تفسير سورة الإسراء

الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه .
لمؤلفه مكي بن أبي طالب . المتوفي سنة 437 هـ

﴿ وَٱخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ ٱلذُّلِّ مِنَ ٱلرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ٱرْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ﴾

قوله تعالى: ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾:
(مَنْ جعل) هذا الأمر عامّاً (في جميع) الآباء الأحياء والأمواتمن المؤمنين والمشركين، قال: هو منسوخٌ منه بعضُه بقوله: ﴿مَا كانَ للنّبيِّوالّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِين﴾ [التوبة: ١١٣] - الآية - وبقوله: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُعَدوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنه﴾ [التوبة: ١١٤] - وهو قول ابن عباس - قال: لما مات (- يعني: أباإبراهيم - على كفره) أمسكَ إِبراهيمُ عن الاستغفار له.
قال أبو محمد: ويجوز أن تكون هذه الآيةُ مخصوصةً في الآباءالأموات المؤمنين، خَصَّصها وبيَّنها قولُه: ﴿فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَمِنْه﴾ [التوبة: ١١٤] أي: لما مات على كُفْرِه تَرَكَ الاستغفارَ له، فخَصَّصَه بتركالاستغفار لمن مات من الآباء على كُفْرِه، وبقي الأمر بالاستغفار لمن ماتمن الآباء مؤمناً.
ثم خصّصها (أيضاً) تخصيصاً آخر قولُه: ﴿مَا كَانَ للنبيِّ والذينآمَنُوا أن يَستَغْفِرُوا لِلمُشْرِكِين﴾[التوبة: ١١٣]، فَبَيَّن أن المؤمن ليس له أن يستغفرلأبويه المشركَيْنِ وإن كانا حيَّيْنِ فَخَصَّصَ الآيتان آيةَ "سبحان"، فصارت فيالآباء المؤمنين الأحياء والأموات خاصة، وهذا على قول من جعل آية"سبحان" غيرَ عامة مخصوصةً فيما ذكرنا من الآيتين، فهي محكمة على هذا غير منسوخة، إنما دخل فيها بيانان وتخصيصان.
فالآيتان محكمتان: آية "سبحان" في الآباء المؤمنين الأحياء والأموات، والآيتان في "براءة" في جواز الاستغفار للآباء الأحياء من المشركين، ومنعالاستغفار لهم إذا ماتوا على كفرهم، ووقعت الأولى عامّة في منع الاستغفارلأحيائهم وأمواتهم، لكن بَيَّنَها الثانية أنها في الأموات منهم خاصّة.
وقيل: إن ذلك كُلَّه منسوخٌ بقوله: ﴿سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْلَمْ تَسْتَغْفِر لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦]. (وهذا وإن) نزل في المنافقين والمشركينإخوانِهم فالحكمُ فيهم واحد، وقد ذكرنا هذه الآية عند قوله: ﴿إِن تَسْتَغْفِرْلَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠].

﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ﴾

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوا مَالَ اليَتِيمِ إِلاَّ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَأَشُدَّه﴾.
قال مجاهد: كانوا من هذه في مشقة وجهد حتى نزل: ﴿وإِنتُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ﴾ [البقرة: ٢٢٠]، يريد أنه نُسخ بذلك، وقيل: بل نسخهقولُه: ﴿فَلْيَأْكُل بِالمَعْرُوف﴾ [النساء: ٦].
والذي يوجبه النظر وعليه جماعة من العلماء أَنه غيرُ منسوخ، لأنه (قالتعالى): ﴿إِلاَّ بالّتِي هِيَ أَحْسَن﴾ [الإِسراء: ٣٤]، ففي هذا جوازُ مخالَطَتِهِم بالتي هيأحسن، وهو قولُه: ﴿والله يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِح﴾ [البقرة: ٢٢٠]، فكلا الآيتينيُجوّز مخالطةَ اليتيم، فلا يجوز أن تنسخ إحداهما الأخرى لأنهمابمعنى واحد.
وقوله: ﴿فَليأكُلْ بِالمَعْرُوف﴾ [النساء: ٦]، معناه: يستقرض ويَرُدّ، وقيل: هو أمر لليتيم يكون ماله قليلاً - وقد مضى شرح ذلك كله -.
وإنما يجوز أن يكون: "وإن تخالطوهم"، ناسخاً لقوله: ﴿وَلاَ تَقْرَبُوامَالَ اليَتِيم﴾ [الإِسراء: ٣٤] لو كان نهياً حتماً، ولم يقل: ﴿إِلاَّ بالّتِي هِيَ أَحْسَن﴾، فقوله: ﴿إلاّ بالّتي هِيَ أحْسَن﴾، هو إجازة مخالطتهم، وجواز مخالطتهم لايكون إلا بالتي هي أحسن لقوله: ﴿واللهُ يَعْلَمُ المُفْسِدَ مِنَ المُصْلِحِ﴾، أي يعلم من يخالطُهم بالتي هي أحسن من غيرِه، فلا نسخ يصح في هذا.
قولُه تعالى: ﴿وأَوْفُوا بِالعَهْدِ إِنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤولاً﴾ [الإِسراء: ٣٤]:
رُوِيَ عن السُّدِّي أنه قال: هذا منسوخٌ بقوله: ﴿إنَّ الّذِينَ يَشْتَرُونَبِعَهْدِ اللهِ وأيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ [آل عمران: ٧٧] - الآية - وقال: كان هذا الحكمُ يومَنزل: ﴿إنَّ العَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾ أن يُسأل الرجل عن العهد ثم يدخل الجنةحتى نزل: ﴿إنَّ الّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً﴾ - الآية -.
والذي (عليه الجماعة ويوجبُه النظر) أن هذا غيرُ منسوخٍ لأنه خبرٌ لايجوز نسخُه، ولو نُسِخَ هذا لصار المعنى: إن الله لا يسأل عن العهد، لأننسخَ الشيء: رفعُ حُكْمِه، وهذا الحكمُ لا يجوز أَن يُرفع. فالآيتان محكمتانيسأل اللهُ عبادَه عن الوفاء بالعهد، ثم يعاقبُ مَنْ باعه ولم يفِ به بما شاءو (يعفو) عمَّن شاء من أهل الإِيمان.
والعهد: قد يكون التوحيد، ويكون ما عهد به إلى أهل الكتاب(ليبينوا) ما فيها للناس من أمر محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ومن غير ذلك من الدِّين.

﴿ وَأَوْفُوا ٱلْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِٱلقِسْطَاسِ ٱلْمُسْتَقِيمِ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾

قولُه تعالى: ﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وأَحْسَنُ تأوِيلاً﴾ [الإِسراء: ٣٥] - يعني وفاء الكيلوالوزن -:
قال السُّدِّي: كان يوم نزل هذا من فعل النقص في الكيلوالوزن مؤمناً حتى نزل: ﴿وَيْلٌ لِلمُطَفِّفِين﴾ [المطففين: ١] - الآية - فأوجب لمنيَنْقُصِ الناس في الكيل والوزن الوَيْلَ.
والذي عليه الجماعة: أن هذا غيرُ منسوخٍ لأنه خبر، ولا يُنْسَخُ الخبرُ، فالآيتان محكمتان، ومعناهما:
إن الله - جلّ ذكره - أخبر في "سبحان" أن الوفاءَ للكيل والوزن خيرٌلمن فعلَه وأَحسنُ عاقبةً، والتأويل: بمعنى: العاقبة.
وأخبرنا في المطففين، (بما) يجازى به من نقصَ الكيلَ الوزنَ إنجازى. فالآيتان محكمتان. ولا شيء في الكهف.

﴿ وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ﴾

قوله تعالى: ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَك﴾:
ذكر بعض العلماء أنه ناسخ لِفَرْضِ قيام الليل في سورة المزمل.
وأكثر الناس على أن الناسخ لفرض قيام الليل في سورة المزملقوله: ﴿فَتَابَ عَلَيْكُمْ فاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القُرآنِ﴾ [المزمل: ٢٠] مع ما قبل ذلك ومابعده.
وقد قال ابنُ عباس: نافلة لك، معناه: فرضٌ عليك خاصة.

﴿ قُلِ ٱدْعُواْ ٱللَّهَ أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَٱبْتَغِ بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً ﴾

قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تَخَافِتْ بِهَا﴾:
روي عن ابن عباس أنه قال: هي منسوخةٌ بقوله في الأعراف: ﴿وَاذْكُررَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وخيفَةً وَدُونَ الجَهْرِ مِنَ القَوْلِ﴾ [الأعراف: ٢٠٥]، يريد أيضاًأنه - صلى الله عليه وسلم - أُمر في "سبحان" أن لا يخافِتَ بصَلاته، وأُمر في "الأعراف" أن يخافت بها. فقال: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرّعاً﴾، وكلا الآيتين مكّي.
وقد كان لقائل أن يقول: إن آيةَ "سبحان" نَسَخَت آيةَ الأعراف، وأنه صلى الله عليه وسلم أُمر في الأعراف أن يَذكُرَ ربَّه في نفسه، ثم نسخ ذلك (بالآية) في سبحان، فأمر ألاّ يخافت، (لولا ما) روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يجهر بالقراءة فيسمعُه المشركون فيسبّوا القرآن ومَن جاء به، فخفضَالنبي - صلى الله عليه وسلم - صوته حتى لا يسمعوا، فأمر أن يَبْتَغِي بين ذلك سبيلاً، لا مُخافَتَةً ولا جهراً.
وقد يجوز أن يكون هذا منسوخاً بزوال العِلَّة التي من أجلها أمر أنلا يجهر بصَلاتِه، لأن ذلك إنما كان لأَجل أَذى المشركين له وللقرآن إذا سمعوه يقرأ (فلما زال) ذلك بالهجرة من بين ظهراني المشركينرجعت الصَّلاة إلى الجهر بالقراءة فيها، وبيَّنَت السُّنَّةُ أن ذلك في صلاةالليل خاصة والنافلة، فتكونُ الآيةُ كآياتِ آخر سورة الممتحنة - وقد مضىذكرها - وسيأتي ذكر ذلك في موضعه.
وقد رُوِيَ عن أبي هريرة وأبي موسى وعائشة رضي الله عنهم أن معنى"الصلاة" - في هذا الموضع -: الدعاء، فتكون محكمةً غيرَ منسوخة.
وقد رُوِيَ (النَّهْيُ عن) النبي - عليه السلام - في رفع الصوتبالدعاء، (فهو) مثل الآية في التأويل، وقد قال - جلّ ذكره -: ﴿ادْعُواربّكُمْ تَضَرّعاً وخفيةً﴾ [الأعراف: ٥٥].
ورُوِيَ عن الحسن أنه قال: معنى ﴿ولاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ولاَ تُخَافِتْبِهَا﴾: (لا تُرائي بها) في العلانية، وتخونها في السر، فالمعنى على قوله: لا يجتمع منك الجهرُ بالصلاة في العلانية وتركُ فِعْلِهَا في السر، ولايجوز أن يُنْسَخَ هذا المعنى.

Icon