سورة بني إسرائيل مكية، وقيل : إلا قوله :" وإن كادوا ليفتنونك " إلى ثمان آيات. وهي مائة وإحدى وعشرة آية، واثنا عشر ركوعا.
ﰡ
﴿ سُبْحَانَ ﴾ اسم بمعنى التسبيح، أي : أنزهه تنزيها من جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى مجد الله نفسه وعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه، ﴿ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ ﴾ محمد صلى الله عليه وسلم، ﴿ لَيْلاً ﴾ أي : في بعض الليل، فإنه مع تنكيره دال على تقليل مدة الإسراء، ﴿ مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾ مسجد مكة أو من مكة لا من المسجد ويطلق على مكة كلها مسجد الحرام، ﴿ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى ﴾ الذي ببيت المقدس ببدنه الأشرف والأصح، بل الصحيح أن الإسراء في اليقظة بعد البعثة مرة واحدة وإن كان في المنام قبلها، ﴿ الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ ﴾ بالثمار والأزهار وببركات الدين والدنيا، ﴿ لِنُرِيَهُ ﴾ أي : محمدا، ﴿ مِنْ آيَاتِنَا ﴾ الكبرى عجائب سماواته وغرائب آياته، ﴿ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ ﴾ لأقوال العباد مصدقين ومكذبين، ﴿ البَصِيرُ ﴾ فيجزيهم وفق ما يستحقون.
﴿ وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ﴾ كثيرا ما يقرن بين ذكر محمد وموسى عليهما السلام والقرآن والتوراة، فأولا ذكر شرف سيدنا محمد رسول الله ثم شرع في فضل كليمه موسى، ﴿ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ أن مفسرة، ومن قرأ بالغيبة فأن ناصبة ولام العاقبة محذوفة أي : لئلا، ﴿ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ : ربا تكلون إليه.
﴿ ذُرِّيَّةَ ﴾ نصب على الاختصاص وعلى قراءة الخطاب جاز نصبه بالنداء، ﴿ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ ﴾ : نوحا، ﴿ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا ﴾ كثير الحمد فيه تذكير لنعمة إنجائهم من الغرق ثم الحث للذرية على الاقتداء به.
﴿ وَقَضَيْنَا ﴾ : أوحينا وحيا مقضيا مقطوعا، ﴿ إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ ﴾ : التوراة، ﴿ لَتُفْسِدُنَّ ﴾ جواب قسم محذوف، ﴿ فِي الأَرْضِ ﴾ بالمعاصي، ﴿ مَرَّتَيْنِ ﴾ مخالفة أحكام التوراة، ثم قتل يحيى وزكريا، ﴿ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ﴾ تستكبرن عن طاعة الله أو تظلمن الناس.
﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ﴾ : عقاب، ﴿ أُولاهُمَا ﴾، أي : أولى الإفسادتين، ﴿ بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا ﴾ هم جالوت وجنوده، أو ملك الموصل سنجاريب أو بخت نصر فأذلهم وقهرهم وقتلهم، ﴿ أُوْلِي ﴾ : ذوي، ﴿ بَأْسٍ ﴾ : قوة، ﴿ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ ﴾ : ترددوا لطلبكم، ﴿ خِلاَلَ ﴾ : وسط، ﴿ الدِّيَارِ ﴾ للقتل والغارة والسبي، ﴿ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً ﴾ فإنه قضاء مبرم.
﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ ﴾ : الدولة، ﴿ عَلَيْهِمْ ﴾ بأن سلط داود على جالوت فقتله أو دانيال على جنود بخت نضر، ﴿ وأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾ حتى عاد أمركم كما كان، ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا ﴾ : مما كنتم وهو من ينفر مع الرجل من قومه أو جمع نفر، أي : أكثر عددا مما كنتم.
﴿ إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ أي : الإحسان والإساءة كلاهما مختصان بها لا يتعدى النفع والضر إلى غيركم، وقيل : أتى باللام دون على في قوله وإن أسأتم فلها للازدواج، ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ ﴾ عقوبة المرة، ﴿ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ ﴾ تقديره بعثناهم ليسوءوا، ﴿ وُجُوهَكُمْ ﴾ يهينوكم ومن قرأ ليسوء فالضمير لله أو للوعد أو للبعث، ﴿ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ ﴾ عطف على ليسوؤا، ﴿ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ أي : كما خربوا أولا بيت المقدس بعثناهم ليخربوا ثانيا، ﴿ وَلِيُتَبِّرُواْ ﴾ : يهلكوا، ﴿ مَا عَلَوْاْ ﴾ مفعول يتبروا، أي : ليهلكوا كل شيء غلبوه، ﴿ تَتْبِيرًا ﴾.
﴿ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ ﴾ يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم برد الدولة إليكم، ﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ ﴾ : إلى المعصية، ﴿ عُدْنَا ﴾ إلى العقوبة وعن بعض السلف عادوا فبعث الله عليهم المسلمين، ﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ محبسا أو بساطا كما يبسط الحصير.
﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي ﴾ للحالة أو الطريقة التي، ﴿ هِيَ أَقْوَمُ ﴾ أسد الحالات، ﴿ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ ﴾ أي : بأن، ﴿ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾.
﴿ وأَنَّ ﴾ عطف الَّذِينَ على أن لهم، ﴿ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾، أي : يبشرهم بث وثوابهم وعقاب أعدائهم.
﴿ وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ ﴾ أي : يسأل الله عند غضبه الشر على نفسه وأولاده وأمواله، ﴿ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ ﴾ أي : مثل مسألته الخير، ﴿ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ﴾ : يسارع إلى ما لا يعلم خيريته لكن الله تعالى صبور عليهم لا يجيب جميع مسألته لطفا وإنعاما.
﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ ﴾ تدلان على قدرة خالقهما وحكمته، ﴿ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ ﴾، الإضافة بيانية، ﴿ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ مضيئة أو مبصرة للناس من أبصره فبصر وعن ابن عباس كان القمر وهو آية الليل يضيء كما تضيء آية النهار وهي الشمس فمحونا آية الليل محوه السواد الذي في القمر، وسئل عن علي ما هذه اللطخة لتي في القمر ؟ فقال : ويحك ! أما تقرأ القرآن فمحونا آية الليل فهذه محوه، وروي عن آخرين من السلف ما يدل على ذلك، ﴿ لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ﴾ لتطلبوا في النهار أسباب معاشكم، ﴿ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ لولا محو آية الليل لكان مثل النهار مضيئا فما عرفنا عدد السنين ولا جنس الحساب، ﴿ وَكُلَّ شَيْءٍ ﴾، مما تحتاجون إليه، ﴿ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ﴾ : بيناه بحيث لا يلتبس.
﴿ وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ ﴾، أي : ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة وشقاوة وكانوا يتيمنون بسنوح الطير ويتشاءمون ببروجها فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير لما كان سببهما من عمل العبد الذي هو السبب في الرحمة والنقمة، ﴿ فِي عُنُقِهِ ﴾ أي : لازم له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه، ﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا ﴾ مفعول نخرج، أو حال من مفعوله المحذوف وهو ضمير الطائر ويعضده قراءة من قرأ يخرج بالياء وفتحه، ﴿ يَلْقَاهُ ﴾ صفة، ﴿ مَنشُورًا ﴾ إما حال من مفعول يلقى أو صفة أخرى أي : يجده منشورا لكشف غطائه.
﴿ اقْرَأْ كَتَابَكَ ﴾ أي : يقال له ذلك، ﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ ﴾ الباء مزيدة في الفاعل، ﴿ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ أي : حاسبا عليك تمييز يعني كفيت أنت في محاسبة نفسك لا تحتاج إلى من يحاسبك وتذكير حسيبا لأن مثل هذه الأمور يتولاها الرجال كأنه قال : كفى بنفسك اليوم رجلا حسيبا.
﴿ مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ﴾ : لا ينجي غيره، ﴿ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ لا يضر ضلاله غيره، ﴿ وَلاَ تَزِرُ ﴾ : لا تحمل، ﴿ وَازِرَةٌ ﴾ نفس حاملة، ﴿ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ نفس أخرى، بل لا تحمل إلا وزرها، ﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا ﴾ يبين لهم ما يجب عليه فلا يدخل أحدا في النار إلا بعد إرسال الرسل إليه كما قال تعالى :" كما ألقي فيها فوج سألها خزنتها " الآية ( الملك : ٨ )، فعلى هذا الظاهر أن يقال : إن من نشأ في شاهق جبل ولم يسمع رسولا فهو معذور وكذا المجنون الدائم المطبق وكذا الأطفال مطلقا، لكن الشيخ الأشعري ذهب إلى لأنهم يمتحنون يوم القيامة بأن يأمرهم الله بدخول النار فمن أطاع نجا ودخل الجنة وانكشف علم الله فيه لسابق السعادة، ومن عصى دخل النار داخرا وانكشف تقدم شقاوته وحكاه عن أهل السنة والجماعة وهو مختار البيهقي ومحققي العلماء والنقاد وعلى أحاديث منها ما هو صحيح ومنها ما هو حسن ومنها ما هو ضعيف ولولا التزام الاختصار لذكرنا نبذا منها مع تحقيق المسألة ردا وإثباتا.
﴿ وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ متنعميها بالفسق والمراد بالأمر الأمر القدري يعني سخرهم الله إلى فعل الفواحش فاستحقوا العقوبة فإن الله لا يأمر بالفحشاء، قيل معناه كثرنا يقال : أمرت الشيء إذا كثرته وقراءة من قرأ آمرنا يؤيده ومن قرأ أمرنا فمعناه جعلناهم أمراء، وقيل : أمرناهم بالطاعة على لسان رسول وفيه بعد ؛ لأنه يبقى حينئذ تخصيص المترفين غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فتدبر، ﴿ فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾ أي : كلمة العذاب، ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ : استأصلناها.
﴿ وَكَمْ ﴾ أي : كثيرا مفعول، ﴿ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ ﴾ تمييز لكم، ﴿ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ كعاد وثمود فإن بين آدم ونوح عشر قرون كلهم على الإسلام، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ ﴾ الباء مزيدة على الفاعل، ﴿ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ ﴾ متعلق بقوله، ﴿ خَبِيرًَا بَصِيرًا ﴾ وهما منصوبان على التمييز أو الحال فإن الذنوب هي أسباب الهلكة وهو تعالى علم بها فمعاقب عليها.
﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ﴾ أي : همته مقصورة على الدنيا، ﴿ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ﴾ بدل البعض من له فإن ضميره لمن وهو في معني الكثرة، ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا ﴾ يدخلها، ﴿ مَذْمُومًا مَّدْحُورًا ﴾ مطرودا قيل : الآية في المنافقين يغزون مع المسلمين وليس غرضهم إلا الغنائم.
﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ حقها من السعي وهو الإتيان بالأوامر والانتهاء عن النواهي، ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ ﴾ : الجامعون الشرائط الثلاثة، ﴿ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا ﴾ : مقبولا عنده مثابا عليه.
﴿ كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ ﴾ أي : كل واحد من الفريقين أعني هؤلاء الذين أرادوا الدنيا وهؤلاء الذين أرادوا الآخرة نمدهم ونزيدهم من عطاء ربك فنرزق المطيع والعاصي وهؤلاء منصوب بتقدير أعني أو بدل من كلا، ﴿ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُورًا ﴾ ممنوعا في الدنيا عن مؤمن ولا عن كافر.
﴿ انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ﴾ في الدنيا فمنهم الغني والفقير والحسن والقبيح والصحيح والمريض وغير ذلك ونصب كيف بفضلنا على الحال، ﴿ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ﴾ أي : التفاوت في الآخرة أكثر وأكبر ونصبها على التميز.
﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ الخطاب لكل أحد أو للرسول والمراد أمته، ﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ تصير، ﴿ مَذْمُومًا ﴾ : من الملائكة والمؤمنين، ﴿ مَّخْذُولاً ﴾ من الله.
﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ أمر أمرا قطيعا، ﴿ أَلاَّ ﴾ أي : بألا، ﴿ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ فإنه المستحق للعبادة وحده، ﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ أي : وبأن تحسنوا بهما إحسانا، ﴿ إِمَّا ﴾ إن شرطية وما زائدة، ﴿ يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا ﴾ فاعل يبلغن، ﴿ أَوْ كِلاَهُمَا ﴾ ومن قرأ يبلغان فأحدهما بدل البعض من الضمير، ﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ﴾ هو صوت دال على تضجر وهو مبني على الكسر والتنوين والتنكير ومن قرأ بالفتح فعلى التخفيف يعني إن عاش أحد والديك أو كلاهما حتى يشيب ويكون كلا عليك فلا تسمعهما قولا سيئا حتى التأفيف الذي هو أدنى مراتب القول السيئ، ﴿ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ﴾ : لا تزجرهما، ﴿ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا ﴾، جميلا بتأدب وتوقير.
﴿ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ﴾ تذلل لهما واخضع جعل للذل جناحا وأمره بخفضه مبالغة في التواضع لهما، ﴿ مِنَ الرَّحْمَةِ ﴾ من فرط رحمتك عليهما، ﴿ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ رحمة مثل رحمتهما في حال صغري، وعن حذيفة أنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه وهو في صف المشركين فقال :( دعه يله غيرك ).
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ﴾ من قصد البر والعقوق، ﴿ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ ﴾ : قاصدين للصلاح مطيعين لله، ﴿ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ ﴾ هم التائبون من الذنب الراجعون عن المعصية إلى الطاعة، ﴿ غَفُورًا ﴾.
﴿ وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ﴾ من صلة الرحم والبر عليهم وعن على بن الحسين : أراد به قرابة النبي صلى الله عليه وسلم، ﴿ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا ﴾ بأن تصرف مالك في غير حق، وعن السلف لو أنفقت مدا في غير حقه صرت مبذرا، ولو أنفقت جميع مالك في الحق لم تكن مبذرا.
﴿ إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ ﴾ أصدقاءهم وأتباعهم وأمثالهم في الشرارة، ﴿ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا ﴾، جحودا منكرا لأنعم الله فلا تتبعوه ولا تكونوا مثله.
﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ﴾ وإن أعرضت عمن أمرتك أن تؤتيه من الأقارب وغيرها حياء من ردهم وليس عندك شيء تعطيه حين سألك، ﴿ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا ﴾ لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه، ﴿ فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴾ يعني : إذا سألك أقاربك ومن أمرناك بإعطائهم وليس عندك شيء وأعرضت عنهم لفقد النفقة فعدهم وعدا بسهولة ولين مثل أن تقول : إذا جاء رزق الله فسنصلكم إن شاء الله كذا فسرها السلف وقيل : القول الميسور الدعاء لهم مثل رزقنا الله وإياكم.
﴿ وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ﴾ لا تمسكهما عند البذل كل الإمساك حتى كأنها مقبوضة إلى عنقك، ﴿ وَلاَ تَبْسُطْهَا ﴾ بالخير، ﴿ كُلَّ الْبَسْطِ ﴾ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر، ﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ تصير، ﴿ مَلُومًا ﴾ يلومك الناس ويذمونك إن بخلت، ﴿ مَّحْسُورًا ﴾ نادما إن بسطت كل بسط وأيضا دابة عجزت عن السير ضعفا تسمى حسيرا فعلى ما فسرنا من اللف والنشر وجاز أن يكونا متعلقين بالإسراف فإن المسرف ملوم عند الله والناس نادم عن فعله، أو بكل من البخل والسرف قيل : نزلت حين وهب رسول الله صلى الله عليه وسلم قميصه ولم يجد ما يلبسه للخروج حين أذنوا للصلاة.
﴿ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ ﴾، يوسع، ﴿ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء وَيَقْدِرُ ﴾ : يضيق لمن يشاء، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ يعلم سرهم وعلنهم فيوسع على من يرى مصلحته في التوسعة له، ويضيق على من يعلم مصلحته في تضييقه، وفي الحديث ( إن عبادي لمن لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغني ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ).
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ﴾ فقر وفاقة وكانوا يئدون بناتهم مخافة الفقر، ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءًا كَبِيرًا ﴾ : ذنبا عظيما والخطأ الإثم.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى ﴾ نهي عن مقاربته ومخالطة أسبابه ودواعيه فضلا عن مباشرته، ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلا ﴾ : بئس طريقا طريقه.
﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ ﴾ : قتله، ﴿ إِلاَّ بِالحَقِّ ﴾، بردة وزنى بعد إحصان وقتل معصوم عمدا، ﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ﴾ غير مستوجب القتل، ﴿ فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ ﴾ وهو الوارث لأنه يلي أمره بعده، ﴿ سُلْطَانًا ﴾ : تسلطا على القاتل بقتله أو أخذ الدية أو عفوه، ﴿ فَلاَ يُسْرِف ﴾ أي : الوالي، ﴿ فِّي الْقَتْلِ ﴾ بأن يقتل غير القاتل أو يمثل بالقاتل، أو معناه لا يسرف القاتل فيه بأن يقتل من لا يحق قتله وقراءة لا تسرفوا يؤيده، ﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا ﴾ استئناف أي : لا يسرف الولي لأن الله نصره ولطف عليه حيث أوجب القصاص له وأمر الناس بمعونته، وعلى الوجه الثاني معناه : فإن المقتول منصور لا محالة يقتل به الظالم.
﴿ وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ ﴾ فضلا أن تتصرفوا فيه، ﴿ إِلاَّ بِالَّتِي ﴾ أي : إلا بالطريقة التي، ﴿ هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ﴾ حتى يصير بالغا فادفعوه إليه، ﴿ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ ﴾ الذي تعاهدون عليه الناس والعقود التي تعاملونهم أو بما عاهدكم لله من تكاليفه، ﴿ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئولاً ﴾ عنه أو مطلوبا يطلب من العاهد أن لا يضيعه.
﴿ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ ﴾ من غير تبخيس، ﴿ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ بالميزان العدل وهو لفظ رومي عرب، ﴿ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ عاقبة من آل إذا رجع.
﴿ وَلاَ تَقْفُ ﴾ لا تتبع، ﴿ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ﴾ ما لم يتعلق به علمك من قول وفعل فيدخل فيه شهادة الزور والكذب والبهتان، ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ ﴾ إشارة إلى السمع والبصر والفؤاد وأولئك قد يجيء لغير العقلاء، ﴿ كَانَ عَنْهُ مَسْئولاً ﴾، من جوز تقديم مفعول ما لم يسم فاعله ؛ لأنه في المعنى مفعول سيما إذا كان ظرفا فعنده أن عنه فاعل مسئولا، ومن لم يجوز فعنده أن في مسئولا ضمير يرجع إلى كل أولئك أي كان كل واحد منها مسئولا عن نفسه يعني عما فعل به صاحبه، أو ضمير عنه راجع إلى صاحب كل واحد.
﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا ﴾ وهو التكبر أي : ذا مرح، ﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ ﴾ لن تجعل فيها خرقا لشدة وطأتك، ﴿ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ بتطاولك وكبرك وهو تهكم بالمتكبر، وعن بعضهم أنك لن تقطع للأرض حتى تبلغ آخرها ولا تقدر أن تطاول الجبال وتساويها فأنت عاجز أو ما أقبح منه التكبر.
﴿ كُلُّ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى ما مر من قوله " ولا تجعل مع الله " وهي خمسة وعشرون خصلة، ﴿ كَانَ سَيٍّئُهُ ﴾ أي : المنهي عنه لا المأمورات، ﴿ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا ﴾ مبغوضا، ومن قرأ سيئة فذلك إشارة إلى ما نهى عنه خاصة واسم كان ضمير لكل ومكروها خبر بعد خبر أو بدل من سيئه أو حال من ضمير كان.
﴿ ذَلِكَ ﴾ أي : الأحكام المتقدمة، ﴿ مِمَّا أَوْحَي إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ﴾ وهي معرفة الحق لذاته والخير للعمل به، ﴿ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ ﴾ كرره لأنه المقصود والتوحيد رأس كل حكمة، ﴿ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا ﴾ من الله والملائكة ومن نفسك، ﴿ مَّدْحُورًا ﴾ : ملعونا والمراد من هذا الخطاب اهتداء أمته عليه السلام.
﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ ﴾ أي : أفخصكم ربكم بأفضل الأولاد ؟ فالهمزة للإنكار، ﴿ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِنَاثًا ﴾ بناتا لنفسه كما قلتم الملائكة بنات الله تعالى، ﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ إضافة الولد إلى الله تعالى ثم تفضيل أنفسكم عليه حين تنسبون إليه ما تكرهون ثم جعل الملائكة إناثا وأي خطأ وقول أعظم من هذا.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ بينا مكررا، ﴿ فِي هَذَا الْقُرْآنِ ﴾ العبر والأمثال والحجج والأحكام أو بيانا فيه مكررا إبطال إضافة البنات إليه، ﴿ ليَذَّكَّرُواْ ﴾ : يتدبروا ويتعظوا، ﴿ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا ﴾ : عن الحق.
﴿ قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ : لطلبوا إلى من له الملك سبيلا بالمبالغة كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، أو معناه إن كان الأمر كما زعمتم أنهم آلهة شفعاء فهم طالبون الوسيلة والتقرب إلى الله تعالى محتاجون إليه فكيف تسمونهم آلهة وتعبدونهم.
﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا ﴾ : تعاليا، ﴿ كَبِيرًا ﴾.
﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّح بِحَمْدَهِ ﴾ إجماع السلف أن للأشياء تسبيحات لا يسمع [ لا يسمع الله إياه ] إلا من يسمع، وقال المتأخرون لكل شيء تسبيح بلسان حاله وهو دلالته على صانع قديم واجب لذاته، ﴿ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ﴾ وفي البخاري عن ابن مسعود :" كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل " ، و الأحاديث الدالة على التسبيح القالي للحيوانات والجمادات كثيرة وفي مسند الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ قال :" إن نبي الله نوحا " ] ، لما حضرته الوفاة دعا ابنيه فقال :" آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء " ، وعن ابن عباس وبعض من السلف إنما يسبح ما كان فيه روح من حيوانات ونبات، ﴿ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا ﴾ : لا يعاجل من عصاه بالعقوبة، ﴿ غَفُورًا ﴾ لمن رجع وتاب.
﴿ وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا ﴾ يحجبهم عن فهم ما تقرؤه عليهم والانتفاع به أو حجابا لا يرونه عند قراءة القرآن فإن المشركين الذين في عزمهم أن يؤذوه يمرون به ولا يرونه، ﴿ مَّسْتُورًا ﴾ لا يرى ذلك الحجاب أو ذا ستر كسيل مفعم أي : ذو إفعام.
﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً ﴾ : أغطية، ﴿ أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ أي : كراهة أن يفقهوا القرآن، ﴿ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا ﴾ : ثقلا لئلا يسمعوا سماع انتفاع، ﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ ﴾ من غير ذكر آلهتهم وأصله يحد وحده فهو مصدر يقع موقع الحال، ﴿ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ ُفُورًا ﴾، نفرة من التوحيد أو جمع نافر.
﴿ نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ ﴾ أي : ما يستمعون بسببه ولأجله من الهزء والتكذيب، ﴿ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ﴾ ظرف لأعلم، ﴿ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى ﴾ حين هم ذوو نجوى يتناجون بالتكذيب، ﴿ إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ ﴾ بدل من إذ هم بوضع الظاهر موضع المضمر، ﴿ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا ﴾ سحر فجن وعن بعضهم مشتق من السحر وهو الرئة أي : رجلا مثلكم.
﴿ انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ ﴾ مثلوك بساحر وشاعر وكاهن ومجنون، ﴿ فَضَلُّواْ ﴾ : عن طريق الحق، ﴿ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ﴾ إلى الرشاد أو هم متحيرون ليس لهم سبيل يسلكونه.
﴿ وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا ﴾ بعد الموت، ﴿ وَرُفَاتًا ﴾ : ترابا، ﴿ أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ ﴾ الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه مبعوثون فما بعد إن لا يعمل فيما قبله، ﴿ خَلْقًا جَدِيدًا ﴾ مصدر أو حال.
﴿ قُل ﴾ جوابا لهم، ﴿ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ﴾ وهما أشد امتناعا من العظام والرفات في قبول الحياة.
﴿ أَوْ خَلْقًا مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ﴾ وهو الموت، أي : لو فرضتم أنكم صرتم حجارة أو حديدا أو موتا هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء، وعن مجاهد في تفسيره أي : السماء والأرض والجبال، ﴿ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا ﴾ إذا كنا حجارة أو خلقا شديدا، ﴿ قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ ﴾ : يحركون، ﴿ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ﴾ تعجبا وتكذيبا، ﴿ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا ﴾ فكل ما هو آت قريب، أن يكون اسم عسى وكان تامة وقريبا خبره أو اسم عسى ضمير البعث وما بعده خبره.
﴿ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ﴾ ربكم من قبوركم، ﴿ فَتَسْتَجِيبُونَ ﴾ : تجيبون بحمده، ﴿ بِحَمْدِهِ ﴾ متلبسين بحمده حين لا ينفعكم الحمد، وعن ابن عباس : أي : بأمره وعهد بعض : أنه خطاب للمؤمنين، وقد ورد أنهم ينفضون التراب عن رءوسهم ويقولون : سبحانك اللهم وبحمدك، ﴿ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ ﴾ : في الدنيا أو في البرزخ، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ " كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم " ( المؤمنون : ١١٢، ١١٣ ).
﴿ وَقُل لِّعِبَادِي ﴾ : المؤمنين قولوا التي هي أحسن، ﴿ يَقُولُواْ ﴾ : الكلمة، ﴿ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾ يعني في محاوراتهم ومخاطباتهم فيقولوا جواب الأمر والمقول محذوف، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ ﴾ يهيج الشر، ﴿ بَيْنَهُمْ ﴾ فإذا لم يكونوا على لين الكلام فلربما يفضي إلى المخاصمة والمشاجرة، ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا ﴾ وعن الكلبي، أنها نزلت حين شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحش كلام المشركين وسوء خلقهم فقيل : الكلمة التي هي أحسن أن يقولوا يهديك الله، وقيل : هذا قبل الإذن في الجهاد.
﴿ رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ﴾ فيوفقكم للإنابة والطاعة الظاهر أنه خطاب للمؤمنين وحث على المداراة، ﴿ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ﴾ وقيل : ربكم أعلم تفسيرا للكلمة التي هي أحسن أي : يقولوا لهم هذه الكلمة ونحوها ولا يقولوا لهم إنكم من أهل ومعذبون وما يشبهها، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً ﴾ ليس أمرهم موكولا إليك إنما أنت فما عليك إلا التبليغ وحسن المعاشرة وطيب الكلام في النصح والله الهادي.
﴿ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ فإنه خلقهم على قوابل مختلفة ومراتب متفاوتة في الفهم وقبول الفيض من مفيض الحكمة فليس لأحد أن يستبعد في نبوة يتيم أبي طالب عليه السلام وفي سيادة الجوع العراة رضي الله عنهم وأرضاهم، ﴿ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ﴾ بمزيد العلم اللدني لا بوفور المال الدني، ﴿ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ﴾ إشارة إلى وجه تفضيله فعلم من هذا أن نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الرسل فإن كتابه أشرف الكتب " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون " ( الأنبياء : ١٠٥ )، وما وقع في الصحيحين من النهي عن التفضيل بين الأنبياء فمحمول على التفضيل بالتشهي والعصبية ولا خلاف أن محمدا رسول الله أفضلهم ثم إبراهيم ثم موسى على المشهر علهم الصلاة والسلام.
﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم ﴾ أنها آلهة، ﴿ مِّن دُونِهِ ﴾ كالملائكة وغيره، ﴿ فَلاَ يَمْلِكُونَ ﴾ فلا يستطيعون، ﴿ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ ﴾ بالكلية، ﴿ وَلاَ تَحْوِيلاً ﴾ إلى غيركم أو تحويل حال من العسر إلى حال اليسر نزلت جين شكى المشركون قحطهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾، الذين صفة أولئك ويبتغون خبره أي : هؤلاء الذين تعبدونهم يطلبون القربة إلى الله كالملائكة وعيسى وأمه وعزير والشمس والقمر، ﴿ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ﴾ بدل من فاعل يبتغون أي : يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة فكيف لغيره، ﴿ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ فكيف يستحقون الألوهية، ﴿ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ﴾ حقيقا بأن يحذر منه كل شيء حتى الرسل من الملائكة والبشر، وعن ابن مسعود أنها نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم الجنيون والإنس الذين يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم.
﴿ وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ بالموت، ﴿ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا ﴾ بأنواع العذاب وعن مقاتل وغيره الأول في قرية المؤمنين والثاني في الكفار، ﴿ كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ ﴾ اللوح المحفوظ، ﴿ مَسْطُورًا ﴾.
﴿ وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ ﴾ أي : ما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة لقريش كفسحة مكة وجعل الصفا ذهبا، ﴿ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ﴾ أي : إلا تكذيب من هو قبلهم وقومك مثلهم طبعا فلو أرسلناها وكذبوا بها لاستأصلناهم فقد جرت سنتنا على أن لا نؤخر من كذب بالآيات المقترحة فليس عدم إرسالها إلا العناية فإنه سهل علينا يسير لدينا، ﴿ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ ﴾ بسؤالهم، ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ آية بينة، ﴿ فَظَلَمُواْ بِهَا ﴾، كفروا بها أو فظلموا أنفسهم بسببها فإنهم، منعوا شربها وعقروها فعاجلناهم بالعقوبة، ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ ﴾ المقترحة أو مطلق الآيات، ﴿ إِلاَّ تَخْوِيفًا ﴾ للعباد ليؤمنوا والباء زائدة أو المفعول محذوف وبالآيات حال.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا لَكَ ﴾ أي : وذكر إذ أوحينا إليك، ﴿ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ﴾ هم في قبضته وتحت مشيئته فهو حافظك منهم فامض لما أمرك ولا تهبهم، ﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ﴾ هي قصة المعراج والرؤيا من الرؤية عن ابن عباس وغيره هي رؤيا عين، ﴿ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ﴾ فقد أنكر بعضهم ذلك وكفروا وزاد إيمان بعضهم فما هي إلا اختبار وفتنة وعن بعضهم أن المراد بهذه الرؤيا رؤيا عام الحديبية رأى عليه السلام أنه دخل هو وأصحابه مكة فتوجه إليها قبل الأجل فصده المشركون ورجع إلى المدينة وكان ذلك فتنة وشكا في قلوب بعض حتى دخلها في العام القابل كما قال تعالى :" لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق " الآية ( الفتح : ٢٧ )، ﴿ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ﴾ أي : وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة وهي شجرة الزقوم يقال طعام ملعون أي : مكروه ضار وملعون أكلها وصفت به مجازا للمبالغة أو لأن منبتها أصل الجحيم وهي أبعد مكان من رحمة الله، وفتنتها أنهم قالوا : محمد يوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يزعم أن فيها شجرة وقالوا : لا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر فجاء أبو جهل بهما وقال يا قوم : زقموا فهذا ما يخوفكم به محمد، ﴿ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ ﴾ التخويف، ﴿ إِلاَّ طُغْيَانًا كَبِيرًا ﴾ تمردا وعتوا عظيما.
﴿ وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ ﴾ قد مر الخلاف في أن المأمورين جملة الملائكة أو ملائكة الأرضين، ﴿ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ ﴾ أي : لمن خلقته، ﴿ طِينًا ﴾ حال من ( من ) أو من ضميره أو نصبه بنزع الخافض.
﴿ قَالَ ﴾ : إبليس، ﴿ أَرَأَيْتَكَ ﴾ أي : أخبرني والكاف لتأكيد الخطاب لا محل له من الإعراب، ﴿ هَذَا ﴾ مفعول أرأيت، ﴿ الَّذِي ﴾ صفة هذا، ﴿ كَرَّمْتَ عَلَيَّ ﴾ أي : أخبرني عن هذا الذي فضلته علي بأن أمرتني بسجوده لم كرمته علي فمتعلق الاستخبار محذوف يدل عليه الصلة، ﴿ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ﴾ اللام توطئة القسم وجوابه، ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ﴾ لأستأصلن، ﴿ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ : بالإغواء، ﴿ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ لا أقدر أن أقاومهم وكأنه لعنه الله تفرس من خلقه فإنه قد جبل بشهوة ووهم وغضب.
﴿ قَالَ ﴾ : الله :﴿ اذْهَبْ ﴾ أي : خليتك وأنظرتك فامض لما قصدت، ﴿ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ ﴾ أي : جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب، ﴿ جَزَاء مَّوْفُورًا ﴾ : مكملا ونصب جزاء بما في جزاؤكم من معنى تجازون أو بإضمار وجاز أن يكون حالا فإنه مقيد بموفورا.
﴿ وَاسْتَفْزِزْ ﴾ : استخف، ﴿ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ ﴾ : أن تستفزه، ﴿ بِصَوْتِكَ ﴾ : بدعائك إلى معصية الله وعن ابن عباس كل داع دعا إلى معية الله فهو شيطان يصوته، وقيل هو الغناء والمزامير، ﴿ وَأَجْلِبْ ﴾ : صح، ﴿ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ ﴾ الخيل الفرسان والرجل اسم جمع للراجل، أي : صح عليهم بأعوانك من راكب راجل وهو كل راكب وماش في المعصية، وعن قتادة أن له خيلا ورجالا من الجن والإنس، قيل : هذا تمثيل لتسلطه بشخص كثير الغارة صوت على قوم فاستفزهم وأقلقهم عن أماكنهم وأجلب عليهم بجنده فاستأصلهم، والمعنى تسلط عليهم بكل ما تقدر والمراد من الأمرين أمر القدري أو أمر تهديد، ﴿ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ﴾ كل ما أنفق في حرام أو جمع من حرام، ﴿ وَالأَوْلادِ ﴾، ببعثهم على الزنا حتى يكون الولد منه وعلى قتلهم خشية إملاق وعلى تسميتهم بعبد الشمس ونحوه وغير ذلك، ﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة وكرامة الآباء، ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴾ والغرور تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب.
﴿ إِنَّ عِبَادِي ﴾ أي : المخلصين، ﴿ لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ ﴾ : تسلط على إغوائهم، ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ﴾ أي : كفى الله لأن يكل أولياءه فيعصمهم منك.
﴿ رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي ﴾ : يجري، ﴿ لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ : لتطلبوا من رزقه وتتجروا، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ حيث هيأ لكم ما تحتاجون.
﴿ وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ ﴾ : خوف الغرق، ﴿ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ ﴾ : زال عن خاطركم، ﴿ مَن تَدْعُونَ ﴾ : كل من تدعونه، ﴿ إِلاَّ إِيَّاهُ ﴾ : الله وحده فحينئذ لا يخطر ببالكم سواه فتدعونه وحده، ﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ﴾، من الغرق، ﴿ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ﴾ : عن التوحيد، ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾ يعني سجية الإنسان نسيان النعم وجحدها.
﴿ أَفَأَمِنتُمْ ﴾ الهمزة للإنكار والفاء عطف على محذوف أي : أنجوتم من البحر فآمنتم من ﴿ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ ﴾ أي : يقلبه الله وأنتم عليه وبكم حال من مفعول يخسف أو الباء للسببية وذكر الجانب إشارة إلى أنهم إذا وصلوا الساحل أعرضوا وأن الجوانب بقدرة الله، ﴿ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ﴾ : المطر الذي فيه الحجارة أو الريح التي ترمي بالحصباء، ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ﴾ : يحميكم من العذاب.
﴿ أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ ﴾ : في البحر، ﴿ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ ﴾ : ريحا تكسر كل شيء تمر عليه، ﴿ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ : بسبب كفركم أو كفرانكم، ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا ﴾، التتبع المطالب أي : لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا انتقاما منا.
﴿ ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ﴾ : بأشياء كثيرة منها العقل والنطق وحسن الصورة، ﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ على الدواب والسفن، ﴿ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ﴾، المستلذات، ﴿ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ﴾ أي : كثيرا بينا وافرا ولا يلزم من هذه الآية على ما فسرنا تفضيل الملائكة نعم يلزم الأفضلية الكثيرة الوافرة ولا يلزم من نفي هذه الأفضلية نفي مطلقها.
﴿ يَوْمَ ﴾ أي : اذكر يوم، ﴿ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ أي : نبيهم كيا أمة فلان، أو بكتابهم الذي أنزل عليهم أو بكتاب أعمالهم أو إمام هدي وإمام ضلالة كيا متبعي محمد - عليه السلام - ويا متبعي الشيطان، وعن محمد بن كعب هي جمع أم كخفاف فلا يفتضح أولاد الزنا ويلزم إجلال عيسى والحسن والحسين عليهم السلام، ﴿ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ ﴾ كتاب أعماله، ﴿ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ﴾ فلا ينقص من أجورهم أدنى شيء والفتيل الخيط المستطيل في شق النواة.
﴿ وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ ﴾ : الدنيا، ﴿ أَعْمَى ﴾ : عمى القلب فلم ير رشده، ﴿ فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى ﴾ لا يرى طريق النجاة قيل أعمى الثاني أفعل التفضيل كالأجهل، ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ منه في الدنيا، وقد نقل عن بعض السلف أن معناه من كان في هذه النعم التي قد مر وهو قوله :" ربكم الذي يزجي لكم " الآية، أعمى وهو يعاين فهو في أمر الآخرة التي لم يعاين ولم ير أعمى وأضل.
﴿ وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ ﴾ إن مخففة، أي : إن الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يوقعوك في الفتنة قيل : نزلت في ثقيف حين قالوا : لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نحيى في الصلاة، أي : لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فإن خشيت أن يسمع العرب لم أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك، وقيل نزلت حين قال قريش : لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا وقيل قالوا : نؤمن بك أن تمس آلهتنا، وقيل غير ذلك، ﴿ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ : من الأحكام، ﴿ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ ﴾ : غير ما أوحينا إليك، ﴿ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً ﴾ : لو اتبعت مرادهم يؤمنوا بك ولكنت لهم وليا.
﴿ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ ﴾ لولا تثبيتنا لك وعصمتنا، ﴿ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ ﴾ : لقاربت أن تميل، ﴿ إِلَيْهِمْ ﴾ : إلى إتباع مرامهم، ﴿ شَيْئًا قَلِيلاً ﴾ لكن عصمناك فما قاربت من الركون مع قوة اهتمامك بإيمانهم فضلا من الركون وقيل خطر خطرة بقلبه الأشرف ولم يكن عزما والله قد عفى الخلق عنه والأول هو الأولى.
﴿ إذا ﴾ : لو قاربت، ﴿ لأقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ﴾ أي : عذاب الدنيا والآخرة ضعف ما يعذب به غيرك بمثل هذا الفعل فإن المقربين على خطر عظيم وأصله عذابا ضعفا في الحياة، أي : مضاعفا فأقيمت الصفة مقام الموصوف بعدد ما حذف ثم أضيفت كما يقال : أليم الحياة، أي : عذابا أليما في الحياة، ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا ﴾ : يدفع عنك عذابنا.
﴿ وَإِن كَادُواْ ﴾ إن مخففة مثل الأول، ﴿ لَيَسْتَفِزُّونَكَ ﴾ : يزعجونك، ﴿ مِنَ الأَرْضِ ﴾ : أرض مكة أو المدينة، ﴿ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا ﴾ قيل : نزلت حين هم قريش بإخراج الرسول من بين أظهرهم، ﴿ وَإِذًا ﴾ : لو خرجت، ﴿ لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ ﴾ : لا يبقون بعد خروجك، ﴿ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾ : إلا زمانا قليلا وقد كان كذلك فإنه قد وقع على أكثرهم بعد سنة واقعة بدر، وقيل نزلت في المدينة حين قالت اليهود : إن الشام مسكن الأنبياء وأنك إن كنت تسكن فيها آمنا بك فوقع ذلك في قلبه الأشرف لكن السورة مكية بتمامها عند الأكثر فالأول أقرب.
﴿ سُنَّةَ ﴾ أي : سن الله ذلك سنة، ﴿ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا ﴾ وهو أن يهلك كل أمة أخرجوا رسولهم فالسنة لله وإضافتها إلى الرسل ؛ لأنها من أجلهم، ﴿ وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً ﴾ : تغييرا.
﴿ أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ : زوالها واللام للتأقيت، ﴿ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ ﴾ : ظلمته فيدخل فيه صلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء، أو المراد من الدلوك الغروب وأصل لغته الانتقال، ﴿ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ﴾ صلاة الصبح سميت قرآنا كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا تسمية للشيء باسم ركنه وجزئه عطف على الصلاة، ﴿ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا ﴾ : يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار.
﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ ﴾ أي : بعضه، ﴿ فَتَهَجَّدْ ﴾ : اترك الهجود والتهجد ترك الهجود للصلاة كالتأثم والتخرج، ﴿ بِهِ ﴾ : بالقرآن، ﴿ نَافِلَةً لَّكَ ﴾ : فضيلة لك، فإنه قد غفر ما تقدم من ذنبه وما تأخر فجميع نوافله زيادة في رفع درجته، أو معناه فريضة زائدة لك على الصلاة المفروضة، وعن كثير من السلف أن التهجد واجب علنه ونصبها بالعلية على التوجيه الأول أو بتقدير فرضها فريضة أو حال من ضمير به، ﴿ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا ﴾ أي : في مقام، ﴿ مَّحْمُودًا ﴾ أو تقديره فيقيمك مقاما، أي : في مقام هو مقام الشفاعة لأمته بحمده فيه الأولون والآخرون.
﴿ وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي ﴾ : المدينة، ﴿ مُدْخَلَ صِدْقٍ ﴾ أي : إدخالا مرضيا، ﴿ وَأَخْرِجْنِي ﴾ : من مكة، ﴿ مُخْرَجَ صِدْقٍ ﴾ إخراجا حسنا مرضيا نزلت حين أمر بالهجرة، أو أدخلني الجنة وأخرجني من الدنيا أو أدخلني القبر وأخرجني منه وفيه أقوال أخر، ﴿ اجْعَل لِّي مِن َّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا ﴾ ملكا وعزا قويا مظهرا للإسلام على الكفر أو حجة بينة تنصرني على من خالفني.
﴿ وَقُلْ جَاء الْحَقُّ ﴾ : الإسلام، ﴿ وَزَهَقَ ﴾ هلك، ﴿ الْبَاطِلُ ﴾ : الشرك، ﴿ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ : مضمحلا غير ثابت وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول ذلك اليوم فتح مكة.
﴿ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ﴾ من للبيان قدم على المبين لكونه أهم، ﴿ مَا هُوَ شِفَاء ﴾ : لأمراض القلوب من الشك والنفاق والزيغ، ﴿ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾ : يحصل في القلب الإيمان والحكمة والرغبة في الخير، ﴿ وَلاَ يَزِيدُ ﴾ : القرآن، ﴿ الظَّالِمِينَ ﴾ : الكافرين، ﴿ إَلاَّ خَسَارًا ﴾ : نقصانا وخذلانا لكفرهم به.
﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ ﴾ : بمال وعافية، ﴿ أَعْرَضَ ﴾ : عن طاعة الله، ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ والنائي بالجانب أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره أي : بعد عنا أو استكبر عن طاعتنا، ﴿ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ ﴾ من المصائب والنوائب، { كانَ يَؤُوسًا{ َ : شديد اليأس قنط أن يعود له بعد ذلك خير.
﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ﴾ : دينه ونيته وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة أو على طبيعته التي جلبت عليها، ﴿ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ﴾ : أسد طريقا وسيجزي كل عامل بعمله، وهو وعيد للمشركين كما قال تعالى :" وقل للذين لا يؤمنون اعملوا على مكانتكم إنا عاملون وانتظروا إنا منتظرون " ( هود : ١٢١، ١٢٢ ).
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ ﴾ أي : اليهود والأحاديث الواردة في نزول هذه الآية مشعرة بأنها نزلت في المدينة والأصح أن السورة كلها مكية فأجيب بأنه نزلت مرتين، أو أنه نزل في المدينة عليه وحي بأن يجيبهم عما سألوا بالآية المتقدم إنزالها عليه في مكة، وما ذكره الإمام أحمد يدل على أنها مكية فإنه نقل عن ابن عباس أن قريشا قالت لليهود أعطونا شيئا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا : سلوه عن الروح فسألوه فنزلت، ﴿ عَنِ الرُّوحِ ﴾ : روح بني آدم أو جبريل أو ملك عظيم، ﴿ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ﴾، مما استأثر بعلمه، ﴿ وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ﴾، لي : ما اطلعتم من علمه إلا على القليل يعني في جنب علم الله قليل وأمر الروح مما لم يطلعكم الله عليه، وقد روي أن اليهود قالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت " ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام " ( لقمان : ٢٧ ) الآية.
﴿ وَلَئِن شِئْنَا ﴾ اللام توطئة القسم، ﴿ لَنَذْهَبَنَّ ﴾ جواب القسم ساد مسد جواب الشرط، ﴿ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ﴾ أي : إن شئنا محونا القرآن عن مصاحفكم وصدوركم، ﴿ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً ﴾ أي : من يصير وكيلا علينا باسترداده.
﴿ إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ﴾ أي : لكن رحمة ربك تركته غير مذهوب به أو الاستثناء متصل يعني : إن نالتك رحمته تسترده عليك كأن رحمته تصير وكيلا عليه، ﴿ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ﴾ حيث أنزل عليك الكتاب وأبقاه.
﴿ قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ ﴾ وإن فرض أن كلهم بلغاء، ﴿ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ ﴾ في البلاغة والإخبار عن المغيبات، ﴿ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ﴾ لعدم قدرتهم وهو جواب القسم الدال عليه اللام، ﴿ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ : معينا وناصرا في الإتيان.
﴿ وَلَقَدْ صَرَّفْنَا ﴾ بينا مكررا، ﴿ لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ﴾ من كل معنى هو كالمثل في الغرابة والحسن، ﴿ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا ﴾، جحودا للحق وهو في معنى الكلام المنفي فلذلك جاز الاستثناء.
﴿ وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ ﴾ : أرض مكة، ﴿ يَنبُوعًا ﴾ : عينا لا ينضب ولا ينقطع ماؤها.
﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ﴾ أي : بستان، ﴿ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيرًا ﴾ حتى نعرف فضلك علينا، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه.
﴿ أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ ﴾ أن ربك إن شاء فعل، ﴿ عَلَيْنَا كِسَفًا ﴾ أي : قطعا فلا نؤمن لك حتى تفعل يعنون قوله تعالى :" أو نسقط عليهم كشفا من السماء " ( سبأ : ٩ )، ﴿ أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ والملائكة قَبِيلاً ﴾، كفيلا بما تقول شاهدا بصحته أو مقابلا معاينة نراه وهو حال من بالله وحال الملائكة محذوفة أي قبيلا وقبلاء.
﴿ أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ ﴾ : من ذهب، ﴿ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء ﴾ : تصعد في سلم ونحن ننظر، ﴿ ولن نؤمن لرقيك ﴾ : صعودك وحده، ﴿ حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه ﴾ أي : مكتوبا فيه إلى كل واحد هذا كتاب من الله لفلان بن فلان ويكون فيه تصديقك، ﴿ قُلْ ﴾، أي : رسول الله، ﴿ سُبْحَانَ رَبِّي ﴾ تعجبا من تمردهم، أو تنزيها لله من أن يأتي أو يشاركه أحد في قدرته، ﴿ هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا ﴾ كسائر الناس، ﴿ رَّسُولاً ﴾ كسائر الرسل وهم لم يقدروا ولم يأتوا بمثل ما قلتم فكيف أقدر على ذلك ؟ !
﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ ﴾ مفعول ثان، أي : ما منعهم الإيمان بعد، ﴿ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى ﴾ بعد نزول القرآن الذي هو معجزة، ﴿ إِلاَّ أَن قَالُواْ ﴾ فاعل منع، ﴿ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا ﴾ أي : إلا قولهم هذا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، ﴿ رَّسُولاً ﴾.
﴿ قُل ﴾ جوابا لشبهتهم، ﴿ لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ ﴾ كما تمشون، ﴿ مُطْمَئِنِّينَ ﴾ : ساكنين في الأرض، ﴿ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاء مَلَكًا رَّسُولاً ﴾ أي من جنسهم يهديهم، لأن انتفاع الجنس من الجنس أكثر فرحمتنا دعتنا إلى أن أرسلنا إليكم بشرا من جنسكم وبشرا وملكا منصوبان على الحال من رسولا أو موصوفان برسولا.
﴿ قُلْ كَفَى بِاللّهِ ﴾ أي : كفى الله، ﴿ شَهِيدًا ﴾ حال أو تمييز، ﴿ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾ على أني بلغت ما أرسلت به إليكم وأنتم عاندتم أو على أني رسول إليكم وأظهرت المعجزات، ﴿ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا ﴾ فيعلم إبلاغي وعنادكم فيجازي كلا ما يستحقه من الإنعام والهداية والانتقام والإزاغة.
﴿ وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ ﴾، يهدونهم وينصرونهم، ﴿ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ﴾ يمشون بها وعن أنس يقول : قيل يا رسول الله :" كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال : الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم " أو يسحبهم الملائكة إلى النار، ﴿ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا ﴾ هذا في حال دون حال فيكون هذا بعد الحساب أو عميا عما يقرأ عينهم بكما عن حجة وعذر يقبل منهم صما عما يلذ مسامعهم، ﴿ مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ ﴾ : سكن لهبها، ﴿ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا ﴾ توقدا بأن نبدل لحومهم وجلودهم فتعود ملتهبة بهم، قيل ونعم ما قيل كأنهم لما كذبوا الإعادة بعد الإفناء جازاهم الله بدوام الإعادة بعد الإفناء.
﴿ ذَلِكَ جَزَاؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا ﴾ : ترابا، ﴿ أَإِنَّا ﴾، الهمزة لتأكيد الإنكار والعامل في إذا ما دل عليه قوله :﴿ لَمَبْعُوثُونَ ﴾ فإن ما بعد إن لا يعمل فيما قبله، ﴿ خَلْقًا جَدِيدًا ﴾ : مصدر أو حال.
﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ ﴾ : ألم يعلموا، ﴿ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ ﴾ فإن خلقهم ليس بأشد من خلق السماوات والأرض، ﴿ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً ﴾، أي : القيامة عطف على أو لم يروا، ﴿ لاَّ رَيْبَ فِيهِ ﴾ أو معناه أو لم يعلموا أن من قدر على خلق هذه الأجسام قادر على أن يخلقهم مثل ما كانوا أي : يعيدهم ويجعل لإعادتهم أجلا مضوربا ومدة مقدرة لابد من انقضائها ﴿ فَأَبَى الظَّالِمُونَ ﴾ بعد قيام الحجة، ﴿ إَلاَّ كُفُورًا ﴾ جحودا بذلك الأجل أو بذلك الخلق.
﴿ قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ ﴾، أنتم مرفوع بفعل يفسره ما بعده، ﴿ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي ﴾ خزائن رزقه ونعمه، ﴿ إِذًا لَّأَمْسَكْتُمْ ﴾ لبخلتم، ﴿ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ﴾ أي : مخافة النفاد يقال : أنفق التاجر ذهب ماله، ﴿ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُورًا ﴾ : بخيلا.
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ﴾ اليد العصا والسنين ونقص الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم، وعن بعضهم بدل السنين ونقص الثمرات فلق البحر وحل العقدة التي بلسانه، وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي وقال " صحيح حسن " والنسائي وابن ماجه وابن جرير في تفسيره أن يهوديين سألا النبي صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية " ولقد آتينا موسى تسع آيات " فقال لا تشركوا بالله شيئا ولا تسرقوا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف وعليكم خاصة اليهود أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يده ورجليه " فقال بعض المحدثين : لعل ذينك اليهوديين إنما سأل عن العشر الكلمات فاشتبه على الراوي بالتسع الآيات، فإن هذه الوصايا ليس فيها حجج على فرعون وأي مناسبة بين هذا وبين إقامة البراهين عليه ويدل عليه الآية التي بعده ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر " الآية، ﴿ فَاسْأَلْ ﴾ : يا محمد، ﴿ بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ عن الآيات ليطمئن قلبك ويظهر للمشركين صدقك، ﴿ إِذْ جَاءهُمْ ﴾ ظرف لآتينا أو تقديره سل عن بني إسرائيل زمان موسى عليه السلام حتى يخبروك عما وقع فيه، ﴿ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا ﴾ فتتخبط عقلك.
﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء ﴾ : الآيات، ﴿ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ ﴾ : بينات تبصرك صدقي وهو حال، ﴿ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُورًا ﴾ : هالكا ملعونا أو مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر.
﴿ فَأَرَادَ ﴾ : فرعون، ﴿ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ ﴾ : يخرج موسى وقومه من أرض مصر، ﴿ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا ﴾.
﴿ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ ﴾ : التي أراد أن يخرجكم منها، وهذا بشارة للمؤمنين بفتح مكة فإن هذه السورة نزلت قبل الهجرة، ﴿ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ ﴾ أي : الدار الآخرة يعني القيامة، ﴿ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا ﴾ : جميعا إلى الموقف ونحكم بينكم واللفيف الجماعات من قبائل شتى.
﴿ وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ ﴾ أي : ما أنزلنا القرآن إلا متلبسا بالحق المقتضي لإنزاله في أحكام الله وأوامره ونواهيه، ﴿ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ : وما نزل إلا بالحق الذي اشتمل عليه أو ما وصل إليك يا محمد إلا محروسا محفوظا من تخليط وتبديل، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا ﴾ : لمن أطاعك، ﴿ وَنَذِيرًا ﴾ : لمن عصاك.
﴿ وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ﴾ : نزلناه مفرقا منجما على الوقائع في ثلاث وعشرين سنة، ﴿ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ ﴾ : مهل وتؤدة، ﴿ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ﴾ : نجوما بعد نجوم.
﴿ قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ﴾ أي : سواء آمنتم به أم لا هو حق لا يزيد ولا ينقص منه شيء، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ﴾، من قبل القرآن، أي عالمي أهل الكتاب، ﴿ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ : القرآن، ﴿ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ ﴾ : يسقطون على وجوههم وذكر الذقن للمبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو أنه ربما خر على الذقن كالمغشي عليه لخشية الله تعالى واللام لاختصاص الخرور بالذقن، ﴿ سُجَّدًا ﴾ : شكرا لإنجاز وعده ولأن جعلهم ممن أدركوا هذا الرسول المنزل عليه هذا الكتاب.
﴿ وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا ﴾ : عن خلف الوعد، ﴿ إِن كَانَ ﴾ : إنه كان، ﴿ وَعْدُ رَبِّنَا ﴾ : في الكتب السالفة بإرسال رسول خاتم الرسل، ﴿ لَمَفْعُولاً ﴾، واقعا كائنا.
﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ ﴾ حال كونهم باكين لما أثر فيهم مواعظه كرره لتكرار الفعل منهم، ﴿ وَيَزِيدُهُمْ ﴾ سماع القرآن، ﴿ خُشُوعًا ﴾ : خضوعا لربهم.
﴿ قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ ﴾ نزلت حين يقول عليه السلام في سجوده يا رحمن يا رحيم فسمع رجل من المشركين وقال : إنه يزعم أنه يدعو واحدا وهو يدعو اثنين والدعاء بمعنى التسمية وهو متعد إلى مفعولين كدعوته زيدا ثم يترك أحدهما فيقال دعوت زيدا والمراد من الله والرحمن الاسم لا المسمى وأو للتخيير أي : سموا بهذا الاسم أو بهذا، ﴿ أَيًّا مَّا تَدْعُواْ ﴾ التنوين عوض عن المضاف إليه وما مزيدة للإبهام الذي في أي، ﴿ فَلَه ﴾ الضمير لمسمي الاسمين فإن التسمية للذات لا للاسم، ﴿ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ﴾ أي : أي هذين الاسمين فإن سميتم فهو حسن، لأن له الأسماء الحسنى وهذان الاسمان منها، ﴿ وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ﴾ أي : بقراءة صلاتك فيسمعها المشركون فيسبون القرآن، ﴿ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ﴾ ولا تخفها عمن خلفك من أصحابك، ﴿ وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ ﴾ : بين الجهر والمخافتة، ﴿ سَبِيلاً ﴾ وسطا وكان ذلك قبل الهجرة والمراد من الصلاة الدعاء.
﴿ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ كما قالت اليهود عزير ابن الله تعالى عليهم لعائن الله، ﴿ وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ﴾ كما أثبته النصارى والمشركون فإنهم أثبتوا الربوبية للمسيح والأصنام، ﴿ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ ﴾، ناصر من الذل لا يحوم الدخور جنابه ليحتاج إلى ولي يتعزز به، وعن القرطبي أن الصابئين والمجوس يقولون : لولا أولياء الله لذل. أثبت لنفسه الأقدس الأسماء الحسنى ونزه نفسه عن النقائص كمضمون " قل هو الله أحد " ( الإخلاص : ١ )، ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ : عظمه عن الولد والشريك والولي عظمة تامة قد جاء في حديث أنه عليه السلام سماها آية العز وفي بعض الآثار ما قرأ في ليلة في بيت فيصيبه سرقة أو آفة.