تفسير سورة الفيل

فتح البيان
تفسير سورة سورة الفيل من كتاب فتح البيان في مقاصد القرآن المعروف بـفتح البيان .
لمؤلفه صديق حسن خان . المتوفي سنة 1307 هـ
سورة الفيل
هي خمس آيات، وهي مكية بلا خلاف، قال ابن عباس : نزلت بمكة.

(ألم تر كيف فعل ربك) الاستفهام بتقرير رؤيته ﷺ بإنكار عدمها، والمراد بالرؤية هنا رؤية القلب، وهي العلم عبر عنه بالرؤية لكونه علماً ضرورياً مساوياً في القوة والجلاء للمشاهدة والعيان، وحذفت الألف من (تر) للجازم، قال الفراء المعنى ألم تخبر، وقال الزجاج ألم تعلم.
وهو تعجيب له صلى الله عليه وآله وسلم بما فعله الله (بأصحاب الفيل) الذين قصدوا تخريب الكعبة من الحبشة، وكيف منصوب على المصدرية أو الحالية واختار الأول ابن هشام في المغني، والمعنى أي فعل فعل.
وأما نصبه على الحالية من الفاعل فممتنع لأن فيه وصفه تعالى بالكيفية وهو غير جائز، والجملة سدت مسد مفعولي ترى، والخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويجوز أن يكون لكل من يصلح له.
والمعنى قد علمت يا محمد أو علم الناس الموجودون في عصرك ومن بعدهم بما بلغكم من الأخبار المتواترة من قصة أصحاب الفيل، وما فعل الله بهم، فما لكم لا تؤمنون، وصاحب الأفيال أبرهة ملك اليمن واسمه الأشرم سمي بذلك لأن أباه ضربه بحربة فشرم أنفه وجبينه، قال القرطبي، وأبرهة لقب لكل من فيه بياض وكان نصرانياً.
والفيل هو الحيوان المعروف وجمعه فيول وأفيال وفيلة. وقال ابن
389
السكيت ولا تقول أفيلة وصاحبه فيال وكانت الفيلة ثلاثة عشر، وإنما وحده لأنه نسبهم إلى الفيل الأعظم الذي كان يقال له محمود وهو الذي برك وضرب في رأسه، وقيل إنما وحده موافقة لرؤوس الآي.
وعن ابن عباس قال: " جاء أصحاب الفيل حتى نزلوا الصفاح فأتاهم عبد المطلب فقال إن هذا بيت الله لم يسلط عليه أحد قالوا لا نرجع حتى نهدمه، وكانوا لا يقدمون فيلهم إلا تأخر فدعا الله الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سوداء عليها الطين فلما حاذتهم رمتهم فما بقي منهم أحد إلا أخذته الحكة وكان لا يحك الإنسان منهم جلده إلا تساقط لحمه " (١) أخرجه ابن المنذر وعبد بن حميد وأبو نعيم والبيهقي.
_________
(١) زاد السير ٢٣٢.
390
(ألم يجعل كيدهم) أي مكرهم وسعيهم في تخريب الكعبة وهدمها واستباحة أهلها (في تضليل) أي في خسارة وهلاك عما قصدوا إليه حتى لم يصلوا إلى البيت ولا إلى ما أرادوا بكيدهم، والهمزة للتقرير، كأنه قيل قد جعل كيدهم في تضليل.
والكيد هو إرادة المضرة بالغير، لأنهم أرادوا أن يكيدوا قريشاً بالقتل والسبي. ويكيدوا البيت الحرام بالتخريب والهدم.
قال ابن عباس " أقبل أصحاب الفيل حتى إذا دنوا من مكة استقبلهم عبد المطلب فقال لملكهم ما جاء بك إلينا ألا بعثت فنأتيك بكل شيء فقال أخبرت بهذا البيت الذي لا يدخله أحد إلا أمن فجئت أخيف أهله، فقال إنا نأتيك بكل شيء تريد. فارجع فأبى إلا أن يدخله، وانطلق يسير نحوه وتخلف عبد المطلب، فقام على جبل فقال لا أشهد مهلك هذا البيت وأهله، فأقبلت مثل السحابة من نحو البحر حتى أظلتهم طير أبابيل التي قال الله (ترميهم بحجارة من سجيل) فجعل الفيل يعج عجاً (فجعلهم كعصف
390
مأكول) (١) أخرجه البيهقي وابن المنذر والحاكم وغيرهم، وقصة أصحاب الفيل مبسوطة في كتب التفسير والتاريخ والسير فلا نطول بذكرها.
_________
(١) ذكر أهل التفسير أن أبرهة لما سار بجنوده إلى الكعبة ليهدمها خرج معه بالفيل، فلما دنا من مكة أمر أصحابه بالغارة على نعم الناس، فأصابوا إبلاً لعبد المطلب، وبعث بعض جنوده، فقال: شب عن شريف مكة، وأخبره أني لم آتِ لقتال، وإنما جئت لأهدم هذا البيت، فانطلق حتى دخل مكة، فلقي عبد المطلب بن هاشم، فقال: إن الملك أرسلني إليك لأخبرك أنه لم يأتِ لقتال إلا أن تقاتلوه، إنما جاء لهدم هذا البيت، ثم ينصرف عنكم، فقال عبد المطلب: ما له عندنا قتال، وما لنا به يد، إنا سنخلي بينه وبين ما جاء له، فإن هذا بيت الله الحرام، وبيت خليله إبراهيم عليه السلام، فإن يمنعه، فهو بيته وحرمه، وإن يخل بينه وبين ذلك، فوالله ما لنا به قوة. قال: فانطلق معي إلى الملك، فلما دخل عبد المطلب على أبرهة أعظمه، وكرمه، ثم قال لترجمانه: قل له: ما حاجتك إلى الملك؟ فقال له الترجمان، فقال: حاجتى أن يرد علي بعير أصابها. فقال أبرهة لترجمانه:....
391
(وأرسل عليهم) عطف على (ألم يجعل) لأن الاستفهام فيه للتقرير فكان المعنى قد جعل ذلك وأرسل (طيراً) هو اسم جنس يذكر ويؤنث (أبابيل) نعت لطير لأنه اسم جمع أي أقاطيع يتبع بعضها بعضاً كالإبل المؤبلة، فرجعوا هاربين يتساقطون بكل طريق. وكان هلاكهم قرب عرفة قبل دخول الحرم على الأصح.
وقال جماعة: بوادي محسر بين مزدلفة ومنى، قاله ابن حجر، قال أبو عبيدة: أبابيل جماعات في تفرقة يقال جاءت الخيل أبابيل أي جماعات من ههنا وههنا، قال النحاس: وحقيقته أنها جماعات عظام، يقال فلان يؤبل على فلان أي يعظم عليه ويكبره، وهو مشتق من الإِبل، وهو من الجمع الذي لا واحد له، وقال بعضهم واحده إبول بكسر الهمزة مثل عجول، وقال بعضهم إبيل كسكين.
قال الواحدي: ولم نر أحداً يجعل لها واحداً، قال الفراء: لا واحد له من لفظه، وزعم الرؤاسي وكان ثقة أنه سمع في واحدها إبالة مشدداً، وحكى الفراء: أيضاًً إبالة بالتخفيف.
391
قال سعيد بن جبير كانت طيراً من السماء لم ير قبلها ولا بعدها قال قتادة هي طير سود جاءت من قبل البحر فوجاً فوجاً مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره لا يصب شيئاًً إلا هشمه، وقيل كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع.
وقيل كان لها خراطيم كخراطيم الطير. وأكف كأكف الكلاب، وقيل أنها العنقاء المغرب التي تضرب بها الأمثال، وقيل في صفتها غير ذلك، والعرب تستعمل الأبابيل في الطير وفي غير الطير.
ولما تم هلاكهم رجعت الطير من حيث جاءت.
392
(ترميهم بحجارة من سجيل) قرأ الجمهور بالفوقية، وقرأ أبو حنيفة وأبو معمر وعيسى وطلحة بالتحتية واسم الجمع يذكر ويؤنث. وقيل الضمير في القراءة الثانية لله عز وجل والجملة في محل نصب صفة أخرى لطير.
قال الزجاج (من سجيل) أي مما كتب عليهم العذاب به مشتقاً من السجل.
قال في الصحاح قالوا هي حجارة من طين طبخت بنار جهنم مكتوب فيها أسماء القوم وأصله سنك وكل، وقيل السجيل الشديد، وقال عبد الرحمن بن أبزي من سجيل من السماء وهي الحجارة التي نزلت على قوم لوط وقيل من الجحيم التي هي سجين، ثم أبدلت النون لاماً، قال عكرمة كانت ترميهم بحجارة معها فإذا أصاب أحدهم حجر منها خرج به الجدري. وكان الحجر كالحمصة وفوق العدسة، وقد قدمنا الكلام في سجيل في سورة هود.
وعن ابن عباس قال حجارة كالبندق وبها نضح حمرة مختمة مع كل طائر ثلاثة أحجار حجران في رجليه وحجر في منقاره حلقت عليهم من السماء ثم أرسلت عليهم تلك الحجارة فلم تعد عسكرهم، وعنه أن أبرهة الأشرم قدم من اليمن يريد هدم الكعبة فأرسل الله عليهم طيراً أبابيل يريد مجتمعة لها
392
خراطيم تحمل حصاتين في رجليها وحصاة في منقارها ترسل واحدة على رأس الرجل فيسيل لحمه ودمه، ويبقى عظاماً خاوية لا لحم عليها ولا جلد ولا دم
393
(فجعلهم كعصف مأكول) أي جعل الله أصحاب الفيل كورق الزرع إذا أكلته الدواب فرمت به من أسفل، شبه لقطع أوصالهم بتفرق أجزائه، وقيل المعنى أنهم صاروا كورق زرع قد أكلت منه الدواب وبقي منه بقايا أو أكلت حبه فبقي بدون حبه والعصف جمع عصفه وعصافة وعصيفة وقد قدمنا الكلام في العصف في سورة الرحمن فارجع إليه.
قال ابن عباس يقول كالتبن، وعن عائشة قالت لقد رأيت قائد الفيل وسائسه بمكة أعميين مقعدين يستطعمان ونحوه عن أسماء بنت أبي بكر.
وعن ابن عباس قال ولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، قال القرطبي أي قبل مولده لخمسين يوماً، قال الخازن وهذا هو القول الأصح فإنهم يقولون ولد عام الفيل، ويجعلونه تاريخاً لمولده صلى الله عليه وآله وسلم.
وعن قيس بن محرم قال ولدت أنا ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عام الفيل، وقيل كان عام الفيل قبل ولادته صلى الله عليه وآله وسلم بأربعين سنة، وقيل بثلاث وعشرين سنة، وقيل غير ذلك.
393

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

سورة قريش
ويقال سورة لإيلاف هي أربع آيات وهي مكية عند الجمهور، وقال الضحاك والكلبي هي مدنية والأول أصح، قال ابن عباس نزلت بمكة، وعن أم هانئ بنت أبي طالب أن رسول الله - ﷺ - قال: " فضل الله قريشاً بسبع خصال لم يعطها أحداً قبلهم ولا يعطيها أحداً بعدهم أني فيهم، وفي لفظ النبوة فيهم والخلافة فيهم والججابة فيهم، والسقاية فيهم، ونصروا على الفيل وعبدوا الله سبع سنين، وفي لفظ عشر سنين لم يعبده أحد غيرهم، ونزلت فيهم سورة من القرآن لم يذكر فيها أحد غيرهم لإيلاف قريش " أخرجه البخاري في تاريخه والطبراني والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي.
قال ابن كثير هو حديث غريب ويشهد له ما أخرجه الطبراني في الأوسط وابن مردويه وابن عساكر عن الزبير بن العوام قال: قال رسول
395
الله - ﷺ - " فضل الله قريشاً بسبع خصال: فضلهم بأنهم عبدوا الله عشر سنين لا يعبده إلا قريش وفضلهم بأنه نصرهم يوم الفيل وهم مشركون، وفضلهم بأنها نزلت فيهم سورة من القرآن لم يدخل فيها أحد من العالمين غيرهم وهي لإيلاف قريش، وفضلهم بأن فيهم النبوة والخلافة والسقاية ".
وأخرج الخطيب في تاريخه عن سعيد بن المسيب مرفوعاً نحوه وهو مرسل.
396

بسم الله الرحمن الرحيم

لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤)
397
Icon