فيها عشرون آية.
ﰡ
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي ﴿ سُبْحَانَ ﴾ :
وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ ؛ قَالَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ. وَمَنَعَهُ عِنْدَهُمَا من الصَّرْفِ كَوْنُهُ مَعْرِفَةً فِي آخِرِهِ زَائِدَانِ. وَذَكَرَ سِيبَوَيْهِ أَنَّ من الْعَرَبِ من يَصْرِفُهُ وَيُصَرِّفُهُ. الثَّانِي : قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ : هُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى النِّدَاءِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَصْدَرِ مَنْصُوبٌ لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَهُ.
الرَّابِعُ : أَنَّهَا كَلِمَةٌ رَضِيَهَا اللَّهُ لِنَفْسِهِ ؛ قَالَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، و مَعْنَاهَا عِنْدَهُمْ بَرَاءَةُ اللَّهِ من السُّوءِ، وَتَنْزِيهُ اللَّهِ مِنْهُ قَالَ الشَّاعِرُ :
أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ | سُبْحَانَ من عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ. |
وَقَدْ جَمَعَ فِي هَذِهِ الْكَلِمَةِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ عَرَفَةَ جُزْءًا قَرَأْنَاهُ بِمَدِينَةِ السَّلَامِ، وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ فِيهِ عَنْ التَّقْصِيرِ سَلَامٌ، وَالْقَدْرُ الَّذِي أَشَارَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ فِيهِ يَكْفِي، فَلْيَأْخُذْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ وَيَكْتَفِي.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ :
قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَوْ كَانَ لِلنَّبِيِّ اسْمٌ أَشْرَفَ مِنْهُ لَسَمَّاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْعَلِيَّةِ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ تُنْشِدُ الصُّوفِيَّةُ :
يَا قَوْمِ قَلْبِي عِنْدَ زَهْرَاءَ | يَعْرِفُهَا السَّامِعُ وَالرَّائِي |
لَا تَدْعُنِي إلَّا بِيَا عَبْدَهَا | فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي |
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَضَى اللَّهُ بِحِكْمَتِهِ وَحُكْمهُ أَنْ يَتَكَلَّمَ النَّاسُ، هَلْ أُسْرِيَ بِجَسَدِ رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْ بِرُوحِهِ ؟ وَلَوْلَا مَشِيئَةُ رَبِّنَا السَّابِقَةُ بِالِاخْتِلَافِ لَكَانَتْ الْمَسْأَلَةُ أَبَيْنَ عِنْدَ الْإِنْصَافِ ؛ فَإِنَّ الْمُنْكِرَ لِذَلِكَ لَا يَخْلُو أَنْ يَكُونَ مُلْحِدًا يُنْكِرُ الْقُدْرَةَ، وَيَرَى أَنَّ الثَّقِيلَ لَا يَصْعَدُ عُلُوًّا، وَطَبْعُهُ اسْتِفَالٌ فَمَا بَالُهُ يَتَكَلَّمُ مَعَنَا فِي هَذَا الْفَرْعِ، وَهُوَ مُنْكِرٌ لِلْأَصْلِ ؛ وَهُوَ وُجُودُ الْإِلَهِ وَقُدْرَتُهُ، وَأَنَّهُ يُصَرِّفُ الْأَشْيَاءَ بِالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، لَا بِالطَّبِيعَةِ.
وَإِنْ كَانَ الْمُنْكِرُ من أَغْبِيَاءِ الْمِلَّةِ يُقِرُّ مَعَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَالْعِلْمِ، وَالْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصْرِيفِ وَالتَّدْبِيرِ وَالتَّقْدِيرِ، فَيُقَالُ لَهُ : وَمَا الَّذِي يَمْنَعُ من ارْتِقَاءِ النَّبِيِّ فِي الْهَوَاءِ بِقُدْرَةِ خَالِقِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ ؟ فَإِنْ قَالَ : لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ. قُلْنَا لَهُ : قَدْ وَرَدَ من كُلِّ طَرِيقٍ عَلَى لِسَانِ كُلِّ فَرِيقٍ، مِنْهُمْ أَبُو ذَرٍّ ؛ قَالَ أَنَسٌ : قَالَ أَبُو ذَرٍّ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فُرِجَ سَقْفُ بَيْتِي، وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ من ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا قَالَ جِبْرِيلُ لِخَازِنِ السَّمَاءِ : افْتَحْ. قَالَ : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا جِبْرِيلُ. قَالَ : هَلْ مَعَك أَحَدٌ ؟ قَالَ : نَعَمْ، مَعِي مُحَمَّدٌ. فَقَالَ : أُرْسِلَ إلَيْهِ ؟ فَقَالَ : نَعَمْ. فَلَمَّا فَتَحَ عَلَوْنَا السَّمَاءَ الدُّنْيَا فَإِذَا رَجُلٌ عَلَى يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَلَى يَسَارِهِ أَسْوِدَةٌ، إذَا نَظَرَ قِبَلَ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ قِبَلَ شِمَالِهِ بَكَى، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت : يَا جِبْرِيلُ، مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا آدَم، وَهَذِهِ الْأَسْوِدَةُ عَنْ يَمِينِهِ وَعَنْ شِمَالِهِ نَسَمُ بَنِيهِ، فَأَهْلُ الْيَمِينِ مِنْهُمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ، وَالْأَسْوِدَةُ الَّتِي عَنْ شِمَالِهِ أَهْلُ النَّارِ، فَإِذَا نَظَرَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَإِذَا نَظَرَ عَنْ شِمَالِهِ بَكَى. ثُمَّ عَرَجَ بِي إلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَقَالَ لِخَازِنِهَا : افْتَحْ، فَقَالَ لَهُ خَازِنُهَا مِثْلَ مَا قَالَ لَهُ الْأَوَّلُ، فَفَتَحَ.
قَالَ أَنَسٌ : فَذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ فِي السَّمَاءِ آدَمَ، وَإِدْرِيسَ، وَمُوسَى، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ. ) وَلَمْ يُثْبِتْ كَيْفَ مَنَازِلُهُمْ، غَيْرَ أَنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ وَجَدَ آدَمَ فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَإِبْرَاهِيم فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ.
قَالَ أَنَسٌ :( فَلَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ جِبْرِيلَ بِإِدْرِيسَ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ، وَالْأَخِ الصَّالِحِ. فَقُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : هَذَا إدْرِيسُ. ثُمَّ مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : مُوسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِعِيسَى، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ. قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : عِيسَى. ثُمَّ مَرَرْت بِإِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ : مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالِابْنِ الصَّالِحِ. قُلْت : مَنْ هَذَا ؟ قَالَ : إبْرَاهِيمُ ).
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ : فَأَخْبَرَنِي ابْنُ حَزْمٍ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ وَأَبَا حَبَّةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَا يَقُولَانِ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( ثُمَّ عَرَجَ بِي حَتَّى ظَهَرْت لَمُسْتَوًى أَسْمَعُ فِيهِ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ ).
قَالَ ابْنُ حَزْمٍ، وَأَنَسُ بْنُ مَالِكٍ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( فَفَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِي خَمْسِينَ صَلَاةً، فَرَجَعْت بِذَلِكَ حَتَّى مَرَرْت بِمُوسَى، فَقَالَ : مَاذَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى أُمَّتِك ؟ قُلْت : فَرَضَ خَمْسِينَ صَلَاةً. قَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك ؛ فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعَنِي، فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، قُلْت : وَضَعَ شَطْرَهَا. فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ. فَرَجَعْت، فَوَضَعَ شَطْرَهَا، فَرَجَعْت إلَيْهِ، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك فَإِنَّ أُمَّتَك لَا تُطِيقُ ذَلِكَ، فَرَاجَعْته، فَقَالَ : هِيَ خَمْسٌ، وَهِيَ خَمْسُونَ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ. فَرَجَعْت إلَى مُوسَى، فَقَالَ : ارْجِعْ إلَى رَبِّك، فَقُلْت : قَدْ اسْتَحْيَيْت من رَبِّي. قَالَ : ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى إلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْت الْجَنَّةَ، فَإِذَا فِيهَا جَنَابِذُ اللُّؤْلُؤِ، وَإِذَا تُرَابُهَا الْمِسْكُ ).
فَإِنْ قِيلَ : فَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَنَسٍ أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( بَيْنَا أَنَا بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ. ) وَذَكَرَ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ بِطُولِهِ، إلَى أَنْ قَالَ :( ثُمَّ اسْتَيْقَظْت، وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ).
قُلْنَا : عَنْهُ أَجْوِبَةٌ ؛ مِنْهَا :
أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ رَوَاهُ شَرِيكٌ عَنْ أَنَسٍ، وَكَانَ تَغَيَّرَ بِآخِرَةٍ فَيُعَوَّلُ عَلَى رِوَايَاتِ الْجَمِيعِ. الثَّانِي : أَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ أَرَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْإِسْرَاءَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَطَّدَهُ اللَّهُ بِهَا، ثُمَّ أَرَاهُ إيَّاهَا رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا فَعَلَ بِهِ حِينَ أَرَادَ مُشَافَهَتَهُ بِالْوَحْيِ ؛ ( أَرْسَلَ إلَيْهِ الْمَلَكَ فِي الْمَنَامِ بِنَمَطٍ من دِيبَاجٍ فِيهِ : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّك، وَقَالَ لَهُ : اقْرَأْ. فَقَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَغَطَّهُ حَتَّى بَلَغَ مِنْهُ الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَهُ، فَقَالَ : اقْرَأْ. قَالَ : مَا أَنَا بِقَارِئٍ ) إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ جَاءَهُ الْمَلَكُ فِي الْيَقِظَةِ بِمِثْلِ مَا أَرَادَهُ فِي الْمَنَامِ. وَكَانَتْ الْحِكْمَةُ فِي ذَلِكَ أَنْ أَرَاهُ اللَّهُ فِي الْمَنَامِ مَا أَرَاهُ من ذَلِكَ تَوْطِيدًا وَتَثْبِيتًا لِنَفْسِهِ، حَتَّى لَا يَأْتِيَهُ الْحَالُ فَجْأَةً، فَتُقَاسِي نَفْسُهُ الْكَرِيمَةَ مِنْهَا شِدَّةً، لِعَجْزِ الْقُوَى الْآدَمِيَّةِ عَنْ مُبَاشَرَةِ الْهَيْئَةِ الْمَلَكِيَّةِ.
وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ من طُرُقٍ عَنْ ابْنِ
فِيهَا مَسْأَلَةٌ وَاحِدَةٌ، وَهِيَ قَوْلُهُ :﴿ أَمَرْنَا ﴾ :
فِيهَا من الْقِرَاءَاتِ ثَلَاثُ قِرَاءَاتٍ :
الْقِرَاءَةُ الْأُولَى : أَمَرْنَا بِتَخْفِيفِ الْمِيمِ. الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ : بِتَشْدِيدِهَا. الْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ : آمَرْنَا بِمَدٍّ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ.
فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى : فَهِيَ الْمَشْهُورَةُ، وَمَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالْعَدْلِ، فَخَالَفُوا، فَفَسَقُوا بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، فَهَلَكُوا بِالْكَلِمَةِ السَّابِقَةِ الْحَاقَّةِ عَلَيْهِمْ.
وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ : بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ : فَهِيَ قِرَاءَةُ عَلِيٍّ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَأَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ، وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَاهُمْ، وَالْكَثْرَةُ إلَى التَّخْلِيطِ أَقْرَبُ عَادَةً.
وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْمَدِّ فِي الْهَمْزَةِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ فَهِيَ قِرَاءَةُ الْحَسَنِ، وَالْأَعْرَجِ، وَخَارِجَةَ عَنْ نَافِعٍ. وَيَكُونُ مَعْنَاهُ الْكَثْرَةُ ؛ فَإِنَّ أَفْعَلَ وَفَعَّلَ يُنْظَرَانِ فِي التَّصْرِيفِ من مِشْكَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ من الْإِمَارَةِ، أَيْ جَعَلْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، فَإِمَّا أَنْ يُرِيدَ من جَعْلِهِمْ وُلَاةً فَيَلْزَمُهُمْ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ، فَيُقَصِّرُونَ فِيهِ فَيَهْلِكُونَ.
وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ من أَنَّ كُلَّ مَنْ مَلَكَ دَارًا وَعِيَالًا وَخَادِمًا فَهُوَ مَلَكٌ وَأَمِيرٌ، فَإِذَا صَلُحَتْ أَحْوَالُهُمْ أَقْبَلُوا عَلَى الدُّنْيَا وَآثَرُوهَا عَلَى الْآخِرَةِ فَهَلَكُوا، وَمِنْهُ الْأَثَرُ :" خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ " : أَيْ كَثِيرَةُ النَّتَاجِ، وَإِلَيْهِ يَرْجِعُ قَوْلُهُ :﴿ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إمْرًا ﴾. أَيْ عَظِيمًا.
وَالْقَوْلُ فِيهَا من كُلِّ جِهَةٍ مُتَقَارِبٌ مُتَدَاخِلٌ ؛ وَقَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ. وَأَكْثَرُ مَا يَكُونُ هَذَا الْفِسْقُ وَأَعْظَمُهُ فِي الْمُخَالَفَةِ الْكُفْرُ أَوْ الْبِدْعَةُ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي نَظِيرِهِ :﴿ ذَلِكَ من أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمْ الَّتِي يَدْعُونَ من دُونِ اللَّهِ من شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّك إذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾.
فَهَؤُلَاءِ قَوْمٌ عَصَوْا وَكَفَرُوا، وَهَذِهِ صِفَةُ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ فِي قَصَصِ الْقُرْآنِ، وَأَخْبَارِ مَنْ مَضَى من الْأُمَمِ.
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ آيَةَ الشُّورَى مُطْلَقَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْوَعْدُ بِذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُعْطَى لِكُلِّ مُرِيدٍ، لِقَوْلِهِ :﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ﴾ الْآيَةَ.
قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّةِ وَلِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، وَبَيَّنَّا أَنَّ مَنْ أَرَادَ غَيْرَ اللَّهِ فَهُوَ مُتَوَعَّدٌ، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ آيَةَ الشُّورَى مُطْلَقَةٌ فِي أَنَّ مَنْ أَرَادَ الدُّنْيَا يُؤْتِيهِ اللَّهُ مِنْهَا، وَلَيْسَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ وَهَذِهِ مُقَيَّدَةٌ فِي أَنَّهُ إنَّمَا يُؤْتَى حَقَّهُ فِي الدُّنْيَا مَنْ يَشَاءُ اللَّهُ أَنْ يُؤْتِيَهُ ذَلِكَ. وَلَيْسَ الْوَعْدُ بِذَلِكَ عَامًّا لِكُلِّ أَحَدٍ، وَلَا يُعْطَى لِكُلِّ مُرِيدٍ، لِقَوْلِهِ :﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا ﴾ الْآيَةَ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَقَضَى ﴾.
قَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ بِجَمِيعِ وُجُوهِهَا، وَأَوْضَحْنَا أَنَّ من مَعَانِيهَا خَلَقَ، وَمِنْهَا أَمَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهَا هَاهُنَا إلَّا أَمَرَ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ يُتَصَوَّرُ وُجُودُ مُخَالَفَتِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ وُجُودُ خِلَافِ مَا خَلَقَ اللَّهُ ؛ لِأَنَّهُ الْخَالِقُ ؛ هَلْ من خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ، فَأَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِعِبَادَتِهِ، وَبِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ مَقْرُونًا بِعِبَادَتِهِ، كَمَا قَرَنَ شُكْرَهُمَا بِشُكْرِهِ، وَلِهَذَا قَرَأَهَا ابْنُ مَسْعُودٍ : وَوَصَّى رَبُّك.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي بَكْرَةَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ؟ قُلْنَا : بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ : الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ).
وَعَنْ أَنَسٍ فِي الصَّحِيحِ أَيْضًا :( الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ). وَمِنْ الْبِرِّ إلَيْهِمَا، وَالْإِحْسَانِ إلَيْهِمَا أَلَا نَتَعَرَّضَ لِسَبِّهِمَا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( إنَّ من أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ أَنْ يَلْعَنَ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ. قِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَكَيْفَ يَلْعَنُ الرَّجُلُ وَالِدَيْهِ ؟ قَالَ : يَسُبُّ أَبَا الرَّجُلِ فَيَسُبُّ أَبَاهُ، وَيَسُبُّ أُمَّهُ فَيَسُبُّ أُمَّهُ ). حَتَّى إنَّهُ يَبَرُّهُ وَإِنْ كَانَ مُشْرِكًا إذَا كَانَ لَهُ عَهْدٌ قَالَ اللَّه :﴿ لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ من دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إلَيْهِمْ إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْله تَعَالَى :﴿ إمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا ﴾ :
خَصَّ حَالَةَ الْكِبَرِ ؛ لِأَنَّهَا بِطُولِ الْمَدَى تُوجِبُ الِاسْتِثْقَالَ عَادَةً، وَيَحْصُلُ الْمَلَلُ، وَيَكْثُرُ الضَّجَرُ، فَيَظْهَرُ غَضَبُهُ عَلَى أَبَوَيْهِ، وَتَنْتَفِخُ لَهُمَا أَوْدَاجُهُ، وَيَسْتَطِيلُ عَلَيْهِمَا بِدَالَّةِ الْبُنُوَّةِ، وَقِلَّةِ الدِّيَانَةِ.
وَأَقَلُّ الْمَكْرُوهِ أَنْ يُؤَفِّفَ لَهُمَا ؛ وَهُوَ مَا يُظْهِرُهُ بِتَنَفُّسِهِ الْمُرَدَّدِ من الضَّجَرِ. وَأَمَرَ بِأَنْ يُقَابِلَهُمَا بِالْقَوْلِ الْمَوْصُوفِ بِالْكَرَامَةِ، وَهُوَ السَّالِمُ عَنْ كُلِّ عَيْبٍ من عُيُوبِ الْقَوْلِ الْمُتَجَرِّدِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ من مَكْرُوهِ الْأَحَادِيثِ. ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ :
الْمَعْنَى تَذَلَّلْ لَهُمَا تَذْلِيلَ الرَّعِيَّةِ لِلْأَمِيرِ، وَالْعَبِيدِ لِلسَّادَةِ ؛ وَضَرَبَ خَفْضَ الْجَنَاحِ وَنَصْبَهُ مَثَلًا لِجَنَاحِ الطَّائِرِ حِينَ يَنْتَصِبُ بِجَنَاحِهِ لِوَلَدِهِ أَوْ لِغَيْرِهِمْ من شِدَّةِ الْإِقْبَالِ. وَالذُّلُّ هُوَ اللِّينُ وَالْهَوْنُ فِي الشَّيْءِ، ثُمَّ قَالَ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ :﴿ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ :
مَعْنَاهُ : اُدْعُ لَهُمَا فِي حَيَاتِهِمَا وَبَعْدَ مَمَاتِهِمَا بِأَنْ يَكُونَ الْبَارِئُ يَرْحَمُهُمَا كَمَا رَحِمَاك، وَتَرَفَّقْ بِهِمَا كَمَا رَفَقَا بِك ؛ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الَّذِي يُجْزِي الْوَالِدَ عَنْ الْوَلَدِ ؛ إذْ لَا يَسْتَطِيعُ الْوَلَدُ كِفَاءً عَلَى نِعْمَةِ وَالِدِهِ أَبَدًا.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :( لَنْ يَجْزِيَ وَلَدٌ وَالِدَهُ إلَّا أَنْ يَجِدَهُ مَمْلُوكًا فَيَشْتَرِيَهُ فَيُعْتِقَهُ )، مَعْنَاهُ يُخَلِّصُهُ من أَسْرِ الرِّقِّ كَمَا خَلَّصَهُ من أَسْرِ الصِّغَرِ.
وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُمَا وَلِيَاهُ صَغِيرًا جَاهِلًا مُحْتَاجًا، فَآثَرَاهُ عَلَى أَنْفُسِهِمَا، وَسَهِرَا لَيْلَهُمَا وَأَنَامَاهُ، وَجَاعَا وَأَشْبَعَاهُ، وَتَعَرَّيَا وَكَسَوَاهُ، فَلَا يُجْزِيهِمَا إلَّا أَنْ يَبْلُغَا من الْكِبَرِ إلَى الْحَدِّ الَّذِي كَانَ هُوَ فِيهِ من الصِّغَرِ، فَيَلِي مِنْهُمَا مَا وَلِيَا مِنْهُ، وَيَكُونُ لَهُمَا حِينَئِذٍ عَلَيْهِ فَضْلُ التَّقَدُّمِ بِالنِّعْمَةِ عَلَى الْمُكَافِئِ عَلَيْهَا.
وَقَدْ أَخْبَرَنِي الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ الْخَطِيبُ نَسِيبُ الدَّوْلَةِ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ الْقَاضِي ذُو الشَّرَفَيْنِ أَبُو الْحُسَيْنِ إبْرَاهِيمُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْحُسَيْنِيُّ بِدِمَشْقَ، أَنْبَأَنَا أَبُو نَصْرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ الشِّيرَازِيِّ بِمَكَّةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، سَمِعْتُهُ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ من هَذَا الرَّجُلِ، وَكَانَ حَافِظًا، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ رَيْدَةَ الضَّبِّيُّ الْأَصْبَهَانِيُّ بِأَصْبَهَانَ قِرَاءَةً، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ أَيُّوبَ الْحَافِظُ الطَّبَرِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ الْبَرْدَعِيُّ بِمِصْرَ، حَدَّثَنِي أَبُو سَلَمَةَ عُبَيْدُ بْنُ خَلَصَةَ بِمَعَرَّةِ النُّعْمَانِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ نَافِعٍ الْمَدَنِيُّ عَنْ الْمُنْكَدِرِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ؛ قَالَ :( جَاءَ رَجُلٌ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ إنَّ أَبِي أَخَذَ مَالِي. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ : فَأْتِنِي بِأَبِيك. فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُقْرِئُك السَّلَامَ، وَيَقُولُ لَك : إذَا جَاءَك الشَّيْخُ فَاسْأَلْهُ عَنْ شَيْءٍ قَالَهُ فِي نَفْسِهِ، مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاهُ، فَلَمَّا جَاءَ الشَّيْخُ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا بَالُ ابْنِك يَشْكُوك ؟ أَتُرِيدُ أَنْ تَأْخُذَ مَالَهُ ؟ فَقَالَ : سَلْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ أُنْفِقُهُ إلَّا عَلَى إحْدَى عَمَّاتِهِ أَوْ خَالَاتِهِ أَوْ عَلَى نَفْسِي ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إيهٍ دَعْنَا من هَذَا، أَخْبِرْنِي عَنْ شَيْءٍ قُلْته فِي نَفْسِك مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَاك. فَقَالَ الشَّيْخُ : وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَزَالُ اللَّهُ تَعَالَى يَزِيدُنَا بِك يَقِينًا، لَقَدْ قُلْت فِي نَفْسِي شَيْئًا مَا سَمِعَتْهُ أُذُنَايَ، فَقَالَ : قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ. قَالَ : قُلْت :
غَذَوْتُك مَوْلُودًا وَمُنْتُك يَافِعًا | تَعِلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْك وَتَنْهَلُ |
إذَا لَيْلَةٌ ضَافَتْك بِالسَّقَمِ لَمْ أَبِتْ | لِسُقْمِكَ إلَّا سَاهِرًا أَتَمَلْمَلُ |
كَأَنِّي أَنَا الْمَطْرُوقُ دُونَك بِاَلَّذِي | طُرِقْت بِهِ دُونِي فَعَيْنِي تَهْمُلُ |
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْك وَإِنَّهَا | لَتَعْلَمُ أَنَّ الْمَوْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلٌ |
فَلَمَّا بَلَغْت السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي | إلَيْهَا مَدَى مَا كُنْت فِيك أُؤَمِّلُ |
جَعَلْت جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً | كَأَنَّك أَنْتَ الْمُنْعِمُ الْمُتَفَضِّلُ |
فَلَيْتَك إذْ لَمْ تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي | فَعَلْت كَمَا الْجَارُ الْمُجَاوِرُ يَفْعَلُ |
فَأَوْلَيْتَني حَقَّ الجِوَارِ وَلَمْ تَكُن | عليَّ بِحَالٍ دُونَ مَالك تبخَلُ |
وَأَخْبَرَنَا أَبُو الْمَعَالِي ثَابِتُ بْنُ بُنْدَارٍ فِي دَارِنَا بالمُعْتَمِدِيَّةِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنِ غَالِبٍ الْحَافِظِ، أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ، حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، وَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ، حَدَّثَنَا أَبُو هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ شُجَاعِ بْنِ قَيْسِ بْنِ هِشَامٍ السَّكُونِيِّ، قَالُوا : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ، ( عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : بَيْنَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ، فَأَوَوْا إلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : يَا هَؤُلَاءِ، لَا يُنْجِيكُمْ إلَّا الصِّدْقُ، فَلْيَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ : فَقَالَ أَحَدُهُمْ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ، عَمِلَ لِي عَلَى فَرْقِ أُرْزٍ، فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ، فَزَرَعْته، فَصَارَ من أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْت من ذَلِكَ الْفَرْقِ بَقَرًا، ثُمَّ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ، فَقُلْت لَهُ : اعْمِدْ إلَى تِلْكَ الْبَقَرِ، فَسُقْهَا فَإِنَّهَا من ذَلِكَ الْفَرْقِ فَسَاقَهَا. فَإِنْ كُنْت فَعَلْت ذَلِكَ من خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ. فَقَالَ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَبَوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكَانَتْ لِي غَنَمٌ، وَكُنْت آتِيهِمَا فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِلَبَنِ غَنَمٍ لِي، فَأَبْطَأْت عَنْهُمَا ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَتَيْتهمَا وَقَدْ رَقَدَا وَأَهْلِي وَعِيَالِي يَتَضَاغَوْنَ من الْجُوعِ، وَكُنْت لَا أَسْقِيهِمْ حَتَّى يَشْرَبَ أَبَوَايَ، فَكَرِهْت أَنْ أُوقِظَهُمَا من رَقْدَتِهِمَا، وَكَرِهْت أَنْ أَرْجِعَ فَيَسْتَيْقِظَا لِشُرْبِهِمَا، فَلَمْ أَزَلْ أَنْتَظِرُهُمَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، فَقَامَا فَشَرِبَا، فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْت ذَلِكَ من خَشْيَتِك فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُمْ الصَّخْرَةُ، حَتَّى نَظَرُوا إلَى السَّمَاءِ. فَقَالَ الْآخَرُ : اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَتْ لِي ابْنَةُ عَمٍّ من أَحَبِّ النَّاسِ إلَيَّ، وَإِنِّي رَاوَدْتُهَا عَنْ نَفْسِهَا فَأَبَتْ عَلَيَّ إلَّا أَنْ آتِيَهَا بِمِائَةِ دِينَارٍ، فَطَلَبْتهَا حَتَّى قَدَرْت عَلَيْهَا، فَجِئْت بِهَا فَدَفَعْتهَا إلَيْهَا فَأَمْكَنَتْنِي من نَفْسِهَا، فَلَمَّا قَعَدْت بَيْنَ رِجْلَيْهَا قَالَتْ لِي : اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تَفُضَّ الْخَاتَمَ إلَّا بِحَقِّهِ. فَقُمْت عَنْهَا، وَتَرَكْت لَهَا الْمِائَةَ دِينَارٍ فَإِنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنِّي تَرَكْت ذَلِكَ من خَشْيَتِك فَافْرِجْ عَنَّا، فَفَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَخَرَجُوا يَمْشُونَ ).
وَمِنْ تَمَامِ بِرِّ الْأَبَوَيْنِ صِلَةُ أَهْلِ وُدِّهِمَا، لِمَا صَحَّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( إنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ ).
وَرُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ :( رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسُخْطُ الرَّبِّ فِي سُخْطِ الْوَالِدَيْنِ ). خَرَّجَهُمَا التِّرْمِذِيُّ. وَلِذَلِكَ عَدَلَ عُقُوقُهُمَا الْإِشْرَاكَ فِي الْإِثْمِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بِرَّهُمَا قَرِينُ الْإِيمَانِ فِي الْأَجْرِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا الشَّرِيفُ الْأَجَلُّ أَبُو الْقَاسِمِ عَلِيُّ بْنُ أَبِي الْحَسَنِ الشَّاشِيُّ بِهَا قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ فِي كِتَابِهِ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عِيسَى بْنُ عَلِيِّ بْنِ عِيسَى الْوَزِيرِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْبَغَوِيّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْغَسِيلِ، عَنْ أُسَيْدَ عَنْ أَبِيهِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنْ أَبِي أُسَيْدَ، وَكَانَ بَدْرِيًّا قَالَ :( كُنْت عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فَجَاءَ رَجُلٌ من الْأَنْصَارِ فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ؛ هَلْ بَقِيَ من بِرِّ وَالِدِيَّ من بَعْدِ مَوْتِهِمَا شَيْءٌ أَبَرُّهُمَا بِهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا بَعْدَهُمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَك إلَّا من قِبَلِهِمَا، فَهَذَا الَّذِ
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي حَقِّ ذَوِي الْقُرْبَى فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ، وَأَكَّدَ اللَّهُ هَاهُنَا حَقَّهُ ؛ لِأَنَّهُ وَصَّى بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ خُصُوصًا من الْقَرَابَةِ، ثُمَّ ثَنَّى التَّوْصِيَةَ بِذِي الْقُرْبَى عُمُومًا، وَأَمَرَ بِتَوْصِيلِ حَقِّهِ إلَيْهِ من صِلَةِ رَحِمٍ وَأَدَاءِ حَقٍّ من مِيرَاثٍ وَسِوَاهُ فَلَا يُبَدَّلُ فِيهِ، وَلَا يُغَيَّرُ عَنْ جِهَتِهِ بِتَوْلِيجِ وَصِيَّةٍ، أَوْ سِوَى ذَلِكَ من الدَّخْلِ. وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُخُولًا مُتَقَدِّمًا، أَوْ من طَرِيقِ الْأَوْلَى، من جِهَةِ أَنَّ الْآيَةَ لِلْقَرَابَةِ الْأَدْنَيْنَ الْمُخْتَصِّينَ بِالرَّجُلِ، فَأَمَّا قَرَابَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ أَبَانَ اللَّهُ عَلَى الِاخْتِصَاصِ حَقَّهُمْ، وَأَخْبَرَ أَنَّ مَحَبَّتَهُمْ هِيَ أَجْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هُدَاهُ لَنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْله تَعَالَى ﴿ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ :
وَلَهُمْ حَقَّانِ :
أَحَدُهُمَا : أَدَاءُ الزَّكَاةِ.
وَالثَّانِي : الْحَقُّ الْمُفْتَرَضُ من الْحَاجَةِ عِنْدَ عَدَمِ الزَّكَاةِ، أَوْ فَنَائِهَا، أَوْ تَقْصِيرِهَا من عُمُومِ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَخْذِ السُّلْطَانِ دُونَهُمْ، وَقَدْ حَقَّقْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى، فَانْظُرُوا فِيهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ : التَّبْذِيرُ هُوَ مَنْعُهُ من حَقِّهِ، وَوَضْعُهُ فِي غَيْرِ حَقِّهِ، وَهُوَ أَيْضًا تَفْسِيرُ الْحَدِيثِ :( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ ). وَكَذَلِكَ يُرْوَى عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ؛ وَهُوَ الْإِسْرَافُ، وَذَلِكَ حَرَامٌ بِقَوْلِهِ :﴿ إنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ وَذَلِكَ نَصٌّ فِي التَّحْرِيمِ.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَنْ أَنْفَقَ فِي الشَّهَوَاتِ، هَلْ هُوَ مُبَذِّرٌ أَمْ لَا ؟
قُلْنَا : مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ فِي الشَّهَوَاتِ زَائِدًا عَلَى الْحَاجَاتِ، وَعَرَّضَهُ بِذَلِكَ لَلنَّفَادِ فَهُوَ مُبَذِّر. وَمَنْ أَنْفَقَ رِبْحَ مَالِهِ فِي شَهَوَاتِهِ، أَوْ غَلَّتَهُ، وَحَفِظَ الْأَصْلَ أَوْ الرَّقَبَةَ، فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ. وَمَنْ أَنْفَقَ دِرْهَمًا فِي حَرَامٍ فَهُوَ مُبَذِّرٌ يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَةِ دِرْهَمٍ فِي الْحَرَامِ، وَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ بِبَذْلِهِ فِي الشَّهَوَاتِ، إلَّا إذَا خِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ.
أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِقْبَالِ عَلَى الْآبَاءِ وَالْقَرَابَةِ وَالْمَسَاكِينِ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ عِنْدَ التَّمَكُّنِ من الْعَطَاءِ، وَالْقُدْرَةِ، فَإِنْ كَانَ عَجْزٌ عَنْ ذَلِكَ جَازَ الْإِعْرَاضُ، حَتَّى يَرْحَمَ اللَّهُ بِمَا يُعَادُ عَلَيْهِمْ بِهِ ؛ فَاجْعَلْ بَدَلَ الْعَطَاءِ قَوْلًا فِيهِ يُسْرٌ.
وَقِيلَ : إنَّمَا أَمَرَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ عِنْدَ خَوْفِ نَفَقَتِهِمْ فِي مَعَاصِي اللَّهِ، فَيَنْتَظِرُ رَحْمَةَ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ عَلَيْهِمْ.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ من الْمُفَسِّرِينَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي " خَبَّابٍ، وَبِلَالٍ، وَعَامِرِ بْنِ فُهَيْرَةَ، وَغَيْرِهِمْ، من فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ ؛ ( كَانُوا يَأْتُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَسْأَلُونَهُ، فَيُعْرِضُ عَنْهُمْ ؛ إذْ لَا يَجِدُ مَا يُعْطِيهِمْ، فَأُمِرَ أَنْ يُحْسِنَ لَهُمْ الْقَوْلَ إلَى أَنْ يَرْزُقَهُ اللَّهُ مَا يُعْطِيهِمْ )، وَهُوَ قَوْلُهُ :﴿ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ من رَبِّك تَرْجُوهَا ﴾.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَجْعَلْ يَدَك مَغْلُولَةً إلَى عُنُقِك ﴾
هَذَا مَجَازٌ، عَبَّرَ بِهِ عَنْ الْبَخِيلِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ من قَلْبِهِ عَلَى إخْرَاجِ شَيْءٍ من مَالِهِ فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا الْغُلَّ الَّذِي يَمْنَعُ من تَصَرُّفِ الْيَدَيْنِ، وَقَدْ ضَرَبَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَثَلًا آخَرَ، فَقَالَ :( مَثَلُ الْبَخِيلِ وَالْمُتَصَدِّقِ كَمَثَلِ رَجُلَيْنِ عَلَيْهِمَا جُبَّتَانِ من حَدِيدٍ، من لَدُنْ ثُدِيِّهِمَا إلَى تَرَاقِيِهِمَا، فَأَمَّا الْمُنْفِقُ فَلَا يُنْفِقُ إلَّا سَبَغَتْ وَوَفَرَتْ عَلَى جِلْدِهِ حَتَّى يَخْفَى بَنَانُهُ، وَيَعْفُوَ أَثَرُهُ. وَأَمَّا الْبَخِيلُ فَلَا يُرِيدُ أَنْ يُنْفِقَ شَيْئًا إلَّا لَزِمَتْ كُلُّ حَلْقَةٍ مَكَانَهَا. فَهُوَ يُوَسِّعُ وَلَا يَتَّسِعُ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ ﴾
ضَرَبَ بَسْطَ الْيَدِ مَثَلًا لِذَهَابِ الْمَالِ، فَإِنَّ قَبْضَ الْكَفِّ يَحْبِسُ مَا فِيهَا، وَبَسْطَهَا يُذْهِبُ مَا فِيهَا، وَمِنْهُ الْمَثَلُ الْمَضْرُوبُ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ :﴿ إلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ ﴾. فِي أَحَدِ وَجْهَيْ تَأْوِيلِهِ، كَأَنَّهُ حَمَلَهُ عَلَى التَّوَسُّطِ فِي الْمَنْعِ وَالدَّفْعِ، كَمَا قَالَ :﴿ وَاَلَّذِينَ إذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا ﴾ فَيُؤَوَّلُ مَعْنَى الْكَلَامِ إلَى أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ : الْأَوَّلُ : لَا يَمْتَنِعُ عَنْ نَفَقَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَلَا يُنْفِقُ فِي الشَّرِّ.
الثَّانِي : لَا يَمْنَعُ حَقَّ اللَّهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ الْوَاجِبَ ؛ لِئَلَّا يَأْتِيَ مَنْ يَسْأَلُ، فَلَا يَجِدُ عَطَاءً. الثَّالِثُ : لَا تُمْسِكْ كُلَّ مَالِك، وَلَا تُعْطِ جَمِيعَهُ، فَتَبْقَى مَلُومًا فِي جِهَاتِ الْمَنْعِ الثَّلَاثِ، مَحْسُورًا، أَيْ مُنْكَشِفًا فِي جِهَةِ الْبَسْطِ وَالْعَطَاءِ لِلْكُلِّ أَوْ لِسَائِرِ وُجُوهِ الْعَطَاءِ الْمَذْمُومَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذَا خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ أُمَّتُهُ، وَكَثِيرًا مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ، فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَانَ سَيِّدَهُمْ وَوَاسِطَتَهُمْ إلَى رَبِّهِمْ عَبَّرَ بِهِ عَنْهُمْ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي ذَلِكَ، فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَدْ خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي الْغِنَى وَالْفَقْرِ، فَاخْتَارَ الْفَقْرَ، يَجُوعُ يَوْمًا، وَيَشْبَعُ يَوْمًا، وَيَشُدُّ عَلَى بَطْنِهِ من الْجُوعِ حَجَرَيْنِ، وَكَانَ عَلَى ذَلِكَ صَبَّارًا، وَكَانَ يَأْخُذُ لِعِيَالِهِ قُوتَ سَنَتِهِمْ حِينَ أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّضِيرَ وَفَدَكَ وَخَيْبَرَ، ثُمَّ يَصْرِفُ مَا بَقِيَ فِي الْحَاجَاتِ، حَتَّى يَأْتِيَ أَثْنَاءَ الْحَوْلِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي هَذَا الْخِطَابِ بِإِجْمَاعٍ من الْأُمَّةِ، لِمَا هُوَ عَلَيْهِ من الْخِلَالِ وَالْجَلَالِ، وَشَرَفِ الْمَنْزِلَةِ، وَقُوَّةِ النَّفْسِ عَلَى الْوَظَائِفِ، وَعَظِيمِ الْعَزْمِ عَلَى الْمَقَاصِدِ، فَأَمَّا سَائِرُ النَّاسِ فَالْخِطَابُ عَلَيْهِمْ وَارِدٌ، وَالْأَمْرُ وَالنَّهْيُ كَمَا تَقَدَّمَ إلَيْهِمْ مُتَوَجِّهٌ، إلَّا أَفْرَادًا خَرَجُوا من ذَلِكَ بِكَمَالِ صِفَاتِهِمْ، وَعَظِيمِ أَنْفُسِهِمْ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، خَرَجَ عَنْ جَمِيعِ مَالِهِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقِبَلَهُ مِنْهُ لِلَّهِ سُبْحَانَهُ ؛ وَأَشَارَ عَلَيَّ أَبِي لُبَابَةَ وَكَعْبٍ بِالثُّلُثِ من جَمِيعِ مَالِهِمْ ؛ لِنَقْصِهِمْ عَنْ هَذِهِ الْمَرْتَبَةِ فِي أَحْوَالِهِمْ ؛ وَأَعْيَانٌ من الصَّحَابَةِ، كَانُوا عَلَى هَذَا، فَأَجْرَاهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَائْتَمَرُوا بِأَمْرِ اللَّهِ، وَاصْطَبِرُوا عَلَى بَلَائِهِ، وَلَمْ تَتَعَلَّقْ قُلُوبُهُمْ بِدُنْيَا، وَلَا ارْتَبَطَتْ أَبْدَانُهُمْ بِمَالٍ مِنْهَا ؛ وَذَلِكَ لِثِقَتِهِمْ بِمَوْعُودِ اللَّهِ فِي الرِّزْقِ، وَعُزُوبِ أَنْفُسِهِمْ عَنْ التَّعَلُّقِ بِغَضَارَةِ الدُّنْيَا. وَقَدْ كَانَ فِي أَشْيَاخِي مَنْ ارْتَقَى إلَى هَذِهِ الْمَنْزِلَةِ فَمَا ادَّخَرَ قَطُّ شَيْئًا لِغَدٍ، وَلَا نَظَرَ بِمُؤَخِّرِ عَيْنِهِ إلَى أَحَدٍ، وَلَا رَبَطَ عَلَى الدُّنْيَا بِيَدٍ، وَقَدْ تَحَقَّقَ أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ، وَهُوَ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : رَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ ( عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ سُئِلَ : أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ ؟ قَالَ : أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك. قَالَ : ثُمَّ أَيُّ ؟ قَالَ : أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يُطْعَمَ مَعَك ). وَهَذَا نَصٌّ صَرِيحٌ وَحَدِيثٌ صَحِيحٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ أَعْظَمُ الذُّنُوبِ ؛ إذْ فِيهِ إذَايَةُ الْجِنْسِ، وَإِيثَارُ النَّفْسِ، وَتَعَاطِي الْوَحْدَةِ الَّتِي لَا قِوَامَ لِلْعَالَمِ بِهَا، وَتَخَلُّقُ الْجِنْسِيَّةِ بِأَخْلَاقِ السَّبُعِيَّةِ، وَإِذَا كَانَتْ مَعَ قُوَّةِ الْأَسْبَابِ فِي جَارٍ أَوْ قَرِيبٍ، وَالْوَلَدُ أَلْصَقُ الْقَرَابَةِ، وَأَعْظَمُ الْحُرْمَةِ، فَيَتَضَاعَفُ الْإِثْمُ بِتَضَاعُفِ الْهَتْكِ لِلْحُرْمَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : وَكَانَ مَوْرِدُ هَذَا النَّهْيِ فِي الْمَقْصِدِ الْأَكْبَرِ أَهْلَ الْمَوْءُودَةِ الَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَ قَتْلَ الْإِنَاثِ مَخَافَةَ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِنَّ، وَعَدَمَ النُّصْرَةِ مِنْهُنَّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ مَنْ فَعَلَ فِعْلَهُمْ من قَتْلِ وَلَدِهِ إمَّا خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ من الْأَسْبَابِ ؛ لَكِنَّ هَذَا أَقْوَى فِيهَا. وَقَدْ قَدَّمَنَا بَيَانَ الْقَوْلِ فِي جَرَيَانِ الْقِصَاصِ بَيْنَ الْأَبِ وَالِابْنِ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ هَاهُنَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا ﴾. الْخَاءُ وَالطَّاءُ وَالْهَمْزَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْقَصْدِ، وَبِعَدَمِ الْقَصْدِ، تَقُولُ : خَطِئْت إذَا تَعَمَّدْت، وَأَخْطَأْت إذَا تَعَمَّدْت وَجْهًا وَأَصَبْت غَيْرَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْخَطَأُ مَعَ عَدَمِ الْقَصْدِ، وَهُوَ مَعْنًى مُتَرَدِّدٌ كَمَا بَيَّنَّا، لِقَوْلِهِ :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إلَّا خَطَأً ﴾.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ ﴾ :
الْمَعْنَى لِلْقَرِيبِ مِنْهُ، مَأْخُوذٌ من الْوَلِيِّ، وَهُوَ الْقُرْبُ عَلَى مَا حَقَقْنَاهُ فِي " كِتَابِ الْأَمَدِ الْأَقْصَى " وَالْقُرْبُ فِي الْمَعَانِي لَيْسَ بِالْمَسَافَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ بِالصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ الَّتِي بِهَا كَانَ قَرِيبًا هِيَ النَّسَبُ الَّذِي هُوَ الْبَعْضِيَّةُ، فَكُلُّ مَنْ كَانَ يَنْتَسِبُ إلَيْهِ بِنَوْعٍ من أَنْوَاعِ الْبَعْضِيَّةِ فَهُوَ وَلِيٌّ.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ ؛ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : هُوَ الْوَارِثُ مُطْلَقًا، فَكُلُّ مَنْ وَرِثَهُ فَهُوَ وَلِيُّهُ. وَعَلَى ذَلِكَ وَرَدَ لَفْظُ الْوِلَايَةِ فِي الْقُرْآنِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْجَبَ الْقِصَاصَ رَدْعًا عَنْ الْإِتْلَافِ، وَحَيَاةً لِلْبَاقِينَ ؛ وَظَاهِرُهُ أَنْ يَكُونَ حَقًّا لِجَمِيعِ النَّاسِ، كَالْحُدُودِ وَالزَّوَاجِرِ عَنْ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، حَتَّى لَا يَخْتَصَّ بِهَا مُسْتَحِقٌّ، بَيْدَ أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى اسْتَثْنَى الْقِصَاصَ من هَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَجَعَلَهُ لِلْأَوْلِيَاءِ الْوَارِثِينَ، لِيَتَحَقَّقَ فِيهِ الْعَفْوُ الَّذِي نُدِبَ إلَيْهِ فِي بَابِ الْقَتْلِ، وَلَمْ يُجْعَلْ عَفَوَا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ، لِحِكْمَتِهِ الْبَالِغَةِ، وَقُدْرَتِهِ النَّافِذَةِ، وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( مَنْ قُتِلَ لَهُ قَتِيلٌ فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَيْنَ أَنْ يَقْتُلَ أَوْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ). وَكَانَتْ هَذِهِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ خَاصِّيَّةً أُعْطِيَتْهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، تَفَضُّلًا وَتَفْضِيلًا، وَحِكْمَةً وَتَفْصِيلًا، فَخُصَّ بِذَلِكَ الْأَوْلِيَاءُ، لِيُتَصَوَّرَ الْعَفْوُ، أَوْ الِاسْتِيفَاءُ لِاخْتِصَاصِهِ بِالْحُزْنِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فَقَدْ اخْتَلَفَ قَوْلُ مَالِكٍ فِي دُخُولِ النِّسَاءِ فِي الدَّمِ، فَإِذَا قَالَ بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، فَلِعُمُومِ الْآيَةِ، وَإِذَا قَالَ بِخُرُوجِهِنَّ عَنْهُ فَلِأَنَّ طَلَبَ الْقِصَاصِ مَبْنَاهُ عَلَى النَّصْرِ وَالْحِمَايَةِ، وَلَيْسَتْ الْمَرْأَةُ من أَهْلِهَا، وَإِلَيْهِ وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ :﴿ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾. فَإِذَا قُلْنَا بِدُخُولِهِنَّ فِيهِ، وَهِيَ الرِّوَايَةُ الْأُخْرَى فَفِي أَيِّ شَيْءٍ يَكُونُ دُخُولُهُنَّ ؟ فِي ذَلِكَ رِوَايَتَانِ :
إحْدَاهُمَا : فِي الْقَوَدِ دُونَ الْعَفْوِ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْغَرَضَ اسْتِبْقَاؤُهُ لِحُصُولِ الْحَيَاةِ، وَالتَّشَفِّي من عَدَمِ النَّصِيرِ، وَعَظِيمِ الْحُزْنِ عَلَى الْفَقِيدِ ؛ وَالنِّسَاءُ بِذَلِكَ أَخَصُّ.
وَالثَّانِيَةُ : أَنَّ دُخُولَهُنَّ فِي الْعَفْوِ دُونَ الْقَوَدِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْإِسْقَاطِ الَّذِي يُغَلَّبُ فِي الْحُدُودِ ؛ فَمِنْ أَيِّ وَجْهٍ وَجَدْنَا الْإِسْقَاطَ، وَإِنْ ضَعُفَ أَمْضَيْنَاهُ.
انْتِصَافٌ ذَكَرَ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الطَّبَرِيُّ عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ إِسْحَاقَ الْقَاضِي أَنَّهُ احْتَجَّ عَلَى مَنْعِ النِّسَاءِ من الدُّخُولِ فِي الْآيَةِ بِوُجُوهٍ رَكِيكَةٍ، مِنْهَا :
أَنَّ الْوَلِيَّ فِي ظَاهِرِهِ عَلَى التَّذْكِيرِ وَهُوَ وَاحِدٌ ؛ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ مَا كَانَ بِمَعْنَى الْجِنْسِ اسْتَوَى الْمُذَكَّرُ وَالْمُؤَنَّثُ فِيهِ.
قَالَ الْقَاضِي : لَمْ يُنْصِفْ الطَّبَرِيُّ من وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمْ يَسْتَوْفِ كَلَامَ إسْمَاعِيلَ، وَاسْتَرَكَّهُ قَبْلَ اسْتِيفَائِهِ، فَالرَّكِيكُ هُوَ قَوْلُهُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ ؛ وَتَمَامُ قَوْلِ إسْمَاعِيلَ هُوَ أَنَّهُ قَالَ : إنَّ الْوَلِيَّ هَاهُنَا عَلَى التَّذْكِيرِ ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ فِي مَعْنَى الْجِنْسِ، كَمَا قَالَ :﴿ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْقَتِيلِ وَاحِدًا، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ جَمَاعَةً، وَلَا تَدْخُلُ الْمَرْأَةُ فِي جُمْلَةِ الْأَوْلِيَاءِ، كَمَا دَخَلَتْ فِي جُمْلَةِ النَّاسِ حِينَ قَالَ :﴿ إنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ ﴾ ؛ لِأَنَّهَا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَعْنَاهَا وَمَعْنَى الرَّجُلِ سَوَاءٌ ؛ إذْ كَانَ الْخَيْرُ وَعَمَلُ الصَّالِحَاتِ إنَّمَا هُوَ شَيْءٌ يَخُصُّهُمَا فِي أَنْفُسِهِمَا وَالْوَلِيُّ يَكُونُ وَلِيًّا لِغَيْرِهِ، وَهُوَ وَاحِدٌ أَوْ أَكْثَرُ، وَالْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : قَالَ إسْمَاعِيلُ : الْمَرْأَةُ لَا تَسْتَحِقُّ كُلَّ الْقِصَاصِ، والْقِصَاصُ لَا بَعْضَ لَهُ ؛ فَلَزِمَهُ من ذَلِكَ إخْرَاجُ الزَّوْجِ من الْوِلَايَةِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : تَبَصَّرْ أَيُّهَا الطَّبَرِيُّ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ الْمَالِكِيُّ : إنَّمَا لَا تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ الْوِلَايَةَ كُلَّهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِكَامِلَةٍ، لَا فِي شَهَادَةٍ وَلَا فِي تَعْصِيبٍ ؛ فَكَيْفَ تَضْعُفُ عَنْ الْكَمَالِ فِي أَضْعَفِ الْأَحْكَامِ، وَيَثْبُتُ الْقِصَاصُ لَهَا عَلَى الْكَمَالِ، أَيْنَ يَا طَبَرِيُّ تَحْقِيقُ شَيْخِك إمَامِ الْحَرَمَيْنِ من هَذَا الْكَلَامِ !
وَأَمَّا احْتِجَاجُك بِالزَّوْجِ فَهُوَ الرَّكِيكُ من الْقَوْلِ ؛ فَإِنَّ الزَّوْجَ لَا مَدْخَلَ لَهُ فِي وِلَايَةِ الدَّمِ.
قَالَ الطَّبَرِيُّ : قَالَ إسْمَاعِيلُ : الْمَقْصُودُ من الْقِصَاصِ تَقْلِيلُ الْقَتْلِ، وَالْمَقْصُودُ بِكَثْرَةِ الْقَتْلِ الرِّجَالُ دُونَ النِّسَاءِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا أَلَّا يَجْرِيَ الْقِصَاصُ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ : إمَّا أَنَّ فَكَّيْك ضَعُفَا عَنْ لَوْكِ مَا قَالَهُ إسْمَاعِيلُ، وَإِمَّا تَعَامَيْت عَمْدًا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقَتْلَ وَالِاعْتِدَاءَ إنَّمَا شَأْنُهُ الْغَوَائِلُ وَالشَّحْنَاءُ، وَهِيَ بَيْنَ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَلَا يَقْتُلُ عَلَى الْغَائِلَةِ امْرَأَةً إلَّا دَنِيءُ الْهِمَّةِ، وَيُعَيَّرُ بِهِ بَقِيَّةَ الدَّهْرِ ؛ فَكَانَ ذَلِكَ وَاقِعًا فِي الْغَالِبِ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَوَقَعَ الْقَوْلُ بِجَزَاءِ ذَلِكَ، وَهُوَ الْقِصَاصُ عَلَى الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ إذْ خُرُوجُ الْكَلَامِ عَلَى غَالِبِ الْأَحْوَالِ هِيَ الْفَصَاحَةُ الْعَرَبِيَّةُ، وَالْقَوَاعِدُ الدِّينِيَّةُ.
وَقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ شَيْخُك إمَامُ الْحَرَمَيْنِ، فَجَعَلَهُ أَصْلًا من أُصُولِ الْفِقْهِ، وَرَدَّ إلَيْهِ كَثِيرًا من مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ ؛ فَكَيْف ذُهِلْت عَنْهُ، وَأَنْتَ تَحْكِيهِ وَتُعَوِّلُ فِي تَصَانِيفِك عَلَيْه !
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ سُلْطَانًا ﴾
فِيهِ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ وَهْبٍ : قَالَ مَالِكٌ : السُّلْطَانُ أَمْرُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ.
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : السُّلْطَانُ الْحُجَّةُ.
الثَّالِثُ : قَالَ الضَّحَّاكُ وَغَيْرُهُ : السُّلْطَانُ إنْ شَاءَ عَفَا، وَإِنْ شَاءَ قَتَلَ، وإنْ شَاءَ أَخَذَ الدِّيَةَ ؛ قَالَهُ أَشْهَبُ وَالشَّافِعِيُّ.
الرَّابِعُ : السُّلْطَانُ طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مُتَقَارِبَةٌ، وَإِنْ كَانَ بَعْضُهَا أَظْهَرَ من بَعْضٍ، أَمَّا طَلَبُهُ حَتَّى يُدْفَعَ إلَيْهِ فَهُوَ ابْتِدَاءُ الْحَقِّ، وَآخِرُهُ اسْتِيفَاؤُهُ، وَهُوَ الْقَوْلُ الْخَامِسُ. وَأَمْرُ اللَّهِ هُوَ حُجَّةُ الْخَلْقِ لِعِبَادِهِ، وَعَلَيْهِمْ، وَالِاسْتِيفَاءُ هُوَ الْمُنْتَهَى، وَقَدْ تَدَاخَلَتْ، وَتَقَارَبَتْ، وَأَوْضَحُهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : إنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ. ثُمَّ إنَّ أَمْرَ اللَّهِ لَمْ يَقَعْ نَصًّا، فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ ؛ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ : الْقَتْلُ خَاصَّةً. وَقَالَ أَشْهَبُ عَنْهُ : الْخِيرَةُ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالدِّيَةِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، و قَدْ قَدَّمْنَاهُ فِي مَوْضِعِهِ، فَلْيُنْظَرْ فِيهِ من سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَفِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ ﴾ :
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ الْحَسَنُ : لَا يَقْتُلُ غَيْرَ قَاتِلِهِ.
الثَّانِي : قَالَ مُجَاهِدٌ : لَا يَقْتُلُ بَدَلَ وَلِيِّهِ اثْنَيْنِ، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَفْعَلُهُ.
الثَّالِثُ : لَا يُمَثِّلُ بِالْقَاتِلِ ؛ قَالَهُ طَلْقُ بْنُ حَبِيبٍ، وَكُلُّهُ مُرَادٌ ؛ لِأَنَّهُ إسْرَافٌ كُلُّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ : يَعْنِي مُعَانًا.
فَإِنْ قِيلَ : وَكَمْ من وَلِيٍّ مَخْذُولٍ لَا يَصِلُ إلَى حَقِّهِ.
قُلْنَا : الْمَعُونَةُ تَكُونُ بِظُهُورِ الْحُجَّةِ تَارَةً، وَبِاسْتِيفَائِهَا أُخْرَى، وَبِمَجْمُوعِهِمَا ثَالِثَةً، فَأَيُّهَا كَانَ فَهُوَ نَصْرٌ من اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَحِكْمَتُهُ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ وَفِي إفْرَادِ النَّوْعَيْنِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَدْ قَدَّمْنَا الْقَوْلَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ فِي مَوَاضِعَ بِمَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ وَقَوْلُهُ :﴿ إلَّا بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ : يَعْنِي الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ لِلْيَتِيمِ، وَذَلِكَ بِكُلِّ وَجْهٍ تَكُونُ الْمَنْفَعَةُ فِيهِ لِلْيَتِيمِ، لَا لِلْمُتَصَرِّفِ فِيهِ، كَقَوْلِ عَائِشَةَ : اتَّجَرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لَا تَأْكُلُهَا الزَّكَاةُ، وَقَدْ فَسَّرَ مُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُ الْحَسَنَ فِيهِ يَعْنِي التِّجَارَةَ
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ يَعْنِي قُوَّتَهُ. وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْأَشُدِّ فِي سُورَةِ يُوسُفَ، وَسَرَدْنَا الْأَقْوَالَ فِيهِ، وَالْأَشُدُّ كَمَا قُلْنَا فِي الْقُوَّةِ، وَقَدْ تَكُونُ فِي الْبَدَنِ. وَقَدْ تَكُونُ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالتَّجْرِبَةِ، وَلَا بُدَّ من حُصُولِ الْوَجْهَيْنِ ؛ فَإِنَّ الْأَشُدَّ هَاهُنَا وَقَعَتْ مُطْلَقَةً، وَجَاءَ بَيَانُ الْيَتِيمِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ مُقَيَّدًا قَالَ تَعَالَى :﴿ وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاَللَّهِ حَسِيبًا ﴾.
فَجَمَعَ بَيْنَ قُوَّةِ الْبَدَنِ بِبُلُوغِ النِّكَاحِ، وَبَيْنَ قُوَّةِ الْمَعْرِفَةِ بِإِينَاسِ الرُّشْدِ، وَعَضَّدَ ذَلِكَ الْمَعْنَى فَإِنَّهُ لَوْ اقْتَضَتْ الْآيَةُ تَمْكِينَ الْيَتِيمِ من مَالِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَعْرِفَةِ لَهُ وَبَعْدَ حُصُولِ قُوَّةِ الْبَدَنِ لَأَذْهَبَهُ فِي شَهَوَاتِهِ، وَبَقِيَ صُعْلُوكًا لَا مَالَ لَهُ. وَخَصَّ الْيَتِيمَ بِهَذَا الشَّرْطِ فِي هَذَا الذِّكْرِ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْهُ، وَافْتِقَادِ الْآبَاءِ لِبَنِيهِمْ، فَكَانَ الْإِهْمَالُ لِفَقِيدِ الْأَبِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا ﴾ يَعْنِي مَسْئُولًا عَنْهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْعَهْدِ فِي مَوَاضِعَ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ يَعْنِي الْمِيزَانَ الْعَدْلَ. وَقَالَ الْحَسَنُ : هُوَ الْقَبَّانُ يَعْنِي بِهِ مَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ :﴿ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ ﴾ وَقَالَ :﴿ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ ﴾ لَا بِزِيَادَةٍ وَلَا بِنُقْصَانٍ.
وَمِنْ نَوَادِرِ أَبِي الْفَضْلِ الْجَوْهَرِيِّ مَا أَنْبَأَنَا عَنْهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاعِظُ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ : إذَا أَمْسَكْت عَلَّاقَةَ الْمِيزَانِ بِالْإِبْهَامِ وَالسَّبَّابَةِ، وَارْتَفَعَتْ سَائِرُ الْأَصَابِعِ كَانَ تَشَكُّلِهَا مَقْرُوءًا بِقَوْلِك اللَّهُ، فَكَأَنَّهَا إشَارَةُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ فِي تَسْيِيرِ الْوَزْنِ كَذَلِكَ إلَى أَنَّ اللَّهَ مُطَّلِعٌ عَلَيْك، فَاعْدِلْ فِي وَزْنِك.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ﴾ : أَيْ عَاقِبَةً. مَعْنَاهُ أَنَّ الْعَدْلَ وَالْوَفَاءَ فِي الْكَيْلِ أَفْضَلُ لِلتَّاجِرِ وَأَكْرَمُ لِلْبَائِعِ من طَلَبِ الْحِيلَةِ فِي الزِّيَادَةِ لِنَفْسِهِ، وَالنُّقْصَانِ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَحْسَنُ عَاقِبَةٍ، فَإِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ.
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ لَا تَقْفُ ﴾ : تَقُولُ الْعَرَبُ : قَفَوْته أَقْفُوهُ، وَقَفْته أَقُوفُهُ، وَقَفَّيْته : إذَا اتَّبَعْت أَثَرَهُ، وَقَافِيَةُ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ ؛ وَمِنْهُ اسْمُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُقَفَّى ؛ لِأَنَّهُ جَاءَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ وَأَخْيَرُهُمْ. وَمِنْهُ الْقَائِفُ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّبِعُ أَثَرَ الشَّبَهِ، يُقَالُ قَافَ الْقَائِفُ يَقُوفُ، إذَا فَعَلَ ذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَرَأَهُ بَعْضُهُمْ : وَلَا تَقُفْ، مِثْلَ تَقُلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ :
لِلنَّاسِ فِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : لَا تَسْمَعُ وَلَا تَرَ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ وَلَا رُؤْيَتُهُ.
الثَّانِي : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : لَا تَتَّبِعُ مَا لَا تَعْلَمُ وَلَا يَعْنِيَك.
الثَّالِثُ : قَالَ قَتَادَةُ : لَا تَقُلْ رَأَيْت مَا لَمْ أَرَ، وَلَا سَمِعْت مَا لَمْ أَسْمَعْ.
الرَّابِعُ : قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَنَفِيَّةِ : هُوَ شَهَادَةُ الزُّورِ.
الْخَامِسُ : قِيلَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ لَا تَقْفُ لَا تَقُلْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ؛ وَبَعْضُهَا أَقْوَى من بَعْضٍ، وَإِنْ كَانَتْ مُرْتَبِطَةً ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَسْمَعَ مَا لَا يَحِلُّ، وَلَا يَقُولَ بَاطِلًا، فَكَيْفُ أَعْظَمُهُ وَهُوَ الزُّورُ.
وَيَرْجِعُ الْخَامِسُ إلَى الثَّالِثِ ؛ لِأَنَّهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَإِذَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتَّبِعَهُ ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّ الْمُفْتِيَ بِالتَّقْلِيدِ إذَا خَالَفَ نَصَّ الرِّوَايَةِ فِي نَصِّ النَّازِلَةِ عَمَّنْ قَلَّدَهُ أَنَّهُ مَذْمُومٌ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ يَقِيسُ وَيَجْتَهِدُ فِي غَيْرِ مَحَلِّ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا الِاجْتِهَادُ فِي قَوْلِ اللَّهِ وَقَوْلِ الرَّسُولِ، لَا فِي قَوْلِ بَشَرٍ بَعْدَهُمَا.
وَمَنْ قَالَ من الْمُقَلِّدِينَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تَخْرُجُ من قَوْلِ مَالِكٍ فِي مَوْضِعِ كَذَا فَهُوَ دَاخِلٌ فِي الْآيَةِ. فَإِنْ قِيلَ : فَأَنْتَ تَقُولُهَا وَكَثِيرٌ من الْعُلَمَاءِ قَبْلَك.
قُلْنَا : نَعَمْ ؛ نَحْنُ نَقُولُ ذَلِكَ فِي تَفْرِيعِ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي الْتِزَامِ الْمَذْهَبِ بِالتَّخْرِيجِ، لَا عَلَى أَنَّهَا فَتْوَى نَازِلَةٌ تَعْمَلُ عَلَيْهَا الْمَسَائِلُ، حَتَّى إذَا جَاءَ سَائِلٌ عُرِضَتْ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الدَّلِيلِ الْأَصْلِيِّ ؛ لَا عَلَى التَّخْرِيجِ الْمَذْهَبِيِّ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ لَهُ الْجَوَابُ كَذَا فَاعْمَلْ عَلَيْهِ.
وَمِنْهَا قَوْلُ النَّاسِ : هَلْ الْحَوْضُ قَبْلَ الْمِيزَانِ وَالصِّرَاطِ أَوْ الْمِيزَانُ قَبْلَهُمَا أَمْ الْحَوْضُ ؟ فَهَذَا قَفْوُ مَا لَا سَبِيلَ إلَى عِلْمِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ لَا يُدْرَكُ بِنَظَرِ الْعَقْلِ، وَلَا بِنَظَرِ السَّمْعِ، وَلَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ صَحِيحٌ، فَلَا سَبِيلَ إلَى مَعْرِفَتِهِ. وَمِثْلُهُ : كَيْفَ كِفَّةُ مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ من الْمُؤْمِنِينَ ؟ كَيْفَ يُعْطَى كِتَابَهُ ؟.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ ﴾ :
يُسْأَلُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهَا عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ، فَيُسْأَلُ الْفُؤَادُ عَمَّا افْتَكَرَ وَاعْتَقَدَ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ عَمَّا رَأَى من ذَلِكَ أَوْ سَمِعَ، فَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُنْكِرُ، فَتَنْطِقُ عَلَيْهِ جَوَارِحُهُ، فَإِذَا شَهِدَتْ اسْتَوْجَبَتْ الْخُلُودَ الدَّائِمَ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الْعَاصِي فَلَمْ يَأْتِ فِيهِ أَمْرٌ صَحِيحٌ، فَهُوَ مِثَالٌ رَابِعٌ مِنْهَا، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي رِسَالَةِ تَقْوِيمِ الْفَتْوَى عَلَى أَهْلِ الدَّعْوَى.
فِيهِ خَمْسُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ مَرَحًا ﴾ :
فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : مُتَكَبِّرًا. الثَّانِي : بَطِرًا. الثَّالِثُ : شَدِيدُ الْفَرَحِ. الرَّابِعُ : النَّشَاطُ.
فَإِذَا تَتَبَّعْت هَذِهِ الْأَقْوَالَ وَجَدْتهَا مُتَقَارِبَةً، وَلَكِنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ قِسْمَيْنِ مُخْتَلِفِينَ : أَحَدُهُمَا مَذْمُومٌ، وَالْآخَرُ مَحْمُودٌ ؛ فَالتَّكَبُّرُ وَالْبَطَرُ مَذْمُومَانِ، وَالْفَرَحُ وَالنَّشَاطُ مَحْمُودَانِ ؛ وَلِذَلِكَ يُوصَفُ اللَّهُ بِالْفَرَحِ، فَفِي الْحَدِيثِ :( لَلَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ الْعَبْدِ من رَجُلٍ ) الْحَدِيثَ.
وَالْكَسَلُ مَذْمُومٌ شَرْعًا، وَالنَّشَاطُ ضِدُّهُ. وَقَدْ يَكُونُ التَّكَبُّرُ مَحْمُودًا، وَذَلِكَ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَعَلَى الظَّلَمَةِ.
وَحَقِيقَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ الْآنَ أَنَّ الْفَرَحَ إذَا كَانَ بَدَنِيًّا وَصِفَاتٍ لَيْسَ لَهَا فِي الْآخِرَةِ نَصِيبٌ، أَوْ كَانَ النَّشَاطُ إلَى مَا لَا يَنْفَعُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَا يَكُونُ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا نِيَّةٌ دِينِيَّةٌ لِلْمُتَّصِفِ بِهِمَا ؛ فَذَلِكَ الَّذِي ذَمَّ اللَّهُ هَاهُنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي :
الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ :﴿ إنَّك لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ ﴾ :
يَعْنِي لَنْ تَتَوَلَّجَ بَاطِنَهَا، فَتَعْلَمَ مَا فِيهَا، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : يُرِيدُ لَنْ تُسَاوِيَ الْجِبَالَ بِطَوْلِك، وَلَا بِطُولِك، وَإِنَّمَا تَسْتَقْبِلُ مَا أَمَامَك ؛ وَأَيُّ فَضْلٍ لَك فِي ذَلِكَ ؟ وَالْمُسَاوَاةُ فِيهِ مَوْجُودَةٌ بَيْنَ الْخَلْقِ.
وَيُرْوَى أَنَّ سَبَأً دَوَّخَ الْأَرْضَ بِأَجْنَادِهِ شَرْقًا وَغَرْبًا، سَهْلًا وَجَبَلًا، وَقَتَلَ وَأَسَرَ وَبِهِ سُمِّيَ سَبَأٌ وَدَانَ لَهُ الْخَلْقُ، فَلَمَّا قَالَ ذَلِكَ انْفَرَدَ عَنْ أَصْحَابِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ : إنِّي لَمَّا نِلْت مَا لَمْ يَنَلْ أَحَدٌ رَأَيْت الِابْتِدَاءَ بِشُكْرِ هَذِهِ النِّعَمِ ؛ فَلَمْ أَرَ أَوْقَعَ فِي ذَلِكَ من السُّجُودِ لِلشَّمْسِ إذَا أَشْرَقَتْ، فَسَجَدُوا لَهَا، فَكَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ عِبَادَةِ الشَّمْسِ، فَهَذِهِ عَاقِبَةُ الْخُيَلَاءِ وَالتَّكَبُّرِ وَالْمَرَحِ.
قُرِئَ ﴿ سَيِّئُهُ ﴾ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَبِالْهَاءِ، وَبِنَصَبِ الْهَمْزَةِ وَالتَّاءِ، فَمَنْ قَرَأَهُ بِرَفْعِ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ أَرَادَ أَنَّ الْكَلَامَ الْمُتَقَدِّمَ فِيهِ حُسْنٌ مَأْمُورٌ بِهِ، وَفِيهِ سَيِّئٌ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَرَجَعَ الْوَصْفُ بِالسُّوءِ إلَى السِّيءِ مِنْهُ.
وَمَنْ قَرَأَهُ بِالْهَمْزَةِ الْمَنْصُوبَةِ وَالتَّاءِ رَجَعَ إلَى مَا نُهِيَ عَنْهُ مِنْهَا ؛ لِأَنَّهُ أَكْثَرُ من الْمَأْمُورِ بِهِ. وَاخْتَارَ الطَّبَرِيُّ الْأَوَّلَ.
فَإِنْ قِيلَ : فَكَيْفَ يَكُونُ الشَّيْءُ مَكْرُوهًا، وَالْكَرَاهِيَةُ عِنْدَكُمْ إرَادَةُ عَدَمِ الشَّيْءِ، فَكَيْفَ يُوجَدُ مَا أَرَادَ اللَّهُ عَدَمَهُ ؟
قُلْنَا : قَدْ أَجَبْنَا عَنْ ذَلِكَ فِي كِتَابِ شَرْحِ الْمُشْكَلَيْنِ، بِبَسْطٍ. بَيَانُهُ عَلَى الْإِيجَازِ ؛ أَنَّ مَعْنَى مَكْرُوهًا مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي أَحَدِ الْوَجْهَيْنِ، وَمُرَادًا مَأْمُورٌ بِهِ، وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى :﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ ﴾ ؛ أَيْ يَأْمُرُ بِالْيُسْرِ، وَلَا يَأْمُرُ بِالْعُسْرِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ أَيْضًا كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّك مَكْرُوهًا شَرْعًا، أَيْ لَا يُرِيدُ أَنْ يَكُونَ من الشَّرْعِ، وَإِنْ أَرَادَ وُجُودَهُ، كَقَوْلِهِ :﴿ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ ﴾ ؛ مَعْنَاهُ دِينًا لَا وُجُودًا ؛ لِأَنَّهُ وُجِدَ بِإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ من عَبْدِهِ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُهُ.
قَدْ قَدَّمْنَا بَيَانَ الْحِكْمَةِ هَاهُنَا، وَفِي كُتُبِنَا، وَفَسَّرْنَا وُجُوهَهَا وَمَوَارِدَهَا : وَلُبَابُهَا هَاهُنَا أَنَّهَا الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعِلْمِ. وَأَعْظَمُهَا قَدْرًا وَأَشْرَفُهَا مَأْمُورًا مَا بَدَأَ بِهِ من قَوْلِهِ :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إلَّا إيَّاهُ ﴾ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ.
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ، أُمَّهَاتُهَا سِتَّةٌ : الْأَوَّلُ : دَلَالَتُهَا عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَعِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ وَسَائِرِ صِفَاتِهِ الْعُلَا و أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى.
الثَّانِي : تَذْكِرَتُهَا لِلتَّسْبِيحِ بِهَا.
الثَّالِثُ : كُلُّ شَيْءٍ لَهُ يُسَبِّحُ : لَمْحُ الْبَرْقِ، وَصَرِيفُ الرَّعْدِ، وَصَرِيرُ الْبَابِ، وَخَرِيرُ الْمَاءِ.
الرَّابِعُ : قَالَ قَتَادَةُ وَالْحَسَنُ : كُلُّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ.
الْخَامِسُ : قَالَ النَّخَعِيُّ وَغَيْرُهُ : الطَّعَامُ يُسَبِّحُ.
السَّادِسُ : قَالَ أَكْثَرُ النَّاسِ، مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ وَالْحَدِيثَ : كُلُّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ تَسْبِيحًا لَا يَعْلَمُهُ الْآدَمِيُّونَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمُوا نَوَّرَ اللَّهُ بَصَائِرَكُمْ بِعِرْفَانِهِ أَنَّ هَذِهِ مَسْأَلَةٌ كَثُرَ الْخَوْضُ فِيهَا بَيْنَ النَّاسِ. وَقَدْ أَوْضَحْنَاهَا فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ عَلَى مُقْتَضَى أَدِلَّةِ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ ؛ وَتَرْتِيبُ الْقَوْلِ هَاهُنَا أَنَّهُ لَيْسَ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لِلْجَمَادَاتِ - فَضْلًا عَنْ الْبَهَائِمِ - تَسْبِيحٌ بِكَلَامٍ، وَإِنْ لَمْ نَفْقَهْهُ نَحْنُ عَنْهَا ؛ إذْ لَيْسَ من شَرْطِ قِيَامِ الْكَلَامِ بِالْمَحَلِّ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ هَيْئَةٌ آدَمِيَّةٌ، وَلَا وُجُودُ بَلَّةٍ وَلَا رُطُوبَةٍ، وَإِنَّمَا تَكْفِي لَهُ الْجَوْهَرِيَّةُ أَوْ الْجِسْمِيَّةُ خِلَافًا لِلْفَلَاسِفَةِ وَإِخْوَتِهِمْ من الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ يَرَوْنَ الْهَيْئَةَ الْآدَمِيَّةَ وَالْبَلَّةَ وَالرُّطُوبَةَ شَرْطًا فِي الْكَلَامِ، فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا الْأَصْلُ بِأَدِلَّتِهِ الَّتِي تَقَرَّرَتْ فِي مَوْضِعِهِ، وَبِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآدَمِيِّينَ عَرَضٌ يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِيهِمْ، وَلَيْسَ يَفْتَقِرُ الْعَرَضُ إلَّا لِوُجُودِ جَوْهَرٍ أَوْ جِسْمٍ يَقُومُ بِهِ خَاصَّةً، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ من الشُّرُوطِ فَإِنَّمَا هِيَ عَادَةٌ، وَلِلْبَارِي تَعَالَى نَقْضُ الْعَادَةِ وَخَرْقُهَا بِمَا شَاءَ من قُدْرَتِهِ لِمَنْ شَاءَ من مَخْلُوقَاتِهِ وَبَرِّيَّتِهِ. وَلِهَذَا حَنَّ الْجِذْعُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَبَّحَ الْحَصَى فِي كَفِّهِ وَكَفِّ أَصْحَابِهِ، وَكَانَ بِمَكَّةَ حَجَرٌ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ، وَكَانَتْ الصَّحَابَةُ تَسْمَعُ تَسْبِيحَ الطَّعَامَ بِبَرَكَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ كُلُّهُ هَيْئَةٌ، وَلَا وُجِدَتْ لَهُ رُطُوبَةٌ وَلَا بَلَّةٌ، وَعَلَى إنْكَارِ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ وَإِبْطَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ حَامَتْ بِمَا ابْتَدَعَتْهُ من الْمَقَالَاتِ، فَيَعْلَمُ كُلُّ أَحَدٍ أَنَّ دَلَالَةَ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْخَالِقِ ظَاهِرَةٌ، وَتَذْكِرَتُهُ لِلْمُؤْمِنِينَ من الْآدَمِيِّينَ وَالْمُسَبِّحِينَ من الْمَخْلُوقِينَ بَيِّنَةٌ.
وَهَذَا وَإِنْ سُمِّيَ تَسْبِيحًا فَذَلِكَ شَائِعٌ لُغَةً، كَمَا كَانَتْ الْعَرَبُ تُعَبِّرُ عَنْ لِسَانِ الْحَالِ بِلِسَانِ الْمَقَالِ، فَتَقُولُ : يَشْكُو إلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى. وَكَمَا قَالَتْ : قِفْ بِالدِّيَارِ فَقُلْ : يَا دِيَارُ مَنْ غَرَسَ أَشْجَارَك، وَجَنَى ثِمَارَك، وَأَجْرَى أَنْهَارَك، فَإِنْ لَمْ تُجِبْك جُؤَارًا أَجَابَتْك اعْتِبَارًا ؛ وَكَمَا قَالَ شَاعِرُهُمْ عَنْ شَجَرَةٍ :
رُبَّ رَكْبٍ قَدْ أَنَاخُوا حَوْلَنَا | يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ بِالْمَاءِ الزُّلَالِ |
سَكَتَ الدَّهْرُ زَمَانًا عَنْهُمْ | وَكَذَاك الدَّهْرُ حَالًا بَعْدَ حَالِ |
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ كُلَّ ذِي رُوحٍ يُسَبِّحُ بِنَفْسِهِ وَصُورَتُهُ، فَمِثْلُهُ فِي الدَّلَالَةِ وَفِي الْمَجَازِ فِي التَّسْمِيَةِ.
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ الطَّعَامَ يُسَبِّحُ الْتَحَقَ بِالْجَمَادِ فِي الْمَعْنَى وَالْعِبَارَةُ عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَإِنْ قُلْنَا : إنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ تَسْبِيحًا رَبُّنَا بِهِ أَعْلَمُ، لَا نَعْلَمُهُ نَحْنُ ؛ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْقُرْآنِ لَمْ نَكْذِبْ، وَلَمْ نَغْلَطْ، وَلَا رَكِبْنَا مُحَالًا فِي الْعَقْلِ ؛ وَنَقُولُ : إنَّهَا تُسَبِّحُ دَلَالَةً وَتَذْكِرَةً وَهَيْئَةً وَمَقَالَةً، وَنَحْنُ لَا نَفَقُهُ ذَلِكَ كُلَّهُ، وَلَا نَعْلَمُ، إنَّمَا يَعْلَمُهُ مَنْ خَلَقَهُ، كَمَا قَالَ :﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ﴾. وَقَدْ مَهَّدْنَا الْقَوْلَ فِي ذَلِكَ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ عِنْدَ قَوْلِهِ :( شَكَتْ النَّارُ إلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ، أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ) هَلْ هُوَ بِكَلَامٍ، أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلِهِ : امْتَلَأَ الْحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي وَالْكُلُّ جَاءَ من عِنْدِنَا، وَرَبُّنَا عَلَيْهِ قَادِرٌ.
وَأَكْمَلُ التَّسْبِيحِ تَسْبِيحُ الْمَلَائِكَةِ وَالْآدَمِيِّينَ وَالْجِنِّ فَإِنَّهُ تَسْبِيحٌ مَقْطُوعٌ بِأَنَّهُ كَلَامٌ مَعْقُولٌ، مَفْهُومٌ لِلْجَمِيعِ بِعِبَارَةٍ مُخْلَصَةٍ، وَطَاعَةٍ مُسَلَّمَةٍ، وَأَجَلُّهَا مَا اقْتَرَنَ بِالْقَوْلِ فِيهَا فِعْلٌ من رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ مَجْمُوعُهُمَا، وَهِيَ صَلَاةُ الْآدَمِيِّينَ ؛ وَذَلِكَ غَايَةُ التَّسْبِيحِ وَبِهِ سُمِّيَتْ الصَّلَاةُ سُبْحَةً.
فَإِنْ قِيلَ : فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ :﴿ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ :
قُلْنَا : أَمَّا الْكُفَّارُ الْمُنْكِرُونَ لِلصَّانِعِ فَلَا يَفْقَهُونَ من وُجُوهِ التَّسْبِيحِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ شَيْئًا كَالْفَلَاسِفَةِ، فَإِنَّهُمْ جَهِلُوا دَلَالَتَهَا عَلَى الصَّانِعِ، فَهُمْ لِمَا وَرَاءَ ذَلِكَ أَجْهَلُ.
وَأَمَّا مَنْ عَرَفَ الدَّلَالَةَ وَفَاتَهُ مَا وَرَاءَهَا فَهُوَ يَفْقَهُ وَجْهًا وَيَخْفَى عَلَيْهِ آخَرُ، فَتَكُونُ الْآيَةُ عَلَى الْعُمُومِ فِي حَقِّ الْفَلَاسِفَةِ، وَتَكُونُ عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا وَرَاءَهُمْ، مِمَّنْ أَدْرَكَ شَيْئًا من تَسْبِيحِهِمْ ؛ لِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ فَجَعَلَ تَصْرِيفَ الظِّلِّ ذُلًّا، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِالسُّجُودِ، وَهِيَ غَايَةُ الْمَذَلَّةِ لِمَنْ لَهُ بِالْحَقِيقَةِ وَحْدَهُ الْعِزَّةُ، وَهَذَا تَوْقِيفٌ نَفِيسٌ لِلْمَعْرِفَةِ ؛ فَإِذَا انْتَهَيْتُمْ إلَيْهِ عَارِفِينَ بِمَا تَقَدَّمَ من بَيَانِنَا فَقِفُوا عِنْدَهُ، فَلَيْسَ وَرَاءَهُ مَزِيدٌ، إلَّا فِي تَفْصِيلِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ ؛ وَذَلِكَ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْأُصُولِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ وَاسْتَفْزِزْ ﴾ : فِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : اسْتَخِفَّهُمْ.
الثَّانِي : اسْتَجْهِلْهُمْ.
وَلَا يُخَفُّ إلَّا مَنْ يَجْهَلُ ؛ فَالْجَهْلُ تَفْسِيرٌ مَجَازِيٌّ، وَالْخِفَّةُ تَفْسِيرٌ حَقِيقِيٌّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ بِصَوْتِك ﴾ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : بِدُعَائِك.
الثَّانِي : بِالْغِنَاءِ وَالْمِزْمَارِ.
الثَّالِثُ : كُلُّ دَاعٍ دَعَاهُ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
فَأَمَّا الْقَوْلُ الْأَوَّلُ فَهُوَ الْحَقِيقَةُ، وَأَمَّا الثَّانِي وَالثَّالِثُ فَهُمَا مُجَازَانِ، إلَّا أَنَّ الثَّانِيَ مَجَازٌ خَاصٌّ، وَالثَّالِثُ مَجَازٌ عَامٌّ.
( وَقَدْ دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ بَيْتَ عَائِشَةَ، وَفِيهِ جَارِيَتَانِ من جِوَارِي الْأَنْصَارِ تُغَنِّيَانِ بِمَا تَقَاوَلَتْ بِهِ الْأَنْصَارُ يَوْمَ بُعَاثٍ، فَقَالَ : أَمِزْمَارُ الشَّيْطَانِ فِي بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، فَإِنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ ). فَلَمْ يُنْكِرْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ تَسْمِيَةَ الْغِنَاءِ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ ؛ وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُبَاحَ قَدْ يَسْتَدْرِجُ بِهِ الشَّيْطَانُ إلَى الْمَعْصِيَةِ أَكْثَرَ وَأَقْرَبَ إلَى الِاسْتِدْرَاجِ إلَيْهَا بِالْوَاجِبِ، فَيَكُونُ إذَا تَجَرَّدَ مُبَاحًا، وَيَكُونُ عِنْدَ الدَّوَامِ وَمَا تَعَلَّقَ بِهِ الشَّيْطَانُ من الْمَعَاصِي حَرَامًا، فَيَكُونُ حِينَئِذٍ مِزْمَارَ الشَّيْطَانِ وَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( نُهِيت عَنْ صَوْتَيْنِ أَحْمَقَيْنِ فَاجِرَيْنِ فَذَكَرَ الْغِنَاءَ وَالنَّوْحَ ). وَقَدَّمْنَا شَرْحَ ذَلِكَ كُلِّهِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : قَوْلُهُ :﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ﴾ : وَذَلِكَ قَوْلُهُ :﴿ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ﴾. وَهَذَا تَفْسِيرُ أَنَّ صَوْتَهُ أَمْرُهُ بِالْبَاطِلِ، وَدُعَاؤُهُ إلَيْهِ عَلَى الْعُمُومِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا كَانَتْ الْعَرَبُ تَدِينُهُ من تَحْرِيمِ بَعْضِ الْأَمْوَالِ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ وَبَعْضِ الْأَوْلَادِ، حَسْبَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَا شَرَحْنَاهُ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ :﴿ فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا ﴾ ؛ وَقَدْ أَوْضَحْنَا ذَلِكَ كُلَّهُ.
قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ رُكُوبَ الْبَحْرِ جَائِزٌ عَلَى الْعُمُومِ وَالْإِطْلَاقِ، وَقَسَّمْنَا وُجُوهَ رُكُوبِهِ فِي مَقَاصِدِ الْخَلْقِ بِهِ، وَذَكَرْنَا أَنَّ من جُمْلَتِهِ التِّجَارَةَ وَجَلْبَ الْمَنَافِعِ من بَعْضِ الْبِلَادِ إلَى بَعْضٍ، وَهَذَا تَصْرِيحٌ بِذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ :﴿ لِتَبْتَغُوا من فَضْلِهِ ﴾ يَعْنِي التِّجَارَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى :﴿ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا من رَبِّكُمْ ﴾. وَقَالَ :﴿ فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا من فَضْلِ اللَّهِ ﴾. وَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ فِي هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ التِّجَارَةُ ؛ فَكَذَلِكَ هَذِهِ الْآيَةُ ؛ وَكَذَلِكَ يَدُلُّ قوله :
فِيهَا سَبْعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى :﴿ أَقِمْ الصَّلَاةَ ﴾ : أَيْ اجْعَلْهَا قَائِمَةً، أَيْ دَائِمَةً. وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ : وَفِيهِ قَوْلَانِ :
أَحَدُهُمَا : زَالَتْ عِنْدَ كَبِدِ السَّمَاءِ ؛ قَالَهُ عُمَرُ، وَابْنُ عُمَرَ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَطَائِفَةٌ سِوَاهُمْ من عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ وَغَيْرُهُمْ.
الثَّانِي : أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْغُرُوبُ ؛ قَالَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ، وَعَلِيٌّ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَرُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ :﴿ غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ : فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : إقْبَالُ ظُلْمَتِهِ.
الثَّانِي : اجْتِمَاعُ ظُلْمَتِهِ.
الثَّالِثُ : مَغِيبُ الشَّفَقِ. وَقَدْ قَيَّدْت عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الدُّلُوكَ إنَّمَا سُمِّيَ بِهِ ؛ لِأَنَّ الرَّجُلَ يَدْلُكُ عَيْنَيْهِ إذَا نَظَرَ إلَى الشَّمْسِ فِيهِ، أَمَّا فِي الزَّوَالِ فَلِكَثْرَةِ شُعَاعِهَا، وَأَمَّا فِي الْغُرُوبِ فَلِيَتَبَيَّنَهَا، وَهَذَا لَوْ نُقِلَ عَنْ الْعَرَبِ لَكَانَ قَوِيًّا، وَقَدْ قَالَ الشَّاعِرُ :
هَذَا مُقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحِ | حَتَّى يُقَالَ دَلَكْت بَرَاحِ |
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ : دُلُوكُ الشَّمْسِ مَيْلُهَا. وَغَسَقُ اللَّيْلِ اجْتِمَاعُ اللَّيْلِ وَظُلْمَتُهُ وَرِوَايَةُ مَالِكٍ عَنْهُ أَصَحُّ من رِوَايَةِ غَيْرِهِ، وَهُوَ اخْتِيَارُ مَالِكٍ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالنَّاسُ يَتَمَارَوْنَ فِي الشَّمْسِ لَمْ تَغِبْ، فَقَالَ : مَا شَأْنُكُمْ ؟ قَالُوا : نَرَى أَنَّ الشَّمْسَ لَمْ تَغِبْ. قَالَ : هَذَا وَاَلَّذِي لَا إلَهَ غَيْرُهُ وَقْتُ هَذِهِ الصَّلَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ :﴿ أَقِمْ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ ؛ قَالَ : وَهَذَا دُلُوكُ الشَّمْسِ، وَهَذَا غَسَقُ اللَّيْلِ.
وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ : أَنَّ الدُّلُوكَ هُوَ الْمَيْلُ، وَلَهُ أَوَّلٌ عِنْدَنَا وَهُوَ الزَّوَالُ، وَآخِرٌ وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَكَذَلِكَ الْغَسَقُ هُوَ الظُّلْمَةُ، وَلَهَا ابْتِدَاءٌ وَانْتِهَاءٌ، فَابْتِدَاؤُهَا عِنْدَ دُخُولِ اللَّيْلِ، وَانْتِهَاؤُهَا عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، فَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ الْآيَةَ تَضَمَّنَتْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ، فَقَوْلُهُ : دُلُوكِ الشَّمْسِ يَتَنَاوَلُ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَقَوْلُهُ :﴿ غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ اقْتَضَى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَقَوْلُهُ :﴿ قُرْآنَ الْفَجْرَ ﴾ اقْتَضَى صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَهِيَ :
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : وَسَمَّى صَلَاةَ الصُّبْحِ قُرْآنًا لِيُبَيِّنَ أَنَّ رُكْنَ الصَّلَاةِ وَمَقْصُودَهَا الْأَكْبَرُ الذِّكْرُ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى :﴿ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ من الْقُرْآنِ ﴾ ؛ مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً، وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، يَقُولُ الْعَبْدُ : الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَقُولُ اللَّهُ : حَمِدَنِي عَبْدِي ). ( وَيَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي عَلَّمَهُ الصَّلَاةَ : اقْرَأْ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ وَمَا تَيَسَّرَ مَعَك من الْقُرْآنِ )، مَعْنَاهُ صَلُّوا عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ، إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَهِيَ أَطْوَلُ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ الْفَجْرِ ﴾ :
يَعْنِي سَيَلَانَ الضَّوْءِ، وَجَرَيَانَ النُّورِ فِي الْأُفُقِ، من فَجَرَ الْمَاءُ وَهُوَ ظُهُورُهُ وَسَيَلَانُهُ، فَيَكُونُ كَثِيرًا، وَمِنْ هَذَا الْفَجْرُ وَهُوَ كَثْرَةُ الْمَاءِ وَهُوَ ابْتِدَاءُ النَّهَارِ وَأَوَّلُ الْيَوْمِ وَالْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ عَلَى الصَّائِمِ ؛ وَتَجُوزُ فِيهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ فِعْلًا وَتَجِبُ إلْزَامًا فِي الذِّمَّةِ وَحَتْمًا، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ فِعْلُهَا نَدْبًا، حَسْبَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ فِيهَا من مُوَاظَبَتِهِ عَلَى صَلَاتِهَا فِي الْوَقْتِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالْمَنَازِلِ، لَا بِالطَّالِعِ مِنْهَا، وَلَا بِالْغَارِبِ، وَلَا بِالْمُتَوَسِّطِ فِي كَبِدِ السَّمَاءِ ؛ لِأَنَّك إذَا تَرَاءَيْت الطَّالِعَ أَوْ الْغَارِبَ فَتَرَاءَى الْفَجْرُ أَوَّلًا ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْأَصْلِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالرُّجُوعُ إلَى الْبَدَلِ ؛ وَإِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ مَوَاقِيتَ الصَّلَاةِ بَيِّنَةً لِيَتَسَاوَى فِي دَرْكِهَا الْعَامِّيُّ وَالْخَاصِّيُّ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ نَصَبَهَا بَيِّنَةً لِلْأَبْصَارِ، ظَاهِرَةً دُونَ اسْتِبْصَارٍ، فَلَا عُذْرَ لِأَحَدٍ أَنْ يُقَلِّبَهَا خُفْيَةً ؛ فَذَلِكَ عَكْسُ الشَّرِيعَةِ، وَخَلْطُ التَّكْلِيفِ وَتَبْدِيلُ الْأَحْكَامِ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : قَوْلُهُ :﴿ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ : يَعْنِي مَشْهُودًا بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ وَالْكَاتِبِينَ. ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من رِوَايَةِ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ قَالَ :( يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ، وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ. ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ - وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ - كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادِي ؟ فَيَقُولُونَ : تَرَكْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ، وَأَتَيْنَاهُمْ وَهُمْ يُصَلُّونَ ).
وَبِهَذَا فُضِّلَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى سَائِرِ الصَّلَوَاتِ، وَيُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الْعَصْرُ، فَيَكُونَانِ جَمِيعًا أَفْضَلَ الصَّلَوَاتِ، وَيَتَمَيَّزُ عَلَيْهَا الصُّبْحُ بِزِيَادَةِ فَضْلٍ حَتَّى تَكُونَ الْوُسْطَى، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : ذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنَّ صَلَاةَ الظُّهْرِ يَتَمَادَى وَقْتُهَا من الزَّوَالِ إلَى الْغُرُوبِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَلَّقَ وُجُوبَهَا عَلَى الدُّلُوكِ، وَهَذَا دُلُوكٌ كُلُّهُ ؛ قَالَهُ الْأَوْزَاعِيُّ، وَأَبُو حَنِيفَةَ فِي تَفْصِيلٍ، وَأَشَارَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ.
وَقَالَ آخَرُونَ : وَقْتُ الْمَغْرِبِ يَكُونُ من الْغُرُوبِ إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ ؛ لِأَنَّهُ غَسَقٌ كُلُّهُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ من مَذْهَبِ مَالِكٍ وَقَوْلُهُ فِي مُوَطَّئِهِ الَّذِي قَرَأَهُ طُولَ عُمُرِهِ، وَأَمْلَاهُ حَيَاتَهُ.
وَمِنْ مَسَائِلِ أُصُولِ الْفِقْهِ الَّتِي بَيَّنَّاهَا فِيهَا، وَأَشَرْنَا إلَيْهَا فِي كُتُبِنَا عِنْدَ جَرَيَانِهَا أَنَّ الْأَحْكَامَ الْمُعَلَّقَةَ بِالْأَسْمَاءِ، هَلْ تَتَعَلَّقُ بِأَوَائِلِهَا أَمْ بِآخِرِهَا ؟ فَيَرْتَبِطُ الْحُكْمُ بِجَمِيعِهَا.
وَقَدْ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْعُلَمَاءُ، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي مَسَائِلِ مَالِكٍ عَلَى وَجْهٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مُخْتَلِفٌ عِنْدَهُ.
وَالْأَقْوَى فِي النَّظَرِ أَنْ يَرْتَبِطَ الْحُكْمُ بِأَوَائِلِهَا، لِئَلَّا يَعُودَ ذِكْرُهَا لَغْوًا، فَإِذَا ارْتَبَطَ بِأَوَائِلِهَا جَرَى بَعْدَ ذَلِكَ النَّظَرُ فِي تَعَلُّقِهِ بِالْكُلِّ إلَى الْآخِرِ أَمْ اقْتِصَارُهُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى مَا يُعْطِيه الدَّلِيلُ، وَلَا بُدَّ من تَعَلُّقِ الصَّلَاةِ بِالزَّوَالِ ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ الدُّلُوكِ. وَكُنَّا نُعَلِّقُهَا بِالْجَمِيعِ، إلَّا أَنَّ صَلَاةَ الْعَصْرِ قَدْ أَخَذَتْ مِنْهَا وَقْتَهَا، من كَوْنِ ظِلِّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ ؛ فَانْقَطَعَ حُكْمُ الظُّهْرِ لِدُخُولِ وَقْتِ الْعَصْرِ، فَبَقِيَ النَّظَرُ فِي اشْتِرَاكِهِمَا مَعًا، بِدَلِيلٍ آخَرَ بَيَّنَّاهُ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَشَرْحِ الْحَدِيثِ، وَفِيهِ طُولٌ.
وَأَمَّا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ فَأَمْرُهَا أَبْيَنُ من الْأَوَّلِ ؛ لِأَنَّهَا تَتَعَلَّقُ بِآخِرِ الدُّلُوكِ، وَهُوَ الْغُرُوبُ، وَلَيْسَ بَعْدَهَا صَلَاةٌ تُقْطَعُ بِهَا، وَتَأْخُذُ الْوَقْتَ مِنْهَا إلَى مَغِيبِ الشَّفَقِ، فَهَلْ يَتَمَادَى وَقْتُهَا إلَى دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْأُخْرَى، أَمْ يَتَعَلَّقُ بِالْأَوَّلِ خَاصَّةً ؟
وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ هَذَا كُلَّهُ، فَقَالَ :( وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَحْضُرْ وَقْتُ الْعِشَاءِ ). وَقَالَ أَيْضًا فِيهِ :( وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَا لَمْ يَسْقُطْ نُورُ الشَّفَقِ ) ؛ فَارْتَفَعَ الْخِلَافُ بِبَيَانِ مُبَلِّغِ الشَّرِيعَةِ.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : قَوْلُهُ :﴿ فَتَهَجَّدْ بِهِ ﴾ :
يَعْنِي اسْهَرْ بِهِ. وَالْهُجُودُ : النَّوْمُ، وَالتَّهَجُّدُ تَفَعُّلٌ، وَهُوَ لِاكْتِسَابِ الْفِعْلِ وَإِثْبَاتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَقَدْ يَأْتِي لِنَفْيِهِ فِي حُرُوفٍ مَعْدُودَةٍ، جِمَاعُهَا سَبْعَةٌ :
تَهَجَّدَ : نَفَى الْهُجُودَ، تَخَوَّفَ : نَفَى الْخَوْفَ، تَحَنَّثَ : نَفَى الْحِنْثَ، تَنَجَّسَ : أَلْقَى النَّجَاسَةَ عَنْ نَفْسِهِ. تَحَرَّجَ، نَفَى الْحَرَجَ، تَأَثَّمَ : نَفَى الْإِثْمَ، تَعَذَّرَ : نَفَى الْعُذْرَ. تَقَذَّرَ : نَفَى الْقَذَرَ. وَفِي الْبُخَارِيِّ : تَجَزَّعَ : نَفَى الْجَزَعَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : قَوْلُهُ :﴿ نَافِلَةً لَك ﴾ : وَالنَّفَلُ هُوَ الزِّيَادَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ ؛ وَفِي وَجْهِ الزِّيَادَةِ هَاهُنَا قَوْلَانِ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ زِيَادَةٌ عَلَى فَرْضِهِ خَاصَّةً دُونَ النَّاسِ.
الثَّانِي : قَوْلُهُ :﴿ نَافِلَةً لَك ﴾ ؛ أَيْ زِيَادَةً ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكَفِّرُ شَيْئًا ؛ إذْ غُفِرَ لَهُ ذَنْبُهُ.
وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ فَاسِدٌ ؛ إذْ نَفْلُهُ وَفَرْضُهُ لَا يُصَادِفُ ذَنْبًا، و لَا صَلَاةُ اللَّيْلِ وَلَا صَلَاةُ النَّهَارِ تُكَفِّرَانِ خَطِيئَةً ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مَعْدُومٌ فِي حَدِّهِ وُجُودًا، مَعْدُومٌ فِي حَقِّهِ مُؤَاخَذَةً لَوْ كَانَ لِفَضْلِ الْمَغْفِرَةِ من اللَّهِ عَلَيْهِ. وَمِنْ خَصَائِصِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيَامُ اللَّيْلِ، وَكَانَ يَقُومُ حَتَّى تَرِمَ قَدَمَاهُ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا ذَلِكَ فِي سُورَةِ " الْأَحْزَابِ " وَفِي سُورَةِ " الْمُزَّمِّلِ ".
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي صِفَةِ هَذَا التَّهَجُّدِ
وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : أَنَّهُ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ.
الثَّانِي : أَنَّهُ الصَّلَاةُ بَعْدَ النَّوْمِ.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ.
وَهَذَا دَعَاوَى من التَّابِعِينَ فِيهَا، وَلَعَلَّهُمْ إنَّمَا عَوَّلُوا عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَنَامُ وَيُصَلِّي، وَيَنَامُ وَيُصَلِّي، فَعَوَّلُوا عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ كَانَ امْتِثَالًا لِهَذَا الْأَمْرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فَالْأَمْرُ فِيهِ قَرِيبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : فِي وَجْهِ كَوْنِ قِيَامِ اللَّيْلِ سَبَبًا لِلْمَقَامِ الْمَحْمُودِ.
وَفِيهِ قَوْلَانِ لِلْعُلَمَاءِ :
أَحَدُهُمَا : أَنَّ الْبَارِئَ يَجْعَلُ مَا شَاءَ من فِعْلِهِ سَبَبًا لِفَضْلِهِ من غَيْرِ مَعْرِفَةٍ بِوَجْهِ الْحِكْمَةِ فِيهِ، أَوْ بِمَعْرِفَةِ وَجْهِ الْحِكْمَةِ.
الثَّانِي : أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ فِيهِ الْخَلْوَةُ مَعَ الْبَارِئِ وَالْمُنَاجَاةُ دُونَ النَّاسِ ؛ فَيُعْطَى الْخَلْوَةَ بِهِ وَمُنَاجَاتُهُ فِي الْقِيَامَةِ، فَيَكُونُ مَقَامًا مَحْمُودًا، وَيَتَفَاضَلُ فِيهِ الْخَلْقُ بِحَسَبِ دَرَجَاتِهِمْ ؛ فَأَجَلُّهُمْ فِيهِ دَرَجَةً مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ يُعْطَى من الْمَحَامِدِ مَا لَمْ يُعْطَ أَحَدٌ، وَيَشْفَعُ وَلَا يَشْفَعُ أَحَدٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
قَدْ أَطَلْنَا النَّفَسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ فِي كِتَابِ الْمُشْكَلَيْنِ وَشَرْحِ الصَّحِيحِ بِمَا يَقِفُ بِكُمْ فِيهَا عَلَى الْمَعْرِفَةِ، فَأَمَّا الْآنَ فَخُذُوا نَبْذَةً تُشْرِفُ بِكُمْ عَلَى الْغَرَضِ :
ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من طَرِيقِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَغَيْرِهِ قَالَ ( بَيْنَا أَنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَسِيبٍ إذْ مَرَّ الْيَهُودُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ. فَقَالَ : مَا رَابَكُمْ إلَيْهِ ؟ لَا يَسْتَقْبِلْنَكُمْ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ. قَالُوا : سَلُوهُ، فَسَأَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَأَمْسَكَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ شَيْئًا فَعَلِمْت أَنَّهُ يُوحَى إلَيْهِ، فَقُمْت مَقَامِي، فَلَمَّا نَزَلَ الْوَحْيُ قَالَ :﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنْ الرُّوحِ ﴾ ) اْلآيَةَ. قَالَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ : لَمْ يَأْتِهِ فِي ذَلِكَ جَوَابٌ، وَقَدْ قَالَ بَكْرُ بْنُ مُضَرَ فِي رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ عَنْهُ : إنَّ الْيَهُودَ قَالُوا : سَلُوهُ عَنْ الرُّوحِ، فَإِنْ أَخْبَرَكُمْ فَلَيْسَ بِنَبِيٍّ، وَإِنْ لَمْ يُخْبِرْكُمْ فَهُوَ نَبِيٌّ، فَسَأَلُوهُ فَنَزَلَتْ الْآيَةُ.
وَمَعْنَى هَذَا أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَتَكَلَّمُونَ مَعَ الْخَلْقِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ، وَلَا يُفِيضُونَ مَعَهُمْ فِي الْمُشْكِلَاتِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ فِي الْبَيِّنِ من الْأُمُورِ الْمَعْقُولَاتِ، وَالرُّوحُ خَلْقٌ من خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى جَعَلَهُ اللَّهُ فِي الْأَجْسَامِ، فَأَحْيَاهَا بِهِ، وَعَلِمَهَا وَأَقْدَرَهَا، وَبَنَى عَلَيْهَا الصِّفَاتِ الشَّرِيفَةَ، وَالْأَخْلَاقَ الْكَرِيمَةَ، وَقَابَلَهَا بِأَضْدَادِهَا لِنُقْصَانِ الْآدَمِيَّةِ، فَإِذَا أَرَادَ الْعَبْدُ إنْكَارَهَا لَمْ يَقْدِرْ لِظُهُورِ آثَارِهَا، وَإِذَا أَرَادَ مَعْرِفَتَهَا وَهِيَ بَيْنَ جَنْبَيْهِ لَمْ يَسْتَطِعْ ؛ لِأَنَّهُ قَصُرَ عَنْهَا وَقَصُرَ بِهِ دُونَهَا. وَقَالَ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ : إنَّهُ سُبْحَانَهُ رَكَّبَ ذَلِكَ فِيهِ عِبْرَةً، كَمَا قَالَ :﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ لِيَرَى أَنَّ الْبَارِئَ تَعَالَى لَا يُقْدَرُ عَلَى جَحْدِهِ لِظُهُورِ آيَاتِهِ فِي أَفْعَالِهِ :
فَفِي كُلِّ شَيْءٍ آيَةٌ | تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ |
فِيهَا مَسْأَلَتَانِ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي تَفْسِيرِ الْآيَاتِ : وَفِيهَا خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : هِيَ يَدُهُ، وَعَصَاهُ، وَلِسَانُهُ، وَالْبَحْرُ، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ.
الثَّانِي : أَنَّهَا الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْبَحْرُ، وَعَصَاهُ، وَالطَّمْسَةُ، وَالْحَجَرُ ؛ قَالَهُ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ لِعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ : مَا الطَّمْسَةُ قَالَ قَوْلُهُ :﴿ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ﴾. قَالَ : فَدَعَا عُمَرُ بِخَرِيطَةٍ كَانَتْ لِعَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ أُصِيبَتْ بِمِصْرَ، فَإِذَا فِيهَا الْجَوْزَةُ وَالْبَيْضَةُ وَالْعَدَسَةُ، مُسِخَتْ حِجَارَةً كَانَتْ من أَمْوَالِ فِرْعَوْنَ بِمِصْرَ.
الثَّالِثُ : رَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنْ مَالِكٍ هِيَ : الْحَجَرُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، و الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالطَّوْدُ. وَقَالَ مَالِكٌ : الطُّوفَانُ : الْمَاءُ.
الرَّابِعُ : رَوَى مُطَرِّفٌ عَنْ مَالِكٍ هِيَ : الطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ، وَالْعَصَا، وَالْيَدُ، وَالْبَحْرُ و الْجَبَلُ، فِي أَقْوَالٍ كَثِيرَةٍ.
الْخَامِسُ : رَوَى التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ ( أَنْ يَهُودِيَّيْنِ سَأَلَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ التِّسْعِ الْآيَاتِ ؛ فَقَالَ : هِيَ أَلَّا تُشْرِكُوا بِاَللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْخَرُوا، وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَاتِ، وَلَا تُوَلَّوْا الْأَدْبَارَ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً يَهُودُ أَلَّا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ. فَقَبَّلَا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقَالَا : نَشْهَدُ أَنَّك نَبِيٌّ. فَقَالَ : وَمَا يَمْنَعُكُمَا أَنْ تَتَّبِعَانِي ؟ فَقَالَا : إنَّ دَاوُد دَعَا أَلَّا يَزَالَ من ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ، وَإِنَّا نَخَافُ إنْ اتَّبَعْنَاك أَنْ تَقْتُلَنَا يَهُودُ ).
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : الَّذِي جَرَى من الْأَحْكَامِ هَاهُنَا ذِكْرُ الْعَصَا، وَسَنَسْتَوْفِي الْقَوْلَ فِيهَا فِي سُورَةِ " طَهَ " إنْ شَاءَ اللَّهُ.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ :
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : فِي سَبَبِ نُزُولِهَا : وَفِي ذَلِكَ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ :
الْأَوَّلُ : رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الصَّلَاةَ هُنَا الْقِرَاءَةُ فِي الصَّلَاةِ قَالَ :( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا صَلَّى بِأَصْحَابِهِ رَفَعَ صَوْتَهُ بِالْقُرْآنِ، فَإِذَا سَمِعَ ذَلِكَ الْمُشْرِكُونَ سَبُّوا الْقُرْآنَ، وَمَنْ أَنْزَلَه وَمَنْ جَاءَ بِهِ ؛ فَقَالَ اللَّهُ لِنَبِيِّهِ :﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك ﴾ فَيَسْمَعَ الْمُشْرِكُونَ ﴿ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾ حَتَّى لَا يَسْمَعَكَ أَصْحَابُك الْآيَةَ ).
الثَّانِي : أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الدُّعَاءِ ؛ قَالَهُ الْبُخَارِيُّ، وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ، وَابْنِ وَهْبٍ أَيْضًا، رَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ.
الثَّالِثُ : قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ : قِيلَ لِمُحَمَّدٍ : لَا تُحْسِنْ صَلَاتَك فِي الْعَلَانِيَةِ مُرَاءَاةً، وَلَا تُسِيئُهَا فِي الْمُخَافَتَةِ.
الرَّابِعُ : رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ لِأَمْرٍ ؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ لَمَّا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ فِي عَدَدِ خَزَنَةِ النَّارِ :﴿ عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ﴾ قَالُوا فِي ذَلِكَ مَا قَالُوا، وَجَعَلُوا إذَا سَمِعُوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَفَرَّقُونَ عَنْهُ، فَكَانَ الرَّجُلُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَسْمَعَ اسْتَرَقَ السَّمْعَ دُونَهُمْ فَرَقًا مِنْهُمْ، فَإِذَا رَأَى أَنَّهُمْ قَدْ عَرَفُوا أَنَّهُ يَسْتَمِعُ ذَهَبَ خَشْيَةَ أَذَاهُمْ، وَإِنْ خَفَضَ صَوْتَهُ يَظُنُّ الَّذِي يَسْمَعُ أَنَّهُمْ لَا يَسْمَعُونَ من قِرَاءَتِهِ شَيْئًا وَسَمِعَ هُوَ شَيْئًا مِنْهُمْ أَصَاخَ لَهُ يَسْمَعُ مِنْهُ، فَقِيلَ لَهُ : لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك فَيَتَفَرَّقُوا عَنْك، وَلَا تُخَافِتْ بِهَا فَلَا يَسْمَعُهَا مَنْ يَسْتَرِقُ السَّمْعَ، رَجَاءَ أَنْ يَرْعَوِيَ إلَى بَعْضِ مَا يَسْمَعُ فَيَنْتَفِعُ بِهِ الْوَسْنَانُ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ : كَانَ أَبُو بَكْرٍ يُخَافِتُ، وَعُمَرُ يَجْهَرُ، فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ : أُسْمِعُ مَنْ أُنَاجِي. وَقِيلَ لِعُمَرَ فِيهِ، فَقَالَ : أُوقِظُ الْوَسْنَانَ، وَأَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَأَذْكُرُ الرَّحْمَنَ. فَقِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ : ارْفَعْ قَلِيلًا. وَقِيلَ لِعُمَرَ : اخْفِضْ قَلِيلًا، وَذَكَرَ هَذَا عِنْدَ قَوْله تَعَالَى :﴿ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا ﴾.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : عَبَّرَ اللَّهُ هَاهُنَا بِالصَّلَاةِ عَنْ الْقِرَاءَةِ، كَمَا عَبَّرْ بِالْقِرَاءَةِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ :﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا مُرْتَبِطٌ بِالْآخَرِ ؛ الصَّلَاةُ تَشْتَمِلُ عَلَى قِرَاءَةٍ وَرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، فَهِيَ من جُمْلَةِ أَجْزَائِهَا، فَيُعَبَّرُ بِالْجُزْءِ عَنْ الْجُمْلَةِ وَبِالْجُمْلَةِ عَنْ الْجُزْءِ، عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي الْمَجَازِ وَهُوَ كَثِيرٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : فِي تَتَبُّعِ الْأَسْبَابِ بِالتَّنْقِيحِ :
أَمَّا رِوَايَاتُ ابْنِ عَبَّاسٍ فَأَصَحُّهَا الْأَوَّلُ وَأَمَّا رِوَايَةُ عَائِشَةَ فَيُعَضِّدُهَا مَا رُوِيَ ( أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ فِي مَسِيرٍ، فَرَفَعُوا أَصْوَاتَهُمْ بِالتَّكْبِيرِ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ، وَلَا غَائِبًا، وَإِنَّمَا تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا ؛ إنَّهُ بَيْنَكُمْ و بَيْنَ رُءُوسِ رِحَالِكُمْ ).
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنْ صَحَّ فَيَكُونُ خِطَابًا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والْمُرَادُ أُمَّتُهُ، إذْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ شَيْءٌ من ذَلِكَ.
وَأَمَّا الرَّابِعُ فَمُحْتَمَلٌ، لَكِنَّهُ لَمْ يَصِحَّ.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ فَيُشْبِهُ الْحَدِيثَ الْوَارِدَ فِي الدُّعَاءِ، وَلَعَلَّ ذَلِكَ مَحْمُولٌ عَلَى الزِّيَادَةِ فِي الْجَهْرِ، حَتَّى يَضُرَّ ذَلِكَ بِالْقَارِئِ، وَلَا يُمْكِنُهُ التَّمَادِي عَلَيْهِ، فَأَخَذَ بِالْوَسَطِ من الْجَهْرِ الْمُتْعِبِ وَالْإِسْرَارِ الْمُخَافِتِ. وَقَدْ رَأَيْت بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ فِيهَا قَوْلًا سَادِسًا ؛ وَهُوَ لَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِك بِالنَّهَارِ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا بِاللَّيْلِ، وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا سَنَّهَا اللَّهُ لِنَبِيِّهِ، وَأَوْعَزَ بِهَا إلَيْكُمْ.