم قرأ وَالَّذِينَ كَفَرُوا... الآية رواه الشيخان عنه «١» بلفظ: لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم.
وقوله تعالى: إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ أي إلا تفعلوا ما أمرتكم به من التواصل، وتولّي بعضكم بعضا، ومن قطع العلائق بينكم وبين الكفار، تحصل فتنة في الأرض ومفسدة عظيمة، لأن المسلمين ما لم يصيروا يدا واحدة على الشرك، كان الشرك ظاهرا، والفساد زائدا، في الاعتقادات والأعمال.
وقيل: الضمير المنصوب للميثاق أو حفظه أو النصر أو الإثبات. وقيل إنه للاستنصار المفهوم من الفعل. والفتنة: إهمال للمؤمنين المستنصرين بنا، حتى يسلط علينا الكفار. إذ فيه وهن للدين.
قال الشهاب: وفيه تكلف، أي فالأوجه عوده للتولي والتواصل- كما بينا-.
قال الرازي: بيان هذه الفتنة والفساد عن وجوه:
الأول- أن المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين، وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار، وكثرة عددهم، فربما صارت تلك المخالطة سببا لالتحاق المسلم بالكفار.
الثاني- أن المسلمين لو كانوا متفرقين لم يظهر منهم جمع عظيم، فيصير ذلك سببا لجرأة الكفار عليهم.
الثالث أنه إذا كان جميع المسلمين كل يوم في الزيادة في العدد والعدد صار ذلك سببا لمزيد رغبتهم فيما هم فيه، ورغبة المخالف في الالتحاق بهم. انتهى.
(١) أخرجه مسلم عن أسامة بن زيد في: الفرائض، حديث رقم ١.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٤]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ عود لذكر المهاجرين والأنصار، للثناء عليهم، والشهادة لهم، مع الموعد الكريم. فلا تكرار، لما أن مساق الأول لإيجاب التواصل بينهم، فذكرهم هاهنا لبيان تعظيم شأنهم، وعلوّ درجتهم.
قال الرازي: وبيانه من وجهين:
الأول- أن الإعادة تدل على مزيد الاهتمام بحالهم، وذلك يدل على الشرف والتعظيم.
والثاني- وهو أنه تعالى أثنى عليهم هاهنا من ثلاثة أوجه:
أولها- قوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا فقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ يفيد الحصر، وقوله: حَقًّا يفيد المبالغة في وصفهم بكونهم محقين محققين في طريق الدين، وقد كانوا كذلك، لأن من لم يكن محقّا في دينه، لم يتحمل ترك الأديان السالفة، ولم يفارق الأهل والوطن، ولم يبذل النفس والمال، ولم يكن في هذه الأحوال من المتسارعين المتسابقين.
وثانيها- قوله لَهُمْ مَغْفِرَةٌ والتنكير يدل على الكمال، أي مغفرة تامة كاملة.
وثالثها- قوله وَرِزْقٌ كَرِيمٌ والمراد منه الثواب الرفيع الشريف انتهى.
وقد أثنى تعالى على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه الكريم والله أعلم.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الأنفال (٨) : آية ٧٥]
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي من جملتكم، أي المهاجرون والأنصار، في استحقاق ما استحقيتموه من الموالاة والمناصرة، وكمال
336
الإيمان والمغفرة والرزق الكريم.
وهل المراد من قوله مِنْ بَعْدُ هو من بعد الهجرة الأولى، أو من بعد الحديبية. وهي الهجرة الثانية، أو من بعد نزول هذه الآية، أو من بعد يوم بدر؟ أقول- واللفظ الكريم يعمها كلها، والتخصيص بأحدهما تخصيص بلا مخصص.
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ أي في حكمته وقسمته، أو في اللوح، أو في القرآن، لأن (كتاب الله) يطلق على كل منها إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ فيقضي بين عباده بما شاء من أحكامه التي هي منتهى الصواب والحكمة والصلاح.
تنبيهات:
الأول إن هذه الآية ناسخة للميراث بالموالاة والمناصرة عند من فسر ما تقدم من قوله بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وما بعده بالتوارث.
أخرج أبو داود «١» من حديث ابن عباس قال: كان الرجل يحالف الرجل، ليس بينهما نسب، فيرث أحدهما من الآخر، فنسخ ذلك آية الأنفال فقال:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ إلخ إلا أن في إسناده من فيه مقال.
وأما من فسر الموالاة المتقدمة بالنصرة والمعونة والتعظيم، فيجعل هذه الآية إخبارا منه سبحانه وتعالى بأن القرابات بعضهم أولى ببعض. وذلك أن تلك الآية، لما كانت محتملة للولاية بسبب الميراث، بيّن الله تعالى في هذه الآية أن ولاية الإرث إنما تحصل بسبب القرابة، إلا ما خصه الدليل، فيكون المقصود من الآية إزالة هذا الوهم.
قال الرازي: وهذا أولى. لأن تكثير النسخ، من غير ضرورة وحاجة، لا يجوز.
الثاني- استدل بالآية من ورّث ذوي الأرحام، وهم من ليسوا بعصبات، ولا ذوي سهام. قال: ويعضده
حديث «٢» :(الخال وارث من لا وارث له)
وأجاب من منع توريثهم بأن المراد من الآية من ذكر الله من ذوي السهام والعصبات. ومن
الحديث: (من كان وارثه الخال فلا وارث له)
. وردّ بأنها عامة فلا موجب للتخصيص، وبأن معنى الحديث: من كان لا وارث له غيره،
لحديث: (أنا عماد من لا عماد له).
(١) أخرجه أبو داود في: الفرائض، ١٦- باب نسخ ميراث العقد بميراث الأرحام، حديث رقم ٢٩٢١. [.....]
(٢) أخرجه أبو داود في: الفرائض، ٨- باب في ميراث ذوي الأرحام، حديث رقم ٢٨٩٩ و ٢٩٠٠ عن المقدام الكندي.
337
ثم إن الذين أثبتوا ميراثهم اختلفوا في أنهم هل يرثون بالقرب، أو بالتنزيل، وهل يرث القريب مع البعيد، وهل يفضل الذكر على الأنثى أو لا؟ والآية محتملة.
أفاده بعض مفسري الزيدية.
قال ابن كثير: ليس المراد بقوله: وَأُولُوا الْأَرْحامِ خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض على القرابة الذين لا فرض لهم ولا عصبة، بل يدلون بوارث كالخالة والخال، والعمة وأولاد البنات وأولاد الأخوات ونحوهم، كما يزعمه بعضهم، ويحتج بالآية، ويعتقد ذلك صريحا في المسألة. بل الحق أن الآية عامة، تشمل جميع القرابات كما نص عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة والحسن وقتادة وغير واحد وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص، ومن لم يورّثهم يحتج بأدلة، من أقواها
حديث «١» :(إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث)
قالوا: فلو كان ذا حق لكان ذا فرض في كتاب الله مسمى، فلما لم يكن كذلك، لم يكن وارثا.
انتهى.
ولا يخفى ضعف هذا الاستدلال، إذ لا يلزم من ثبوت الحق تعيين الفرض.
على أن معنى الحديث، أعطى كل ذي حق حقه مفصلا ومجملا، وقد أعطاهم حق الأولوية العامة، ووكل بيان ما يفهم من إجمال الإرث بعمومها لاستنباط الراسخين وفهمهم على قاعدة عمومات التنزيل.
وقد رأيت في هذه المسألة مقالة بديعة أوردها الحسن الصابئ في (تاريخ الوزراء) في أخبار وزارة أبي الحسن بن الفرات، نأثرها هنا، لأنها جمعت فأوعت، قال رحمه الله:
ونسخة ما كتب به أبو خازم إلى بدر المعتضدي جواب كتابة إليه في أمر المواريث: وصل كتاب الأمير، يذكر أنه احتيج إلى كتابي بالذي أراه واجبا من مال المواريث لبيت المال، ومالا أراه واجبا منه، وتلخيص ذلك وتبيينه- وأنا أذكر للأمير الذي حضرني من الجواب في هذه المسألة والحجة فيما سأل عنه ليقف على ذلك إن شاء الله-.
الناس مختلفون في توريث الأقارب، فروي عن زيد بن ثابت أنه جعل التركة- إذا لم يكن للمتوفى من يرثه من عصبة وذي سهم- لجماعة من المسلمين وبيت
(١) أخرجه أبو داود في: الوصايا، ٦- باب ما جاء في الوصية للوارث، حديث رقم ٢٨٧٠.
338
مالهم. وكذلك يقول في الفصل بعد السّهمان المسماة، إذا لم تكن عصبة. ولم يرو ذلك عن أحد من الصحابة سوى زيد بن ثابت. وقد خالفه عمر بن الخطاب، وعلي ابن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وجعلوا ما يفضل من السّهمان ردا على أصحاب السهام من القرابة، وجعلوا المال لذي الرحم إذا لم يكن وارث سواه. والسنّة تعاضد ما روي عنهم، وتخالف ما روي عن زيد بن ثابت وتأويل القرآن يوجب ما ذهبوا إليه. وليس لأحد أن يقول في خلاف السنة والتنزيل بالرأي. قال الله تعالى:
وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. فصيّر القريب أولى من البعيد، وإلى هذا ذهب عمر وعليّ وعبد الله رضي الله عنهم ومن تابعهم من الأئمة، وعليه اعتمدوا، وبه تمسكوا- والله أعلم.
ولو كان في هذه المسألة ما يدل عليه شاهد من الكتاب والسنة، لكان الواجب تقليد الأفضل والأكثر من السابقين الأولين، وترك قبول من سواهم ممن لا يلحق بدرجتهم بسابقته. وإذا ردّ أمر الناس إلى التخيير من أقاويل السلف فهل يحيل أو يشكل على أحد أن زيدا لا يفي علمه بعلم عمر وعليّ وعبد الله؟ وإذا فضلوا في السابقة والهجرة، فمن أين وجب أن يؤخذ بما روي عن زيد بن ثابت، واطّراح ما روي عنهم، وقد استدلوا مع ذلك بالكتاب فيما ذهبوا إليه، وبالسنة فيما أفتوا به؟
والرواية ثابتة عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بتوريث من لا فرض له في الكتاب من القرابة. فمن ذلك ما ذكر لنا
عن معاوية بن صالح عن راشد بن سعد عن أبي عامر الهرويّ عن المقدام ابن معدي كرب عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «١» أنه قال: الخال وارث من لا وارث له يرث ماله، ويعقل عنه. وكذلك بلغنا عن شريك بن عبد الله عن ليث عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم مثله. وعن ابن جريج عن عمر بن سلم عن طاوس عن عائشة أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال مثل ذلك.
وذكر عن عبادة بن أبي عباد عن محمد بن إسحاق عن يعقوب بن عتبة عن محمد بن يحيا بن حبان عن عمه واسع بن حبان قال: توفي ثابت بن أبي الدحداح، فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لعاصم بن عدي: أله فيكم نسب؟. قال: فدفع تركته إلى ابن أخته
فقد أوجب عليه السلام، بما نقلته عنه هذه الرواية، توريث من لا سهم له من القرابة مع عدم أصحاب السّهمان المبينة في الكتاب. وأعطى الجدة السدس من الميراث، ولا فرض لها، وفي ذلك الاتفاق، وفيما صير لها من السدس، دليل على أن من لا سهم له من القرابة في معناها؟ إذا بطلت السهام، ولم يكن من أهلها، وأنه أولى بالميراث من الأجنبيّ.
(١) أخرجه أبو داود في: الفرائض، ٨- باب في ميراث ذوي الأرحام، حديث رقم ٢٨٩٩ و ٢٩٠٠.
339
والمرويّ عن زيد بن ثابت أنه جعل الفضل عن سهام الفرائض، وكل المال، إذا سقطت السهام بعد أهلها، لجماعة المسلمين. فجعلهم كلهم وارثا، وجعل ما يصير لهم من ذلك- في خلاف مال الفيء المصروف إلى الشحنة وأرزاق المقاتلة وإلى المصالح إذا كان ذلك- يكون فبما روي عنه للناس كافة، وعددهم لا يحصى، فغير ممكن أن يقسم ذلك فيهم وهم متفرقون في أقطار الأرض، مشارقها ومغاربها. وإذا امتنع ذلك وخرج إلى ما ليس بممكن، فسد وثبت ما قلناه من قول أكابر الأئمة، وقد تأول بعض المتأولين قوله الله تعالى: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ فقال فيه: كان الناس يتوارثون بالحلف دون القرابة. فلما أوجب الله المواريث لأهلها من الأقارب، منع الحليف بما فرض من السهمان فغلطوا وصرفوا حكم الآية إلى الخصوص، فذلك غير واجب مع عدم الدليل، لأن مخرجها في السمع مخرج العموم.
وبعد، فلو كان تأويلها ما ذهبوا إليه، وكانت السهام التي نسخت ما يرثه الحليف قبل نزول الفرائض، لوجب في بدء، وما قالوا إذا كان لا وارث للميت من أصحاب السهام أن يكون الحليفان في التوارث على أول فرضهما، وعلى المقدم من حكمها، لأن الذي منعهما إذا ثبت هذا التأويل (من له سهم) دون (من لا سهم له)، فإذا ارتفع المانع، رجع الحكم إلى بدئه. ولا اختلاف بين الفريقين أن الحليف لا يرث الحليف اليوم، وإن كان لا وارث سواه، وهذا يدل على فساد تأويلهم، وعلى أن المراد في الآية التي أوجبت الحق للأقارب غير الذي ذهبوا إليه، فإن الله سبحانه إنما أراد بمعناها اختصاص القريب بالإرث دون البعيد. وقد يلزم من ذهب إلى الرواية عن زيد، وترك الرواية عن عمر وعليّ وعبد الله عليهم السلام جانبا، وأسقط التعاقل بين الأجنبي والقريب، أن يجعل ذا الرحم أولى، لأنه لا يفضل الأجنبي بالقرابة.
وترتيب المواريث في الأصل يجري على من تقدمه من فضل غيره في المناسبة، كالأخ للأب والأم، والأخ للأب، وابن العم للأب والأم، وابن العم للأب، واختصاصهما قرابة أولاهما بالميراث عند جمع الجميع. قال الله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ [النساء: ١١]، وولد الولد، من سفل منهم ومن ارتفع، يعمهم هذا الاسم، إلا أن الأقرب منهم، في معنى الآية، أحق من الأبعد. فإذا كان ذلك كذلك، كان القريب أولى من الأجنبي بالتركة للرحم التي تقرّب بها دونه.
وبعد، فإن العلماء نفر يسير لا يعرفون الصواب في هذه المسألة، إلا فيما روي عن الخليفتين عمر وعليّ صلوات الله عليهما، وما روي عن ابن مسعود، ثم لم
340
يقتصروا في المبالغة والدليل في توريث ذي الرحم، إلا على ما روي عن عبد الله بن العباس، جدّ أمير المؤمنين أطال الله بقاءه، وترجمان القرآن، وبحر العلم، ومن كان إذا تكلم سكت الناس، ومن دعا له النبيّ صلّى الله عليه وسلّم
فقال «١» : اللهم! فقهه في الدين وعلمه التأويل.
ودعوة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم مستجابة. ومن كان أعلم بتأويل القرآن فاتباعه فيه أوجب. وقد روي عن ابن عباس مثل ذلك من قول عمر وعليّ وعبد الله والجماعة. وما زالت الخلفاء من أجداد أمير المؤمنين، أعزه الله، يستقضون الحكام، فيقضون برد المواريث على الأقارب، ولا ينكرون ذلك على من قضى به من قضاتهم، ولا تردونه متجاوزا للحق فيه، وما عرفت الجماعة بغير هذا الاسم إلا منذ نحو عشرين سنة، وأمير المؤمنين أولى من اتبع آثار السلف، واقتدى بخلفاء الله، ومال إلى أفضل المذهبين، وإلى الله الرغبة في عصمة الأمير، وتسديده، والحمد لله رب العالمين. انتهى.
ونقل أبو الحسن الصابي قبل نسخة أبي الحسن محمد بن جعفر بن ثوابة في المواريث، وفيها نقل ما كتبه عبد الحميد في كتاب مواريث أهل الملة، وأنه حكى فيه أن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود رضوان الله عليهم ومن اتبعهم من الأئمة الهادين رحمة الله عليهم، رأوا أن يردّ على أصحاب السهام من القرابة ما يفضل عن السهام المفترضة في كتاب الله تبارك وتعالى من المواريث، إذا لم يكن للمتوفى عصبة يحوز باقي ميراثه، وجعلوا، رضي الله عنهم، تركة من يتوفى ولا عصبة له لذوي رحمه، إن لم يكن له وارث سواهم، ممتثلين في ذلك أمر الله سبحانه إذ يقول: وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ. وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلّم في توريثه من لا فرض له في كتاب الله تعالى من الخال وابن الأخت والجدة. انتهى.
الثالث- استدل بالآية الإمامية على تقديم الإمام علي كرم الله وجهه على غيره في الإمامة، لاندراجها في عموم الأولوية. والجواب- على فرض صحة هذه الدلالة- أن العباس رضي الله عنه كان أولى بالإمامة، لأنه كان أقرب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من علي رضي الله عنه.
(١)
أخرجه البخاري في: العلم، ١٧- باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «اللهم! علمه الكتاب»، ونصه: اللهم! علمه الكتاب.
وفي: الوضوء، ١٠- باب وضع الماء عند الخلاء، ونصه: اللهم فقهه في الدين.
وفي: فضائل أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ٢٤- باب ذكر ابن عباس، ونصه: اللهم! علمه الحكمة.
وفي: الاعتصام بالكتاب والسنة، ونصه: اللهم! علمه الكتاب، والحديث رقم ٦٥
. أما النص الذي أورده المؤلف فلم أعثر عليه.
341

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة التوبة
هي مدنية بإجماعهم. قيل: سوى آيتين في آخرها لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ.. [التوبة: ١٢٨] فإنهما نزلتا بمكة. وفيه نظر. فقد روى البخاري «١» عن البراء أنها آخر سورة نزلت، واستثنى بعضهم ما كانَ لِلنَّبِيِّ.. [التوبة: ١١٣]- لما
ورد أنها نزلت في قوله صلّى الله عليه وسلّم لأبي طالب: لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك.
وهي مائة وتسع وعشرون آية ولهذه السورة عشرة أسماء:
١- براءة: سميت بها لافتتاحها بها، ومرجع أكثر ما ذكر فيها إليها.
٢- التوبة: لتكرارها فيها، كقوله تعالى: فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [التوبة: ٣]، فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ [التوبة: ٥ و ١١]، وقوله: ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ [التوبة: ٢٧]، وقوله: فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ [التوبة: ٧٤] وقوله عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة: ١٠٢] وقوله: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ [التوبة: ١١٧]، وقوله تعالى: أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ [التوبة: ١٠٤]، وقوله: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ [التوبة: ١١٢] وهما أشهر أسمائها.
٣- الفاضحة: أخرج البخاري «٢» عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس:
(١) أخرجه البخاري في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١- باب قوله بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، حديث ١٩٤١.
(٢) أخرجه البخاري في: التفسير، ٥٩- سورة الحشر، ١- حدثنا محمد بن عبد الرحيم، حديث رقم ١٨٦٩.
342
سورة التوبة، قال: التوبة هي الفاضحة، ما زالت تنزل: ومنهم ومنهم، حتى ظنوا أنها لم تبق أحدا منهم إلا ذكر فيها.
٤- سورة العذاب: رواه الحاكم عن حذيفة، وذلك لتكرره فيها.
٥- المقشقشة: رواه أبو الشيخ عن ابن عمر، والقشقشة معناها التبرئة، وهي مبرئة من النفاق.
٦- المنقرة: أخرجه أبو الشيخ عن عبيد بن عمير لأنها نقرت عما في قلوب المشركين. أي بحثت.
٧- البحوث: بفتح الباء، صيغة مبالغة، رواه الحاكم عن المقداد.
٨- الحافرة: ذكره ابن الغرس، لأنها حفرت عن قلوب المنافقين، أي بحثت عنها، مجازا.
٩- المثيرة: رواه ابن أبي حاتم عن قتادة لأنها أثارت مثالبهم وعوراتهم أي أخرجتها من الخفاء إلى الظهور.
١٠- المبعثرة: لأنها بعثرت أسرارهم أي أظهرتها.
١١- المدمدمة: أي المهلكة لهم.
١٢- المخزية.
١٣- المنكلة: أي المعاقبة لهم.
١٤- المشردّة: أي الطاردة لهم والمفرقة جمعهم.
وليس في السور أكثر أسماء منها ومن الفاتحة.
تنبيه:
للسلف في وجه ترك كتابة البسملة في هذه السورة والتلفظ بها أقوال:
١-
روى الحاكم في (المستدرك) عن ابن عباس قال: سألت عليّ بن أبي طالب: لم لم تكتب في (براءة) البسملة؟ قال: لأنها أمان. وبراءة نزلت بالسيف.
أي فنزولها لرفع الأمان الذي يأبى مقامه التصدير بما يشعر ببقائه من ذكر اسمه تعالى، مشفوعا بوصف الرحمة. ولذا قال ابن عيينة: اسم الله سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة. قال الله تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً [النساء: ٩٤]، قيل له: فإن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قد كتب إلى أهل الحرب البسملة. قال: إنما ذلك ابتداء منه يدعوهم، ولم ينبذ إليهم. ألا تراه
يقول: سلام على من اتبع الهدى؟
فمن دعي إلى الله عزّ وجلّ فأجاب، ودعي إلى الجزية فأجاب،
343
فقد اتبع الهدى، فظهر الفرق. وكذا قال المبرد: إن التسمية افتتاح للخير، وأول هذه السورة وعيد ونقض عهود، فلذلك لم تفتتح بالتسمية.
٢- عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال، وهي من المثاني، وإلى براءة وهي من المئين، فقرنتم بينهما، ولم تكتبوا سطر البسملة، ووضعتموها في السبع الطوال، ما حملكم على ذلك؟ قال عثمان: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كثيرا ما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد، وكان إذا نزل عليه شيء دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وإذا نزلت عليه الآية يقول: ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا، وكانت (الأنفال) من أوائل ما نزل بالمدينة، وكانت (براءة) من آخر القرآن نزولا، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، وظننت أنها منها. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم يبين لنا أنها منها أو من غيرها، من أجل ذلك قرنت بينهما، ولم أكتب البسملة، ووضعتها في السبع الطوال. أخرجه أبو داود «١» والترمذي «٢» وقال: حديث حسن ورواه الإمام أحمد «٣» والنسائي وابن حبان في صحيحه، والحاكم وصححه.
قال الزجاج: والشبه الذي بينهما أن في (الأنفال) ذكر العهود، وفي (براءة) نقضها.
٣- أخرج أبو الشيخ عن أبي روق قال: (الأنفال) و (براءة) سورة واحدة.
ونقل مثله عن مجاهد، وأخرجه ابن أبي حاتم عن سفيان. وقال ابن لهيعة: يقولون إن (براءة) من (الأنفال)، ولذلك لم تكتب البسملة في (براءة)، وشبهتهم اشتباه الطرفين، وعدم البسملة. ويردّه تسمية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم كلا منهما.
وقال الحاكم: استفاض النقل أنهما سورتان.
وقال أبو السعود: اشتهارها بهذه الأسماء- يعني الأربعة عشر اسما المتقدمة- يقضي بأنها سورة مستقلة، وليست بعضا من سورة الأنفال، وادعاء اختصاص الاشتهار بالقائلين باستقلالها، خلاف الظاهر، انتهى.
(١) أخرجه أبو داود في: الصلاة، ١٢٢- باب من لم يجهر ببسم الله الرحمن الرحيم، باب من جهر بها، حديث رقم ٧٨٦.
(٢) أخرجه الترمذي في: التفسير، ٩- سورة التوبة، ١- حدثنا محمد بن بشار.
(٣) أخرجه في المسند ١/ ٥٧، حديث ٣٩٩.
344
Icon