تفسير سورة الغاشية

تفسير ابن عطية
تفسير سورة سورة الغاشية من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز المعروف بـتفسير ابن عطية .
لمؤلفه ابن عطية . المتوفي سنة 542 هـ
وهي مكية بلا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

سورة الغاشية
وهي مكية لا خلاف في ذلك بين أهل التأويل.
قوله عز وجل:
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١ الى ١١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤)
تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩)
فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١)
قال بعض المفسرين: هَلْ بمعنى قد، وقال الحذاق: هي على بابها توقيف، فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر، وقيل المعنى هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك، ففي هذا التأويل تعديد النعمة. والْغاشِيَةِ: القيامة لأنها تغشى العالم كله بهولها وتغييرها لبنيته، قاله سفيان وجمهور من المتأولين، وقال ابن جبير ومحمد بن كعب: الْغاشِيَةِ، النار، وقد قال تعالى: وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ [إبراهيم: ٥٠]، وقال: وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف: ٤١] فهي تغشى سكانها والقول الأول يؤيده قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ، والوجوه الخاشعة، وجوه الكفار وخشوعها ذلها وتغيرها بالعذاب، واختلف الناس في قوله تعالى: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ فيها والنصب، التعب، لأنها تكبرت عن العمل لله في الدنيا فأعملها في الآخرة في ناره. وقال عكرمة والسدي: المعنى: عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ يوم القيامة، فالعمل على هذا هو مساعي الدنيا. وقال ابن عباس وزيد بن أسلم وابن جبير: المعنى: هي عامِلَةٌ في الدنيا ناصِبَةٌ فيها لأنها على غير هدى، فلا ثمرة لعملها إلا النصب وخاتمته النار. قالوا: والآية في القسيسين وعبدة الأوثان وكل مجتهد في كفر، وقد ذهب هذا المذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه في تأويل الآية، وبكى رحمة لراهب نصراني رآه مجتهدا، وفي الحديث أن النبي ﷺ ذكر القدرية فبكى، وقال إن فيهم المجتهد. وقرأ ابن كثير في رواية شبل وابن محيصن: «عاملة ناصبة» بالنصب على الذم، والناصب فعل مضمر تقديره أذم أو أعني ونحو هذا، وقرأ الستة وحفص عن عاصم والأعرج وطلحة وأبو جعفر والحسن: «تصلى» بفتح التاء وسكون الصاد على بناء الفعل للفاعل، أي الوجوه، وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو عمرو بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وابن محيصن، واختلف عن نافع وعن الأعرج «تصلى» بضم التاء وسكون الصاد، وذلك يحتمل أن يكون من صليته النار على معنى أصليته،
472
فيكون كتضرب، ويحتمل أن يكون من أصليت، فتكون كتكرم، وقرأ بعض الناس: «تصلّى» بضم التاء وفتح الصاد وشد اللام على التعدية بالتضعيف، حكاها أبو عمرو بن العلاء، و «الحامية»، المتوقدة المتوهجة، و «الآنية» : التي قد انتهى حرها كما قال تعالى: وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن: ٤٤]، قاله ابن عباس والحسن ومجاهد، وقال ابن زيد: معنى آنِيَةٍ: حاضرة لهم من قولك آن الشيء إذا حضر، واختلف الناس في «الضريع»، فقال الحسن وجماعة من المفسرين: هو الزقوم، لأن الله تعالى قد أخبر في هذه الآية أن الكفار لا طعام لهم إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ، وقد أخبر أن الزقوم طعام الأثيم، فذلك يقتضي أن الضريع الزقوم، وقال سعيد بن جبير «الضريع» : الحجارة. وقال مجاهد وابن عباس وقتادة وعكرمة:
«الضريع» شبرق النار، وقال أبو حنيفة: «الضريع» الشبرق وهو مرعى سوء لا تعقد السائمة عليه شحما ولا لحما، ومنه قول أبي عيزارة الهذلي: [الطويل]
وحبسن في هزم الضريع فكلها جرباء دامية اليدين حرود
وقال أبو ذؤيب:
رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى وعاد ضريعا بان منه الخائض
وقيل «الضريع» : العشرق. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «الضريع» : شوك في النار، وقال بعض اللغويين: «الضريع» يبيس العرفج إذا تحطم، وقال آخرون: هو رطب العرفج، وقال الزجاج: هو نبت كالعوسج، وقال بعض المفسرين: «الضريع» نبت في البحر أخضر منتن مجوف مستطيل له بورقية كثيرة، وقال ابن عباس: «الضريع» : شجر من نار. وكل من ذكر شيئا مما ذكرناه فإنما يعني أن ذلك من نار ولا بد، وكل ما في النار فهو نار. وقال قوم: ضَرِيعٍ واد في جهنم، وقال جماعة من المتأولين:
«الضريع» طعام أهل النار ولم يرد أن يخصص شيئا مما ذكرناه، وقال بعض اللغويين: وهذا لا تعرفه العرب، وقيل: «الضريع» : الجلدة التي على العظم تحت اللحم، ولا أعرف من تأول الآية بهذا، وأهل هذه الأقاويل يقولون الزقوم لطائفة، والضريع لطائفة والغسلين لطائفة، واختلف في المعنى الذي سمي ضريعا فقيل هو ضريع بمعنى مضرع أي مضعف للبدن مهزل. ومنه قول النبي ﷺ في ولد جعفر بن أبي طالب: «ما لي أراهما ضارعين» ؟ يريد هزيلين، ومن فعيل بمعنى مفعل قول عمرو بن معد يكرب: [الوافر]
أمن ريحانة الداعي السميع يؤرقني وأصحابي هجوع
يريد السمع، وقيل ضَرِيعٍ فعيل من المضارعة، أي الاشتباه لأنه يشبه المرعى الجيد ويضارعه في الظاهر وليس به. ولما ذكر تعالى وجوه أهل النار، عقب ذلك بذكره وجوه أهل الجنة ليبين الفرق، وقوله تعالى: لِسَعْيِها يريد لعملها في الدنيا وطاعتها، والمعنى لثواب سعيها والتنعيم عليه، ووصف الجنة بالعلو وذلك يصح من جهة المسافة والمكان ومن جهة المكانة والمنزلة أيضا، وقرأ نافع وحده وابن كثير وأبو عمرو بخلاف عنهما والأعرج وأهل مكة والمدينة «لا تسمع فيها لاغية» أي ذات لغو، فهي على النسب، وفسره بعضهم على معنى لا تسمع فيها فئة أو جماعة لاغية ناطقة بسوء. قال أبو عبيدة:
473
لاغِيَةً مصدر كالعاقبة والخائنة، وقرأ الجحدري «لا تسمع» بضم التاء، «لاغية» بالنصب، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو: «لا يسمع» بالياء من تحت مضمومة «لاغية» بالرفع، وهي قراءة ابن محيصن وعيسى والجحدري أيضا. إلا أنه قرأ «لاغية» بالنصب على معنى لا يسمع أحد كلمة لاغية من قولك أسمعت زيدا.
وقرأ الباقون ونافع في رواية خارجة والحسن وأبو رجاء وأبو جعفر وقتادة وابن سيرين وأبو عمرو بخلاف عنه «لا تسمع» بفتح التاء ونصب «لاغية»، والمعنى إما على الكلمة وإما على الفئة، والفاعل ب «تسمع» إما الوجوه وإما محمد ﷺ قاله الحسن وإنما أنت أيها المخاطب عموما، واللغو سقط القول، فذلك يجمع الفحش وسائر الكلام السفساف الناقص وليس في الجنة نقصان ولا عيب في فعل ولا قول، والحمد لله ولي النعمة.
قوله عز وجل:
[سورة الغاشية (٨٨) : الآيات ١٢ الى ٢٦]
فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١)
لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦)
عَيْنٌ في هذه الآية اسم جنس، ويحتمل أن تكون عينا مخصوصة ذكرت على جهة التشريف لها. و «رفع السرر» أشرف لها، و «الأكواب» أوان كالأباريق لا عرى لها ولا آذان ولا خراطيم، وشكلها عند العرب معروف. ومَوْضُوعَةٌ معناه بأشربتها معدة و «النمرقة» الوسادة، ويقال نمرقة بكسر النون والراء وقال زهير: [الطويل]
كهولا وشبانا حسانا وجوههم على سرر مصفوفة ونمارق
و «الزرابي» واحدتها زريبة، ويقال بفتح الزاي وهي كالطنافس لها خمل، قاله الفراء وهي ملونات، ومَبْثُوثَةٌ معناه كثيرة متفرقة، ثم أقام تعالى الحجة على منكري قدرته على بعث الأجساد بأن وقفهم على موضع العبرة في مخلوقاته، والْإِبِلِ في هذه الآية هي الجمال المعروفة، هذا قول جمهور المتأولين، وفي الجمل آيات وعبر لمن تأمل ليس في الحيوان ما يقوم من البروك بحمله سواه وهو على قوته غاية في الانقياد. قال الثعلبي في بعض التفاسير: إن فأرة جرت بزمام ناقة فتبعتها حتى دخلت الجحر فبركت الناقة وأذنت رأسها من فم الحجر، وكان سريح القاضي يقول لأصحابة: اخرجوا بنا إلى الكناسة حتى ننظر؟؟؟ إلى الإبل كيف خلقت، وقال أبو العباس المبرد الْإِبِلِ هنا السحاب، لأن العرب قد تسميها بذلك إذ تأتيها أرسالا كالإبل وتزجى كما تزجى الإبل في هيئتها أحيانا تشبه الإبل والنعام، ومنه قول الشاعر:
[المتقارب]
474
كأن السحاب دوين السما... نعام تعلق بالأرجل
وقرأ أبو عمرو بخلاف وعيسى «الإبل» بشد اللام وهي السحاب فيما ذكر قوم من اللغويين والنقاش، وقرأ الجمهور «خلقت» بفتح القاف وضم الخاء، وقرأ علي بن أبي طالب «خلقت» بفتح الخاء وسكون القاف على فعل التكلم، وكذلك رفعت ونصبت «وسطحت»، وقرأ أبو حيوة «رفّعت» و «نصّبت» و «سطّحت» بالتشديد فيها، ونُصِبَتْ معناه: أثبتت قائمة في الهواء لا تنتطح، وقرأ الجمهور «سطحت»، وقرأ هارون الرشيد «سطّحت» بشد الطاء على المبالغة، وهي قراءة الحسن، وظاهر هذه الآية أن الأرض سطح لا كرة، وهو الذي عليه أهل العلم، والقول بكريتها وإن كان لا ينقص ركنا من أركان الشرع، فهو قول لا يثبته علماء الشرع، ثم أمر تعالى نبيه بالتذكير بهذه الآية ونحوها، ثم نفى أن يكون مصيطرا على الناس، أي قاهرا جاهدا لهم مع تكبر تسلطا عليهم، يقال تسيطر علينا فلان، وقرأ بعض الناس «بمسيطر» بالسين وبعضهم بالصاد، وقد تقدم وقرأ هارون «بمصيطر» بفتح الطاء وهي لغة تميم وليس في كلام العرب على هذا البناء غير مسيطر ومبيطر ومبيقر ومهيمن. وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ قال بعض المتأولين الاستثناء متصل والمعنى إِلَّا مَنْ تَوَلَّى فإنك مصيطر عليه فالآية على هذا لا نسخ فيها وقال آخرون منهم:
الاستثناء منفصل، والمعنى لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ وتم الكلام. وهي آية موادعة منسوخة بالسيف ثم قال إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ، وهذا هو القول الصحيح لأن السورة مكية، والقتال إنما نزل بالمدينة، ومَنْ بمعنى الذي. وقرأ ابن عباس وزيد بن أسلم وقتادة وزيد بن على «ألا من تولى» بفتح الهمزة على معنى: استفتاح الكلام، ومَنْ على هذه القراءة شرطية، والْعَذابَ الْأَكْبَرَ عذاب الآخرة لأنهم قد عذبوا في الدنيا بالجوع والقتل وغيره، وقرأ ابن مسعود «فإنه يعذبه الله» وقرأ الجمهور «إيابهم» مصدر من آب يؤوب إذا رجع، وهو الحشر، والمراد إلى الله، وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «إيّابهم» بشد الياء على وزن فعال بكسر الفاء أصله فيعال من أيب فعل أصله فيعل، ويصح أن يكون أوب فيجيء إيوابا، وسهلت الهمزة وكان اللازم في الإدغام يردها أوابا، لكن استحسنت فيه الياء على غير قياس. (انتهى).
475
Icon