تفسير سورة الشمس

التفسير المنير
تفسير سورة سورة الشمس من كتاب التفسير المنير .
لمؤلفه وهبة الزحيلي . المتوفي سنة 1436 هـ

في ذلك وهو النفس على أحوال النفس الإنسانية، ودور الإنسان في تهذيبها، وتعويدها الأخلاق الفاضلة ليفوز وينجو، أو إهمالها وتركها بحسب هواها فيخيب.
٢- ضرب المثل بثمود لمن دسّ نفسه وأهملها، فتمادت في الطغيان، فنزل بها العقاب الشديد وأهلكها ودمرها عيانا في الدنيا.
والخلاصة: المقصود من هذه السورة الترغيب في الطاعات، والتحذير من المعاصي.
جزاء إصلاح النفس وإهمالها
[سورة الشمس (٩١) : الآيات ١ الى ١٠]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤)
وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩)
وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠)
الإعراب:
وَالشَّمْسِ وَضُحاها الواو الأولى واو القسم، وسائر الواوات عطف عليها، وجواب القسم:
إما مقدر، وهو لتبعثن، أو هو قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أي لقد أفلح من زكاها، وحذفت اللام لطول الكلام. وقال الزمخشري: تقدير الجواب: ليدمدمن اللَّه على أهل مكة لتكذيبهم رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم كما دمدم على ثمود، أي أطبق عليهم العذاب لأنهم كذبوا صالحا، وأما قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها... فكلام تابع لقوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها على سبيل الاستطراد، وليس من جواب القسم في شيء.
إِذا في المواضع الثلاثة لمجرد الظرفية والعامل فيها فعل القسم.
وَالسَّماءِ وَما بَناها ما إما مصدرية، أي وبنائها، أو بمعنى الذي، أي والذي
256
بناها، وهو الأحسن أو بمعنى من أي ومن بناها، وقد جاءت (ما) بمعنى (من) قال أهل الحجاز للرعد: سبحان ما سبّحت له، أي سبحان من سبّحت له.
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها دَسَّاها أصله: دسّسها، فاجتمعت الأمثال، فوجد الاستثقال، فأبدل من السين الأخيرة ياء، كما قالوا: قصّيت أظفاري، في قصصت، فصار (دسيها) ثم قلبت الياء ألفا لتحركها وانفتاح ما قبلها.
البلاغة:
الشمس والقمر بينهما طباق، وكذا بين اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وبين فُجُورَها وَتَقْواها.
وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها مقابلة بينها وبين وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها وكذا بين قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وبين وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها. والطباق والمقابلة من المحسنات البديعية، كما هو معروف.
في السورة كلها سجع مرصع وهو توافق الفواصل مراعاة لرؤوس الآيات.
المفردات اللغوية:
وَضُحاها قال مجاهد: هو ارتفاع الضوء وكماله، وقال أبو حيان: المعروف في اللغة أن الضحى هو بعيد طلوع الشمس قليلا، فإذا زاد فهو الضّحاء- بالمد وفتح الضاد: إلى الزوال.
تَلاها تبعها، أي أن القمر يتبع الشمس طالعا عند غروبها. جَلَّاها أي جلّى الشمس وكشفها وأتم وضوحها.
يَغْشاها يغشى الشمس فيغطي ضوءها بظلمته، أي يزيله ويحجبه. وَالسَّماءِ كل ما علاك وارتفع فوق رأسك فهو سماء، والمراد به الكون الذي فوقك، وفيه الكواكب. وَما بَناها أي ومن رفعها، وجعل كل كوكب بمنزلة لبنة من بناء سقف، قال الزمخشري والبيضاوي:
وإنما أوثرت على (من) لإرادة معنى الوصفية كأنه قيل: والسماء والقادر العظيم الذي بناها.
طَحاها بسطها، مثل دحاها.
سَوَّاها أحكم خلقتها وتسويتها وتعديل أعضائها بخلق القوى والغرائز فيها، وجعل وظيفة لكل منها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها عرّفها وأفهمها، وبيّن لها طريق الخير والشر.
والفجور: الفسوق والشر وكل ما يؤدي إلى الخسارة والهلاك. والتقوى: التزام جادة الاستقامة، وإتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة.
257
أَفْلَحَ فاز ونجا وأدرك المطلوب. مَنْ زَكَّاها طهرها من الذنوب، وهذّبها ونمّاها بالعلم والعمل، وهو جواب القسم. خابَ خسر. دَسَّاها أهمل تهذيبها، والتدسية:
النقص والإخفاء، فمن فعل الشر والمعصية، أنقص نفسه عن مرتبة الكمال، وأخفاها بالذنوب والمعاصي، وهي ضد التزكية.
التفسير والبيان:
أقسم اللَّه تعالى في مطلع هذه السورة بسبعة أشياء، فقال:
١- ٢- وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها أي أقسم بالشمس المضيئة نفسها، سواء غابت أم طلعت لأنها شيء عظيم أبدعها اللَّه، وأقسم بضوئها وضحاها وهو وقت ارتفاع الشمس بعد طلوعها إذا تم ضوؤها لأنه مبعث حياة الأحياء.
وأقسم بالقمر المنير إذا تبع الشمس في الطلوع بعد غروبها، وبخاصة في الليالي البيض: وهي الليالي الثالثة عشرة إلى السادسة عشرة وقت امتلائه وصيرورته بدرا بعد غروب الشمس إلى الفجر. وهذا قسم بالضوء وقت الليل كله.
٣- ٤- وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها أي وأقسم بالنهار إذا جلّى الشمس وكشفها وأظهر تمامها، ففي اكتمال النهار كمال وضوح الشمس، وأقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويغطي ضوءها بظلمته، فيزيل الضوء وتغيب الشمس، وتظلم الدنيا في نصف الكرة الأرضية، ثم تطلع في النصف الآخر.
وفي هذا التبدل والتغير رد على المشركين الذين يؤلهون الكواكب، والثنوية الذين يقولون بأن للعالم إلهين اثنين: النور والظلمة لأن الإله لا يغيب ولا يتبدل حاله.
258
وبعد التنويه بعظم هذه الأشياء الكونية، ذكر اللَّه تعالى صفات حدوثها، فقال:
٥- ٦- وَالسَّماءِ وَما بَناها، وَالْأَرْضِ وَما طَحاها أي وأقسم بالسماء وبناء اللَّه تعالى لها بالكواكب، كأن كل كوكب لبنة في سقف أو قبّة تحيط بالأرض وأهلها. وأقسم بالأرض كوكب الحياة البشرية والذي بسطها من كل جانب، وجعلها ممهدة موطأة للسكنى مثل قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها [النازعات ٧٩/ ٣٠] أي بسطها، والطحو كالدحو وهو البسط، ثم مكّن الناس من الانتفاع بها ظاهرا بالنبات، وباطنا بالمعادن والثروات. ونظير الآية: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً، وَالسَّماءَ بِناءً [البقرة ٢/ ٢٢].
وختم الأشياء المحلوف بها بالنفس البشرية التي خلقت هذه الأشياء من أجلها، وكونها أداة الانتفاع بها ووسيلة ترقي الحياة وتقدمها، فقال:
٧- وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها أي وأقسم بالنفس الإنسانية، والذي خلقها سوية، مستقيمة، على الفطرة القويمة، وتسويتها:
إعطاء قواها بحسب حاجتها إلى تدبير البدن، وهي الحواس الظاهرة والباطنة، والقوى الطبيعية، أي تعديل أعظائها، وتزويدها بطاقات وقوى ظاهرية وباطنية متعددة، وتحديد وظيفة لكل عضو فيها.
ثم إنه تعالى عرّف هذه النفس وأفهمها ما هو شر وفجور، وما هو خير وتقوى، وما فيهما من قبح وحسن، لتمييز الخير من الشر، كما قال تعالى:
وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠] أي علمناه وعرفناه سلوك طريقي الخير والشر. ويعضده ما بعده: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها.
وهذا قول المعتزلة، وقال أهل السنة: الضميران في قوله تعالى: فَأَلْهَمَها وقوله: وَهَدَيْناهُ للَّه تعالى، والمعنى: قد سعدت نفس زكاها اللَّه تعالى،
259
وخلقها طاهرة، وخابت نفس دسّاها اللَّه، وخلقها كافرة فاجرة «١».
والظاهر التفسير الأول، بدليل ما قال ابن كثير: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها، أي بيّن لها ذلك، وهداها إلى ما قدّر لها «٢». وقال ابن عباس: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها بيّن لها الخير والشر «٣». وهذا دليل على مبدأ الاختيار للإنسان.
ثم ذكر اللَّه تعالى جزاء ما تختاره النفس، فقال:
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها أي قد فاز بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب من زكى نفسه فهذبها ونمّاها وأعلاها بالتقوى والعمل الصالح، وقد خسر من أضل نفسه وأغواها وأهملها وأخملها، ولم يهذبها، ولم يتعهدها بالطاعة والعمل الصالح. وهذا جواب القسم الذي افتتحت به السورة.
روى الطبراني عن ابن عباس قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم إذا مرّ بهذه الآية:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها وقف وقال: «اللهم آت نفسي تقواها، أنت وليها ومولاها، وخير من زكاها».
وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال: سمعت رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقرأ:
فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها: قال: «اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها».
وروى الإمام أحمد عن عائشة: أنها فقدت النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم من مضجعه، فلمسته بيدها، فوقعت عليه، وهو ساجد، وهو يقول: «رب أعط نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها».
(١) وهذا قول سعيد بن جبير وعطاء وعكرمة ومقاتل والكلبي. [.....]
(٢) تفسير ابن كثير: ٤/ ٥١٦
(٣) المرجع السابق، وهذا أيضا قول مجاهد وقتادة والضحاك والثوري.
260
وروى أحمد ومسلم عن زيد بن أرقم قال: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يقول: «اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليها ومولاها. اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها»
قال زيد: كان رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم يعلمناهن ونحن نعلمكموها.
فقه الحياة أو الأحكام:
أقسم اللَّه تعالى بسبعة أشياء: لقد أفلح وفاز من زكى نفسه بالطاعة، وخسرت نفس أهملها صاحبها وتركها تنغمس في المعصية.
والأشياء السبعة: هي الشمس وضوؤها وإشراقها، وهو قسم ثان، والقمر إذا تبع بالطلوع الشمس بعد غروبها، فاستوى واستدار، وكان مثلها في الضياء والنور، والنهار إذا جلّى أو كشف الشمس، أي أبان بضوئه جرمها، والليل إذا يغشى الشمس، أي يذهب بضوئها عند غروبها، والسماء وبنيانها وبانيها وهو اللَّه، والأرض ومن طحاها أي بسطها، والنفس الإنسانية وتسويتها ومن سوّاها وهو اللَّه عز وجل، بأن عدّلها وزوّدها بالأعضاء المتناسبة، وبالقوى العضلية والفكرية والحسية، وعرّفها طريق الفجور والتقوى، وسلوك سبيل الخير والشر، والطاعة والمعصية.
وقد أقسم اللَّه عز وجل بهذه المخلوقات لما فيها من عجائب الصنعة الدالة عليه، وأراد أن ينبه عباده دائما بأن يذكر في القسم أنواع مخلوقاته المتضمنة للمنافع العظيمة، حتى يتأمل المكلف فيها، ويشكر عليها لأن الذي يقسم اللَّه تعالى به يحصل له وقع في القلب، فتكون الدواعي إلى تأمله أقوى «١».
(١) تفسير الرازي: ٣١/ ١٨٨
261
العظة بقصة ثمود
[سورة الشمس (٩١) : الآيات ١١ الى ١٥]
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥)
الإعراب:
فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها سوّاها: تعود على الدمدمة، وَلا يَخافُ عُقْباها في موضع نصب على الحال، وتقديره: سوّاها غير خائف عاقبتها.
البلاغة:
ناقَةَ اللَّهِ الإضافة للتكريم والتشريف.
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ تهويل، فالتعبير بالدمدمة يدل على هول العذاب.
المفردات اللغوية:
بِطَغْواها أي بسبب طغيانها، والطغوى والطغيان: تجاوز الحد المعتاد. إِذِ انْبَعَثَ حين أسرع أو قام، وهو ظرف لكذّبت أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، الشخص الذي عقر الناقة. رَسُولُ اللَّهِ صالح عليه السلام. ناقَةَ اللَّهِ أي ذروا ناقة اللَّه، واحذروا التعرض لها وعقرها. وَسُقْياها شربها الخاص بها في يومها، فلا تذودوها عنها.
فَكَذَّبُوهُ فيما حذرهم من حلول العذاب إن فعلوا. فَعَقَرُوها نحروها أو ذبحوها.
فَدَمْدَمَ فأطبق عليهم العذاب. فَسَوَّاها سوى الدمدمة عليهم أي عمهم بها، فلم يفلت منها صغير ولا كبير. عُقْباها عاقبتها وتبعتها. أي عاقبة الدمدمة.
المناسبة:
بعد الحلف بأشياء عظيمة على فوز من زكّى نفسه وهذبها وطهرها من الذنوب، وخيبة وخسار من أهملها وتركها تعيث في الأرض فسادا بفعل المعاصي، وترك فعل الخير، وعظهم اللَّه تعالى بقصة ثمود، لقربها من ديار
262
العرب، ليحذروا معاندة الرسول صلّى اللَّه عليه وسلّم وتكذيبه، وإلا حلّ بهم ما حلّ بأمثالهم من الأمم السابقة.
التفسير والبيان:
يخبر اللَّه تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحا عليه السلام، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي، فيقول:
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها، إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها أي كذبت قبيلة ثمود نبيها صالحا عليه السلام بسبب طغيانها وبغيها، فإنه الذي حملها على التكذيب.
والطغيان: مجاوزة الحد في المعاصي.
وذلك حين قام أشقى ثمود، وهو قدار بن سالف، أحيمر ثمود، فعقر الناقة، بتحريض قومه ورضاهم بما يفعل، فكان عقرها دليلا على تكذيبهم جميعا لنبيهم، وبرهانا على صدق رسالته إذ حلّ بهم العذاب الذي أوعدهم به.
ونظير الآية: فَنادَوْا صاحِبَهُمْ، فَتَعاطى فَعَقَرَ [القمر ٥٤/ ٢٩]. وكان أشقى ثمود عزيزا فيهم، شريفا في قومه، نسيبا رئيسا مطاعا، كما
ذكر أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد اللَّه بن زمعة قال: خطب رسول اللَّه صلّى اللَّه عليه وسلّم، فذكر الناقة، وذكر الذي عقرها، فقال: «إذ انبعث أشقاها، انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه، مثل أبي زمعة».
ثم يذكر اللَّه تعالى ما توعدهم به رسولهم على فعلهم، فيقول:
«فقال لهم رسول اللَّه: ناقة اللَّه، وسقياها» أي فقال لهم أي للجماعة الأشقياء النبي صالح عليه السلام: ذروا ناقة اللَّه واحذروا التعرض لها أو أن تمسوها بسوء، واتركوها وتناولها شربها من الماء المخصص لها، فإن لها شرب يوم، ولكم شرب يوم معلوم، ولا تتعرضوا لها يوم شربها.
263
فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها أي فكذبوه في تحذيره إياهم من العذاب، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العقاب، فعقر الأشقى الناقة، وجميع قومه رضوا بما فعل. أو كذبوه فيما جاءهم به، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة التي أخرجها اللَّه لهم من الصخرة آية لهم وحجة عليهم.
ثم يبين ما عوقبوا به، فيقول:
فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ، فَسَوَّاها، وَلا يَخافُ عُقْباها أي فأطبق عليهم العذاب وأهلكهم، وغضب عليهم فدمر عليهم، فسوّى الدمدمة عليهم، وعمّهم بها، أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء، فاستوت على صغيرهم وكبيرهم. قال قتادة: بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيرهم، وذكرهم وأنثاهم، فلما اشترك القوم في عقرها، دمدم اللَّه عليهم بذنبهم، فسواها.
وقد فعل اللَّه ذلك بهم، وأهلكهم، غير خائف هذا الأشقى من عاقبة ولا تبعة، أي فإنه تجرأ على عقر الناقة دون أن يخاف الذي عقرها عاقبة إهلاك قومه، وعاقبة ما صنع، والمراد بذلك أنه أقدم على عقرها، وهو كالآمن من نزول الهلاك به وبقومه.
وقال ابن عباس: لا يخاف اللَّه من أحد تبعة. قال ابن كثير: وهذا القول أولى لدلالة السياق عليه. وقال أبو حيان: الظاهر عود الضمير إلى أقرب مذكور، وهو رَبُّهُمْ أي لا درك عليه تعالى في فعله بهم، لا يسأل عما يفعل، قال ابن عباس والحسن، وفيه ذم لهم وتعقبة لآثارهم. والمراد أن اللَّه لا يخاف عاقبة ما فعل بهم لأنه عادل في حكمه. وقال الزمخشري: ولا يخاف اللَّه عاقبتها وتبعتها، كما يخاف كل معاقب من الملوك، فيبقي بعض الإبقاء. ويجوز أن يكون الضمير لثمود، على معنى: فسوّاها بالأرض أو في الهلاك، ولا يخاف عقبى هلاكها.
264
فقه الحياة أو الأحكام:
هذا خبر قاطع من اللَّه العلي القدير، أخبرنا به عن قبيلة ثمود التي تجاوزت الحد بطغيانها وهو خروجها عن الحد في العصيان. وذلك حين نهض أشقاها لعقر الناقة، واسمه قدار بن سالف.
ولكنّ رسولهم صالحا عليه السلام حذرهم عاقبة فعلهم، وقال لهم: احذروا عقر ناقة اللَّه، وذروها، كما قال: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً، فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [الأعراف ٧/ ٧٣] وذروها وشربها المخصص لها في يومها. فإنهم لما اقترحوا الناقة، وأخرجها اللَّه لهم من الصخرة، جعل لهم شرب يوم من بئرهم، ولها شرب يوم مكان ذلك، فشقّ عليهم.
وكذبوا صالحا عليه السلام في قوله لهم: «إنكم تعذّبون إن عقرتموها» فعقرها الأشقى، وأضيف العقر إلى الكل بقوله: فَعَقَرُوها لأنهم رضوا بفعله.
والجرم وهو العقر وتكذيب النبي يستدعيان بلا شك عقابا صارما، فكان العقاب أن أهلكهم اللَّه، وأطبق عليهم العذاب بذنبهم الذي هو الكفر والتكذيب.
والعقر، وسوّى عليهم الأرض، أو سوى الدمدمة والإهلاك عليهم لأن الصيحة أهلكتهم فأتت على صغيرهم وكبيرهم.
والعبرة من ذلك أن اللَّه فعل بهم ما فعل غير خائف أن تلحقه تبعة الدمدمة من أحد، كما قال ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وهاء عُقْباها ترجع إلى الفعلة. وقال السدّي والضحاك والكلبي: ترجع إلى العاقر، أي لم يخف الذي عقرها عقبى ما صنع.
265

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة الليل
مكيّة، وهي إحدى وعشرون آية.
تسميتها:
سميت سورة الليل لافتتاحها بإقسام اللَّه تعالى بالليل إذا يغشى، أي يغطي الكون بظلامه، ويستر الشمس والنهار والأرض والوجود بحجابه.
مناسبتها لما قبلها:
لما ذكر في سورة الشمس قبلها: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها، وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها ذكر هنا من الأوصاف ما يحصل به الفلاح، وما تحصل به الخيبة بقوله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى.. فهي كالتفصيل لما قبلها.
ولما كانت سورة الليل نازلة في بخيل، افتتحت بالليل الذي هو ظلمة.
ما اشتملت عليه السورة:
محور السورة سعي الإنسان وعمله وجزاؤه في الآخرة.
افتتحت السورة بالقسم بالليل والنهار وخالق الذكر والأنثى على أن عمل الناس مختلف، فمنهم التقي ومنهم الشقي، ومنهم المؤمن ومنهم الفاجر:
وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى.. [الآيات ١- ٤].
266
ثم أوضحت أن الناس فريقان، وحددت منهج وطريق كل فريق، وجزاء كل منهم في الآخرة: أهل الإيمان والسعادة والجنة: وهم الذين بذلوا المال وصدقوا بوعد اللَّه في الآخرة، وأهل الكفر والشقاوة والنار: وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا عن ربهم عز وجل، وأنكروا ما وعد اللَّه به من الجنة: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى.. [الآيات ٥- ١٠].
وأعقبت ذلك ببيان عدم جدوى المال في الآخرة، وأن اللَّه واضع دستور الهداية، وأنه مالك الدنيا والآخرة: وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى [١١- ١٣] ودلّ هذا التحذير من عذاب اللَّه والإنذار بالنار على أنه العقاب المستحق لكل من كذب بآيات اللَّه تعالى وبرسوله صلّى اللَّه عليه وسلّم: فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى.. [١٤- ١٦].
يبذل ماله في طرق الخير مخلصا لوجه اللَّه، دون قصد مكافأة أحد، ولا لمصلحة دنيوية عند إنسان، وذلكم المثال هو أبو بكر الصديق رضي اللَّه عنه:
وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى.. [الآيات ١٧- ٢١].
فضلها:
تقدم
حديث جابر في الصحيحين أن النبي صلّى اللَّه عليه وسلّم قال لمعاذ: «فهلّا صلّيت ب: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَالشَّمْسِ وَضُحاها، وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى».
267
Icon