ﰡ
وقيل: محذوف، لدلالة المعنى عليه، أي: ليجازي كل واحد بما عمل، بدليل ما فعل بالقرون الخالية.
وقدَّره الزمخشريُّ: ليُعذبنَّ، قال: يدل عليه قوله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ﴾ إلى قوله «فصبَّ».
وقدره أبو حيَّان: بما دلت عليه خاتمة السورة قبله، أي: لإيابهم إلينا وحسابهم علينا.
وقال مقاتل: «هل» هنا: في موضع «إنَّ» تقديره: «إنَّ في ذلك قسماً لذي حجر، ف» هل «هذا في موضع جواب القسم. انتهى.
وهذا قول باطل؛ لأنه لا يصلح أن يكون مقسماً عليه تقدير تسليم أنَّ التركيب هكذا، وإنما ذكرناه للتنبيه على سقوطه.
وقيل: ثم مضاف محذوف، أي: صلاة الفجر، أو ربِّ الفجر.
والعامة: على عدم التنوين في:» الفَجْرِ، والوَتْرِ، ويَسْرِ «.
وأبو الدينار الأعرابي: بتنوين الثلاثة.
٥١٨٩ - أقِلِّي اللَّوْمَ عَاذلَ والعِتابَنْ... وقُولِي إنْ أصَبْتُ لَقدْ أصَابَنْ
يعني: هذا تنوين الترنُّم، وهو أن العربي إذا أراد ترك الترنُّم - وهو: مدّ الصوت - نوَّن الكلمة، وإنما يكن في الروي المطلق.
وقد عاب بعضهم النحويين تنوين الترنم، وقال: بل ينبغي أن يسموه بتنوين تركه، ولهذا التنوين قسيم آخر، يسمى: التنوين الغالي وهو ما يلحقُ الرويَّ المقيد؛ كقوله: [الرجز]
٥١٩٠ - خَاوِي المُختَرَقْنْ... على أن بعض العروضيين أنكروا وجوده، ولهذين التنوينين أحكام مخالفة لحكم التنوين مذكورة في علم النحو.
والحاصل: أن هذا القارئ أجرى الفواصل مجرى القوافي، وله نظائر منها:» الرَّسُولا، والسَّبِيلا، والظُّنُونَا «» في الأحزاب ١٠ و٦٦ و٦٧ «و» المتعال «في الرعد و» عَشْرٍ «هنا.
قال الزمخشري: فإن قيل: فما بالها منكرة من بين ما أقسم به؟ قلت: لأنها ليال مخصوصة من نفس جنس الليالي العشر بعض منها، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، فإن قلت: فهلا عرفت بلام العهد؛ لأنها ليال معلومة معهودة؟.
قلت: لو فعل ذلك لم تستقل بمعنى الفضيلة الذي في التنكير؛ ولأن الأحسن أن تكون الكلمات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الإلغاز والتَّعميَة.
أقسم سبحانه: بالفجر، وليال عشر، والشفع والوتر، والليل إذا يسر: أقسام خمسة.
واختلف في» الفجرِ «، فقال عليٌّ وابنُ الزُّبيرِ وابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -:» الفَجْر «هنا: انفجار الظلمة عن النهار من كل يوم.
قال ابنُ الخطيب: أقسم تعالى بما يحصل فيه، من حصول النور، وانتشار الناس، وسائر الحيوان في طلب الأرزاق، وذلك مشاكل لنشور الموتى، وفيه عبرة لمن تأمل، كقوله تعالى: ﴿والصبح إِذَا تَنَفَّسَ﴾ [التكوير: ١٨]، ومدح بكونه خالقاً، فقال سبحانه: ﴿فَالِقُ الإصباح﴾ [الأنعام: ٩٦].
وعن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه: النهار كله، وعبر عنه بالفجر؛ لأنه أوله.
وروى ابن محيصن عن عطيَّة عن ابن عبَّاسٍ: يعني: فجر المحرم.
قال قتادةُ: هو فجر أول يوم من المحرم منه تنفجر السنة، وعنه أيضاً: صلاة الصبح.
وروى ابن جريح عن عطاء عن ابن عباس قال: يريد صبيحة يوم النحر؛ لأن الله تعالى جعل لكل يوم ليلة قبله إلا يوم النحر لم يجعل له ليلة قبله ولا ليلة بعده؛ لأن يوم عرفة له ليلتان ليلة قبله وليلة بعده، فمن أدرك الموقف الليلة التي بعد عرفة فقد أدرك الحج إلى طلوع فجر يوم النحر، وهذا قول مجاهد.
وقال عكرمة: «والفجر» قال: انشقاق الفجر من يوم الجمعة.
وعن محمد بن كعب القرظي: «والفجر» قال: آخر أيام العشر إذا رفعت أو دفعت من جمع.
وقال الضحاك: فجر ذي الحجة؛ لأن الله تعالى قرن به الأيام، فقال تعالى: ﴿وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾ أي ليال عشر من ذي الحجة.
قوله: ﴿وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾.
العامة: على «ليالٍ» بالتنوين، «عشر» صفة لها.
وقرأ ابنُ عباسٍ: «وليالِ عشرٍ» بالإضافة.
فبعضهم قال: «ليال» في هذه القراءة دون ياء، وبعضهم قال: «وليالي عشر» بالياء، وهو القياس.
وقيل: المراد: ليالي أيام عشر، وكان من حقه على هذا أن يقال: عشرة؛ لأن المعدود مذكر.
ويجاب عنه: بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان، ومنه: «وأتْبعَهُ بِستٍّ مِنْ شوَّالٍ».
وسمع الكسائي: صمنا من الشهر خمساً.
فصل في المراد بالعشر
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ والسديُّ والكلبيُّ: هو عشر ذي الحجة.
وقال مسروقٌ: هي العشرة المذكورة في قوله - تعالى - في قصة موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ﴿وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ﴾ [الأعراف: ١٤٢]، وهي أفضل أيام السنةِ، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ أيَّام العَملِ الصَّالحُ فِيهِنَّ أحَبُّ إلى الله - تعَالَى - مِنْ عَشْرِ ذِي الحجَّةِ» ؛ ولأن ليلة يوم النَّحرِ داخلة فيه رخّصه الله تعالى موفقاً لمن يدرك الموقف يوم عرفة.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً: هي العشرُ الأواخر من رمضان.
وقال الضحاكُ: أقسم الله - تعالى - بها لشرفها بليلة القدرِ، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دخل
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ويمان والطبريُّ: هو العشر الأول من المحرم؛ لأن آخرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم.
قوله: ﴿والشفع والوتر﴾.
قرأ الأخوان: بكسر الواو من: «الوِتْرِ».
والباقون: بفتحها، وهما لغتان، كالحَبْرِ والحِبْر، والفتح: لغة قريش ومن والاها، والكسر: لغة تميم.
وهاتان اللغتان في: «الوتر»، مقابل «الشفع»، فأما في «الوتر» بمعنى: التِّرة، فبالكسر وحده.
قال الزمخشريُّ: ونقل الأصمعي فيه اللغتين أيضاً.
وقرأ أبو عمرو في رواية يونس عنه: بفتح الواو وكسر التاء، فيحتملُ أن تكون لغة ثالثة، وأن يكون نقل كسرة الراء إلى التاء، إجراءً للوصل مجرى الوقف.
فصل في الشفع والوتر
قال ابنُ الخطيب: «الشَّفْعُ والوتْرُ» : هو الذي تسميه العرب، الخساء والركاء، وتسميه العامة: الزَّوجُ والفَرْدُ.
قال يونس: أهل العالية يقولون: «الوَتْرُ» بالفتح في العدد، و «الوِتْر» بالكسر في الذحل، وتميم يقولون: بكسر الواو فيهما، تقول: «أوترت أوتر إيتاراً» أي: جعلته وتراً، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من اسْتَجْمرَ فليُوتِرْ».
واختلف في الشفع والوتر، فروى عمران بن حصين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الشَّفعُ والوتر: الصَّلاة مِنْها شَفعٌ، ومِنهَا وتْرٌ».
قال جابر بن عبد الله: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: « ﴿والفَجْرِ وليَالٍ عَشْرٍ﴾ قال:» هُو الصُّبْحُ وعَشْرُ النَِّحْرِ، والوترُ: يومُ عرفَة، والشَّفعُ: يومُ النَّحْرِ «».
وعن أبي أيوب، قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: ﴿والشفع والوتر﴾، قال:» الشَّفْعُ: يَومُ عَرفَةَ ويوْمُ النَِّحْرِ، والوترُ: ليْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ «.
وقال مجاهدٌ وابنُ السميفع وابنُ عباسٍ: الشفع: خلقه، قال الله تعالى: ﴿وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً﴾ [النبأ: ٨]، والوتْرُ: هو الله عَزَّ وَجَلَّ.
فقيل لمجاهد: أترويه عن أحد؟ قال: نعم، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن رسول الله عليه وسلم.
ونحوه قال محمدُ بن سيرين، ومسروق، وأبُو صالحٍ وقتادةُ، قالوا: الشَّفع: الخلقُ، قال تعالى: ﴿وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ﴾ [الذاريات: ٤٩] : الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والإنس والجن، والوَتْر: هو الله تعالى، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد﴾ [الإخلاص: ١، ٢].
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ للهِ تِسْعَة وتسْعِينَ اسْماً، واللهُ وترٌ يُحِبُّ الوِتْرِ «.
وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشَّفعُ: صلاة الصبح، والوَتْرُ: صلاة المغرب.
وقال الربيعُ بنُ أنس وأبو العالية: هي صلاة المغرب فالشفع منها: الركعتان الأوليان، والوتر: الثالثة.
وقال ابنُ الزبير: الشفع: الحادي عشر، والثاني عشر من أيَّام منى، والوتر: اليوم الثالي، قال تعالى: ﴿فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ﴾ [البقرة: ٢٠٣].
وقيل: الشفع والوتر: آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان وتراً، فشفع بزوجته حواء، رواه ابن أبي نجيحٍ، وحكاه القشيريُّ عن ابن عباس [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وفي رواية: الشفع آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى.
وقيل: الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر هي دركات النار، وهي سبع، كأنه أقسم بالجنة والنار. قاله الحسين بن الفضل.
وقيل: الشفع: الصفا والمروة، والوتر: الكعبة.
وقال مقاتل بن حيان: الشفع الأيام والليالي، والوتر الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة.
وقيل غير ذلك].
قال ابنُ الخطيبِ: كل هذه الوجوه محتملة، والظاهر لا شعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين، فإن ثبت في شيء منها خبرٌ عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أو إجماع من أهل التأويل، حكم بأنه المراد، وإن لم يثبت، وجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز؛ لا على القطع، ولقائل أن يقول: إني أحمل الكلام على الكل؛ لأن الألف واللام في: «الشفع والوتر» يفيد العموم.
قوله: ﴿والليل إِذَا يَسْرِ﴾، هذا قسم خامس، بعدما أقسم بالليالي العشر على الخصوص، أقسم بالليل علىلعموم، ومعنى «يَسْر» أي: يسرى فيه، كما يقال: ليل نائم، ونهار صائم؛ قال: [الطويل]
٥١٩١ - لَقدْ لُمْتِنَا يا أم غِيلانَ في السُّرَى | ونِمْتِ، ومَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنائمِ |
وقال أكثر المفسرين: معنى «يَسْر» : سار فذهب.
وقال قتادةُ وأبو العاليةِ: جاء وأقبل.
و «يَسْرِ» : منصوب بمحذوف، هو فعل القسم، أي: أقسم به وقت سراه، وحذف ياء «يَسْري» وقفاً، وأثبتها وصلاً، نافع وأبو عمرو، وأثبتها في الحالين ابن كثير، وحذفها في الحالين الباقون لسقوطها في خط المصحف الكريم.
وإثباتها هو الأصل؛ لأنها لام فعل مضارع مرفوع، وحذفها لموافقة المصحف، وموافقة رءوس الآي، وجرياً للفواصل مجرى القوافي.
ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل؛ فلأن الوقف محل استراحة.
قال الزمخشري: «وياء» يسري «تحذف في الدَّرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة».
وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، [تقديره:] ليعذبن، بدليل قوله تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ﴾ [الفجر: ٦]، إلى قوله: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾ [الفجر: ١٣] وقد تقدم الكلام على ذلك.
قوله: ﴿هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ﴾.
قيل: «هل» على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك: ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت.
وقيل: المراد بذلك: التوحيد، لما أقسم به وأقسم عليه، والمعنى: بل في ذلك مقنع لذي حجر، ومعنى «لذي حجر» : لذي لبٍّ وعقلٍ؛ فقال الشاعر: [الطويل]
٥١٩٢ - وكَيْفَ يُرَجَّى أنْ تَتُوبَ وإنَّمَا | يُرَجَّى مِنَ الفِتْيَانِ من كَانَ ذَا حِجْرِ |
وقال الحسن: لذِي حِلْم.
قال الفراء: الكل يرجع إلى معنى واحد: لذي حِجْر، ولذي عَقْل ولذي حِلْم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل.
وأصل الحِجْر: المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها إنه لذو حجر.
[ومنه سمي الحجر: المنع، لامتناعه بصلابته، ومنه: حجر الحاكم على فلان أي: منعه من التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها].
والمعنى: أن كلَّ ذلك دال على أن كل ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه دلائل وعجائب على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه.
قال القاضي: وهذه الآية تدل على أن القسم واقع برب هذه الأمور؛ لأن الآية دالة على أن هذه مبالغة في القسم، والمبالغة لا تحصل إلا في القسم بالله تعالى؛ ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بغير الله تعالى.
العامة : على «ليالٍ » بالتنوين، «عشر » صفة لها.
وقرأ ابنُ عباسٍ١ :«وليالِ عشرٍ » بالإضافة.
فبعضهم قال :«ليال » في هذه القراءة دون ياء، وبعضهم٢ قال :«وليالي عشر » بالياء، وهو القياس.
وقيل : المراد : ليالي أيام عشر، وكان من حقه على هذا أن يقال : عشرة ؛ لأن المعدود مذكر.
ويجاب عنه : بأنه إذا حذف المعدود جاز الوجهان، ومنه :«وأتْبعَهُ بِستٍّ مِنْ شوَّالٍ ».
وسمع الكسائي : صمنا من الشهر خمساً.
فصل في المراد بالعشر
قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ والسديُّ والكلبيُّ : هو عشر ذي الحجة٣.
وقال مسروقٌ : هي العشرة المذكورة في قوله - تعالى - في قصة موسى - عليه الصلاة والسلام :﴿ وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ ﴾ [ الأعراف : ١٤٢ ]، وهي أفضل أيام السنةِ٤، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«مَا مِنْ أيَّام العَملِ الصَّالحُ فِيهِنَّ أحَبُّ إلى الله - تعَالَى - مِنْ عَشْرِ ذِي الحجَّةِ »٥ ؛ ولأن ليلة يوم النَّحرِ داخلة فيه رخّصه الله تعالى موفقاً لمن يدرك الموقف يوم عرفة.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً : هي العشرُ الأواخر من رمضان٦.
وقال الضحاكُ : أقسم الله - تعالى - بها لشرفها بليلة القدرِ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان، شد المئزرَ، وأيقظ أهله للتهجد٧.
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنهما - ويمان والطبريُّ : هو العشر الأول من المحرم ؛ لأن آخرها يوم عاشوراء، ولصومه فضل عظيم٨.
٢ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٧٦..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٠) عن ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وقتادة.
وأخرجه الحاكم (٢/٥٢٣) عن ابن عباس وصححه وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٩) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في "الشعب" وذكره عن عبد الله بن الزبير، وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن سعد وابن أبي حاتم..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٠) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٧٩) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق والفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب..
٥ أخرجه البخاري ٢/٤٥٧ في كتاب العيدين: باب فضل العلم في أيام التشريق (٩٦٩) وأبو داود ٢/٨١٥ في كتاب الصوم: باب في صوم العشر (٢٤٣٨) وأخرجه الترمذي ٣/١٣٠ في كتاب الصوم: باب ما جاء في الأيام العشر (٧٥٧)..
٦ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨١) وعزاه إلى ابن أبي حاتم وابن المنذر..
٧ تقدم تخريجه..
٨ تقدم تخريجه عن ابن عباس.
قرأ الأخوان١ : بكسر الواو من :«الوِتْرِ ».
والباقون : بفتحها، وهما لغتان، كالحَبْرِ والحِبْر، والفتح : لغة قريش ومن والاها، والكسر : لغة تميم.
وهاتان اللغتان في :«الوتر »، مقابل «الشفع »، فأما في «الوتر » بمعنى : التِّرة، فبالكسر وحده.
قال الزمخشريُّ : ونقل الأصمعي فيه اللغتين أيضاً.
وقرأ أبو عمرو٢ في رواية يونس عنه : بفتح الواو وكسر التاء، فيحتملُ أن تكون لغة ثالثة، وأن يكون نقل كسرة الراء إلى التاء، إجراءً للوصل مجرى الوقف.
فصل في الشفع والوتر
قال ابنُ الخطيب٣ :«الشَّفْعُ والوتْرُ » : هو الذي تسميه العرب، الخساء والركاء، وتسميه العامة : الزَّوجُ والفَرْدُ.
قال يونس : أهل العالية يقولون :«الوَتْرُ » بالفتح في العدد، و«الوِتْر » بالكسر في الذحل، وتميم يقولون : بكسر الواو فيهما، تقول :«أوترت أوتر إيتاراً » أي : جعلته وتراً، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم :«من اسْتَجْمرَ فليُوتِرْ »٤.
واختلف في الشفع والوتر، فروى عمران بن حصين - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«الشَّفعُ والوتر : الصَّلاة مِنْها شَفعٌ، ومِنهَا وتْرٌ »٥.
قال جابر بن عبد الله : قال النبي صلى الله عليه وسلم :﴿ والفَجْرِ وليَالٍ عَشْرٍ ﴾ قال :«هُو الصُّبْحُ وعَشْرُ النَِّحْرِ، والوترُ : يومُ عرفَة، والشَّفعُ : يومُ النَّحْرِ »٦.
وهو قول ابن عباس وعكرمة، واختاره النحاس وقال : حديث ابن الزبير عن جابر، وهو الذي صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو أصح إسناداً من حديث عمران بن حصين، فيوم عرفة : وتر ؛ لأنه تاسعها، ويوم النحر : شفع ؛ لأنه عاشرها.
وعن أبي أيوب، قال :«سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى :﴿ والشفع والوتر ﴾، قال :«الشَّفْعُ : يَومُ عَرفَةَ ويوْمُ النَِّحْرِ، والوترُ : ليْلَةُ يَوْمِ النَّحْرِ »٧.
وقال مجاهدٌ وابنُ السميفع وابنُ عباسٍ : الشفع : خلقه، قال الله تعالى :﴿ وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً ﴾ [ النبأ : ٨ ]، والوتْرُ : هو الله عز وجل.
فقيل لمجاهد : أترويه عن أحد ؟ قال : نعم، عن أبي سعيدٍ الخدريِّ عن رسول الله عليه وسلم.
ونحوه قال محمدُ بن سيرين، ومسروق، وأبُو صالحٍ وقتادةُ، قالوا : الشَّفع : الخلقُ، قال تعالى :﴿ وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ ﴾ [ الذاريات : ٤٩ ] : الكفر والإيمان، والشقاوة والسعادة، والهدى والضلال، والنور والظلمة، والليل والنهار، والحر والبرد، والشمس والقمر، والصيف والشتاء، والسماء والأرض، والإنس والجن، والوَتْر : هو الله تعالى، قال تعالى :﴿ قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد ﴾ [ الإخلاص : ١، ٢ ].
وقال صلى الله عليه وسلم :«إنَّ للهِ تِسْعَة وتسْعِينَ اسْماً، واللهُ وترٌ يُحِبُّ الوِتْرِ »٨.
وعن ابن عبَّاسٍ - رضي الله عنه - : الشَّفعُ : صلاة الصبح، والوَتْرُ : صلاة المغرب٩.
وقال الربيعُ بنُ أنس وأبو العالية : هي صلاة المغرب فالشفع منها : الركعتان الأوليان، والوتر : الثالثة١٠.
وقال ابنُ الزبير : الشفع : الحادي عشر، والثاني عشر من أيَّام منى، والوتر : اليوم الثالث، قال تعالى :﴿ فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ ﴾١١ [ البقرة : ٢٠٣ ].
وقال عطاءٌ والضحاكُ : الشفعُ : عشر ذي الحجة، والوتر : أيام منى الثلاثة١٢.
وقيل : الشفع والوتر : آدم - عليه الصلاة والسلام - كان وتراً، فشفع بزوجته حواء، رواه ابن أبي نجيحٍ، وحكاه القشيريُّ عن ابن عباس [ رضي الله عنهما. وفي رواية : الشفع آدم وحواء، والوتر هو الله تعالى١٣.
وقيل : الشفع درجات الجنة، وهي ثمان، والوتر هي دركات النار، وهي سبع، كأنه أقسم بالجنة والنار. قاله الحسين بن الفضل.
وقيل : الشفع : الصفا والمروة، والوتر : الكعبة.
وقال مقاتل بن حيان : الشفع الأيام والليالي، والوتر الذي لا ليلة بعده، وهو يوم القيامة١٤.
وقيل غير ذلك ]١٥.
قال ابنُ الخطيبِ١٦ : كل هذه الوجوه محتملة، والظاهر لا شعار له بشيء من هذه الأشياء على التعيين، فإن ثبت في شيء منها خبرٌ عن الرسول - عليه الصلاة والسلام -، أو إجماع من أهل التأويل، حكم بأنه المراد، وإن لم يثبت، وجب أن يكون الكلام على طريقة الجواز ؛ لا على القطع، ولقائل أن يقول : إني أحمل الكلام على الكل ؛ لأن الألف واللام في :«الشفع والوتر » يفيد العموم.
٢ ينظر: البحر المحيط ٨/٤٦٣، والدر المصون ٦/٥١٨..
٣ الفخر الرازي ٣١/١٤٨..
٤ تقدم..
٥ أخرجه أحمد (٤/٤٤٢) والترمذي (٣٣٤٢) والحاكم (٢/٥٢٢) والطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٣) من طريق قتادة عن عمران بن عصام عن شيخ من أهل البصرة عن عمران بن حصين به وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا تعرفه إلا من حديث قتادة..
٦ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٤٠) وقال: رواه البزار وأحمد ورجالهما رجال الصحيح غير عياش بن عقبة وهو ثقة..
٧ ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" (٧/١٤٠) وقال: رواه الطبراني في حديث طويل وفيه واصل بن السائب وهو متروك.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٢) وزاد نسبته إلى ابن مردويه بسند ضعيف..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٢) عن ابن عباس ومجاهد والحسن وأبي صالح.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨١) عن مجاهد وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم وذكره عن أبي صالح وعزاه إلى عبد بن حميد..
٩ تقدم تخريجه..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢٨) عن ابن عباس..
١١ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٣) عن الربيع بن أنس وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨١) عن أبي العالية وعزاه إلى عبد بن حميد وابن أبي حاتم عنه. وينظر تفسير الماوردي (٦/٢٦٦) والقرطبي (٢٠/٢٨)..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٢) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٢) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وسعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن سعد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
١٣ ذكره الماوردي (٦/٢٦٦) والقرطبي (٢٠/٢٨)..
١٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٢٨)..
١٥ سقط من ب..
١٦ الفخر الرازي ٣١/١٤٩..
٥١٩١- لَقدْ لُمْتِنَا يا أم غِيلانَ في السُّرَى*** ونِمْتِ، ومَا لَيْلُ المَطِيِّ بِنائمِ١
ومنه قوله تعالى :﴿ بَلْ مَكْرُ الليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ ﴾ [ سبأ : ٣٣ ]، وهذا قول أكثر أهل المعاني، وهو قول القتيبي والأخفش.
وقال أكثر المفسرين : معنى «يَسْر » : سار فذهب.
وقال قتادةُ وأبو العاليةِ : جاء وأقبل٢.
وقيل : المراد : ينقص، كقوله :﴿ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ [ المدثر : ٣٣ ]، ﴿ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ [ التكوير : ١٧ ].
و«يَسْرِ » : منصوب بمحذوف، هو فعل القسم، أي : أقسم به وقت سراه، وحذف ياء «يَسْري » وقفاً، وأثبتها وصلاً، نافع وأبو عمرو، وأثبتها في الحالين٣ ابن كثير، وحذفها في الحالين الباقون لسقوطها في خط المصحف الكريم.
وإثباتها هو الأصل ؛ لأنها لام فعل مضارع مرفوع، وحذفها لموافقة المصحف، وموافقة رءوس الآي، وجرياً للفواصل مجرى القوافي.
ومن فرق بين حالتي الوقف والوصل ؛ فلأن الوقف محل استراحة.
قال الزمخشري٤ :«وياء «يسري » تحذف في الدَّرج اكتفاء عنها بالكسرة، وأما في الوقف فتحذف مع الكسرة ».
وهذه الأسماء كلها مجرورة بالقسم، والجواب محذوف، [ تقديره :] ٥ ليعذبن، بدليل قوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ ﴾ [ الفجر : ٦ ]، إلى قوله :﴿ فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ ﴾ [ الفجر : ١٣ ] وقد تقدم الكلام على ذلك.
٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٤) عن قتادة بلفظ: سار وذكره السيوطي بهذا اللفظ في "الدر المنثور (٦/٥٨٢) عن مجاهد وعزاه إلى الفريابي وعبد بن حميد والطبري وابن أي حاتم..
٣ ينظر: الحجة ٦/٤٠٣، وإعراب القراءات ٢/٤٧٦، و حجة القراءات ٧٦١..
٤ ينظر: الكشاف ٤/٧٤٦..
٥ في أ: وهو..
قيل :«هل » على بابها من الاستفهام الذي معناه التقرير، كقولك : ألم أنعم عليك إذا كنت قد أنعمت.
وقيل : المراد بذلك : التوحيد، لما أقسم به وأقسم عليه، والمعنى : بل في ذلك مقنع لذي حجر، ومعنى «لذي حجر » : لذي لبٍّ وعقلٍ ؛ فقال الشاعر :[ الطويل ]
٥١٩٢- وكَيْفَ يُرَجَّى أنْ تَتُوبَ وإنَّمَا | يُرَجَّى مِنَ الفِتْيَانِ من كَانَ ذَا حِجْرِ١ |
وقال الحسن : لذِي حِلْم.
قال الفراء : الكل يرجع إلى معنى واحد : لذي حِجْر، ولذي عَقْل ولذي حِلْم، ولذي ستر، الكل بمعنى العقل.
وأصل الحِجْر : المنع، يقال لمن ملك نفسه ومنعها إنه لذو حجر.
[ ومنه سمي الحجر : المنع، لامتناعه بصلابته، ومنه : حجر الحاكم على فلان أي : منعه من التصرف، ولذلك سميت الحجرة حجرة، لامتناع ما فيها بها ]٢.
وقال الفراء : العرب تقول : إنه لذو حجر إذا كان قاهراً لنفسه ضابطاً لها، كأنه أخذ من قولك : حجرت على الرجل.
والمعنى : أن كلَّ ذلك دال على أن كل ما أقسم الله تعالى به من هذه الأشياء فيه دلائل وعجائب على التوحيد والربوبية، فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه.
قال القاضي٣ : وهذه الآية تدل على أن القسم واقع برب هذه الأمور ؛ لأن الآية دالة على أن هذه مبالغة في القسم، والمبالغة لا تحصل إلا في القسم بالله تعالى ؛ ولأن النهي قد ورد بأن يحلف العاقل بغير الله تعالى.
٢ سقط من ب..
٣ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٥٠..
قرا العامة: «بعاد» : مصروفاً، «إرم» بكسر الهمزة، وفتح الراء، والميم.
ف «عاد» اسم لرجل في الأصل، ثم أطلق على القبيلة أو الحي، وقد تقدم في الكلام عليه، وأما: «إرَمَ» فقيل: اسم قبيلة. وقيل: اسم مدينة [اختلفوا في تعيينها، فقيل: «إسكندرية»، وقيل: «دمشق»، وهذان القولان ضعيفان؛ لأنها منازل كانت من «عمان» إلى «حضرموت»، وهي بلاد الرمال والأحقاف، وأما «الإسكندرية» و «دمشق»، فليستا من بلاد الرمال].
فإن كانت اسم قبيلة كانت بدلاً، أو عطف بيان، أو منصوبة بإضمار: «أعني»، وإن كانت اسم مدينة، فتعلق الإعراب من: «عاد» وتخريجه على حذف مضاف، كأنه قيل: بعاد أهل إرم. قاله الزمخشري.
وهو حسن، ويبعد أن يكون بدلاً من: «عاد»، بدل اشتمال، إذ لا ضمير، وتقديره قلق وقد يقال: إنه لما كان المراد ب «عاد» : مدينتهم؛ لأن «إرم» قائمة مقام ذلك، صح البدل.
وإرَمَ: اسم جد عاد، وهو عادُ بنُ عوصِ بنِ إرمَ بْنِ نوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ قال زهيرٌ: [البسيط]
٥١٩٣ - وآخَرينَ تَرَى المَاذيَّ عُدَّتهُمْ | مِنْ نسْجٍ دَاوُد أوْ مَا أوْرثَتْ إرَمْ |
٥١٩٤ - مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ | أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا |
قال أبُو حيَّان: مضافاً إلى «إرَمَ»، فجاز أن يكون «إرَمَ» أباً، أو جداً، أو مدينة.
قال شهاب الدين: يتعين أن يكون في قراءة الحسن، غير مضاف، بل يكون كما كان منوناً، ويكون «إرَمَ» بدلاً أو بياناً أو منصوباً بإضمارِ: أعني، ولو كان مضافاً لوجب صرفه وإنما منع «عاد» اعتباراً بمعنى: القبيلة، أو جاء على أحد الجائزين في: «هند» وبابه.
وقرأ الضحاكُ في رواية: «بِعادَ أرَمَ» ممنوع الصرف، وفتح الهمزة من: «أرم».
قال مجاهد: من قرأ بفتح الهمزة شبههم بالآرام التي هي الأعلام.
وعنه أيضاً: فتح الهمزة، وسكون الراء، وهو تخفيف «أرِم» بكسر الراء، وهي لغة في اسم المدينة، كما قرئ: ﴿بِوَرِقْكُمْ﴾ [الكهف: ١٩]، وهي قراءة ابن الزبير، وعنه في: «عاد» مع هذه القراءة: الصرف وتركه.
وعنه - أيضاً - وعن ابن عباسٍ: «أرَمَّ» بفتح الهمزة والراء والميم المشددة جعلاه فعلاً ماضياً، [يقال: أرم العظم أي بَلِيَ، وأرم وأرمه غيره، فأفعل يكون لازماً ومتعدياً في هذا].
و «ذات» على هذه القراءة مجرورة صفة ل: «عاد» ويكون قد راعى لفظها تارة في قوله: «إرَمَ»، فلم تلحق علامة التأنيث، ويكون: «أرم» معترضاً بن الصفة والموصوف، أي: أرمت هي، بمعنى: رمَتْ وبَليتْ، وهو دعاء عليهم، ويجوز أن يكون فاعل: «أرم» ضمير الباري تعالى، والمفعول محذوف، أي: أرمها الله تعالى، والجملة الدعائية معترضة - أيضاً - وراعى معناها أخرى في: «ذات» فأنث.
وروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «ذاتَ» بالنَّصْب، على أنها مفعول ب «
وقرأ ابنُ الزُّبيرِ: «بعادِ أرمَ» بإضافة: «عاد» إلى: «أرمِ» مفتوح الهمزة مكسور الراء، وقد تقدم أنه اسم مدينة.
وقرأ: «إرمَ ذَات»، بإضافة: «إرم» إلى: «ذات».
وروي عن مجاهدٍ: «أرَم» يعني: بفتحتين، مصدر «أرَمَ، يَأرم»، أي: هلك، فعلى هذا يكون منصوباً ب: «فَعَلَ ربُّك» نصب المصدر التشبيهي، والتقدير: كيف أهلك ربك عاداً إهلاك ذات العماد؟ وهذا أغرب الأقوال.
و «ذَاتِ العمادِ» : إن كان صفة لقبيلة، فمعناه: أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أبدانهم [كقولهم: رفيع العماد طويل النجاد قاله ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما]، وإن كان صفة للمدينة، فمعناه: أنها ذات عُمُد من الحجارة.
قوله: ﴿التي لَمْ يُخْلَقْ﴾ : يجوز أن يكون: تابعاً، وأن يكون: مقطوعاً، رفعاً ونصباً.
والعامة على: «يُخْلَق» مبنياً للمفعول، «مِثْلُهَا» مرفوع على ما لم يسم فاعله.
وعن ابن الزُّبيرِ: «يَخْلقُ» مبنياً للفاعل، «مِثْلها» منصوب به، وعنه أيضاً: «نَخْلقُ» بنون العظمة.
فصل في الكلام على إرم وعاد
قال القرطبيُّ: من لم يضف جعل «إرم» : اسم «عاد»، ولم يصرفه؛ لأنه جعل «عاداً» اسم أبيهم، و «إرم» : اسم القبيلة، وجعله بدلاً منه، أو عطف بيان.
ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم، وتقديره: بعادٍ أهل إرمَ، كقوله: ﴿وَسْأَلِ القرية﴾ [يوسف: ٨٢]، ولم تنصرف - قبيلة كانت، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث.
والإرم: العلم، أي: بعاد أهل ذات العلم، والخطاب للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد عام، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً، إذا كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب.
قال أبو هريرة: كان الرجل من قوم عادٍ، يتخذ المصراع من حجارة، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة، لم يستطيعوا أن يقلوه.
[وإرم قال ابن إسحاق: هو سام بن نوح عليه السلام.
وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال: عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام.
قال ابن إسحاق: كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة].
وإرم: قال مجاهد: «إرم» هي أمة من الأمم، وعنه أيضاً: ان معنى «إرم» : القديمة، وعنه أيضاً: القوية.
وقال قتادةُ: هي قبيلة من عاد.
وقيل: هما عادان، فالأولى: هي «إرم»، قال تعالى: ﴿وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى﴾ [النجم: ٥٠]، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح: عاد كما يقال لبني هاشم: هاشم، ثم يقال للأولين منهم: عاداً الأولى، وإرم: تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم: عاد الأخيرة؛ قال ابن الرقيَّات: [المنسرح]
٥١٩٥ - مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ | أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا |
قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء: كان الرَّجل منهم، طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً: أن طول الرجل منهم، كان سبعين ذراعاً.
قال ابن العربي: وهو باطل؛ لأن في الصحيح: «أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ».
قال أبو عبيدة: «ذَاتِ العمادِ» : أي: ذات الطول، يقال: رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس، ومجاهد.
وعن قتادة: كانوا عماداً لقومهم، يقال: فلان عميد القوم وعمودهم: أي: سيدهم، وعنه أيضاً: كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم.
وقيل: المعنى: ذات الأبنية المرفوعة على العمد، وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور.
وقال ابن زيد: ذَاتِ العِمادَ «يعني: إحكام البنيان بالعمد.
قال الجوهري:» والعماد: الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث، والواحدة: عمادة «.
وقال الضحاك:» ذات العماد «أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً﴾ [فصلت: ١٥].
فصل في الضمير في»
مثلها «والضمير في:» مِثلُهَا «يرجع إلى القبيلة، أي: لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة، وعظم أجساد.
وعن الحسن وغيره: وفي حرف عبد الله: «التي لم يخلق مثلهم في البلاد».
وقيل: يرجع إلى المدينة، والأول أظهر وعليه الأكثر.
فصل
قال القرطبيُّ: «رُويَ عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن كتاباً وجد ب» الاسكندرية «فلم يدر ما فيه، فإذا فيه» أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ، الذي رفَعَ العِمَادَ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ «قال مالك: إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة».
وروي: أنه كان لعاد ابنان: شدَّاد، وشديد، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال: أبني مثلها، فبنى إرم في
وعن عبد الله بن قلابة: أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل مما قدر عليه مما هنا، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال: هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، وقال: هذا والله ذلك الرجل.
فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا
ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين، وهم: عاد، وثمود، وقوم فرعون، على سبيل الإجمال حيث قالوا: «فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ»، ولم يبين كيفية ذلك العذاب، وبين في سورة: «الحاقَّة»، ما أبهم في هذه السورة، فقال تعالى: ﴿فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٥، ٦] إلى قوله: ﴿وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ﴾ [الحاقة: ٩].
قوله: ﴿وَثَمُودَ﴾.
قرأ العامة بمنع الصرف.
وابنُ وثابٍ: يصرفه، والذي يجوز فيه ما تقدم في: «التي لم يخلق».
و «جَابُوا» أي: قطعوا، ومنه: فلان يجوب البلاد، أي: يقطعها سيراً؛ قال: [البسيط]
٥١٩٦ - مَا إنْ رَأيْتُ قَلُوصاً قَبْلَهَا حَملتْ | سِتِّينَ وسْقاً ولا جَابتْ بِهِ بَلدَا |
وقوله: «بالوَادِ» : متعلق إما ب «جابوا» أي: فيه، وإما بمحذوف على أنه حال من «الصَّخْر»، أو من الفاعلين.
وأثبت في الحالين: ابنُ كثيرٍ وورشٌ بخلاف عن قنبل، فروي عنه إثباتها في
فصل في تفسير الآية
قال ابنُ عبَّاسٍ: كانوا يجوبون البلادن ويجعلون من الجبال بيوتاً، لقوله - تعالى -: ﴿يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً﴾ [الحجر: ٨٢].
وقيل: أول من نحت من الجبال، والصخور والرخام: ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة، كلها من الحجارة.
وقوله تعالى: ﴿بالواد﴾ أي: بوادي القرى. قاله محمد بن إسحاق.
[وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة، قال: «أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزاة» تبوك «على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال:» أسرعوا السير؛ فإنكم في واد ملعون «».
وقيل: الوادي بين جبال، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل، ومنفذاً، فهو واد].
قوله: ﴿وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد﴾، أي: الجنود والعساكر والجموع. قاله ابن عباس.
وسمي «ذي الأوتاد» لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
وقيل: ذي الأتاد، أي: ذي الملك الثابت.
كقوله: [الرجز]
٥١٩٧ - في ظِلِّ مَلكٍ رَاسخِ الأوْتَادِ... وقيل: كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا، تجبّراً منه وعتواً، كما فعل بامرأته آسية، وماشطتها.
قال عبدُ الرحمنِ بن زيدٍ: كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ له الإنسان، فيوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه.
وروى قتادةُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ: أن تلك الأوتاد، كانت ملاعب يلعبون تحتها.
قوله: ﴿الذين طَغَوْاْ﴾ : يجوز فيه ما جاز في: «الذين» قبله، من الإتباع والقطع على الذم.
قال الكلبيُّ: القتل، والمعصية لله تعالى.
قال القفال: والجملة أن الفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
قوله: ﴿فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ﴾. أي: أفرغ عليهم، وألقى، يقال: صبَّ على فلان خلعة، أي: ألقاها عليه؛ قال النابغة: [الطويل]
٥١٩٨ - فَصبَّ عَليْهِ اللَّهُ أحْسنَ صُنْعهِ | وكَانَ لَهُ بَيْنَ البَريَّةِ نَاصِراً |
قال الشاعر: [الطويل]
٥١٩٩ - ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أظهرَ دينهُ | وصَبَّ على الكُفَّارِ سوْطَ عذابِ |
قيل: سمي سوطاً؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي: يختلط؛ قال كعب بن زهير: [البسيط]
٥٢٠٠ - لَكنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ منْ دَمِهَا | فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْديلُ |
٥٢٠١ - أحَارِثُ إنَّا لو تُسَاطُ دِماؤُنَا | تَزايلنَ حتَّى لا يَمَسُّ دَمٌ دَمَا |
فالسَّوطُ: خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه سمي: المسواط، وساطه: أي خلطه، فهو سائط، وأكثر من ذلك، يقال: سوط فلان أموره؛ قال: [الطويل]
٥٢٠٢ - فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأي غَيْرَ مُوفَّقٍ | فَلست عَلى تَسْويطهَا بمُعَانِ |
وقال الزجاج: أي: جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
[ويقال: ساط دابته يسوطها أي: ضربها بسوطه.
وعن عمرو بن عبيد: كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال: إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها].
قال قتادة: كل شيء عذب الله به، فهو سوط عذاب.
[واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم.
قال القاضي: وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه].
قوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾، أي: يرصد عمل كل إنسان، حتى يجازيه به.
قال الحسن وعكرمة: والمِرْصادَ: كالمرصد، وهو: المكان الذي يترقب فيه الرَّصد، جمع راصد كحرس، فالمرصاد «مفعال» من: «رصده»، كميقات من وقته، قاله الزمخشري.
وجوَّز ابنُ عطيَّة في المرصاد: أن يكون اسم فاعل، قال: كأنه قيل: «لبالراصد»، فعبر ببناء المبالغة.
ورده أبو حيَّان: بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء، إذ ليس هوفي موضع دخولها، لا زائدة، ولا غير زائدة.
٥٢٠٣ -..................................... فإنَّكَ ممَّا أحْدثَتْ بالمُجرِّبِ
إلاَّ أنَّ هذه ضرورة، لا يقاس عليه الكلام، فضلاً عن أفصحه.
فصل
تقدم الكلام في: «المرصاد»، عند قوله: ﴿كَانَتْ مِرْصَاداً﴾ [النبأ: ٢١]، وهذا مثلٌ لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه، كما قيل لبعض العرب: أين ربك؟ قال: بالمرصاد.
وقال الفراء: معناه: إليه المصير.
وقال الزجاج: يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب.
وقال الضحاك: يرصد أهل الظلم، والمعصية.
وروي عن مجاهدٍ :«أرَم »٢ يعني : بفتحتين، مصدر «أرَمَ، يَأرم »، أي : هلك، فعلى هذا يكون منصوباً ب :«فَعَلَ ربُّك » نصب المصدر التشبيهي، والتقدير : كيف أهلك ربك عاداً إهلاك ذات العماد ؟ وهذا أغرب الأقوال.
و«ذَاتِ العمادِ » : إن كان صفة لقبيلة، فمعناه : أنهم أصحاب خيام لها أعمدة يظعنون بها، أو هو كناية عن طول أبدانهم [ كقولهم : رفيع العماد طويل النجاد قاله ابن عباس رضي الله عنهما ]٣، وإن كان صفة للمدينة، فمعناه : أنها ذات عُمُد من الحجارة.
٢ ينظر السابق..
٣ سقط من ب..
والعامة على :«يُخْلَق » مبنياً للمفعول، «مِثْلُهَا » مرفوع على ما لم يسم فاعله.
وعن ابن الزُّبيرِ١ :«يَخْلقُ » مبنياً للفاعل، «مِثْلها » منصوب به، وعنه أيضاً :«نَخْلقُ »٢ بنون العظمة.
فصل في الكلام على إرم وعاد
قال القرطبيُّ٣ : من لم يضف جعل «إرم » : اسم «عاد »، ولم يصرفه ؛ لأنه جعل «عاداً » اسم أبيهم، و«إرم » : اسم القبيلة، وجعله بدلاً منه، أو عطف بيان.
ومن قرأه بالإضافة ولم يصرفه جعله اسم أمهم، أو اسم بلدتهم، وتقديره : بعادٍ أهل إرمَ، كقوله :﴿ وَسْأَلِ القرية ﴾ [ يوسف : ٨٢ ]، ولم تنصرف - قبيلة كانت، أو أرضاً - للتعريف والتأنيث.
والإرم : العلم، أي : بعاد أهل ذات العلم، والخطاب للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، والمراد عام، وكان أمر عاد وثمود عندهم مشهوراً، إذا كانوا في بلاد العرب، وحجر ثمود موجود اليوم، وأمر فرعون يسمعونه من جيرانهم من أهل الكتاب، واستفاضت به الأخبار، وبلاد فرعون متصلة بأرض العرب.
قوله :«بعَادٍ »، أي : بقوم عاد.
قال أبو هريرة : كان الرجل من قوم عادٍ، يتخذ المصراع من حجارة، لو اجتمع عليه خمسمائة من هذه الأمة، لم يستطيعوا أن يقلوه٤.
[ وإرم قال ابن إسحاق : هو سام بن نوح عليه السلام.
وعن ابن عباس وابن إسحاق أيضاً قال : عاد بن إرم بن عاص بن سام بن نوح عليه السلام٥.
قال ابن إسحاق : كان سام بن نوح له أولاد منهم إرم بن سام، وأرفخشذ بن سام ؛ فمن ولد إرم بن سام العمالقة والفراعنة والجبابرة والملوك والطغاة والعصاة ]٦.
وإرم : قال مجاهد :«إرم » هي أمة من الأمم، وعنه أيضاً : ان معنى «إرم » : القديمة، وعنه أيضاً : القوية٧.
وقال قتادةُ : هي قبيلة من عاد٨.
وقيل : هما عادان، فالأولى : هي «إرم »، قال تعالى :﴿ وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى ﴾ [ النجم : ٥٠ ]، فقيل لعقب عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح : عاد كما يقال لبني هاشم : هاشم، ثم يقال للأولين منهم : عاداً الأولى، وإرم : تسمية لهم باسم جدهم، ولمن بعدهم : عاد الأخيرة ؛ قال ابن الرقيَّات :[ المنسرح ]
٥١٩٥- مَجْداً تَلِيداً بَناهُ أوَّلهُ | أدْركَ عاداً وقَبْلهَا إرَمَا٩ |
قال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء : كان الرَّجل منهم، طوله خمسمائة ذراع، والقصير منهم، طوله ثلاثمائة ذراع بذراع نفسه١٠.
وعن ابن عبَّاسٍ أيضاً : أن طول الرجل منهم، كان سبعين ذراعاً١١.
قال ابن العربي : وهو باطل ؛ لأن في الصحيح :«أنَّ اللهَ خَلقَ آدَمَ طُولهُ سِتُّونَ ذِراعاً في الهواءِ، فَلم يزل الخَلْقُ يَنْقصُ إلى الآنَ ».
وزعم قتادةُ : أن طول الرجل منهم اثنا عشر ذراعاً١٢.
قال أبو عبيدة :«ذَاتِ العمادِ » : أي : ذات الطول، يقال : رجل معمد إذا كان طويلاً ونحوه عن ابن عباس، ومجاهد.
وعن قتادة : كانوا عماداً لقومهم، يقال : فلان عميد القوم وعمودهم : أي : سيدهم، وعنه أيضاً : كانوا أهل خيام وأعمدة ينتجعون الغيوث، ويطلبون الكلأ، ثم يرجعون إلى منازلهم.
وقيل : المعنى : ذات الأبنية المرفوعة على العمد، وكانوا ينصبون الأعمدة، فيبنون عليها القصور.
وقال ابن زيد : ذَاتِ العِمادَ «يعني : إحكام البنيان بالعمد١٣.
قال الجوهري١٤ :«والعماد : الأبنية الرفيعة، تذكر وتؤنث، والواحدة : عمادة ».
وقال الضحاك :«ذات العماد » أي ذات الشدة والقوة مأخوذة من قوة الأعمدة بدليل قوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ﴾١٥ [ فصلت : ١٥ ].
فصل في الضمير في «مثلها »
والضمير في :«مِثلُهَا » يرجع إلى القبيلة، أي : لم يخلق مثل القبيلة في البلاد قوة وشدة، وعظم أجساد.
وعن الحسن وغيره : وفي حرف عبد الله١٦ :«التي لم يخلق مثلهم في البلاد ».
وقيل : يرجع إلى المدينة، والأول أظهر وعليه الأكثر.
فصل
قال القرطبيُّ١٧ :«رُويَ عن مالك رضي الله عنه أن كتاباً وجد «بالاسكندرية » فلم يدر ما فيه، فإذا فيه «أنَا شدَّادُ بنُ عادٍ، الذي رفَعَ العِمَادَ، بنيتها حين لا شَيْبَ ولا مَوْتَ » قال مالك : إن كان لتمرُّ بهم مائة سنة لا يرون فيها جنازة ».
وروي : أنه كان لعاد ابنان : شدَّاد، وشديد، ثم مات شديد، وخلص الأمر لشداد، فملك الدنيا، ودانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنة، فقال : أبني مثلها، فبنى إرم في بعض صحارى عدن، في ثلاثمائة سنة، وكان عمره تسعمائة سنة، وهي مدينة عظيمة، قصورها من الذهب، والفضة، وأساطينها من الزَّبرجد والياقوت، وفيها أصناف الأشجار والأنهار، ولما تمَّ بناؤها سار إليها بأهل مملكته، فلما كان منها على مسيرة يوم وليلة، بعث الله عليهم صيحة من السماء فهلكوا.
وعن عبد الله بن قلابة : أنه خرج في طلب إبل له، فوقع عليها، فحمل مما قدر عليه مما هنا، وبلغ خبره معاوية، فاستحضره، فقص عليه، فبعث إلى كعب فسأله، فقال : هي إرم ذات العماد، وسيدخلها رجل من المسلمين في زمانك، أحمر أشقر، قصير، على حاجبه خال، وعلى عقبه خال، يخرج في طلب إبل له، ثم التفت، فأبصر ابن قلابة، وقال : هذا والله ذلك الرجل.
فصل في إجمال القول في الكفار هاهنا
ذكر الله - تعالى - هاهنا - قصة ثلاث فرق من الكفار المتقدمين، وهم : عاد، وثمود، وقوم فرعون، على سبيل الإجمال حيث قالوا :«فَصَبَّ عَليْهَم ربُّكَ سوْطَ عذابٍ »، ولم يبين كيفية ذلك العذاب، وبين في سورة :«الحاقَّة »، ما أبهم١٨ في هذه السورة، فقال تعالى :﴿ فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٥، ٦ ] إلى قوله :﴿ وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ ﴾ [ الحاقة : ٩ ].
٢ ينظر السابق..
٣ الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٣٠..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣١)..
٥ ينظر المصدر السابق..
٦ سقط من: ب..
٧ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٦) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٥٨٣) وزاد نسبته إلى الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر..
٨ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٦٦)..
٩ تقدم..
١٠ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣١)..
١١ ينظر المصدر السابق..
١٢ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٢٩) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٣) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم..
١٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (٢٠/٣١) عن الضحاك..
١٤ ينظر الصحاح (٢/٥١١)..
١٥ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣١) عن الضحاك..
١٦ ينظر: الجامع لأحكام القرآن ٢٠/٣٢..
١٧ ينظر السابق..
١٨ في ب: أصابهم..
قرأ العامة بمنع الصرف.
وابنُ وثابٍ١ : يصرفه، والذي يجوز فيه ما تقدم في :«التي لم يخلق ».
و«جَابُوا » أي : قطعوا، ومنه : فلان يجوب البلاد، أي : يقطعها سيراً ؛ قال :[ البسيط ]
٥١٩٦- مَا إنْ رَأيْتُ قَلُوصاً قَبْلَهَا حَملتْ | سِتِّينَ وسْقاً ولا جَابتْ بِهِ بَلدَا٢ |
وقوله :«بالوَادِ » : متعلق إما ب «جابوا » أي : فيه، وإما بمحذوف على أنه حال من «الصَّخْر »، أو من الفاعلين.
وأثبت في الحالين : ابنُ كثيرٍ وورشٌ بخلاف عن قنبل، فروي عنه إثباتها في الحالين، وروي عنه : إثباتها في الوصل خاصة، وحذفها الباقون في الحالين، موافقة لخط المصحف، ومراعاة٣ للفواصل كما تقدم في «يسر ».
فصل في تفسير الآية
قال ابنُ عبَّاسٍ : كانوا يجوبون البلاد، ويجعلون من الجبال بيوتاً، لقوله - تعالى - :﴿ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً ﴾٤ [ الحجر : ٨٢ ].
وقيل : أول من نحت من الجبال، والصخور والرخام : ثمود، وبنوا ألفاً وسبعمائة مدينة، كلها من الحجارة.
وقوله تعالى :﴿ بالواد ﴾ أي : بوادي القرى. قاله محمد بن إسحاق.
[ وروى أبو الأشهب عن أبي نضرة، قال :«أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة «تبوك » على وادي ثمود، وهو على فرس أشقر، فقال :«أسرعوا السير ؛ فإنكم في واد ملعون ».
وقيل : الوادي بين جبال، وكل منفرج بين جبال أو تلال يكون مسلكاً للسيل، ومنفذاً، فهو واد ]٥.
٢ ينظر القرطبي ٢٠/٣٣، والبحر ٨/٤٦٢، واللسان (حوب)، والدر المصون ٦/٥١٩..
٣ ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٧٨، والدر المصون ٦/٥١٩..
٤ ينظر القرطبي (٢٠/٣١) عن الضحاك..
٥ سقط من: ب..
وسمي «ذي الأوتاد » لكثرة مضاربهم التي كانوا يضربونها إذا نزلوا.
وقيل : ذي الأوتاد، أي : ذي الملك الثابت.
كقوله :[ الرجز ]
٥١٩٧- *** في ظِلِّ مَلكٍ رَاسخِ الأوْتَادِ١ ***
وقيل : كان يشدّ الناس بالأوتاد إلى أن يموتوا، تجبّراً منه وعتواً، كما فعل بامرأته آسية، وماشطتها.
قال عبدُ الرحمنِ بن زيدٍ : كانت له صخرة ترفع بالبكرات، ثم يؤخذ له الإنسان، فيوتد له أوتاد الحديد، ثم يرسل تلك الصخرة عليه٢.
وروى قتادةُ عن سعيدِ بنِ جبيرٍ عن ابنِ عباسٍ : أن تلك الأوتاد، كانت ملاعب يلعبون تحتها٣.
٢ ينظر تفسير القرطبي (٢٠/٣١) عن الضحاك..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٧٠)..
قال ابن الخطيب١ : يحتمل أن يرجع الضَّمير إلى فرعون خاصة ؛ لأنه يليه، ويحتمل أن يرجع إلى جميع من تقدم ذكرهم، وهو الأقرب. وأحسن الوجوه في إعرابه : أن يكون في محل نصب على الذم، ويجوز أن يكون مرفوعاً على :«هم الذين طغوا » مجروراً على وصف المذكورين عاد وثمود وفرعون. يعني : عاداً، وفرعون، وثموداً طغوا، أي : تمردوا وعتوا، وتجاوزا القدر في الظلم والعدوان.
قال الكلبيُّ : القتل، والمعصية لله تعالى.
قال القفال١ : والجملة أن الفساد ضد الصلاح، فكما أن الصلاح يتناول جميع أقسام البر، فالفساد يتناول جميع أقسام الإثم، فمن عمل بغير أمر الله، وحكم في عباده بالظلم فهو مفسد.
٥١٩٨- فَصبَّ عَليْهِ اللَّهُ أحْسنَ صُنْعهِ | وكَانَ لَهُ بَيْنَ البَريَّةِ نَاصِراً١ |
قال الشاعر :[ الطويل ]
٥١٩٩- ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أظهرَ دينهُ | وصَبَّ على الكُفَّارِ سوْطَ عذابِ٢ |
قيل : سمي سوطاً ؛ لأن يساط به اللحم عند الضرب أي : يختلط ؛ قال كعب بن زهير :[ البسيط ]
٥٢٠٠- لَكنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ منْ دَمِهَا | فَجْعٌ ووَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْديلُ٣ |
٥٢٠١- أحَارِثُ إنَّا لو تُسَاطُ دِماؤُنَا | تَزايلنَ حتَّى لا يَمَسُّ دَمٌ دَمَا٤ |
وقال أبو زيد : أموالهم بينهم سويطة، أي : مختلطة.
فالسَّوطُ : خلط الشيء بعضه ببعض، ومنه سمي : المسواط، وساطه : أي خلطه، فهو سائط، وأكثر من ذلك، يقال : سوط فلان أموره ؛ قال :[ الطويل ]
٥٢٠٢- فَسُطْهَا ذَمِيمَ الرَّأي غَيْرَ مُوفَّقٍ | فَلست عَلى تَسْويطهَا بمُعَانِ٦ |
وقال الزجاج : أي : جعل سوطه الذي ضربهم به العذاب.
[ ويقال : ساط دابته يسوطها أي : ضربها بسوطه.
وعن عمرو بن عبيد : كان الحسن إذا أتى على هذه الآية قال : إن الله تعالى عنده أسواط كثيرة فأخذهم بسوط منها٧ ]٨.
قال قتادة : كل شيء عذب الله به، فهو سوط عذاب٩.
[ واستعمال الصب في السوط استعارة بليغة شائعة في كلامهم.
قال القاضي١٠ : وشبه بصبّ السوط الذي يتواتر على المضروب فيهلكه ]١١.
٢ ينظر القرطبي ٢٠/٣٣..
٣ تقدم..
٤ البيت للمتلمس ينظر مجمع البيان ١٠/٧٣٤ والبحر ٨/٤٦٢، والدر المصون ٦/٥٢٠..
٥ سقط من ب..
٦ ينظر اللسان (سعط) والقرطبي ٢٠/٣٤..
٧ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣٤)..
٨ سقط من: ب..
٩ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٧٢) عن ابن زيد..
١٠ ينظر : الفخر الرازي ٣١/١٥٣..
١١ سقط من ب..
قال الحسن وعكرمة : والمِرْصادَ : كالمرصد، وهو : المكان الذي يترقب فيه الرَّصد١، جمع راصد كحرس، فالمرصاد «مفعال » من :«رصده »، كميقات من وقته، قاله الزمخشري٢.
وجوَّز ابنُ عطيَّة في المرصاد٣ : أن يكون اسم فاعل، قال : كأنه قيل :«لبالراصد »، فعبر ببناء المبالغة.
ورده أبو حيَّان٤ : بأنه لو كان كذلك لم تدخل عليه الباء، إذ ليس هو في موضع دخولها، لا زائدة، ولا غير زائدة.
قال شهابُ الدِّين٥ : قد وردت زيادتها في خبر :«إنَّ » كهذه الآية ؛ وفي قول امرئ القيس :[ الطويل ]
٥٢٠٣-. . . *** فإنَّكَ ممَّا أحْدثَتْ بالمُجرِّبِ٦
إلاَّ أنَّ هذه ضرورة، لا يقاس عليه الكلام، فضلاً عن أفصحه.
فصل
تقدم الكلام في :«المرصاد »، عند قوله :﴿ كَانَتْ مِرْصَاداً ﴾ [ النبأ : ٢١ ]، وهذا مثلٌ لإرصاده العصاة بالعقاب بأنهم لا يفوتونه، كما قيل لبعض العرب : أين ربك ؟ قال : بالمرصاد.
وقال الفراء : معناه : إليه المصير.
وقال الزجاج : يرصد من كفر به وعاند طاعته بالعذاب.
وقال الضحاك : يرصد أهل الظلم، والمعصية.
وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٥) وزاد نسبته إلى عبد الرزاق وابن المنذر وابن أبي حاتم..
٢ ينظر: الكشاف ٤/٧٤٨..
٣ المحرر الوجيز ٥/٤٧٩..
٤ البحر المحيط ٨/٤٦٥..
٥ الدر المصون ٦/٥٢٠..
٦ تقدم..
أصحهما: أنه الجملة من قوله: «فيقول»، كقوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ﴾ [البقرة: ٢٦] كما تقدم، والظرف حينئذٍ منصوب بالخبر؛ لأنه في نية التأخير، ولا يمنع الفاء من ذلك. قاله الزمخشري.
الثاني: «إذَا» : شرطية، وجوابها: «فيقول»، وقوله: «فأكْرمهُ» : معطوف على «ابتلاه»، والجملة الشرطية خبر: «الإنسان». قاله أبو البقاء.
وفيه نظر؛ لأن «أما» تلزم الفاء في الجملة الواقعة خبراً عما بعدها، ولا تحذف إلا مع قول مضمر، كقوله: ﴿فَأَمَّا الذين اسودت﴾ [آل عمران: ١٠٦] كما تقدم، إلا في ضرورة.
قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: بم اتَّصل قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإنسان﴾ ؟.
قلت: بقوله: ﴿إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد﴾، فكأنه قيل: إن الله لا يريد من الإنسان إلا الطَّاعة، فأما الإنسان، فلا يريد ذلك، ولا يهمه إلا العاجلة» انتهى.
ثم قال: فإن قلت: كيف توازن قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ﴾، وقوله: ﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه﴾، وحق التوازن أن يتقابل الواقعان بعد «أما» و «أما» تقول: أما الإنسان فكفور، وأما الملك فشكور، أمَّا الإنسان أحسنت إلى زيد، فهو محسن إليك، وأمَّا إذا أسأت إليه، فهو مسيء إليك.
قلت: هما متوازنان من حيث إنَّ التقدير: وأما هو إذا ما ابتلاه، وذلك أن قوله «فيقُولُ: ربِّي أكرمنِ» : خبر المبتدأ، الذي هو «الإنسان»، ودخول الفاء لما في «أما» من معنى الشرط، والظرف المتوسط بين المبتدأ والخبر في نية التأخير، كأنه قيل: فأما الإنسان فقائل: ربي أكرمني وقت الابتلاء، فوجب أن يكون «فيقول» الثاني: خبراً لمبتدأ واجب تقديره.
فصل في المراد بالإنسان
قال ابن عبَّاسٍ: المراد بالإنسان: عتبةُ بنُ ربيعة، وأبو حذيفة بنُ المغيرةَ.
وقيل: أمية بن خلف.
وقيل: أبي بن خلف.
﴿إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ﴾ أي: امتحنه، واختبره بالنعمة، و «ما» زائدة صلة، «فأكْرمهُ» بالمال، و «نَعَّمَهُ» بما أوسع عليه، «فَيقُولُ: ربِّي أكرمنِ»، فيفرح بذلك، ولا يحمده.
﴿وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه﴾ أي: امتحنه بالفقر واختبره، «فقَدَر» أي: ضيق، «عَليهِ رِزقهُ» على مقدار البُلغة، «فيقول» ربي أهاننِ «أي: أولاني هواناً، وهذه صفة الكافر، الذي لا يؤمن بالبعث، وإنما الكرامة عنده، والهوان بكثرة المال والحظ في الدنيا، وقلته، فأمَّا المؤمن، فالكرامة عنده أن يكرمه الله بطاعته، وتوفيقه، المؤدي إلى حظ الآخرة، وإن وسع عليه في الدنيا حمده وشكره.
قال القرطبيُّ: الآيتان صفة كُلِّ كافرٍ، وكثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته، وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله: لو لم أستحق هذا، لم يعطينيه الله،
قوله: «فقَدرَ عليهِ».
قرأ ابنُ عامرٍ: بتشديد الدَّال.
والباقون: بتخفيفها، وهما لغتان بمعنى واحد، ومعناهما: التَّضييق.
قال القرطبيُّ: والاختيار: التخفيف، لقوله تعالى: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ [الطلاق: ٧] وقوله تعالى: ﴿الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ﴾ [الرعد: ٢٦].
وقال أبو عمرو: و «قَدَرَ» أي: قتر. و «قَدَّرَ» مشدداً: هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال: «ربِّي أهانن».
فصل في الكلام على أكرمن وأهانن
قوله: «أكْرمَنِي، أهانني».
قرأ نافع: بإثبات يائهما وصلاً، وحذفهما وفقاً من غير خلاف عنه.
والمروي عن ابن كثير، وابن محيصن، ويعقوب: إثباتهما في الحالين؛ لأنهما اسم فلا تحذف.
واختلف عن أبي عمرو في الوصل: فروي عنه الإثبات والحذف، والباقون يحذفونها في الحالتين.
وعلى الحذف قوله: [المتقارب]
٥٢٠٤ - ومِنْ كَاشحٍ ظاهرٍ عُمرهُ | إذَا مَا انْتسَبْتُ لهُ أنْكَرن |
وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قال: فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال: «فأكرمه ونعمه» ؟ قلت: لأن البسط: إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير، فليس بإهانة له؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية، قلت: أكرمني بالهدية، ولا تقول: أهانني، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
قيل: لما قال: «فَأكْرَمهُ»، فقد صحَّ أنه أكرمه، ثم إنه حكى عنه أنه قال: «أكرمن» ذمه عليه فكيف الجمع بينهما؟.
فالجواب: أن كلمة الإنكار: «كلاَّ»، فلم لا يجوز أن يقال: إنَّها مختصة بقوله تعالى: «ربي أهانن» ؟.
سمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً، لكن يمكن أن يكون الذَّم؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا، مع سبق النعم عليه من الصحة، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر، بل محبة الدنيا والتكثير بالأموال والأولاد، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث، كما حكى الله تعالى بقوله: ﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً﴾ [الكهف: ٣٥] إلى قوله: ﴿أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ﴾ [الكهف: ٣٧].
قال القرطبيُّ١ : الآيتان صفة كُلِّ كافرٍ، وكثيرٌ من المسلمين يظن أن ما أعطاه الله لكرامته، وفضيلته عند الله، وربما يقول بجهله : لو لم أستحق هذا، لم يعطينيه الله، وكذا إن قتر عليه، يظن أن ذلك لهوانه على الله.
قوله :«فقَدرَ عليهِ ».
قرأ ابنُ عامرٍ٢ : بتشديد الدَّال.
والباقون : بتخفيفها، وهما لغتان بمعنى واحد، ومعناهما : التَّضييق.
قال القرطبيُّ٣ : والاختيار : التخفيف، لقوله تعالى :﴿ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ ﴾ [ الطلاق : ٧ ] وقوله تعالى :﴿ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ ﴾ [ الرعد : ٢٦ ].
وقال أبو عمرو : و«قَدَرَ » أي : قتر. و«قَدَّرَ » مشدداً : هو أن يعطيه ما يكفيه، ولو فعل به ذلك ما قال :«ربِّي أهانن ».
فصل في الكلام على أكرمن وأهانن
قوله :«أكْرمَنِي، أهانني ».
قرأ نافع : بإثبات يائهما وصلاً، وحذفهما وفقاً من غير خلاف عنه.
والمروي عن ابن كثير، وابن محيصن، ويعقوب : إثباتهما في الحالين ؛ لأنهما اسم فلا تحذف.
واختلف عن أبي عمرو في الوصل : فروي٤ عنه الإثبات والحذف، والباقون يحذفونها في الحالتين.
وعلى الحذف قوله :[ المتقارب ]
٥٢٠٤- ومِنْ كَاشحٍ ظاهرٍ عُمرهُ | إذَا مَا انْتسَبْتُ لهُ أنْكَرن٥ |
وقال الزمخشريُّ٦ : فإن قلت : هلا قال : فأهانه وقدر عليه رزقه، كما قال :«فأكرمه ونعمه » ؟ قلت : لأن البسط : إكرام من الله لعبده بإنعامه عليه متفضلاً من غير سابقة، وأما التقدير، فليس بإهانة له ؛ لأن الإخلال بالتفضل لا يكون إهانة، ولكن تركاً للكرامة، وقد يكون المولى مكرماً لعبده ومهيناً له، وغير مكرم ولا مهين، وإذا أهدى لك زيدٌ هدية، قلت : أكرمني بالهدية، ولا تقول : أهانني، ولا أكرمني إذا لم يهد لك.
وأجاب ابنُ الخطيب٧ عن هذا السؤال : بأنه في قوله :«أكرمني » صادق، وفي قوله :«أهانني » غير صادق فهو ظهن أنَّ قلة الدنيا، وتعسرها إهانة، وهذا جهل، واعتقاد فاسد، فكيف يحكي الله - تعالى - ذلك عنه ؟.
قيل : لما قال :«فَأكْرَمهُ »، فقد صحَّ أنه أكرمه، ثم إنه حكى عنه أنه قال :«أكرمن » ذمه عليه فكيف الجمع بينهما ؟.
فالجواب : أن كلمة الإنكار :«كلاَّ »، فلم لا يجوز أن يقال : إنَّها مختصة بقوله تعالى :«ربي أهانن » ؟.
سلمنا أن الإنكار عائد إليهما معاً، لكن يمكن أن يكون الذَّم ؛ لأنه اعتقد أن ذلك الإكرام بالاستحقاق، أو أنه لما لم يعترف إلا عند سعة الدنيا، مع سبق النعم عليه من الصحة، والعقل دلَّ على أن غرضه من ذلك ليس الشكر، بل محبة الدنيا، والتكثير بالأموال والأولاد، أو لأن كلامه يقتضي الإعراض عن الآخرة وإنكار البعث، كما حكى الله تعالى بقوله :﴿ وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً ﴾ إلى قوله :﴿ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ [ الكهف : ٣٥ و٣٧ ].
٢ ينظر: السابق، وحجة القراءات ٧٦١..
٣ السابق..
٤ ينظر خلاف السبعة في : السبعة ٦٨٤، ٦٨٥، والحجة ٦/٤٠٣، ٤٠٩، وإعراب القراءات ٢/٤٧٨، وحجة القراءات ٧٦٤..
٥ تقدم..
٦ الكشاف ٤/٧٤٩..
٧ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٥٥- ١٥٦..
قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - المعنى: لم أبتله بالغنى، لكرامته عليّ، ولم أبتله بالفقرِ، لهوانه عليّ، بل ذلك لمحضِ القضاء والقدر، والمشيئة والحكم المنزه عن التعليل، وهذا مذهب أهل السنة، وأما على مذهب المعتزلة: فلمصالح خفيَّة، لا يطلع عليها إلا هو - سبحانه - فقد يوسع على الكافر لا لكرامته، ويقتر على المؤمن لا لهوانه.
قال الفراء في هذا الموضع: يعني: لم يكن للعبد أن يكون هكذا، ولكن يحمد الله - تعالى - على الغنى والفقر.
قوله: ﴿بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم﴾. قرأ أبو عمرو: «يكرمون»، وما بعده بياء الغيبة، حملاً على معنى الإنسان المتقدم، إذا المراد به الجنس، والجنس في معنى: الجمع.
والباقون: بالتاء في الجميع، خطاباً للإنسان المراد به الجنس، على طريقة الالتفات.
فصل فيمن نزلت فيه الآية
لما حكى قولهم، فكأنه قال: لهم فعل أشر من هذا القول، وهو أن الله - تعالى - يكرمهم بكثرة المال، فلا يؤدون ما يلزمهم من إكرام اليتيم، فقرعهم بذلك، ووبخهم. وترك إكرام اليتيم بدفعه عن حقه، وأكل ماله.
وقال مقاتلٌ: نزلت في قدامة بن مظعونٍ، وكان يتيماً في حجر أمية بن خلف، وكان يدفعه عن حقه.
قوله: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾.
قرأ الكوفيون: «ولا تحاضون»، والأصل: تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي: لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي: «تُحاضُّون» بضم التاء، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة، أي: تحاضون أنفسكم.
والباقون: «تَحُضُّون» من حضَّه على كذا، أي: أغراه به، ومفعوله محذوف، أي: لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي: لا يوقعون الحضّ.
قوله: «عَلى طعامِ» : متعلق ب «تحضون»، و «طَعَام» : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي: على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى: الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.
فصل في ترك إكرام اليتيم
اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه:
أحدها: ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين﴾.
والثاني: دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾.
قوله: ﴿وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً﴾ التاء في «التُّراثَ» : بدل من الواو؛ لأنه من الوراثة ومثله: تولج، وتوراة، وتخمة وقد تقدم كما قالوا: تجاه، وتخمة، وتكأة، وتؤدة، ونحو ذلك.
والتراث: ميراث اليتامى، وقوله تعالى: ﴿أَكْلاً لَّمّاً﴾، اللَّمم: الجمع الشديد، يقال: لممت الشيء لماً، أي: جمعته جمعاً.
٥٢٠٥ - إذَا كَانَ لمَّا يُتْبعُ الذَّمُّ ربَّهُ | فَلا قدَّسَ الرَّحمنُ تِلْكَ الطَّواحِنَا |
٥٢٠٦ - ولسْتُ بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تَلمُّهُ | عَلى شَعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذب؟ |
قال زهير: [الطويل]
٥٢٠٧ - فَلمَّا وَرَدْنَا الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ.......................................
ومنه: الجُمَّةُ، للشعر، وقولهم: جاءوا الجمَّاء الغفير من ذلك.
وكتيبة ملمومة وحجر ملموم، وقولهم: إن دارك لمومة، اي تلم الناس وتجمعهم، والآكل يلم الثريد، فيجمعه لقماً، ثم يأكله.
قال الحسنُ: يأكلون نصيبهم، ونصيب غيرهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم.
وقيل: إنَّ المال الذي يتركه الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة، وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل، أي: يجمع البعض إلى البعض، ويأخذ الكل ويأكله.
قال الزمخشريُّ: يجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال، سهلاً مهلاً من غير أن يعرق في جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلاً لمًّا جامعاً بين ألوان المشتهيات [من الأطعمة والأشربة والفواكه].
[وقال ابن زيد: كان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم وتراثهم مع تراثهم].
قوله: ﴿وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً﴾ أي: كثيراً حلاله وحرامه.
والجَمُّ: الكثير، يقال: جمَّ الشيء يجم جُمُوماً، فهو جم وجام، ومنه: جمَّ الماء
قرأ الكوفيون :«ولا تحاضون »، والأصل : تتحاضون، فحذف إحدى التاءين، أي : لا يحض بعضكم بعضاً.
وروي عن الكسائي١ :«تُحاضُّون » بضم التاء، وهي قراءة زيد بن علي وعلقمة، أي : تحاضون أنفسكم.
والباقون٢ :«تَحُضُّون » من حضَّه على كذا، أي : أغراه به، ومفعوله محذوف، أي : لا تحضون أنفسكم ولا غيرها، ويجوز ألاَّ يقدر، أي : لا يوقعون الحضّ.
قوله :«عَلى طعامِ » : متعلق ب «تحضون »، و«طَعَام » : يجوز أن يكون على أصله من كونه اسماً للمطعوم، ويكون على حذف مضاف، أي : على بذل، أو إعطاء طعام، وأن يكون اسم مصدر بمعنى : الإطعام كالعطاء بمعنى الإعطاء، فلا حذف حينئذ.
فصل في ترك إكرام اليتيم
اعلم أن ترك إكرام اليتيم على وجوه :
أحدها : ترك بره وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَحَاضُّونَ على طَعَامِ المسكين ﴾.
والثاني : دفعه عن حقه، وأكل ماله، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً ﴾.
٢ ينظر: السبعة ٦٨٥، والحجة ٦/٤١٠، وإعراب القراءات ٢/٤٧٩، وحجة القراءات ٧٦٢ -٧٦٣..
والتراث : ميراث اليتامى، وقوله تعالى :﴿ أَكْلاً لَّمّاً ﴾، اللَّمم : الجمع الشديد، يقال : لممت الشيء لماً، أي : جمعته جمعاً.
قال الحطيئة :[ الطويل ]
٥٢٠٥- إذَا كَانَ لمَّا يُتْبعُ الذَّمُّ ربَّهُ *** فَلا قدَّسَ الرَّحمنُ تِلْكَ الطَّواحِنَا١
ولمَمْتُ شعثه من ذلك ؛ قال النابغة :[ الطويل ]
٥٢٠٦- ولسْتُ بِمُسْتبْقٍ أخاً لا تَلمُّهُ *** عَلى شَعثٍ أيُّ الرِّجالِ المُهذب ؟٢
والجَمُّ : الكثير، ومنه : جمَّة الماء.
قال زهير :[ الطويل ]
٥٢٠٧- فَلمَّا وَرَدْنَا الماءَ زُرْقاً جِمامُهُ ***. . . ٣
ومنه : الجُمَّةُ، للشعر، وقولهم : جاءوا الجمَّاء الغفير من ذلك.
وكتيبة ملمومة وحجر ملموم، وقولهم : إن دارك لمومة، أي تلم الناس وتجمعهم، والآكل يلم الثريد، فيجمعه لقماً، ثم يأكله.
قال الحسنُ : يأكلون نصيبهم، ونصيب غيرهم، فيجمعون نصيب غيرهم إلى نصيبهم٤.
وقيل : إنَّ المال الذي يتركه الميت بعضه حلال، وبعضه شبهة، وبعضه حرام، فالوارث يلم الكل، أي : يجمع البعض إلى البعض، ويأخذ الكل ويأكله.
قال الزمخشريُّ٥ : يجوز أن يكون الذم متوجهاً إلى الوارث الذي ظفر بالمال، سهلاً مهلاً من غير أن يعرق في جبينه، فيسرف في إنفاقه، ويأكله أكلاً لمًّا جامعاً بين ألوان المشتهيات [ من الأطعمة والأشربة والفواكه ]٦.
[ وقال ابن زيد : كان أهل الشرك لا يورثون النساء ولا الصبيان، بل يأكلون ميراثهم وتراثهم مع تراثهم ]٧.
٢ ينظر ديوان النابغة ٤٧٤، وابن الشجري (١/٢٦٧، واللسان (شعث)، والقرطبي ٢٠/٣٦، والبحر ٨/٤٦٢، والدر المصون ٦/٥٢٢..
٣ ينظر ديوانه (١٠٥)، والانطباع الشعري ٢٨١، ومجمع البيان ١٠/٧٣٥، والدر المصون ٦/٥٢٢..
٤ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٧٤). وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٦) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد..
٥ ينظر الكشاف ٤/٧٥١..
٦ سقط من: أ..
٧ سقط من: ب..
والجَمُّ : الكثير، يقال : جمَّ الشيء يجم جُمُوماً، فهو جم وجام، ومنه : جمَّ الماء في الحوض، إذا اجتمع وكثر، والجمة : المكان الذي يجتمع فيه الماء، والجُمُوم - بالضم - المصدر يقال : جم الماء يجم جموماً : إذا كثر في البئر واجتمع، والمعنى : يحبون المال حباً شديداً.
قوله: ﴿إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً﴾. في «دكّاً» وجهان:
أحدهما: أنه مصدر مؤكد، و «دَكًّا» الثاني: تأكيد للأول، تأكيداً لفظياً. كذا قاله ابن عصفورٍ وليس المعنى على ذلك.
والثاني: أنه نُصِبَ على الحال، والمعنى: مكرراً عليها الدَّكُّ، ك «علمته الحساب باباً باباً»، وهذا ظاهر قول الزمخشري.
وكذلك: «صفًّا صفًّا» حال أيضاً، أي: مصطفين، أو ذوي صفوف كثيرة.
قال الخليل: الدَّكُّ: كسر الحائط والجبل والدكداك: رمل متلبّد. ورجل مدك: أي شديد الوطء على الأرض. [فمعنى الدك على قول الخليل: كسر شيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت فلم يبق على شيء].
وقال المبرد: الدَّكُّ: حطُّ المرتفع من الأرض بالبسط، واندك سنام البعير: إذا انفرش في ظهره، وناقة دكاء كذلك، ومنه الدكان لاستوائه في الانفراش، فمعنى الدك على قول الخليل: كسر الشيء على وجه الأرض من جبل أو حجر حين زلزلت، فلم يبق على ظهرها شيء، وعلى قول المبرد، معناه: أنها استوت في الانفراش، فذهب دورها، وقصورها، حتى صارت كالصخرة الملساء، وهذا معنى قول ابن عباس، وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: تمد الأرض يوم القيامة مد الأديم.
قال ابنُ الخطيبِ: وهذا التَّدكُّكُ لا بد وأن يكون متأخراً عن الزلزلة [فإذا زلزلت الأرض زلزلة] بعد زلزلة، فتكسر الجبال، وتنهدم، وتمتلئ الأغوار، وتصير ملساء، وذلك عند انقضاء الدنيا.
وقيل: جاءهم الربُّ بالآيات، كقوله تعالى: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام﴾ [البقرة: ٢١٠] أي بظلل.
وقيل: جعل مجيء الآيات مجيئاً له، تفخيماً لشأن تلك الآيات، كقوله تعالى في الحديث: «يَا ابْنَ آدم مَرضتُ فلمْ تعُدِنِي، واسْتسْقَيتُكَ فَلمْ تَسقِنِي واسْتطعَمْتُكَ فَلمْ تُطْعمْنِي».
وقيل: زالت الشبه، وارتفعت الشكوك، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشكوك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه [وقيل وجاء قهر ربك، كما تقول جاءتنا بنو أمية، أي: قهرهم.
قال أهل الإشارة: ظهرت قدرته واستوت، والله - سبحانه وتعالى - لم يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوات الأوقات، ومن فاته الشيء، فهو عاجز.
وأما قوله تعالى: ﴿والملك صَفّاً صَفّاً﴾ أي: والملائكة صفاً بعد صفٍّ متحلِّقين بالجن والإنس].
قوله: ﴿وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾.
«يومئذ» : منصوب ب «جيء»، والقائم مقام الفاعل: «بجهنم» وحوز مكيٍّ: أن يكون «يومئذ» : قائم مقام الفاعل.
وأمَّا «يومئذ» الثاني فقيل: بدل من «إذا دُكَّتِ»، والعامل فيها: «يتذكر»، قاله الزمخشري وهذا مذهب سيبويه.
وقيل: إن العامل في «إذا دكت» : يقول، والعامل في «يومئذ» : يتذكر، قاله أبو البقاء.
فصل
قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ: «تقادُ جهنَّمُ بِسبْعِينَ ألف زمام، كُل زِمَامٍ بيدِ سبْعينَ ألْف ملكٍ يجرونها، لهَا تَغَيُّظٌ وزفيرٌ، حتَّى تنصبَّ عن يسارِ العرْشِ».
وقال أبُو سعيدٍ الخدريُّ: «لما نزلت: ﴿وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾ تغير لون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، ثم قال: أقْرأنِي جِبْريلُ: ﴿كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً﴾، - الآية - ﴿وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ﴾، قال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قلت: يا رسول الله، كيف يجاءُ بها؟ قال:» يُؤْتَى بِهَا تُقَادُ بِسبعِينَ ألْف زمامٍ، يَقُودُ بكُلِّ زمَامٍ سَبعُونَ ألْف ملكٍ، فتشْردُ شَرْدَةً لو تُرِكَتْ لأحْرقَتْ أهْلَ الجَمْعِ، ثُمَّ تعْرضُ لِي جهنَّمُ، فتقول: مَا لِي ولَكَ يا مُحَمَّدُ، إنَّ الله قَدْ حَرَّمَ لحْمَكَ عليَّ، فلا يَبْقَى أحَدٌ إلاَّ قال: نَفْسِي نَفْسِي، إلاَّ محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنَّه يقُولُ: ربِّ أمَّتِي، ربِّ أمَّتِي «.
قال ابن الخطيب: قال الأصوليون: معلوم أنَّ جهنَّم لا تنقل من مكانها، ومعنى مجيئها: برزت وظهرت حتى يراها الخلق، ويعلم الكافر أنَّ مصيره إليها.
قوله: ﴿يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان﴾. تقدم الكلام في إعراب:» يومئذ «، والمعنى: يتَّعظُ الكافرُ، ويتوب من همته بالدُّنيا وقيل: يتذكر أن ذلك كان ضلالاً.
﴿وأنى لَهُ الذكرى﴾ أي: ومن أين له الاتِّعاظٌُ والتوبة، وقد فرط فيها الدنيا.
وقيل: ومن أين له منفعة الذِّكرى، فلا بُدُّ من تقدير حذفِ المضاف، وإلاَّ فبين» يومئذٍ يَتذكَّر «وبين:» وأنَّى لهُ الذِّكْرى «تناف. قاله الزمخشري.
قوله:» وأنَّى «خبر مقدم، و» الذكرى «: مبتدأ مؤخر، و» له «متعلق بما تعلق به الظرف.
قوله: ﴿يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾، أي: في حياتي، فاللام بمعنى» في «.
وقيل: أي: قدمت عملاً صالحاً أي لحياة لا موت فيها.
وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون ممن له حياة هنيئة.
فصل في شبهة للمعتزلة والرد عليها
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم وقصدهم، وأنَّهم ما كانوا محجوزين عن الطَّاعات، مجبرين على المعاصي.
والجواب: أن فعلهم كان معلقاً بقصد الله - تعالى - فبطل قولهم.
قوله: ﴿فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ﴾.
فأمَّا قراءة الكسائي: فأسند الفعل فيها إلى: «أحد»، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى، وأما عذابه ووثاقه، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل، والضمير لله تعالى، أو مضافين للمفعول، والضمير للإنسان، ويكون «عذابَ» واقعاً موقع تعذيب، والمعنى: لا يُعذِّبُ أحدٌ مثل تعذيب الله - تعالى - هذا الكافر، ولا يوثق أحد توثيقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره، وعناده.
والوثاق: بمعنى: الإيثاق، كالعطاء بمعنى الإعطاء، إلا أن في إعمال اسم المصدر عمل مسمَّاه خلافاً مضطرباً، فنقل عن البصريين المنع، وعن الكوفيين الجواز، ونقل العكس عن الفريقين؛ ومن الإعمال قوله: [الوافر]
٥٢٠٨ - أكُفْراً بعْدَ ردِّ المَوْتِ عنِّي | وبَعْدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتَاعَا |
٥٢٠٩ -.................................. تُكَلِّمُنِي فِيهَا شفاءٌ لمَا بِيَا
وقيل: المعنى: ولا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]. قاله الزمخشري.
وأما قراءة الباقين: فإنَّه أسند الفعل لفاعله، والضمير في: «عذابه»، و «وثاقه» يحتمل عوده على الباري - تعالى -، بمعنى: أنه لا يعذب في الدنيا، مثل عذاب الله تعالى يوم أحد، أي: أن عذاب من يعذب في الدنيا، ليس كعذاب الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قاله أبو عبد الله.
وفيه نظر، من حيث إنه يلزم أن يكون: «يومئذ» معمولاً للمصدر التشبيهي، وهو ممتنع لتقدمه عليه، إلاَّ أن يقال: إنه توسع فيه.
وقيل : جاءهم الربُّ بالآيات، كقوله تعالى :﴿ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام ﴾ [ البقرة : ٢١٠ ] أي بظلل.
وقيل : جعل مجيء الآيات مجيئاً له، تفخيماً لشأن تلك الآيات، كقوله تعالى في الحديث :«يَا ابْنَ آدم مَرضتُ فلمْ تعُدِنِي، واسْتسْقَيتُكَ فَلمْ تَسقِنِي واسْتطعَمْتُكَ فَلمْ تُطْعمْنِي »١.
وقيل : زالت الشبه، وارتفعت الشكوك، وصارت المعارف ضرورية، كما تزول الشبه والشكوك عند مجيء الشيء الذي كان يشك فيه [ وقيل وجاء قهر ربك، كما تقول جاءتنا بنو أمية، أي : قهرهم.
قال أهل الإشارة : ظهرت قدرته واستوت، والله - سبحانه وتعالى - لم يوصف بالتحول من مكان إلى مكان، وأنَّى له التحول والانتقال، ولا مكان ولا أوان، ولا يجري عليه وقت ولا زمان ؛ لأن في جريان الوقت على الشيء فوات الأوقات، ومن فاته الشيء، فهو عاجز.
وأما قوله تعالى :﴿ والملك صَفّاً صَفّاً ﴾ أي : والملائكة صفاً بعد صفٍّ متحلِّقين بالجن والإنس ]٢.
٢ سقط من ب..
«يومئذ » : منصوب ب «جيء »، والقائم مقام الفاعل :«بجهنم » وحوز مكيٍّ : أن يكون «يومئذ » : قائم مقام الفاعل.
وأمَّا «يومئذ » الثاني فقيل : بدل من «إذا دُكَّتِ »، والعامل فيها :«يتذكر »، قاله الزمخشري١ وهذا مذهب سيبويه.
وقيل : إن العامل في «إذا دكت » : يقول، والعامل في «يومئذ » : يتذكر، قاله أبو البقاء٢.
فصل
قال ابنُ مسعودٍ ومقاتلٌ :«تقادُ جهنَّمُ بِسبْعِينَ ألف زمام، كُل زِمَامٍ بيدِ سبْعينَ ألْف ملكٍ يجرونها، لهَا تَغَيُّظٌ وزفيرٌ، حتَّى تنصبَّ عن يسارِ العرْشِ »٣.
رواه مسلم في صحيحه عن عبد الله بن مسعود مرفوعاً.
وقال أبُو سعيدٍ الخدريُّ :«لما نزلت :﴿ وجيء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾ تغير لون رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف في وجهه، حتى اشتد على أصحابه، ثم قال : أقْرأنِي جِبْريلُ :﴿ كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً ﴾، - الآية - ﴿ وجيء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ ﴾، قال علي - رضي الله عنه - : قلت : يا رسول الله، كيف يجاءُ بها ؟ قال :«يُؤْتَى بِهَا تُقَادُ بِسبعِينَ ألْف زمامٍ، يَقُودُ بكُلِّ زمَامٍ سَبعُونَ ألْف ملكٍ، فتشْردُ شَرْدَةً لو تُرِكَتْ لأحْرقَتْ أهْلَ الجَمْعِ، ثُمَّ تعْرضُ لِي جهنَّمُ، فتقول : مَا لِي ولَكَ يا مُحَمَّدُ، إنَّ الله قَدْ حَرَّمَ لحْمَكَ عليَّ، فلا يَبْقَى أحَدٌ إلاَّ قال : نَفْسِي نَفْسِي، إلاَّ محمدٌ صلى الله عليه وسلم فإنَّه يقُولُ : ربِّ أمَّتِي، ربِّ أمَّتِي »٤.
قال ابن الخطيب٥ : قال الأصوليون : معلوم أنَّ جهنَّم لا تنقل من مكانها، ومعنى مجيئها : برزت وظهرت حتى يراها الخلق، ويعلم الكافر أنَّ مصيره إليها.
قوله :﴿ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان ﴾. تقدم الكلام في إعراب :«يومئذ »، والمعنى : يتَّعظُ الكافرُ، ويتوب من همته بالدُّنيا وقيل : يتذكر أن ذلك كان ضلالاً.
﴿ وأنى لَهُ الذكرى ﴾ أي : ومن أين له الاتِّعاظٌُ والتوبة، وقد فرط فيها الدنيا.
وقيل : ومن أين له منفعة الذِّكرى، فلا بُدُّ من تقدير حذفِ المضاف، «وإلاَّ فبين يومئذٍ يَتذكَّر » وبين :«وأنَّى لهُ الذِّكْرى » تناف. قاله الزمخشري٦.
قوله :«وأنَّى » خبر مقدم، و «الذكرى » : مبتدأ مؤخر، و«له » متعلق بما تعلق به الظرف.
٢ ينظر: الإملاء ٢/٢٨٧..
٣ ورد هذا الأثر عن ابن مسعود مرفوعا أخرجه مسلم وغيره وقد تقدم تخريجه..
٤ ذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٧) وعزاه إلى ابن مردويه عن أبي سعيد..
٥ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٥٨..
٦ الكشاف ٤/٧٥٢..
وقيل : أي : قدمت عملاً صالحاً أي لحياة لا موت فيها.
وقيل : حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى : يا ليتني قدمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون ممن له حياة هنيئة.
فصل في شبهة للمعتزلة والرد عليها
استدلت المعتزلة بهذه الآية على أن الاختيار كان في أيديهم وقصدهم، وأنَّهم ما كانوا محجوزين عن الطَّاعات، مجبرين على المعاصي.
والجواب : أن فعلهم كان معلقاً بقصد الله - تعالى - فبطل قولهم.
قرأ الكسائي :«لا يعذَّب١ ولا يُوثَقُ » مبنيين للمفعول، ورواه أبو قلابة عن النبي صلى الله عليه وسلم بفتح الثاء والذال، والباقون : قرأوهما مبنيين للفاعل.
فأمَّا قراءة الكسائي : فأسند الفعل فيها إلى :«أحد »، وحذف الفاعل للعلم به وهو الله تعالى، والزبانية المتولون العذاب بأمر الله تعالى، وأما عذابه ووثاقه، فيجوز أن يكون المصدران مضافين للفاعل، والضمير لله تعالى، أو مضافين للمفعول، والضمير للإنسان، ويكون «عذابَ » واقعاً موقع تعذيب، والمعنى : لا يُعذِّبُ أحدٌ مثل تعذيب الله - تعالى - هذا الكافر، ولا يوثق أحد توثيقاً مثل إيثاق الله إياه بالسلاسل والأغلال ولا يعذب أحد مثل تعذيب الكافر ولا يوثق مثل إيثاقه لكفره، وعناده.
٥٢٠٨- أكُفْراً بعْدَ ردِّ المَوْتِ عنِّي | وبَعْدَ عَطائِكَ المِائةَ الرِّتَاعَا١ |
٥٢٠٩-***. . . تُكَلِّمُنِي فِيهَا شفاءٌ لمَا بِيَا٢
وقيل : المعنى : ولا يحمل عذاب الإنسان أحد، كقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]. قاله الزمخشري٣.
وأما قراءة الباقين : فإنَّه أسند الفعل لفاعله، والضمير في :«عذابه »، و«وثاقه » يحتمل عوده على الباري - تعالى -، بمعنى : أنه لا يعذب في الدنيا، مثل عذاب الله تعالى يومئذ أحد، أي : أن عذاب من يعذب في الدنيا، ليس كعذاب الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قاله أبو عبد الله.
وفيه نظر، من حيث إنه يلزم أن يكون :«يومئذ » معمولاً للمصدر التشبيهي، وهو ممتنع لتقدمه عليه، إلاَّ أن يقال : إنه توسع فيه.
وقيل : المعنى : لا يكل عذابه، ولا وثاقه لأحد ؛ لأن الأمر لله - تعالى - وحده في ذلك.
وقيل : المعنى : أنه في الشدة، والفظاعة، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله.
ورد هذا، بأن «لا »، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابق هذا المعنى، ولا يطلق على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيد، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة، لا دار الدُّنيا.
وقيل : المعنى : أنه لا يعذب أحد في الدنيا، مثل عذاب الله الكافر فيها، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله.
ويحتمل عوده على الإنسان، بمعنى : لا يعذب أحد من زبانية العذاب، مثل ما يعذبون هذا الكافر، ويكون المعنى : لا يحمل أحد عذاب الإنسان، لقوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب.
وقرأ نافع٤ في رواية، وأبو جعفر وشيبة، بخلاف عنهما :«وثاقه » بكسر الواو.
والمراد بهذا الكافر المعذب، قيل : إبليس - لعنه الله - ؛ لأنه أشد الناس عذاباً.
وقال الفراء : هو أمية بن خلف.
٢ عجز بيت لذي الرمة وصدره:
*** فأشفي نفسي من تباريح ما بها ***
ويروى:
*** ألا هل إلى سبيل ساعة ***
ينظر ملحقات ديوان ذي الرمة (٦٧٥)، وشرح المفصل ١/٢١، والدرر ٥/٢٦٣، والهمع ٢/٩٥، والدر المصون ٦/٥٢٣..
٣ ينظر الكشاف ٤/٧٥٢..
٤ وقرأ بها الخليل بن أحمد، ينظر: المحرر الوجيز ٥/٤٨١، والبحر المحيط ٨/٤٦٧، والدر المصون ٦/٥٢٣..
وقيل: المعنى: أنه في الشدة، والفظاعة، في حين لم يعذب أحد في الدنيا مثله.
ورد هذا، بأن «لا»، إذا دخلت على المضارع صيرته مستقبلاً، وإذا كان مستقبلاً لم يطابق هذا المعنى، ولا يطلق على الماضي إلاَّ بمجازٍ بعيد، وبأن يومئذ المراد به يوم القيامة، لا دار الدُّنيا.
وقيل: المعنى: أنه لا يعذب أحد في الدنيا، مثل عذاب الله الكافر فيها، إلا أن هذا مردود بما ورد قبله.
ويحتمل عوده على الإنسان، بمعنى: لا يعذب أحد من زبانية العذاب، مثل ما يعذبون هذا الكافر، ويكون المعنى: لا يحمل أحد عذاب الإنسان، لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى﴾ [الأنعام: ١٦٤]، وهذه الأوجه صعبة المرام على طالبها من غير هذا الكتاب.
وقرأ نافع في رواية، وأبو جعفر وشيبة، بخلاف عنهما: «وثاقه» بكسر الواو.
والمراد بهذا الكافر المعذب، قيل: إبليس - لعنه الله -؛ لأنه أشد الناس عذاباً.
وقال الفراء: هو أمية بن خلف.
قوله
: ﴿ياأيتها
النفس المطمئنة﴾.
قرأ العامة: «يا أيَّتُها النَّفسُ» بتاء التأنيث.
وقرأ زيد بن علي: «يا أيُّهَا»، كنداء المذكر، ولم يجوز ذلك أحد، إلا صاحب البديع، وهذه شاهدة له، وله وجه: وهو أنها كما لم تطابق صفتها تثنية وجمعاً، جاز ألاَّ يطابقها تأنيثاً، تقول: يا أيها الرجلان، يا أيها الرجل.
فصل في الكلام على الآية
لما وصف حال من اطمأن إلى الدُّنيا، وصف حال من اطمأنَّ إلى معرفته وعبوديته، وسلم أمره إلى الله - تعالى -.
وقيل: هذا كلام الباري تعالى، إكراماً له كما كلَّم موسى عليه السلام.
قال مجاهد وغيره: «المُطْمئنَّة» : الساكنة الموقنة، أيقنت أن الله تعالى ربها، فأجيبت لذلك.
وقال ابنُ عبَّاسٍ: المطمئنة بثواب الله، وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المؤمنة الموقنة.
وعن مجاهدٍ أيضاً: الراضية بقضاءِ الله.
وقال مقاتلٌ: الآمنة من عذاب الله تعالى.
وفي حرف أبي كعب: «يا أيتها النفس الآمنة المطمئنة».
وقيل: التي عملت على يقين بما وعد الله تعالى، في كتابه.
وقال ابن كيسان: المطمئنة - هنا -: المخلصة وقيل: المطمئنة بذكر الله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله﴾ [الرعد: ٢٨] وقيل: المطمئنة بالإيمان، المصدقة بالبعث والثواب.
وقال ابن زيدٍ: المطمئنة، التي بشرت بالجنة، عند الموت، أو عند البعث، ويوم الجمع.
قوله: ﴿ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾، أي: ارجعي إلى صاحبك، وجسدك.
قاله ابنُ عبَّاسٍ وعكرمةُ وعطاءٌ، واختاره الكلبيُّ، يدل عليه قراءة ابن عباس: «فادخُلِي في عَبْدِي»، على التوحيد.
وقال الحسنُ: ارجعي إلى ثواب ربك.
وقال أبو صالح: ارجعي إلى الله، وهذا عند الموت.
وقوله تعالى: ﴿رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ حالان، أي: جامعة بين الوصفين؛ لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، والمعنى: راضية بالثواب، مرضية عنك في الأعمال، التي عملتها في الدنيا.
فصل في مجيء الأمر بمعنى الخبر
قال القفَّال: هذا وإن كان أمراً في الظَّاهر، فهو خبر في المعنى، والتقدير: أن
فصل في فضل هذه الآية
قال سعيد بن زيد: «قرأ رجل عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا أيَّتُها النَّفسُ «، فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: مَا أحْسنَ هَذَا يَا رسُولَ اللهِ، فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّم:» إنَّ المَلكَ سيقُولُهَا لَكَ يَا أبَا بَكرٍ «».
وقال سعيد بن جبير: مات ابن عباس ب «الطائف»، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا ندري من تلاها: ﴿ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً﴾ [روى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حين وقف بئر رومة].
وقيل: نزلت في خُبيبِ بن عديٍّ، الذي صلبه أهل «مكة»، وجعلوا وجهه إلى «المدينة»، فحوّل الله وجهه للقبلة.
قوله: ﴿فادخلي فِي عِبَادِي﴾، يجوز أن يكون في جسدِ عبادي، ويجوز أن يكون المعنى في زُمرةِ عبادي. وقرأ ابنُ عبًّاسٍ وعكرمةُ وجماعةٌ: «في عَبْدِي»، والمراد: الجِنْس، وتعدَّى الفعل الأول ب «في» ؛ لأنَّ الظرف ليس بحقيقي نحو: دخلت في غمارِ الناس’ وتعدَّى الثاني بنفسه؛ لأن الظرفية متحققة، كذا قيل، وهذا إنما يتأتّى على أحد الوجهين، وهو أن المراد بالنَّفس: بعض المؤمنين، وأنه أمر بالدخول في زُمْرَة عباده، وأما إذا كان المراد بالنفس: الرُّوح، وأنها مأمورة بدخولها في الأجساد، فالظرفية متحققة فيه أيضاً.
فصل في المراد بالجنة هاهنا
قال ابنُ عبَّاسٍ: هذا يوم القيامة، وهو قول الضحاك.
والجمهور على أنَّ المراد بالجنة: دار الخلود، التي هي سكنُ الأبرار، ودار الصالحين والأخيار.
ومعنى «فِي عبَادِي» أي: في الصالحين، كقوله تعالى: ﴿لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين﴾ [العنكبوت: ٩].
روى الثَّعلبيُّ عن أبيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورةَ ﴿والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ﴾ غُفِرَ لهُ، ومَنْ قَرَأهَا فِي سَائِرِ الأيَّامِ كانَتْ لَهُ نُوراً يوم القيامة».
قاله ابنُ عبَّاسٍ وعكرمةُ وعطاءٌ، واختاره الكلبيُّ، يدل عليه قراءة ابن عباس١ :«فادخُلِي في عَبْدِي »، على التوحيد.
وقال الحسنُ : ارجعي إلى ثواب ربك.
وقال أبو صالح : ارجعي إلى الله، وهذا عند الموت.
وقوله تعالى :﴿ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾ حالان، أي : جامعة بين الوصفين ؛ لأنه لا يلزم من أحدهما الآخر، والمعنى : راضية بالثواب، مرضية عنك في الأعمال، التي عملتها في الدنيا.
فصل في مجيء الأمر بمعنى الخبر
قال القفَّال٢ : هذا وإن كان أمراً في الظَّاهر، فهو خبر في المعنى، والتقدير : أن النفس إن كانت مطمئنة رجعت إلى الله تعالى، وقال الله تعالى لها :﴿ فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي ﴾، قال : ويجيء الأمر بمعنى الخبر كثيراً في كلامهم، كقوله :«إذا لَمْ تَسْتَحِ فَافْعَل مَا شِئْت ».
فصل في فضل هذه الآية
قال سعيد بن زيد :«قرأ رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم :«يا أيَّتُها النَّفسُ »، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - : مَا أحْسنَ هَذَا يَا رسُولَ اللهِ، فقَالَ رسُولُ الله صلى الله عليه وسلَّم :«إنَّ المَلكَ سيقُولُهَا لَكَ يَا أبَا بَكر »٣.
وقال سعيد بن جبير : مات ابن عباس ب «الطائف »، فجاء طائر لم ير على خلقه طائر قط، فدخل نعشه، ثم لم ير خارجاً منه، فلما دفن تليت هذه الآية على شفير القبر، لا ندري من تلاها :﴿ يا أيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ﴾٤ [ روى الضحاك أنها نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه حين وقف بئر رومة ]٥.
وقيل : نزلت في خُبيبِ بن عديٍّ، الذي صلبه أهل «مكة »، وجعلوا وجهه إلى «المدينة »، فحوّل الله وجهه للقبلة.
٢ ينظر : الفخر الرازي ٣١/١٦٠..
٣ أخرجه الطبري في "تفسيره" (١٢/٥٨١) وذكره السيوطي في "الدر المنثور" (٦/٥٨٨) وزاد نسبته إلى عبد بن حميد وابن حاتم وابن مردويه وأبي نعيم في "الحلبة"..
٤ ذكره القرطبي في "تفسيره" (٢٠/٣٩)..
٥ سقط من: ب..
فصل في المراد بالجنة هاهنا
قال ابنُ عبَّاسٍ : هذا يوم القيامة، وهو قول الضحاك١.
والجمهور على أنَّ المراد بالجنة : دار الخلود، التي هي سكنُ الأبرار، ودار الصالحين والأخيار.
ومعنى «فِي عبَادِي » أي : في الصالحين، كقوله تعالى :﴿ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين ﴾ [ العنكبوت : ٩ ].
قال ابن الخطيب٢ : ولمَّا كانت الجنَّة الروحانية غير متراخية عن الموت في حق السعداء، لا جرم قال تعالى :﴿ فادخلي فِي عِبَادِي ﴾، بفاء التعقيب.
٢ ينظر: الفخر الرازي ٣١/١٦٢..