هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات. وآياتها مائة وإحدى عشرة آية. وهذه السورة حافلة بالأخبار والغيبيات والمشاهد. ويأتي في طليعة ذلك كله ما بُدئت به السورة، وهو الحديث عن الإسراء برسول الله ( ص ) من مكة إلى بيت المقدس ليلا، وذلك في قوله سبحانه :( سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ). إن هذا الحديث كريم ومبارك، وهو هائل وجلل في مدلوله ومعناه. ذلك يتجلى في الملاحظات التالية :
الملاحظة الأولى : وهي التكريم البالغ لرسول الله ( ص )، هذا النبي الأمي المفضال، سيد الأولين والآخرين، وإمام البشرية في هذه الدنيا ويوم يقوم الناس لرب العالمين. وليس أدل على ذلك من اجتماع الأنبياء في بيت المقدس في هذه الليلة ليؤدوا الصلاة مجتمعين من خلف إمامهم محمد ( ص ). لا جرم أن هذه مكرمة قدسية رفافة، أوتيها نبينا ( ص )، فكان بها في الذروة السامقة من سلم الأطهار الأعاظم، والنبيين الأكارم.
الملاحظة الثانية : أن هذا الحديث الجلل لهو وثيق الصلة بصلب العقيدة الإسلامية نفسها، وهو من مقتضيات الإيمان في دين الإسلام، فهو بذلك حقيقة لا تحتمل التحذلق أو مثقال ذرة من شك أو ريبة، بل ذلك حدث قطعي لا شك فيه، ولا ينكره أو يرتاب فيه أو يتأوله على غير محمله الصحيح الثابت إلا جاحد زنديق، ليس له في حساب التقييم إلا أن يكون في عداد المرتدين المارقين.
الملاحظة الثالثة : في هذا الحدث العجيب الأكبر تتجلى مكانة القدس، قبلة المسلمين الأولى، ومهبط الوحي للعروج من ثم برسول الله ( ص ) إلى السموات العلا، ليرى هنالك من آيات الله الكبرى.
وعلى هذا فإن للقدس منزلة عليا في قلوب المسلمين في كل بقاع الدنيا، في هذا الزمان وفي كل زمان. وهي منزلة كريمة مميزة، ليست لغيرها من المدن إلا ما كان لمكة أو المدينة المنورة.
ولئن كانت الأوطان في تصور الإسلام تحتل أبلغ الاهتمام والتقدير، وتستوجب الجهاد واستعمال القوة دون أي بلد من بلدان الإسلام مهما كلف الثمن، فإن مدينة القدس لهي أسمى وأعظم قداسة من سائر البلدان ؛ فما من عدوان يطرأ عليها متربص دخيل إلا كان عدوانا على عقيدة المسلمين في سائر أوطانهم وديارهم، وفوق ذلك كله : فإن مدينة القدس تحفّ بها البركة والطهر، ولا يسكنها أو يرغب في الإقامة فيها من المسلمين إلا كتب له الأجر العظيم من ربه، وكان في زمرة المرابطين المصابرين.
الملاحظة الرابعة : أن مدينة القدس قد شهدت ألوانا من حملات الطغيان والاعتداءات عليها، سواء بالاحتلال البغيض، أو التقتيل، أو الترهيب، أو تغيير المعالم وكلِّ أوجه الحضارة فيها. وهي حملات واعتداءات ظالمة، أفرزتها طبائع المجرمين الظالمين، الذين ما فتئوا يتآمرون على هذه المدينة الإسلامية، لسلخها من جسم الإسلام والمسلمين.
مؤامرة وخيانات عاتية وتترى، قد اجتمعت عليها قوى الشر، وأساطين الطغيان والكفر، من عتاة البشرية وطواغيتها، ما بين صليبيين، واستعماريين، وماسونيين، وصهيونيين، كل أولئك قد تمالأوا على الإسلام والمسلمين، لاغتصاب فلسطين المسلمة من أهلها، وفي طليعتها القدس.
ولئن أفلح هؤلاء الخصوم العتاة اللّد في اغتصاب فلسطين والقدس ؛ فإن طوفان الإسلام الهادر آت لا محالة، ليطحطح عن هذه الأرض المباركة كابوس الفساد والشر، ولينسف قواعد الكفر والإباحية والعدوان نسفا. وحينئذ تعود البلاد المغتصبة لحظيرة الإسلام والمسلمين، حيث الوضع السليم الذي كتبه الله في قرآنه لفلسطين والقدس.
ﰡ
﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنيره من آياتنا إنه هو السميع البصير ﴾ ( سبحان )، اسم علم للتسبيح. سبحت الله تسبيحا وسبحانا ؛ فالتسبيح هو المصدر. و ( سبحان ) اسم علم للتسبيح. وسبحان الله، معناه تنزيه الله تعالى من كل سوء١.
قوله :( أسرى بعبده ليلا ) سرى وأسرى، من الإسراء وهو السير ليلا.
والمراد بعبده محمد ( ص ) ؛ فقد أسرى الله به ليلا، بلفظ التنكير، لقلة المدة التي وقع فيها الحدث القدسي الهائل ؛ إذ أسرى الله برسوله الكريم ( ص ) في بعض الليل من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة، في عرف السابقين من ذلك الزمان وكان ذلك قبل الهجرة بعدة أعوام. وسمي بالأقصى لبعد المسافة بين المسجدين ؛ ولأنه لم يكن حينئذ وراءه مسجد.
وهل وقع الإسراء بالروح وحده، أو بالروح والجسد معا ؟ فقد ذهب معظم العلماء من السلف والخلف من المسلمين إلى أن النبي ( ص ) قد أسري بروحه وجسده معا، وأنه ركب البراق بمكة ووصل إلى بيت المقدس وصلى فيه، ثم عرج بجسده من ثم إلى السموات. ويدل على ذلك : أن الحدث في ذاته معجزة هائلة. وهي دليل الوقوع بالروح والجسد مجتمعين. ولو كان الإسراء بالروح دون الجسد كالرؤيا في المنام لما كان في ذلك آية ولا معجزة ولما كان مدعاة للدهش والعجب، ولا معنى للبدء بتنزيه الله نفسه بقوله :( سبحان ) لا جرم أن البداية بهذا التعبير يكشف عن خبر مذهل وجلل قد تحقق في عملية الإسراء. ولا يكون ذلك بمجرد الروح.
وهو أمر غير عجيب ولا مثير ؛ بل إن ما حصل كان معجزة ضخمة لا تعني غير الإسراء بالروح والجسد مجتمعين. ويعزز ذلك ويؤيده ما ورد في هذه المسألة من أخبار كثيرة، منها ما أخرجه الإمام أحمد بسنده عن ابن عباس قال : قال رسول الله ( ص ) : " لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة فظعت٢ وعرفت أن الناس مكذبي، فقعدت معتزلا حزينا فمرّ به أبو جهل فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " نعم " قال : وما هو ؟ قال : " إني أسري بي الليلة " قال إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟ قال : " نعم " فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه. فقال : أرأيت إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثتني ؟ فقال رسول الله ( ص ) : " نعم " فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي. قال : فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما. قال : حدث قومك بما حدثني. قال رسول الله ( ص ) : " إني أسري بي الليلة " فقالوا : إلى أين ؟ قال : " إلى بيت المقدس " قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا ؟. قال : " نعم " قال : فمن بين مصفق، ومن بين واضع يده على رأسه متعجبا. قالوا : ونستطيع أن تنعت لنا المسجد ؟ - وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد- فقال رسول الله ( ص ) : " فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعته وأنا أنظر إليه " فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه.
ويستفاد من شدة تكذيب القوم واستنكارهم أن هذا الحدث العظيم ما كان ليحصل إلا بالروح والجسد ؛ فإنه ما كان لمثل هذا الدهش الذي طغى على المشركين ليكون لو أن حدث الإسراء حصل بالروح دون الجسد ؛ فرؤيا المنام لا مدعاة فيها لعجب أو إثارة ؛ لكن القوم قد أخذهم الذهول أخذا لإدراكهم أن المراد من الإسراء هو تحققه بالروح والجسد معا.
قوله :( الذي باركنا حوله ) والمراد بركات الدين والدنيا. أما الدين : فبيت المقدس متعبد الأنبياء ومهبط الوحي، وقد دفن حوله من الأنبياء والصالحين كثيرون. أما الدنيا : فقد جعل الله البركة لساكنيه في معايشهم وأرزاقهم وحروثهم وثمراتهم.
قوله :( لنريه من آياتنا ) لقد أراه الله في طريقه إلى بيت المقدس وبعد مصيره إليه وصعوده في السماوات من العجائب والمشاهد والعبر ما لا يطيق رؤيته غير أولي العزم من النبيين كرسول الله ( ص ). لقد أراه الله البيت المعمور وسدرة المنتهى، ولقي في صعوده بعض النبيين المرسلين وبعض الملائكة العظام.
قوله :( إنه هو السميع البصير ) الله سميع لما يقوله المشركون والمرتابون والمكذبون من تخريص عن الإسراء. وهو كذلك بصير بأعمالهم وما " يجنونه من منكرات الأفعال كصدهم عن دين الإسلام وإثارتهم من حوله الشبهات والأباطيل.
٢ - فظعت: أخسست بلفظاعة.
عطف بإيتاء موسى الكتاب على الإسراء بمحمد ( ص ) ليلا. وذلك من باب الإخبار عن الغائب ثم الرجوع إلى الخطاب ؛ فيكون معنى الكلام : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا وآتى موسى الكتاب وهو التوراة ( وجعلناه هدى لبني إسرائيل ) أي جعلنا التوراة بيانا لبني إسرائيل فيه هداهم ودليلهم الذي يستضيئون به فيمضون على المحجة الصحيحة وفيها من الأحكام والأوامر والعبر ما يحقق لهم السعادة والنجاة ما لم يضلوا أو يزيغوا أو يبتغوا غير سبيل الهداية والاستقامة.
قوله :( ألا تتخذوا من دوني وكيلا ) قيل : أنْ، زائدة ؛ أي : لا تتخذوا من دوني وكيلا : وقيل أنْ، بمعنى أي. فيكون التقدير. أي لا تتخذوا وهو تفسير لقوله :( هدى ). وقيل : لئلا تتخذوا ( من دوني وكيلا ) ٢ أي شريكا أو كفيلا بأمورهم. أو وليا ونصيرا من دوني.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٦..
والمقصود : تهييج بني إسرائيل وتذكيرهم بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم.
قوله :( إنه كان عبدا شكورا ) كان نوح دائم الشكر لله. فكان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله. ومن أجل ذلك سمي عبدا شكورا. روى الإمام أحمد بسنده عن أنس بن مالك ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " إن الله ليرضى على العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها " ٢.
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ١٥ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٤..
قوله :( ولتعلن علوا كبيرا ) لسوف تطغون وتتجبرون وتفجرون على الناس بظلمكم وطغيانكم وتسلطكم، وتثيرون بين الناس الشر والإرهاب.
إفسادكم ( بعثنا عليكم عبادا لنا أولى بأس شديد ) أي سلط ربكم عليكم جندا أشداء اولي قوة شديدة وهم أهل بابل بقيادة الملك الطاغية بختنصر. فبسبب طغيان بني إسرائيل وفسادهم هذه المرة، سلك الله عليهم جيش بابل العتاة بقيادة المتجبر العاتي بختنصر، فاستباحوا بيضتهم، وأذلوهم شر إذلال، وقهروهم أفظع قهر، وكذلك أحرقوا التوراة وخرجوا المسجد، وقتلوا أكثرهم وسبوا من بقي منهم. وذلك هو قوله :( فجاسوا خلال الديار ) أي تخللوها فطلبوا ما فيها كما يجوس الرجل الأخباري أي يطلبها. جاس، جوساً وجوساناً : تردد. جاس الشيء : طلبه بالاستقصاء، ووطئه وداسه. وجاسوا خلال الديار : ترددوا بينها بالإفساد وطلبوا ما فيها١. والمراد ههنا : أنهم طافوا بين الديار يطلبونهم ويقتلونهم ذاهبين جائين.
قوله :( وكان وعدا مفعولا ) أي كان هذا العقاب من الل قضء كائنا لا محالة.
قوله :( فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) إذا جاء وعد المرة الثانية من إفساد بني إسرائيل في الأرض، ليسوء عبادنا أولو البأس وجوههم ؛ إذ يجعلون آثار المساءلة والكآبة والسواد بادية على وجوههم لما يحيق بهم من معاودة السبي والقتل والإذلال على أيدي عبادنا الذين نبعثهم في عقابهم ( وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ) أي ليدخلوا بيت المقدس مثل دخولهم فيه المرة الأولى ( وليتبروا ما علوا تتبيرا ) ( ما )، مصدرية ظرفية زمانية. والتقدير : وليتبروا مدة علوهم١. تبر الشيء تبرا ؛ إذا هلك. وتبره ؛ أي أهلكه. وكل شيء جعلته مكسرا مفتتا فقد تبرته. والتبار، بالفتح معناه الهلاك. وتبّره تتبيرا ؛ أي كسّره وأهلكه٢. والمعنى : أنهم يدخلون المسجد ليدمروه ويخربوه أيما تدمير وتخريب، ما ظهروا عليه، أو مدة علوهم وعتوهم وظهورهم بقيادة قيصر ملك الروم، وقيل : بقيادة ملك بابل.
٢ - مختار الصحاح ص ٧٤ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٦٠..
قوله :( وإن عدتم عدنا ) ذلك وعيد من الله قائم يتهدد به بني إسرائيل على مرّ الزمن. وجملة ذلك : إن عدتم يا بني إسرائيل إلى المعاصي والفساد والتخريب ومخالفة أوامر ربكم واتبعتم الشيطان وما تسوّله لكم أهواؤكم العاتية ( عدنا ) أي عدنا عليكم بتسليط من يجتاحكم ويجوس خلال دياركم فيبادركم القتل وإحلال الذل والصغار. ولقد عادوا فعاد الله عليهم بما توعدهم به من العقاب الأليم ؛ إذ بعث عليهم في كل إفسادة من إفساداتهم الكثيرة، من يسومهم سوء العذاب بقتلهم وإذلالهم وتهجيرهم واستعبادهم.
قال ابن عباس في تأويل قوله :( وإن عدتم عدنا ) : عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد، ثم عادوا فعاد.
وقال الرازي في هذا الصدد : يعني إن بعثنا عليكم من بعثنا ففعلوا بكم ما فعلوا عقوبة لكم وعظة ؛ لتنتفعوا به وتنزجروا به عن ارتكاب المعاصي، ثم رحمكم فأزال هذا العذاب عنكم فإن عدتم مرة أخرى إلى المعصية، عدنا إلى صب البلاء عليكم في الدنيا مرة أخرى١.
على أن المراد بعذابهم في الآية، ما كان في الدنيا. أما عذاب الآخرة : فهو شأن آخر ؛ فهم كلما أفسدوا في الأرض وعاثوا في الدنيا تخريبا وتتبيرا ولما ؛ عجل الله لهم العذاب ؛ إذ بعث عليهم من يروم إهلاكهم وقتلهم بالجملة كالذي حصل لهم من تقتيل وإبادة على أيدي الجبابرة من طغاة العالم عبر التاريخ كبختنصر وسحاريب وطاغية مصر، فرعون. وملوك الروم، ثم أقطاب التسلط في العصور الوسطى الذين ساموا اليهود العذاب والهوان والتقتيل، سواء في أوربا أو في غيرها من بلدان العالم. وذلك كله يكشف عن وعيد الله الذي لا يبرح بني إسرائيل. وهو وعيد قائم وماثل، ما فتئ يتهدد يهود بالهلاك والتدمير كلما عادوا للإفساد في الأرض. وأصدق دليل على ذلك قوله سبحانه :( وإن تأذن ربك ليعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) وقد بينا ذلك في سورة الأعراف.
قوله :( وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا ) أي سجنا يحبسون فيه من الحصر وهو الحبس. وبذلك فإن جهنم محيطة بالكافرين من كل الجهات ولا رجاء لهم في التفلت أو الخلاص. وقيل : الحصر، بمعنى الفراش أو البساط ؛ فقد جعل الله جهنم للكافرين فراشا ومهادا. ٢
وبعد هذا البيان المفصل عن إفسادتي بني إسرائيل في الأرض. وتسليط الله الظالمين عليهم ؛ ما ينبغي لأحد أن يستدل من هذه الآيات على ان العقوبة الأخرى جزاء إفسادتهم الثانية لم تقع بعد. والصواب أن الإفسادتين الاثنتين قد وقعتا وقد أحل الله فيهم بسببها سخطه وغضبه فعذبهم بالتقتيل والإهلاك والسبي مرتين على أيدي العتاة المتجبرين من الأمم السابقة. أما الظن بأن العقاب الثاني كائن على أيدي المسلمين : فما نرى هذا إلا زعما خاطئا. ووجه الخطأ فيه : أن الذين توعد الله ببعثهم وهم أولوا البأس الشديد، عتاة ظالمون سيجوسون خلال الديار إهلاكا وتدميرا، فضلا عن دخول المسجد ليعيثوا فيه إفسادا وتخريبا. ويتجلى مثل هذه المعاني في قوله سبحانه :( وليتبروا ما علو تتبيرا ) أي ليدمروا وليخربوا ما غلبوا عليه. ومما هو معلوم من أحكام الحرب في شريعة الإسلام أن المسلمين في قتالهم الكافرين ليسوا أهل تخريب أو إفساد ولا هم كغيرهم من الظالمين الذين يعيثون في البلاد ظلما وإهلاكا بغير حق. وما شأن المسلمين في حرب أعدائهم الكافرين إلا أنهم دعاة خير وسلام وعمران ومرحمة. لا جرم أن المسلمين في كل الأحوال ليسوا إلا أصحاب رسالة سماوية عليا يرومون نشرها في الآفاق بالمودة والحجة والحكمة والصدق. فالمسلمون في ذلك كله أشد الخليقة رحمة بالخليقة. وأعظم الناس تحنانا ورأفة بالعباد.
وما ينبغي التنبيه إليه هنا أن الوعيد من الله الذي يتهدد به يهود، قائم ماثل أبد الدهر ؛ فهو وعيد غير قابل للنسخ أو الزوال، يتجلى في قوله سبحانه :( وإن عدتم عدنا ) أي إن عدتم إلى الفساد والخراب والظلم عدنا لتعذيبكم وكسر شوكتكم وإذلالكم. وكذلك قوله تعالى :( وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب ) فالله يبعث على بني إسرائيل كلما ظلموا وأفسدوا من يسومهم العذاب من متلف الشعوب والأمم ولئن بعث الله عليهم المسلمين ليعذبوا وليظهروا عليهم فما يكون المسلمون مخربين أو مفسدين أو ظالمين عتاة. وما كان شأنهم أن يظلموا الناس فيقتلوا الأطفال والأبرياء من الشيوخ والنساء والضعفاء. أو يعيثوا في البلاد هدما وتحريقا وهتكا. فما مثل هاتيك الفعال المرذولة والمظالم البشعة إلا ديدن الطغاة والمستكبرين والمتجبرين من طواغيت البشرية من أمثال بختنصر وسناريب وهولاكو وجنكيز خان وهتلر وستالين وغيرهم من عتاة الوثنيين والاستعماريين والصليبيين.
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٢٤- ٣٠ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٥٤ -١٦٠..
قوله :( ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجر كبيرا ) يحمل القرآن البشرى للمؤمنين الموقنين بعقيدة الإسلام والذين يأتمرون بأوامر الله، وينتهون عن نواهيه وزواجره ويلتزمون شرعه وأحكامه أن لهم من الله الجنة. وهي خير ما تدركه الأبصار أو تتصوره الأذهان من جزاء. وذلك لما فيه من بالغ النعيم والهناءة والسعادة والسكينة والراحة.
لا جرم أن الإيمان باليوم الآخر يتفق والفطرة البشرية أكمل اتفاق وينسجم مع قواعد الفكر السليم أوثق انسجام.
وفي الحديث : " لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها " ٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٦ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ٣٦، ٣٧ والكشاف جـ٢ ص ٤٤٠..
قوله :( فمحونا آية الليل وجعلنا آية النهار مبصرة ) محونا، بمعنى طمسنا ؛ أي جعلنا القمر وهو علامة الليل مظلما ليسكن الناس فيه فيجدوا من نعمة الراحة والسبات ما يكفكف عن نفوسهم وأجسادهم شدة الإعياء والنَّصَب. وكذلك جعلنا الشمس وهي علامة النهار ( مبصرة ) أي مضيئة ليستطيع الناس الإبصار فيها، وليسعوا في مناكب الأرض جاهدين منتشرين مبتغين من الله الخير والرزق وليجتهدوا في إعمار الحياة لتفيض بالصلاح والعمران والتعارف والبركة والاستقرار. وهو قوله سبحانه :( لتبتغوا فضلا من ربكم ) والفضل يراد به الرزق وتحصيل المعاش.
قوله :( ولتعلموا عدد السنين والحساب ) فإنه لا يتحقق للناس العلم بالمواقيت كلها إلا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار ؛ فهما باختلافهما تستبين للناس الأوقات والآجال والمواعيد، وتتم لهم بذلك مصالحهم في التجارات والإجارات والمداينات وأوقات الصيام والصلوات وغير ذلك من حساب الآجال ومواسم الأعمال. وبغير الوقوف على كل هذه المواقيت والأحايين ؛ تصير الحياة للناس بالغة العسر، بل ينقلب الواقع البشري بكل جوانبه ومناحيه ركاما من التعثر والتخبط والعشوائية والفوضى.
وبذلك تتعطل المصالح وتبيت الحياة غير ممكنة ولا محتملة.
قوله :( وكل شيء فصلناه تفصيلا ) أي ما من شيء يحتاج إليه العباد في مصالحهم الدينية والدنيوية من الأحكام والأخبار والتعاليم والمواعظ إلا بينه الله تبيينا ظاهرا لا لبس فيه١..
قوله :( ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا ) يخرج الله يوم القيامة لكل إنسان كتاب أعماله فيجده أمامه ( منشورا ) أي مفتوحا غير مطوي ليقرأه ويقف على ما حواه من أعماله كلها. وهو يعطاه إما بيمينه إن كان من أهل السعادة والأمان، أو يعطاه بشماله إن كان من أهل الشقاوة والخسران.
وجملة القول في ذلك : أنه ما من أحد إلا يحاسب عن نفسه لا عن غيره. فالمهتدي يجزيه الله ثواب اهتدائه، والضال صائر وحده إلى العقاب جزاء ضلاله وفسقه عن أمر الله.
قوله :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) الوزر معناه الإثم والثقل ؛ أي لا تحمل حاملة حمل أخرى١. قال الرازي في تأويل هذه الآية : إن المذنب لا يؤاخذ بذنب غيره. وأيضا غيره لا يؤاخذ بذنبه بل كل أحد مختص بذنب نفسه.
قال القرطبي في ذلك : الهاء في قوله :( وازرة ) كناية عن النفس ؛ : أي لا تؤخذ نفس آثمة بإثم أخرى حتى أن الوالدة تلقى ولدها يوم القيامة فتقول : يا بني ! ألم يكن حجري لك وطاءً ؟ ألم يكن ثديي لك سقاء ؟ ألم يكن بطني لك وعاء ؟ ! فيقول : بلى يا أمهْ ! فتقول : يا بني، فإن ذنوبي أثقلتني فاحمل عني منها ذنبا واحدا ! فيقول : إليك عني يا أمّهْ ! فإني بذنبي عنك اليوم مشغول !
ويستفاد من هذه الآية بعض الأحكام منها : أن الميت لا يعذب ببكاء أهله وهو قول السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) وقال به آخرون من أهل العلم. ودليلهم قوله سبحانه :( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) أي لا تحمل نفس ذنب نفس أخرى.
وذهب إلى خلاف ذلك ابن عمر وهو تعذيب الميت ببكاء أهله. واستند في ذلك إلى الخير : " إن الميت ليعذب ببكاء أهله " والصواب أنه لا معارضة بين الآية والحديث ؛ فإن الحديث محملة على ما إذا كان البكاء والنوح من وصية الميت كما كان في الجاهلية. أما إذا لم يوص بشيء من ذلك فلا إثم عليه من بكائهم عليه.
ومنها : الأطفال يموتون صغارا، فإن كان آباؤهم مسلمين ؛ فإنه لا خلاف في أنهم في الجنة. أما إن كان آباؤهم كفارا ففي شأنهم خلاف بين العلماء. وفي ذلك أقوال ثلاثة.
القول الأول : إنهم في الجنة. ودليل ما رواه أحمد عن خنساء عن عمها أن رسول الله ( ص ) قال : " والمولود في الجنة ".
وكذلك ما رواه البخاري عن سمرة بن جندب أن النبي ( ص ) قال في جملة ذلك المقام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه السلام، وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين. قالوا : يا رسول الله : وأولاد المشركين ؟ قال : " نعم وأولاد المشركين ".
القول الثاني : إنهم مع آبائهم في النار. ودليل ذلك ما رواه الإمام أحمد بن حنبل بسنده عن عبد الله بن أبي قيس أنه سأل السيدة عائشة ( رضي الله عنها ) عن ذراري الكفار فقال : قال رسول الله ( ص ) : " هم تبع لآبائهم " فقلت : يا رسول الله : بلا أعمال ؟ فقال : " الله أعلم بما كانوا عاملين ".
القول الثالث : التوقف في ذلك، استنادا إلى قوله ( ص ) : " الله أعلم بما كانوا عاملين " وهو في الصحيحين عن ابن عباس.
وقيل : إنهم من أصحاب الأعراف وهذا القول مندرج في كونهم من أهل الجنة ؛ لأن أصحاب الأعراف صائرون إلى الجنة.
قوله :( وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا ) ذلك من عدل الله المطلق ورحمته الواسعة بعباده ؛ فإنه لا يعذب أحدا إلا بعد أن يقيم عليه الحجة بإرسال الرسول فيبلغه دعوة الله. وهذه المسألة كانت موضع تفصيل وخلاف بين العلماء وهي المسماة بأهل الفترة، وهذه المسألة كانت موضع تفصيل وخلاف بين العلماء وهي المسماة بأهل الفترة، وهي المدة تقع بين زمنين أو نبيين٢ فالذين ماتوا في هذه المدة ولم تبلغهم دعوة رسول لا يسألون ولا يؤاخذون في الدنيا ولا في الآخرة. وهو قول طائفة من العلماء. ويعزز هذا القول، قوله سبحانه :( كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير ) وبمثل ذلك تقول المعتزلة. وهم يذهبون إلى أن الفعل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحر. وقيل : إن هذا في حكم الدنيا، وهو أن الله لا يعاقب أمه بعذاب إلا بعد الإعذار إليهم بالرسل وإقامة الحجة عليهم بالدلائل والبينات وهو قول الجمهور. أما في الآخرة : فإن الله ممتحنهم بسؤاله لهم أن يدخلوا النار، فإن أطاعوه ودخلوا نجوا، وإن عصوه ؛ كان جزاؤهم النار، فكانت لهم مع الكافرين القرار. وفي هذا أخرج الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله ( ص ) قال : " أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة ؛ فأما الأصم فيقول : رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئا، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول : رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول ؛ فيأخذ مواثيقهم ليطيعنّه، فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما " وفي رواية : " فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما، ومن لم يدخلها يسحب إليها " ٣
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٨- ٣٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٧٣..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٢٨-٣٢ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣١ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٧٣..
والمعنى : إذا أراد الله إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم، أو حان وقت إهلاكهم ؛ أمرهم بطاعته واتباع شرعه واجتناب معصيته، وقيل : أمرنا الجبابرة المتسلطين من الحكام والساسة ( ففسقوا فيها ) أي أبوا إلا أن يفعلوا المعاصي والفواحش والخروج عن دين الله ومنهجه وشرعه، والاستعاضة عن ذلك بشرائع الكفر والباطل ( فحق عليها القول ) أي وجب عليها الوعيد بالعذاب ( فدمّرناها تدميرا ) فأهلكناها إهلاكا.
قوله :( وكفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصير ) الله يعلم ما يفعله العباد من ذنوب، وهو يبصر ما يصدر عنهم من أفعاله ؛ فهو سبحانه عليم بالخوافي والأسرار١.
في ( العاجلة )، عبّر بالنعت عن المنعوت، والمراد الدار العاجلة ؛ أي دار الدنيا، وهي دار الفناء. والمعنى : من كان يبتغي الدنيا العاجلة الفانية وحدها ولا يسعى ويشقى إلا من أجلها والاستزادة من متاعها وزينتها ( عجلنا له فيها ما نشاء ) أي نعجل له في العطاء منها ما نشاء لا ما يشاء المتعجل ( لمن نريد ) بدل، من قوله :( له ) ١ أي من كانت بغيته الدنيا وحدها أعطى الله منها ما شاء أن يعطيه لمن شاء أن يعطيه من هؤلاء الذين لا يبتغون غير الدنيا وزينتها. وبذلك فإن المعجل قد قُيد بقيدين. القيد الأول : قوله :( ما نشاء ) أي ما يشاء الله تعجيله منها للمريد، لا ما يشاؤه المريد نفسه.
وبذلك فإن كثيرا ممن يريدون الدنيا وحدها لا ينالون منها ما يريدون ويتمنون ؛ لأن الله يعطي الدنيا لمن يشاء من عباده ؛ فالمعطي هو الله..
القيد الثاني : قوله :( لمن نريد ) أي لمن يريد الله أن يعجل له العطاء من هؤلاء الذين يريدون الدنيا. وهو ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
وهذه حقيقة ما ينبغي أن تغيب عن أولي الاعتبار والنباهة وهي أن المرء مهما غالى في الحرص والسعي والاجتهاد في طلب الدنيا ؛ فإنه لا يعطى منها إلا ما أعطاه الله إياه. وهو بإقباله على الدنيا وإدباره عن الآخرة لا يزيد من حظه في الدنيا إلا ما أعطاه ربه فما يحصد من إدباره عن الآخرة وتشبثه المطلق بالدنيا غير الهوان والخسران.
قوله :( ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ) ( يصلاها ) : يدخلها. أصلاه النار وصلاه إياها وفيها وعليها ؛ أي أدخله إياها وأثواه فيها٢، فبسبب عصيانه وإقباله على الدنيا، مدبرا عن الآخرة ؛ فإنه صائر إلى جهنم ( يصلاها مذموما ) أي يدخلها مخزيا ذليلا. والمذموم، إشارة إلى الإهانة والتحقير ( مدحورا ) أي مبعدا من رحمة الله وفضله، موغلا في الخسران والهوان.
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٣٣٥..
قوله :( وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلا ) ( درجات )، منصوب على التمييز. وكذلك تفضيلا٢، وذلك تأكيد على أن التفاوت في الآخرة بين العباد أكبر مما في الدنيا. فمن الناس يوم القيامة من يكون في عليين. ومنهم من يكون أسفل سافلين. حتى أهل الدرجات في الجنة يتفاوتون في منازلهم، فمنهم الأعلون في الفردوس، ومنهم دون ذلك، وإن كانوا جميعا في درجات النعيم. وكذلك أهل الدركات في النار تتفاوت أحوالهم في العذاب بين شديد حارق، أو أشد احترارا وتحريقا. فكلا الفريقين متفاوتون.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
( وقضى ) بمعنى أوجب وألزم، وذلك أمر من الله لعباده المؤمنين بألا يعبدوا سواه، وأن يحسنوا بالوالدين إحسانا.
ووجوه الإحسان للوالدين كثيرة. فمنها : التقدير والتكريم والتعظيم وبالغ التواضع لهما، والاحترام. وفي اقتران الأمر بالإحسان للوالدين بعبادة الله وحده تظهر الأهمية الكبرى لطاعة الوالدين في تصور الإسلام. لا جرم أن تكريمهما وطاعتهما في نظر الإسلام أمر بالغ الدرجة، عظيم الأهمية بما ليس له في الشرائع والملل والأديان نظير. إنه ليس من ديانة ولا نظام ولا فلسفة ولا عقيدة كالإسلام في مبلغ التكريم المميز الذي قرره هذا الدين للوالدين، والأم خصوصا. وعلى هذا فإن عقوق الوالدين أو أحدهما من أفظع المعاصي والكبائر التي تورد العاقين جهنم. وهذه حقيقة تكشف عنها الأخبار المروية عن رسول الله ( ص ) وتكشف عن مدى الاهتمام الأكبر الذي فرضه الإسلام لكلا الأبوين ؛ فقد روى البخاري عن عبد الله قال : سألت النبي ( ص ) : أي العمل أحب إلى الله عز وجل ؟ قال : " الصلاة على وقتها " قال : ثم أي ؟ قال : " بر الوالدين " قال : ثم أي ؟ قال : " الجهاد في سبيل الله " وبذلك فإن بر الوالدين أفضل الأعمال بعد الصلاة التي هي أعظم الأعمال في دين الإسلام.
وروى الإمام أحمد بسنده عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) قال : " رغم أنف، ثم رغم أنف، ثم رغم أنف رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عند الكبر ولم يدخل الجنة ".
وروى أحمد أيضا عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليّ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان فانسلخ فلم يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة ".
وروى أحمد كذلك عن مالك بن ربيعة الساعدي قال : فبينما أنا جالس عند رسول الله ( ص ) إذ جاءه رجل من الأنصار فقال : يا رسول الله هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرهما به ؟ قال : " نعم ؛ خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما ؛ فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما ".
وروى البزار في مسنده عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا كان في الطواف حاملا أمه يطوف بها، فسأله النبي ( ص ) هل أديتُ حقها ؟ قال : " لا، ولا بزفرة واحدة ".
ومن البر بالوالدين وعدم عقوقهما ألا يكون الولد سببا يفضي إلى سبهما أو شتمهما. وذلك من جملة التفريط بهما والإساءة الكبيرة لهما ؛ فقد روى مسلم عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله ( ص ) قال : " إن من الكبائر شتم الرجل والديه " قالوا : يا رسول الله، وهل يشتم الرجل والديه ؟ قال : " نعم يسبُّ الرجل أبا الرجل، فيسب أباه، ويسبُ أمه فيسب أمه ".
ومن الإحسان إلى الوالدين والبر بهما : ألا ينبغي الجهاد في حق الولد إلا بإذن والديه ما لم يكن الجهاد فرض عين، فإن كان وجوبه على التعيين لزم الخروج للجهاد جميع المسلمين. أما في الوجوب على الكفاية ؛ فإنه يلزم استئذان الوالدين للخروج ؛ فإن لم يأذنا لم يخرج الولد ؛ فطاعتهما واجبة على التعيين. وذلك في مقابلة الجهاد إن كان مفروضا على الكفاية ؛ فقد روي في الصحيح عن عبد الله بن عمرو قال : جاء رجل إلى النبي ( ص ) يستأذنه في الجهاد فقال : " أحيِّ والداك ؟ " قال : نعم. قال : " ففيهما فجاهد ". وفي غير صحيح مسلم قال : نعم، وتركتهما يبكيان. قال : " اذهب فأضحكهما كما أبكيتهما ".
ومن عقوق الوالدين : مخالفتهما فيما يرغبانه ؛ فإن من البر موافقتهما في ذلك ما لم يكن معصية. أما ما كان غير معصية فطاعتهما فيه واجبة، وإن كان المأمور به من المباح أو المندوب ؛ فقد روى الترمذي عن ابن عمر قال : كانت تحتي امرأة أحبها، وكان أبي يكرهها، فأمرني أن أطلقها فأبيت. فذكرت ذلك للنبي ( ص ) فقال : " يا عبد الله بن عمر طلق امرأتك " حديث حسن صحيح.
وما ينبغي تخصيص البر بالوالدين بكونهما مسلمين ؛ بل إن كانا غير مسلمين فإنه يجب الإحسان إليهما وبرهما وطاعتهما في غير معصية الله. ودليل ذلك قوله تعالى :( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم ) وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت : قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش ومدتهم ؛ إذ عاهدوا النبي ( ص ) مع أبيها فاستفتيت النبي ( ص ) فقلت : إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها ؟ قال : " نعم صلي أمك " والمراد بقولها : وهي راغبة ؛ أي راغبة في برها وصلتها أو راغبة عن الإسلام١.
على أن الظاهر من الأخبار عن رسول الله ( ص ) رجحان الاهتمام بالأم على الأب ؛ فقد أوصى النبي ( ص ) بالأم أعظم مما أوصى بالأب. وذلك لبالغ الجهد والعناء والنصب الذي يواجه الأم في تربية الأولاد. لا جرم أن عناءها لهو أشد من عناء الأب في ذلك، ومن أجل ذلك أوصى النبي ( ص ) بالأمهات كثيرا.
وذلك هو شأن الإسلام مع المرأة الأم ؛ إذ جعل لها من هائل التكريم وكامل الطاعة والرعاية والبر ما يفوق كل تصورات البشر من مشرعين أو متفلسفين أو مصلحين على اختلاف مسمياتهم ؛ فقد جاء في الصحيح عن أبي هريرة قال : جاء رجل إلى النبي ( ص ) فقال : من أحق الناس بحسن صحابتي٢، قال : " أمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أمك " قال : ثم من ؟ قال : " ثم أمك " قال : ثمن من ؟ قال : " ثم أبوك " ويدل هذا الحديث على أن الشفقة على الأم والاهتمام بها ينبغي أن يكون ثلاثة أمثال الشفقة والاهتمام بالأب لذكر النبي ( ص ) الأم ثلاث مرات وذكر الأب في الرابعة فقط. وقد روي عن الإمام مالك أن رجلا قال له : إن أبي في بلد السودان وقد كتب إلي أن أقدم عليه، وأمي تمنعني من ذلك، فقال له : أطع أباك ولا تعص أمك. وقد سئل الليث بن سعد عن هذه المسألة فأمره بطاعة الأم وزعم ان لها ثلثي البر. وحديث أبي هريرة يدل على أن للأم ثلاثة أرباع البر. وقيل : إنه لا خلاف بين العلماء أن للأم ثلاثة أرباع البر وللأب الربع.
على أن الأجداد فيما سبق من تفصيل كالآباء. وكذلك الجدات فإنهن أمهات. فلا يغزوا الأولاد بإذنهم. وليس ذلك لأحد من الأقارب سوى الأصول وهم الآباء والأمهات وإن علوا٣.
قوله :( إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ) ( إما )، هي، إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا لها. ولذا دخلت نون التوكيد في الفعل، ولو أفردت إن الشرطية لم يصح دخولها ( أحدهما ) فاعل ( يبلغن ). ( كلاهما )، معطوف على ( أحدهما ).
وقد ذكر الكبر لما يصيب الآباء والأمهات في هذه السن من ضعف في الجسم وفي العقل بل في البنية الشخصية كلها. وفي هذه الحال من الضعف والهرم يكون المرء محتاجا لغيره كيما يعينه ويسعفه ويرأف به فيمد له يد المساعدة. ومن المعلوم بداهة أن الآباء والأمهات كانوا أحرص الخلق على ولدهم في صغره. فما كانت تقضهم أو تثنيهم أوساخه وأقذاره وعبثه عن الاهتمام به والحدب عليه ليظل نظيفا معافى سليما من الأدران أو العبث أو السفه. فإذا ما كبر الآباء والأمهات وانقلبت به الحال من القوة إلى هوان الجسد والأعصاب ؛ لزم الولد أن يبر بهما، ويسعى جاهدا حريصا لخدمتهما والسهر عليهما، ودفع الأذى والمكاره عنهما دون تخاذل في ذلك أو تثاقل أو استكبار. وأيما تخلف دون خدمتهما وطاعتهما ؛ فهو سقوط في العصيان الفظيع المفضي إلى جهنم.
قوله :( فلا تقل لهما أف ) ( أف )، اسم من أسماء الأفعال ؛ فهو مبني على الكسر لالتقاء الساكنين٤.
والأف معناه الضجر. وقيل : معناه النتن ؛ أي لا تتقذرهما كما أنهما لم يتقذراك حين كنت تتغوط وتبول. والصواب النهي عن إسماع الوالدين أيما إساءة وإن تكن في بساطتها أن يقول الولد لهما أو لأحدهما ( أف ) وهذه أهون مراتب التضجر أو التبرم ؛ فإن ذلك حرام. وهذا يدل على تحريم سائر أنواع الإيذاء استنادا إلى القياس الجلي وهو إذا نصّ الشارع على حكم صورة وسكت عن حكم صورة أخرى، وكان ثبوت ذلك الحكم في محل السكوت أظهر من ثبوته في محل الذكر ؛ فإن محل السكوت عندئذ أولى بالحكم كالضرب أو التعنيف والشتم أولى بالتحريم من التأفيف ؛ أي أن المنع من التأفيف إنما يدل على المنع من الضرب بواسطة القياس الجلي الذي يكون من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى٥.
قوله :( ولا تنهرهما ) نهره وانتهره، بمعنى زجره٦ ؛ أي لا تزجرهما بما يسيء إليهما في تنغيص أو إغضاب أو تنفير ( وقل لهما قولا كريما ) وهو أن يكلمهما في لين وسهولة وأدب بما يشير إلى تعظيمهما واحترامهما، وألا يخاطبهما بصوت مرتفع من غير حاجة.
٢ - صحابتي، أو صحبتي بالضم، مصدر صحب. انظر مختار الصحاح ص ٣٥٦..
٣ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٣٨ -٢٤١ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٥..
٤ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٨٨..
٥ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٠، ١٩١..
٦ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٥ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٤٢ – ٢٤٦ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٣..
قوله :( وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ) لم يقتصر على إيجاب البر بالوالدين والإحسان إليهما والنهي عن الإساءة إليهما بأدنى مراتب الإساءة كالتأفيف ؛ بل أمر الوالد أن يدعو لهما في الحياة وفي الممات بالرحمة. وهو قوله :( ارحمهما ) ولفظ الرحمة جامع لكل أصناف الخير والفضيلة ؛ فالولد مأمور أن يترحم على أبويه وأن يدعو لهما بالخير والغفران والرحمة في حياتها وبعد موتهما. وذلك جزاء ترحمهما وترفقهما به وحدبهما عليه وهو صغير ؛ إذ ربياه في صغره، وكابدا من صنوف التعب والنصب والإرهاق ما يبدد العافية والأعصاب تبديدا، وذلك من أجله كيما يكبر ويترعرع فيصير في عداد الأقوياء والنشطاء والمعافين١.
قوله :( إن تكونوا صالحين ) أي صادقين في قصد البر بهم ثم فرطت منكم في حال من التعجل والغضب بادرة أو فلتة فيها إيذاء لهما، ثم رجعتم إلى الله تائبين نادمين ( فإنه كان للأوابين غفورا ). المراد بالأوابين : الرجاعون إلى الله. من الإياب والأوب والمآب وهو الرجوع١ والأواب : هو الذي إذا تلبس بذنب أو خطيئة بادر التوبة دون وناء ؛ فهو من شأنه وديدنه الرجوع إلى ربه تائبا نادما على ما بدر منه من إثم أو خطيئة. وروي عن سعيد بن المسيب قال : الأواب الذي يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب، ثم يذنب ثم يتوب٢. وهكذا لا يبرح المؤمن الأوبة إلى ربه في كل حال ليبادر التوبة كلما تعثرت فيه جارحة من جوارحه بإثم صغيرا أو كبيرا. والله جل شأنه غفار للتائبين النادمين الآيبين. وفي الحديث الصحيح أن رسول الله ( ص ) كان إذا رجع من سفر قال : " آبيون تائبون عابدون لربنا حامدون ".
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٥١..
وكذلك المسكين. وقد تقدم الكلام في معناه سابقا. وجملة ذلك : أن المسكين من لا شيء له يكفي عياله. وقيل : الفقير القاعد في بيته لا يسأل الناس، والمسكين الذي يسأل. وقيل : الفقير الذي له بعض ما يقيمه، والمسكين أسوأ حالا من الفقير. وهو قول الجمهور من العلماء١ ؛ فإنه يدفع إليه ما يفي بقوته وقوت عياله.
وكذلك ابن السبيل، وهو المسافر المنقطع به، وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به٢، وهذا يستوجب أن يعطى من المال ما يعنته على سفره حتى يبلغ مقصده.
قوله :( ولا تبذر تبذيرا ) التبذير معناه الإنفاق في غير الحق وهو الإسراف. وقيل : النفقة في معصية الله وفي غير الحق وفي الفساد. أما من أنفق في الشهوات، هل هو مبذر ؟ فيجاب عن ذلك بأن من أنفق ماله في الشهوات زائدا على الحاجات وعرّضه بذلك للنفاذ فهو مبذر. وإذا لم يعرضه للنفاد فليس بمبذر. ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر يحجر عليه، ولا يحجر عليه ببذله في الشهوات إلا إذا خيف عليه النفاد.
٢ - المعجم الوسيط جـ١ ص ٤١٥..
قوله :( وكان الشيطان لربه كفروا ) الشيطان خبيث وعات ومتمرد وهو شديد الجحود لربه فاحذروا التشبه به في الفساد وفعل الحرام.
قال الرازي في ذلك : والمعنى : أن عند حصول الفقر و القلة لا تترك تعهدهم بالقول الجميل والكلام الحسن ؛ بل تعهدهم بالوعد الجميل وتذكر لهم العذر وهو حصول القلة وعدم المال. أو تقول لهم : اله يسهل.
قوله :( ولا تبسطها كل البسط ) ( كل )، منصوب على المصدر لإضافته إليه. وهذا مثل آخر ضربه في المبذر المسرف. ذلك أن قبض اليد يحبس ما فيها، وهو كناية عن البخل. أما بسطها : فإنه يُُذهب ما فيها وهو كناية عن التبذير، وكلا النقيضين، البخل : والتبذير، محظور.
قوله :( فتقعد ملوما محسورا ) ( ملوما )، أي يلوم نفسه على ما فاته من ماله ؛ فقد ضيّع ماله بالكلية ولم يُبق لنفسه وأهله وولده منه شيئا. وكذلك يلومه الناس لعدم إعطائهم منه شيئا. و ( محسورا )، أي نادما على ما فرط منه، أو منقطعا به لا شيء عنده. والمقصود : تشبيه حال من أنفق كل ماله بمن انقطع في سفره١.
قوله :( إن قتلهم كان خطأ كبيرا ) أي إثما كبيرا. نقول : خطأ يخطأ بالكسر. مثل : أثم يأثم إثما فالخِطء بالكسر مصدر ومعناه الذنب. والاسم الخطيئة. والجمع : الخطايا. والخاطئ من تعمد ما لا ينبغي. أما أخطأ يخطئ خطأك إذا أتى بما لا ينبغي من غير قصد. والاسم الخطأ بالفتح١.
وجملة ذلك : التنديد البالغ بقتل الأولاد خشية الفقر بسبب الإنفاق عليهن. ولا يجترئ على هذا المنكر الفظيع إلا ظلوم أثيم ؛ فإن قراءة الأولاد قرابة الجزئية والبعضية ؛ فهي بذلك من أعظم البواعث للمحبة والشفقة. فمن ذا الخاطئ الكنود الذي يفعل مثل هذه الفعلة النكراء إلا من أفرغ قلبه من كل معالم الرحمة والشفقة. وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قلت : يا رسول الله، أي ذنب أعظم ؟ قال : " أن تجعل لله ندا وهو خلقك " قلت : " ثم أي ؟ قال : " أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك " قلت : ثم أي ؟ قال : " أن تزني بحليلة جارك ".
ولقد شدد الإسلام النكير على الزنا ؛ لأنه خلق الفاسدين والآسنين من الناس الذين يرتعون في مستنقع الفحش والقذر. والذين لا يستمرئون النكاح الطاهر المشروع بل يروق لهم الغوص في وحل الرذيلة ودهاليز الخنا لينتكسوا بذلك إلى حظيرة البهائم العجماوات التي لا يحكمها عرف ولا نظام. على أن الزنا رذيلة بالغة الفحش لأنه سبب لخلط المياه وتزييف النسل والأنساب ؛ فهو بذلك سبيل يفضي إلى الفحش والخيانة في الذرية والأولاد. وذلك هو ديدن الحضارة المادية في هذا الزمان، الحضارة التي تسخر من القيم والفضائل وتستند في أساسها إلى الشهوات والأهواء والغرائز، أو ما تميل إليه النفوس من حق أو باطل، فما تعبأ الحضارة المادية في هذا الزمان بغير مقتضيات الغريزة، بغض النظر عن مبادئ الدين أو ظواهر الخلق والفضيلة. ولعل ظاهرة الزنا الفاحش المستشري، أكثر شيوعا في المجتمعات المادية الجاحدة التي سوّل لها شياطين الإنس فعل المنكرات والمعاصي التي اتفقت على تحريمها الأديان السماوية ومن أظهرها الزنا. لقد سولت الشياطين البشرية أن ذلك معقول ولا ضير في فعله أو الإغراق فيه ما لم يكن غصبا. هكذا سوّل المضلون الأشقياء من أمثال فرويد ودارون ودوركايم وأتباعه ومريديهم من الضالين والمخدوعين في كل مكان ؛ لقد سولوا للبشرية المخدوعة المضللة أن الزنا ممارسة جنسية لا غبار عليها وهو كغيره من المطالب الفطرية التي يستوي فيها الأحياء من بشر وبهائم ؛ فليس من عيب أو بأس أو مخالفة في فعله. فاستجابت البشرية المضللة لمثل هذه الأصوات الشيطانية حتى غاصت في وحل القاذورات وانتكست إلى حمأة الدنس انتكاس السادرين التائهين الحيارى.
لكن الإسلام الذي يقيم الحياة على لاطهر والصفاء والنظافة ؛ ويبني مجتمعه على الصراحة والاستقامة والوضوح، بعيدا عن فوضى البهائم الصًّم، وعن مفاسد العهر الفاضح- قد حرم الزنا أشد تحريم بقدر تحضيضه وتحريضه على النكاح الطاهر المبارك. النكاح المبرأ السليم، القائم على المودة المستديمة والانسجام المترابط الوثيق. فقال سبحانه :( ولا تقربوا الزنى ) نهى عن مجرد القرب من الزنا. وهو يدل على تحريم كل أسباب الزان ودواعيه وبواعثه التي تفضي إليه كالتقبيل والخلوة والنظرات المكرورة المريبة، والاختلاط الفاجر المغالي ؛ لما في ذلك من مدعاة يخشى معها الوقوع في الفاحشة.
ثم علل النهي عن الزنا والدنو منه بقوله :( إنه كان فاحشة ) أي معصية مجاوزة لحد الشرع والعقول. فكل شيء جاوز حده فهو فاحش١.
قوله :( وساء سبيلا ) أي وساء طريق الزنا طريقا ؛ لأنه طريق الخراب والفحش والرذيلة وفساد الأفراد والمجتمعات٢.
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٥٨ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٣ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ١٩٨-١٩٩..
ذلك نهي غليظ عن معصية فظيعة كبرى وهي قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق. وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنا بعد إحصان أو تقتل قودا بنفس، وفي ذلك ورد في الصحيحين أن رسول الله ( ص ) قال : " لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث : النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة ".
والأصل في قتل النفس التحريم. وإزهاق النفس بغير حق جريمة فظيعة لا يفوقها في البشاعة والنكر غير الإشراك بالله. وفي الحديث : " لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم " والنفس المؤمنة ذات شأن وقدر عظيمين في ميزان الله. والله جل وعلا يجب أن يُعبد في الأرض حق العبادة. ومن عبدته المؤمنون من البشر الذين يؤمنون به إيمانا ويسبحون بحمده في كل آن، ويذكرونه قياما وقعودا وفي كل الأحوال.
ذلكم هو الإنسان المؤمن الذي كتب الله أن يصان دمه فلا يُعتدى عليه أيما اعتداء. وما الاعتداء على المسلم بالقتل إلا ذروة العدوان الصارخ وقمة المعاصي والموبقات التي تودي بالمجرمين القتلة إلى جهنم وبئس المصير.
قوله :( ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا ) ( قتل مظلوما ). أي قتل دون حق. وذلك بغير ما تبين من أسباب وهي القتل والزنا والردة. والولي من الولْي، بسكون اللام، ومعناه القرب. والمقصود ههنا : النسب الذي هو البعضية ؛ فكل من ينتسب إليه بنوع من أنواع البعضية فهو ولي.
واختلف العلماء في المراد بالولي ؛ فقد قيل : يراد به الوارث مطلقا ؛ فكل من ورث القتيل فهو وليه. واختلفوا في دخول النساء في الدم ؛ فقد قيل بدخولهن لعموم الآية. وقيل : بعدم دخولهن.
قوله :( سلطانا ) معناه حجة، يجوز له بمقتضاها قتل القاتل ؛ فهو بذلك إن شاء قتل، وإن شاء عفا على الدية، وإن شاء عفا مطلقا ؛ أي من غير دية ؛ وذلك لما صح عن رسول الله ( ص ) قال يوم فتح مكة : " ألا ومن قتل له قتيل فهو بخير النظرين : بين أن يقتل، أو يأخذ الدية " على أن تشريع السلطنة لولي القتيل المظلوم على هذه الكيفية لهو أنف وأصلح للناس انسجاما مع فلسفة الإسلام المراعية للفطرة البشرية المختلفة لدى الناس. وهم ما بين راغب في انتقام لنفسه من الجاني، أو راغب في ماله يأخذه دية عن قتيله وكفى، أو راغب في عفو مطلقا. لكن التوراة لم تقرر غير القتل تشريعا لجناية القتل العمد. وعلى النقيض منها الإنجيل ؛ إذ لم يقرر القصاص ولا الدية. وإنما أوجب العفو مطلقا. فكل من الكتابين إنما يراعي صنفا من البشر دون الأصناف الأخرى. لكن شريعة الإسلام قد راعت كل أصناف البشر على اختلاف رغباتهم وطبائعهم وأهوائهم.
قوله :( فلا يسرف في القتل ) أي لا يقتل غير قاتله ؛ فقد كان أهل الجاهلية إذ قتل رجل رجلا، عمد ولي القتيل إلى الشريف من قبيلة القاتل فقتله بوليه وترك القاتل ؛ فنهى الله عن ذلك ؛ لأنه إسراف في القتل. وقيل : لا يقتل بدل وليه اثنين، كما كانت العرب تفعله.
وقيل : لا يمثل بالقاتل. وقيل : كل ذلك إسراف منهي عنه.
قوله :( إنه كان منصورا ) الهاء، عائدة على القتل. وقيل : على الولي. وقيل : على المقتول. ١ والراجح أنها عائدة على الولي ؛ لأنه أقرب مذكور، ولأنه ولي دم المقتول، وقد سلطه الله على القاتل الظالم، فليكتف بهذا القدر فإنه يكون فيه منصورا ولا ينبغي أن يطمع فيما هو أكثر٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٣٨ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٦، ١١٩٧ وتفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٠٥..
قوله :( حتى يبلغ أشده ) الأشد، بمعنى القوى في البدن والعقل والتجربة، وصلاح حاله في دينه وسلوكه. وعندئذ تزول عن اليتيم ولاية غيره.
قوله :( وأوفوا بالعهد ) العهد يشمل كل عقد من العقود فيما بين الناس، سواء في البيوع أو الإجارات أو الشركات أو الأيمان النذور أو عقود الصلح والأنكحة أو ما يجري من تعاقد بين المسلمين وأهل الحرب كالصلح ونحوه ؛ فكل ذلك عهد يجب الوفاء به.
قوله :( إن العهد كان مسؤولا ) الله سائلكم عن نقض العهود فلا تنقضوها ؛ فإنه لا ينقض العهود والمواثيق أو يخفرها إلا الغادرون الخائنون. لا جرم أن المسلمين أصدق الناس حديثا وأوفاهم عهدا وأبعدهم عن مواطن الخداع والخيانة والدغل١.
قوله :( ذلك خير وأحسن تأويلا ) الإشارة عائدة إلى الوفاء في الكيل، والوزن بالعدل. وذلك كله خير لكم ؛ إذ تنتزعون من الناس محبتهم وثقتهم وكمال إقبالهم عليكم بيعا وشراء فتكسبون وترزقون. وهو كذلك أحسن تأويلا ؛ أي أحسن عاقبة لكم وذلك في الآخرة إذ يكتب الله لكم حسن المثوبة والجزاء٢.
٢ - تفسير الرازي جـ٢٠ ص ٢٠٥-٢٠٧ وأحكام القرآن لابن العربي جـ٣ ص ١١٩٦ – ١١٩٩..
قوله :( إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولا ) الله جل وعلا يسأل جوارح الإنسان يوم القيامة فتنطق بما أحست أو شاهدت، فيسأل السمع عما سمع، والبصر عما رأى، والفؤاد عما اعتقد ؛ فكل عضو من هذه الأعضاء مسؤول أمام الله عن الإنسان ليلقى ما يستوجبه من الجزاء.
وفي التنديد بالمتكبر المختال يقول الرسول ( ص ) : " بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما ؛ إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل٢ فيها إلى يوم القيامة ".
قوله :( إنك لن تخرق الأرض ) لن تستطيع أن تنقب الأرض أو تجعل فيها خرقا بدوسك لها ووطئك عليها ( ولن تبلغ الجبال طولا ) ( طولا )، منصوب على المصدر في موضع الحال ؛ أي لن تساوي الجبال بطولك وقدرتك، وأنت تتيه في مشيتك بطرا وخيلاء. ولكنك في حقيقتك عبد ضعيف تحيط بك ظواهر الضعف من كل جانب. فما ينبغي لإنسان هذا شأنه أن يستكبر أو يختال في الأرض مرحا وغرورا.
٢ - يتجلجل في الأرض: يسيخ فيها. انظر مختار الصحاح ص ١٠٨..
قوله :( ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما مدحورا ) الخطاب لرسول الله ( ص ). والمراد به كل الناس ؛ إذ يحذرهم من فظاعة الشرك. لا جرم أن الشرك ظلم عظيم ؛ فهو يودي بالمشركين في جهنم ملومين مدحورين ؛ أي تلومون أنفسكم ويلومكم الخلق فيحيط بكم التعس والحسرة والندامة من كل جانب فلا يغني عنكم ذلك من العذاب شيئا. والمدحور، معناه المبعد من كل خير ورحمة.
إنكم بقيلكم الظالم هذا إنما تفترون على الله أفظع افتراء، وتكذبون عليه أشد الكذب.
قوله :( ليذكروا ) أي ليعتبروا ويتدبروا ما بيناه من الأدلة والحجج، فيبينوا إلى ربهم طائعين مذعنين ( وما يزيدهم إلا نفورا ) أي لا يزيد المشركين ما بيناه لهم من المواعظ والدلائل والعبر إلا إدبارا عن الحق وإمعانا في الضلال والباطل. وذلك هو ديدن الظالمين التائهين، أولي القلوب الغُلْف، والطبائع السقيمة ؛ فإنهم لا يزيدهم التذكير والتحذير والزجر إلا عتوا واستكبارا١.
وفي سنن النسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله ( ص ) عن قتل الضفدع وقال : " نقيقها تسبيح ".
واختلفوا في تخصيص العموم في قوله :( وإن من شيء إلا يسبح بحمده ) فقيل : ليس مخصوصا. والمراد به تسبيح الدلالة ؛ أي أن كل محدث يشهد على نفسه بأن الله هو الخالق القادر. وقيل : هذا التسبيح على حقيقته. فما من شيء في الكون إلا ويسبح الله تسبيحا لا يسمعه البشر ولا يفقهونه. وقيل : المراد به الخصوص في كل حي ؛ فالشجرة حال إثمارها واخضرارها، تسبح بحمد الله. وإذا أصبحت خوانا، فإنها لا تسبح. والخوان، بكسر الخاء ؛ أي الذي يؤكل عليه. وهو معرب١.
والمراد بالخوان، المائدة من الخشب. ويستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس أن رسول الله ( ص ) مرّ بقبرين فقال : " إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ؛ أما أحدهما : فكان لا يستنزه من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة " ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال : " لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا ".
ويستفاد من ذلك أيضا أن قراءة القرآن تخفف من عذاب أهل القبور. قال القرطبي في ذلك : وإذا خُفف عنهم بالأشجار فكيف بقراءة الرجل المؤمن القرآن.
والذي أجده أصوب القول بالعموم. فما من شيء، حيا كان أو جمادا، أخضر أو يابسا، إلا يسبح بحمد الله ؛ إذ يقول : سبحان الله وبحمده. ويدل على ذلك من الأخبار ما رواه ابن ماجه في سننه ومالك في الموطأ عن أبي سعيد الخدري ( رضي الله عنه ) أن النبي قال : " لايسمع صوت المؤذن جن ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء ؛ إلا شهد له يوم القيامة ".
أي إذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم ( حجابا مستورا ) أي مانعا يحول دون رؤيتهم إياك أو وصولهم إليك. و ( مستورا ) بمعنى ساتر. وفي ذلك قال الحافظ أبو يعلى عن أسماء بنت أبي بكر ( رضي الله تعالى عنها ) قالت : لما نزلت سورة ( تبت يدا أبي لهب وتب ) أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر١ وهي تقول :
مذمّما عصينا *** وأمره أبينا *** ودينه قلينا
والنبي ( ص ) قاعد في المسجد، ومعه أبو بكر ( رضي الله عنه ). فلما رآها أبو بكر قال : يا رسول الله لقد أقبلت وأنا أخاف أن تراك. قال رسول الله ( ص ) : " إنها لن تراني " وقرأ قرآنا فاعتصم به منها. وقرأ :( وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا ) فوقفت على أبي بكر ( رضي الله عنه ) ولم تر رسول الله ( ص ) فقالت : يا أبا بكر أُخبِرْت أن صاحبك هجاني. فقال : لا ورب هذا البيت ما هجاك. قال : فولت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها.
ويزاد إلى هذه الآية أول سورة " يس " ؛ فإن ذلك يعصم قارئ هذه الآيات من كيد الظالمين وشرهم. فقد جاء في السيرة عن هجرة النبي ( ص ) ومُقَام علي ( رضي الله عنه ) في فراشه أن رسول الله ( ص ) أخذ لدى خروجه حفنة من تراب في يده، وأخذ الله عز وجل على أبصارهم عنه فلا يرونه ؛ فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من يس ( يس والقرآن الحكيم إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم تنزيل العزيز الرحيم ) إلى قوله :( وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لا يبصرون ) حتى فرغ رسول الله ( ص ) من هذه الآيات، ولم يبق منهم رجل إلا وقد وضع على رأسه ترابا. ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب٢.
٢ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٣ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٦٩..
قوله :( إذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولو على أدبارهم نفورا ) ( وحده )، مصدر سد مسد الحال. وأصله وحد يحد وحدا. ووحده بمعنى واحدا. والمعنى : أن المشركين لفرط حقدهم وكراهيتهم للإسلام لا يطيقون سماع الحق الماثل في شهادة لا إله إلا الله. فإذا قلت وأنت تتلو القرآن : لا إله إلا الله ( ولو على أدبارهم نفورا ) أدبروا نافرين نفورا ؛ أي خرجوا مبغضين قالين١.
قوله :( وإذ هم نجوى ) وأعلم بما يتناجون به في أمرك ؛ إذ قالوا فيما بهم إنه ساحر. وإنه مجنون. وإنه كاهن. وإنه شاعر. وغير ذلك من أباطيل المشركين.
قوله :( إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلا مسحورا ) وهو قول الكبراء والسادة من المشركين ؛ إذ قالوا للناس : إنكم لا تتبعون إلا رجلا قد خبله السحر فاختلط عليه عقله. وذلك ليشيعوا من حوله الشكوك والأباطيل فينفر عنه الناس نفورا.
قوله :( فسينغضون إليك رؤوسهم ) أي يحركون رؤوسهم استهزاء مما سمعوه منك. أنغض رأسه ؛ أي حركه كالمتعجب من الشيء١. أنغض رأسه ينغضه إنغاضا. والإنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل. وذلك هو ديدن المرتابين الغواة في كل زمان. فدأبهم وديدنهم التكذيب مبادرين من غير روية ولا استبصار ولا إمعان. فما يلبثون أن يسمعوا كلمة الحق تصدر عن دعوة الإسلام حتى يبادروا التكذيب والصد وهم ينغضون رؤوسهم تهكما واستهزاءً. أولئك هم الضالون المضلون في كل زمان الذين أبوا إلا السقوط في الشقوة والتعس والعمه ليصيروا في الآخرة إلى جهنم.
قوله :( ويقولون متى هو ) يسأل المشركون، مرتابين مستبعدين قيام الساعة : متى البعث والمعاد ( قل عسى أن يكون قريبا ) أي يوم الساعة آت لا محالة. وكل ما هو آت قريب.
والمعنى على التقدير الأول : اذكروا أيها الناس يوم يدعوكم ربكم إلى الخروج من قبوركم يوم القيامة حيث الحساب والجزاء فتستجيبون لله بأمره وندائه لكم إلى المحشر وأنتم تقولون : سبحانك اللهم وبحمدك. ( وتظنون إن لبثتم إلا قليلا ) أي يوم تقومون من قبوركم تحسبون أنكم لم تمكثوا في الدنيا إلا زمانا قليلا. أو لم تمكثوا في القبر إلا قليلا. وذلك بعد معاينة القيامة بأهوالها الجسام وقوارعها المزلزلة العظام. وإذ ذاك يستصغر الظالمون الحياة الدنيا ويعلمون أنها قصيرة ومهينة٢.
٢ - تفسير الطبري جـ١٥ ص ٧٠ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣١٧..
والإنسان بطبعه تؤزّه فظاظة الحديث وبذاءة اللسان. فما يتلقى الإنسان من خصمه فاحش القول حتى يستشيط كراهية ونفورا وامتعضا. وذلك يفضي في الغالب إلى اشتداد الخصام والشقاق بين المسلمين، وتدمير الأخوة والعلائق الودية فيما بينهم. وهذا ما يبتغيه الشيطان للعباد. وهو قوله سبحانه :( إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ) ( ينزغ ) بمعنى يفسد١ ؛ فالشيطان كائن شرير، قد جبل على الشقاوة والشر، وهو عدو لآدم وذريته. وهو بطبعه يركم في أعماقه الحقد والضغينة والرغبة المستديمة في الانتقام من البشر بإيرادهم موارد الشر والمكاره والخسران. فما من فرصة أو فسحة إلا ويتدسس من خلالها الشيطان من أجل الوقيعة بين الناس ؛ فقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة ( رضي الله عنه ) قال : قال رسول الله ( ص ) : " لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح ؛ فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار ".
قوله :( ولقد فضلنا بعض النبيئين على بعض ) هذه سنة الله في عباده أن جعلهم مختلفين في أقدارهم ومنازلهم، متفاوتين في درجاتهم ومراتبهم. وهذه الحقيقة في المفاضلة تنسحب على عموم النبيين والمرسلين ولا خلاف أن المرسلين أفضل من النبيين غير المرسلين. وكذلك فإن أولي العزم من الرسل أفضل من بقيتهم. وأولوا العزم من الرسل خمسة، وهم : نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام. ويستفاد من ذلك قوله :( وإذ أخذنا من النبيئين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ) ومن الثابت أن محمد أفضل النبيين والمرسلين، ومن بعده إبراهيم الخليل، ثم موسى، ثم عيسى. وذلك هو تقدير الله في الخلق لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون.
قوله :( وآتينا داود زبورا ) ذلك تنبهي على فضل هذا النبي الكريم ؛ فقد آتاه الله الزبور. وهو كتاب سماوي مقدس يتكون من مجموعة من الخطب والدعاء كان داود يخاطب بذلك ربه كلما دخل بيت العبادة. وبذلك فإن الزبور ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود. وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد. وقد روي عن أنس قوله في ذلك : " الزبور ثناء على الله، ودعاء وتسبيح " ١.
لا جرم أن يكون في ذلك درس للمسلمين في كل زمان ليعوه ويتدبروه فيستيقنوا أن كاشف الضر عنهم إنما هو الله وحده. فما ينبغي لهم بحال أن يعتمدوا على العباد كالرؤساء والكبراء والعظماء من الناس. ما ينبغي للمسلمين في كل الأحوال أن يركنوا إلى المخاليق في كشف ما يحيق بهم من النوائب والملمات. وإنما يركنوا إلى الله وحده بعد أن يتخذوا لذلك ما استطاعوا من الاستعداد والأسباب.
قوله :( إن عذاب ربك كان محذورا ) عذاب الله وجيع وواصب. وهو لا تطيقه الكائنات حتى الرواسي الشامخات لو وضعت فيه لانماعت ؛ وذلك لفظاعة لهيبه وشدة احتراره ؛ فهو بذلك حقيق أن يحذره كل أحد١.
( وإن )، حرف نفي بمعنى ما. و ( من )، تفيد الاستغراق. وهذا إخبار من الله سبحانه بأنه ما من أهل قرية من قرى الكافرين الضالين إلا سيهلكهم الله إما بموت، وإما بعذابهم استئصالا، وذلك بمختلف وجوه العذاب والبلاء. وقيل : المراد سائر الأمم من مؤمنين ومجرمين ؛ فالمؤمنون يهلكهم الله بالموت وهو ما لا مندوحة عنه. وأما المجرمون فيهلكهم بالعذاب الأليم في الدنيا قبل الآخرة. ذلك أن ينتقم من المجرمين الأشرار ومن سائر الطغاة والعصاة بما يصيبهم من البلاء بتعدد أشكاله وصوره كالأسقام والزلازل والقحط والحروب والويلات الاجتماعية والعلل الشخصية، الفردية والجماعية. كل ذلك يصيب الله به عباده التائهين والناكبين عن دينه وصراطه المستقيم في هذه الدنيا ( قبل يوم القيامة ) وفي هذا اليوم الحافل الموعود يشتد الهول والبلاء، وتحيط بالمجرمين النار فلا يجدون عنها ملاذا ولا موئلا ( كان ذلك في الكتاب مسطورا ) ( الكتاب )، اللوح المحفوظ، وفيه علم الأولين والآخرين. وما من شيء من أخبار الدنيا والآخرة إلا هو مسطور فيه أي مكتوب. من السطر، بسكون الطاء، وهو الخط والكتابة وجمعه أسطر وسطور. واستطر ؛ أي كتب١. والمعنى : أن هذا الإهلاك أو التعذيب بالاستئصال مكتوب في اللوح المحفوظ.
و ( أن )، الأولى في موضع النصب مفعول ثان للفعل ( منعنا ) و ( أن ) الثانية في موضع الرفع لأنها فاعل ( منعنا ) والتقدير : وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها٢.
والمعنى : أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش فكذبوها لأهلكناهم كما أهلكنا السابقين المكذبين.
قوله :( وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها ) لما سألت ثمود نبيهم صالحا أن يخرج لهم ناقة من صخرة عينوها لتكون لهم آية على نبوته، دعا صالح ربه أن يخرج لهم ما سألوه فأخرجها الله لهم مثلما سألوا. وهو قوله :( وآتينا ثمود الناقة مبصرة ) أي أخرجناها لتكون لهم آية بينة مضيئة تشهد بصدق صالح عليه السلام ( فظلموا بها ) أي كفروا بها ؛ إذ قتلوها وعقروها فكان ظلمهم بقتلها وعقرها، أو أنهم ظلموا بتكذيب هذه المعجزة.
قوله :( وما نرسل بالآيات إلا تخويفا ) المراد بالآيات مختلف الدلائل والعبر والمعجزات وأصناف البلايا والانتقام. كل ذلك يرسله الله للعباد على سبيل التخويف لهم ؛ فهو سبحانه يتهدد الناس بمثل هذه الآيات لكي ينثنوا عن فعل المعاصي وينيبوا إلى ربهم طائعين مخبتين٣.
٢ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٣..
٣ - تفسير ابن كثير جـ٣ ص ٤٨ وتفسير القرطبي جـ١٠ ص ٢٨١..
قوله :( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة في القرآن ) المراد بالرؤيا، ما رأيه النبي ( ص ) ليلة أسري به إلى بيت المقدس ( والشجرة الملعونة ) هي شجرة الزقوم ؛ فقد أخبر النبي ( ص ) عقب إيابه من المعراج أنه رأى الجنة والنار ورأى شجرة الزقوم. فكذبوا بذلك حتى قال أبو جهل : هاتوا لنا تمرا وزبدا وجعل يأكل من هذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا.
وفي الآية تقديم وتأخير ؛ أي ما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس. والفتنة ارتداد بعض المسلمين ضعفة الإيمان حين سمعوا بإسراء النبي ( ص ) ؛ إذ لم تتصور عقولهم ذلك فأنكروا. وكذلك الشجرة الملعونة. وفتنتها أنهم لما خوفهم الله بكونها طعاما للجاحدين المكذبين قال أبو جهل كلمته الظالمة اللئيمة استهزاء وتهكما : هل تدرون ما هذا الزقوم الذي يخوفكم به محمد ( ص ) ؟ قالوا : لا. قال : الثريد بالزبد. أما والله لئن أمكننا منها لنتزقمنها تزقما١. والشجرة في ذاتها لا تقع عليها اللعنة ؛ بل لعن الله الكافرين الذين يأكلون منها في النار. والمعنى : والشجرة الملعون آكلوها في القرآن.
قوله :( ونخوفهم فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا ) أي يخوف الله الناس بمخاوف الدنيا مما حوته من الآلام والأرزاء والنوائب، وكذلك يخوفهم بقواصم الآخرة وما فيها من البلايا وعظائم الأمور. فما يزيدهم كل هذا التخويف إلا تماديا في البطل وإغراقا في الفساد والطغيان٢.
٢ - تفسير القرطبي جأ ١٠ ص ٢٨٦ وتفسير النسفي جـ ٢ ص ٣٢٠..
واللعين يرى في تصوره الخاطئ السقيم أن جوهره من النار أشرف من جوهر الطين الذي خلق منه آدم. لاجرم أن هذا إيغال في الوهم وإغراق في الشذوذ وسقم التفكير. وإنما يفضل الخلق بعضهم بعضا بسلامة الطبع والفطرة وصفاء النية والمقصود وحسن التوجه إلى الله الواحد وكفى. وقوله :( طينا ) منصوب على أنه تمييز أو حال١.
قوله :( لئن أخرتن إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ) يتوعد إبليس ذرية آدم بالإضلال والإغواء وهو يقول لربه في اجتراء لئيم : لئن أخّرت إهلاكي إلى يوم القيامة لأستولينّ على ذرية آدم فلأضلنهم ولأطغينهم فيزيغوا عن ملة التوحيد ويجنحوا للشرك والمعاصي ( إلا قليلا ) وهم المعصومون من الفتنة الناجون من الضلال، الذين يستقيمون على المحجة الصحيحة وهي الإسلام. جعلنا الله من زمرتهم١.
وفي هذه الآية يأمر الله إبليس أمر إهانة وتهديد بقوله : استزل واستخف من استطعت أن تستخفه بوسوستك ودعائك إياهم إلى الفسق والعصيان ( وأجلب عليهم بخيلك ورجلك ) ( وأجلب ) من الجلب والجلبة ؛ أي الأصوات. وقيل : الجمع. أي اجمع عليهم كل ما تقدر عليه ( بخيلك ورجلك ) الباء زائدة، ورجل جمع راجل ؛ أي كل راكب وماش. والمعنى : احمل عليهم بجنودك من مشاة وخيّالة..
قوله :( وشاركهم في الأموال والأولاد ) م مشاركتهم في الأموال : يعني إنفاق أموالهم في المعاصي. وقيل : ما كانوا يحرّمونه من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي. وقيل : ما كانوا يذبحونه لآلهتهم. وقيل : المراد عموم ذلك.
أما مشاركتهم في الأولاد : فالمراد بذلك أولاد الزنا. وقيل : تمجيس الأولاد وتهويدهم وتنصيرهم. وقيل : المراد عموم ذلك هو الأظهر. قوله :( وعدهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) أي عدهم بالأماني الكاذبة كشفاعة الآلهة لهم وأنه ليس من بعث ولا حساب ( وما يعدهم الشيطان إلا غرورا ) أي ما يعدهم الشيطان أو يمينهم به إلا الباطل والتغرير.
( يزجى )، أي يدفع بلين أو يسوق سوقا١. ويبين الله ههنا واحدة من آلائه على العباد وهي جريان الفلك ( السفن ) على سطح الماء ؛ فإن الله يزجي هذه في البحر ؛ أي تدفعها الريح بلين فتسوقها سوقا من مكان إلى آخر.
على أن عملية الدفع اللين بالريح، والسوق من موضع إلى آخر إنما يتم ذلك كله بتقدير الله وصنعه ؛ إذ جعل في الطبيعة والأشياء خواصها وقوانينها لتستقيم الحياة والأحياء. ومن جملة ذلك : جريان السفن فوق الماء وهي تنقل على متونها الراكبين والأغراض والمعايش الخفاف والثقال ( لتبتغوا من فضله ) أي لتطلبوا الرزق والمكاسب عن طريق التجارة. وذلك من فضل الله عليكم ورحمته بكم.
قوله :( فلما نجاكم إلى البر أعرضتم ) بعد أن دعوتم الله فأذهب عنكم الضر وكشف عنكم هذا البأس الداهم ونجاكم من هول ما أصابكم من ذعر ( أعرضتم ) عن الإخلاص لله وعن الإلحاح في الجأر إلى الله بالدعاء. لقد أعرضتم عن كامل الالتجاء إليه سبحانه بعد أن أنجاكم وأذهب عنكم الخطر المحدق الداهم. ذلكم هو شأن الإنسان في الغالب ؛ فإنه فخور يؤوس كفور ؛ فهو إن أصابته شدة أو ناله بأس وهوان أو أحاطت به الكروب والصعاب ؛ لجّ إلى ربه بالدعاء والاستقامة حتى إذا كشف عنه ما أصابه، انقلب كفورا جاحدا للنعمة، ناسيا ما لله عليه من عظيم الأيادي. وهو قوله :( وكان الإنسان كفورا ).
والمراد أنكم إن أمنتم من هول البحر فما ينبغي أن تأمنوا من هول البر ؛ فالله لا يعز عليه أن يسلط عليكم البلاء والتدمير حيثما كنتم فلا مناص لكم من قدر الله ولا ملجأ.
قوله :( أو يرسل عليكم حاصبا ) الحاصب هي الريح التي ترمي الحصباء، وهي صغار الحصى. فإذا لم يخسف الله بكم الأرض يرسل عليكم ريحا شديدة ترميكم بالحصباء فتبددكم وتستأصلكم كما فعل بقوم لوط ؛ إذ أمطرهم الله بحجارة أهلكتهم إهلاكا. وليس لكم حينئذ من دون الله أيما نصير أو مجير يرد عنكم بأس الله. وهو قوله عز من قائل :( ثم لا تجدوا لكم وكيلا ) أي ناصرا وحافظا.
والمراد هنا الريح الشديدة التي تكسر الفلك فتغرقها بمن فيها وهو مقتضى قوله :( فيغرقكم بما كفرتم ) أي فيغرقكم بسبب جحودكم وكفرانكم النعم من ربكم ( ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا ) تبيع، بمعنى تابع ؛ أي لا تجدون بعد إغراقكم وإهلاككم من يثأر لكم أو يطالب بالانتقام لكم١.
ومن أعظم ظواهر التكريم والتفضيل للإنسان خصوصيته النطق والكلام. لا جرم أن هذه سمة عجيبة بارزة تتجلى في الإنسان لتجعل منه الكائن المميز المفضال. وهي سمة خص الله بها بني آدم دون غيرهم من كائنات الدنيا.
ويأتي فوق ذلك كله تلكم الخصيصة الفضلى التي تفوق كل الخصائص، وهي العقل. لا جرم أن العقل مزية هائلة وكبرى، امتنّ الله بها على الإنسان ليكون سيد الكائنات، ولتتسخر له كل الكائنات في الأرض والسماوات.
فالإنسان بطبيعته مفكر، وهو بفطرته قد داخلته الإشراقات الروحية العليا أجمل مداخلة فصار بذلك، الإنسان العابد الذي يهفو في شغف حرور لعبادة الله إذا ما أتيحت له أسباب التربية السليمة الصحيحة كيلا تتناوشه شياطين البشر فتصده عن ملة الحق والتوحيد صدا. وفي ذلك روى مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله ( ص ) قال : " يقول الله عز وجل : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ".
وإذا اجتمع العقل والروح معا في كيان الإنسان، جاء الإنسان على خير مثال من نداوة الطبع والفطرة وجمال السلوك والخلق بما يفيض على الواقع خير الخصال والخلال.
قوله :( وحملناهم في البر والبحر ) سخر الله لبني آدم المراكب في البر والبحر، ففي البر مختلف الوسائل والأسباب لحمل الإنسان فتنقله من موضع إلى آخر. كالدواب بمختلف أنواعها وأجناسها. ولئن كانت الأنعام ومختلف المواشي وسائل البشرية طيلة الزمان الفائت ؛ فإن الوسائل المتطورة في العصر الراهن والمسخرة لركوب الإنسان لهي من نعمة الله على الناس، إذ مكنهم من صنع ذلك بما آتاهم من قدرة على الاختراع والتدبير.
وكذلك في البحر قد سخر الله لنبي آدم الركوب في الفلك التي تطفو على سطح الماء فلا تغرق. وذلك بما جعله الله من خاصية في الطبيعة والكائنات لتتحقق ظاهرة الطفو فوق الماء إذا كانت كثافة المحمول دون كثافة الحامل وهو الماء.
قوله :( ورزقناهم من الطيبات ) رزق الله الإنسان صنوف الثمرات والزروع وأنواع المطعومات والمشروبات مما لذّ له وطاب. ورزقه مختلف الأشكال والألوان من الملبوسات الحسنة التي يزدان بها ليكون على خير صورة ومظهر.
قوله :( وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) فضل الله بني آدم على سائر الكائنات والأحياء بمزايا العقل والإرادة وحسن الصورة والمظهر وغير ذلك من جميل المزايا. أما تفضيل المؤمنين على الملائكة أو العكس فهو موضع اختلاف ؛ فقد ذهب كثير من أهل العلم وفيهم المعتزلة إلى أن الملائكة أو العكس فهو موضع من الإنسان المؤمن. ومما استندوا إليه، ظاهر هذه الآية ؛ فقد فضل الله بني آدم على كثير من الخلق. فالمستثنى من المفضولين إذن هم الملائكة ؛ فهم أفضل من الناس. وقيل : إن النبيين من البشر أفضل من الملائكة وهو قول المتكلمين استنادا إلى أن الكثير في هذه الآية يعني الجميع١.
وقيل : المراد به كتاب أعمالهم. ويعزز ذلك قوله تعالى :( وكل شيء أحصيناه في إمام مبين ).
قوله :( فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم ) أي فمن أعطي كتاب أعماله بيمينه فإنه يقرأ كتابه ليقف على ما فيه ( ولا يظلمون فتيلا ) أي لا ينقصون من أجورهم مقدار فتيل. والفتيل ما يكون في شق بطن النواة. وقيل : هوما يفتل بين الإصبعين من الوسخ٢.
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٢٨..
قال ابن عباس في سبب نزوله قوله :( وإن كادوا ليفتنونك ) قال : نزلت في وفد ثقيف أتوا رسول الله ( ص ) فسألوا شططا وقالوا : متعنا باللات سنة وحرّم وادينا كما حرمت مكة شجرها وطيرها ووحشها فأبى ذلك رسول الله ( ص ) ولم يجبهم فأقبلوا يكثرون مسألتهم وقالوا إنا نحب أن تعرف العرب فضلنا عليهم ؛ فهمّ رسول الله ( ص ) أن يعطيهم ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال سعيد بن جبير : قال المشركون للنبي ( ص ) : لا نكف عنك إلا بأن تلمّ بآلهتنا ولو بطرف أصابعك. فقال النبي ( ص ) : " ما عليّ لو فعلت والله يعلم أني بار " فأنزل الله ( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) ١ ( إن )، مخففة من الثقيلة، واسمها ضمير شأن محذوف واللام، للتأكيد، وهي فارقة بين إن المخففة، وإنْ النافية. يعني : إنْ الشأن أنهم قاربوا أن يفتنوك ؛ أي يخدعوك فاتنين من الفتنة. وهي في الأصل بمعنى الاختبار ثم استعمل في كل ما أزل الشيء عن حده وجهته فقوله :( وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ) أي يزيلونك ويصرفونك عن الذي أوحيناه إليك وهو القرآن. والمراد عما فيه من أوامر وزواجر وأحكام ومواعظ ( لتفترى علينا غيره ) أي لتتقول علينا غير الذي قلناه لك. أي تختلق لهم ما اقترحوه وما سألوه من افتراء على الله.
قوله :( وإذا لاتخذوك خليلا ) ( إذا )، حرف جواب وجزاء٢.
والخليل، الصديق، وجمعه أخلاء، من الخلة بالضم وهي الصداقة٣ ؛ أي لو فعلت ما سألوه من فتنتك عن الحق لاتخذوك لهم صديقا وأظهروا للناس أنك موال لهم وراض بشركهم وضلالهم.
٢ - الموجز في قواعد اللغة العربية للأستاذ سعيد الأفغاني ص ٣٩٢..
٣ - المصباح المنير جـ١ ص ١٩٤..
قوله :( ثم لا تجد لك علينا نصيرا ) إذ أذقناك العذاب المضاعف فلن تجد لك من دوننا من يعينك أو ينقذك من عقابنا.
قوله :( وإذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا ) أي لو أخرجوك فسوف لا يمكثون بعد إخراجك إلا زمنا يسيرا. وقد كان ذلك ؛ فإنهم لم يلبثوا بعد خروج النبي ( ص ) من مكة إلا مدة يسيرة ؛ إذ أخرجهم الله ليلاقوا مصارعهم يوم بدر.
٢ - القاموس المحيط جـ٢ ص ١٩٣..
أرسلنا قبلك. والمراد : أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم ظلما وعدوانا فسنة الله أن يهلكهم.
قوله :( ولا تجد لسنتنا تحويلا ) ذلك هو شأن الله في عقاب المجرمين الذين يخرجون أنبياء الله من أوطانهم ظلما. وشأن الله في ذلك لا يتغير ولا يتبدل٢.
٢ - تفسير الراوي جـ٢١ ص ٢٣-٢٥ وتفسير النسفي جـ٢ ص ٣٢٤ وتفسير البيضاوي ص ٣٨١..
ثانيهما : أنه زوال الشمس عن كبد السماء. وهو قول أكثر أهل العلم. وقال به عمر وابنه وأبو هريرة وابن عباس والشعبي وعطاء وقتادة وآخرون غيرهم. وهو القول الراجح ؛ فقد قال أهل اللغة : معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، وبذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار : دالكة، وقيل لها إذا أفلت : دالكة ؛ لأنها في الحالتين زائلة. قال الأزهري : والقول عندي أن دلوك الشمس زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس. والمعنى، والله أعلم : أقم الصلاة يا محمد ؛ أي أدمها من وقت زوال الشمس إلى غسق الليل ؛ فيدخل فيها الأولى والعصر، وصلاتا غسق الليل هما العشاءان، فهذه أربع صلوات، والخامسة قوله :( وقرآن الفجر ). والمعنى : وأقم صلاة الفجر، فهذه خمس صلوات فرضها الله تعالى على نبيه ( ص ) وعلى أمته١.
قوله :( إلى غسق الليل ) وغسق الليل : اجتماع ظلمته، أو هو ظلمة أول الليل. وأغسق الليل : اشتدت ظلمته. والغسوق والإغساق بمعنى الإظلام. والغاسق : القمر أو الليل إذا غاب الشفق٢. والمراد به هنا وقت صلاة العشاء الآخرة ؛ لأن غسق الليل معناه إقبال الليل وظلامه، ولا يكون ذلك إلا بعد مغيب الشفق وذلك عند تراكم الظلمة واشتدادها، فإذا حملنا الغسق على هذا المعنى ؛ دخلت الصلوات الأربع فيه وهي : الظهر والعصر والمغرب والعشاء.
قوله :( وقرآن الفجر ) ( قرآن )، منصوب لكونه معطوفا على الصلاة، وتقديره : أقم الصلاة وقرآن الفجر. وقيل : منصوب بفعل مقدر، وتقديره : واقرأوا قرآن الفجر٣ وذلك على سبيل الإغراء والتحضيض. والمراد : صلاة الفجر، وعبر عنها بالقرآن دون غيرها من الصلوات ؛ لأن القرآن أعظم ما فيها، وقراءة القرآن فيها طويلة ومجهورة ؛ فإنه يستحب إطالة القراءة في صلاة الصبح على أن لا يضر القارئ بمن خلفه. ويلي هذه في الإطالة صلاة كل من الظهر والعصر، وتخفيف القراءة في المغرب، وتوسطها في العصر والعشاء ؛ فلا ينبغي التطويل فيهما ؛ فقد ورد في الصحيح عن النبي ( ص ) أنه قال : " أيها الناس إن منكم منفرين، فأيكم أم الناس فليخفف ؛ فإن فيهم الصغير والكبير والمريض والسقيم والضعيف وذا الحاجة ". على أن قراءة الفاتحة واجبة في كل ركعة للإمام والفذ. وهو قول الجمهور، واستدلوا بالخبر : " لا صلاة لمن لم يقرأ فاتحة الكتاب ". وكذلك قوله ( ص ) : " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج، فهي خداج، فهي خداج " وروي عن مالك قوله : إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأته. وقيل : إنها تجزي في ركعة واحدة. وهو قول الحسن البصري وآخرين. وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أن فاتحة الكتاب غير واجبة في الصلاة ؛ بل الواجب مطلق القراءة. فأيما آية قرأها فإنها تجزي. وحدّ أصحابه في ذلك ثلاث آيات قصار أو آية طويلة مثل آية الدين. ودليل الحنفية في ذلك ظاهر قوله تعالى :( فاقرءوا ما تيسر منه ) وقوله ( ص ) : " ثم استقبل القبلة فكبر، ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن " ٤.
قوله :( إن قرآن الفجر كان مشهودا ) أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، ويؤيد ذلك ما رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي ( ص ) في قوله :( وقرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا ) قال : " تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ".
٢ - القاموس المحيط جـ٤ ص ٢٨١..
٣ - البيان لابن الأنباري جـ٢ ص ٩٥..
٤ - تفسير القرطبي جـ١٠ ص ٣٠٦ وبداية المجتهد جـ١ ص ١٠٩ والمهذب للشيرازي جـ١ ص ٧٢..
قوله :( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) عسى من الله واجبة، ووجه الوجوب : أن الله تعاهد ذلك فلزمه. و ( مقاما )، منصوب على الظرف. أما المراد بالمقام المحمود : ففيه أقوال أصحها أنه الشفاعة للناس يوم القيامة. وفي صحيح البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جُثا ( جماعات ) كل أمة تتبع نبيها تقول : يا فلان اشفع، حتى تنتهي الشفاعات إلى النبي ( ص ). فذلك يوم يبعثه الله المقام المحمود.
وروى الترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) في قوله :( عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا ) سئل عنها قال : " هي الشفاعة " ١.
روى الترمذي عن ابن عباس قال : كان النبي ( ص ) بمكة ثم أمر بالهجرة فنزلت ( وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطان نصيرا ) وقال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله ( ص ) ليتلوه أو يطردوه أو يوثقوه فأراد الله قتال أهل مكة، أمره أن يخرج إلى المدينة ؛ فهو الذي قال الله عز وجل :( وقل رب أدخلني مدخل صدق ) الآية. والمدخل والمخرج، بضم الميم، بمعنى الإدخال والإخراج، كقوله :( أنزلني منزلا مباركا ) أي إنزالا مباركا ليس فيه مكروه. وكذلك أخرجني إخراجا مباركا ليس فيه مكروه. وعلى هذا، قوله :( أدخلني مدخل صدق ) يعني المدينة ( وأخرجني مخرج صدق ) يعني مكة. وقيل : أدخلني مدخل صدق، يعني الموت. وأخرجني مخرج صدق، يعني الحياة بعد الموت. وقيل : الآية عامة في كل الأمور، من أعمال وأسفار وغير ذلك من التصرفات فالمراد بذلك، الدعاء. وهو يعني : أصلح لي شأني كله حيثما دخلت أو خرجت.
قوله :( واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا ) قال الحسن البصري في تفسير هذه الآية : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعزّ فارس وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم. وإن نبي الله ( ص ) علم أنه لا طاقة بهذا الأمر إلا بسلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله، لحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله ؛ فإن السلطان رحمة من الله جعله بين أظهُر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض، وقتل بعضهم بعضا. قال ابن جرير الطبري عن هذا : إنه الأرجح ؛ لأنه لا بد مع الحق من قهر لمن عاداه وناوأه. وفي الخبر : " إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن " أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعيد والتهديد والتخويف والتحذير.
ذلك هو الحق الذي هتف به الرسول الأمين ( ص ) لما أمره ربه أن يتلو على الناس ( وقل جاء الحق وزهق الباطل ) ( زهق )، بمعنى اضمحل وبطل ؛ أي ظهر الإسلام. واضمحل وزال ماعداه، فما عداه باطل ( إن الباطل كان زهوقا ) والباطل يتناول كل وجوه الكفر على اختلاف صوره ومسمياته. ومن طبيعة ذلك كله الزهوق وهو البطلان والزوال لا محالة. فأيما باطل فإنه زاهق ؛ إذ هو في ذاته باطل ؛ لأنه بني على الفساد والأثرة والهوى والإدبار الكامل عن منهج الله. فهو لا محالة صائر إلى الزهوق، وهو البطلان المحقق والانهيار الشامل الكامل. وهذه حقيقة لا ينكرها إلا تائه مخدوع أو سقيم النفس، سادر في الجهالة والوهم. وبذلك أيما محجة أو طريقة أو أسلوب مغاير لمنهج الله وهو الإسلام، فإن مصيره التدمير والزوال والخسران في هذه الدنيا، قبل الخسران الأكبر يوم القيامة.
وفي هذا الصدد أخرج البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي ( ص ) مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب. وفي رواية : صنم، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول :( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا ) ( جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ) ١.
والقرآن شفاء للبشرية بما حواه من المعاني والأحكام والتصورات والعبر ؛ فكل ذلك مزيل للشبهات والشكوك والعلل التي تنتاب العقول فتشينها شينا وتسكب فيها ألوانا من ضلالات الفكر الباطل، والمعارف الكاذبة المفتراة التي تعلن الحرب على منهج الله في اجتراء لئيم ووقح، فلا يروق لها بذلك إلا أن تكيد لدين الله كيدا.
إن القرآن شفاء لهذه العقول من كل ضلالات ومفاسدها وانحرافاتها، والقرآن شفاء للبشرية من كل الأدران والأوضار التي تأتي على النفس فتسومها المرض والعطب وكل ألوان الزيغ والشذوذ، وتلكم أمراض بغيضة وممضة ومختلفة تصيب النفس البشرية فتثير فيها ألوانا شتى من الأسقام كالقلق والكمد والاغتمام والهلع والإحساس المستديم بالضيق والكآبة. إلى غير ذلك من صور الأمراض النفسية التي تكابدها البشرية في كل العصور.
لكن القرآن بعقيدته الراسخة السمحة، ومعانيه الكريمة الشفيفة وتشريعه الشامل المتكامل، يبدد كل ألوان المرض بكل صوره وأشكاله، سواء في ذلك ما أصاب الذهن أو الجهاز النفسي والروحي للإنسان. إن القرآن بمعانيه المعجزة الفذة شفاء للإنسان من كل هاتيك الأسقام والعلل التي تقضّ الأفراد والمجتمعات قضّاً والتي تسوم الإنسان الأوجاع والآلام.
وكذلك فإن القرآن رحمة للمؤمنين ؛ لأنهم يتبعون أحكامه فيحلون حلاله ويحرمون حرامه، ويهتدون بنوره الساطع المشعشع، ويستلهمون من عقيدته ومعانيه الإيمان والهداية والتوفيق، فيتجلى في طبائعهم وسماتهم وسلوكهم كل معالم الخير من حميد الخصال وعظيم الخلال وحسن الأعمال والأفعال. وبذلك تستقيم أحوال الفرد والجماعة فتنعم البشرية بنعيم الأمن والاستقرار والمودة والتعارف. وتترسخ في الدنيا ظواهر العدل والرحمة والتعاون والفضيلة.
قوله :( ولا يزيد الظالمين إلا خسارا ) لا يزداد الكافرون بسماع القرآن إلا هلاكا فوق هلاكهم ؛ لأنهم كلما سمعوا بشيء منه جديد كذبوا وجحدوا فازدادوا بذلك إيغالا في الخسران، والتعس والرجس١.
.
قوله :( وإذا مسه الشر كان يؤوسا ) يعني إذا أصابه البلاء والشدة كالفقر والمرض والبؤس، انقلب قانطا مستيئسا من فضل الله ورحمته.
روى البخاري ومسلم والترمذي عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية قال : بينا أنا أمشي مع النبي ( ص ) في حرث وهو متوكئ على عسيب ؛ إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح. فقالوا : ما رابكم إليه ؟ - أي ما الذي دعاكم إلى مثل هذا السؤال ؟ فقد يجيبكم بما يسوءكم- فقالوا : سلوه، فسألوه عن الروح. فأمسك النبي ( ص ) فلم يرد عليهم شيئا. فعلمت انه يوحى إليه. فلما نزل الوحي قال :( ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي ) ويفهم من ذلك أن هذه الآية مدنية ؛ فإن اليهود قد سألوا النبي ( ص ) عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية. والجواب عن هذا : أن هذه الآية ربما نزلت على الرسول ( ص ) بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك١ وقد اختلف العلماء في المراد بالروح المسؤول عنه ؛ فقد قيل : إنه جبريل عليه السلام. وهو الوحي الأمين، والملك الهائل العظيم. وقيل : هو عيسى، المسيح ابن مريم، نفخة من روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول. وقيل : إنه القرآن ؛ فهو كلام الله العجيب الذي ليس له في الكلام نظير. وهو روح يسري في كيان الإنسان فيؤزه إلى الإيمان وعمل الصالحات والطاعات أزّاً. وقيل : المراد بالروح هنا : ما به حياة الإنسان. وهو الراجح والمختار ؛ فقد سألوا رسول الله ( ص ) عن ماهية الروح التي تعمر الإنسان وتنتشر في كيانه كله. والروح بهذا المعنى هو قول أكثر العلماء. فالروح سر الحياة وسببها الذي يعز على الذهن الوقوف على حقيقته وجوهره ولا ندري عن حقيقة الروح شيئا إلا ما نحسه من آثار وظواهر تدل على وجود هذا الكائن المبهم. ولذلك قال سبحانه :( قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) الأمر، هنا معناه الفعل ؛ أي قل لهم : إن الروح من فعل الله، وهي واقعة حادة وبتخليق الله وتكوينه، وهي من الأمر الذي لا يعلمه إلا هو سبحانه دونكم ؛ فأنتم لا تعلمون ذلك.
قوله :( وما أوتيتم من العلم إلا قليلا ) المراد جميع الخلق وليس طائفة خاصة من البشر ؛ فالناس جميعا لم يؤتوا من العلم إلا قليلا من كثير مما في علم الله. فعلمه واسع وشامل وقديم لا يدركه أو يحيط به من المخاليق أحد. وإنما يعلم الله وحده٢.
٢ - تفسير الرازي جـ٢١ ص ٣٩ وتفسير الطبري جـ١٥ ص ١٠٥، ١٠٦..
قوله :( إن فضله كان عليك كبيرا ) وهذه حقيقة ماثلة للعيان والذهن. حقيقة ساطعة كبرى تحكى فضل الله العظيم على رسول الله محمد ( ص ) ؛ فقد اصطفاه الله للنبوة والرسالة. وكان كل رسول من قبله يبعث في أمة من الأمم. لكن رسول الله ( ص ) بعث للعالمين كافة وطوال الزمان. ثم أنزل الله عليه قرآنه الحكيم، الكتاب الحافل المعجز. ثم آتاه الله المقام المحمود يوم القيامة، وهي الشفاعة الكبرى. وهذه خصائص كبريات ما أوتيها نبي مقرّب ولا رسول عظيم من قبل١.
ولقد جيء بالقرآن على صفته البالغة من الإعجاز ليتحدى الله به العالمين أن يأتوا بمثله. وكان ذلك في زمان كان العرب فيه في أوج نبوغهم من فصاحة الكلم وبراعة اللسان فما استطاعوا أن يأتوا بمثله.
ولقد بينا فيما مضى أن القرآن الكريم تتجلى فيه خصائص شتى من عجيب الصفات، سواء في اللفظ والعبارة، أو المعنى والمضمون. والقرآن في ذلك كله يأتي في غاية الكمال والجمال بما ليس له في النظم نظير. وهو في آياته وألفاظه ومقاطعه وعباراته معجز، لفرط بلاغته الراقية، وأسلوبه العجيب المميز، وإيقاعه المؤثر الشجي، وروعته التي تأخذ بالقلوب والألباب، وتبهر النفس والوجدان أيما بهر.
وهو كذلك في معانيه ومضامينه معجز. وذلك بما حواه من هائل المعاني والأخبار والمواعظ، وجليل المشاهد والحكم والقصص، ومختلف الأوامر والزواجر والأحكام من حلال وحرام وتحذير وتنذير إلى غير ذلك من الحجج والدلائل والبراهين الساطعة في الحياة والطبيعة والإنسان.
ومن أعجب العجب أن يأتي ذلك كله في كتاب ذي حجم متوسط. ولو تكلف البشر أن يأتوا بكل هذه المعاني والمضامين لاستنفد ذلك منهم آلاف الكتب. ولو جهدوا أن يجعلوا كل ذلك في كتاب واحد ذي حجم متوسط كحجم القرآن ؛ لجاء كلامهم في غاية التكلف المصنوع والتنافر الثقيل المستقبح. لكن القرآن بتعدد ضروبه في المعاني، وهائل علومه الكريمة العظام، وواسع شموله الذي غشي الأولين والآخرين، وشمل الدنيا والآخرة، قد جاء في حجمه على غاية الإيجاز لكنه مع ذلك كان في الذروة السامقة من الإعجاز.
فالقرآن بخصائصه العجيبة هذه ومزاياه غير ذات النظير، قائم يتحدى العالمين ان يأتوا بمثله ؛ إذ لم يستطيعوا. وهو قوله سبحانه :( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ) يأمر الله نبيه محمدا ( ص ) بإبلاغ الناس على وجه التأكيد أنه لو اتفقت الإنس والجن- متعاونين فيما بينهم- على الإتيان بمثل القرآن المعجز ( لا يأتون بمثله ) ( لا يأتون )، جواب للقسم الموطأ له باللام. وقيل : جواب للشرط٢.
والمعنى، أنهم عاجزون عن الإتيان بمثل هذا الكتاب الحكيم ؛ إذ لا يستطيعون مضاهاته البتة. ولو علموا من أنفسهم الاقتدار على الإتيان بمثله أو شيء منه لبادروا دون إبطاء أو وناء مبتغين بذلك إحراج النبي ( ص ) والتشكيك في قرآن الله، بدلا من الاستعداد لهذه المهمة بالحرب كي يواجهوا الإسلام والمسلمين فتزهق بذلك أرواح رجالهم وتفنى أموالهم. وذلك يكشف عن عجزهم الكامل عن محاكاة القرآن أو معارضته، فضلا عن الإتيان بمثله. ( ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ) والظهير، معناه المعين٣ ؛ أي لو تكلفوا كل الأسباب والجهود من أجل الإتيان بمثل القرآن- وهم يعين بعضهم بعضا- لعجزوا بالغ العجز، ولصاروا إلى الخذلان والخسران.
ومن أظهر الأدلة على ذلك، تلك المحاولات التاعسة المخزية التي انزلق فيها نفر من الأشقياء والمغرورين والمخدوعين من أمثال الكذاب مسيلمة ؛ ذلك الجهول الغاشم الذي تولى كِبْره في الأرض، سادرا في حماقته، واغتراره، وهو يزدرد من الكلمات ما هو فاضح وسقيم ومكذوب. فما كان هذا الدجال المأفون إلا مفتريا على الله الباطل من الكلام المضطرب المهين زاعما أنه من عند الله افتراء عليه، حتى استطار زيفه وشاعت في الآفاق حماقته وبات على الدوام مدعاة للعن اللاعنين وسخرية المستسخرين٤.
٢ - الدر المصون جـ٧ ص ٤٠٦..
٣ - القاموس المحيط ص ٥٥٧..
٤ - روح المعاني ص ٨ ص ١٦٦، ١٦٧..
ومن الظواهر المتجلية في القرآن أنه تتزاحم فيه المعاني المختلفة بتعدد مجالاتها وضروبها وأساليبها ليتذكر السامعون وتستيقن قلوبهم، وليعلموا أن ما جاءهم به رسول الله ( ص ) لهو الحق والصدق.
قوله :( فأبى أكثر الناس إلا كفورا ) ( كفورا )، مفعول به للفعل أبى، وهو استثناء مفرغ ؛ أي لم يفعلوا إلا الكفور، بضم الكاف. والمراد بأكثر الناس، الكافرون في زمن النبوة من المشركين وأهل الكتاب ؛ فقد أبوا إلا أن يجحدوا الحق وهو القرآن إذ كذبوا به واستيقنته أنفسهم من الداخل.
كذب المشركون بالقرآن وهو الكلام الرباني المعجز، وما جحدوه إلا لفرط عنادهم وشدة مكابرتهم واستكبارهم. وبالرغم من روعة القرآن في عجيب نظمه وبديع أسلوبه وكمال معناه ؛ إلا أنهم غاروا في الكفران والحماقة، ولجوا في التحدي السقيم وهم يسألون النبي ( ص ) جملة من الأسئلة غير المعقولة، والتي لا تلبس بها إلا الفارغون الأشرون، أو الضالون الموغلون في الجهاد والعناد. ويكشف عن بالغ ضلالهم وغيّهم فيما سألوه، قوله عز من قائل :( وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا ) ( الينبوع )، معناه العين تفور من الأرض ولا ينضب ماؤها ؛ فقد سأل المشركون رسول الله ( ص ) – لكي يصدقوه- أن يفجر لهم من الأرض عينا يتدفق منها الماء فيشربون ويزرعون ؛ وذلك أن مكة بلد قفر ممحل لا ماء فيه. فناسب أن يسألوه مثل هذا السؤال.
قوله :( أو تأتي بالله والملائكة قبيلا ) وهذا مطلب رابع سأله المشركون ليبلغوا بذلك غاية الجهالة والضلال. فقد سألوا أن يروا الله والملائكة معاينة. وقيل : قبيلا أي جماعة ؛ فهي بذلك حال من الملائكة١.
فالمعنى بذلك : أن تأتينا يا محمد بالملائكة فوجا بعد فوج. وهو قول ابن عباس.
قوله :( أو ترقى في السماء ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرأه ) ( ترقى )، فعل مضارع منصوب تقديرا ؛ لكونه معطوفا على ( فتفجر ) والرقي، معناه الصعود١ وهذا مطلب سادس تلغط به أفواه المشركين المكذبين وهم يسألون النبي ( ص ) أن يصعد في معارج السماء. ومع ذلك لم يؤمنوا من أجل صعوده وحده إلا أن ينزل عليهم كتابا يقرأونه بلغتهم فيشهد له بالصدق.
قولهم ( قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا ) يأمر الله نبيه ( ص ) أن يقول لهؤلاء المكذبين تعجيبا من فرط جهالتهم وعتوهم ( سبحان ربي ) ذلك تنزيه لله عما لا يليق به من مثل هذه الاقتراحات. ويضاف إلى ذلك التنديد بمطالبهم الفاسدة السقيمة ؛ فإن رسول الله ( ص ) غير قادر أن يأتيهم ما سألوه ؛ فهو ليس إلا بشرا أرسله الله للناس شاهدا ومبلغا ونذيرا٢.
٢ - رواح المعاني جـ٨ ص ١٦٧-١٦٩ والدر المصون جـ٧ ص ٤٠٨-٤١٢..
والمعنى : أن هؤلاء المشركين الذين ظهرت أباطيلهم والذين لجوا في العتو والاستكبار والحسد، ما منعهم من الإيمان بدين الله وكتابه الحكيم، وقت نزول الوحي بالمعجزة الكبرى وهي القرآن حيث الهداية والخير والنور ( إلا أن قالوا أبعث الله بشرا رسولا ) وهو استفهام إنكار وجحود ؛ فقد كذبوا أن يبعث الله إليهم رسولا من جنس البشر. وهذا التصور خاطئ وضال ؛ فإن من الحق والمنطق السليم أن يبعث الله بالرسل لعباده من جنسهم ؛ لأن الجنس إلى الجنس أميل. ولو بعثهم الله من غير جنس المبعوث إليهم لوقع بينهم التنافر، لاختلاف الخلقة والطبائع. وإنما يستأنس المخلوق بنظيره من المخاليق من بني جنسه وليس من جنس مغاير مختلف، وبذلك فإن قولهم إن الرسول ينبغي أن يكون من الملائكة، ليس إلا محض تحكم يؤز إليه الهوى المجرد. وهذا هو مقتضى قوله :( أبعث الله بشرا رسولا ).
وفي هذه الآية يأمر الله نبيه محمد ( ص ) أن يقول لهؤلاء المكذبين الناكفين : لو وجد في الأرض بدل البشر ملائكة طبائعهم كطبائع البشر فيمشون مثلهم ( مطمئنين ) أي ساكنين. ومنه الطمن، بالفتح والسكون ؛ أي الساكن٢ ؛ يعني يمشون ساكنين مستقرين ( لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا ) وذلك ليمكنه الاجتماع بهم فيستطيعوا التعلم والتلقي منه ؛ لأنه من جنسهم. أما البشر فلا يتيسر لهم ذلك لما بين الجنسين من كبير البون نظرا لاختلاف الأصل والخلقة فيما بينهم ؛ فلا يعقل إذن أن يبعث الله رسله للناس من الملائكة. ولكن يبعثهم إلى من يصطفيهم من المرسلين الأخيار ؛ لأن هؤلاء أولو نفوس زكية مصطفاة وهم على الغاية القصوى من مراتب السمو الروحي فيستطيعون بذلك أن يتلقوا من الملائكة لما بين جنس النبيين والملائكة من عظيم الطابع الروحي وبالغ الشفافية والطهر.
٢ - القاموس المحيط ص ١٥٦٥..
قوله :( إنه كان بعباده خبيرا بصيرا ) الله جل وعل محيط علمه بكل شيء فما تخفى عليه في الكون خافية. وهو سبحانه عليم بظواهر القوم وبواطنهم، ويعلم ما يخفونه في نفوسهم من الاستكبار والحسد فلم يؤمنوا. وفي ذلك من التهديد والوعيد لهم، والتسلية لرسول الله ( ص ) ما لا يخفى١.
وهؤلاء الضالون الزائغون عن الحق ليس لهم من أحد يهديهم وهو قوله سبحانه :( فلن تجد لهم أولياء من دونه ) أي لن يكون لهؤلاء الجاحدين أنصارا أو أعوانا ينقذونهم من الضلالة والخسران إن كان الله قد علم أنهم لا يبتغون إلا الضلال، فأضلهم.
قوله :( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) ( على وجوههم )، في موضع نصب على الحال من المفعول ؛ أي كائنين مسحوبين على وجوههم. و ( عميا )، حال ثانية١، والبكم، من البكم بالتحريك بمعنى الخرس. والبكم جمع أبكم وهو الأخرس، أو الذي يولد ولا ينطق ولا يسمع ولا يبصر٢. يتوعد الله هؤلاء المشركين الجاحدين ويتهددهم بأهوال يوم القيامة حيث الدواهي والشدائد بدءا بعذاب القبر. ومرورا بالذعر والإياس والزحام والاصطلاء الشديد تحت الشمس. وفي وصف ذلك يقول سبحانه :( ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما ) أي يساقون بعد قيامهم من قبورهم إلى المحشر ؛ إذ يزحفون على وجوههم زحفا، وهم عمي لا يرون، وخرس لا ينطقون، وصم لا يسمعون. فياله من منظر فظيع، وصورة مريعة بئيسة تستبين من خلالها حال المجرمين الخاسرين يوم القيامة.
وفي حال الكافرين الخاسرين يوم القيامة وما يحيط بهم حينئذ من عظائم الأمور أخرج أبو داود والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله ( ص ) : " يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف : صنف مشاة، وصنف ركبان، وصنف على وجوههم " قيل : يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم ؟ قال : " إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم ".
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي عن معاوية بن حيدة قال : قال رسول الله ( ص ) : " إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم ". وأخرج أحمد والنسائي والحاكم عن أبي ذر قال : حدثني الصادق المصدوق ( ص ) : " إن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج، فوج طاعمين كاسين راكبين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم ".
قوله :( مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا ) خبت النار تخبو، أي سكن لهيبها أو طفئ. ٣ والمعنى : أن هؤلاء الجاحدين الناكبين عن منهج الله مستقرهم جهنم، بلهيبها المتأجج المستعر. وهي ( كلما خبت زدناهم سعيرا ) أي كلما سكن لهيبها بأن فنيت جلودهم وأبدانهم من الحريق ولم يبق منها ما تحرقه النار، أعادهم الله على ما كانوا عليه ؛ لتتوقد بهم النار وتستعر٤.
٢ - القاموس المحيط ص ١٣٩٧..
٣ - الدر المصون جـ٧ ص ٤١٥..
٤ - روح المعاني جـ٨ ص ١٧٦..
( ذلك جزاؤهم )، مبتدأ وخبره. ( بأنهم )، متعلق بالجزاء ؛ أي ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنهم كفروا١. والمعنى : أن هذا العذاب الذي جازيناهم به من بعثهم عميا وبكما وصما، جزاء تكذيبهم وكفرهم.
قوله :( وقالوا أإذا كنا عظاما ورفاتا أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ) جحد المشركون البعث عقب الممات بعد أن يستحيلوا إلى عظام وحطام ؛ فقد أنكروا ذلك أيما إنكار. وهو ما يكشف عن بالغ ضلالهم وإدبارهم عن الحق ؛ إذ قالوا مستسخرين ( أإنا لمبعوثون خلقا جديدا ) الاستفهام للإنكار ( خلقا ) اسم مصدر أو حال ؛ أي مخلوقين. فبسبب كفرهم وتكذيبهم بالمعاد بعد الموت جعل الله جهنم مأواهم.
قوله :( وجعل لهم أجلا لا ريب فيه ) المراد بالأجل، الموت، أو يوم القيامة ؛ فهو آتيهم لا محالة ليلاقوا بعد ذلك سوء الحساب.
قوله :( فأبى الظالمون إلا كفورا ) أبى المشركون الخاسرون إلا الجحود بكل الدلائل والبينات والعبر.
٢ - فتح القدير جـ٣ ص ٢٦١ والكشاف جـ٢ ص ٤٦٧..
قوله :( فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا ) دعا موسى فرعون إلى توحيد الله، والكف عما أحاط به نفسه من الكبرياء والغرور وبالغ الكفران. وقد أراه الله جملة من آيات الله لعله يتذكر أو يخشى. لكن هذا الطاغوت قد كذّب وجحد واستكبر فقال قولته لنبي الله موسى ( وإني لأظنك يا موسى مسحورا ) أي ما جئتنا به فهو مما أصابك من السحر حتى صرت مسحورا فتخبط عقلك. وقيل : مسحورا ؛ أي ساحرا بعجيب ما جئتنا به.
وقد قرأ بعضهم ( علمتُ ) بضم التاء. والصحيح فتحها ؛ أي ان فرعون قد علم أن موسى مرسل من ربه وأن ما جاءهم به حق فهو موقن بذلك في قلبه تمام اليقين لكنه مكذب معاند في الظاهر، كقوله سبحانه :( وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا ).
قوله :( وإني لأظنك يا فرعون مثبورا ) من الثبور وهو الهلاك والخسران١.
والمعنى : إنني متحقق من أنك يا فرعون هالك وأنك صائر إلى الخسران.
قوله :( وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا ) لقد أرسل الله رسوله للبشرية يدعوها للحق والصواب، وليبشر الذين يطيعونه ويتبعون النور الذي أنزل معه بخير الجزاء وحسن المصير. ولينذر الذين يعصون الله ويخالفون عن أمره بسوء المصير في الدنيا والآخرة.
قوله :( لتقرأه على الناس على مكث ) أي على مَهَلٍ وترسّل وتؤدة. قوله :( ونزلناه تنزيلا ) أي أنزلناه مفرقا منجما.
وذلك قوله :( أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى ) ( أيا )، منصوب بالفعل ( تدعو ). و ( مّا ) زائدة للتأكيد. و ( تدعوا )، مجزوم بأي الشرطية. والفاء في قوله فله، جواب الشرط٢.
قوله :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا ) قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله ( ص ) متوار بمكة ( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركون سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به. فقال الله تعالى لنبيه ( ص ) :( ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها ) أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن ( ولا تخافت بها ) عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك.
وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رسول الله ( ص ) إذا جهر بالقرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ؛ فكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله ( ص ) بعض ما يتلو وهو يصلي استرق السمع دونهم فرقا منهم، فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ؛ ذهب خشية أذاهم فلم يسمع، فإن خفض صوته ( ص ) لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئا فأنزل الله ( ولا تجهر بصلاتك ) فيتفرقوا عنك ( ولا تخافت بها ) فلا يسمع من أراد أن يسمع ممن يسترق ذلك منهم ؛ فلعله يرعوي إلى بعض ما يسمع فينتفع به٣.
قوله :( وابتغ بين ذلك سبيلا ) أي ابتغ سبيلا وسطا بين الجهر والمخافتة. والمخافتة معناها السكون وخفض الصوت.
٢ - البيان لابن الانباري جـ٢ ص ٩٨..
٣ - أسباب النزول للنيسابوري ص ٢٠٠ وتفسير ابن كثير جـ٣ ص ٦٨، ٦٩..
قوله :( ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل ) ليس لله في ملكه شريك، وإن من شيء إلا هو مملوك له سبحانه. وليس له من أحد ينصره أو يجيره من الذل ؛ بل الله الناصر العزيز المجير المتكبر.
قوله :( وكبره تكبيرا ) أي عظّمه أبغ تعظيم، وأجلّه أكمل إجلال، ونزّهه عما يفتريه الظالمون والمشركون١.