تفسير سورة الإسراء

تفسير الألوسي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب روح المعاني المعروف بـتفسير الألوسي .
لمؤلفه الألوسي . المتوفي سنة 1342 هـ
سورة الاسراء
وتسمى الإسراء وسبحان أيضا وهي كما أخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهم مكية وكونها كذلك بتمامها قول الجمهور وقال صاحب الغنيان بإجماع وقيل إلا آيتين ( وإن كادوا ليفتنونك ) ( وإن كادوا ليستفزونك ) وقيل إلا أربعا هاتان وقوله تعالى :( وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ) وقوله سبحانه :( وقل رب أدخلني مدخل صدق ) وزاد مقاتل قوله سبحانه :( إن الذين أوتوا العلم من قبله ) الآية وعن الحسن إلا خمس آيات ( ولا تقتلوا النفس ) الآية ( ولا تقربوا الزنا ) الآية ( أولئك الذين يدعون ) الآية ( أقم الصلاة ) الآية ( وآت ذا القربى حقه ) الآية وقال قتادة : إلا ثماني آيات وهي قوله تعالى :( وإن كادوا ليفتنونك ) إلى آخرهن وقيل غير ذلك وهي مائة وعشر آيات عند الجمهور وإحدى عشرة عند الكوفيين وكان صلى الله تعالى عليه وسلم كما أخرج أحمد والترمذي وحسنه والنسائي وغيرهم عن عائشة يقرؤها والزمر كل ليلة وأخرج البخاري وابن الضريس وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال في هذه السورة والكهف ومريم وطه والأنبياء هن من العتاق الأول وهن من تلادي وهذا وجه في ترتيبها ووجه اتصال هذه بالنحل كما قال الجلال السيوطي أنه سبحانه كما قال في ءاخرها ( إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه ) ذكر في هذه شريعة أهل السبت التي شرعها سبحانه لهم في التوراة فقد أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : إن التوراة كلها في خمس عشرة ءاية من سورة بني إسرائيل وذكر تعالى فيها عصيانهم وإفسادهم وتخريب مسجدهم واستفزازهم النبي صلى الله عليه وسلم وإرادتهم إخراجه من المدينة وسؤالهم إياه عن الروح ثم ختمها جل شأنه بآيات موسى عليه السلام التسع وخطابه مع فرعون وأخبر تعالى أن فرعون أراد أن يستفزهم من الآرض فأهلك وورث بنو إسرائيل من بعده وفي ذلك تعريض بهم أنهم سينالهم ما نال فرعون حيث أرادوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ما أراد هو بموسى عليه السلام وأصحابه ولما كانت هذه السورة مصدرة بقصة تخريب المسجد الأقصى افتتحت بذكر إسراء المصطفى صلى الله عليه وسلم تشريفا له بحلول ركابه الشريف جبرا لما وقع من تخريبه وقال أبو حيان في ذلك : إنه تعالى لما أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر ونهاه عن الحزن على الكفرة وضيق الصدر من مكرهم وكان من مكرهم نسبته صلى الله عليه وسلم إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه وحاشاه به عقب ذلك بذكر شرفه وفضله وعلو منزلته عنده عز شأنه وقيل : وجه ذلك اشتمالها على ذكر نعم منها خاصة ومنها عامة وقد ذكر في سورة النحل من النعم ما سميت لأجله سورة النعم واشتمالها على ذكر شأن القرآن العظيم كما اشتملت تلك وذكر سبحانه هناك في النحل ( يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس ) وذكر ههنا في القرآن ( وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ) وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه :( وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا ) وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل والله تعالى الموفق

القرآن وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء: ٨٢] وذكر سبحانه في تلك أمره بإيتاء ذي القربى وأمر هنا بذلك مع زيادة في قوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [الإسراء: ٢٦] وذلك بعد أن أمر جل وعلا بالإحسان بالوالدين اللذين هما منشأ القرابة إلى غير ذلك مما لا يحصى فليتأمل والله تعالى الموفق.
4
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحا بمعنى نزه تنزيها لا بمعنى قال سبحان الله نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيرا حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف، وجعل سبحان مصدر سبح مخففا وليس بذاك، وقد يستعمل علما للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياسا ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر
وقال الرضي: لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافا فلا يكون علما وإذا قطع فقد جاء منونا في الشعر كقوله:
سبحانه ثم سبحانا نعوذ به وقبلنا سبح الجوديّ والجمد
وقد جاء باللام كقوله: «سبحانك اللهم ذو السبحان» ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به: حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقي المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله: «خالط من سلمى خياشيم وفا» انتهى، وظاهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائما وهو علم جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده، وانتصر له صاحب الكشف فقال: إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب- زيد المعارك- لتكون شاذة بل من باب- حاتم طيء وعنترة عبس- وذكر أنه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والأبعاد في الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإظهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه، وكأنه قيل: ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابا انتهى.
وأورد على ما ذكره أولا أن من منع إضافة العلم قياسا لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الإضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطارئ فما نحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى، وما ذكر من دلالته على التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور، ففي العقد الفريد عن طلحة قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير سبحان الله فقال: تنزيه لله تعالى عن كل سوء.
وقال الطيبي في قول الزمخشري: إنه دل على التنزيه البليغ عن جميع القبائح التي يضيفها إليه أعداء الله تعالى إن ذلك مما يأباه مقام الإسراء إباء العيوف الورود وهو مزيف بل معناه التعجب كما قال في النور الأصل في ذلك أن يسبح الله تعالى عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه وليس بشيء، ففي الكشف أن التنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض، وجعله مدارا والتعجب تبعا هاهنا هو الوجه بخلاف آية النور، وذكر بعضهم أن الظاهر من كلام الكشاف في مواضع أنه لا يرتضي الجمع بين التنزيه والتعجب للمنافاة بينهما بل لأن كلا منهما معنى مستقل فالجمع
5
بينهما جمع بين معنى المشترك، وعلى الجمع فالوجه ما ذكر أنه الوجه فافهم، وقيل إن سبحان ليس علما أصلا بلا تفصيل ففيه ثلاثة مذاهب، وذكر بعضهم أنه في الآية على معنى الأمر أي نزهوا الله تعالى وبرئوه من جميع النقائص ويدخل فيها العجز عما بعد أو من العجز عن ذلك، والمتبادر اعتبار المضارع، والإسراء السير بالليل خاصة كالسري فأسرى وسرى بمعنى (١) وليست همزة أسرى للتعدية كما قال أبو عبيدة، وقال ابن عطية: الهمزة للتعدية والمفعول محذوف أي أسرى ملائكته بعبده، قال في البحر: وإنما احتاج إلى هذه الدعوى لاعتقاد أنه إذا كان أسرى بمعنى سرى لزم من كون الباء للتعدية مشاركة الفاعل للمفعول وهذا شيء ذهب إليه المبرد فإذا قلت: قمت بزيد يلزم منه قيامك وقيام زيد عنده وإذا جعلت الباء كالهمزة لا يلزم ذلك كما لا يخفى، وقال أيضا: يحتمل أن يكون أسرى بمعنى سرى على حذف مضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والأصل أسرى ملائكته وهو مبني على ذلك الاعتقاد أيضا، وقال الليث: يقال أسرى لأول الليل وسرى لآخره وأما سار فالجمهور على أنه عام لا اختصاص له بليل أو نهار. وقيل إنه مختص بالنهار وليس مقلوبا من سري، وإيثار لفظة العبد للإيذان بتمحضه صلّى الله عليه وسلّم في عبادته سبحانه وبلوغه في ذلك غاية الغايات القاصية ونهاية النهايات النائية حسبما يلوح به مبدأ الإسراء ومنتهاه، والعبودية على ما نص عليه العارفون أشرف الأوصاف وأعلى المراتب وبها يفتخر المحبون كما قيل:
لا تدعني إلا بيا عبدها... فإنه أشرف أسمائي
وقال آخر:
بالله إن سألوك عني قل لهم... عبدي وملك يدي وما أعتقته
وعن أبي القاسم سليمان الأنصاري أنه قال: لما وصل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والمراتب الرفيعة أوحى الله تعالى إليه يا محمد بم نشرفك؟ قال: بنسبتي إليك بالعبودية فأنزل الله تعالى (سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ) وجاء قولوا عبد الله ورسوله، وقيل إن في التعبير به هنا دون حبيبه مثلا سدا لباب الغلو فيه صلّى الله عليه وسلّم كما وقع للنصارى في نبيهم عليه السلام، وذكروا أنه لم يعبر الله تعالى عن أحد بالعبد مضافا إلى ضمير الغيبة المشار به إلى الهوية إلا النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي ذلك من الإشارة ما فيه، ومن تأمل أدنى تأمل ما بين قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ وقوله تعالى وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا [الأعراف: ١٤٣] ظهر له الفرق التام بين مقام الحبيب ومقام الكليم صلّى الله عليه وسلّم وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا في هذه السورة ما يفهم منه الفرق أيضا فلا تغفل، وإضافة سُبْحانَ إلى الموصول المذكور للإشعار بعلية ما في حيز الصلة للمضاف فإن ذلك من أدلة كمال قدرته وبالغ حكمته وغاية تنزهه تعالى عن صفات النقص، وقوله تعالى لَيْلًا ظرف لأسرى، وفائدته الدلالة بتنكيره على تقليل مدة الإسراء وأنها بعض من أجزاء الليل ولذلك قرأ عبد الله. وحذيفة «من الليل» أي بعضه كقوله تعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ [الإسراء: ٧٩].
واعترض بأن البعضية المستفادة من التبعيضية هي البعضية في الأجزاء والبعضية المستفادة من التنكير البعضية في الأفراد والجزئيات فكيف يستفاد من التنكير أن الإسراء كان في بعض من أجزاء الليل فالصواب أن تنكيره لدفع توهم أن الإسراء كان في ليال أو لإفادة تعظيمه كما هو المناسب للسياق والسباق أي ليلا أي ليل دنا فيه المحب إلى المحبوب وفاز في مقام الشهود بالمطلوب. وأجاب عن ذلك بعض الكاملين بما لا يخفى نقصه. وقال بعض المحققين: إن ما ذكر قد نص عليه الشيخ عبد القاهر في دلائل الإعجاز ولا يرد عليه الاعتراض ابتداء.
(١) ويقال أسراه وأسرى به كأخذ الخطام وأخذ به اهـ منه.
6
وتحقيقه على ما صرح به الفاضل اليمني نقلا عن سيبويه. وابن مالك أن الليل والنهار إذا عرفا كانا معيارا للتعميم وظرفا محدودا فلا تقول صحبته الليلة وأنت تريد ساعة منها إلا أن تقصد المبالغة كما تقول أتاني أهل الدنيا لناس منهم بخلاف المنكر فإنه لا يفيد ذلك فلما عدل عن تعريفه هنا علم أنه لم يقصد استغراق السري له وهذا هو المراد من البعضية المذكورة ولا حاجة إلى جعل الليل مجازا عن بعضه كما أنك إذا قلت جلست في السوق وجلوسك في بعض أماكنه لا يكون فيه السوق مجازا كما لا يخفى، وقد أشار إلى هذا المدقق في الكشف، وقيل:
المراد بتنكيره أنه وقع في وسطه ومعظمه كما يقال جاءني فلان بليل أي في معظم ظلمته فيفيد البعضية أيضا، وينافيه ما سيأتي إن شاء الله تعالى في الحديث، وزعم أن ذكر لَيْلًا للتأكيد أو تجريد الإسراء وإرادة مطلق السير منه ناشىء من قلة البضاعة كما لا يخفى. وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان حكمة كون الإسراء ليلا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ.
الظاهر أن المراد به المسجد المشهور بين الخاص والعام بعينه وكان صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك في الحجر منه، فقد أخرج الشيخان والترمذي والنسائي من حديث أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بينا أنا في الحجر- وفي رواية- في الحطيم بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فشق ما بين هذه إلى هذه فاستخرج قلبي فغسله ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض يقال له البراق فحملت عليه»
الحديث، وفي بعض الروايات أنه جاءه جبريل وميكائيل عليهما السلام وهو مضطجع في الحجر بين عمه حمزة وابن عمه جعفر فاحتملته الملائكة عليهم السلام وجاؤوا به إلى زمزم فألقوه على ظهره وشق جبريل صدره من ثغرة نحره إلى أسفل بطنه (١) بغير آلة ولا سيلان دم ولا وجود ألم ثم قال لميكائيل: ائتني بطست من ماء زمزم فأتاه به فاستخرج قلبه الشريف وغسله ثلاث مرات ثم أعاده إلى مكانه وملأه إيمانا وحكمة وختم عليه ثم خرج به إلى باب المسجد فإذا بالبراق مسرجا ملجما فركبه الخبر
، ويعلم منه الجمع بين ما ذكر من أنه عليه الصلاة والسلام كان إذ ذاك في الحجر وما قيل إنه كان بين زمزم والمقام، وقيل:
المراد به الحرم وأطلق عليه لإحاطته به فهو مجاز بعلاقة المجاورة الحسية والإحاطة أو لأن الحرم كله محل للسجود ومحرم ليس يحل فهو حقيقة لغوية والنكتة في هذا التعبير مطابقة المبدأ المنتهي.
وكان صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك في دار فاختة (٢) أم هانىء (٣) بنت أبي طالب
فقد أخرج النسائي عن ابن عباس وأبو يعلى في مسنده والطبراني في الكبير من حديثها أنه صلّى الله عليه وسلّم كان نائما في بيتها بعد صلاة العشاء فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة عليها، وقال مثل لي النبيون فصليت بهم ثم خرج إلى المسجد وأخبر به قريشا فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا وارتد أناس ممن آمن به عليه الصلاة والسلام وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق قالوا تصدقه على ذلك قال: إني أصدقه على أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء غدوة أو روحة فسمي الصديق، وكان في القوم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه إياه فجلى له فطفق ينظر إليه وينعته لهم فقالوا: أما النعت فقد أصاب فيه فقالوا: أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا لهم وهم في طلبه وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته وشربته ووضعته كما كان فاسألوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا؟ قالوا: هذه آية قال: ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا فنفر بعيرهما مني فانكسر
(١) ذكر السفيري أنه عليه السلام شقة بمنقاره فإنه عليه السلام جاءه في صورة كركرى والله تعالى أعلم بصحة الخبر اهـ منه.
(٢) وقيل: في شعب أبي طالب اهـ منه.
(٣) وقال ابن إسحاق هند اهـ منه.
7
فاسألوهما عن ذلك قالوا: هذه آية أخرى، ثم سألوه عن العدة والأحمال والهيئات فمثلت له العير فأخبرهم عن كل ذلك وقال: تقدم (١) يوم كذا مع طلوع الشمس وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان قالوا: وهذه آية أخرى فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبوه إذ قال قائل: هذه الشمس قد طلعت وقال آخر: هذه العير قد أقبلت يقدمها بعير أورق فيها فلان وفلان كما قال فلم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر مبين قاتلهم الله أنى يؤفكون. وفي بعض الآثار أن أم هانىء قالت: فقدته صلّى الله عليه وسلّم وكان نائما عندي فامتنع مني النوم مخافة أن يكون عرض له بعض قريش ويقال إنه تفرقت بنو عبد المطلب يلتمسونه ووصل العباس إلى ذي طوى وهو ينادي يا محمد يا محمد فأجابه صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا ابن أخي أعييت قومك أين كنت؟ قال: ذهبت إلى بيت المقدس قال: من ليلتك قال: نعم قال: هل أصابك الأخير؟ قال ما أصابني الأخير
وقيل: غير ذلك.
وكما اختلف في مبدأ الإسراء اختلف في سنته فذكر النووي في الروضة أنه كان بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر، وفي الفتاوى أنه كان سنة خمس أو ست من النبوة، ونقل عنه الفاضل الملا أمين العمري في شرح ذات الشفاء الجزم بأنه كان في السنة الثانية عشرة من المبعث. وعن ابن حزم دعوى الإجماع على ذلك، وضعف ما في الفتاوى بأن خديجة رضي الله تعالى عنها لم تصل الخمس وقد ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين. وقيل كان قبل الهجرة بسنة وخمسة أشهر، وقيل ثلاثة أشهر، ووقع في حديث شريك بن أبي نمرة عن أنس أنه كان قبل أن يوحى إليه صلّى الله عليه وسلّم وقد خطأه غير واحد في ذلك، ونقل الحافظ عبد الحق في كتابه الجمع بين الصحيحين حديث شريك الواقع فيه ذلك بطوله، ثم قال: هذا الحديث بهذا اللفظ من رواية شريك عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة وأتى بألفاظ غير معروفة.
وقد روي حديث الإسراء عن أنس جماعة من الحفاظ المتقنين والأئمة المشهورين كابن شهاب. وثابت البناني وقتادة فلم يأت أحد منهم بما أتى به شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث.
وأجاب عن ذلك محيي السنة وغيره بما ستسمعه إن شاء الله تعالى، وكذا اختلف في شهره وليلته فقال النووي في الفتاوى: كان في شهر ربيع الأول، وقال في شرح مسلم تبعا للقاضي عياض: إنه في شهر ربيع الآخر، وجزم في الروضة بأنه في رجب، وقيل: في شهر رمضان، وقيل: في شوال، وكان على ما قيل الليلة السابعة والعشرين من الشهر وكانت ليلة السبت كما نقله ابن الملقن عن رواية الواقدي، وقيل: كانت ليلة الجمعة لمكان فضلها وفضل الإسراء، ورد بأن جبرائيل عليه السلام صلّى بالنبي صلّى الله عليه وسلّم أول يوم بعد الإسراء الظهر ولو كان يوم الجمعة لم يكن فرضها الظهر قاله محمد بن عمر السفيري، وفيه أن العمري ذكر في شرح ذات الشفاء أن الجمعة والجنازة وجبتا بعد الصلوات الخمس، وفي شرح المنهاج للعلامة ابن حجر إن صلاة الجمعة فرضت بمكة ولم تقم بها لفقد العدد أو لأن شعارها الإظهار وكان صلّى الله عليه وسلّم بها مستخفيا، وأول من أقامها بالمدينة قبل الهجرة أسعد بن زرارة بقرية على ميل من المدينة.
ونقل الدميري عن ابن الأثير أنه قال: الصحيح عندي أنها كانت ليلة الاثنين واختاره ابن المنير، وفي البحر قيل إن الإسراء كان في سبع عشرة من شهر ربيع الأول والرسول صلّى الله عليه وسلّم ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوما، وحكى أنها ليلة السابع والعشرين من شهر ربيع الآخر عن الجرمي، وهي على ما نقل السفيري عن الجمهور أفضل الليالي حتى ليلة القدر مطلقا، وقيل هي أفضل بالنسبة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أمته عليه الصلاة والسلام
(١) رأيت في بعض الكتب أنه يوم الأربعاء اهـ منه.
8
فهي أفضل مطلقا نعم لم يشرع التعبد فيها والتعبد في ليلة القدر مشروع إلى يوم القيامة والله تعالى أعلم. واختلف أيضا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه في المنام.
وروي ذلك عن عائشة ومعاوية رضي الله تعالى عنهما، ولعله لم يصح عنها كما في البحر، وكانت رضي الله تعالى عنها إذ ذاك صغيرة ولم تكن زوجته عليه الصلاة والسلام، وكان معاوية كافرا يومئذ، واحتج لذلك بقوله تعالى:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ [الإسراء: ٦٠] لأن الرؤيا تختص بالنوم لغة، ووقع في حديث شريك المتقدم ما يؤيده، وذهب الجمهور إلى أنه في اليقظة ببدنه وروحه صلّى الله عليه وسلّم والرؤيا تكون بمعنى الرؤية في اليقظة كما في قول الراعي يصف صائدا:
وكبر للرؤيا وهش فؤاده وبشر قلبا كان جما بلاله
وقال الواحدي: إنها رؤية اليقظة ليلا فقط وخبر شريك لا يعول عليه على ما نقل عن عبد الحق، وقال النووي:
وأما ما وقع في رواية عن شريك وهو نائم وفي أخرى عنه بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك أول وصول الملك إليه وليس في الحديث ما يدل على كونه صلّى الله عليه وسلّم نائما في القصة كلها. واحتج الجمهور لذلك بأنه لو كان مناما ما تعجب منه قريش ولا استحالوه لأن النائم قد يرى نفسه في السماء ويذهب من المشرق إلى المغرب ولا يستبعده أحد، وأيضا العبد ظاهر في الروح والبدن، وذهبت طائفة منهم القاضي أبو بكر. والبغوي إلى تصديق القائلين بأنه في المنام والقائلين بأنه في اليقظة وتصحيح الحديثين في ذلك بأنّ الإسراء كان مرتين إحداهما في نومه صلّى الله عليه وسلّم قبل النبوة فأسرى بروحه توطئة وتيسيرا لما يضعف عنه قوى البشر وإليه الإشارة بقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ ثم أسرى بروحه وبدنه بعد النبوة قال في الكشف: وهذا هو الحق وبه يحصل الجمع بين الأخبار.
وحكى المازري في شرح مسلم قولا رابعا جمع به بين القولين فقال: كان الإسراء بجسده صلّى الله عليه وسلّم في اليقظة إلى بيت المقدس فكانت رؤية عين ثم أسرى بروحه الشريفة عليه الصلاة والسلام منه إلى ما فوقه فكانت رؤيا قلب ولذا شنع الكفار عليه الصلاة والسلام
قوله: أتيت بيت المقدس في ليلتي هذه
ولم يشنعوا عليه قوله فيما سوى ذلك ولم يتعجبوا منه لأن الرؤيا ليست محل التعجب، وليس معنى الإسراء بالروح الذهاب يقظة كالانسلاخ الذي ذهب إليه الصوفية والحكماء فإنه وإن كان خارقا للعادة ومحلا للتعجب أيضا إلا أنه أمر لا تعرفه العرب ولم يذهب إليه أحد من السلف، والأكثر على أن المعراج كالإسراء بالروح والبدن ولا استحالة في ذلك فقد ثبت بالهندسة أن مساحة قطر جرم الأرض ألفان وخمسمائة وخمسة وأربعون فرسخا ونصف فرسخ وأن مساحة قطر كرة الشمس خمسة أمثال ونصف مثل لقطر جرم الأرض وذلك أربعة عشر ألف فرسخ وأن طرف قطرها المتأخر يصل موضع طرفه المتقدم في ثلثي دقيقة فتقطع الشمس بحركة الفلك الأعظم أربعة عشر ألف فرسخ في ثلثي دقيقة من ساعة مستوية.
وذكر الإمام في الأربعين أن الأجسام متساوية في الذوات والحقائق فوجب أن يصح على كل واحد منها ما يصح على غيره من الأعراض لأن قابلية ذلك العرض إن كان من لوازم تلك الماهية فأينما حصلت حصل لزم حصول تلك القابلية فوجب أن يصح على كل منها ما يصح على الآخر، وإن لم يكن من لوازمها كان من عوارضها فيعود الكلام فإن سلم وإلا دار أو تسلسل وذلك محال فلا بد من القول بالصحة المذكورة والله تعالى قادر على جميع الممكنات فيقدر على أن يخلق مثل هذه الحركة السريعة في بدن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو فيما يحمله، وقال العلامة البيضاوي:
الاستحالة مدفوعة بما ثبت في الهندسة أن ما بين طرفي قرص الشمس ضعف ما بين طرفي كرة الأرض مائة ونيفا
9
وستين مرة ثم إن طرفها الأسفل يصل موضع طرفها الأعلى في أقل من ثانية إلى آخر ما قال، وما ذكرناه هو الصواب في التعبير فإن المقدمتين اللتين ذكرهما ممنوعتان، أما الأولى بأن النسبة التي ذكرها إنما هي نسبة جرم الشمس إلى جرم الأرض كما برهنوا عليه في باب مقادير الأجرام والأبعاد من كتب الهيئة لكنهم قالوا جرم الشمس مثل جرم الأرض مائة وستة وستين مرة وربع مرة وثمن مرة.
والعلامة جعل ذلك نسبة القطر إلى القطر لأنه المتبادر مما بين الطرفين، وإرادة الجرم منه خلاف الظاهر جدا، وكان يكفيه لو أراد ذلك أن يقول: قرص الشمس ضعف كرة الأرض فأي معنى لما زاده، وأما الثانية فإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الدرجة الفلكية التي هي ستون دقيقة فمنعها بما حرره العلامة القطب الشيرازي في نهاية الإدراك حيث قال: مقدار الدرجة الواحدة من مقعر الفلك الأطلس بالأميال ٩٣٤٣٥٩٣ ميلا فالفلك الأعلى يقطع فيما مقداره من الزمان جزء واحد من خمسة عشر جزءا من ساعة مستوية وهو ثلث خمسها هذا المقدار من الأميال فإذا تحرك مقدار دقيقة وهي جزء من تسعمائة جزء من ساعة مستوية كان قدر قطعه من المسافة ١٥٥٧١٨ ميلا وسدس ميل وخمس ربع أو ربع خمس ميل، ولأن حين ما يبدو قرن الشمس إلى أن تطلع بالتمام يكون بقدر ما يعد واحد من واحد إلى ثلاثمائة فبمقدار ما يعد ثلاثين يتحرك الفلك ١٥٥٧١٨ ميلا وهو ألف وسبعمائة واثنان وثلاثون فرسخا من مقعره والله تعالى أعلم بما يتحرك محدبه حينئذ فسبحان الله تعالى ما أعظم شأنه اه.
وحاصل ذلك أن الفلك الأعظم يتحرك من ابتداء طلوع جرم الشمس إلى أن يطلع بتمامه سدس درجة وهو عشر دقائق من ستين دقيقة من درجة فلكية ومقدار مساحة هذه الدقائق ٥١٩٦٠٠ أي خمسمائة ألف وتسعة عشر ألفا وستمائة فرسخ وإذا جعلنا هذه الدقائق ثواني كانت ستمائة ثانية فأين الأقل من ثانية.
وإن أراد بالثانية الثانية من دقيقة الساعة التي هي ربع الدرجة الفلكية فسدس الدرجة هاهنا يكون ثلثي دقيقة وإذا جعلنا ثلثي الدقيقة ثواني كانا أربعين ثانية وهذه الثواني الستمائة بعينها إلا أن المنجمين لما جعلوا الساعة ستين دقيقة تسهيلا للحساب والساعة عبارة عن خمسة عشر درجة فلكية اقتضى أن تكون الدرجة الفلكية وكل ثانية من ثواني دقيقة الساعة بخمسة عشر ثانية من ثواني دقيقة الدرجة الفلكية فالخلاف بين ثواني دقائق الدرجة الفلكية وثواني دقيقة الساعة اعتبار لفظي وأجاب عبد الرحمن الكردي الشهير بالفاضل بأن الثانية جزء من ستين جزءا من دقيقة والدقيقة قد تطلق على جزء من ستين جزءا من درجة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من ساعة وقد تطلق على جزء من ستين جزءا من يوم بليلته، ومراد العلامة البيضاوي من الثانية الثانية الثالثة لا الثانية الأولى وهو ظاهر ولا الثانية الثانية كما ذهب إليه سعدي جلبي وتبعه ابن صدر الدين، وفيه أنه يفهم منه أن الفلكيين قد يقسمون اليوم بليلته إلى ستين دقيقة كما يقسمونها إلى الساعات والدرجات والدقائق قسمة يتميز بها أجزاء الزمان ولم يقل بذلك أحد منهم وإنما ذكر ذلك بعضهم تسهيلا لمعرفة الكسر الزائد على الأيام التامة من السنة لتعرف منه السنة الكبيسة في ثلاث سنين أو أربع سنين وهو بمعزل عما نحن فيه من قطع المسافة البعيدة بالزمان القليل ولو سلمنا ما زعمه كان ناقصا من مدة حركة الفلك الأعظم من ابتداء طلوع قرص الشمس إلى انتهائه وهو ثلثا دقيقة هما أربعون ثانية وذلك جزء من تسعين جزءا من ساعة مستوية كما حرره العلامة الشيرازي، وما ذكره من أن الثانية من دقيقة اليوم بليلته عبارة عن أربعة وعشرين ثانية من ثواني دقيقة الساعة، وهي أقل من ثلثي دقيقة بستة عشر ثانية خطأ على خطأ تلك أذن قسمة ضيزى، نعم قد أصاب في الرد على الفاضلين وقد أخطأ الفاضل الأول في غير ذلك في هذا المقام كما لا يخفى على من وقف على كلامه وكان له أدنى اطلاع، على كتب القوم، ولتداول هذا المبحث بين الطلبة وعدم وجدانهم من يبل غليلهم تعرضنا له بما
10
نرجو أن يبل به الغليل، هذا والعلماء درجات والله تعالى الموفق لفهم الدقائق فتأمل مرة وثانية وثالثة فلعل الله سبحانه أن يفتح عليك غير ذلك، وما ذكر من تساوي الأجسام مبني على ما قيل على تركبها من الجواهر الفردة وفيه خلاف النظام والفلاسفة، والبحث في ذلك طويل، ولا يستدل على الاستحالة بلزوم الخرق والالتئام، وقد برهنوا على استحالة ذلك لأنا نقول: إن برهانهم على ذلك أوهن من بيت العنكبوت كما بين في محله، ولم تتعرض الآية لأنه صلّى الله عليه وسلّم كان في الإسراء به محمولا على شيء لكن صحت الأخبار بأنه عليه الصلاة والسلام أسري به على البراق إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى وهو بيت المقدس، ووصفه بالأقصى أي الأبعد بالنسبة إلى من بالحجاز، وقال غير واحد: إنه سمي به لأنه أبعد المساجد التي تزار من المسجد الحرام وبينهما نحو من أربعين ليلة، وقيل: لأنه ليس وراءه موضع عبادة فهو أبعد مواضعها، وقال ابن عطية: يحتمل أن يراد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين ما سواه وهو بعيد في نفسه للزائرين، وقيل المراد بعده عن الأقذار والخبائث. واختلف في ركوب جبريل عليه السلام معه فقيل: ركب خلفه عليه الصلاة والسلام. والصحيح أنه لم يركب بل أخذ بركابه وميكائيل يقود البراق. واختلف أيضا في استمراره عليه عليه الصلاة والسلام في عروجه إلى السماء فقيل: عرج عليه، والصحيح أنه نصب له معراج فعرج عليه، وجاء في وصفه وعظمه ما جاء، ووهم الحافظ ابن كثير كما قال الحلبي القائلين ومنهم صاحب الهمزية إن عروجه صلّى الله عليه وسلّم على البراق. ومن الأكاذيب المشهورة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما أراد العروج صعد على صخرة بيت المقدس وركب البراق فمالت الصخرة وارتفعت لتلحقه فأمسكتها الملائكة ففي طرف منها أثر قدمه الشريف وفي الطرف الآخر أثر أصابع الملائكة عليهم السلام فهي واقفة في الهواء قد انقطعت من كل جهة لا يمسكها إلا الذي يمسك السماء أن تقع على الأرض سبحانه وتعالى، وذكر العلائي في تفسيره أنه كان للنبي عليه الصلاة والسلام
ليلة الإسراء خمسة مراكب، الأول البراق إلى بيت المقدس، الثاني المعراج منه إلى السماء الدنيا، الثالث أجنحة الملائكة منها إلى السماء السابعة، الرابع جناح جبريل عليه السلام منها إلى سدرة المنتهى، الخامس الرفرف منها إلى قاب قوسين، ولعل الحكمة في الركوب إظهار الكرامة وإلا فالله سبحانه وتعالى قادر على أن يوصله إلى أي موضع أراد في أقل من طرفة عين، وقيل لم يكن إلا البراق من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى والمعراج منه إلى حيث شاء الله تعالى وقد كان له عشر مراقي سبعة إلى السموات والثامن إلى السدرة والتاسع إلى المستوي الذي سمع فيه صريف الأقلام والعاشر إلى العرش والله تعالى أعلم.
ومن العجائب ما سمعته عن الطائفة الكشفية والعهدة على الراوي أن للروح جسدين جسد من عالم الغيب لطيف لا دخل للعناصر فيه وجسد من عالم الشهادة كثيف مركب من العناصر والنبي صلّى الله عليه وسلّم حين عرج به ألقى كل عنصر من عناصر الجسد العنصري في كرته فما وصل إلى تلك القمر حتى ألقى جميع العناصر ولم يبق معه إلا الجسد اللطيف فرقى به حيث شاء الله تعالى، ثم لما رجع عليه الصلاة والسلام رجع إليه ما ألقاه واجتمع فيه ما تفرق منه، ولعمري أنه حديث خرافة لا مستند له شرعا ولا عقلا.
وذكر مولانا عبد الرحمن الدشتي ثم الجامي أن المعراج إلى العرش بالروح والجسد وإلى ما وراء ذلك بالروح فقط وأنشد بالفارسية:
جو رفرف شد مشرف از وجودش كرفت از دست رفرف عرش زودش
بدست عرش تن جون خرقه بگذاشت علم بر لا مكان بي خرقه افراشت
كلى برد ندا زين دهليزه يست بدان دركاه والا دست بر دست
11
جهت را مهره از ششدر رهانيد مكانرا مركب از تنكي جهانيد
مكاني يافت خالي از مكان نيز كه تن محرم نبود آنجا وجان نيز
ولم أقف على مستند له من الآثار وكأنه لاحظ أن العروج فوق العرش بالجسد يستدعي مكانا، وقد تقرر عند الحكماء أن ما وراء العرش لا خلا ولا ملا وبه تنتهي الأمكنة وتنقطع الجهات، وقال بعضهم: أمر المعراج أجل من أن يكيف وماذا عسى يقال سوى أن المحب القادر الذي لا يعجزه شيء دعا حبيبه الذي خلقه من نوره إلى زيارته وأرسل إليه من أرسل من خواص ملائكته فكان جبريل هو الآخذ بركابه وميكائيل الآخذ بزمام دابته إلى أن وصل إلى ما وصل ثم تولى أمره سبحانه بما شاء حتى حصل فأي مسافة تطول على ذلك الحبيب الرباني وأي جسم يمتنع عن الخرق لذلك الجسد النوراني:
جز بحزوى فثم عالم لطف من بقايا أجساده الأرواح
ومن تأمل في العين وإحساسها بالقريب والبعيد ولو كان فاقدها وذكر له حالها لأنكر ذلك إنكارا ما عليه مزيد، وكذا في غير ذلك من آثار قدرة الله تعالى الظاهرة في الأنفس والآفاق والواقع على جلالة قدرها الاتفاق لم يسعه إلا تسليم ما نطقت به الآيات وصحت به الروايات، ويشبه كلام هذا البعض ما قاله بعض شعراء الفرس إلا أن فيه ميلا إلى مذهب أهل الوحدة وهو قوله:
قصه بيرنگ معراج از من بيدل مپرس قطره دريا كشت وبيغمر نميدانم چهـ شد
والظاهر أن المسافة التي قطعها عليه الصلاة والسلام في مسيره كانت باقية على امتدادها. ويؤيد ذلك ما ذكره الثعلبي في تفسيره في وصف البراق أنه إذا أتى واديا طالت يداه وقصرت رجلاه وإذا أتى عقبة طالت رجلاه وقصرت يداه وكانت المسافة في غاية الطول، ففي حقائق الحقائق كانت المسافة من مكة إلى المقام الذي أوحى الله تعالى فيه إلى نبيه عليه الصلاة والسلام ما أوحى قدر ثلاثمائة ألف سنة، وقيل: خمسين ألفا، وقيل غير ذلك، وأنه ليس هناك طي مسافة على نحو ما يثبته الصوفية وبعض الفقهاء للأولياء كرامة، وجهل بعض الحنفية مثبتيه لهم وكفرهم آخرون وليس له وجه ظاهر، وربما يلزم مثبتيه القول بتداخل الجواهر والفلاسفة والمتكلمون سوى النظام يحيلونه ويبرهنون على استحالته، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك وقالوا: المنع مكابرة، وقد أثبت الصوفية للأولياء نشر الزمان ولهم في ذلك حكايات عجيبة والله تعالى أعلم بصحتها، ولم أر من تعرض لذلك من المتشرعين وهو أمر وراء عقولنا المشوبة بالأوهام، ومثله في ذلك قول من قال: الأزل والأبد نقطة واحدة الفرق بينهما بالاعتبار، وليس لفهم ذلك عندي إلا المتجردون من جلابيب أبدانهم وقليل ما هم، وسيأتي إن شاء الله تعالى في باب الإشارة حكاية إنكار طي المسافة أيضا وذكر ما فيه والله تعالى الموفق.
وإنما أسرى به صلّى الله عليه وسلّم ليلا لمزيد الاحتفال به عليه الصلاة والسلام فإن الليل وقت الخلوة والاختصاص ومجالسة الملوك ولا يكاد يدعو الملك لحضرته ليلا إلا من هو خاص عنده وقد أكرم الله تعالى فيه قوما من أنبيائه عليهم السلام بأنواع الكرامات وهو كالأصل للنهار، وأيضا لاهتداء فيه للمقصد أبلغ من الاهتداء في النهار، وأيضا قالوا: إن المسافر يقطع في الليل ما لا يقطع في النهار ومن هنا جاء عليكم بالدلجة فإن الأرض تطوي بالليل ما لا تطوي بالنهار، وأيضا أسرى به ليلا ليكون ما يعرج إليه من عالم النور المحض أبعد عن الشبه بما يعرج منه من عالم الظلمة وذلك أبلغ في الإعجاب.
وقال ابن الجوزي في ذلك: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم سراج والسراج لا يوقد إلا ليلا وبدر وكذا مسير البدر في الظلم إلى غير ذلك من الحكم التي لا يعلمها إلا الله تعالى، ثم إن الآية ليست نصا في دخوله عليه الصلاة والسلام المسجد
12
الأقصى إلا أن الأخبار الصحيحة نص في ذلك، وقوله سبحانه: الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صفة مدح وفيها إزالة اشتراك عارض، وبركته بما خص به من كونه متعبد الأنبياء عليهم السلام وقبلة لهم وكثرة الأنهار والأشجار حوله، وفي الحديث أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس. وقيل: بركته أن جعل سبحانه مياه الأرض كلها تنفجر من تحت صخرته والله تعالى أعلم بصحة ذلك، وهو أحد المساجد الثلاث التي تشد إليها الرحال، والأربع التي يمنع من دخولها الدجال فقد أخرج أحمد في المسند أن الدجال يطوف الأرض إلا أربعة مساجد مسجد المدينة ومسجد مكة والأقصى والطور والصلاة فيه مضاعفة فقد أخرج أحمد أيضا،
وأبو داود وابن ماجة عن ميمونة مولاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنها قالت: يا نبي الله أفتنا في بيت المقدس قال: أرض المحشر والمنشر ائتوه وصلوا فيه فإن صلاة فيه بألف صلاة.
وفي رواية لأحمد عن بعض نسائه عليه الصلاة والسلام أنها قالت: يا رسول الله فإن لم تستطع إحدانا أن تأتيه قال: إذا لم تستطع إحداكن أن تأتيه فلتبعث إليه زيتا يسرج فيه فإن من بعث إليه بزيت يسرج فيه كان كمن صلى فيه، وروى بعضه أبو داود
، وهو ثاني مسجد وضع في الأرض
لخبر أبي ذر قلت: يا رسول الله أي مسجد وضع في الأرض أولا؟ قال: المسجد الحرام قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى قلت: كم بينهما قال: أربعون سنة ثم أينما أدركتك الصلاة فصل فإن الفضل فيه
، وقد أسسه يعقوب عليه السلام بعد بناء إبراهيم عليه السلام الكعبة بما ذكر في الحديث وجدده سلمان أو أتم تجديد أبيه عليهما السلام بعد ذلك بكثير، والكلام فيما يتعلق بذلك مفصل في محله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي لنرفعه إلى السماء حتى يرى ما يرى من العجائب العظيمة. فقد صح أنه صلّى الله عليه وسلّم عرج به من صخرة بيت المقدس كما تقدم واجتمع في كل سماء مع نبي من الأنبياء عليهم السلام كما في صحيح البخاري وغيره، واطلع عليه الصلاة والسلام على أحوال الجنة والنار ورأى من الملائكة ما لا يعلم عدتهم إلا الله تعالى.
ونقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه عليه الصلاة والسلام رأى ليلة المعراج في مملكة الله تعالى خلقا كهيئة الرجال على خيل بلق شاكين السلاح طول الواحد منهم ألف عام والفرس كذلك يتبع بعضهم بعضا لا يرى أولهم ولا آخرهم فقال يا جبريل من هؤلاء؟ فقال: ألم تسمع قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] فأنا أهبط وأصعد أراهم هكذا يمرون لا أدري من أين يجيئون ولا إلى أين يذهبون
، وقد صلى صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء عليهم السلام في بيت المقدس،
قال في العقائق: وكانت صلاته عليه الصلاة والسلام بهم ركعتين قرأ في الأولى قل يا أيها الكافرون وفي الثانية الإخلاص
وقال بعضهم: كانت دعاء وذكر أن الأنبياء كانوا سبعة صفوف ثلاثة منهم مرسلون وأن الملائكة عليهم السلام صلت معهم وهذا من خصائصه عليه الصلاة والسلام كما قال القاضي زكريا في شرح الروض، والحكمة في ذلك أن يظهر أنه إمام الكل عليه الصلاة والسلام، وهل صلى بأرواحهم خاصة أو بها مع الأجساد فيه خلاف، وكذا اختلف في أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى بهم قبل العروج أو بعده فصحح الحافظ ابن كثير أنه بعده وصحح القاضي عياض وغيره أنه قبله، وجاء في رواية أنه عليه الصلاة والسلام صلى في كل سماء ركعتين يؤم أملاكها، وكان الإسراء والعروج في بعض ليلة واحدة وكان رجوعه صلّى الله عليه وسلّم على ما كان ذهابه عليه ولم يعين مقدار ذلك البعض، وكيفما كان فوقوع ما وقع فيه من أعجب الآيات وأغرب الكائنات،
وفي بعض الآثار أنه صلّى الله عليه وسلّم لما رجع وجد فراشه لم يبرد من أثر النوم
، وقيل: إن غصن شجرة أصابه بعمامته في ذهابه فلما رجع وجده بعد يتحرك، وزعم بعضهم أن ليلة الإسراء غير ليلة المعراج وظاهر الآية على ما سمعت يقتضي أنهما في ليلة واحدة وإنما أسري به صلّى الله عليه وسلّم أولا إلى بيت المقدس وعرج به ثانيا منه ليكون وصوله إلى الأماكن الشريفة على التدريج فإن شرف بيت المقدس دون شرف
13
الحضرة التي عرج إليها على ما قيل، وقيل: توطينا له عليه الصلاة والسلام لما في المعراج من الغرابة العظيمة التي ليست في الإسراء وإن كان غريبا أيضا، وقيل: لتتشرف به أرض المحشر ذهابا وإيابا، وقيل: لأن باب السماء الذي يقال مصعد الملائكة عليهم السلام على مقابلة صخرة بيت المقدس فقد نقل عن كعب الأحبار أنه قال: إن لله تعالى بابا مفتوحا من سماء الدنيا إلى بيت المقدس ينزل منه كل يوم سبعون ألف ملك يستغفرون لمن أتى بيت المقدس وصلى فيه فأسرى به صلّى الله عليه وسلّم إلى هناك أولا ثم عرج به ليكون صعوده على الاستواء، وقيل: إن أسطوانات المسجد قالت ربنا حصل لنا من كل نبي حظ وقد اشتقنا إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم فارزقنا لقاءه فبدىء بالإسراء به إلى المسجد تعجيلا للإجابة، وقيل: غير ذلك.
وعبر بمن الدالة على التبعيض لأن إراءة جميع آيات الله تعالى لعدم تناهيها مما لا تكاد تقع ولو قيل آياتنا لتبادر الكل، وربما يستعان بالمقام على إرادته واستشكل بأنه كيف يرى نبينا صلّى الله عليه وسلّم بعض الآيات ويرى إبراهيم عليه السلام ملكوت السماوات والأرض كما نطق به قوله تعالى: وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأنعام:
٧٥] وفرق بين الحبيب والخليل، وأجيب بأن بعض الآيات المضافة إليه تعالى أشرف وأعظم من ملكوت السموات والأرض كما قال تعالى: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى [النجم: ١٨]، وقال الخفاجي: السؤال غير وارد لأن ما رآه إبراهيم عليه السلام ما فيها من الدلائل والحجج وليس ذلك مقاوما للمعراج فتأمل.
وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون معنى الآية لنرى محمدا صلّى الله عليه وسلّم للناس آية من آياتنا أي ليكون عليه الصلاة والسلام آية في أنه يصنع الله تعالى ببشر هذا الصنع، ويندفع بهذا السؤال المذكور إلا أنه احتمال في غاية البعد، ثم لا يخفى أنه ليس في الآية إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم رأى ربه ليلة الإسراء إذ لا يصدق عليه تعالى أنه من آياته بل لا يصدق سبحانه أنه آية، نعم مثبتو الرؤية يحتجون بغير ذلك، وسيأتي إن شاء الله تعالى، وكذا ليست الآية نصا في المعراج بل هي نص في الإسراء دونه إذ يجوز حمل بعض الآيات على ما حصل له صلّى الله عليه وسلّم في الإسراء فقط بل قال بعضهم: ليس في الآيات مطلقا ما هو نص في ذلك، من هنا قالوا: الإسراء إلى بيت المقدس قطعي ثبت بالكتاب فمن أنكره فهو كافر والمعراج ليس كذلك فمن أنكره فليس بكافر بل مبتدع وكأنه سبحانه إنما لم يصرح به كما صرح بالإسراء رحمة بالقاصرين على ما قيل، وفي التفسير الخازني أن فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط دون السماء أنه لو ذكر صعوده عليه الصلاة والسلام لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسري به إلى بيت المقدس وبأن لهم صدقة فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بمعراجه إلى السماء فكان الإسراء كالتوطئة للمعراج اه وهذا ظاهر في الخبر الوارد في هذا الباب لا في الآية لأنه لم يخبر فيها بالمعراج كما أخبر فيها بالإسراء دلالة، وقيل: إن الإشارة بعد ذلك التصريح كافية فتدبر، وصرف الكلام من الغيبة التي في قوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ إلى صيغة المتكلم المعظم في بارَكْنا «ونريه آياتنا» لتعظيم البركات والآيات لأنها كما تدل على تعظيم مدلول الضمير تدل على عظم ما أضيف إليه وصدر عنه كما قيل إنما يفعل العظيم العظيم، وقد ذكروا لهذا التلوين نكتة خاصة وهي أن قوله تعالى: الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا يدل على مسيره عليه الصلاة والسلام من عالم الشهادة إلى عالم الغيب فهو بالغيبة أنسب وقوله تعالى: بارَكْنا حَوْلَهُ دل على إنزال البركات فيناسب تعظيم المنزل والتعبير بضمير العظمة متكفل بذلك، وقوله سبحانه: لِنُرِيَهُ على معنى بعد الاتصال وعز الحضور فيناسب التكلم معه، وأما الغيبة فلكونه صلّى الله عليه وسلّم إذ ذاك ليس من عالم الشهادة ولذا قيل إن فيه إعادة إلى مقام السر والغيبوبة من هذا العالم والغيبة بذلك أليق وقوله تعالى: مِنْ آياتِنا عود إلى التعظيم كما سبقت الإشارة إليه، وأما الغيبة في قوله عز وجل:
14
إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ على تقدير كون الضمير له تعالى كما هو الأظهر وعليه الأكثر فليطابق قوله تعالى:
بِعَبْدِهِ ويرشح ذلك الاختصاص بما يوقع هذا الالتفات أحسن مواقعه وينطبق عليه التعليل أتم انطباق إذا لمعنى قربه وخصه بهذه الكرامة لأنه سبحانه مطلع على أحواله عالم باستحقاقه لهذا المقام، قال الطيبي: إنه هو السميع لأقوال ذلك العبد البصير بأفعاله بكونها مهذبة خالصة عن شوائب الهوى مقرونة بالصدق والصفا مستأهلة للقرب والزلفى، وأما على تقدير كون الضمير للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما نقله أبو البقاء عن بعضهم وقال: أي السميع لكلامنا البصير لذاتنا، وقال الجلبي: إنه لا يبعد، والمعنى عليه إن عبدي الذي شرفته بهذا التشريف هو المستأهل له فإنه السميع لأوامري ونواهي العامل بهما البصير الذي ينظر بنظرة العبرة في مخلوقاتي فيعتبر أو البصير بالآيات التي أريناه إياها كقوله تعالى ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧] فقيل لمطابقة الضمائر العائدة عليه وكذا لما عبر به عنه من قوله سبحانه: «عبده»، وقيل: للإشارة إلى اختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بالمنح والزلفى وغيبوبة شهوده في عين بي يسمع وبي يبصر، ولا يمتنع إطلاق السميع والبصير على غيره تعالى كما توهم لا مطلقا ولا هنا، قال الطيبي: ولعل السر في مجىء الضمير محتملا للأمرين الإشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم إنما رأى رب العزة وسمع كلامه به سبحانه كما في الحديث المشار إليه آنفا فافهم تسمع وتبصر، وتوسيط ضمير الفصل إما لأن سماعه تعالى بلا إذن وبصره بلا عين على نحو لا يشاركه فيه تعالى أحد وإما للإشعار باختصاصه صلّى الله عليه وسلّم بتلك الكرامة.
وزعم ابن عطية أن قوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للكفار على تكذيبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر الإسراء أي إنه هو السميع لما تقولون أيها المكذبون البصير بما تفعلون فيعاقبكم على ذلك.
وقرأ الحسن «ليريه» بياء الغيبة ففي الآية حينئذ أربع التفاتات وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ أي التوراة وَجَعَلْناهُ أي الكتاب وهو الظاهر أو موسى عليه السلام هُدىً عظيما لِبَنِي إِسْرائِيلَ متعلق بهدى أو بجعل واللام تعليلية والواو استئنافية أو عاطفة على جملة سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى لا على أَسْرى كما نقله في البحر عن العكبري.
وحكى نظيره عن ابن عطية لبعده وتكلفه، وعقب آية الإسراء بهذه استطرادا تمهيدا لذكر القرآن، والجامع أن موسى عليه السلام أعطى التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه لأنه منح ثمت التكليم وشرف باسم الكليم وطلب الرؤية مدمجا فيه تفاوت ما بين الكتابين ومن أنزلا عليه وإن شئت فوازن بين أَسْرى بِعَبْدِهِ وآتَيْنا مُوسَى وبين هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ ويَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: ٩] أَلَّا تَتَّخِذُوا أي أي لا تتخذوا على أن أن تفسيرية ولا ناهية، والتفسير كما قال أبو البقاء لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي، وقيل لمحذوف أي آتينا موسى كتابة شيء هو لا تتخذوا، والكتاب وإن كان المراد به التوراة فهو مصدر في الأصل، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر.
وجوز في البحر أن تكون أن مصدرية والجار قبلها محذوف ولا نافية أي لئلا تتخذوا، وقيل يجوز أن تكون أن وما بعدها في موضع البدل من الْكِتابَ وجوز أبو البقاء أن تكون زائدة ولا تَتَّخِذُوا معمول لقول محذوف ولا فيه للنهي أي قلنا لا تتخذوا. وتعقبه أبو حيان بأن هذا الموضع ليس من مواضع زيادة أن.
وكذا جوز أن تكون لا زائدة كما في قوله تعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الأعراف: ١٢] والتقدير كراهة أن تتخذوا ولا يخفى ما فيه.
وقرأ ابن عباس ومجاهد وعيسى وأبو رجاء وأبو عمرو من السبعة أن لا تتخذوا بياء الغيبة، وجعل غير واحد أن على ذلك مصدرية ولم يذكروا فيها احتمال كونها مفسرة، وقال شيخ زاده: لا وجه لأن تكون أن مفسرة على القراءة بياء الغيبة لأن ما في حيز المفسرة مقول من حيث المعنى والذي يلقى إليه القول لا بد أن يكون مخاطبا كما لا وجه
15
لكونها مصدرية على قراءة الخطاب لأن بني إسرائيل غيب فتأمل. والجار عندهم على كونها مصدرية محذوف أي لأن لا يتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي ربا تكلون إليه أموركم غيري فالوكيل فعيل بمعنى مفعول وهو الموكول إليه أي المفوض إليه الأمور وهو الرب، قال ابن الجوزي: قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل ومِنْ سيف خطيب ودون بمعنى غير وقد صرح بمجيئها كذلك في غير موضع وهي مفعول ثان لتتخذوا ووَكِيلًا الأول.
وجوز أن تكون من تبعيضية واستظهر الأول، والمراد النهي عن الإشراك به تعالى: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص أو على النداء والمراد الحمل على التوحيد بذكر إنعامه تعالى عليهم في تضمن إنجاء آبائهم من الغرق في سفينة نوح عليه السلام حين ليس لهم وكيل يتوكلون عليه سواه تعالى، وخص مكي النداء بقراءة الخطاب قال: من قرأ «يتخذوا» بياء الغيبة يبعد معه النداء لأن الياء للغيبة والنداء للخطاب فلا يجتمعان إلا على بعد ونعم ما قال، وقول بعضهم: ليس كما زعم إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصا ويخبر عن أحد فيقول: يا زيد ينطلق بكر وفعلت كذا يا زيد ليفعل عمرو كيت وكيت إن كما زعم لا يدفع البعد الذي ادعاه مكي.
وجوز أن يكون أحد مفعولي تَتَّخِذُوا ووَكِيلًا الآخر هو لكونه فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه الواحد المذكر وغيره فلا يرد أنه كيف يجوز أن يكون مفعولا ثانيا والمفعول الثاني خبر معنى وهو غير مطابق هنا ومِنْ دُونِي حال منه ومِنْ يجوز أن تكون ابتدائية.
وجوز أيضا أن يكون بدلا من وَكِيلًا لأن المبدل منه ليس في حكم الطرح من كل الوجوه أي لا تتخذوا من دوني ذرية من حملنا والمراد نهيهم عن اتخاذ عزيز. وعيسى عليهما السلام ونحوهما أربابا. وفي التعبير بما ذكر إيماء إلى علة النهي من أوجه، أحدها تذكير النعمة في إنجاء آبائهم كما ذكر، والثاني تذكير ضعفهم، وحالهم المحوج إلى الحمل، والثالث أنهم أضعف منهم لأنهم متولدون منهم، وفي إيثار لفظ الذرية الواقعة على الأطفال والنساء في العرف الغالب مناسبة تامة لما ذكر، وجوز أبو البقاء كونه بدلا من مُوسَى وهو بعيد جدا. وقرأت فرقة «ذرّيّة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف أي هو ذرية ولا بعد فيه كما توهم أو على البدل من ضمير «يتخذوا» قال أبو البقاء: على القراءة بياء الغيبة، وقال ابن عطية ولا يجوز هذا على القراءة بتاء الخطاب لأن ضمير المخاطب لا يبدل منه الاسم الظاهر، وتعقبه أبو حيان في البحر بأن المسألة تحتاج إلى تفصيل وذلك أنه إن كان في بدل بعض من كل وبدل اشتمال جاز بلا خلاف وإن كان في بدل شيء من شيء وهما لعين واحدة إن كان يفيد التوكيد جاز بلا خلاف أيضا نحو مررت بكم صغيركم وكبيركم وإن لم يفد التوكيد فمذهب جمهور البصريين المنع ومذهب الأخفش والكوفيين الجواز وهو الصحيح لوجود ذلك في لسان العرب. وقد استدل على صحته في شرح التسهيل، وقرأ زيد بن ثابت وأبان ابن عثمان وزيد بن علي ومجاهد في رواية بكسر ذال «ذرية» وفي رواية أخرى عن مجاهد أنه قرأ بفتحها، وعن زيد بن ثابت أيضا أنه قرأ «ذريّة» بفتح الذال وتخفيف الراء وتشديد الياء على وزن فعلية كمطية إِنَّهُ أي نوحا عليه السلام كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر في مجامع حالاته.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر والبيهقي في الشعب والحاكم وصححه عن سلمان الفارسي قال: كان نوح عليه السلام إذا لبس ثوبا أو طعم طعاما حمد الله تعالى فسمي عبدا شكورا، وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد عن إبراهيم قال: شكره عليه السلام أن يسمي إذا أكل ويحمد الله تعالى إذا فرغ.
وأخرج ابن مردويه عن معاذ بن أنس الجهني عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إنما سمى الله تعالى نوحا عبدا شكورا لأنه
16
كان إذا أمسى وأصبح قال: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ» [الروم: ١٧، ١٨]
وأخرج البيهقي وغيره عن عائشة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا لم يقم عن خلاء قط إلا قال: الحمد لله الذي أذاقني لذته وأبقى في منفعته وأذهب عني أذاه»
وهذا من جملة شكره عليه السلام.
وفي هذه الجملة إيماء بأن إنجاء من معه عليه السلام كان ببركة شكره وحث للذرية على الاقتداء به وزجر لهم عن الشرك الذي هو أعظم مراتب الكفر، وهذا وجه ملاءمتها لما تقدم، وقال الزمخشري: يجوز أن يقال ذلك عن ذكره على سبيل الاستطراد وحينئذ فلا يطلب ملاءمته مع ما سبق له الكلام إلا من حيث إنه كان من شأن من ذكر أعني نوحا عليه السلام، وقيل ضمير إِنَّهُ عائد على موسى عليه السلام والجملة مسوقة على وجه التعليل إما لإيتاء الكتاب أو لجعله عليه السلام هدى بناء على أن ضمير جَعَلْناهُ له أو للنهي عن الاتخاذ وفيه بعد فتدبر.
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس أي أعلمناهم، وزاد الراغب وأوحينا إليهم وحيا جزما، وصرح غير واحد بتضمن القضاء معنى الإيحاء ولهذا عدي بإلى، والوحي إليهم إعلامهم ولو بالواسطة، وقيل إلى بمعنى على وروي ذلك أيضا عن ابن عباس: قال أي قضينا عليهم فِي الْكِتابِ أي التوراة أو الجنس بدليل قراءة أبي العالية وابن جبير «الكتب» بصيغة الجمع والظاهر الأول على الأول واللوح المحفوظ على الأخير، وأخرج ابن المنذر والحاكم عن طاوس قال: كنت عند ابن عباس ومعنا رجل من القدرية فقلت: إن أناسا يقولون لا قدر قال: أو في القوم أحد منهم، قلت: لو كان ما كنت تصنع به؟ قال: لو كان فيهم أحد منهم لأخذت برأسه ثم قرأت عليه وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ جواب قسم محذوف، وحذف متعلق القضاء أيضا للعلم به، والتقدير وقضينا إلى بني إسرائيل بفسادهم وعلوهم والله لتفسدن إلخ ويكون هذا تأكيدا لتعلق القضاء، ويجوز جعله جواب قَضَيْنا بإجراء القضاء مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به نحو قضاء الله تعالى لأفعلن كذا. والمراد بالأرض الجنس أو أرض الشام وبيت المقدس.
وقرأ ابن عباس ونصر بن علي وجابر بن زيد «لتفسدنّ» بضم التاء وفتح السين مبنيا للمفعول أي يفسدكم غيركم فقيل من الضلال، وقيل من الغلبة. وقرأ عيسى «لتفسدنّ» بفتح التاء وضم السين على معنى لتفسدن بأنفسكم بارتكاب المعاصي مَرَّتَيْنِ منصوب على أنه مصدر لَتُفْسِدُنَّ من غير لفظه، والمراد إفسادتين أولاهما على ما نقل السدي عن أشياخه قتل زكريا عليه السلام
وروي ذلك عن ابن عباس. وابن مسعود وذلك أنه لما مات صديقة ملكهم تنافسوا على الملك وقتل بعضهم بعضا ولم يسمعوا من زكريا فقال الله تعالى له: قم في قومك أوح على لسانك فلما فرغ ممّا أوحي عليه عدوا عليه ليقتلوه فهرب فانفلقت له شجرة فدخل فيها وأدركه الشيطان فأخذ هدية من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسط الشجرة حتى قطعوه في وسطها.
وقيل سبب قتله أنهم اتهموه بمريم عليها السلام قيل قالوا: حين حملت ضيع بنت سيدنا حتى زنت فقطعوه بالمنشار في الشجرة، وقال ابن إسحق: هي قتل شعيا عليه السلام وقد بعث بعد موسى عليه السلام فلما بلغهم الوحي أرادوا قتله فهرب فقتل وهو صاحب الشجرة وزكريا عليه السلام مات موتا ولم يقتل.
وفي الكشاف أولاهما قتل زكريا وحبس أرميا والآخرة قتل يحيى وقصد قتل عيسى عليهما السلام، وهذا فيمن جعل هلاك زكريا قبل يحيى عليهما السلام وهو رواية ابن عساكر في تاريخه عن علي كرم الله تعالى وجهه
، ثم ضم ذلك مع حبس أرميا في قرن غير سديد لأن أرميا كان في زمن بختنصر وبينه وبين زكريا أكثر من مائتي سنة.
واختار بعضهم وقيل: إنه الحق أن الأولى تغيير التوراة وعدم العمل بها وحبس أرميا وجرحه إذ وعظهم وبشرهم
17
بنبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو أول من بشر به عليه الصلاة والسلام بعد بشارة التوراة، والأخرى قتل زكريا ويحيى عليهما السلام، ومن قال: إن زكريا مات في فراشه اقتصر على يحيى عليه السلام، واختلف في سبب قتله فعن ابن عباس وغيره أن سبب ذلك أن ملكا أراد أن يتزوج من لا يجوز له تزوجها فنهاه يحيى عليه السلام وكان الملك قد عود تلك المرأة أن يقضي لها كل عيد ما تريد منه فعلمتها أمها أن تسأله دم يحيى في بعض الأعياد فسألته فأبى فألحت عليه فدعا بطست فذبحه فيه فبدرت قطرة على الأرض فلم تزل تغلي حتى قتل عليها سبعون ألفا.
وقال الربيع بن أنس: إن يحيى عليه السلام كان حسنا جميلا جدا فراودته امرأة الملك عن نفسه فأبي فقالت لا بنتها: سلي أباك رأس يحيى فسألته فأعطاها إياه، وقال الجبائي: إن الله تعالى ذكر فسادهم في الأرض مرتين ولم يبين ذلك فلا يقطع بشيء مما ذكر وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن عن طاعة الله تعالى أو لتغلبن الناس بالظلم والعدوان وتفرطن في ذلك إفراطا مجاوزا للحد، وأصل معنى العلو الارتفاع وهو ضد السفل وتجوز به عن التكبر والاستيلاء على وجه الظلم. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «عليا كبيرا» بكسر العين واللام والياء المشددة، قال في البحر:
والتصحيح في فعول المصدر أكثر بخلاف الجمع فإن الإعلال فيه هو المقيس وشذ التصحيح نحو لهو ومهو خلافا للفراء إذ جعل ذلك قياسا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي أولى مرّتي الإفساد.
والوعد بمعنى الموعود مراد به العقاب كما في البحر وفي الكلام تقدير أي فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود، وقيل الوعد بمعنى الوعيد وفيه تقدير أيضا، وقيل بمعنى الوعد الذي يراد به الوقت أي فإذا حان موعد عقاب أولاهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ أرسلنا لمؤاخذتكم بتلك الفعلة عِباداً لَنا وقال الزمخشري: خلينا بينهم وبين ما فعلوا ولم نمنعهم وفيه دسيسة اعتزال، وقال ابن عطية: يحتمل أن يكون الله تعالى أرسل إلى ملك أولئك العباد رسولا يأمره بغزو بني إسرائيل فتكون البعثة بأمر منه تعالى. وقرأ الحسن وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهم «عبيدا» أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوة وبطش في الحروب، وقال الراغب: البؤس والبأس والبأساء الشدة والمكروه إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر والبأس والبأساء في النكاية، ومن هنا قيل: إن وصف البأس بالشديد مبالغة كأنه قيل: ذوي شدة شديدة كظل ظليل ولا بأس فيه، وقيل إنه تجريد وهو صحيح أيضا. واختلف في تعيين هؤلاء العباد فعن ابن عباس وقتادة هم جالوت الجزري وجنوده، وقال ابن جبير وابن إسحاق هم سنجاريب ملك بابل وجنوده، وقيل هم العمالقة، وفي الأعلام للسهيلي هم بختنصر عامل لهراسف أحد ملوك الفرس الكيانية على بابل والروم وجنوده بعثوا عليهم حين كذبوا أرميا وجرحوه وحبسوه قيل وهو الحق.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ أي ترددوا وسطها لطلبكم. قال الراغب: جاسوا الديار توسطوها وترددوا بينها ويقاربه حاسوا وداسوا، وقرأ «حاسوا» بالحاء أبو السمال وطلحة، وقرىء أيضا «تجوسوا» بالجيم على وزن تكسورا.
وقال أبو زيد: الجوس والحوس طلب الشيء باستقصاء، وخِلالَ اسم مفرد ولذا قرأ الحسن «خلل» ويجوز أن يكون خلال جمع خلل كجبال جمع جبل، ويشير كلام أبي السعود إلى اختياره وكلام البيضاوي إلى اختيار الأول.
وَكانَ أي وعد أولاهما وَعْداً مَفْعُولًا محتم الفعل فضمير كانَ للوعد السابق، وقيل: للجوس المفهوم من جاسوا والجمهور على أن في هذه البعثة خرب هؤلاء العباد بيت المقدس ووقع القتل الذريع والجلاء والأسر في بني إسرائيل وحرقت التوراة، وعن ابن عباس ومجاهد أنه لم يكن ذلك وإنما جاس الغازون خلال الديار وانصرفوا بدون قتال ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي الدولة والغلبة، وأصل معنى الكر العطف والرجوع، وإطلاق الكرة على ما ذكر مجاز شائع كما يقال تراجع الأمر، ولام لكم للتعدية، وقيل: للتعليل، وقوله تعالى عَلَيْهِمْ أي الذين فعلوا
18
بكم ما فعلوا متعلق بالكرة لما فيها من معنى الغلبة أو حال منها، وجوز تعلقه برددنا، وهذا على ما في البحر إخبار منه تعالى في التوراة لبني إسرائيل إلا أنه جعل رَدَدْنا موضع نرد لتحقق الوقوع، وكان بين البعث والرد على ما قيل مائة سنة وذلك بعد أن تابوا ورجعوا عما كانوا عليه. واختلف في سبب ذلك فروي أن اردشير بهمن بن إسفنديار بن كشتاسف بن لهراسف لما ورث الملك من جده كشتاسف ألقى الله تعالى في قلبه الشفقة على بني إسرائيل فرد أسراءهم الذين أتى بهم بختنصر إلى بابل وسيرهم إلى أرض الشام وملك عليهم دانيال فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر، وجعل بعضهم من آثار هذه الكرة قتل بختنصر ولم يثبت.
وفي البحران ملكا غزا أهل بابل وكان بختنصر قد قتل من بني إسرائيل أربعين ألفا ممن يقرأ التوراة وأبقى عنده بقية في بابل فلما غزاهم ذلك الملك وغلب عليهم تزوج امرأة من بني إسرائيل فطلبت منه أن يرد بني إسرائيل إلى ديارهم ففعل وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وقيل: رد الكرة بأن سلط الله تعالى داود عليه السلام فقتل جالوت. وتعقب بأنه يرده قوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ إلخ فإن المراد به بيت المقدس وداود عليه السلام ابتدأ بناءه بعد قتل جالوت وإيتائه النبوة ولم يتمه وأتمه سليمان عليه السلام فلم يكن قبل داود عليه السلام مسجد حتى يدخلوه أول مرة، ودفع بأن حقيقة المسجد الأرض لا البناء ويحمل قوله تعالى: دَخَلُوهُ على الاستخدام وهو كما ترى، والحق أن المسجد كان موجودا قبل داود عليه السلام كما قدمنا.
وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ كثيرة بعد ما نهبت أموالكم وَبَنِينَ بعد ما سبيت أولادكم وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً مما كنتم من قبل أو من أعدائكم، والنفير على ما قال أبو مسلم كالنافر من ينفر مع الرجل من عشيرته وأهل بيته، وقال الزجاج: يجوز أن يكون جمع نفر ككلب وكليب وعبد وعبيد وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو، وقيل: هو مصدر أي أكثر خروجا إلى الغزو كما في قول الشاعر:
فأكرم بقحطان من والد وحمير أكرم بقوم نفيرا
ويروى بالحميريين أكرم نفيرا، وصحح السهيلي أنه اسم جمع لغلبته في المفردات وعدم اطراد مفرده.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أعمالكم سواء كانت لازمة لأنفسكم أو متعدية للغير أي عملتموها على الوجه المستحسن اللائق أو فعلتم الإحسان أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ أي لنفعها بما يترتب على ذلك من الثواب وَإِنْ أَسَأْتُمْ أعمالكم لازمة كانت أو متعدية بأن عملتموها على غير الوجه اللائق أو فعلتم الإساءة فَلَها أي فالإساءة عليها لما يترتب على ذلك من العقاب فاللام بمعنى على كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم، وعبر بها لمشاكلة ما قبلها.
وقال الطبري: هي بمعنى إلى على معنى فإساءتها راجعة إليها، وقيل: إنها للاستحقاق كما في قوله تعالى لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [البقرة: ١٠ وغيرها].
وفي الكشاف أنها للاختصاص. وتعقب بأنه مخالف لما في الآثار من تعدى ضرر الإساءة إلى غير المذنب اللهم إلا أن يقال: إن ضرر هؤلاء القوم من بني إسرائيل لم يتعدهم، وفيه أنه تكلف لا يحتاج إليه لأن الثواب والعقاب الأخرويين لا يتعديان وهما المراد هنا، وقيل: اللام للنفع كالأولى لكن على سبيل التهكم، وتعميم الإحسان ومقابله بحيث يشملان المتعدي واللازم هو الذي استظهره بعض المحققين وفسر الإحسان بفعل ما يستحسن له ولغيره والإساءة بضد ذلك وقال: إنه أنسب وأتم ولذا قيل إن تكرير الإحسان في النظم الكريم دون الإساءة إشارة إلى أن جانب الإحسان أغلب وأنه إذا فعل ينبغي تكراره بخلاف ضده،
وجاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: ما أحسنت إلى أحد ولا أسأت إليه وتلا الآية
، ووجه مناسبتها لما قبلها على ما قال القطب أنه لما عصوا سلط الله تعالى عليهم من
19
قصدهم بالنهب والأسر ثم لما تابوا وأطاعوا حسنت حالهم فظهر أن إحسان الأعمال وإساءتها مختص بهم، والآية تضمنت ذلك وفيها من الترغيب بالإحسان والترهيب من الإساءة ما لا يخفى فتأمل.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ المرة الْآخِرَةِ من مرّتي افسادكم لِيَسُوؤُا متعلق بفعل حذف لدلالة ما سبق عليه وهو جواب إذا أي بعثناهم ليسوءوا وُجُوهَكُمْ أي ليجعل العباد المبعوثون آثار المساءة والكآبة بادية في وجوهكم فإن الأعراض النفسانية تظهر فيها فيظهر بالفرح النضارة والإشراق وبالحزن والخوف الكلوح والسواد فالوجوه على حقيقتها، قيل ويحتمل أن يعبر بالوجه عن الجملة فإنهم ساؤوهم بالقتل والنهب والسبي فحصلت الإساءة للذوات كلها ويؤيده قوله تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ويحتمل أن يراد بالوجوه ساداتهم وكبراؤهم أهو هو كما ترى.
واختير هذا على ليسوؤكم مع أنه أحضر وأظهر إشارة إلى أنه جمع عليه ألم النفس والبدن المدلول عليه بقوله تعالى: وَلِيُتَبِّرُوا إلخ، وقيل: فَإِذا جاءَ هنا مع كونه من تفصيل المجمل في قوله سبحانه: لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ فالظاهر فإذا جاء وإذا جاء للدلالة على أن مجيء وعد عقاب المرة الآخرة لم يتراخ عن كثرتهم واجتماعهم دلالة على شدة شكيمتهم في كفران النعم وإنهم كلما ازدادوا عدة وعدة زادوا عدوانا وعزة إلى أن تكاملت أسباب الثروة والكثرة فاجأهم الله عز وجل على الغرة نعوذ بالله سبحانه من مباغتة عذابه.
وقرأ أبو بكر وابن عامر وحمزة «ليسؤ» على التوحيد والضمير لله تعالى أو للوعد أو للبعث المدلول عليه بالجزاء المحذوف، والإسناد مجازي على الأخيرين وحقيقي على الأول، ويؤيده قراءة علي كرم الله تعالى وجهه. وزيد بن علي والكسائي «لنسوء» بنون العظمة فإن الضمير لله تعالى لا يحتمل غير ذلك، وقرأ أبي «لنسؤن» بلام الأمر ونون العظمة أوله ونون التوكيد الخفيفة آخره ودخلت لام الأمر على فعل المتكلم كما في قوله تعالى: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ [العنكبوت: ١٢] وجواب إذا على هذه القراءة هو الجملة الإنشائية على تقدير الفاء لأنها لا تقع جوابا بدونها،
وعن علي كرم الله تعالى وجهه أيضا «لنسوءن» و «ليسوءن» بالنون والياء أولا ونون التوكيد الشديدة آخرا
، واللام في ذلك لام القسم والجملة جواب القسم سادة مسد جواب إذا واللام في قوله تعالى وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ لام كي والجار والمجرور معطوف على الجار والمجرور قبله وهو متعلق ببعثنا المحذوف أيضا وجوز أن يتعلق بمحذوف غيره فيكون العطف من عطف جملة على أخرى، وعلى القراءة بلام الأمر أو لام القسم فيما تقدم يجوز أن تكون اللام لام الأمر وأن تكون لام كي، والمراد بالمسجد بيت المقدس وهو مفعول يدخلوا، وفي الصحاح أن الصحيح في نحو دخلت البيت إنك تريد دخلت إلى البيت فحذف حرف الجر فانتصب البيت انتصاب المفعول به، وتحقيقه في محله كَما دَخَلُوهُ أي دخولا كائنا كدخولهم إياه أَوَّلَ مَرَّةٍ فهو في موضع النعت لمصدر محذوف، وجوز أن يكون حالا أي كائنين كما دخلوه، وأَوَّلَ منصوب على الظرفية الزمانية، والمراد من التشبيه على ما في البحر أنهم يدخلونه بالسيف والقهر والغلبة والإذلال، وفيه أيضا أن هذا يبعد قول من ذهب إلى أن أولى المرتين لم يكن فيها قتال ولا قتل ولا نهب وَلِيُتَبِّرُوا أي يهلكوا، وقال قطرب: يهدموا وأنشد قول الشاعر:
وما الناس إلا عاملان فعامل يتبر ما يبني وآخر رافع
وقال بعضهم: الهدم إهلاك أيضا، وأخرج ابن المنذر وغيره عن سعيد بن جبير أن التتبير كلمة نبطية.
ما عَلَوْا أي الذي غلبوه واستولوا عليه فما اسم موصول والعائد محذوف وهو إما مفعول أو مجرور على ما قيل، وجوز أن تكون ما مصدرية ظرفية أي ليتبروا مدة دوامهم غالبين قاهرين تَتْبِيراً فظيعا لا يوصف.
واختلف في تعيين هؤلاء العباد المبعوثين بعد أن ذكروا قتل يحيى عليه السلام في الإفساد الأخير فقال غير
20
واحد: إنهم بختنصر وجنوده، وتعقبه السهيلي بأنه لا يصح لأن قتل يحيى بعد رفع عيسى عليهما السلام وبختنصر كان قبل عيسى عليه السلام بزمن طويل، وقيل الإسكندر وجنوده، وتعقبه أيضا بأن بين الإسكندر وعيسى عليه السلام نحوا من ثلاثمائة سنة (١) ثم قال لكنه إذا قيل: إن إفسادهم في المرة الأخيرة بقتل شعيا جاز أن يكون المبعوث عليهم بختنصر ومن معه لأنه كان حينئذ حيا، وروي عن عبد الله بن الزبير رضي الله تعالى عنهما أن الذي غزاهم ملك خردوش وتولى قتلهم على دم يحيى عليه السلام قائد له فسكن. وفي بعض الآثار أن صاحب الجيش دخل مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي فسألهم عنه فقالوا دم قربان لم يقبل منا فقال: ما صدقتموني فقتل عليه ألوفا منهم فلم يهدأ الدم ثم قال: إن لم تصدقوني ما تركت منكم أحدا فقالوا: إنه دم يحيى عليه السلام فقال: بمثل هذا ينتقم ربكم منكم ثم قال: يا يحيى قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك فاهدأ بإذن الله تعالى قبل أن لا أبقي أحدا منهم فهدأ، واختار في الكشف- وقال هو الحق- إن المبعوث عليهم في المرة الثانية بيردوس من ملوك الطوائف وكأنه هو خردوش الذي مر آنفا فقد ذكر أنه ملك بابل من ملوك الطوائف.
وقيل: اسمه جوزور وهؤلاء الملوك ظهروا بعد قتل الإسكندر دارا واستيلائه على ملك الفرس، وكان ذلك بصنع الإسكندر متبعا فيه رأى معلمه أرسطو، وعدتهم تزيد على سبعين ملكا، ومدة ملكهم على ما في بعض التواريخ خمسمائة واثنتا عشرة سنة، وحصل اجتماع الفرس بعد هذه المدة على أردشير بن بابك طوعا وكرها وكان أحد ملوك الطوائف على إصطخر، وعلى هذا يكون الملك المبعوث لفساد بني إسرائيل بقتل يحيى عليه السلام من أواخر ملوك الطوائف كما لا يخفى، ويكون بين هذا البعث والبعث الأول على القول بأن المبعوث بختنصر وأتباعه مدة متطاولة، ففي بعض التواريخ أن قتل الإسكندر دارا بعد بختنصر بأربعمائة وخمس وثلاثين سنة وبعد مضي نحو ثلاثمائة سنة من غلبة الإسكندر ولد المسيح عليه السلام، ولا شك أن قتل يحيى عليه الصلاة والسلام بعد الولادة بزمان والبعث بعد القتل كذلك فيكون بين البعثين ما يزيد على سبعمائة وخمس وثلاثين سنة، والذي ذهب إليه اليهود أن المبعوث أولا بختنصر وكان في زمن أرميا عليه السلام وقد أنذرهم مجيئه صريحا بعد أن نهاهم عن الفساد وعبادة الأصنام كما نطق به كتابه فحبسوه في بئر وجرحوه وكان تخريبه لبيت المقدس في السنة التاسعة عشر من حكمه وبين ذلك وهبوط آدم ثلاثة آلاف وثلاثمائة وثماني وثلاثين سنة وبقي خرابا سبعين سنة، ثم إن أسبيانوس قيصر الروم وجه وزيره طوطوز إلى خرابه فخربه سنة ثلاثة آلاف وثمانمائة وثمانية وعشرين فيكون بين البعثين عندهم أربعمائة وتسعون سنة، وتفصيل الكلام في ذلك في كتبهم والله تعالى أعلم بحقيقة الحال. ونعم ما قيل إن معرفة الأقوام المبعوثين بأعيانهم وتاريخ البعث ونحوه مما لا يتعلق به كبير غرض إذ المقصود أنه لما كثرت معاصيهم سلط الله تعالى عليهم من ينتقم منهم مرة بعد أخرى.
وظاهر الآية يقتضي اتحاد المبعوثين أولا وثانيا، ومن لا يقول بذلك يجعل رجوع الضمائر للعباد على حد رجوع الضمير للدرهم في قولك: عندي درهم ونصفه فافهم.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد البعث الثاني إن تبتم وانزجرتم عن المعاصي وَإِنْ عُدْتُمْ للإفساد بعد الذي تقدم منكم عُدْنا للعقوبة فعاقبناكم في الدنيا بمثل ما عاقبناكم به في المرتين الأوليين، وهذا من المقضي لهم في الكتاب أيضا وكذا الجملة الآتية، وقد عادوا بتكذيب النبي صلّى الله عليه وسلّم وقصدهم قتله فعاد الله تعالى بتسليطه عليه الصلاة
(١) ذكر الدميري في حياة الحيوان أنه ثلاثمائة وثلاث سنين في بعض التواريخ وثلاث عشر سنة اه منه. [.....]
21
والسلام عليهم فقتل قريظة وأجلى بني النضير وضرب الجزية على الباقين وقيل عادوا فعاد الله تعالى بأن سلط عليهم الأكاسرة ففعلوا بهم ما فعلوا من ضرب الأتاوة ونحو ذلك والأول مروي عن الحسن وقتادة، والتعبير بأن للإشارة إلى أنه لا ينبغي أن يعودوا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً قال ابن عباس وغيره: أي سجنا وأنشد في البحر قوله لبيد:
ومقامة غلب الرقاب كأنهم (١) جن على باب الحصير قيام
فإن كان اسما للمكان المعروف فهو جامد لا يلزم تأنيثه وتذكيره، وإن كان بمعنى حاصر أي محيط بهم وفعيل بمعنى فاعل يلزم مطابقته فعدم المطابقة هنا إما لأنه على النسب كلابن وتامر أي ذات حصر وعلى ذلك خرج قوله تعالى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل: ١٨] أي ذات انفطار أو لحمله على فعيل بمعنى مفعول وقيل التذكير على تأويل جهنم بمذكر، وقيل لأن تأنيثها ليس بحقيقي نقل ذلك أبو البقاء وهو كما ترى.
وأخرج ابن المنذر وغيره عن الحسن أنه فسر ذلك بالفراش والمهاد، قال الراغب: كأنه جعل الحصير المرمول وأطلق عليه ذلك لحصر بعض طاقاته على بعض فحصير على هذا بمعنى محصور وفي الكلام التشبيه البليغ، وجاء الحصير بمعنى السلطان وأنشد الراغب في ذلك البيت السابق ثم قال: وتسميته بذلك إما لكونه محصورا نحو محجب وإما لكونه حاصرا أي مانعا لمن أراد أن يمنعه من الوصول إليه اه وحمل ما في الآية على ذلك مما لم أر من تعرض له والحمل عليه في غاية البعد فلا ينبغي أن يحمل عليه وإن تضمن معنى لطيفا يدرك بالتأمل، وكان الظاهر أن يقال لكم بدل للكافرين إلا أنه عدل عنه تسجيلا على كفرهم بالعود وذما لهم بذلك وإشعارا بعلة الحكم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي آتيناكه، وهذا متعلق بصدر السورة كما مرت الإشارة إليه، وفي الإشارة بهذا تعظيم لما جاء به النبي المجتبى صلّى الله عليه وسلّم يَهْدِي أي الناس كافة لا فرقة مخصوصة منهم كدأب الكتاب الذي آتيناه موسى عليه السلام لِلَّتِي أي للطريقة التي هِيَ أَقْوَمُ أي أقوم الطرق وأسدها أعني ملة الإسلام والتوحيد فللتي صفة لموصوف حذف اختصارا وقدره بعضهم الحالة أو الملة، وأيما قدرت لم تجد مع الإثبات ذوق البلاغة الذي تجده مع الحذف لما في الإبهام من الدلالة على أنه جرى الوادي وطم على القرى، وأَقْوَمُ أفعل تفضيل على ما أشار إليه غير واحد.
وقال أبو حيان: الذي يظهر من حيث المعنى أنه لا يراد به التفضيل إذ لا مشاركة بين الطريقة التي يهدي لها القرآن وغيرها من الطرق في مبدأ الاشتقاق لتفضل عليه فالمعنى للتي هي قيمة أي مستقيمة كما قال الله تعالى فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ [البينة: ٣] وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ [البينة: ٥] اه. وإلى ذلك ذهب الإمام الرازي وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ بما في تضاعيفه من الأحكام والشرائع.
وقرأ عبد الله وطلحة وابن وثاب والإخوان وَيُبَشِّرُ بالتخفيف مضارع بشر المخفف وجاء بشرته وبشرته وأبشرته الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الأعمال الصَّالِحاتِ التي شرحت فيه أَنَّ لَهُمْ أي بأن لهم بمقابلة أعمالهم أَجْراً كَبِيراً بحسب الذات وبحسب التضعيف عشرا فصاعدا، وفسر ابن جريج الأجر الكبير وكذا الرزق الكريم في كل القرآن بالجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وأحكامها المشروحة فيه من البعث والحساب والجزاء من الثواب والعقاب الروحانيين والجسمانيين، وتخصيص الآخرة بالذكر من بين سائر ما لم يؤمن به الكفرة لكونها معظم ما أمروا الإيمان به ولمراعاة التناسب بين أعمالهم وجزائها الذي أنبأ عنه قوله تعالى: أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وهو عذاب جهنم أي أعددنا وهيأنا لهم فيما كفروا به وأنكروا وجوده من الآخرة عذابا مؤلما، وهو أبلغ في الزجر لما أن إتيان
(١) المقامة: الجماعة وعلى ذلك قوله: وفيهم مقامات حسان وجوههم اه منه.
22
العذاب من حيث لا يحتسب أفظع وأفجع، ولعل أهل الكتاب داخلون في هذا الحكم لأنهم لا يقولون بالجزاء الجسماني ويعتقدون في الآخرة أشياء لا أصل لها فلم يؤمنوا بالآخرة وأحكامها المشروحة في هذا القرآن حقيقة الإيمان فافهم.
والعطف على أن لهم أجرا كبيرا فيكون إعداد العذاب الأليم للذين لا يؤمنون بالآخرة مبشرا به كثبوت الأجر الكبير للمؤمنين الذين يعملون الصالحات، ومصيبة العدو سرور يبشر به فكأنه قيل يبشر المؤمنين بثوابهم وعقاب أعدائهم، ويجوز أن تكون البشارة مجازا مرسلا بمعنى مطلق الإخبار الشامل للإخبار بما فيه سرور وللإخبار بما ليس كذلك، وليس فيه الجمع بين معنى المشترك أو الحقيقة والمجاز حتى يقال: إنه من عموم المجاز وإن كان راجعا لهذا أو العطف على يُبَشِّرُ أو يَهْدِي بإضمار يخبر فيكون من عطف الجملة على الجملة، ولا يخفى ما في الآية من ترجيح الوعد على الوعيد.
ونبه سبحانه على ما في البحر بوصف المؤمنين بالذين يعملون الصالحات على الحالة الكاملة لهم ليتحلى المؤمن بذلك وأنت تعلم أنه إن فسر الأجر الكبير بالجنة فهو ثابت للمؤمن العامل وللمؤمن المفرط إذ أصل الإيمان متكفل بدخول الجنة فضلا من الله تعالى ورحمة، نعم ما أعد للعامل في الجنة أعظم مما أعد للمفرط، وإن فسر بما أعده الله تعالى في الآخرة من الجنة والدرجات العلى وأنواع الكرامات فيها التي لا يتكفل بها مجرد الإيمان فظاهر أن ذلك غير ثابت للمؤمن المفرط فلا بد من التوصيف ولا يلزم منه عدم دخول المفرط الجنة، نعم يلزم منه أن لا يثبت له الأجر الكبير بالمعنى السابق، والآيات التي يفهم منها دخوله الجنة كثيرة ولعل هذه الآية يفهم منها ذلك واقتضى المقام عدم التصريح بحكمه، وفي الكشاف أنه تعالى ذكر المؤمنين الأبرار والكفار ولم يذكر الفسقة لأن الناس حينئذ إما مؤمن تقي وإما مشرك وأصحاب المنزلة بين المنزلتين إنما حدثوا بعد ذلك.
وتعقبه أبو حيان بأنه مكابرة فقد وقع في زمان الرسول صلّى الله عليه وسلّم من بعض المؤمنين هفوات وسقطات بعضها مذكور في القرآن وبعضها مذكور في الأحاديث الصحيحة اه. والمقرر في الأصول أن الأكثر على عدالة الصحابة ومن طرأ له منهم قادح كسرقة وزنا عمل بمقتضاه، ثم ما ذكره من المنزلة بين المنزلتين الظاهر أنه أراد به ما ذهب إليه إخوانه المعتزلة من أن مرتكب الكبيرة ليس بمؤمن ولا كافر وإذا مات من غير توبة خلد في النار وقد رد ذلك في علم الكلام فتدبر.
وقوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ قال شيخ الإسلام: بيان لحال المهدي إثر بيان حال الهادي وإظهار لما بينهما من التباين والمراد بالإنسان الجنس أسند إليه حال بعض أفراده وهو الكافر، وإليه يشير كلام ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه كما يقتضيه ما روي عن الحسن ومجاهد فالمعنى على الأول أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم وهو أي بعض أفراده أعني الكافر يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور إما بلسانه حقيقة كدأب من قال منهم اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: ٣٢] ومن قال فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: ٧٠] إلى غير ذلك مما حكي عنهم، وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه الموجبة له مجازا كما هو ديدن كلهم، وبعضهم جعل الدعاء باللسان مجازا أيضا عن الاستعجال استهزاء.
دُعاءَهُ أي دعاء كدعائه فحذف الموصوف وحرف التشبيه وانتصب المجرور على المصدرية وهو مراد من قال: مثل دعائه بِالْخَيْرِ المذكور فرضا لا تحقيقا فإنه بمعزل عن الدعاء به، وفيه رمز إلى أنه اللائق بحاله.
وَكانَ الْإِنْسانُ أي من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده عَجُولًا يسارع إلى طلب كل ما يخطر بباله
23
متعاميا عن ضرره أو مبالغا في العجلة يستعجل الشر والعذاب وهو آتيه لا محالة ففيه نوع تهكم به، وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم تجعل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال، والمعنى على الثاني أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير وهو في بعض أحيانه كما عند الغضب يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر وكان الإنسان بحسب جبلته عجولا ضجرا لا يتأنى إلى أن يزول عنه ما يعتريه.
أخرج الواقدي في المغازي عن عائشة رضي الله عنها «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها بأسير وقال لها: احتفظي به قالت: فلهوت مع امرأة فخرج ولم أشعر فدخل النبي صلّى الله عليه وسلّم فسأل عنه فقلت: والله لا أدري وغفلت عنه فخرج فقال:
قطع الله يدك ثم خرج عليه الصلاة والسلام فصاح به فخرجوا في طلبه حتى وجدوه ثم دخل عليّ فرآني وأنا أقلب يدي فقال: ما لك؟ قلت انتظر دعوتك فرفع يديه وقال: اللهم إنما أنا بشر آسف وأغضب كما يغضب البشر فأيما مؤمن أو مؤمنة دعوتك عليه بدعوة فاجعلها له زكاة وطهرا»

أو يدعو بما هو شر ويحسبه خيرا وكان الإنسان عجولا غير مستبصر لا يتدبر في أموره حق التدبر ليتحقق ما هو خير حقيق بالدعاء به وهو شر جدير بالاستعاذة منه اه مع بعض زيادة وتغيير.
واختار إرادة الكافر من الإنسان الأول بعض المحققين وذكر في وجه ربط الآيات أنه تعالى لما شرح ما خص به نبيه صلّى الله عليه وسلّم من الإسراء وإيتاء موسى عليه السلام التوراة وما فعله بالعصاة المتمردين من تسليط البلاء عليهم كان ذلك تنبيها على أن طاعة الله تعالى توجب كل خير وكرامة ومعصيته سبحانه توجب كل بلية وغرامة لا جرم قال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي إلخ ثم عطف عليه وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ إلخ بجامع دليل العقل والسمع أو نعمتي الدين والدنيا، وأما اتصال قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ فهو أنه سبحانه لما وصف القرآن حتى بلغ به الدرجة القصوى في الهداية أتى بذكر من أفرط في كفران هذه النعمة العظمى قائلا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ إلخ.
ومثل هذا ما قيل إنه تعالى بعد أن وصف القرآن بما وصف ذم قريشا بعدم سؤالهم الهداية به وطلبهم إنزال الحجارة عليهم أو إيتاء العذاب الأليم إن كان حقا، وفي الكشف أن قوله تعالى: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ إلخ بيان أن القرآن يهديهم للتي هي أقوم ويأبون إلا التي هي ألوم وهو وجه للربط مطلقا وكل ما ذكروه في ذلك متقارب. ويرد على حمل الدعاء على الدعاء بالأعمال والعجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال (١) خلاف المتبادر كما لا يخفى، وفسر بعضهم الإنسان الثاني بآدم عليه السلام لما أخرج ابن جرير. وابن المنذر وغيرهما عن سلمان الفارسي قال: أول ما خلق الله تعالى من آدم عليه السلام رأسه فجعل ينظر وهو يخلق وبقيت رجلاه فلما كان بعد العصر قال: يا رب أعجل قبل الليل فذلك قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا، وروي نحوه عن مجاهد وروى القرطبي والعهدة عليه أنه لما وصلت الروح لعينيه نظر إلى ثمار الجنة فلما دخلت جوفه اشتهاها فوثب عجلا إليها فسقط، ووجه ارتباط وَكانَ الْإِنْسانُ إلخ على هذا القول إفادته أن عجلته بالدعاء لغيره أو لعدم تأمله من شأنه وأنه موروث له من أصله وشنشنة يعرفها من أخزم فهو اعتراض تذييل وكلام تعليلي والأولى إرادة الجنس وإن كان ألفاظ الآية لا تنبو عن إرادة آدم عليه السلام كما زعم أبو حيان ثم إن الباء في الموضعين على ظاهرها صلة الدعاء، وقيل: إنها بمعنى في والمعنى يدعو في حالة الشر والضر كما كان يدعو في حالة الخير فالمدعو به ليس الشر والخير، وقيل: إنها للسببية أي يدعو بسبب ذلك وكلا القولين (٢) مخالفين للظاهر لا بعول عليهما، واستدل بالآية على بعض الاحتمالات
(١) قوله بتلك الأعمال خلاف إلخ كذا بخطه ولعله أنه خلاف إلخ كما هو ظاهر.
(٢) قوله مخالفين إلخ كذا بخطه ولعله مخالفان إلخ.
24
على المنع من دعاء الرجل على نفسه أو على ماله أو على أهله وقد جاء النهي عن ذلك صريحا في بعض الأخبار.
فقد أخرج أبو داود والبزار عن جابر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لا تدعوا على أنفسكم لا تدعوا على أولادكم على أموالكم لئلا توافقوا من الله تعالى ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم وبه يرد على ما قيل من أن الدعاء بذلك لا يستجاب فضلا من الله تعالى وكرما.
واستشكل بأن النبي صلّى الله عليه وسلّم دعا على أهله كما سمعت في حديث الواقدي، وأجيب عن ذلك بأنه كان للزجر وإن كان وقت الغضب وقد اشترط صلّى الله عليه وسلّم على ربه سبحانه في مثل ذلك أن يكون رحمة
فقد صح أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني اشترطت على ربي فقلت إنما أنا بشر أرضى كما يرضى البشر وأغضب كما يغضب البشر فأيما أحد دعوت عليه من أمتي بدعوة ليس لها بأهل أن تجعلها له طهورا وزكاة وقربة»

وذكر النووي في جواب ما يقال: إن ظاهر الحديث أن الدعاء ونحوه كان بسبب الغضب ما قال المازري من أنه يحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم أراد أن دعاءه وسبه ونحوهما كان مما يخير فيه بين أمرين أحدهما هذا الذي فعله والثاني زجره بأمر آخر فحمله الغضب لله تعالى على أحد الأمرين المخير فيهما وليس ذلك خارجا عن حكم الشرع، والمراد من قوله عليه الصلاة والسلام ليس لها بأهل ليس لها بأهل عند الله تعالى وفي باطن الأمر ولكنه في الظاهر مستوجب لذلك، وقد يستدل على ذلك بأمارات شرعية وهو مأمور صلّى الله عليه وسلّم بالحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر، وقيل: إن ما وقع منه عليه الصلاة والسلام من الدعاء ونحوه ليس بمقصود بل هو مما جرت به عادة العرب في وصل كلامها بلا نية كتربت يمينك وعقرى حلقى لكن خاف صلّى الله عليه وسلّم أن يصادف شيء من ذلك إجابة فسأل ربه سبحانه وتعالى ورغب إليه في أن يجعل ذلك زكاة وقربة، نعم في ذكر حديث الواقدي ونحوه كالحديث الذي ذكره البيضاوي في المقام الذي ذكر فيه لا يخلو عن شيء فتأمل، ثم إن القياس إثبات الواو في يَدْعُ الإنسان إذ لا جازم تحذف له لكن نقل القرآن العظيم كما سمع ولم يتصرف فيه الناقل بمقدار فهمه وقوة عقله وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ هذا على ما قيل شروع في بيان بعض ما ذكر من الهداية بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية التي كل واحدة منها برهان نير لا ريب فيه ومنهاج بين لا يضل من ينتحيه فإن الجعل المذكور وما عطف عليه وإن كانا من الهدايات التكوينية لكن الأخبار بذلك من الهدايات القرآنية المنبهة على تلك الهدايات.
وذكر الإمام في وجه الربط وجوها، الأول أنه تعالى لما بين في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدين وهو القرآن أتبعه ببيان ما أوصل إليهم من نعم الدنيا فقال سبحانه: وَجَعَلْنَا إلخ، وكما أن القرآن ممتزج من المحكم والمتشابه كذلك الزمان مشتمل على الليل والنهار وكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يكمل الانتفاع به إلا بالنهار والليل، الثاني أنه تعالى وصف الإنسان بكونه عجولا أي منتقلا من صفة إلى صفة ومن حالة إلى حالة بين (١) أن كل أحوال العالم كذلك وهو الانتقال من النور إلى الظلمة وبالضد وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصان وبالضد، الثالث نحو ما نقلناه أولا ولعله الأولى، وتقديم الليل لمراعاة الترتيب الوجودي إذ منه ينسلخ النهار وفيه تظهر غرر الشهور العربية ولترتيب غاية النهار عليها بلا واسطة، ومما يزيد تقديم الليل حسنا افتتاح السورة بقوله سبحانه سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا والجعل على ما نقل عن السمين بمعنى التصيير متعد لاثنين أو بمعنى الخلق متعد لواحد وآيَتَيْنِ حال مقدرة.
واستشكل الأول الكرماني بأنه يستدعي أن يكون الليل والنهار موجودين على حالة ثم انتقلا منها إلى أخرى
(١) قوله «إلى حالة بين» إلخ كذا بخطه ولعله إما وصف إلخ بين بقرينة ما سبق في الوجه قبله.
25
وليس كذلك، ودفع بأنه من باب- ضيق فم الركية- وهو مجاز معروف واستظهر هذا أبو حيان، والمعنى جعلنا الملوين بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر على وتيرة عجيبة آيتين تدلان على أن لهما صانعا حكيما قادرا عليما ويهديان إلى ما هدى إليه القرآن الكريم من الإسلام والتوحيد.
فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الإضافة هنا وفيما بعد إما بيانية كما في إضافة العدد إلى المعدود نحو أربع نسوة أي محونا الآية التي هي اللّيل أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسه مظلما لا يستبين فيه شيء كما لا يستبين ما في اللوح الممحو وإلى ذلك ذهب صاحب الكشاف.
وروي عن مجاهد وهو على نحو- ضيق فم الركية- والفاء تفسيرية لأن المحو المذكور وما عطف عليه ليسا مما يحصل عقيب جعل الجديدين آيتين بل هما من جملة ذلك الجعل ومتمماته، وقيل معنى محو الليل إزالة ظلمته بالضوء، ورجح بأن فيه إبقاء المحو على حقيقته وهو إزالة الشيء الثابت وليس فيما ذكره الزمخشري ذلك ولا ينبغي العدول عن الحقيقة بلا ضرورة. وتعقب بأنه يكفي ما بعده قرينة على تلك الإرادة فإن محو الليل في مقابله جعل النهار مبصرا، وعلى ما ذكر من المعنى الحقيقي لا يتعلق بمحو الليل فائدة زائدة على ما بعده، وقيل عليه إن الظلمة هي الأصل والنور طارئ فكون الليل مخلوقا مطموس الضوء مفروغ عنه فالمراد بيان أن الله تعالى خلق الزمان ليلا مظلما ثم جعل بعضه نهارا بأحداث الإشراق لفائدة ذكرها سبحانه، وكون محو الليل في مقابلة جعل النهار مضيئا لا يوجب حمله على المجاز لفائدة بيان إبقاء بعض الزمان على إظلامه وجعل بعضه مضيئا اه ولا يخفى ما فيه من التكلف وأن المقام لا يلائمه فالمعول عليه ما في الكشاف.
وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ أي الآية التي هي النهار مُبْصِرَةً أي مضيئة فهو مجاز بعلاقة السببية أو الإسناد مجازي كما في- نهاره صائم- والمراد يبصر أهلها أو الصيغة للنسب أي ذات إبصارهم أو هي من أبصره المتعدي أي جعله مبصرا ناظرا والإسناد إلى النهار مجازي أيضا من الإسناد إلى السبب العادي والفاعل الحقيقي هو الله تعالى أو من باب أفعل المراد به غير من أسند إليه كأضعف الرجل إذا كانت دوابه ضعافا وأجبن إذا كان أهله جبناء فأبصرت الآية بمعنى صار أهلها بصراء.
وروي ذلك عن أبي عبيدة وهو معنى وضعي لا مجازي.
وقرأ قتادة وعلي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما «مبصرة» بفتح الميم والصاد
وهو مصدر أقيم مقام غيره وكثر مثل ذلك في صفات الأمكنة كأرض مسبعة ومكان مضبة وإما إضافة لأمية وآيتا الليل والنهار نيراهما القمر والشمس ويحتاج حينئذ في قوله تعالى: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ إلى تقدير مضاف في الأول والثاني أي جعلنا نيري الليل والنهار آيتين أو جعلنا الليل والنهار ذوي آيتين أن جعل جعل متعديا إلى مفعولين والليل والنهار هو المفعول الأول وآيتين الثاني، فإن عكس كما استظهره أبو حيان وجعل الليل والنهار نصبا على الظرفية في موضع المفعول الثاني أي جعلنا في الليل والنهار آيتين وهما النيران لا يحتاج إلى تقدير كما إذا جعل الجعل متعديا لواحد والليل والنهار منصوبان على الظرفية كما جوزه المعربون. ومحو آية الليل وهي القمر على ما تدل عليه الآثار إزالة ما ثبت لها من النور يوم خلقت، فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في الآية أنه قال: كان القمر يضيء كما تضيء الشمس وهو آية الليل فمحى فالسواد الذي في القمر أثر ذلك المحو.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عكرمة أنه قال: خلق الله تعالى نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر سبعين سبعين جزءا فمحى من نور القمر تسعة وستين جزءا فجعله مع نور الشمس فالشمس على مائة وتسعة وثلاثين جزءا
26
والقمر على جزء واحد، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر،
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة. وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السواد الذي في القمر فقال: كانا شمسين وقال قال الله تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فالسواد الذي رأيت هو المحو
وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية
إلى غير ذلك من الآثار، والفاء على هذا للتعقيب. وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر، وقيل محو القمر أما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب، وذكر الإمام في محوه قولين، أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحاق، وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال: حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه وَلِتَعْلَمُوا إلخ اه.
وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعي أن غيره أولى، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة، وللفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبرا فنقول: ذكر الإمام في المباحث الشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل، أما أولا فلأن الأشباح لا تنحفظ هيئتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك، وأما ثانيا فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل، وأما ثالثا فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لاشباحها المرئية في المرآة.
وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين، وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا، وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء
27
أولها ضوء أضعف من ضوء القمر فترى في حالة إضاءته مظلمة، وأما إن كان ذلك بسبب عائد إلى ذات القمر فلا يخلو إما أن يكون جوهر ذلك الموضع مساويا لجواهر المواضع المستنيرة من القمر في الماهية أو لا يكون فإن لم يكن كان ذلك لارتكاز أجرام سماوية مخالفة بالنوع للقمر في جرمه كما ذكرناه قبل وهو قريب منه.
وإما أن تكون تلك المواضع مساوية الماهية لجرم القمر فحينئذ يمتنع اختصاصها بتلك الآثار إلا بسبب خارجي لكنه قد ظهر لنا أن الأجرام السماوية لا تتأثر بشيء عنصري وبذلك أبطل قول من قال: إن ذلك المحو بسبب انسحاق عرض القمر من مماسة النار، أما أولا فلأن ذلك يوجب أن يتأدى ذلك في الأزمان الطويلة إلى العدم والفساد بالكلية والأرصاد المتوالية مكذبة لذلك، وأيضا القمر غير مماس للنار لأنه مفرق في فلك تدويره الذي هو في حامله الذي بينه وبين النار بعد بعيد بدليل أن النار لو كانت ملاقية لحامله لتحركت بحركته إلى المشرق وليس كذلك لأن حركات الشهب في الأكثر لا تكون إلا إلى جهة المغرب وتلك الحركة تابعة لحركة النار والحركة المستديرة ليست للنار بذاتها فإنها مستقيمة الحركة فذلك لها بالعرض تبعا لحركة الكل فبطل ما قالوه اه.
وذكر الآمدي في أبكار الأفكار زيادة على ما يفهم مما ذكر من الأقوال وهي أن منهم من قال: إن ما يرى خيال لا حقيقة له، ورده بأنه لو كان كذلك لاختلف الناظرون فيه ومنهم من قال: إنه السواد الكائن في القمر في الجانب الذي لا يلي الشمس، ورده بأنه لو كان كذلك لما رئي متفرقا، ومنهم من قال: إنه وجه القمر فإنه مصور بصورة وجه الإنسان وله عينان وحاجبان وأنف وفم، ورده بأنه مع بعده يوجب أن يكون فعل الطبيعة عندهم معطلا عن الفائدة لأن فائدة الحاجبين عندهم دفع أذى العرق عن العينين وفائدة الأنف الشم وفائدة الفم دخول الغذاء وليس للقمر ذلك، وقد رد عليهم رحمة الله تعالى عليه سائر ما ذكروه.
وذكر الإمام في التفسير أن آخر ما ذكره الفلاسفة في ذلك أنه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز الكواكب في أجرام الأفلاك ولما كانت تلك الأجرام أقل ضوءا من جرم القمر لا جرم شوهدت في وجهه كالكلف في وجه الإنسان وفي ارتكازها في بعض أجزائه دون بعض مع كونه متشابه الأجزاء عندهم دليل على الصانع المختار كما أن في تخصيص بعض أجزائه بالنور القوي وبعضها بالنور الضعيف مع تشابه الأجزاء دليلا على ذلك.
ومثل هذا التخصيص في الدلالة تخصيص بعض جوانب الفلك الذي هو عندهم أيضا جرم بسيط متشابه الأجزاء بارتكاز الكواكب فيه دون البعض الآخر.
وزعم بعض أهل الآثار أنه مكتوب في وجه القمر لا إله إلا الله، وقيل لفظ جميل، وقيل غير ذلك وأن المحو المرئي هو تلك الكتابة ولا يعول على شيء من ذلك، نعم مكتوب على كل شيء لا إله إلا الله وكذا جميل ولكن ذلك بمعنى آخر كما لا يخفى.
ونقل لي عن أهل الهيئة الجديدة أنهم يزعمون أن القمر كالأرض فيه الجبال والوهاد والأشجار والبحار وأنهم شاهدوا ذلك في أرصادهم وأن المواضع التي لا يرى فيها محو هي البحار والتي فيها محو هي أرض غير مستوية وزعموا أنه لو وصل أحد إلى القمر لرأى الأرض كذلك ومن هنا قالوا: لا يبعد أن يكون معمورا بخلائق هو عمارة الأرض بل قالوا: إن جميع الكواكب مثله في ذلك قياسا عليه وإن كانت لا يرى فيها لمزيد بعدها ما يرى فيه وبعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض بالخلق على صغرها ويترك أجساما عظيمة أكثرها أعظم من الأرض خالية بلا خلق على كبرها وهم منذ غرهم القمر تشبثوا بحباله في عمل الحيل للعروج إليه فصنعوا سفنا زئبقية فعرجوا فيها فقبل أن يصلوا إلى كرة البخار انتفخت أجسامهم وضلت كما ضلت من قبل أفهامهم فانقلبوا صاغرين وهبطوا خاسئين،
28
وأنت تعلم أن كلامهم في هذا الباب مخالف لأصول الفلسفة ولا برهان لهم عليه سوى السفه ومنشؤه محض أنهم رأوا شيئا في القمر ولم يتحققوه وظنوه ما ظنوه وأي مانع من أن يكون قد جعل الله تعالى المحو على وجه يتخيل فيه ذلك بل لا مانع على أصولنا من أن يقال: قد جعل الله تعالى في القمر أجراما تشبه ما حسبوه لكن لم يرد في ذلك شيء عن الصادق صلّى الله عليه وسلّم وهو الذي عرج به إلى قاب قوسين أو أدنى، وما ذكروه من أنه بعيد من الحكمة أن يعمر الله تعالى الأرض إلخ يلزم عليه أن يكون ما بين الكواكب ككواكب الدب الأكبر مثلا معمورا بالخلائق كالأرض أيضا فله أوسع منها بأضعاف مضاعفة وهم لا يقولون به على أنا نقول قد جاء «أطت السماء وحق لها أن تئط ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك راكع أو ساجد» فيجوز أن يكون على جرم القمر ملائكة يعبدون الله تعالى بما شاء وكيف شاء بل يجوز أن يكون عند كل ذرة من ذراته ملك كذلك وهذا نوع من العمارة بالخلق، والأحسن عند من عز عليه وقته عدم الالتفات إلى مثل هذه الخرافات وتضييع الوقت في ردها والله سبحانه الموفق، ثم ما تقدم من أن المحو نقص ما استفاده القمر من الشمس شيئا فشيئا فيه القول بأن نور القمر مستفاد من نور الشمس وقد عد الجل من العلماء ذلك في الحدسيات وذكروا أن الشمس مضيئة بنفسها وكلا الأمرين مما ذكره الفلاسفة وليس له في الشرع مستند يعول عليه، وقد نقله الآمدي وتعقبه فقال: ذكروا أن الشمس نيرة بنفسها وما المانع من كونها سوداء الجرم والله تعالى يخلق فيها النور في أوقات مشاهدتنا لها، وأن تكون مستنيرة من كواكب أخرى فوقها وهي مستورة عنا ببعض الأجرام السماوية المظلمة كما يحدث للشمس في حالة الكسوف، وإن سلمنا أنها نيرة بنفسها فلا نسلم أن نور القمر مستفاد منها وما المانع من كون الرب تعالى يخلق فيه النور في وقت دون وقت أو أن يكون مع كونه مركوزا في فلكه دائرا على مركز نفسه وأحد وجهيه نير والآخر مظلم كما كان بعض أجزاء الفلك شفافا وبعضها نيرا وهو متحرك بحركة مساوية لحركة فلكه ويكون وجهه المضيء عند مقابلة الشمس وهو الذي يلينا ويكون الزيادة والنقصان فيما يظهر لنا على حسب بعده وقربه من الشمس فلا يكون مستنيرا من الشمس اه.
وأورد أنه إذا ضم الخسوف إلى الزيادة والنقصان قربا وبعدا لا يتم ما ذكره وصح ما ذكروه من الاستفادة.
وأجيب بأنه ما المانع من أن يكون الخسوف لحيلولة جرم علوي بيننا وبينه لا لحيلولة الأرض بينه وبين الشمس فلا بد لنفي ذلك من دليل فافهم والله تعالى أعلم وهو المتصرف في ملكه كيفما يشاء لِتَبْتَغُوا متعلق بقوله تعالى: وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وفي الكلام مقدر أي جعلنا آية النهار مبصرة لتطلبوا لأنفسكم فيه.
فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي رزقا إذ لا يتسنى ذلك في الليل، وفي التعبير عن الرزق بالفضل وعن الكسب بالابتغاء والتعرض لصفة الربوبية المنبئة عن التبليغ إلى الكمال شيئا فشيئا دلالة كما قال شيخ الإسلام: على أن ليس للعبد في تحصيل الرزق تأثير سوى الطلب وإنما الإعطاء إلى الله سبحانه لا بطريق الوجوب عليه تعالى بل تفضلا بحكم الربوبية، ومعنى تأثير الطلب على نحو تأثير الأسباب العادية فإنه من جملتها ولا توقف حقيقة للرزق عليه،
وفي الخبر يطلبك رزقك كما يطلبك أجلك
، ولله تعالى در القائل:
لقد علمت وما الإسراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو قعدت أتاني لا يعنيني
وَلِتَعْلَمُوا متعلق كما قيل بكلا الفعلين أعني محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة لا بأحدهما فقط إذ لا يكون ذلك بانفرداه مدارا للعلم المذكور أي لتعلموا بتفاوت الجديدين أو نيريهما ذاتا من حيث الإظلام والإضاءة مع
29
تعاقبهما أو حركاتهما وأوضاعهما وسائر أحوالهما عَدَدَ السِّنِينَ التي يتعلق بها غرض على لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَالْحِسابَ أي الحساب المتعلق بما في ضمنها من الأوقات أي الأشهر والليالي والأيام وغير ذلك مما نيط به شيء من المصالح المذكورة، ونفس السنة من حيث تحققها مما ينتظمه الحساب وإنما الذي يتعلق به العد طائفة منها وتعلقه في ضمن ذلك بكل واحدة منها ليس من حيثية التحقق والتحصل من عدة أشهر حصل كل واحدة منها من عدة أيام حصل كل واحد منها من طائفة من الساعات مثلا فإن ذلك من وظيفة علم الحساب بل من حيث إنها فرد من طائفة السنين المعدودة بعدها أي نفسها من غير أن يعتبر في ذلك تحصيل شيء معين كما حقق ذلك شيخ الإسلام.
وقيل المعنى لِتَعْلَمُوا باختلافهما وتعاقبهما على نسق واحد أو بحركاتهما عدد السنين إلخ المراد بالحساب جنسه أي الجاري في المعاملات كالإجارات والبيوع المؤجلة وغير ذلك وذكر بعضهم أن الظاهر المناسب أن المراد لتعلموا بالليل فإن عدد السنين الشرعية والحساب الشرعي يعلمان به غالبا أو بالقمر لقوله تعالى:
في الأهلة قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ البقرة: ١٨٩] وأنت تعلم أن السنين شمسية وقمرية وبكل منهما العمل فلو قيل إحدى الآيتين مبينة لأحدهما والأخرى للآخر لا محذور فيه، وكون الشرع معولا على أحدهما لا يضر، وتقديم العدد على الحساب من أن الترتيب بين متعلقيهما على ما سمعت أولا وجودا وعدما على العكس للتنبيه من أول الأمر على أن متعلق الحساب ما في تضاعيف السنين من الأوقات أو لأن العلم المتعلق بعدد السنين علم إجمالي بما تعلق به الحساب تفصيلا أو لأن العلم المتعلق بالأول أقصى المراتب فكان جديرا بالتقديم في مقام الامتنان أو لأن العدد نازل من الحساب منزلة البسيط من المركب بناء على ما حقق من أن الحساب إحصاء ماله كمية منفصلة بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص وحكم مستقل والعدد إحصاؤه بمجرد تكرير أمثاله من غير أن يتحصل شيء كذلك ولهذا وكون السنين مما لم يعتبر فيها حد معين له اسم خاص وحكم مستقل أضيف (١) إليها العدد وعلق الحساب بما عداها فتدبر.
وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في معاشكم ومعادكم سوى ما ذكر من جعل الليل والنهار آيتين وما يتبعه من المنافع الدينية والدنيوية وهو منصوب بفعل يفسره قوله تعالى: فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وهذا من باب الاشتغال ورجح النصب لتقدم جملة فعلية، وجوز أن يكون معطوفا على الْحِسابَ وجملة فَصَّلْناهُ صفة شيء، وهو بعيد معنى.
والتفصيل من الفصل بمعنى القطع والمراد به الإبانة التامة وجيء بالمصدر للتأكيد. فالمعنى بينا كل شيء في القرآن الكريم بيانا بليغا لا التباس معه كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩] فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بينا.
وَكُلَّ إِنسانٍ منصوب على حد كُلَّ شَيْءٍ أي وألزمنا كلّ إنسان مكلف أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الصادر منه باختياره حسبما قدر له خيرا كان أو شرا كأنه طار إليه من عش الغيب ووكر القدر، وفي الكشاف أنهم كانوا يتفاءلون بالطير ويسمونه زجرا فإذا سافروا ومر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا وإن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشاءموا ولذا سمي تطيرا فلما نسبوا الخير والشر إلى الطائر استعير استعارة تصريحية لما يشبههما من قدر الله تعالى وعمل العبد لأنه سبب للخير والشر.
(١) قوله أضيف أضيف كذا بخطه وليست الأولى بضرورية كما لا يخفى.
30
ومنه طائر الله تعالى لا طائرك أي قدر الله جل شأنه الغالب الذي ينسب إليه الخير والشر لا طائرك الذي تتشاءم به وتتيمن، وقد كثر فعلهم ذلك حتى فعلوه بالظباء أيضا وسائر حيوانات الفلا وسموا كل ذلك تطيرا كما في البحر، وتفسيره بالعمل هنا مروي عن ابن عباس ورواه البيهقي في شعب الأيمان عن مجاهد وذهب إليه غير واحد وفسره بعضهم بما وقع للعبد في القسمة الأزلية الواقعة حسب استحقاقه في العلم الأزلي من قولهم: طار إليه سهم كذا، ومن ذلك فطار لنا من القادمين عثمان بن مظعون أي ألزمنا كل إنسان نصيبه وسهمه الذي قسمناه له في الأزل فِي عُنُقِهِ تصوير لشدة اللزوم وكمال الارتباط وعلى ذلك جاء قوله: إن لي حاجة إليك فقال: بين أذني وعاتقي ما تريد وتخصيص العنق لظهور ما عليه من زائن كالقلائد والأطواق أو شائن كالأغلال والأوهاق ولأنه العضو الذي يبقى مكشوفا يظهر ما عليه وينسب إليه التقدم والشرف ويعبر به عن الجملة وسيد القوم، فالمعنى ألزمناه غله بحيث لا يفارقه أبدا بل يلزمه لزوم القلادة والغل لا ينفك عنه بحال.
وأخرج ابن مردويه عن حذيفة بن أسيد سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن النطفة التي يخلق منها النسمة تطير في المرأة أربعين يوما وأربعين ليلة فلا يبقى منها شعر ولا بشر ولا عرق ولا عظم إلا دخلته حتى إنها لتدخل بين الظفر واللحم فإذا مضى أربعون ليلة وأربعون يوما أهبطها الله تعالى إلى الرحم فكانت علقة أربعين يوما وأربعين ليلة ثم تكون مضغة أربعين يوما وأربعين ليلة فإذا تمت لها أربعة أشهر بعث الله تعالى إليها ملك الأرحام فيخلق على يده لحمها ودمها وشعرها وبشرها ثم يقول سبحانه صور فيقول: يا رب أصور أزائد أم ناقص أذكر أم أنثى أجميل أم ذميم أجعد أم سبط أقصير أم طويل أأبيض أم آدم أسوي أم غير سوي فيكتب من ذلك ما يأمر الله تعالى به ثم يقول: أي رب أشقي أم سعيد؟ فإن كان سعيدا نفخ فيه بالسعادة في آخر أجله وإن كان شقيا نفخ فيه بالشقاوة في آخر أجله ثم يقول: أكتب أثرها ورزقها ومصيبتها وعملها بالطاعة والمعصية فيكتب من ذلك ما يأمره الله تعالى ثم يقول الملك: يا رب ما أصنع بهذا الكتاب فيقول: سبحانه علقه في عنقه إلى قضائي عليه»
فذلك قوله تعالى: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ.
ولا يخفى أن الظاهر من هذا الخبر أن ذكر العنق ليس للتصوير المذكور وأن الطائر عبارة عن الكتاب الذي كتب فيه ما كتب.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر عن أنس أنه فسره بذلك صريحا، وباب المجاز واسع، ونحن نؤمن بالحديث إذا صح ونفوض كيفية ما دل عليه إلى اللطيف الخبير جل جلاله، والظاهر منه أيضا عدم تقييد الإنسان بالمكلف، ويؤيد ذلك ما أخرجه أبو داود في كتاب القدر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال في الآية: ما من مولود يولد إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وآخر الآية ظاهر في التقييد.
وقرأ مجاهد والحسن وأبو رجاء «طيره» وقرىء «عنقه» بسكون النون وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ والبعث للحساب كِتاباً هي صحيفة عمله، ونصبه على أنه مفعول نُخْرِجُ وجوز أن يكون حالا من مفعول لنخرج محذوف وهو ضمير عائد على الطائر أي نخرجه له حال كونه كتابا، ويعضد ذلك قراءة يعقوب ومجاهد، وابن محيصن «ويخرج» بالياء مبنيا للفاعل من خرج يخرج ونصب كِتاباً فإن فاعله حينئذ ضمير الطائر وكتابا حال منه والأصل توافق القراءتين، وكذا قراءة أبي جعفر «ويخرج» بالياء مبنيا للمفعول من أخرج ونصب كِتاباً أيضا، ووجه كونها عاضدة أن في يخرج حينئذ ضميرا مستترا هو ضمير الطائر وقد كان مفعولا، واحتمال أن يكون لَهُ نائب الفاعل فلا تعضد لا يلتفت إليه لأن إقامة غير المفعول مع وجوده مقام الفاعل ضعيفة وليس ثمة ما يكون كتابا حالا منه فيتعين ما ذكر كما قاله ابن يعيش في شرح المفصل، وعنه أيضا أنه قرىء «يخرج» بالبناء للمفعول أيضا ورفع «كتاب»
31
على أنه نائب الفاعل وقرأ الحسن «يخرج» بالبناء للفاعل من الخروج ورفع «كتاب» على الفاعلية، وقرأت فرقة ويخرج بالياء من الإخراج مبنيا للفاعل وهو ضمير الله تعالى وفيه التفات من التكلم إلى الغيبة.
وأخرج أبو عبيد وابن المنذر عن هارون قال في قراءة أبي بن كعب «وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه يقرأه يوم القيامة كتابا» يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان أو يلقاه الإنسان مَنْشُوراً غير مطوي لتمكن قراءته وفيه إشارة إلى أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه. وجملة يَلْقاهُ صفة كتابا ومَنْشُوراً حال من ضميره، وجوز أن يكونا صفتين له، وفي تقدم الوصف بالجملة على الوصف بالمفرد وهو خلاف الظاهر، وقرأ ابن عامر وأبو جعفر والجحدري والحسن بخلاف عنه «يلقاه» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقيته كذا أي يلقى الإنسان إياه.
وأخرج ابن جرير عن الحسن أنه قال: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك في قبرك حتى تجيء يوم القيامة فتخرج لك
اقْرَأْ كِتابَكَ بتقدير يقال له ذلك، وهذه الجملة إما صفة أو حال أو مستأنفة، والظاهر أن جملة قوله تعالى:
كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً من جملة مقول القول المقدر، وكفى فعل ماض وبنفسك فاعله والباء سيف خطيب وجاء إسقاطها ورفع الاسم كما في قوله: كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا. وقوله:
ويخبرني عن غائب المرء هديه كفى الهدي عما غيب المرء مخبرا
ولم تلحق الفعل علامة التأنيث وإن كان مثله تلحقه كقوله تعالى: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ [الأنبياء: ٦] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ [الأنعام: ٤] قيل لأن الفاعل مؤنث مجازي ولا يشفي الغليل لأن فاعل ما ذكر من الأفعال مؤنث مجازي مجرور بحرف زائد أيضا وقد لحق فعله علامة التأنيث وغاية الأمر في مثل ذلك جواز الإلحاق وعدمه ولم يحفظ كما في البحر الإلحاق في كفى إذا كان الفاعل مؤنثا مجرورا بالباء الزائدة، ومن هنا قيل إن فاعل كفى ضمير يعود على الاكتفاء أي كفى هو أي الاكتفاء بنفسك، وقيل هو اسم فعل بمعنى اكتف والفاعل ضمير المخاطب والباء على القولين ليست بزائدة، ومرضى الجمهور ما قدمناه، والتزام التذكير عندهم على خلاف القياس.
ووجه بعضهم ذلك بكثرة جر الفاعل بالباء الزائدة حتى إن إسقاطها منه لا يوجد إلا في أمثلة معدودة فانحطت رتبته عن رتبة الفاعلين فلم يؤنث الفعل له، وهذا نحو ما قيل في مر بهند وقيل غير ذلك، والْيَوْمَ ظرف لكفى وحَسِيباً تمييز كقوله تعالى: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً [النساء: ٦٩] وقولهم: لله تعالى دره فارسا، وقيل: حال وعليك متعلق به قدم لرعاية الفواصل وعدي بعلى لأنه بمعنى الحاسب والعاد وهو يتعدى بعلى كما تقول عدد عليه قبائحه، وجاء فعيل الصفة من فعل يفعل بكسر العين في المضارع كالصريم بمعنى الصارم وضريب القداح بمعنى ضاربها إلا أنه قليل أو بمعنى الكافي فتجوز به عن معنى الشهيد لأنه يكفي المدعي ما أهمه فعدي بعلى كما يعدى الشهيد، وقيل هو بمعنى الكافي من غير تجوز لكنه عدي تعدية الشهيد للزوم معناه له كما في أسد عليّ، وهو تكلف بارد، وتذكيره وهو فعيل بمعنى فاعل وصف للنفس المؤنثة معنى لأن الحساب والشهادة مما يغلب في الرجال فأجرى ذلك على أغلب أحواله فكأنه قيل كفى بنفسك رجلا حسيبا أو لأن النفس مؤولة بالشخص كما يقال ثلاثة أنفس أو لأن فعيل المذكور محمول على فعيل بمعنى فاعل والظاهر أن المراد بالنفس الذات فكأنه قيل كفى بك حسيبا عليك.
وجعل بعضهم في ذلك تجريدا فقيل: إنه غلط فاحش، وتعقب بأن فيه بحثا فإن الشاهد يغاير المشهود عليه فإن اعتبر كون الشخص في تلك الحال كأنه شخص آخر كان تجريدا لكنه لا يتعلق به غرض هنا.
وعن مقاتل أن المراد بالنفس الجوارح فإنها تشهد على العبد إذا أنكر وهو خلاف الظاهر.
32
وعن الحسن أنه كان إذا قرأ الآية قال: يا ابن آدم أنصفك والله من جعلك حسيب نفسك، والظاهر أنه يقال ذلك للمؤمن والكافر، وما
أخرجه ابن أبي حاتم عن السدي من أن الكافر يخرج له يوم القيامة كتاب فيقول: رب إنك قضيت أنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي فيقال له اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ
الآية لا يدل على أنه خاص بالكافر كما لا يخفى، ويقرأ في ذلك اليوم كما روي عن قتادة من لم يكن قارئا في الدنيا.
وجاء أن المؤمن يقرأ أولا سيئاته وحسناته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف ولا يراها هو فيغبطونه عليها فإذا استوفى قراءة السيئات وظن أنه قد هلك رأى في آخرها هذه سيئاتك قد غفرناها لك فيتبلج وجهه ويعظم سروره ثم يقرأ حسناته فيزداد نورا وينقلب إلى أهله مسرورا ويقول هاؤم اقرأوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه.
وأما الكافر فيقرأ أولا حسناته وسيئاته في ظهر كتابه يراها أهل الموقف فيتعوذون من ذلك فإذا استوفى قراءة الحسنات وجد في آخرها هذه حسناتك قد رددناها عليك وذلك قوله تعالى: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [الفرقان: ٢٣] فيسود وجهه ويعظم كربه ثم يقرأ سيئاته فيزداد بلاء على بلاء وينقلب بمزيد خيبة وشقاء ويقول: يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ [الحاقة: ٢٥، ٢٦] جعلنا الله تعالى ممن يقرأ فيرقى لا ممن يقرأ فيشقى بمنه وكرمه هذا وفسر بعضهم الكتاب بالنفس المنتقشة بآثار الأعمال ونشره وقراءته بظهور ذلك له ولغيره، وبيانه أن ما يصدر عن الإنسان خيرا أو شرا يحصل منه في الروح أثر مخصوص وهو خفي ما دامت متعلقة بالبدن مشتغلة بواردات الحواس والقوى فإذا انقطعت علاقتها قامت قيامته لانكشاف الغطاء باتصالها بالعالم العلوي فيظهر في لوح النفس نقش أثر كل ما عمله في عمره وهو معنى الكتابة والقراءة، ولا يخفى أن هذا منزع صوفي حكمي بعيد من الظهور قريب من البطون، وفيه حمل القيامة على القيامة الصغرى وهو خلاف الظاهر أيضا، والروايات ناطقة بما يفهم من ظاهر الآية نعم ليس فيها نفي انتقاش النفس بآثار الأعمال وظهور ذلك يوم القيامة فلا مانع من القول بالأمرين، ومن هنا قال الإمام: إن الحق أن الأحوال الظاهرة التي وردت فيها الروايات حق وصدق لا مرية فيها واحتمال الآية لهذه المعاني الروحانية ظاهر أيضا والمنهج القويم والصراط المستقيم هو الإقرار بالكل ونعم ما قال غير أن كون ذلك الاحتمال ظاهر غير ظاهر، وقال الخفاجي: ليس في هذا ما يخالف النقل وقد حمل عليه ما روي عن قتادة من أنه يقرأ في ذلك اليوم من لم يكن قارئا ولا وجه لعده مؤيدا له، وأنت تعلم أن حمل كلام قتادة على ذلك تأويل أيضا ولعل قتادة وأمثاله من سلف الأمة لا يخطر لهم أمثال هذه التأويلات ببال والكلام العربي كالجمل الأنوف والله تعالى أعلم بحقائق الأمور. وفي كيفية النظم ثلاثة أوجه ذكرها الإمام.
الأول أنه تعالى لما قال: وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا تضمن أن كل ما يحتاج إليه من دلائل التوحيد والنبوة والمعاد قد صار مذكورا وإذا كان كذلك فقد أزيحت الأعذار وأزيلت العلل فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة فقد ألزمناه طائره في عنقه، الثاني أنه تعالى لما بين أنه سبحانه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار وغيرهما فكأنه كان منعما عليهم بوجوه النعم وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته تعالى وطاعته فلا جرم كل من ورد عرصة القيامة يكون مسؤولا عن أقواله وأعماله، الثالث أنه تعالى بين أنه ما خلق الخلق إلا لعبادته كما قال: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل كان إنما خلقت (١) هذه الأشياء لتنتفعوا بها فتصيروا متمكنين من الاشتغال بطاعتي وإذا كان
(١) قوله كان إنما خلقت إلخ كذا بخطه والذي في تفسير الفخر الرازي والليل والنهار كان المعنى إني إنما إلخ.
33
كذلك فكل من ورد عرصة القيامة سألته هل أتى بتلك الطاعة أو تمرد وعصى اه، وقد يقال وجه الربط أن فيما تقدم شرح حال كتاب الله تعالى المتضمن بيان النافع والضار من الأعمال وفي هذا شرح حال كتاب العبد الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة من تلك الأعمال إلا أحصاها وحسنه وقبحه تابع للأخذ بما في الكتاب الأول وعدمه فمن أخذ به فقد هدى ومن أعرض عنه فقد غوى، وقوله تعالى:
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فذلكة لما تقدم من كون القرآن هاديا للتي هي أقوم وللزوم الأعمال لأصحابها أي من اهتدى بهدايته وعمل بما في تضاعيفه من الأحكام وانتهى عما نهاه عنه فإنما تعود منفعة الاهتداء به إلى نفسه لا تتخطاه إلى غيره ممن لم يهتد وَمَنْ ضَلَّ عما يهتديه إليه فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي فإنما وبال ضلاله عليها لا على من لم يباشره حتى يمكن مفارقة العمل صاحبه وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى تأكيد للجملة الثانية أي لا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم، وخص التأكيد بالجملة الثانية قطعا للأطماع الفارغة حيث كانوا يزعمون أنهم إن لم يكونوا على الحق فالتبعة على أسلافهم الذين قلدوهم.
وروي عن ابن عباس أنها نزلت في الوليد بن المغيرة لما قال: اكفروا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وعلى أوزاركم، ولا ينافي هذه الآية ما يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها [النساء: ٨٥] وقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل:
٢٥] من حمل الغير وزر الغير وانتفاعه بحسنته وتضرره بسيئته لأنه في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه وتضرر بسيئته فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له وإنما يصل إلى من يشفع جزاء شفاعته لا جزاء أصل الحسنة والسيئة وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين وما يحمله المضلون إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال قاله شيخ الإسلام، ولهذه الآية طعنت عائشة رضي الله تعالى عنها
في صحة خبر ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه
فإن فيه أخذ الإنسان بجرم غيره وهو خلاف ما نطقت به الآية.
وأجيب بأن الحديث محمول على ما إذا أوصى الميت بذلك فيكون ذلك التعذيب من قبيل جزاء الإضلال، وقيل: المراد بالميت المحتضر مجازا وبالتعذيب التعذيب في الدنيا أي إن المحتضر يتألم ببكاء أهله عليه فلا ينبغي أن يبكوا، ولها أيضا منع جماعة من قدماء الفقهاء صرف الدية على العاقلة لما فيه من مؤاخذة الإنسان بفعل غيره، وأجيب بأن ذلك تكليف واقع على سبيل الابتداء وإلا فالمخطىء نفسه ليس بمؤاخذ على ذلك الفعل فكيف يؤاخذ غيره عليه، واستدل بها الجبائي على أن أطفال المشركين لا يعذبون وإلا كانوا مؤاخذين بذنب آبائهم وهو خلاف ظاهر الآية، وزعم بعضهم أنها نزلت فيهم وليس بصحيح، نعم
أخرج ابن عبد البر في التمهيد بسند ضعيف عن عائشة قالت: سألت خديجة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال: هم من آبائهم ثم سألته بعد ذلك فقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين ثم سألته بعد ما استحكم الإسلام فنزلت ولا تزر وازرة وزر أخرى فقال: هم على الفطرة أو قال في الجنة
، والمسألة خلافية وفيها مذاهب فقال الأكثرون: هم في النار تبعا لآبائهم واستدل لذلك بما
أخرجه الحكيم الترمذي في نوادر الأصول عن عائشة أيضا قالت سألت النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ولدان المسلمين أين هم؟ قال: في الجنة وسألته عن ولدان المشركين أين هم؟ قال: في النار قلت: يا رسول الله لم يدركوا الأعمال ولم تجر عليهم الأقلام قال: ربك أعلم بما كانوا عاملين والذي نفسي بيده إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار،
وفيه أن هذا الخبر قد ضعفه ابن عبد البر فلا يحتج به، نعم صح أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن أولاد المشركين
فقال: الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين
وليس فيه تصريح
34
بأنهم في النار وحقيقة لفظه الله تعالى أعلم بما كانوا عاملين لو بلغوا ولم يبلغوا والتكليف لا يكون إلا بالبلوغ.
وأخرج الشيخان وأصحاب السنن. وغيرهم عن ابن عباس قال: حدثني الصعب بن جثامة قلت: يا رسول الله إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين، قال: هم منهم
، وهو عند المخالفين محمول على أنهم منهم في الأحكام الدنيوية كالاسترقاق.
وتوقفت طائفة فيهم ومن هؤلاء أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وقيل فيهم من يدخل الجنة ومن يدخل النار لما
أخرج الحكيم الترمذي في النوادر عن عبد الله بن شداد أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاه رجل فسأله عن ذراري المشركين الذين هلكوا صغارا فوضع رأسه ساعة ثم قال: أين السائل؟ فقال: ها أنا ذا يا رسول الله فقال: إن الله تبارك وتعالى إذا قضى بين أهل الجنة والنار ولم يبق غيرهم عجوا فقالوا: اللهم ربنا لم تأتنا رسلك ولم نعلم شيئا فأرسل إليهم ملكا والله تعالى أعلم بما كانوا عاملين فقال: إني رسول ربكم إليكم فانطلقوا فاتبعوا حتى أتوا النار فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا فيها فاقتحمت طائفة منهم ثم خرجوا من حيث لا يشعر أصحابهم فجعلوا في السابقين المقربين ثم جاءهم الرسول فقال إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فاقتحمت طائفة أخرى ثم أخرجوا من حيث لا يشعرون فجعلوا في أصحاب اليمين ثم جاء الرسول فقال: إن الله تعالى يأمركم أن تقتحموا في النار فقالوا: ربنا لا طاقة لنا بعذابك فأمر بهم فجمعت نواصيهم وأقدامهم ثم القوا في النار.
وذهب المحققون إلى أنهم من أهل الجنة وهو الصحيح ويستدل له بأشياء منها الآية على ما سمعت عن الجبائي، ومنها
حديث إبراهيم الخليل عليه السلام حين رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجنة وحوله أولاد الناس قالوا: يا رسول الله وأولاد المشركين قال: وأولاد المشركين رواه البخاري في صحيحه
، ومنها ما
أخرجه الحكيم الترمذي أيضا في النوادر وابن عبد البر عن أنس قال: سألنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أولاد المشركين فقال: هم خدام أهل الجنة.
ومنها الآية الآتية حيث أفادت أن لا تعذيب قبل التكليف ولا يتوجه على المولود التكليف ويلزمه قول الرسول عليه الصلاة والسلام حتى يبلغ، ولم يخالف أحد في أن أولاد المسلمين في الجنة إلا بعض من لا يعتد به فإنه توقف فيهم
لحديث عائشة توفي صبي من الأنصار فقلت: طوبى له عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه فقال صلّى الله عليه وسلّم: أو غير ذلك يا عائشة إن الله تعالى خلق للجنة أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم وخلق للنار أهلا خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم
وأجاب العلماء عنه بأنه لعله عليه الصلاة والسلام نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون لها دليل قاطع كما أنكر على سعد بن أبي وقاص في
قوله: أعطه إني لأراه مؤمنا قال أو مسلما الحديث،
ويحتمل أنه صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في الجنة فلما علم قال ذلك في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مسلم يموت له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث إلا أدخله الله تعالى الجنة بفضله ورحمته إياهم»
إلى غير ذلك من الأحاديث، وقال القاضي: دلت الآية على أن الوزر ليس من فعله تعالى لأنه لو كان كذلك لا متنع أن يؤاخذ العبد به كما لا يؤاخذ بوزر غيره ولأنه كان يجب ارتفاع الوزر أصلا لأن الوازر إنما يوصف بذلك إذا كان مختارا يمكنه التحرز ولهذا المعنى لا يوصف الصبي بذلك، وأنت تعلم أن هذا إنما ينتهض على الجبرية لا على الجماعة القائلين لا جبر ولا تفويض وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ بيان للعناية الربانية إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها أي وما صح وما استقام منا بل استحال في سنتنا المبنية على الحكم البالغة أو ما كان في حكمنا الماضي وقضائنا السابق أن نعذب أحدا بنوع ما من العذاب دنيويا كان أو أخرويا على فعل شيء أو ترك شيء أصليا كان أو فرعيا حَتَّى نَبْعَثَ إليه رَسُولًا يهدي إلى الحق ويردع عن الضلال ويقيم الحجج
35
ويمهد الشرائع أو حتى نبعث رسولا كذلك تبلغه دعوته سواء كان مبعوثا إليه أم لا على ما ستعلمه إن شاء الله تعالى من الخلاف، وهذا غاية لعدم صحة وقوع العذاب في وقته المقدر له لا لعدم وقوعه مطلقا كيف والأخروي لا يمكن وقوعه عقيب البعث والدنيوي لا يحصل إلا بعد تحقق ما يوجبه من الفسق والعصيان، ألا يرى إلى قوم نوح عليه السلام كيف تأخر عنهم ما حل بهم زهاء ألف سنة، وألزم المعتزلة القائلون بالوجوب العقلي قبل البعثة بهذه الآية لأنه تعالى نفى فيها التعذيب مطلقا قبل البعثة وهو من لوازم الوجوب بشرط ترك الواجب عندهم إذ لا يجوزون العفو فينتفي الوجوب قبل البعثة لانتفاء لازمه، ومحصوله أنه لو كان وجوب عقلي لثبت قبل البعثة ولا شبهة في أن العقلاء كانوا يتركون الواجبات حينئذ فيلزم أن يكونوا معذبين قبلها وهو باطل بالآية.
وتعقب بأنه إنما يتم إذا أريد بالعذاب ما يشمل الدنيوي والأخروي كما أشير إليه لكن المناسب لما بعد أن يراد عذاب الاستئصال في الدنيا ولا يلزم من انتفاء العذاب الدنيوي قبل البعث انتفاء الوجوب لأن لازم الوجوب عندهم هو العذاب الأخروي، وأجيب بعد تسليم أن المناسب لما بعد أن يراد العذاب الدنيوي بأن الآية لما دلت على أنه لا يليق بحكمته إيصال العذاب الأدنى على ترك الواجب قبل التنبيه ببعثة الرسول فدلالتها على عدم إيصال العذاب الأكبر على تركه قبل ذلك أولى، وأورد الأصفهاني في شرح المحصول على من استدل بالآية على نفي الوجوب العقلي قبل البعثة أمورا، الأول أن المراد بالرسول فيها العقل، الثاني أنا سلمنا أن المراد النبي المرسل لكن الآية دلت على نفي تعذيب المباشرة قبل البعثة ولا يلزم منه نفي مطلق التعذيب.
الثالث أنا سلمنا ذلك لكن ليس في الآية دلالة على نفي التعذيب قبلها عن كل الذنوب، الرابع أنا سلمنا الدلالة لكن لا يلزم من نفي المؤاخذة انتفاء الاستحقاق لجواز سقوط المؤاخذة بالمغفرة، ثم أجاب عن الأول بأن حقيقة الرسول هو النبي المرسل والأصل في الكلام الحقيقة، وعن الثاني بأن من شأن عظيم القدر التعبير عن نفي التعذيب مطلقا بنفي المباشرة، وعن الثالث بما أشرنا إليه من أن تقدير الكلام وما كنا معذبين أحدا ويلزم من ذلك انتفاء تعذيب كل واحد من الناس وذلك هو المطلوب لأن الخصم لا يقول به.
وعن الرابع بأن الآية تدل على انتفاء التعذيب قبل البعثة وانتفاؤه قبلها ظاهرا يدل على عدم الوجوب قبلها فمن ادعى أن الوجوب ثابت وقد وقع التجاوز بالمغفرة فعليه البيان اه، وأنت تعلم أنه إذا كان الاستدلال إلزاميا كما قال به غير واحد لا يرد الأمر الرابع أصلا لأن المعتزلة لا يجوزون العفو عن تارك الواجب العقلي، وقد أشرنا إلى ذلك، نعم قال المراغي في شرح منهاج الأصول للقاضي: لا حاجة إلى جعل الدليل إلزاميا بل يجوز إتمامه على تقدير جواز العفو أيضا بأن يقال وقوع العذاب وإن لم يكن لازما للوجوب لكن عدم الأمن من وقوعه لازم له ضرورة إذ يجوز العقاب على ترك الواجب عندنا وإن لم يجب وهذا اللازم أعني عدم الأمن منتف لدلالة الآية على عدم وقوعه فينتفي الملزوم.
ورد ذلك أولا بمنع أن عدم الأمن من وقوع العذاب من لوازم ترك الواجب مطلقا بل عدم الأمن إذا لم يتيقن عدم وقوع العذاب بدليل آخر، وأما ثانيا فبأن انتفاء عدم الأمن إنما هو بالآية إذ قبل ورودها كان العقاب جائزا ولا شك أن انتفاءه بها انتفاء بالعفو لأن معنى العفو عدم العقاب والآية تدل عليه فلم يتم الدليل على تقدير جواز العفو وهو كما ترى، وقيل: نجعل اللازم جواز العقاب فيتم الدليل تحقيقا لأن جواز العفو لا ينافي جواز العقاب. ورد بأن الملازمة القائلة بأنه لو كان الوجوب ثابتا قبل الشرع لعذب تارك الواجب وإن كانت مسلمة حينئذ لكن بطلان التالي ممنوع لأن الآية إنما تدل على نفي وقوع العذاب لا على نفي جوازه.
وفيه أن معنى ما كنا معذبين ما سمعت وهو يدل على نفي الجواز، وقد كثر استعمال هذا التركيب في ذلك
36
كقوله تعالى: وَما كُنَّا ظالِمِينَ [الشعراء: ٢٠٩] «وما كنا لاعبين» (١) إلى غير ذلك ولو أريد نفي الوقوع لقيل وما نعذب حتى نبعث رسولا.
وضعف الإمام الاستدلال بالآية بأنه لو لم يثبت الوجوب العقلي لم يثبت الوجوب الشرعي البتة وهذا باطل فذاك باطل. قال: بيان الملازمة من وجوه، أحدها أنه إذا جاء الشارع وادعى كونه نبيا من عند الله تعالى وأظهر المعجزة فهل يجب على المستمع استماع قوله والتأمل في معجزته أو لا يجب فإن لم يجب فقد بطل القول بالنبوة وإن وجب فإما أن يجب بالشرع أو بالعقل فإن وجب بالعقل فقد ثبت الوجوب العقلي وإن وجب بالشرع فهو باطل لأن ذلك الشارع إما أن يكون هو ذلك المدعي أو غيره والأول باطل لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أن يقول ذلك الرجل الدليل: على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قبول قولي وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان غيره كان الكلام فيه كما في الأول ولزم إما الدور أو التسلسل وهما محالان. وثانيها أن الشرع إذا جاء وأوجب بعض الأفعال وحرم بعضها فلا معنى للإيجاب والتحريم إلا أن يقول لو تركت كذا أو فعلت كذا لعاقبتك، فنقول: أما أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب أو لا يجب فإن لم يجب لم يتقرر معنى الوجوب البتة وإن وجب فإما أن يجب بالعقل أو بالسمع فإن وجب بالعقل فهو المقصود وإن وجب بالسمع لم يتقرر معنى الوجوب إلا بسبب ترتيب العقاب عليه وحينئذ يعود التقسيم الأول ويلزم التسلسل وهو محال.
وثالثها أن مذهب أهل السنة أنه يجوز من الله تعالى العفو عن العقاب على ترك الواجب وإذا كان كذلك كانت ماهية الوجوب حاصلة مع عدم العقاب فلم يبق إلا أن يقال: إن ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب وهذا الخوف حاصل بمحض العقل فثبت أن ماهية الوجوب إنما تحصل بسبب هذا الخوف وأن هذا الخوف حاصل بمجرد العقل فلزم أن يقال: الوجوب حاصل بمجرد العقل، فإن قالوا: ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الذم قلنا: إنه تعالى إذا عفا فقد سقط الذم فعلى ماهية الوجوب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من الذم وذلك حاصل بمحض العقل فثبت بهذه الوجوه أن الوجوب العقلي لا يمكن دفعه اه.
وتعقبه العبادي بأنه يمكن الجواب عن الأول بأنه إذا أظهر المعجزة على دعواه أنه رسول ثبت صدقه كما تقرر في محله فيجب قبول قوله في كل ما يخبر عن الله تعالى من غير لزوم محذور من إثبات الشيء بنفسه أو الدور أو التسلسل، وإن كان ثبوت ما أخبر بالشرع بمعنى أن ثبوته بإخبار من ثبتت رسالته بالمعجزة عن الله تعالى بذلك وليس حاصل الكلام على هذا أنه يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقول يجب قولي حتى يلزم ما يلزم بل حاصله أنه يقول: يجب قبول قولي لأنه ثبت أني رسول الله تعالى فيجب صدقي وتصديقي في كل ما أدعيه، وليس في هذا شيء من المحاذير السابقة، وقد صرح السيد السند في شرح المواقف بأنه يثبت الشرع وتجب المتابعة بمجرد دعوى الرسالة مع اقتران المعجزة وتمكن المبعوث إليه العاقل من النظر وإن لم ينظر، وذكر أنه حينئذ لا يجوز للمكلف الاستمهال ولو استمهل لم يجب الإمهال لجريان العادة بإيجاب العلم عقيب النظر الذي هو متمكن منه فعلم أنه بمجرد دعوى الرسالة مع ما ذكر يثبت الوجوب بإخباره وهو ثبوت الشرع لأن معنى الثبوت به هو الثبوت بالإخبار عن الله تعالى حقيقة أو حكما وعلى هذا لا يتأتى الترديد الذي ذكره بقوله لأن ذلك الشرع إما أن يكون إلخ فليتأمل، وعن الثاني بأن وجوب الاحتراز عن العقاب ليس أمرا أجنبيا عن وجوب كذا حتى يتوجه عليه الترديد الذي ذكره بل هو
(١) نصّ الآية: وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ [الأنبياء. ١٦].
37
نفس وجوب كذا أو لازمه إذ الاحتراز ليس إلا بالإتيان بكذا الذي هو الواجب فوجوب الاحتراز أما وجوب كذا أو لازمه فوجوبه بوجوبه فلا يلزم الترديد المذكور، وعن الثالث بأنه إن أراد بقوله إن ماهية الواجب إنما تتقرر بسبب حصول الخوف من العقاب أن حصول الواجب في الخارج بالإتيان به إنما هو بسبب حصول الخوف فليس الكلام فيه ومع ذلك أنا لا نسلم أن الإتيان بالواجب متوقف على حصول الخوف وإن أراد أن تحقق وجوب الواجب أي تعلق وجوبه بالمكلف الذي هو التكليف التنجيزي متوقف على حصول الخوف المذكور فهو ممنوع كما هو ظاهر اه فتدبر.
وأنت تعلم أن الاستدلال بالآية على تقدير تمامه لا يختص بالمعتزلة بل يشاركهم في ذلك أحد فريقي الحنفية من أهل السنة وهم الماتريدية وعامة مشايخ سمرقند لأنهم وإن لم يقولوا كالمعتزلة بأن العقل حاكم بالحسن والقبح اللذين أثبتوهما جميعا لكنهم قالوا: إن العقل آلة للعلم بهما فيخلقه الله تعالى عقيب نظر العقل نظرا صحيحا وأوجبوا الإيمان بالله تعالى وتعظيمه وحرموا نسبة ما هو شنيع إليه سبحانه حتى
روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال: لو لم يبعث الله تعالى رسولا لوجب على الخلق معرفته،
وقد صرح غير واحد من علمائهم بأن العقل حجة من حجج الله تعالى ويجب الاستدلال به قبل ورود الشرع، واحتجوا في ذلك بما أخبر الله تعالى به عن إبراهيم عليه السلام من قوله لأبيه وقومه إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: ٧٤] حيث قال ذلك ولم يقل أوحي إلي ومن استدلاله بالنجوم ومعرفة الله تعالى بها وجعلها حجة على قومه وكذاك كل الرسل حاجوا قومهم بحجج العقل كما ينبىء عنه قوله تعالى: قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [إبراهيم: ١٠] الآية بقوله تعالى: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ [المؤمنون: ١١٧] الآية حيث لم يقل ومن يدع مع الله إلها آخر بعد ما أوحى إليه أو بلغته الدعوة وبقوله سبحانه خبرا عن أهل النار وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير حيث أخبروا أنهم صاروا في النار لتركهم الانتفاع بالسمع والعقل.
وفيه أنهم لو انتفعوا بالعقول في معرفة الصانع قبل ورود الشرع لم يصيروا في النار وبأن الحجج السمعية لم تكن حججا إلا باستدلال عقلي، وبأن دعاء جميع الكفرة إلى دين الإسلام واجب على الأمة ومعلوم أن الدهرية لا يحتج عليهم بكلام الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام فلم يبق إلا حجج العقول إلى غير ذلك، وحينئذ يقال لهم:
لو وجب على الخلق معرفة الله تعالى والإيمان به قبل بعثة رسول لزم تعذيب الكافر قبلها لإخباره تعالى بأنه لا يغفر الشرك به وقد نفى التعذيب في الآية فلا وجوب ضرورة انتفاء الملزوم بانتفاء اللازم على نهج ما فعل مع المعتزلة، والإمام الرازي بعد أن ضعف الاستدلال بالآية وأثبت الوجوب العقلي ذكر في الآية وجهين، الأول حمل الرسول على العقل، والثاني تخصيص العموم بأن يقال المراد وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالشرع إلا بعد مجيء الشرع ثم قال: والذي نرتضيه ونذهب إليه أن مجرد العقل سبب في أن يجب علينا فعل ما ينتفع به وترك ما يتضرر به ويمتنع أن يحكم العقل عليه تعالى بوجوب فعل أو ترك فعل اه.
وأنت تعلم ما قيل من حمل الرسول على العقل وهو خلاف استعمال القرآن الكريم، ويبعده توبيخ الخزنة الكفار بقولهم أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: ٥٠] ولم يقولوا أو لم تكونوا عقلاء، وحمل الرسول فيه على العقل مما لا يرتضيه العقل، واعتذر هو عن التخصيص بأنه وإن كان عدولا عن الظاهر إلا أنه يجب المصير إليه إذا قام الدليل عليه وقد قام بزعمه.
وأبو منصور الماتريدي ومتبعوه حملوا الآية على نفي تعذيب الاستئصال في الدنيا، وذهب هؤلاء إلى تعذيب
38
أهل الفترة بترك الإيمان والتوحيد وهم كل من كان بين رسولين ولم يكن الأول مرسلا إليهم ولا أدركوا الثاني، واعتمد القول بتعذيبهم النووي في شرح مسلم فقال: إن من مات في الفترة على ما كانت عليه العرب من عبادة الأوثان في النار وليس في هذا مؤاخذة قبل بلوغ الدعوة فإن هؤلاء كانت بلغتهم دعوة إبراهيم وغيره من الرسل عليهم السلام والظاهر أن النووي يكتفي في وجوب الإيمان على كل أحد ببلوغه دعوة من قبله من الرسل وإن لم يكن مرسلا إليه فلا منافاة بين حكمه بأنهم أهل فترة بالمعنى السابق وحكمه بأن الدعوة بلغتهم خلافا للآبي في زعمه ذلك، نعم إنما تلزم المنافاة لو ادعى أن من تقدمهم من الرسل مرسل إليهم وليس فليس.
وإلى ذلك ذهب الحليمي فقال في منهاجه: إن العاقل المميز إذا سمع أية دعوة كانت إلى الله تعالى فترك الاستدلال بعقله على صحتها وهو من أهل الاستدلال والنظر كان بذلك معرضا عن الدعوة فكفر ويبعد أن يوجد شخص لم يبلغه خبر أحد من الرسل على كثرتهم وتطاول أزمان دعوتهم ووفور عدد الذين آمنوا بهم واتبعوهم والذين كفروا بهم وخالفوهم فإن الخبر قد يبلغ على لسان المخالف كما يبلغ على لسان الموافق (١) ولو أمكن أن يكون لم يسمع قط بدين ولا دعوة نبي ولا عرف أن في العالم من يثبت إلها ولا نرى أن ذلك يكون فأمره على الاختلاف في أن الإيمان هل يجب بمجرد العقل أو لا بد من انضمام النقل، وهذا صريح في ثبوت تكليف كل أحد بالإيمان بعد وجود دعوة أحد من الرسل وإن لم يكن رسولا إليه، وبالغ بعضهم في اعتماد ذلك حتى قال: فمن بلغته دعوة أحد من الرسل عليهم السلام بوجه من الوجوه فقصر في البحث عنها فهو كافر من أهل النار فلا تغتر بقول كثير من الناس بنجاة أهل الفترة مع أخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن آباءهم الذين مضوا في الجاهلية في النار اه. والذي عليه الأشاعرة من أهل الكلام والأصول والشافعية من الفقهاء أن أهل الفترة لا يعذبون وأطلقوا القول في ذلك، وقد صح تعذيب جماعة من أهل الفترة، وأجيب بأن أحاديثهم آحاد لا تعارض القطع بعدم التعذيب قبل البعثة، وبأنه يجوز أن يكون تعذيب من صح تعذيبه منهم لأمر مختص به يقتضي ذلك علمه الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم نظير ما قيل في الحكم بكفر الغلام الذي قتله الخضر عليه السلام مع صباه، وقيل إن تعذيب هؤلاء المذكورين في الأحاديث مقصور على من غير وبدل من أهل الفترة بما لا يعذر به كعبادة الأوثان وتغيير الشرائع كما فعل عمرو بن لحي ولا يخفى أن هذا لا يوافق إطلاق هؤلاء الأئمة ولا القول بأنه لا وجوب إلا بالشرع ولو أمكن أن يكون من ثبت تعذيبه من اتباع من بقي شرعه إذ ذاك كعيسى عليه السلام لم يبق أشكال أصلا، واستدل بعض من يقول بتعذيبهم مطلقا بما
أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول والطبراني وأبو نعيم عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «يؤتى يوم القيامة بالممسوخ عقلا وبالهالك في الفترة وبالهالك صغيرا فيقول الممسوخ عقلا: يا رب لو آتيتني عقلا ما كان من آتيته عقلا بأسعد بعقله مني ويقول الهالك في الفترة: يا رب لو أتاني منك عهد ما كان من أتاه منك عهد بأسعد بعهدك مني ويقول الهالك صغيرا: يا رب لو آتيتني عمرا ما كان من آتيته عمرا بأسعد بعمره مني فيقول لهم الرب تبارك وتعالى: فاذهبوا فادخلوا جهنم ولو دخلوها ما ضرتهم شيئا فتخرج عليهم قوابص من نار يظنون أنها قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء فيرجعون سراعا ويقولون: يا ربنا خرجنا وعزتك نريد دخولها فخرجت علينا قوابص من نار ظننا أن قد أهلكت ما خلق الله تعالى من شيء ثم يأمرهم ثانية فيرجعون لذلك ويقولون كذلك فيقول الرب تعالى خلقتكم على علمي وإلى علمي تصيرون يا
(١) قال البغوي في التهذيب: من لم تبلغه الدعوة لا يجوز قتله قبل أن يدعى إلى الإسلام فإن قتل قبل أن يدعى وجب على قاتله الدية والكفارة وقال التاج السبكي لا يجب القصاص على قاتله على الصحيح، وعند أبي حنيفة لا يجب الضمان بقتله اه منه.
39
نار ضميهم فتأخذهم النار»
وبعض الأخبار يقتضي أن منهم من يعذب ومنهم من لا يعذب.
فقد أخرج أحمد وابن راهويه وابن مردويه والبيهقي عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أربعة يحتجون يوم القيامة رجل أصم لا يسمع شيئا ورجل أحمق ورجل هرم ورجل مات في فترة فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام والصبيان يحذفونني بالبعر وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ سبحانه مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم رسولا أن ادخلوا النار فمن دخلها كانت عليه بردا وسلاما ومن لم يدخلها سحب إليها
وأخرج قاسم بن أصبغ والبزار وأبو يعلى وابن عبد البر في التمهيد عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يؤتى يوم القيامة بأربعة بالمولود والمعتوه ومن مات في الفترة والشيخ الهرم الفاني كلهم يتكلم بحجته فيقول الرب تبارك وتعالى لعنق من جهنم: ابرزي ويقول لهم: إني كنت أبعث إلى عبادي رسلا من أنفسهم وإني رسول نفسي إليكم فيقول لهم: ادخلوا هذه فيقول من كتب عليه الشقاء: يا رب أتدخلناها ومنها كنا نفر وأما من كتب له السعادة فيمضي فيقتحم فيها فيقول الرب تعالى:
قد عاينتموني فعصيتموني فأنتم لرسلي أشد تكذيبا ومعصية فيدخل هؤلاء الجنة وهؤلاء النار»

إلى غير ذلك من الأخبار، ويحتج بها من قال بانقسام ذراري المشركين بل وذراري المؤمنين وفي القلب من صحتها شيء وإن قال في الإصابة: إنها وردت من عدّة طرق وعلى تقدير صحتها فمعارضها أصح منها، والذي يميل إليه القلب أن العقل حجة في معرفة الصانع تعالى ووحدته وتنزهه عن الولد سبحانه قبل ورود الشرع للأدلة السابقة وغيرها وإن كان في بعضها ما يقال وإرسال الرسل وإنزال الكتب رحمة منه تعالى أو أن ذلك لبيان ما لا ينال بالعقول من أنواع العبادات والحدود فلا يرد أنه لو كان العقل حجة ما أرسل الله تعالى رسولا ولا كتفى به. وقيل في جوابه: لما كان أمر البعث والجزاء مما يشكل مع العقل وحده إلا بعظيم تأمل فيه حرج يعذر الإنسان بمثله ولا إيمان بدونه بعث الله تعالى الرسل عليهم السلام لبيان ما به تتمة الدين لا لنفس معرفة الخالق فإنها تنال ببداية العقول فالبعرة تدل على البعيرة والأثر على المسير فسماء ذات أبراج وأرض ذات فجاج وبحار ذات أمواج ألا تدل على اللطيف الخبير.
وأيضا إن الله تعالى لم يدعنا ورسولا من أول الأمر إلى آخره والحجة كانت قائمة بالواحد كما بقيت بمحمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة ولم يدل ذلك على أن الأول لم يكن حجة كافية، وكذلك لم يدعنا سبحانه والبيان بآية واحدة بل من علينا جل شأنه بآيات متكررة ولا يدل ذلك أن الآية الواحدة لم تكن حجة كافية.
وقوله تعالى خبرا عن قول الخزنة لأهل النار: أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ [غافر: ٥٠] توبيخ بالأظهر وهو لا يدل على أن الآخر ليس بحجة، وقوله تعالى: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [المائدة: ١٦٥] على معنى لئلا يكون لهم احتجاج بزعمهم بأن يقولوا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا [طه: ١٣٤]، وقوله تعالى: ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها (١) غافِلُونَ [الأنعام: ١٣١] محمول على الإهلاك بعذاب الاستئصال في الدنيا على تكذيب الرسل وأما جزاء الكفر فالنار في العقبى، وكذا يقال في الآية التي نحن فيها لكثرة ما يدعو إليه فلا عذر لمن لم يعرف ربه سبحانه من أهل الفترة إذا كان عاقلا مميزا متمكنا من النظر والاستدلال لا سيما إذا بلغته دعوة رسول من الرسل عليهم السلام ولا يكاد يوجد من لم تبلغه كما سمعت عن الحليمي وقيل: بوجوده في أمريقا (٢) وهي
(١) وفسرت الغفلة بغفلة إهمال الحجة، وقيل: غافلون بسبب خفائها تأمل اه منه.
(٢) الذي رأيته في بعض كتب المتأخرين أن أول من كشف عنها أماريكوس القبطان وبه سميت ثم قيل فيها: أمريكا تخفيفا اه منه.
40
المسماة بيكي دنيا قبل أن يظفر بها في حدود الألف بعد الهجرة كرشتوفيل المشهور بقلوبنو فإن أهلها على ما بلغنا إذ ذاك لم يسمعوا بدعوة رسول أصلا، ثم المفهوم من كلام الأجلة أن النزاع إنما هو بالنسبة لأحكام الإيمان بالله تعالى بخلاف الفروع فلا خلاف في أنها لا تثبت إلا في حق من بلغته دعوة من أرسل إليه وهو الظاهر، نعم ما اتفق عليه الملل من الفروع هل هو كالإيمان حتى يجري فيه النزاع المتقدم فيه نظر، وأما الإيمان بنبينا صلّى الله عليه وسلّم فليس بواجب على من لم تبلغه دعوته إذ ليس للعقل في ذلك مجال كما لا يخفى على ذي عقل بل قال حجة الإسلام الغزالي. الناس بعد بعثته عليه الصلاة والسلام أصناف: صنف لم تبلغهم دعوته ولم يسمعوا به أصلا فأولئك مقطوع لهم بالجنة، وصنف بلغتهم دعوته وظهور المعجزة على يده وما كان عليه صلّى الله عليه وسلّم من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة ولم يؤمنوا به كالكفرة الذين بين ظهرانينا فأولئك مقطوع لهم بالنار، وصنف بلغتهم دعوته عليه الصلاة والسلام وسمعوا به لكن كما يسمع أحدنا بالدجال وحاشا قدره الشريف صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فهؤلاء أرجو لهم الجنة إذ لم يسمعوا ما يرغبهم في الإيمان به اه، ولعل القطع بالجنة للأولين ورجاءها للآخرين إنما يكونان إذا كانوا مؤمنين بالله تعالى وأما إذا لم يكونوا كذلك فهم على الخلاف، ثم إن مسألة عدم الوجوب قبل ورود الشرع إنما يتم الاستدلال عليه بالآية عند المستدلين بها كما قال الأصفهاني إذا كان المقصود تحصيل غلبة الظن فيها فإن كانت علمية فلا يمكن إثباتها بالدلائل الظنية، وفيها عندهم نوع اكتفاء أي وما كنا معذبين ولا مثيبين حتى نبعث رسولا، قالوا: واستغنى عن ذكر الثواب بذكر مقابله من العذاب ولم يعكس لأنه أظهر منه في تحقق معنى التكليف فتأمل.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً
بيان لكيفية وقوع العذاب بعد البعثة، وليس المراد بالإرادة الإرادة الأزلية المتعلقة بوقوع المراد في وقته المقدر له أصلا إذ لا يقارنها الجزاء الآتي، ولا تحققها بالفعل إذ لا يتخلف عنه المراد بل دنو وقته كما في قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النحل: ١] أي إذا دنا وقت تعلق إرادتنا بإهلاكها بأن نعذب أهلها بما ذكر من عذاب الاستئصال الذي بينا أنه لا يصح منا قبل البعثة أو بنوع مما ذكرنا شأنه من مطلق العذاب أعني عذاب الاستئصال لما لهم من الظلم والمعاصي دنوا تقتضيه الحكمة من غير أن يكون له حد معين أَمَرْنا
بالطاعة كما أخرجه ابن جرير وغيره عن ابن عباس وسعيد بن جبير على لسان الرسول المبعوث إلى أهلها مُتْرَفِيها
متنعميها وجباريها وملوكها، وخصهم بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل لأنهم أئمة الفسق ورؤساء الضلال وما وقع من سواهم باتباعهم ولأن توجه الأمر إليهم آكد، ويدل على تقدير الطاعة إن فسق وعصى متقاربان بحسب اللغة وإن خص الفسق في الشرع بمعصية خاصة وذكر الضد يدل على الضد كما أن ذكر النظير يدل على النظير فذكر الفسق والمعصية يدل على تقدير الطاعة كما قيل في قوله تعالى: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] فيكون نحو أمرته فأساء إلي أي أمرته بالإحسان بقرينة المقابلة بينهما المعتضدة بالعقل الدال على أنه لا يؤمر بالإساءة كما لا يؤمر بالفسق، والنقل كقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ [الأعراف: ٢٨]، وجوز أن ينزل الفعل منزلة اللازم كما في يعطي ويمنع أي وجهنا الأمر.
فَفَسَقُوا فِيها
أي خرجوا عن الطاعة وتمردوا، واختار الزمخشري أن الأصل أمرناهم بالفسق ففسقوا إلا أنه يمتنع إرادة الحقيقة للدليل فيحمل على المجاز إما بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التمثيلية بأن يشبه حالهم في تقلبهم في النعم مع عصيانهم وبطرهم بحال من أمر بذلك أو بطريق الاستعارة التصريحية التبعية بأن يشبه إفاضة النعم المبطرة لهم وصبها عليهم بأمرهم بالفسق بجامع الحمل عليه والتسبب له ويتمم أمر الاستعارة في الصورتين بما لا يخفى، وقيل: الأمر استعارة
41
للحمل والتسبب لاشتراكهما في الإفضاء إلى الشيء وآثر أن تقدير أمرناهم بالطاعة ففسقوا غير جائز لزعمه أنه حذف ما لا دليل عليه بل الدليل قائم على خلافه لأن قولهم أمرته فقام وأمرته فقعد لا يفهم منه إلا الأمر بالقيام والقعود ولو أردت خلاف ذلك كنت قد رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا نقض بنحو قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأنه لما كان منافيا للأمر علم أنه لا يصلح قرينة للمحذوف فيكون الفعل في ذلك من باب يعطي ويمنع. واعترض بأنه لم لا يجوز أن يكون من قبيل أمرته فعصاني لما سمعت من تقارب فسق وعصى وبأن قرينة إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لم لا تكفي في تقدير وجهنا الأمر فوجد منهم الفسق لا أن يقدر متعلق الأمر ثم لم لا يجوز أن يكون التعقيب بالضد قرينة للضد الآخر ونحوه أكثر من أن يحصى، وأجاب في الكشف عن ذلك فقال: الجواب عن الأولين أن صاحب الكشاف منع أن يراد أمرنا بالطاعة وأما أن يراد توجيه الأمر فلم يمنعه من هذا المسلك بل المانع أن تخصيص المترفين حينئذ يبقى غير بين الوجه وكذلك التقييد بزمان إرادة الإهلاك فإن أمره تعالى واقع في كل زمان ولكل أحد ولظهوره لم يتعرض له، وعن الثالث أن شهرة الفسق في أحد معنييه تمنع من عده مقابلا بمعنى العصيان على أن ما ذكرنا من نبو المقام عن الإطلاق قائم في التقييد بالطاعة، وفيه قول بسلامة الأمير ونظر بعين الرضا وغفلة عن وجه التخصيص الذي ذكرناه وهو بين لا غبار عليه، وكذا وجه التقييد بالزمان المذكور، والحق أن ما ذكره الزمخشري من الحمل وجه جميل إلا أن عدم ارتضائه ما روته الثقات عن ترجمان القرآن وغيره من تقدير الطاعة مع ظهور الدليل ومساعدة مقام الزجر عن الضلال والحث على الاهتداء لا وجه له كما لا يخفى على من له قلب.
وحكى أبو حاتم عن أبي زيد أن أَمَرْنا
بمعنى كثرنا واختاره الفارسي، واستدل أبو عبيدة على صحة هذه اللغة بما
أخرجه أحمد وابن أبي شيبة في مسنديهما والطبراني في الكبير من حديث سويد بن هبيرة «خير المال سكة مأبورة ومهرة مأمورة»
أي كثيرة النتاج، وأمر كما قيل من باب ما لزم وعدي باختلاف الحركة فيقال أمرته بفتح الميم فأمر بكسرها وهو نظير شتر الله تعالى عينه فشترت وجدع أنفه فجدع وثلم سنه فثلمت، وقيل: إن المكسور يكون متعديا أيضا وأنه قرأ به الحسن ويحيى بن يعمر وعكرمة، وحكى ذلك النحاس وصاحب اللوامح عن ابن عباس وأن رد الفراء له غير ملتفت إليه لصحة النقل، وفي الكشف أن أمر بمعنى كثر كثير وأما أمرته المتعدي فقال الزمخشري في الفائق ما معناه: ما عول هذا القائل إلا على ما جاء في الخبر أعني مهرة مأمورة وما هو إلا من الأمر الذي هو ضد النهي وهو مجاز أيضا كما في الآية كأن الله تعالى قال لها كوني كثيرة النتاج فكانت فهي إذن مأمورة على خلاف منهية، وقيل: أصله مومرة فعدل عنه إلى مأمورة لطلب الازدواج مثل
قوله صلّى الله عليه وسلّم «مأزورات غير مأجورات»
حيث لم يقل موزورات.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن أبي إسحاق وأبو رجاء وعيسى بن عمر وعبد الله بن أبي زيد والكلبي «آمرنا» بالمد وكذلك جاء عن ابن عباس والحسن وقتادة وأبي العالية وابن هرمز وعاصم وابن كثير وأبي عمرو ونافع وهو اختيار يعقوب ومعناه عند الجميع كثرنا وبذلك أيد التفسير السابق على القراءة المشهورة.
وقرأ ابن عباس وأبو عثمان النهدي والسدي وزيد بن علي وأبو العالية
«أمّرنا» بالتشديد، وروي ذلك أيضا عن علي والحسن والباقر رضي الله تعالى عنهم.
وعاصم وأبي عمرو، ومعناه على هذه القراءة قيل كثرنا أيضا، وقيل: بمعنى وليناهم وجعلناهم أمراء واللازم من ذلك أمر (١) بالضم إلحاقا له بالسجايا أي صار أميرا والمراد به من يؤمر ويؤتمر به سواء كان ملكا أم لا على أنه لا محذور لو أريد به الملك أيضا خلافا للفارسي لأن القرية إذا ملك عليها مترف ففسق
(١) أمر مثلث والتقييد بالضم لأنه حينئذ يتعين لهذا المعنى قائلهم اه منه.
42
ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية، وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥]
وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فدعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال:
نعم إذا كثر الخبث»

هذا والظاهر أن أَمَرْنا
جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:
١٠٢] وآخرون بأن قوله تعالى: أَمَرْنا
إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها إلى قوله سبحانه: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: ٧١- ٤٧] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة:
حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (١) شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ تمييز- لكم- والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة، وعن محمد بن القاسم المازني
وروي مرفوعا أنه مائة سنة
وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لرجل فقال: عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين
، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما، وقال الحوفي: من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد.
وَكَفى بِرَبِّكَ أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا، وقيل تقدما رتبيا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه
«إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»
وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو
(١) قتائدة اسم عقبة اه صحاح.
43
لعمومه من حيث يتعلق بغير المبصرات أيضا، والجار والمجرور متعلق بخبيرا بصيرا على سبيل التنازع.
وقال الحوفي: متعلق بكفى وهو وهم، وفي تذييل ما تقدم بما ذكر إشارة على ما قيل إلى أن البعث والأمر وما يتلوهما من فسقهم ليس لتحصيل العلم بما صدر عنهم من الذنوب فإن ذلك حاصل قبل ذلك وإنما هو لقطع الأعذار وإلزام الحجة من كل وجه. وفي الكشاف أنه سبحانه نبه بقوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ إلخ على أن الذنوب هي الأسباب المهلكة لا غير، وبيانه كما في الكشف أنه جل شأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتم دل على أنه تعالى جازاهم بها وإلا لم ينتظم الكلام، وأما الحصر فلأن غيرها لو كان له مدخل كان الظاهر ذكره في معرض الوعيد ثم لا يكون السبب تاما ويكون الكلام ناقصا عن أداء المقصود فلزم الحصر وهو المطلوب ولا أرى كلامه خاليا عن دسيسة اعتزال تظهر بالتأمل ولعله لذلك لم يتعرض له العلامة البيضاوي مَنْ كانَ يُرِيدُ أي بعلمه كما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك الْعاجِلَةَ فقط من غير أن يريد معها الآخرة كما ينبىء عنه الاستمرار المستفاد من زيادة كانَ هنا مع الاقتصاد على مطلق الإرادة في قسميه وقيل لو لم يقيد صدق على مريد العاجلة والآخرة والقسمة تنافي الشركة، ودلالة الإرادة على ذلك لأنها عقد القلب بالشيء وخلوص همه فيه ليس بذاك، والمراد بالعاجلة الدار الدنيا كما روي عن الضحاك أيضا وبإرادتها إرادة ما فيها من فنون مطالبها كقوله تعالى: وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا [الشورى: ٢٠] وجوز أن يراد الحياة العاجلة كقوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها [هود: ١٥] ورجح الأول بأنه أنسب بقوله تعالى: عَجَّلْنا لَهُ فِيها أي في تلك العاجلة فإن تلك الحياة واستمرارها من جملة ما عجل فالأنسب في ذلك كلمة من كما في قوله عز وجل وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها [آل عمران: ١٤٥] ما نَشاءُ أي ما نشاء تعجيله له من نعيمها لا كل ما يريد.
لِمَنْ نُرِيدُ تعجيل ما نشاء له، وقال أبو إسحاق الفزاري: أي لمن نريد هلكته ولا يدل عليه لفظ في الآية، والجار والمجرور بدل من الجار والمجرور السابق أعني له فلا يحتاج إلى رابط لأنه في بدل المفردات أو المجرور بدل من الضمير المجرور بإعادة العامل وتقديره لمن نريد تعجيله له منهم، والضمير راجع إلى من وهي موصولة أو شرطية وعلى التقديرين هي منبئة عن الكثرة فهو بدل بعض من كل، وعن نافع أنه قرأ «ما يشاء» بالياء فقيل الضمير فيه لله تعالى فيتطابق القراءتان، وقيل هو لمن فيكون مخصوصا بمن أراد الله تعالى به ذلك كنمروذ وفرعون ممن ساعده الله تعالى على ما أراده استدراجا له، واستظهر هذا بأنه يلزم أن يكون على الأول التفات ووقوع الالتفات في جملة واحدة إن لم يكن ممنوعا فغير مستحسن كما فصله في عروس الأفراح، وتقييد المعجل والمعجل له بما ذكر من المشيئة والإرادة لما أن الحكمة التي يدور عليها فلك التكوين لا تقتضي وصول كل طالب إلى مرامه ولا استيفاء كل واصل لما يطلبه بتمامه، وليس المراد بأعمالهم في قوله تعالى: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [هود: ١٥] أعمال كلهم ولا كل أعمالهم، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر، وذكر المشيئة في أحدهما والإرادة في الآخر إن قيل بترادفهما تفنن.
ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ مكان ما عجلنا له جَهَنَّمَ يَصْلاها يقاسي حرها كما قال الخليل أو يدخلها كما قيل، والجملة كما قال أبو البقاء حال من الهاء في لَهُ وقال أبو حيان: إنها حال من جَهَنَّمَ وهي مفعول أول لجعلنا ولَهُ الثاني.
وجوز أن تكون الجملة مستأنفة وقال صاحب الغينان: مفعول جعلنا الثاني محذوف والتقدير مصيرا أو جزاء ولا حاجة إلى ذلك مَذْمُوماً حال من فاعل يصلي وهو من الذم ضد المدح وفعله ذم وذمته ذيما وذأمته ذأما بمعناه
44
مَدْحُوراً أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى، قال الإمام: إن العقاب عبارة عن مضرة مقرونة بالإهانة والذم بشرط أن تكون دائمة وخالية عن المنفعة فقوله تعالى: جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها إشارة إلى المضرة العظيمة ومَذْمُوماً إشارة إلى الإهانة والذم ومَدْحُوراً إشارة إلى البعد والطرد من رحمته تعالى فيفيد ذلك أن تلك المضرة خالية عن شوب النفع والرحمة وتفيد كونها دائمة وخالية عن التبدل بالراحة والخلاص اه، ولا يخفى أن هذا ظاهر في أن الآية تدل على الخلود وحينئذ يتعين عندنا أن يكون ذلك المريد من الكفرة، وفي إرشاد العقل السليم من كان يريد أي بأعماله التي يعملها سواء كان ترتب المراد عليها بطريق الجزاء كأعمال البر أو بطريق ترتب المعلولات على العلل كالأسباب أو بأعمال الآخرة فالمراد بالمريد على الأول المكفرة وأكثر الفسقة وعلى الثاني أهل الرباء والنفاق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة، وأنت تعلم أن إدراج الفاسق والمهاجر للدنيا والمجاهد للغنيمة إذا كان مؤمنا في التمثيل على القول بدلالة الآية على الخلود مما لا يستقيم على أصولنا نعم يصح على أصول المعتزلة، وقد أدرج الزمخشري الفاسق في ذلك ودسائس الاعتزال منه عامله الله تعالى بعدله أكثر من أن تحصى، وظاهر كلام أبي حيان اختيار كون المريد من الكفرة حيث قال: العاجلة هي الدنيا ومعنى إرادتها إيثارها على الآخرة ولا بد من تقدير محذوف دل عليه المقابل في قوله تعالى: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ إلخ أي من كان يريد العاجلة وسعى لها سعيها وهو كافر عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد، وقيل المراد من كان يريد العاجلة بعمل الآخرة كالمنافق والمرائي والمجاهد للغنيمة والذكر والمهاجر للدنيا إلى آخر ما قال فحكي غير القول الأول الذي يكون يتعين عليه كون المريد من الكفرة بعد أن قدمه بقيل، ويؤيده تفسير كثير من كان يريد العاجلة بمن كان همه مقصورا عليها لا يريد غيرها أصلا فإن ذلك مما لا يكاد يصدق على مؤمن فاسق فإنه لو لم يكن له إرادة للآخرة ما آمن بها، وعلى القول بدخول الفاسق ونحوه ممن لا يحكم له عندنا بالخلود يمنع القول بدلالة الآية على الخلود ويقال لمن أدخل النار مبعد عن رحمة الله تعالى ما دام فيها فيصدق على الفاسق ما دام فيها كما يصدق على الكافر المخلد.
وزعم بعضهم أن المريد هو المنافق الذي يغزو مع المسلمين للغنيمة لا للثواب فإن الآية نزلت فيه، وفيه أنه يأبى ذلك ما سبق من أن السورة مكية غير آيات معينة ليست هذه منها على أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فافهم وَمَنْ أَرادَ الظاهر على طبق ما مر عن الضحاك أن يراد بعمله أيضا الْآخِرَةَ أي الدار الآخرة وما فيها من النعيم المقيم وَسَعى لَها سَعْيَها أي الذي يحق ويليق بها كما تنبىء عنه الإضافة الاختصاصية سواء كان السعي مفعولا به على أن المعنى عمل عملها أو مصدرا مفعولا مطلقا ويتحقق ذلك بالإتيان بما أمر الله تعالى والانتهاء عما نهى سبحانه عنه فيخرج من يتعبد من الكفرة بما يخترعه من الآراء ويزعم أنه يسعى لها وفائدة اللام سواء للأجل أو للاختصاص اعتبار النية والإخلاص لله تعالى في العمل، واختار بعضهم ولا يخلو عن حسن أنه لا حاجة إلى ما اعتبره الضحاك بل الأولى عدم اعتباره لمكان «وسعى لها سعيها» وحينئذ لا يعتبر فيما سبق أيضا ويكون في الآية على هذا من تحقير أمر الدنيا وتعظيم شأن الآخرة ما لا يخفى على من تأمل.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا يخالطه قادح، وإيراد الإيمان بالجملة الحالية للدلالة على اشتراط مقارنته لما ذكر في حيز مَنْ فلا تنفع إرادة ولا سعي بدونه وفي الحقيقة هو الناشئ عنه إرادة الآخرة والسعي للنجاة فيها وحصول الثواب، وعن بعض المتقدمين من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت ونية صادقة وعمل مصيب وتلا هذه الآية فَأُولئِكَ إشارة إلى مَنْ بعنوان اتصافه بما تقدم، وما في ذلك من معنى البعد للإشعار بعلو درجتهم وبعد منزلتهم، والجمعية لمراعاة جانب المعنى إيماء إلى أن الإثابة المفهومة من الخبر تقع على وجه الاجتماع أي
45
فأولئك الجامعون لما مر من الخصال الحميدة أعني إرادة الآخرة والسعي الجميل لها والإيمان كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مثابا عليه مقبولا عنده تعالى بحسن القبول، وفسر بعضهم السعي هاهنا بالعمل الذي يعبر عنه بفعل فيشمل جميع ما تقدم وهذا غير السعي السابق، وقال بعضهم: هو هو وعلق المشكورية به دون قرينيه إشعارا بأنه العمدة فيها، وأصل السعي كما قال الراغب المشي السريع وهو دون العدو ويستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا وأكثر ما يستعمل في الأفعال المحمودة قال الشاعر:
إن أجز علقمة بن سعد سعيه لا أجزه ببلاء يوم واحد
كُلًّا التنوين فيه على المشهور عند النحاة عوض عن المضاف إليه لا تنوين تمكين أي كل الفريقين وهو مفعول نُمِدُّ مقدم عليه أي نزيد مرة بعد مرة بحيث يكون الآنف مددا للسالف وما به الإمداد ما عجل لأحدهما من العطايا العاجلة وما أعد للآخر من العطايا الآجلة المشار إليها بمشكورية السعي وإنما لم يصرح به تعويلا على ما سبق تصريحا وتلويحا واتكالا على ما لحق عبارة وإشارة، وقوله تعالى: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من كُلًّا بدل كل على جهة التفصيل أي نمد هؤلاء المعجل لهم وهؤلاء المشكور سعيهم فإن الإشارة متعرضة لذات المشار إليه بما له من العنوان لا للذات فقط كالإضمار ففيه تذكير لما به الإمداد وتعيين للمضاف إليه المحذوف دفعا لتوهم كونه أفراد الفريق الأخير المريد للخير الحقيق بالإسعاف فقط وتأكيد للقصر المستفاد من تقديم المفعول، وقوله تعالى: مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ أي من معطاه الواسع الذي لا تناهي له فهو اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول متعلق بنمد مغن عن ذكر ما به الإمداد ومنبه على أن الإمداد المذكور ليس بطريق الاستيجاب بالسعي والعمل بل بمحض التفضل كما قيل:
وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ أي دنيويا كان أو أخرويا.
والإظهار في موضع الإضمار لمزيد الاعتناء بشأنه والإشعار بعليته للحكم مَحْظُوراً ممنوعا عمن يريده بل هو فائض على من قدر له بموجب المشيئة المبنية على الحكمة وإن وجد فيه ما يقتضي الحظر كالكفر، وهذا في معنى التعليل لشمول الإمداد للفريقين، والتعرض لعنوان الربوبية للإشعار بمبدئيتها لكل من الإمداد وعدم الحظر.
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ كيف في محل النصب بفضلنا على الحال وليست مضافة للجملة كما توهم، والجملة بتمامها في محل نصب بانظر وهو معلق هنا، والمراد كما قال شيخ الإسلام توضيح ما مر من الإمداد وعدم محظورية العطاء بالتنبيه على استحضار مراتب أحد العطاءين والاستدلال بها على مراتب الآخر أي انظر بنظر الاعتبار كيف فضلنا بعضهم على بعض فيما أمددناهم من العطايا الآجلة وتفاوت أهلها على طريقة الاستدلال بحال الأدنى على حال الأعلى كما أفصح عنه قوله تعالى: وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي أكبر من درجات الدنيا وتفضيلها لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها العالية لا يقادر قدرها ولا يكتنه كنهها.
وفي بعض الآثار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن بين أعلى أهل الجنة وأسفلهم درجة كالنجم يرى في مشارق الأرض ومغاربها وقد أرضى الله تعالى الجميع فما يغبط أحد أحدا»
وعن الضحاك الأعلى يرى فضله على من هو أسفل منه والأسفل لا يرى أن فوقه أحدا، وصح أن الله تعالى أعد لعباده الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وروى ابن عبد البر في استيعاب عن الحسن قال: حضر جماعة من الناس باب عمر رضي الله تعالى عنه وفيهم سهيل بن عمرو القرشي وكان أحد الأشراف في الجاهلية وأبو سفيان بن حرب وأولئك المشايخ من قريش فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر وكان يحبهم وكان قد أوصى لهم فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط إنه ليؤذن لهؤلاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا فقال سهيل: وكان أعقلهم أيها القوم إني والله قد أرى الذي وجوهكم فإن كنتم
46
غضابا فاغضبوا على أنفسكم دعي القوم ودعيتم فأسرعوا وأبطأتم أما والله لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تنافسون عليه، وفي الكشاف أنه قال: إنما أتينا من قبلنا أنهم دعوا ودعينا فأسرعوا وأبطأنا وهذا باب عمر فكيف التفاوت في الآخرة ولئن حسدتموهم على باب عمر لما أعد الله تعالى لهم في الجنة أكبر وقرىء «أكثر تفضيلا» بالثاء المثلثة، هذا وجوز أن يراد بما به الإمداد العطايا العاجلة فقط، وحمل القصر المذكور على دفع توهم اختصاصها بالفريق الأول فإن تخصيص إرادتهم لها ووصولهم إليها بالذكر من غير تعرض لبيان النسبة بينها وبين الفريق الثاني إرادة ووصولا مما يوهم اختصاصها بالأولين فالمعنى كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا من ذكرنا إرادته لها فقط من الفريق الأول من عطاء ربك الواسع وما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد ممن يريد وممن يريد غيره انظر كيف فضلنا في ذلك العطاء بعض كل من الفريقين على بعض آخر منهما وللآخرة إلخ، وإلى نحو هذا ذهب الحسن وقتادة فقد روي عنهما أنهما قالا: في معنى الآية إن الله تعالى يرزق في الدنيا مريدي العاجلة الكافرين ومريدي الآخرة المؤمنين ويمد الجميع بالرزق، وذكر الرزق من بين ما به الإمداد قيل على سبيل التمثيل، وقيل تخصيص لدلالة السياق.
وجوز أن يكون المراد به معناه اللغوي فيتناول الجاه ونحوه كما يقال السعادة أرزاق، واعتبر الجمهور عدم المحظورية بالنسبة إلى الفريق الأول تحقيقا لشمول الإمداد له حيث قالوا: لا يمنعه من عاص لعصيانه. واعترض بأنه يقتضي كون القصر لدفع توهم اختصاص الإمداد الدنيوي بالفريق الثاني مع أنه لم يسبق في الكلام ما يوهم ثبوته له فضلا عن إيهام اختصاصه وفيه تأمل، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن معنى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من الطاعات ويمد بها مريد الآخرة والمعاصي ويمد بها مريد العاجلة فيكون العطاء عبارة عما قسم الله تعالى للعبد من خير أو شر، وأنت تعلم أنه يبعد غاية البعد إرادة المعاصي من العطاء ولعل نسبة ذلك للحبر غير صحيحة فلا تغفل واعلم أن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر وذلك غير مضر والتقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا والقسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، والقسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين، وفي قبول العمل في القسم الأول بحث عند الإمام قال: يحتمل عدم القبول لما
روي عن رب العزة جل شأنه: «أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري تركته وشركه».
ويمكن أن يقال: إذا كانت إرادة الآخرة راجحة على إرادة الدنيا تعارض المثل بالمثل فيبقى القدر الزائد خالصا للآخرة فيجب كونه مقبولا، وإلى عدم القبول ذهب العز بن عبد السلام، ومال إلى القول بأصل الثواب حجة الإسلام الغزالي حيث قال: لو كان اطلاع الناس مرجحا أو مقويا لنشاطه ولو فقد لم تترك العبادة ولو انفرد قصد الرياء لما أقدم فالذي نظنه والعلم عند الله تعالى أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب، وهذا ظاهر في أن الرياء ولو محرما لا يمنع أصل الثواب عنده إذا كان باعث العبادة أغلب، وذكر ابن حجر أن الذي يتجه ترجيحه أنه متى كان المصاحب بقصد العبادة رياء مباحا لم يقتض إسقاط ثوابها من أصله بل يثاب على مقدار قصد العبادة وإن ضعف أو محرما اقتضى سقوطه من أصله للأخبار، وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ [الزلزلة: ٧] قد لا يعكر على ذلك لأن تقصيره بقصد المحرم اقتضى سقوط قصد الأجر فلم تبق له ذرة من خير فلم تشمله الآية، واتفقوا على عدم قبول ما ترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين، وخص الغزالي الأحاديث الدالة بظاهرها على عدم القبول مطلقا بهذين القسمين، وتمام الكلام في هذا المقام في الزواجر عن اقتراف
47
الكبائر، وأما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول والذين قالوا إنه لا يتوقف قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن وهو محرم في الظاهر لأنه عبث والله تعالى أعلم.
ومن باب الإشارة في الآيات سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا فيه أربع إشارات إشارة التقديس بسبحان فهو تنزيه له تعالى عن اللواحق المادية والنقائص التشبيهية وعن جميع ما يرتسم في الأذهان، وإشارة الغيرة بعدم ذكر الاسم الظاهر من أسمائه الحسنى عزت أسماؤه وكذا بعدم ذكر اسمه صلّى الله عليه وسلّم. وإشارة الغيب بذكر ضمير الغائب، وإشارة السر بذكر الليل فإنه محل السر والنجوى، وعن بعض الأكابر لولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا، وذكر غير واحد إن في اختيار عنوان العبودية إشارة إلى أنها أعلى المقامات وقد أشير إلى ذلك فيما سلف، وأصلها الذل والخضوع وحيث إن الذل لشيء لا يكون إلا بعد معرفته دلت العبودية لله تعالى على معرفته سبحانه وكمالها على كمالها، ومن هنا فسر ابن عباس قوله تعالى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات: ٥٦] بقوله: إلا ليعرفون وهي تسعة وتسعون سهما بعدد الأسماء الإلهية التي من أحصاها دخل الجنة لكل اسم إلهي عبودية مختصة به يتعبد له من يتعبد من المخلوقين ولم يتحقق بهذا المقام على كماله مثل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكان عبدا محضا زاهدا في جميع الأحوال التي تخرجه عن مرتبة العبودية وشهد الله تعالى له بأنه عبد مضاف إليه من حيث هويته هنا واسمه الجامع في قوله سبحانه وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ [الجن: ١٩] ولما أمر صلّى الله عليه وسلّم بتعريف مقامه يوم القيامة قيد ذلك
فقال عليه الصلاة والسلام «أنا سيد ولد آدم ولا فخر»
بالراء أو الزاي على اختلاف الروايتين وهي لما علمت من معناها لا يمكن أن تكون نعتا إلهيا أصلا بل هي صفة خاصة لا اشتراك فيها فقد قال أبو يزيد البسطامي: ما وجدت شيئا يتقرب به إليه تعالى إذ رأيت كل نعت يتقرب به للألوهية فيه مدخل فقلت: يا رب بماذا أتقرب إليك؟ قال: تقرب إلي بما ليس لي قلت: يا رب وما الذي ليس لك؟ قال: الذلة والافتقار.
وذكر أن العبد مع الحق في حال عبوديته كالظل مع الشخص في مقابلة السراج كلما قرب إلى السراج عظم الظل ولا قرب من الله تعالى إلا بما هو لك وصف أخص لا له سبحانه وكلما بعد عن السراج صغر الظل فإنه ما يبعدك عن الحق إلا خروجك عن صفتك التي تستحقها وطمعك في صفته تعالى، كذلك يطبع الله على كل قلب متكبر جبار وهما صفتان لله تعالى: وذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان: ٤٩] وهما كذلك وإلى هذا أشار صلّى الله عليه وسلّم
بقوله: «أعوذ بك منك»
وأول بعضهم الليل بظلمة الغواشي البدنية والتعلقات الطبيعية وقال: إن الترقي والعروج لا يكون إلا بواسطة البدن وقد صرحوا بأنه صلّى الله عليه وسلّم أسري به وكذا عرج يقظة لم يفارق بدنه إلا أن العارف الجامي قال: إن ذلك إلى المحدد ثم ألقي البدن هناك وقد تقدم ذلك، وفي أسرار القرآن أنه عليه الصلاة والسلام أسري به من رؤية أفعاله إلى رؤية صفاته ومن رؤية صفاته إلى رؤية ذاته فرأى الحق بالحق وكانت صورته روحه وروحه عقله وعقله قلبه وقلبه سره وكأنه أراد أنه صلّى الله عليه وسلّم حصل له هذا الإسراء وإلا فإرادة أن الإسراء الذي في الآية هو هذا مما لا ينبغي.
ولا يخفى أن الإسراء غير المعراج نعم قد يطلقون الإسراء على المعراج بل قيل إنهما إذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وقد ذكروا أن لجميع الوارثين معراجا إلا أنه معراج أرواح لا أشباح وإسراء أسرار لا أسوار ورؤية جنان لا عيان وسلوك ذوق وتحقيق لا سلوك مسافة وطريق إلى سموات معنى لا مغنى، وهذا المعراج متفاوت حسب تفاوت مراتب الرجال، وقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره في معراجه ما يحير الألباب ويقضي منه العجب العجاب ولم يستبعد ذلك منه بناء على أنه ختم الولاية المحمدية عندهم، ومن عجائب ما اتفق في زماننا أن رجلا يدعى بعبد السلام نائب القاضي في بغداد وكان جسورا على الحكم بالباطل شرع في ترجمة معراج الشيخ قدس سره بالتركية مع شرح بعض
48
مغلقاته ولم يكن من خبايا هاتيك الزوايا فقبل أن يتم مرامه ابتلي والعياذ بالله تعالى بآكلة في فمه فأكلته إلى أذنيه فمات وعرج بروحه إلى حيث شاء الله تعالى نسأل الله سبحانه العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة، ونقل عن الشيخ قدس سره أن الإسراء وقع له صلّى الله عليه وسلّم ثلاثين مرة، وفي كلام الشيخ عبد الوهاب الشعراني أن إسراءاته عليه الصلاة والسلام كانت أربعا وثلاثين واحد منها بجسمه والباقي بروحه، وقد صرحوا أن الأول من خصائصه صلّى الله عليه وسلّم. وفي الخصائص الصغرى وخص عليه الصلاة والسلام بالإسراء وما تضمنه من خرق السموات السبع والعلو إلى قاب قوسين ووطئه مكانا ما وطئه نبي مرسل ولا ملك مقرب وأن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير مما يكون كرامة للولي، والمشهور تسمية ذلك بطي المسافة وهو من أعظم خوارق العادات وأنكر ثبوته للأولياء الحنفية ومنهم ابن وهبان قال:
ومن لولي قال طي مسافة يجوز جهول ثم بعض يكفر
وهذا منهم مع قولهم إذا ولد لمغربي ولد من امرأته المشرقية مثلا يلحق به وإن لم يلتقيا ظاهرا غريب، والكتب ملأى من حكايات الثقات هذه الكرامة لكثير من الصالحين، وكأن مجهل قائلها بنى تجهيله على أن في ذلك قولا بتداخل الجواهر وقد أحاله المتكلمون خلافا للنظام وبرهنوا على استحالته بما لا مزيد عليه، وادعى بعضهم الضرورة في ذلك، وأنت تعلم أن قطع المسافة الطويلة في الزمن القصير لا يتوقف على تداخل الجواهر لجواز أن يكون بالسرعة كما قالوا في الإسراء فليثبت للأولياء على هذا النحو على أن الكرامات كالمعجزات مجهولة الكيفية فنؤمن بما صح منها ونفوض كيفيته إلى من لا يعجزه شيء سبحانه وتعالى، ومثل طي المسافة ما يحكونه من نشر الزمان وأنا مؤمن ولله تعالى الحمد بما يصح نقله من الأمرين والمكفر جهول والمجهل ليس برسول والله تعالى الموفق للصواب وإليه المرجع والمآب وأول المسجد الحرام بمقام القلب المحترم عن أن يطوف به مشركو القوى البدنية ويرتكب فيه فواحشها وخطاياها، والمسجد الأقصى بمقام الروح الأبعد من العالم الجسماني لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا أي آيات صفاتنا من جهة أنها منسوبة إلينا ونحن المشاهدون بها وإلا فأصل مشاهدة الصفات في مقام القلب عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا قال سهل: أي إن عدتم إلى المعصية عدنا إلى المغفرة وإن عدتم إلى الإعراض عنا عدنا إلى الإقبال عليكم وإن عدتم إلى الفرار منا عدنا إلى أخذ الطريق عليكم لترجعوا إلينا.
وقال الوراق: إن عدتم إلى الطاعة عدنا إلى التيسير والقبول، وقيل: غير ذلك إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ الآية أي إن هذا القرآن يعرف أهله بنوره أقوم الطرق إلى الله تعالى وهو طريق الطاعة والاقتداء بمن أنزل عليه عليه الصلاة والسلام فإنه لا طريق يوصل إلا ذلك ولله تعالى در من قال:
وأنت باب الله أي امرئ أتاه من غيرك لا يدخل
وذكروا أن القرآن يرشد بظاهره إلى معاني باطنه وبمعاني باطنه إلى نور حقيقته وبنور حقيقته إلى أصل الصفة وبالصفة إلى الذات فطوبى لمن استرشد بالقرآن فإنه يدله على الله تعالى وقد أحسن من قال:
إذا نحن أدلجنا وأنت أمامنا كفى لمطايانا بنورك هاديا
ويبشر أهله الذين يتبعونه أن لهم أجر المشاهدة وكشفها بلا حجاب وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا فيه إشارة إلى أدب من آداب الدعاء وهو عدم الاستعجال فينبغي للسالك أن يصبر حتى يعرف ما يليق بحاله فيدعو به، وقال سهل: أسلم الدعوات الذكر وترك الاختيار لأن في الذكر الكفاية وربما يسأل الإنسان ما فيه هلاكه ولا يشعر، وفي الأثر يقول الله تعالى شأنه من شغله ذكرى عن مسألتي أعطيه أفضل ما أعطي السائلين وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ أي ليل الكون وظلمة البدن وَالنَّهارَ أي نهار الإبداع والروح آيَتَيْنِ يتوصل بهما إلى معرفة
49
ﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜ ﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪ ﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠ ﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋﰌﰍﰎ ﰐﰑﰒﰓﰔﰕﰖ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣ ﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰ ﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉ ﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨ ﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉ ﰋﰌﰍﰎﰏﰐﰑﰒﰓ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖ ﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕ ﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣ ﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷ ﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊﰋ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧ ﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃ ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑ ﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬ ﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ ﰿ ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭ ﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴ ﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋ ﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞ ﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯ ﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ
الذات والصفات فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ بالفساد والفناء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً منيرة باقية بكمالها تبصر بنورها الحقائق لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وهو كمالكم الذي تستعدونه وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي لتحصوا عدد المراتب والمقامات من بدايتكم إلى نهايتكم بالترقي فيها وحساب أعمالكم وأخلاقكم وأحوالكم فتبدلوا السيء من ذلك بالحسن وَكُلَّ شَيْءٍ من العلوم والحكم فَصَّلْناهُ بنور عقولكم الفرقانية الحاصلة لكم عند الكمال تفصيلا لا إجمال فيه كما في مرتبة العقل القرآني الحاصل عند البداية وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ الآية تقدم ما يصلح أن يكون من باب الإشارة فيها وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا للصوفية في هذا الرسول كغيرهم قولان، فمنهم من قال إنه رسول العقل، ومنهم من قال رسول الشرع وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها
الآية فيها إشارة إلى أنه سبحانه إذا أراد أن يخرب قلب المريد سلط عليه عساكر هوى نفسه وجنود شياطينه فيخرب بسنابك خيول الشهوات وآفات الطبعيات نعوذ بالله تعالى من ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ لكدورة استعداده وغلبة هواه وطبيعته عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً عن ذوي العقول مَدْحُوراً في سخط الله تعالى وقهره وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ
لصفاء استعداده وسلامة فطرته وَسَعى لَها سَعْيَها اللائق بها وهو السعي على سبيل الاستقامة وما ترتضيه الشريعة، وقال بعضهم: السعي إلى الدنيا بالأبدان والسعي إلى الآخرة بالقلوب والسعي على الله تعالى بالهمم وَهُوَ مُؤْمِنٌ ثابت الإيمان لا تزعزعه عواصف الشبه فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً مقبولا مثابا عليه، وعن أبي حفص أن السعي المشكور ما لم يكن مشوبا برياء ولا بسمعة ولا برؤية نفس ولا بطلب عوض بل يكون خالصا لوجهه تعالى لا يشاركه في ذلك شيء فلا تغفل كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ لا تأثير لإرادتهم وسعيهم في ذلك وإنما هي معرفات وعلامات لما قدرنا لهم من العطاء، ورأيت في الفتوحات المكية أن هذه الآية نحو قوله تعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٨] وهو نحو ما تقدم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وقد سمعت ما فيه وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً عن أحد مطيعا كان أو عاصيا لأن شأنه تعالى شأنه الإفاضة حسبما تقتضيه الحكمة انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الدنيا بمقتضى المشيئة والحكمة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا فهناك ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر رزقنا الله تعالى وإياكم ذلك أنه سبحانه الجواد المالك.
50
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم والمراد به أمته على حد إياك أعني فاسمعي يا جارة أو لكل أحد ممن يصلح للخطاب على حد وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا [الأنعام: ٢٧، ٣٠] فَتَقْعُدَ بالنصب على النهي، والقعود قيل بمعنى المكث كما تقول هو قاعد في أسوأ حال أي ماكث ومقيم سواء كان قائما أم جالسا، وقيل بمعنى العجز والعرب تقول: ما أقعدك عن المكارم أي ما أعجزك عنها، وقيل: بمعنى الصيرورة من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أي صارت، وتعقب هذا أبو حيان بأن مجيء قعد بمعنى صار مقصور عند الأصحاب على هذا المثل ولا يطرد، وقال بعضهم: إن اطرد فإنما يطرد في مثل الموضع الذي استعملته العرب فيه أولا يعني القول المذكور فلا
52
يقال: قعد كاتبا بمعنى صار بل قعد كأنه سلطان لكونه مثل قعدت كأنها حربة، ولعل من فسر القعود هنا بمعنى الصيرورة ذهب مذهب الفراء فإنه كما قال أبو حيان وغيره يقول باطراد ذلك وجعل منه قول الراجز المذكور في البحر والحواشي الشهابية ولا حجة فيه.
وحكى الكسائي قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها واستعمال البغداديين على هذا، ثم إنهم اختلفوا في القعود بمعنى العجز فقيل هو مجاز من القعود ضد القيام كالمقعد بمعنى العاجز عن القيام ثم تجوز به عن مطلق العجز، وقيل هو كناية عن العجز فإن من أراد أخذ شيء يقوم له ومن عجز قعد وأما القعود بمعنى الزمانة فحقيقة والإقعاد مجاز كأن مرضه أقعده وجعل هذا القعود بمعنى المكث حقيقة، وتعقب بأن فيه نظرا إلا أن يريد حقيقة عرفية لا لغوية لأنه ضد القيام وإذا جعل القعود هنا بمعنى العجز فالفعل لازم ومتعلقه محذوف أي فتعجز عن الفوز بالمقصود مثلا ومَذْمُوماً مَخْذُولًا إما خبران لتقعد على القول الأخير وإما حالان مترادفان أي فتقعد جامعا على نفسك الخذلان من الله تعالى والذم من الملائكة والمؤمنين أو من ذوي العقول حيث اتخذت محتاجا مفتقرا مثلك لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلها ونسبت إليه ما لا يصلح له وجعلته شريكا لمن له الكمال الذاتي وهو الذي خلقك ورزقك وأنعم عليك على ما عداه، وجوز أبو حيان أن يراد بالقعود حقيقته لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائرا متفكرا وهو من باب التعبير بالحال الغالبة، وفي الآية إشعار بأن الموحد جامع بين المدح والنصرة وَقَضى رَبُّكَ أخرج ابن جرير وابن المنذر من طريق علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال: أي أمر أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي بأن لا تعبدوا إلخ على أن مصدرية والجار قبلها مقدر ولا نافية والمراد النهي، ويجوز أن تكون ناهية كما مر ولا ينافيه التأويل بالمصدر كما أسلفناه أو أي لا تعبدوا إلخ على أن أن مفسرة لتقدم ما تضمن معنى القول دون حروفه ولا ناهية لا غير، وجوز بعضهم أن تكون أن مخففة واسمها ضمير شأن محذوف ولا ناهية أيضا وهو كما ترى وجوز أبو البقاء أن تكون أن مصدرية ولا زائدة والمعنى الزم ربك عبادته وفيه أن الاستثناء يأبى ذلك وفي الكشاف تفسير قضى بأمر أمرا مقطوعا به وجعل ذلك غير واحد من باب التضمين وجعل المضمن أصلا والمتضمن قيدا وقال بعضهم: أراد أن القضاء مجاز عن الأمر المبتوت الذي لا يحتمل النسخ ولو كان ذلك من التضمين لكان متعلق القضاء الأمر دون المأمور به وإلا لزم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى فيحتاج إلى تخصيص الخطاب بالمؤمنين فيرد عليه بأن جميع أوامر الله تعالى بقضائه فلا وجه للتخصيص.
وتعقب بأن ما ذكر متوجه لو أريد بالقضاء أخو القدر أما لو أريد به معناه اللغوي الذي هو البت والقطع المشار إليه فلا يرد ما ذكره، ثم إن لزوم أن لا يعبد أحد غير الله تعالى ادعاه ابن عباس فيما يروى للقضاء من غير تفصيل، فقد أخرج أبو عبيد وابن منيع وابن المنذر وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: أنزل الله تعالى هذا الحرف على لسان نبيكم «ووصى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» فلصقت إحدى الواوين بالصاد فقرأ الناس وَقَضى رَبُّكَ ولو نزلت على القضاء ما أشرك به أحد، وأخرج مثل ذلك عنه جماعة من طريق سعيد بن جبير وابن أبي حاتم من طريق الضحاك ورويت هذه القراءة عن ابن مسعود وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما أيضا وهذا إن صح عجيب من ابن عباس لاندفاع المحذور بحمل القضاء على الأمر ولا أقل كما هو مروي عنه أيضا نعم قيل إن ذلك معنى مجازي للقضاء وقيل إنه حقيقي، وفي مفردات الراغب القضاء فصل الأمر قولا كان أو فعلا وكل منهما إلهي وبشري فمن القول الإلهي قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر ربك إلى آخر ما قال، ثم إن هذا الأمر عند البعض بمعنى مطلق الطلب ليتناول طلب ترك العبادة لغيره تعالى، ويغني عن هذا التجوز كما قيل إن معنى لا تعبدوا غيره اعبدوه وحده فهو أمر باعتبار لازمه، وإنما اختير ذلك للإشارة إلى أن التخلية بترك ما سواه مقدمة مهمة هنا، وأمر سبحانه أن لا يعبدوا غيره تعالى لأن العبادة غاية التعظيم وهي لا تليق إلا لمن كان في غاية العظمة منعما بالنعم العظام
53
وما غير الله تعالى كذلك، وهذا وما عطف عليه من الأعمال الحسنة كالتفصيل للسعي للآخرة.
وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا بهما أو أحسنوا بهما إحسانا، ولعله إذا نظر إلى توحيد الخطاب فيما بعد قدر وأحسن بالتوحيد أيضا، والجار والمجرور متعلق بالفعل المقدر وهو الذي ذهب إليه الزمخشري ومنع تعلقه بالمصدر لأن صلته لا تتقدم عليه، وعلقه الواحدي به فقال الحلبي: إن كان المصدر منحلا بأن والفعل فالوجه ما ذهب إليه الزمخشري وإن جعل نائبا عن الفعل المحذوف فالوجه ما قاله الواحدي، ومذهب الكثير من النحاة جواز تقديم معموله إذا كان ظرفا مطلقا لتوسعهم فيه والجار والمجرور أخوه.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما إما مركبة من إن الشرطية وما المزيدة لتأكيدها.
قال الزمخشري: ولذا صح لحوق النون المؤكدة للفعل ولو أفردت إن لم يصح لحوقها واختلف في لحاقها بعد الزيادة فقال أبو إسحاق بوجوبه، وعن سيبويه القول بعدم الوجوب ويستشهد له بقول أبي حية النميري:
فإما ترى لمتي هكذا... قد أدرك الفتيات الخفارا
وعليه قول ابن دريد:
أما ترى رأسي حاكى لونه... طرة صبح تحت أذيال الدجى
ومعنى عِنْدَكَ في كنفك وكفالتك، وتقديمه على المفعول مع أن حقه التأخير عنه للتشويق إلى وروده فإنه مدار تضاعف الرعاية والإحسان، وأَحَدُهُما فاعل للفعل، وتأخيره عن الظرف والمفعول لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه وكِلاهُما معطوف عليه.
وقرأ حمزة والكسائي «إما يبلغان» فأحدهما على ما في الكشاف بدل من ألف الضمير لا فاعل والألف علامة التثنية على لغة أكلوني البراغيث فإنه رد بأن ذلك مشروط بأن يسند الفعل المثنى نحو قاما أخواك أو لمفرق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه نحو قاما زيد وعمرو وما هنا ليس كذلك. واستشكلت البدلية بأن أَحَدُهُما على ذلك بدل بعض من كل لا كل من كل لأنه ليس عينه وكِلاهُما معطوف عليه فيكون بدل كل من كل لكنه خال عن الفائدة على أن عطف بدل الكل على غيره مما لم نجده. وأجيب بأنا نسلم أنه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه لكنه لا يضر لأنه شأن التأكيد ولو سلم أنه لا بد من ذلك ففيه فائدة لأنه بدل مقسم كما قاله ابن عطية فهو كقوله:
فكنت كذي رجلين رجل صحيحة... وأخرى رمى فيها الزمان فشلت
وتعقب بأنه ليس من البدل المذكور لأنه شرطه العطف بالواو وأن لا يصدق المبدل منه على أحد قسميه وهنا قد صدق على أحدهما، وبالجملة هذا الوجه لا يخلو عن القيل والقال، وعن أبي علي الفارسي أن أَحَدُهُما بدل من ضمير التثنية وكِلاهُما تأكيد للضمير، وتعقب بأن التأكيد لا يعطف على البدل كما لا يعطف على غيره وبأن أحدهما لا يصلح تأكيدا للمثنى ولا غيره فكذا ما عطف عليه وبأن بين إبدال بدل البعض منه وتوكيده تدافعا لأن التأكيد يدفع إرادة البعض منه، ومن هنا قال في الدر المصون: لا بد من إصلاحه بأن يجعل أحدهما بدل بعض من كل ويضمر بعده فعل رافع لضمير تثنية وكِلاهُما توكيد له والتقدير أو يبلغان كلاهما وهو من عطف الجمل حينئذ لكن فيه حذف المؤكد وإبقاء تأكيده وقد منعه بعض النحاة وفيه كلام في مفصلات العربية، ولعل المختار إضمار فعل لم يتصل به ضمير التثنية وجعل كِلاهُما فاعلا له فإنه سالم عما سمعت في غيره ولذا اختاره في البحر، وتوحيد ضمير الخطاب في عِنْدَكَ وفيما بعده مع أن ما صرح به فيما سبق على الجمع للاحتراز عن التباس المراد وهو نهي كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما فإنه لو قوبل الجمع بالجمع أو التثنية بالتثنية لم يحصل ذلك، وذكر أنه وحد الخطاب
54
في لا تَجْعَلْ للمبالغة وجمع في أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنه أوفق لتعظيم أمر القضاء فَلا تَقُلْ لَهُما أي لواحد منهما حالتي الانفراد والاجتماع أُفٍّ هو اسم صوت ينبىء عن التضجر أو اسم فعل هو أتضجر واسم الفعل بمعنى المضارع وكذا بمعنى الماضي قليل والكثير بمعنى الأمر وفيه نحو من أربعين لغة والوارد من ذلك في القراءات سبع ثلاث متواترة وأربع شاذة. فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين وهو للتنكير فالمعنى أتضجر تضجرا ما وإذا لم ينون دل على تضجر مخصوص، وقرأ ابن كثير وابن عامر بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين وهو على أصل التقاء الساكنين والفتح للخفة ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء، وقرأ نافع في رواية عنه بالرفع والتنوين، وأبو السمال بالضم للاتباع من غير تنوين، وزيد بن علي رضي الله تعالى عنه بالنصب والتنوين، وابن عباس رضي الله تعالى عنهما بالسكون، ومحصل المعنى لا تتضجر مما يستقذر منهما وتستثقل من مؤنهما، والنهي عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا جليا لأنه يفهم بطريق الأولى ويسمى مفهوم الموافقة ودلالة النص وفحوى الخطاب، وقيل يدل على ذلك حقيقة ومنطوقا في عرف اللغة كقولك: فلان لا يملك النقير والقطمير فإنه يدل كذلك على أنه لا يملك شيئا قليلا أو كثيرا، وخص بعض أنواع الإيذاء بالذكر في قوله تعالى: وَلا تَنْهَرْهُما للاعتناء بشأنه والنهر كما قال الراغب الزجر بإغلاظ، وفي الكشاف النهي والنهر والنهم أخوات أي لا تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك.
وقال الإمام: المراد من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ المنع من إظهار الضجر القليل والكثير والمراد من قوله سبحانه وَلا تَنْهَرْهُما المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليهما والتكذيب لهما ولذا روعي هذا الترتيب وإلا فالمنع من التأفيف يدل على المنع من النهر بطريق الأولى فيكون ذكره بعده عبثا فتأمل.
وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي جميلا لا شراسة فيه، قال الراغب: كل شيء يشرف في بابه فإنه يوصف بالكرم، وجعل ذلك بعض المحققين من وصف الشيء باسم صاحبه أي قولا صادرا عن كرم ولطف ويعود بالآخرة إلى القول الجميل الذي يقتضيه حسن الأدب ويستدعيه النزول على المروءة مثل أن يقول يا أبتاه ويا أماه ولا يدعوهما بأسمائهما فإنه من الجفاء وسوء الأدب، وليس القول الكريم مخصوصا بذلك كما يوهمه اقتصار الحسن فيما أخرجه عنه ابن أبي حاتم عليه فإنه من باب التمثيل، وكذا ما أخرج عن زهير بن محمد أنه قال فيه: إذا دعواك فقل لبيكما وسعديكما.
وأخرج هو وابن جرير وابن المنذر عن أبي الهداج أنه قال: قلت لسعيد بن المسيب كل ما ذكر الله تعالى في القرآن من بر الوالدين فقد عرفته إلا قوله سبحانه: وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً ما هذا القول الكريم، فقال ابن المسيب قول العبد المذنب للسيد الفظ.
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي تواضع لهما وتذلل وفيه وجهان. الأول أن يكون على معنى جناحك الذليل ويكون جَناحَ الذُّلِّ بل خفض الجناح تمثيلا في التواضع وجاز أن يكون استعارة في المفرد وهو الجناح ويكون الخفض ترشيحا تبعيا أو مستقلا، الثاني أن يكون من قبيل قول لبيد:
وغداة ريح قد كشفت وقرة إذ أصبحت بيد الشمال زمامها
فيكون في الكلام استعارة مكنية وتخييلية بأن يشبه الذل بطائر منحط من علو تشبيها مضمرا ويثبت له الجناح تخييلا والخفض ترشيحا فإن الطائر إذا أراد الطيران والعلو نشر جناحيه ورفعهما ليرتفع فإذا ترك ذلك خفضهما، وأيضا هو إذا رأى جارحا يخافه لصق بالأرض وألصق جناحيه وهي غاية خوفه وتذلله، وقيل المراد بخفضهما ما يفعله إذا ضم
55
فراخه للتربية وأنه أنسب بالمقام، وفي الكشف أن في الكلام استعارة بالكناية ناشئة من جعل الجناح الذل ثم المجموع كما هو مثل في غاية التواضع ولما أثبت لذله جناحا أمره بخفضه تكميلا وما عسى يختلج في بعض الخواطر من أنه لما أثبت لذله جناحا فالأمر برفع ذلك الجناح أبلغ في تقوية الذل من خفضه لأن كمال الطائر عند رفعه فهو ظاهر السقوط إذا جعل المجموع تمثيلا لأن الغرض تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس، وأما على الترشيح فهو وهم لأن جعل الجناح المخفوض للذل يدل على التواضع وأما جعل الجناح وحده فليس بشيء ولهذا جعل تمثيلا فيما سلف.
وقرأ سعيد بن جبير «من الذل» بكسر الذال وهو الانقياد وأصله في الدواب والنعت فالمذلول وأما الذل بالضم فأصله في الإنسان وهو ضد العز والنعت منه ذليل مِنَ الرَّحْمَةِ أي من فرط رحمتك عليهما فمن ابتدائية على سبيل التعليل، قال في الكشف: ولا يحتمل البيان حتى يقال لو كان كذا لرجعت الاستعارة إلى التشبيه إذ جناح الذل ليس من الرحمة أبدا بل خفض جناح الذل جاز أن يقال إنه رحمة وهذا بين، واستفادة المبالغة من جعل جنس الرحمة مبدأ للتذلل فإنه لا ينشأ إلا من رحمة تامة، وقيل من كون التعريف للاستغراق وليس بذاك، وإنما احتاجا إلى ذلك لافتقارهما إلى من كان أفقر الخلق إليهما واحتياج المرء إلى من كان محتاجا إليه غاية الضراعة والمسكنة فيحتاج إلى أشد رحمة، ولله تعالى در الخفاجي حيث يقول:
يا من أتى يسأل عن فاقتي ما حال من يسأل من سائله
ما ذلة السلطان إلا إذا أصبح محتاجا إلى عامله
وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما وادع الله تعالى أن يرحمهما برحمته الباقية وهي رحمة الآخرة ولا تكتف برحمتك الفانية وهي ما تضمنها الأمر والنهي السالفان، وخصت الرحمة الأخروية بالإرادة لأنها الأعظم المناسب طلبه من العظيم ولأن الرحمة الدنيوية حاصلة عموما لكل أحد وجوز أن يراد ما يعم الرحمتين، وأيا ما كان فهذه الرحمة التي في الدعاء قيل إنها مخصوصة بالأبوين المسلمين، وقيل عامة منسوخة بآية النهي عن الاستغفار، وقيل عامة ولا نسخ لأن تلك الآية بعد الموت وهذه قبله ومن رحمة الله تعالى لهما أن يهديهما للإيمان فالدعاء بها مستلزم للدعاء به ولا ضير فيه، والقول بالنسخ أخرجه البخاري في الأدب المفرد. وأبو داود وابن جرير وابن المنذر من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: كَما رَبَّيانِي الكاف للتشبيه، والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي رحمة مثل تربيتهما لي أو مثل رحمتهما لي على أن التربية رحمة، وجوز أن يكون لهما الرحمة والتربية معا وقد ذكر أحدهما في أحد الجانبين والآخر في الآخر كما يلوح به التعرض لعنوان الربوبية في مطلع الدعاء كأنه قيل: رب ارحمهما وربهما كما رحماني وربياني صَغِيراً وفيه بعد.
وجوز أن تكون الكاف للتعليل أي لأجل تربيتهما لي وتعقب بأنه مخالف لمعناها المشهور مع إفادة التشبيه ما أفاده التعليل، وقال الطيبي: إن الكاف لتأكيد الوجود كأنه قيل رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله تعالى: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: ٢٣] قال في الكشف وهو وجه حسن وأما الحمل عليّ أن ما المصدرية جعلت حينا أي ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة كوقت رحمتهما علي في حال الصغر وأنا كلحم علي وضم وليس ذلك إلا في القيامة والرحمة هي الجنة والبت بأن هذا هو التحقيق فليت شعري الاستقامة وجهه في العربية ارتضاه أم لطباقه للمقام وفخامة معناه اه، وهو كما أشار إليه ليس بشيء يعول عليه، والظاهر أن الأمر للوجوب فيجب على الولد أن يدعو لوالديه بالرحمة، ومقتضى عدم إفادة الأمر التكرار أنه يكفي في الامتثال مرة
56
واحدة، وقد سئل سفيان كم يدعو الإنسان لوالديه في اليوم مرة أو في الشهر أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزيه إذا دعا لهما في آخر التشهدات كما أن الله تعالى قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ [الأحزاب: ٥٦] فكانوا يرون التشهد يكفي في الصلاة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وكما قال سبحانه: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ [البقرة: ٢٠٣] ثم يكبرون في أدبار الصلاة، هذا وقد بالغ عز وجل في التوصية بهما من وجوه لا تخفى ولو لم يكن سوى أن شفع الإحسان إليهما بتوحيده سبحانه ونظمهما في سلك القضاء بهما معا لكفى،
وقد روى ابن حبان والحاكم وقال:
صحيح على شرط مسلم عن النبي صلّى الله عليه وسلّم (١) قال «رضا الله تعالى في رضا الوالدين وسخط الله تعالى في سخط الوالدين»
وصح أن رجلا جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الجهاد معه فقال: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد،
وجاء أنه عليه الصلاة والسلام قال: «لو علم الله تعالى شيئا أدنى من آلاف لنهى عنه فليعمل العاق ما شاء أن يعمل فلن يدخل الجنة وليعمل البار ما شاء أن يعمل فلن يدخل النار».
ورأى ابن عمر رضي الله تعالى عنهما رجلا يطوف بالكعبة حاملا أمه على رقبته فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا ولا بطلقة واحدة ولكنك أحسنت والله تعالى يثيبك على القليل كثيرا.
وروى مسلم وغيره «لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه»
وروى البيهقي في الدلائل والطبراني في الأوسط والصغير بسند فيه من لا يعرف عن جابر قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن أبي أخذ مالي فقال النبي عليه الصلاة والسلام: «فاذهب فأتني بأبيك فنزل جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال:
إن الله تعالى يقرئك السلام ويقول: إذا جاءك الشيخ فسله عن شيء قاله في نفسه ما سمعته أذناه فلما جاء الشيخ قال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما بال ابنك يشكوك تريد أن تأخذ ماله؟ قال: سله يا رسول الله هل أنفقته إلا على عماته وخالاته أو على نفسي فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ايه دعنا من هذا أخبرني عن شيء قلته في نفسك ما سمعته أذناك فقال الشيخ: والله يا رسول الله ما يزال الله تعالى يزيدنا بك يقينا لقد قلت في نفسي شيئا ما سمعته أذناي فقال: قل وأنا أسمع فقال: قلت:
غذوتك مولودا ومنتك يافعا تعل بما أجني عليك وتنهل إذا ليلة ضافتك بالسقم لم أبت لسقمك إلا ساهرا أتملل كأني أنا المطروق دونك بالذي طرقت به دوني فعيني تهمل تخاف الردى نفسي عليك وإنها لتعلم أن الموت وقت مؤجل فلما بلغت السن والغاية التي إليها مدى ما كنت فيها أؤمل جعلت جزائي غلظة وفظاظة كأنك أنت المنعم المتفضل فليتك إذ لم ترع حق أبوتي فعلت كما الجار المجاور يفعل تراه معدا للخلاف كأنه برد على أهل الصواب موكل قال: فحينئذ أخذ النبي صلّى الله عليه وسلّم بتلابيب ابنه وقال: «أنت ومالك لأبيك»

والأم مقدمة في البر على الأب
فقد روى الشيخان يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال: ثم من؟ قال: أمك قال:
ثم من؟ قال: أبوك».
ولا يختص البر بالحياة بل يكون بعد الموت أيضا،
فقد روى ابن ماجة «يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال: نعم الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإيفاء عهدهما من بعدهما وصلة الرحم
(١) ورجح الترمذي وقفه اه منه.
57
التي لا توصل إلا بهما وإكرام صديقهما» ورواه ابن حبان في صحيحه بزيادة «قال الرجل: ما أكثر هذا يا رسول الله وأطيبه قال: فاعمل به».
وأخرج البيهقي عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن العبد ليموت والداه أو أحدهما وإنه لهما لعاق فلا يزال يدعو لهما ويستغفر لهما حتى يكتبه الله تعالى بارا، وأخرج عن الأوزاعي قال: بلغني أن من عق والديه في حياتهما ثم قضى دينا إن كان عليهما واستغفر لهما ولم يستسب لهما كتب بارا ومن بر والديه في حياتهما ثم لم يقض دينا إن كان عليهما ولم يستغفر لهما واستسب لهما كتب عاقا»
وأخرج هو أيضا وابن أبي الدنيا عن محمد بن النعمان يرفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من زار قبر أبويه أو أحدهما في كل جمعة غفر له وكتب برا».
وروى مسلم أن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لقيه رجل بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وحمله على حمار كان يركبه وأعطاه عمامة كانت على رأسه فقال ابن دينار فقلت له: أصلحك الله تعالى إنهم الأعراب وهم يرضون باليسير فقال: إن أبا هذا كان ودا لعمر بن الخطاب وإني سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إن أبر البر صلة الولد أهل ود أبيه».
وأخرج ابن حبان في صحيحه عن أبي بردة رضي الله تعالى عنه قال: قدمت المدينة فأتاني عبد الله بن عمر فقال: أتدري لم أتيتك؟ قال: قلت لا قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من أحب أن يصل أباه في قبره فليصل إخوان أبيه من بعده»
وإنه كان بين أبي عمر وبين أبيك إخاء وود فأحببت أن أصل ذلك. وقد ورد في فضل البر ما لا يحصى كثرة من الأحاديث، وصح عد العقوق من أكبر الكبائر وكونه منها هو ما اتفقوا عليه وظاهر كلام الأكثرين بل صريحه أنه لا فرق في ذلك بين أن يكون الوالدان كافرين وإن يكونا مسلمين، والتقييد بالمسلمين
في الحديث الحسن أنه صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الكبائر فقال: تسع أعظمهن الإشراك وقتل النفس المؤمنة بغير حق والفرار من الزحف وقذف المحصنة والسحر وأكل مال اليتيم وأكل الربا وعقوق الوالدين المسلمين،
إما لأن عقوقهما أقبح والكلام هناك في ذكر الأعظم على أحد التقديرين في عطف وقتل المؤمن وما بعده وإما لأنهما ذكرا للغالب كما في نظائر أخر.
وللحليمي هاهنا تفصيل مبني على رأي له ضعيف وهو أن العقوق كبيرة فإن كان معه نحو سب ففاحشة وإن كان عقوقه هو استثقاله لأمرهما ونهيهما والعبوس في وجوهما والتبرم بهما مع بذل الطاعة ولزوم الصمت فصغيرة فإن كان ما يأتيه من ذلك يلجئهما إلى أن ينقبضا فيتركا أمره ونهيه ويلحقهما من ذلك ضرر فكبيرة.
وبينهم في حد العقوق خلاف ففي فتاوى البلقيني مسألة قد ابتلي الناس بها واحتيج إلى بسط الكلام عليها وإلى تفاريعها ليحصل المقصود في ضمن ذلك وهي السؤال عن ضابط الحد الذي يعرف به عقوق الوالدين إذ الإحالة على العرف من غير مثال لا يحصل المقصود إذ الناس تحملهم أغراضهم على أن يجعلوا ما ليس بعرف عرفا فلا بد من مثال ينسج على منواله وهو أنه مثلا لو كان له على أبيه حق شرعي فاختار أن يرفعه إلى الحاكم ليأخذ حقه منه ولو حبسه فهل يكون ذلك عقوقا أولا؟ أجاب هذا الموضع قال فيه بعض الأكابر: إنه يعسر ضبطه وقد فتح الله تعالى بضابط أرجو من فضل الفتاح العليم أن يكون حسنا فأقول: العقوق لأحد الوالدين هو أن يؤذيه بما لو فعله مع غيره كان محرما من جملة الصغائر فينتقل بالنسبة إليه إلى الكبائر أو أن يخالف أمره أو نهيه فيما يدخل منه الخوف على الولد من فوت نفسه أو عضو من أعضائه ما لم يتهم الوالد في ذلك أو أن يخالفه في سفر يشق على الوالد وليس بفرض على الولد أو في غيبة طويلة فيما ليس بعلم نافع ولا كسب فيه أو فيه وقيعة في العرض لها وقع.
وبيان هذا الضابط أن قولنا: أن يؤذي الولد أحد والديه بما لو فعله مع غير والديه كان محرما فمثاله لو شتم غير
58
أحد والديه أو ضربه بحيث لا ينتهي الشتم أو الضرب إلى الكبيرة فإنه يكون المحرم المذكور إذا فعله الولد مع أحد والديه كبيرة، وخرج بقولنا أن يؤذي ما لو أخذ فلسا أو شيئا يسيرا من مال أحد والديه فإنه لا يكون كبيرة وإن كان لو أخذه من مال غير والديه بغير طريق معتبرا كان حراما لأن أحد الوالدين لا يتأذى بمثل ذلك لما عنده من الشفقة والحنو فإن أخذ مالا كثيرا بحيث يتأذى المأخوذ منه من الوالدين بذلك فإنه يكون كبيرة في حق الأجنبي فكذلك هنا لكن الضابط فيما يكون حراما صغيرة بالنسبة إلى غير الوالدين، وخرج بقولنا: ما لو فعله مع غير أحد الوالدين كان محرما نحو ما إذا طالب بدين فإن هذا لا يكون عقوقا لأنه إذا فعله مع غير الوالدين لا يكون محرما فافهم ذلك فإنه من النفائس، وأما الحبس فإن فرعناه على جواز حبس الوالد بدين الولد كما صححه جماعة فقد طلب ما هو جائز فلا عقوق وإن فرعنا على منع حبسه المصحح عند آخرين فالحاكم إذا كان معتقده ذلك لا يجيب إليه ولا يكون الولد بطلب ذلك عاقا إذا كان معتقدا الوجه الأول فإن اعتقد المنع وأقدم عليه كان كما لو طلب حبس من لا يجوز حبسه من الأجانب لاعسار ونحوه فإذا حبسه الولد واعتقاده المنع كان عاقا لأنه لو فعله مع غير والده حيث لا يجوز كان حراما، وأما مجرد الشكوى الجائزة والطلب الجائز فليس من العقوق في شيء، وقد شكا بعض ولد الصحابة إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام وهو الذي لا يقر على باطل، وأما إذا نهر أحد والديه فإنه إذا فعل ذلك مع غير الوالدين وكان محرما كان في حق أحد الوالدين كبيرة وإن لم يكن محرما، وكذا أف فإن ذلك يكون صغيرة في حق أحد الوالدين ولا يلزم من النهي عنهما والحال ما ذكر أن يكونا من الكبائر وقولنا أو أن يخالف أمره ونهيه فيما يدخل منه الخوف إلخ أردنا به السفر للجهاد ونحوه من الأسفار الخطرة لما يخاف من فوات نفس الولد أو عضو من أعضائه لشدة تفجع الوالدين على ذلك،
وقد ثبت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من حديث عبد الله بن عمرو في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلّى الله عليه وسلّم للجهاد أنه عليه الصلاة والسلام قال له: أحي والداك؟ قال: نعم قال: ففيهما فجاهد
وفي رواية ارجع إليهما ففيهما المجاهدة
وفي أخرى جئت أبايعك على الهجرة وتركت أبوي يبكيان فقال: ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما،
وفي إسناده عطاء بن السائب لكن من رواية سفيان عنه.
وروى أبو سعيد الخدري أن رجلا هاجر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: هل لك أحد باليمن؟ قال: أبواي قال: أذنا لك قال: لا قال: فارجع فاستأذنهما فإن أذنا لك فجاهد وإلا فبرهما. ورواه أبو داود
وفي إسناده من اختلف في توثيقه، وقولنا: ما لم يتهم الوالد في ذلك أخرجنا به ما لو كان الوالد كافرا فإنه لا يحتاج الولد إلى إذنه في الجهاد ونحوه، وحيث اعتبرنا إذن الوالد فلا فرق بين أن يكون حرا أو عبدا، وقولنا: أو أن يخالفه في سفر إلخ أردنا به السفر لحج التطوع حيث كان فيه مشقة وأخرجنا بذلك حج الفرض وإذا كان فيه ركوب البحر يجب ركوبه عند غلبة السلامة فظاهر الفقه أنه لا يجب الاستئذان ولو قيل بوجوبه لما عند الوالد من الخوف في ركوب البحر وإن غلبت السلامة لم يكن بعيدا، وأما سفره للعلم المتعين أو لفرض الكفاية فلا منع منه وإن كان يمكنه التعلم في بلده خلافا لمن اشترط ذلك لأنه قد يتوقع في السفر فراغ قلب وإرشاد أستاذ ونحو ذلك فإن لم يتوقع شيئا من ذلك احتاج إلى الاستئذان وحيث وجبت النفقة للوالد على الولد وكان في سفره تضييع للواجب فللوالد المنع، وأما إذا كان الولد بسفره يحصل وقيعة في العرض لها وقع بأن يكون أمرد ويخاف من سفره تهمة فإنه يمنع من ذلك وذلك في الأنثى أولى، وأما مخالفة أمره ونهيه فيما لا يدخل على الولد فيه ضرر بالكلية وإنما هو مجرد إرشاد للولد فلا تكون عقوقا وعدم المخالفة أولى اه كلام البلقيني «وذكر بعض المحققين» أن العقوق فعل ما يحصل منه لهما أو لأحدهما إيذاء ليس بالهين عرفا. ويحتمل أن العبرة بالمتأذي لكن لو كان الوالد مثلا في غاية الحمق أو سفاهة العقل فأمر أو نهى ولده بما لا يعد مخالفته فيه في العرف عقوقا لا يفسق ولده بمخالفته حينئذ لعذره وعليه فلو كان متزوجا بمن يحبها فأمره بطلاقها ولو لعدم عفتها فلم يمتثل أمره لا إثم عليه، نعم الأفضل طلاقها امتثالا
59
لأمر والده،
فقد روى ابن حبان في صحيحه أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن أبي لم يزل بي حتى زوجني امرأة وإنه الآن يأمرني بفراقها قال: ما أنا بالذي آمرك أن تعق والديك ولا بالذي آمرك أن تطلق زوجتك غير أنك إن شئت حدثتك بما سمعت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سمعته يقول: «الوالد أوسط أبواب الجنة» فحافظ على ذلك إن شئت أو دع، وروى أصحاب السنن الأربعة وابن حبان في صحيحه
وقال الترمذي حديث حسن صحيح
عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال كان تحتي امرأة أحبها وكان عمر يكرهها فقال لي طلقها فأبيت فأتى عمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: طلقها
، وكذا سائر أوامره التي لا حامل لها إلا ضعف عقله وسفاهة رأيه ولو عرضت على أرباب العقول لعدوها متساهلا فيها ولرأوا أنه لا إيذاء بمخالفتها ثم قال: هذا هو الذي يتجه في تقرير الحد. وتعقب ما نقل عن البلقيني بأن تخصيصه العقوق بفعل المحرم الصغيرة بالنسبة للغير فيه وقفة بل ينبغي أن المدار على ما ذكر من أنه لو فعل معه ما يتأذى به تأذيا ليس بالهين عرفا كان كبيرة وإن لم يكن محرما لو فعله مع الغير كأن يلقاه فيقطب في وجهه أو يقدم عليه في ملأ فلا يقوم إليه ولا يعبأ به ونحو ذلك مما يقضي أهل العقل والمروءة من أهل العرف بأنه مؤذ إيذاء عظيما فتأمل.
ثم إن السبب في تعظيم أمر الوالدين أنهما السبب الظاهري في إيجاده وتعيشه ولا يكاد تكون نعمة أحد من الخلق على الولد كنعمة الوالدين عليه، لا يقال عليه: إن الوالدين إنما طلبا تحصيل اللذة لأنفسهما فلزم منه دخول الولد في الوجود ودخوله في عالم الآفات والمخافات فأي إنعام لهما عليه، وقد حكي أن واحدا من المتسمين بالحكمة كان يضرب أباه ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد وعرضني للموت والفقر والعمى والزمانة، وقيل لأبي العلاء المعري ولم يكن ذا ولد: ما نكتب على قبرك فقال: اكتبوا عليه:
هذا جناه أبي عليّ... وما جنيت على أحد
وقال في ترك التزوج وعدم الولد:
وتركت فيهم نعمة العدم التي... سبقت وصدت عن نعيم العاجل
ولو إنهم ولدوا لنالوا شدة... ترمي بهم في موبقات الآجل
وقال ابن رشيق:
قبح الله لذة لشقانا... نالها الأمهات والآباء
نحن لولا الوجود لم نألم الفق... د فإيجادنا علينا بلاء
وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم منة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منة لأنه تحمل أنواع الشدائد والمحن عند تعليمي حتى أوقفني على نور العلم وأما الوالد فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه فأخرجني إلى عالم الكون والفساد لأنا نقول: هب أنه في أول الأمر كان المطلوب لذة الوقاع إلا أن الاهتمام بإيصال الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات ودفع الآفات من أول دخول الولد في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر أعظم من جميع ما يتخيل من جهات الخيرات والمبرات، وقد يقال: لو كان الإدخال في عالم الكون والفساد والتعريض للأكدار والأنكاد دافعا لحق الوالدين لزم أن يكون دافعا لحق الله تعالى لأنه سبحانه الفاعل الحقيقي، وأيضا يعارض ذلك التعريض للنعيم المقيم والثواب العظيم كما لا يخفى على ذي العقل السليم، ولعمري أن إنكار حقهما إنكار لأجل الأمور ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البر إليهما وانعقاد ما يجب من التوقير لهما، وهو على ما قيل تهديد على أن يضمر لهما
60
كراهة واستثقالا، وفي الكشف أنه كالتعليل لما أكد عليهم من الإحسان إلى الوالدين بأن الله تعالى أعلم بما في ضمائرهم من ذلك فمجازيهم على حسبه، والظاهر أنه وعد لمن أضمر البر ووعيد لغيره لكن غلب ذلك الجانب لأن الكلام بالأصالة فيه إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين الصلاح والبر دون العقوق والفساد فَإِنَّهُ تعالى شأنه كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي الراجعين إليه تعالى التائبين عما فرط منهم مما لا يكاد يخلو من البشر غَفُوراً لما وقع منهم من نوع تقصير أو أذية، وهذا كما في الكشف تيسير بعد التأكيد والتعسير مع تضييق وتحذير وذلك أنه شرط في البادرة التي تقع على الندرة قصد الصلاح وعبر عنه بنفس الصلاح ولم يصرح بصدورها بل رمز إليه بقوله تعالى: فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً لدلالة المغفرة على الذنب والأواب أيضا فإن التوبة عن ذنب يكون بشرط قصد الصلاح وأن يتوب عنه مع ذلك التوبة البالغة، وهو استئناف ثان يقتضيه مقام التأكيد والتشديد كأنه قيل: كيف نقوم بحقهما وقد يندر بوادر؟ فقيل إذا بنيتم الأمر على الأساس وكان المستمر ذلك ثم اتفق بادرة من غير قصد إلى المساءة فلطف الله تعالى يحجز دون عذابه قائما بالكلاءة، وكون الآية في البادرة تكون من الرجل إلى والديه مروي عن ابن جبير، وجوز أن تكون عامة لكل تائب ويندرج الجاني على أبويه التائب من جنايته اندراجا أوليا وَآتِ ذَا الْقُرْبى أي ذا القرابة منك حَقَّهُ الثابت له، قيل ولعل المراد بذي القربى المحارم وبحقهم النفقة عليهم إذا كانوا فقراء عاجزين عن الكسب عما ينبىء عنه قوله تعالى: وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ فإن المأمور به في حقهما المساواة المالية أي وآتهما حقهما مما كان مفترضا بمكة بمنزلة الزكاة وكذا النهي عن التبذير وعن الإفراط في القبض والبسط فإن الكل من التصرفات المالية، واستدل بعضهم بالآية على إيجاب نفقة المحارم المحتاجين وإن لم يكونوا أصلا كالوالدين ولا فرعا كالولد، والكلام من باب التعميم بعد التخصيص فإن ذا القربى يتناول الوالدين لغة وإن لم يتناوله عرفا فلذا قالوا في باب الوصية المبنية على العرف: لو أوصى لذوي قرابته لا يدخلان،
وفي المعراج عن النبي صلّى الله عليه وسلّم من قال لأبيه قريبي فقد عقه،
والغرض من ذلك تناول غيرهما من الأقارب والتوصية بشأنه.
وفي الكشف أن الحق أن إيتاء الحق عام والمقام يقتضي الشمول فيتناول الحق المالي وغيره من الصلة وحسن المعاشرة فلا تنتهض الآية دليلا على إيجاب نفقة المحارم، وتعقب أن قوله تعالى: حَقَّهُ يشعر باستحقاق ذلك لاحتياجه مع أنه إذا عم دخل فيه المالي وغيره فكيف لا تنتهض الآية دليلا وأنا ممن يقول بالعموم وعدم اختصاص ذي القربى بذي القرابة الولادية، والعطف وكذا ما بعده لا يدل على تخصيص قطعا فتدبر، وقيل: المراد بذي القربى أقارب الرسول صلّى الله عليه وسلّم وروي ذلك عن السدي،
وأخرج ابن جرير عن علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما أنه قال لرجل من أهل الشام: أقرأت القرآن؟ قال: نعم قال: أفما قرأت في بني إسرائيل فآت ذا القربى حقه؟ قال: وإنكم القرابة الذي أمر الله تعالى أن يؤتى حقه؟ قال: نعم
ورواه الشيعة عن الصادق رضي الله تعالى عنه وحقهم توقيرهم وإعطاؤهم الخمس
، وضعف بأنه لا قرينة على التخصيص، وأجيب بأن الخطاب قرينة وفيه نظر، وما
أخرجه البزار وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي سعيد الخدري من أنه لما نزلت هذه الآية دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاطمة فأعطاها فدكا
لا يدل على تخصيص الخطاب به عليه الصلاة والسلام على أن القلب من صحة الخبر شيء بناء على أن السورة مكية وليست هذه الآية من المستثنيات وفدك لم تكن إذ ذاك تحت تصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بل طلبها رضي الله تعالى عنها ذلك إرثا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام كما هو المشهور يأبى القول بالصحة كما لا يخفى وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً نهى عن صرف المال إلى من لا يستحقه فإن التبذير إنفاق في غير موضعه مأخوذ من تفريق البذر وإلقائه في الأرض كيفما كان من غير تعهد لمواقعه، وقد أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن
61
ابن مسعود أنه قال: التبذير إنفاق المال في غير حقه، وفي مفردات الراغب وغيره أن أصله إلقاء البذر وطرحه ثم استعير لتضييع المال، وعد من ذلك بعضهم تشييد الدار ونحوه، وفرق الماوردي بينه وبين الإسراف بأن الإسراف تجاوز في الكمية وهو جهل بمقادير الحقوق والتبذير تجاوز في موقع الحق وهو جهل بالكيفية وبمواقعها وكلاهما مذموم والثاني أدخل في الذم.
وفسر الزمخشري التبذير هنا بتفريق المال فيما لا ينبغي وإنفاقه على وجه الإسراف، وذكر أن فيه إشارة إلى أن التبذير شامل للإسراف في عرف اللغة ويراد منه حقيقة وإن فرق بينهما بما فرق، وفي الكشف بعد نقل الفرق والنص على أن الثاني أدخل في الذم أن الزمخشري لم يغب ذلك عليه لأن الاشتقاق يرشد إليه وإنما أراد أنه في الآية يتناول الإسراف أيضا بطريق الدلالة إذ لا يفترقان في الأحكام لا سيما وقد عقبه سبحانه بالحث على الاقتصاد المناسب لاعتبار الكمية المرشد إلى إرادته من النص، وتعقب بأنه إذا كان التبذير أدخل في الذم من الإسراف كيف يتناوله بطريق الدلالة والنهي عن الإسراف فيما بعد يبعد إرادته هاهنا فتأمل.
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ تعليل للنهي عن التبذير ببيان أنه يجعل صاحبه ملزوزا في قرن الشياطين، والإخوان جمع أخ والمراد به الممائل مجازا أي إنهم مماثلون لهم في صفات السوء التي من جملتها التبذير أو الصديق والتابع مجازا أيضا أي إنهم أصدقاؤهم وأتباعهم فيما ذكر من التبذير والصرف في المعاصي فإنهم كانوا ينحرون الإبل ويتياسرون عليها ويبذرون أموالهم في السمعة وسائر ما لا خير فيه من المناهي والملاهي أو القرين كما سبق أيضا أي أنهم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد.
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل أي مبالغا في كفران نعمه تعالى لأن شأنه صرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى والقدر إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي والإفساد في الأرض وإضلال الناس وحملهم على الكفر بالله تعالى وكفران نعمه الفائضة عليهم وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به.
وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر الذي هو صرفها إلى ما خلقت له، وفي التعرض لعنوان الربوبية إشعار بكمال عتوه كما لا يخفى. ويشعر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان وليس بذاك.
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل على ما هو الظاهر، وقيل عن السائلين مطلقا، والإعراض في الأصل إظهار العرض أي الناحية فمعنى أعرض عنه ولى مبديا عرضه، والمراد به هنا حقيقته على ما قيل بناء على ما
روي من أنه صلّى الله عليه وسلّم كان إذا سئل شيئا ليس عنده صرف وجهه الشريف وسكت فنزلت وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها
والخطاب عام له صلّى الله عليه وسلّم ولغيره والمراد بالرحمة على ما أخرج ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد والضحاك الرزق، ونصب ابْتِغاءَ على أنه مفعول له.
قال في الكشف قد أقيم ابتغاء الرزق مقام فقدانه وفيه لطف فكان ذلك الإعراض لأجل السعي لهم وهو من وضع المسبب موضع السبب كما أوضحه في الكشاف، وقد يفسر الابتغاء بالانتظار ويجوز جعله في موضع الحال من ضمير تُعْرِضَنَّ أي مبتغيا، وجعله حالا من الضمير المجرور بعيد.
وجوز أن يكون الإعراض كناية عن عدم النفع وترك الإعطاء لأنه لازمه عرفا والابتغاء مجازا عن عدم الاستطاعة والتعلق أيضا بالشرط وأيد ذلك بما
أخرجه سعيد بن منصور. وابن المنذر عن عطاء الخراساني قال: جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا» ظنوا ذلك من غضب
62
رسول الله عليه الصلاة والسلام عليهم فأنزل الله سبحانه: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ الآية
وفسر الرحمة بالفيء لكن أنت تعلم أن هذا غير ظاهر بناء على ما سمعت من أن هذه السورة مكية والآية المذكورة ليست من المستثنيات، وكأنه لهذا قيل: إن المعنى إن ثبت وتحقق في المستقبل أنك أعرضت عنهم في الماضي ابتغاء رحمة من ربك ترجوها فقل إلخ والمراد سببية الثبوت للأمر بالقول فتأمل.
وجوز أن يتعلق ابْتِغاءَ بجواب الشرط أعني قوله تعالى: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي إما تعرضن عنهم فقل لهم ذلك ابتغاء رحمة من ربك، وقدم هذا الوجه على سائر الأوجه الزمخشري واعترض بأن ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها في غير باب إما وما يلحق بها. وأجيب بأنه ذكره على المذهب الكوفي المجوز للعمل مطلقا أو أراد التعلق المعنوي فيضمر ما ينصبه ويجعل المذكور جاريا مجرى التفسير، والإعراض على هذا على حقيقته، واحتمال كونه كناية مختص بتعلقه بالشرط على ما زعمه الطيبي والحق عدم الاختصاص كما لا يخفى.
وجملة تَرْجُوها على سائر الأوجه يحتمل أن تكون وصفا لرحمة وأن تكون حالا من الفاعل ومِنْ رَبِّكَ متعلق بترجوها.
وجوز أن يكون صفة لرحمة، والميسور اسم مفعول من يسر الأمر بالبناء للمجهول مثل سعد الرجل ومعناه السهل أي فقل لهم قولا سهلا لينا وعدهم وعدا جميلا، قال الحسن: أمر أن يقول لهم نعم وكرامة وليس عندنا اليوم فإن يأتنا شيء نعرف حقكم، وقيل الميسور مصدر وجعل صفة مبالغة أو بتقدير مضاف أي قولا ذا ميسور أي يسر والمراد به القول المشتمل على الدعاء باليسر مثل أغناكم الله تعالى ويسر لكم، وفسره ابن زيد برزقنا الله تعالى وإياكم بارك الله تعالى فيكم.
وتعقب ذلك بأن الميسور معناه ذا يسر ولهذا وقع صفة لقول فأي ضرورة في أن يجعل مصدرا ثم يؤول بذا ميسور، ودفع بأنه إذا أريد القول المشتمل على الدعاء لا يكون القول حينئذ ميسورا بل ميسر لما أرادوه.
وميسور مصدرا مما ثبت في اللغة من غير تكلف فجعله صفة مبالغة أو بتقدير مضاف له وجه وجيه وفيه تأمل.
والحق أن اعتباره مصدرا خلاف الظاهر، وفي الآية على القول الأخير دلالة على أن الدعاء للسائل مما لا بأس به، وعن الإمام مالك رحمه الله تعالى أنه كان لا يرى أن يقال للسائل إذا لم يعط شيئا: رزقك الله تعالى ونحوه قائلا إن ذلك مما يثقل عليه ويكره سماعه ولا ينبغي أن يذكر اسم الله تعالى لمن لا يهش له، ولعمري إنه مغزى بعيد، وأفاد بعضهم أن في الآية دليلا على النهي عن الإعراض بالمعنى الأول فإن المعنى إن أردت الإعراض عنهم فقل لهم قولا ميسورا ولا تعرض وله وجه وجيه لا يخفى على من له بصر حديد. واستشكل العز بن عبد السلام جعل ابْتِغاءَ من متعلقات الشرط بأنا مأمورون بالرد الجميل إن انتظرنا شيئا يحصل لنا أو لم ننتظر. وأجاب بأن المراد بالقول الميسور الوعد بالعطاء فيكون مفاد الآية لا تعدوا إلا إذا كنتم على رجاء من حصول ما تعدون به فالتقييد بالابتغاء في غاية المناسبة للشرط لأنه لا يحسن الوعد عند عدم الرجاء لما أنه يؤدي إلى الإخلاف وهو كما ترى.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ تمثيلان لمنع الشحيح وإسراف المبذر زجرا لهما عنهما وحملا على ما بينهما من الاقتصاد والتوسط بين الإفراط والتفريط وذلك هو الجود الممدوح فخير الأمور أوساطها
وأخرج أحمد وغيره عن ابن عباس قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عمر قال قال رسول الله عليه الصلاة والسلام «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «التدبير نصف المعيشة والتودد نصف العقل والهم نصف الهرم وقلة العيال أحد اليسارين»
وكان يقال حسن التدبير مع العفاف خير
63
من الغنى مع الإسراف فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي فتصير ملوما عند الله تعالى وعند الناس مَحْسُوراً نادما مغموما أو منقطعا بك لا شيء عندك من حسره السفر أعياه وأوقفه حتى انقطع عن رفقته، قال الراغب: يقال للمعيي حاسر ومحسور أما الحاسر فتصور أنه قد حسر بنفسه قواه وأما المحسور فتصور أن التعب قد حسره وهذا بيان قبح الإسراف المفهوم من النهي الأخير، وبين في أثره لأن غائلة الإسراف في آخره وحيث كان قبح الشح المفهوم من النهي الأول مقارنا له معلوما من أول الأمر روعي ذلك في التصوير بأقبح الصور ولم يسلك فيه مسلك ما بعده كذا قيل، وفي أثر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أخرجه عنه ابن جرير وابن أبي حاتم ما يقتضيه، وقال بعض المحققين: الأولى أن يكون ذلك بيانا لقبح الأمرين ويعتبر التوزيع «فتقعد» منصوب في جواب النهيين والملوم راجع إلى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كما قيل: إن البخيل ملوم حيثما كانا والمحسور راجع إلى قوله سبحانه: وَلا تَبْسُطْها وليس ببعيد.
وفي الكشاف عن جابر: «بينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس إذ أتاه صبي فقال: إن أمي تستكسيك درعا فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر فعد إلينا فذهب إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك فدخل صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا وأذن بلال وانتظر فلم يخرج عليه الصلاة والسلام إلى الصلاة فنزلت»
وأنت تعلم أنه يأبى هذا كون السورة مكية والآية ليست من المستثنيات ولعل الخبر لم يثبت فعن ولي الدين العراقي أنه لم يجده في شيء من كتب الحديث أي بهذا اللفظ وإلا
فقد أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا فقال: ما عندنا اليوم شيء قال: فتقول لك اكسني قميصك فخلع عليه الصلاة والسلام قميصه فدفعه إليه وجلس في البيت حاسرا فنزلت، وأخرج ابن أبي حاتم عن المنهال ابن عمرو نحوه
وليس في شيء منهما حديث أذان بلال وما بعده،
وقيل: إنه عليه الصلاة والسلام أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل وعيينة بن حصن الفزاري فجاء عباس بن مرداس فأنشأ يقول:
أتجعل نهبي ونهب العبي د بين عيينة والأقرع وما كان حصن ولا حابس يفوقان مرداس في مجمع وما كنت دون امرئ منهما ومن يخفض اليوم لم يرفع فقال صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر اقطع لسانه عني أعطه مائة من الإبل وكانوا جميعا من المؤلفة قلوبهم فنزلت
، وفيه الإباء السابق كما لا يخفى، وكذا ما
أخرجه سعيد بن منصور وابن المنذر عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بزمن العراق وكان معطاء كريما فقسمه بين الناس فبلغ ذلك قوما من العرب فقالوا: نأتي النبي صلّى الله عليه وسلّم نسأله فوجدوه قد فرغ منه فأنزل الله تعالى الآية.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ تعليل لقوله سبحانه وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ إلخ كأنه قيل: إن أعرضت عنهم لفقد الرزق فقل لهم قولا ميسورا ولا تهتم لذلك فإن ذلك ليس لهوان منك عليه تعالى بل لأن بيده جل وعلا مقاليد الرزق وهو سبحانه يوسعه على بعض ويضيقه على بعض حسبما تتعلق به مشيئته التابعة للحكمة فما يعرض لك في بعض الأحيان من ضيق الحال الذي يحوجك إلى الإعراض ليس إلا لمصلحتك فيكون قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ إلخ معترضا تأكيدا لمعنى ما تقتضيه حكمته عز وجل من القبض والبسط، وقوله تعالى: إِنَّهُ سبحانه كانَ لم يزل ولا يزال بِعِبادِهِ جميعهم خَبِيراً عالما بسرهم بَصِيراً عالما بعلنهم فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم تعليل لسابقه، وجوز أن يكون ذلك تعليلا للأمر بالاقتصاد المستفاد من النهيين إما على معنى أن البسط والقبض أمران مختصان بالله تعالى وأما أنت فاقتصد واترك ما هو مختص به جل وعلا أو على معنى أنكم إذا تحققتم
64
شأنه تعالى شأنه وأنه سبحانه يبسط ويقبض وأمعنتم النظر في ذلك وجدتموه تعالى مقتصدا فاقتصدوا أنتم واستنوا بسنته، وجعله بعضهم تعليلا لجميع ما مر وفيه خفاء كما لا يخفى، وجوز كونه تعليلا للنهي الأخير على معنى أنه تعالى يبسط ويقبض حسب مشيئته فلا تبسطوا على من قدر عليه رزقه وليس بشيء.
وجوز أيضا كونه تمهيدا لقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ واستبعد بأن الظاهر حينئذ فلا.
الإملاق الفقر كما روي عن ابن عباس وأنشد له قول الشاعر:
وإني على الإملاق يا قوم ماجد أعد لأضيافي الشواء المصهبا
وظاهر اللفظ النهي عن جميع أنواع قتل الأولاد ذكورا كانوا أو إناثا مخافة الفقر والفاقة لكن روي أن من أهل الجاهلية من كان يئد البنات مخافة العجز عن النفقة عليهن فنهى في الآية عن ذلك فيكون المراد بالأولاد البنات وبالقتل الوأد، والخشية في الأصل خوف يشوبه تعظيم، قال الراغب: وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه.
وقرىء بكسر الخاء، والظاهر أن هذا النهي معطوف على ما تقدم من نظيره، وجوز الطبرسي أن يكون عطفه على قوله سبحانه: أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وحينئذ فيحتمل أن يكون الفعل منصوبا بأن كما في الفعل السابق.
نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ ضمان لرزقهم وتعليل للنهي المذكور بإبطال موجبه في زعمهم أي نحن نرزقهم لا أنتم فلا تخافوا الفقر بناء على علمكم بعجزهم عن تحصيل رزقهم، وتقديم ضمير الأولاد على ضمير المخاطبين على عكس ما وقع في سورة الأنعام للإشعار بأصالتهم في إفاضة الرزق، وعارض هذه النكتة هناك تقدم ما يستدعي الاعتناء بشأن المخاطبين من الآيات كذا قيل. وجوز المولى شيخ الإسلام كون ذلك لأن الباعث على القتل هناك الإملاق الناجز ولذلك قيل من إملاق وهاهنا الإملاق المتوقع ولذلك قيل: خشية إملاق فكأنه قيل: نرزقهم من غير أن ينقص من رزقكم شيء فيعتريكم ما تخشونه وإياكم أيضا رزقا إلى رزقكم.
إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً تعليل آخر ببيان أن المنهي عنه في نفسه منكر عظيم لما فيه من قطع التناسل وقطع النوع، والخطأ كالإثم لفظا ومعنى وفعلهما من باب علم وقرأ أبو جعفر وابن ذكوان عن عامر (خطأ) بفتح الخاء والطاء من غير مد، وخرج ذلك الزجاج على وجهين، الأول أن يكون اسم مصدر من أخطأ يخطىء إذا لم يصب أي إن قتلهم كان غير صواب، والثاني أن يكون لغة في الخطأ بمعنى الإثم مثل مثل ومثل وحذر وحذر فمن استشكل هذه القراءة بأن الخطأ ما لم يتعمد وليس هذا محله فقد نادى على نفسه بقلة الاطلاع.
وقرأ ابن كثير «خطاء» بكسر الخاء وفتح الطاء والمد وخرج على وجهين أيضا. الأول أن يكون لغة في الخطء بمعنى الإثم مثل دبغ ودباغ ولبس ولباس، والثاني أن يكون مصدر خاطأ يخاطىء خطاء مثل قاتل يقاتل قتالا. قال أبو علي الفارسي: وإن كنا لم نجد خاطأ لكن وجد تخطأ مطاوعه فدلنا عليه وذلك في قولهم: تخطأت النبل أحشاءه، وأنشد محمد بن السوي في وصف كماءة كما في مجمع البيان:
وأشعث قد ناولته أحرش الفري أدرت عليه المدجنات الهواضب
تخطأه القناص حتى وجدته وخرطومه في منقع الماء راسب
والمعنى على هذا إن قتلهم كان عدولا عن الحق والصواب فقول أبي حاتم إن هذه القراءة غلط غلط. وقرأ الحسن «خطاء» بفتح الخاء والطاء مع المد وهو اسم مصدر أخطى كالعطاء اسم مصدر أعطى، وقرأ الزهري وأبو رجاء «خطأ» بكسر الخاء وفتح الطاء وألف في آخره مبدلة من الهمزة وليس من قصر الممدود لأنه ضرورة لا داعي إليه،
65
وفي رواية عن ابن عامر أنه قرأ «خطا» كعصا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى بمباشرة مباديه القريبة أو البعيدة فضلا عن مباشرته، والنهي عن قربانه على خلاف ما سبق ولحق للمبالغة في النهي عن نفسه ولأن قربانه داع إلى مباشرته، وفسره الراغب بوطء المرأة من غير عقد شرعي، وجاء فيه المد والقصر وإذا مد يصح أن يكون مصدر المفاعلة، وتوسيط النهي عنه بين النهي عن قتل الأولاد والنهي عن قتل النفس المحرمة مطلقا كما قال شيخ الإسلام باعتبار أنه قتل للأولاد لما أنه تضييع للأنساب فإن من لم يثبت نسبه ميت حكما.
إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة ظاهرة القبح زائدته وَساءَ سَبِيلًا أي وبئس السبيل سبيلا لما فيه من اختلال أمر الأنساب وهيجان الفتن،
وقد روى الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن»
وجاء في غير رواية أنه إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان فكان فوق رأسه كالظلة فإن تاب ونزع رجع إليه وهو من الكبائر، وفاحشة مطلقا على ما أجمع عليه المحققون بل في الحديث الصحيح أنه بحليلة الجار من أكبر الكبائر، وزعم الحليمي أنه فاحشة إن كان بحليلة الجار أو بذات الرحم أو بأجنبية في شهر رمضان أو في البلد الحرام وكبيرة وإن كان مع امرأة الأب أو حليلة الابن أو مع أجنبية على سبيل القهر والإكراه وإذا لم يوجب حدا يكون صغيرة، ولا يخفى رده وضعف مبناه، والآية ظاهرة في أنه فاحشة مطلقا نعم أفحش أنواعه الزنا بحليلة الجار، وقال بعضهم: أعظم الزنا على الإطلاق الزنا بالمحارم
فقد صحح الحاكم أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «من وقع على ذات محرم فاقتلوه
وزنا الثيب أقبح من زنا البكر بدليل اختلاف حديهما، وزنا الشيخ لكمال عقله أقبح من زنا الشاب، وزنا الحر والعالم لكمالهما أقبح من زنا القن والجاهل، وهل هو أكبر من اللواط أم لا؟ فيه خلاف وفي الإحياء أنه أكبر منه لأن الشهوة داعية إليه من الجانبين فيكثر وقوعه ويعظم الضرر، ومنه اختلاط الأنساب بكثرته، وقد يعارض بأن حده أغلظ بدليل قول مالك وآخرين برجم اللوطي ولو غير محصن بخلاف الزاني. وقد يجاب بأن المفضول قد يكون فيه مزية، وفيه ما فيه. وبالغ بعضهم فقال: إنه مطلقا يلي الشرك في الكبر، والأصح أن الذي يلي الشرك هو القتل ثم الزنا، وخبر الغيبة أشد من ثلاثين زنية في الإسلام الظاهر كما قال ابن حجر الهيتمي أنه لا أصل له، نعم
روى الطبراني والبيهقي وغيرهما الغيبة أشد من الزنا
إلا أن له ما يبين معناه وهو ما
رواه ابن أبي الدنيا وأبو الشيخ عن جابر وأبي سعيد رضي الله تعالى عنهما إياكم والغيبة فإن الغيبة أشد من الزنا إن الرجل ليزني فيتوب الله تعالى عليه وإن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفر له صاحبه
فعلم منه أن أشدية الغيبة من الزنا ليست على الإطلاق بل من جهة أن التوبة الباطنة المستوفية لجميع شروطها من الندم من حيث المعصية والإقلاع وعزم أن لا يعود مع عدم الغرغرة وطلوع الشمس من مغربها مكفرة لإثم الزنا بمجردها بخلاف الغيبة فإن التوبة وإن وجدت فيها هذه الشروط لا تكفرها بل لا بد وأن ينضم إليها استحلال صاحبها مع عفوه فكانت الغيبة أشد من هذه الحيثية لا مطلقا فلا يعكر الحديث على الأصح، وعلم منه أيضا أن الزنا لا يحتاج في التوبة منه إلى استحلال وهو ما صرح به غير واحد من المحققين وهو مع ذلك من الحقوق المتعلقة بالآدمي كيف لا وهو من الجناية على الأعراض والأنساب. ومعنى قولهم إن الزنا لا يتعلق به حق آدمي أي من المال ونحوه وعدم اشتراط الاستحلال لا يدل على أنه ليس من الحقوق المتعلقة بالآدمي مطلقا، وإنما لم يشترط الاستحلال لما يترتب على ذكره من زيادة العار والظن الغالب بأن نحو الزوج أو القريب إذا ذكر له ذلك يبادر إلى قتل الزاني أو المزني بها أو إلى قتلهما معا ومع ما ذكر كيف يمكن القول باشتراطه، وقد صرح بنحو ذلك حجة الإسلام الغزالي في منهاج العابدين فقال في ضمن تفصيل قال الأذرعي: إنه في غاية الحسن والتحقيق أما الذنب في الحرم فإن خنته في أهله وولده فلا وجه للاستحلال والإظهار لأنه يولد فتنة وغيظا بل تتضرع إلى الله سبحانه ليرضيه عنك ويجعل له خيرا
66
كثيرا في مقابلته فإن أمنت الفتنة والهيج وهو نادر فتستحل منه، وقد قال الأذرعي في مواضع في الحسد والتوبة منه:
ويشبه أن يحرم الإخبار به إذا غلب على ظنه أن لا يحلله وأنه يتولد منه عداوة وحقد وأذى للمخبر، ثم قال: ويجوز أن ينظر إلى المحسود فإن كان حسن الخلق بحيث يظن أنه يحلله تعين أخباره ليخرج من ظلامته بيقين وأن غلب على ظنه أن إخباره يجر شرا وعداوة حرم إخباره قطعا وإن تردد فالظاهر ما ذكره النووي من عدم الوجوب والاستحباب فإن النفس الزكية نادرة وربما جر ذلك شرا وعداوة وإن حلله بلسانه اه، فإذا كان هذا في الحسد مع سهولته عند أكثر الناس وعدم مبالاتهم به ومن ثم أطلق النووي عدم الإخبار فقال: المختار بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود بل لا يستحب ولو قيل يكره لم يبعد فما بالك في الزنا المستلزم أن الزوج والقريب يقتل فيه بمجرد التوهم فكيف مع التحقق ويعلم من الأخبار أن ثمرات الزنا قبيحة منها أنه يورد النار والعذاب الشديد وأنه يورث الفقر وذهاب البهاء وقصر العمر وأنه يؤخذ بمثله من ذرية الزاني، ولما قيل لبعض الملوك ذلك أراد تجربته بابنة له وكانت غاية في الحسن فأنزلها مع امرأة وأمرها أن لا تمنع أحدا أراد التعرض لها بأي شيء شاء وأمرها بكشف وجهها فطافت بها في الأسواق فما مرت على أحد إلا وأطرق حياء وخجلا منها فلما طافت بها المدينة كلها ولم يمد أحد نظره إليها رجعت بها إلى دار الملك فلما أرادت الدخول أمسكها إنسان وقبلها ثم ذهب عنها فأدخلتها على الملك وذكرت له القصة فسجد شكرا وقال:
الحمد لله تعالى ما وقع مني في عمري قط إلا قبلة وقد قوصصت بها نسأل الله سبحانه أن يعصمنا وذرارينا ومن ينسب إلينا من الفواحش ما ظهر منها وما بطن بحرمة النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقرأ أبي بن كعب كما أخرجه عنه ابن مردويه «ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ومقتا وساء سبيلا إلا من تاب فإن الله كان غفورا رحيما» فذكر لعمر رضي الله تعالى عنه فأتاه فسأله فقال أخذتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وليس لك عمل إلا الصفق بالنقيع وهذا إن صح كان قبل العرضة الأخيرة وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي حرمها الله تعالى، والمراد حرم قتلها بأن عصمها بالإسلام أو بالعهد إِلَّا بِالْحَقِّ متعلق بلا تقتلوا والباء للسببية والاستثناء مفرغ أي لا تقتلوها بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق، ويجوز أن يكون حالا من الفاعل أو المفعول أي لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحق أو لا تقتلوها إلا ملتبسة بالحق، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لا تقتلوها قتلا ما إلا قتلا ملتبسا بالحق والأول أظهر، وأما تعلقه بحرم فبعيد وإن صح، وفسر الحق بما
رواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود لا يحل دم امرئ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث النفس بالنفس والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة
، ونقض الحصر بدفع الصائل فإن ذلك ربما أدى إلى القتل، ودفع بأن المراد ما يكون بنفسه مقصودا به القتل وما ذكر المقصود به الدفع وقد يفضي إليه في الجملة، والحق عدم انحصار الحق فيما ذكر وهو في الخبر ليس بحقيقي، وقد ذهب الشافعية إلى أن ترك الصلاة كسلا مبيح للقتل وكذا اللواطة عند جمع من الأجلة.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً بغير حق يوجب قتله أو يبيحه للقاتل حتى أنه لا يعتبر إباحته لغير القاتل فقد نص علماؤنا أن من عليه القصاص إذا قتله غير من له القصاص يقتص له ولا يفيده قول الولي أنا أمرته بذلك إلا أن يكون الأمر ظاهرا فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ لمن يلي أمره من الوارث أو السلطان عند عدم الوارث، واقتصار البعض على الأول رعاية للأغب سُلْطاناً أي تسلطا واستيلاء على القاتل بمؤاخذته بأحد أمرين القصاص أو الدية، وقد تتعين الدية كما في القتل الخطأ والمقتول خطأ مقتول ظلما بالمعنى الذي أشير إليه وإن قلنا لا إثم في الخطأ
لحديث «رفع عن أمتي الخطأ»
وشرع الكفارة فيه لعدم التثبت واجتناب ما يؤدي إليه فليتأمل.
واستدل بتفسير الولي بالوارث على أن للمرأة دخلا في القصاص.
67
وقال القاضي إسماعيل: لا تدخل لأن لفظه مذكر فَلا يُسْرِفْ أي الولي فِي الْقَتْلِ أي فلا يتجاوز الحد المشروع فيه بأن يقتل اثنين مثلا والقاتل واحد كعادة الجاهلية فإنهم كانوا إذا قتل منهم واحد قتلوا قاتله وقتلوا معه غيره، ومن هنا قال مهلهل:
كل قتيل في كليب غره حتى ينال القتل آل مره
وإلى هذا ذهب ابن جبير وأخرجه المنذر من طريق أبي صالح عن ابن عباس أو بأن يقتل غير القاتل ويترك القاتل. وروي هذا عن زيد بن أسلم فقد أخرج البيهقي في سننه عنه أن الناس في الجاهلية إذا قتل من ليس شريفا شريفا لم يقتلوه به وقتلوا شريفا من قومه فنهى عن ذلك أو بأن يزيد على القتل المثلة كما قيل.
وأخرج ابن جرير وغيره عن طلق بن حبيب أنه قال: لا يقتل غير قاتله ولا يمثل به، وقيل بأن يقتل القاتل والمشروع عليه الدية، وأخرج ابن أبي حاتم وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: من قتل بحديدة قتل بحديدة ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ومن قتل بحجر قتل بحجر ولا يقتل غير القاتل. وفيه القول بأن القتل بالمثقل يوجب القصاص وهو خلاف مذهبنا.
وقرأ حمزة والكسائي «فلا تسرف» بالخطاب للولي التفاتا، وقرأ أبو مسلم صاحب الدولة «فلا يسرف» بالرفع على أنه خبر في معنى الأمر وفيه مبالغة ليست في الأمر إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي، والضمير للولي أيضا على معنى أنه تعالى نصره بأن أوجب القصاص أو الدية وأمر الحكام بمعونته في استيفاء حقه فلا يبغ ما وراء حقه ولا يخرج من دائرة إمرة الناصر.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد أن الضمير للمقتول على معنى أن الله تعالى نصره في الدنيا بأخذ القصاص أو الدية وفي الأخرى بالثواب فلا يسرف وليه في شأنه، وجوز أن يعود على الذي أسرف به الولي أي إنه تعالى نصره بإيجاب القصاص والتعزيز والوزر على من أسرف في شأنه، وقيل ضمير يسرف للقاتل أي مريد القتل ومباشرة ابتداء ونسبه في الكشاف إلى مجاهد، والضميران في التعليل عائدان على الولي أو المقتول، وأيد بقراءة أبي «فلا تسرفوا» لأن القاتل متعدد في النظم في قوله تعالى: وَلا تَقْتُلُوا والأصل توافق القراءتين، ولم تعينه لأن الولي عام في الآية فهو في معنى الأولياء فيجوز جمع ضميره بهذا الاعتبار ويكون التفاتا، وتوافق القراءتين ليس بلازم، والمعنى فلا يسرف على نفسه في شأن القتل بتعريضها للهلاك العاجل والآجل. وفي الكشف أنه ردع للقاتل على أسلوب وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ [البقرة: ١٧٩] والنهي عن الإسراف لتصوير أن القتل بغير حق كيف ما قدر إسراف، ومعناه فلا يقتل بغير حق وأنت تعلم أن هذا الوجه غير وجيه فلا ينبغي التعويل عليه، وهذه الآية كما أخرج غير واحد عن الضحاك أول آية نزلت في شأن القتل وقد علمت أن الأصح أنه أكبر الكبائر بعد الشرك، وكون القتل العمد العدوان من الكبائر مجمع عليه، وعد شبه العمد منها هو ما صرح به الهروي وشريح الروياني، وأما الخطأ فالصواب أنه ليس بمعصية فضلا عن كونه ليس بكبيرة فليحفظ وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ نهى عن قربانه لما ذكر سابقا من المبالغة في النهي عن التعرض له وللتوسل إلى الاستثناء بقوله تعالى: إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي إلا بالخصلة والطريقة التي هي أحسن الخصال والطرائق وهي حفظه واستثماره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرف على الوجه الأحسن المدلول عليه بالاستثناء لا للوجه المذكور فقط، والأشد قيل جمع شد كالأضر جمع ضر والشد القوة وهو استحكام قوة الشباب والسن كما أن شد النهار ارتفاعه، قال عنترة:
68
وقيل هو جمع شدة مثل نعمة وأنعم، وقال بعض البصريين، هو واحد مثل الآنك: والمراد ببلوغه الأشد بلوغه إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله ثم التصرف بمال اليتيم بنحو الأكل على غير الوجه المأذون فيه من الكبائر، وتردد ابن عبد السلام بتقييده بنصاب السرقة فقال في القواعد: قد نص الشرع على أن شهادة الزور وأكل مال اليتيم من الكبائر فإن وقعا في مال خطير فهو ظاهر وإن وقعا في مال حقير كزبيبة وتمرة فيجوز أن يجعلا من الكبائر فطاما عن جنس هذه المفسدة كالقطرة من الخمر وإن لم تتحقق المفسدة ويجوز أن يضبط ذلك بنصاب السرقة اه.
وقد يفرق بينهما بأن في شهادة الزور مع الجراءة على انتهاك حرمة المال المعصوم جراءة على الكذب في الشهادة بخلاف القليل من مال اليتيم فلا يستبعد التقييد به بخلافها كذا قيل.
والحق أن الآيات والأخبار الواردة في وعيد أكل مال اليتيم مطلقة فتتناول القليل والكثير فلا يجوز تخصيصها إلا بدليل سمعي وحيث لا دليل كذلك فالتخصيص غير مقبول فالوجه أنه لا فرق بين أكل القليل وأكل الكثير في كونه كبيرة يستحق فاعله الوعيد الشديد، نعم الشيء التافه الذي تقتضي العادة بالمسامحة به لا يبعد كون أكله ليس من الكبائر والله تعالى أعلم، وقد توصل القضاة اليوم إلى أكل مال اليتيم في صورة حفظه عاملهم الله تعالى بعد له وأذاق خائنهم في الدارين جزاء فعله وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ ما عاهدتم الله تعالى عليه من التزام تكاليفه وما عاهدتم عليه غيركم من العباد ويدخل في ذلك العقود.
وجوز أن يكون المراد ما عاهدكم الله تعالى عليه وكلفكم به، والإيفاء بالعهد والوفاء به هو القيام بمقتضاه والمحافظة عليه وعدم نقضه واشتقاق ضده وهو الغدر يدل على ذلك وهو الترك ولا يكاد يستعمل إلا بالباء فرقا بينه وبين الإيفاء الحسي كإيفاء الكيل والوزن إِنَّ الْعَهْدَ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال العناية بشأنه وقيل دفعا لتوهم عود الضمير إلى الإيفاء المفهوم من أَوْفُوا كانَ مَسْؤُلًا أي مسؤولا عنه على حذف الجار وجعل الضمير بعد انقلابه مرفوعا مستكنا في اسم المفعول ويسمى الحذف والإيصال وهو شائع.
وجوز أن يكون الكلام على حذف مضاف أي إن صاحب العهد كان مسؤولا، وقيل لا حذف أصلا والكلام على التخييل كأنه يقال للعهد لم نكثت وهلا وفى بك تبكيتا للناكث كما يقال للموؤدة بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ [التكوير:
٩] وقد يعتبر فيه الاستعارة الكنية والتخييلية، وزعم بعضهم أنه يجوز أن يجعل العهد متمثلا على هيئة من يتوجه عليه السؤال كما تجسم الحسنات والسيئات لتوزن.
وجوز أن يكون مَسْؤُلًا بمعنى مطلوبا من سألت كذا إذا طلبت، وإسناد المطلوبية إليه مجاز والمراد مطلوب عدم إضاعته، ويجوز أن يكون في الكلام مضاف محذوف ارتفع الضمير واستتر بعد حذفه، والأصل ما أشرنا إليه وقد سمعت آنفا أن مثل ذلك شائع، وليس في ذلك تعليل الشيء بنفسه فإن المآل إلى أن يقال: أوفوا بالعهد فإن عدم إضاعته لم تزل مطلوبة من كل أحد فتطلب منكم أيضا، ثم إن الإخلال بالوفاء بالعهد على ما تقتضيه الأحاديث الصحيحة قيل كبيرة،
وقد جاء عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه وعد من الكبائر نكث الصفقة
أي الغدر بالمعاهد بل صرح شيخ الإسلام العلائي بأنه جاء في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سماه كبيرة، وقال بعض المحققين: إن في إطلاق كون الإخلال المذكور كبيرة نظرا بناء على أن العهد هو التكليفات الشرعية فإن من الإخلال ما يكون كبيرة ومنه ما يكون صغيرة وينظر في ذلك إلى حال المكلف به، ولعل من قال: إن الإخلال بالعهد كبيرة أراد بالعهد مبايعة الإمام وبالإخلال بذلك نقض بيعته والخروج عليه لغير موجب ولا تأويل ولا شبهة في أن ذلك كبيرة فليتأمل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه ولا تخسروه إِذا كِلْتُمْ أي وقت كيلكم للمشترين، وتقييد الأمر به لما أن التطفيف يكون هناك، وأما
69
وقت الاكتيال على الناس فلا حاجة إلى الأمر بالتعديل قال تعالى: إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ [المطففين: ٢] الآية وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ هو القبان على ما روي عن الضحاك ويقال له القرسطون بلغة أهل الشام كما قال الأزهري، وقال الزجاج: هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا من موازين الدراهم وغيرها، وقال الليث: هو أقوم الموازين، وأخرج ابن أبي حاتم عن قتادة أنه العدل، وعن الحسن أنه الحديد وهو رومي معرب كما قال ابن دريد لفقد مادته في العربية، وقيل: إنه عربي وروي القول بتعريبه وأنه الميزان في اللغة الرومية عن ابن جبير وجماعة، وقيل: هو مركب من كلمتين القسط وهو العدل وطاس وهو كفة الميزان لكنه حذف أحد الطاءين لأن التركيب محل تخفيف وهو كما ترى، وعلى القول بأنه رومي معرب وهو الصحيح لا يقدح استعماله في القرآن في عربيته المذكورة في قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: ٢] لأنه بعد التعريب والسماع في فصيح الكلام يصير عربيا فلا حاجة إلى إنكار تعريبه أو ادعاء التغليب أو أن المراد عربي الأسلوب.
وقد قرأه الكوفيون بكسر القاف والباقون بضمها، وقد تبدل السين الأولى صادا كما أبدلت الصاد سينا في الصراط الْمُسْتَقِيمِ أي العدل السوي، وهو يبعد تفسير القسطاس بالعدل، ولعل الاكتفاء باستقامته عن الأمر بإيفاء الوزن كما قال شيخ الإسلام لما أن عند استقامته لا يتصور الجور غالبا بخلاف الكيل فإنه كثيرا ما يقع التطفيف مع استقامة الآلة كما أن الاكتفاء بإيفاء الكيل عن الأمر بتعديله لما أن إيفاءه لا يتصور بدون تعديل المكيال وقد أمر بتقويمه أيضا في قوله تعالى: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ ذلِكَ أي إيفاء الكيل والوزن بالقسطاس المستقيم خَيْرٌ في الدنيا لأنه سبب لرغبة الناس في معاملة فاعله وجلب الثناء الجميل عليه وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة لما يترتب عليه من الثواب في الآخرة، والتأويل تفعيل من آل إذا رجع وأصله رجوع الشيء إلى الغاية المرادة منه علما كما في قوله تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ [آل عمران: ٧] أو فعلا كما في قوله سبحانه يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ [الأعراف:
٥٣] وقول الشاعر:
وللنوى قبل يوم البين تأويل، وقيل: المراد ذلك خير في نفسه لأنه أمانة وهي صفة كمال وأحسن عاقبة في الدنيا لأنه سبب لميل القلوب والرغبة في المعاملة والذكر الجميل بين الناس ويفضي ذلك إلى الغنى وفي الآخرة لأنه سبب للخلاص من العذاب والفوز بالثواب، وقيل: أحسن تأويلا أي أحسن معنى وترجمة، ثم إن إيفاء الكيل والوزن واجب إجماعا ونقص ذلك من الكبائر مطلقا على ما يقتضيه الوعيد الشديد لفاعله الوارد في الآيات والأحاديث الصحيحة ولا فرق بين القليل والكثير، نعم قال بعضهم: إن التطفيف بالشيء التافه الذي يسامح به أكثر الناس ينبغي أن يكون صغيرة، فإن قلت: ذكروا في الغصب أن غصب ما دون ربع دينار لا يكون كبيرة وقضيته أن يكون التطفيف كذلك قلت قيل ذلك مشكل فلا يقاس عليه بل حكي الإجماع على خلافه.
وقال الأذرعي: إنه تحديد لا مستند له انتهى، وعلى التنزيل فقد يفرق بأن الغصب ليس مما يدعو قليله إلى كثيره لأنه إنما يكون على سبيل القهر والغلبة بخلاف التطفيف فتعين التنفير عنه بأن كلا من قليله وكثيره كبيرة أخذا مما قالوه في شرب القطرة من الخمر من أنه كبيرة وأن لم يوجد فيها مفسدة الخمر لأن قليله يدعو إلى كثيره، ومثل التطفيف في الكيل والوزن النقص في الذرع ولا يكاد يسلم كيال أو وزان أو ذراع في هذه الأعطار من نقص الأمن عصمه الله تعالى وَلا تَقْفُ ولا تتبع، وأصل معنى قفا اتبع قفاه ثم استعمل في مطلق الاتباع وصار حقيقة فيه.
وقرىء «ولا تقفوا» بإثبات حرف العلة مع الجازم وهو شاذ، وقرىء أيضا «ولا تقف» بضم القاف وسكون الفاء كتقل
70
على أنه أجوف مجزوم بالسكون وماضيه قاف يقال قاف أثره يقوفه إذا قصه واتبعه ومنه القيافة وأصلها ما يعلم من الإقدام وأثرها، وعن أبي عبيدة أن قاف مقلوب قفا كجذب وجبذ. وتعقب بأن الصحيح خلافه.
ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبع ما لا علم لك به من قول أو فعل، وحاصله يرجع إلى النهي عن الحكم بما لا يكون معلوما ويندرج في ذلك أمور. وكل من المفسرين اقتصر على شيء فقيل المراد نهي المشركين عن القول في الإلهيات والنبوات تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى، وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن محمد بن الحنفية أن المراد النهي عن شهادة الزور، وقيل: المراد النهي عن القذف ورمي المحصنين والمحصنات ومن ذلك قول الكميت:
عهدي به شد النهار كأنما خضب البنان ورأسه بالعظلم
ولا أرمي البريء بغير ذنب ولا أقفو الحواصن إن رمينا
وروى البيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في الحلية من حديث معاذ بن أنس «من قفا مؤمنا بما ليس فيه- يريد شينه به- حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال» وقيل: المراد النهي عن الكذب، أخرج ابن جرير وغيره عن قتادة أنه قال في الآية: لا تقل سمعت ولم تسمع ورأيت ولم تر، واختار الإمام العموم قال: إن اللفظ عام يتناول الكل فلا معنى للتقييد، واحتج بالآية نفاة القياس لأنه قفو للظن وحكم به. وأجيب بأنهم أجمعوا على الحكم بالظن والعمل به في صور كثيرة فمن ذلك الصلاة على الميت ودفنه في مقابر المسلمين وتوريث المسلم منه بناء على أنه مسلم وهو مظنون والتوجه إلى القبلة في الصلاة وهو مبني على الاجتهاد بأمارات لا تفيد إلا الظن وأكل الذبيحة بناء على أنها ذبيحة مسلم وهو مظنون والشهادة فإنها ظنية وقيم المتلفات وأروش الجنايات فإنها لا سبيل إليها إلا الظن، ومن نظر ولو بمؤخر العين رأى أن جميع الأعمال المعتبرة في الدنيا من الأسفار وطلب الأرباح والمعاملات إلى الآجال المخصوصة والاعتماد على صداقة الأصدقاء وعداوة الأعداء كلها مظنونة
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم: «نحن نحكم بالظاهر والله تعالى يتولى السرائر»
فالنهي عن اتباع ما ليس بعلم قطعي مخصوص بالعقائد وبأن الظن قد يسمى علما كما في قوله تعالى: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ [الممتحنة: ١٠] فإن العلم بإيمانهن إنما يكون بإقرارهن وهو لا يفيد إلا الظن، وبأن الدليل القاطع لما دل على وجوب العمل بالقياس كان ذلك الدليل دليلا على أنه متى حصل ظن أن حكم الله تعالى في هذه الصورة يساوي حكمه في محل النص فأنتم مكلفون بالعمل على وفق ذلك الظن فها هنا الظن واقع في طريق الحكم وأما ذلك الحكم فهو معلوم متيقن. وأجاب النفاة عن الأول بأن قوله تعالى: لا تَقْفُ الآية عام دخله التخصيص فيما يذكرون فيه العمل بالظن فيبقى العموم فيما وراءه على أن بين ما يذكرونه من الصور وبين محل النزاع فرقا لأن الأحكام المتعلقة بالأول مختصة بأشخاص معينين في أوقات معينة فالتنصيص على ذلك متعذر فاكتفى بالظن للضرورة بخلاف الثاني فإن الأحكام المثبتة بالأقيسة كلية معتبرة في وقائع كلية وهي مضبوطة والتنصيص عليها ممكن فلم يجز الاكتفاء فيها بالظن، وعن الثاني بأن المغايرة بين العلم والظن مما لا شبهة فيه ويدل عليها قوله تعالى:
هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ [الأنعام: ١٤٨] والمؤمن هو المقر وذلك الإقرار هو العلم فليس في الآية تسمية الظن علماء وعن الثالث بأنه إنما يتم لو ثبت حجية القياس بدليل قاطع وليس فليس، وأحسن ما يمكن أن يقال في الجواب على ما قال الإمام أن التمسك بالآية تمسك بعام مخصوص وهو لا يفيد إلا الظن فلو دلت على أن التمسك بالظن غير جائز لدلت على أن التمسك بها غير جائز فالقول بحجيتها يفضي إلى نفيه وهو باطل، وللمجيب أن يقول نعلم بالتواتر الظاهر من دين النبي صلّى الله عليه وسلّم أن التمسك بآيات القرآن حجة في الشريعة. ويمكن أن يجاب عن هذا بأن كون العام المخصوص حجة غير معلوم بالتواتر فتأمل إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي
71
كل هذه الأعضاء وأشير إليها بأولئك على القول بأنها مختصة بالعقلاء تنزيلا لها منزلتهم لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال بعضهم: إنها غالبة في العقلاء وجاءت لغيرهم من حيث إنها اسم جمع لذا وهو يعم القبيلين ومن ذلك قول جرير على ما رواه غير واحد:
ذم المنازل بعد منزلة اللوى والعيش بعد أولئك الأيام
وعلى هذا لا حاجة إلى التنزيل وارتكاب الاستعارة فيما تقدم كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كل الضمائر ضمائر «كل» أي كان كل من ذلك مسؤولا عن نفسه فيقال له: هل استعملك صاحبك فيما خلقت له أم لا؟ وذلك بعد جعله أهلا للخطاب والسؤال. وجوز أن يكون ضمير عَنْهُ لكل وما عداه للقافي فهناك التفات إذ الظاهر كنت عنه مسؤولا.
وقال الزمخشري: عَنْهُ نائب فاعل مَسْؤُلًا فهو مسند إليه ولا ضمير فيه نحو غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ [الفاتحة: ٧].
ورده أبو البقاء وغيره بأن القائم مقام الفاعل حكمه حكمه في أنه لا يجوز تقدمه على عامله كأصله. وذكر أنه حكى ابن النحاس الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل إذا كان جارا ومجرورا فليس ذلك نظير غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وليس لقائل أن يقول: إنه على رأي الكوفيين في تجويزهم تقديم الفاعل إلا أن ينازع في صحة الحكاية، ونقل عن صاحب التقريب أنه إنما جاز تقديم عَنْهُ مع أنه فاعل لمحا لأصالة ظرفيته لا لعروض فاعليته ولأن الفاعل لا يتقدم لالتباسه بالمبتدأ ولا التباس هاهنا ولأنه ليس بفاعل حقيقة اه. والإنصاف أنه مع هذا لا يقال لما ذهب إليه شيخ العربية إنه غلط.
وذكر في شرح نحو المفتاح أنه مرتفع بمضمر يفسره الظاهر، وجوز إخلاء المفسر عن الفاعل إذا لم يكن فعلا معللا بأصالة الفعل في رفع الفاعل فلا يجوز خلوه عنه بخلاف اسمي الفاعل والمفعول تشبيها بالجوامد.
وتعقبه في الكشف بأن فيه نظرا نقلا وقياسا أما الأول فلتفرده به، وأما الثاني فلأن الاحتياج إليه من حيث إنه إذا جرى على شيء لا بد من عائد إليه ليرتبط به ويكون هو الذات القائم هو بها إن كان فاعلا أو ملابسا لتلك الذات وليس كالجوامد في ارتباطها بالسوابق بنفس الحمل لأنها لا تدل على معنى متعلق بذات فالوجه أن يقال حذف الجار واستتر الضمير بعده في الصفة، وقد سمعت عن قرب أن هذا من باب الحذف والإيصال وأنه شائع، وجوز أن يكون مرفوع مَسْؤُلًا المصدر وهو السؤال وعَنْهُ في محل النصب. وسأل ابن جني أبا علي عن قولهم: فيك يرغب وقال لا يرتفع بما بعده فأين المرفوع؟ فقال: المصدر أي فيك يرغب الرغب بمعنى تفعل الرغبة كما في قولهم: يعطي يمنع أي يفعل الإعطاء والمنع، وجوز أن يكون اسم كان أو فاعله ضمير كُلُّ محذوف المضاف أي كان صاحبه عنه مسؤولا أو كان عنه مسؤولا صاحبه فيقال له لم استعملت السمع فيما لا يحل ولم صرفت البصر إلى كذا والفؤاد إلى كذا؟ وقرأ الجراح العقيلي «والفواد» بفتح الفاء وإبدال الهمزة واوا، وتوجيهها أنه أبدلت الهمزة واوا لوقوعها مع ضمة في المشهور ثم فتحت الفاء تخفيفا وهي لغة في ذلك، ولا عبرة بإنكار أبي حاتم لها، واستدل بالآية على أن العبد يؤاخذ بفعل القلب كالتصميم على المعصية والأدواء القلبية كالحقد والحسد والعجب وغير ذلك نعم صرحوا بأن الهم بالمعصية من غير تصميم لا يؤاخذ به للخبر الصحيح في ذلك. ثم إن اتباع الظن يكون كبيرة ويكون صغيرة حسب أنواعه وأصنافها ومنه ما هو أكبر الكبائر كما لا يخفى نسأل الله تعالى أن يعصمنا عن جميع ذلك.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي فخرا وكبرا قاله قتادة، وقال الراغب: المرح شدة الفرح والتوسع فيه والأول
72
أنسب، وهو مصدر وقع موقع الحال والكلام في مثله إذا وقع حالا أو خبرا أو صفة شائع، وجوز أن يكون منصوبا على المصدرية لفعل محذوف أي تمرح مرحا وأن يكون مفعولا له أي لأجل المرح، وقرىء «مرحا» بكسر الراء عن أنه صفة مشبهة ونصبه على الحالية لا غير، قيل وهذه القراءة باعتبار الحكم أبلغ من قراءة المصدر المفيد للمبالغة بجعله عين المرح نظير ما قيل في زيد عدل لأن الوصف واقع في حيز النهي الذي هو في معنى النفي ونفى أصل الاتصاف أبلغ من نفي زيادته ومبالغته لأنه ربما يشعر ببقاء أصله في الجملة، وجعل المبالغة راجعة إلى النفي دون المنفي كما قيل في قوله تعالى: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: ٤٦] بعيد هنا، والقول بأن الصفة المشبهة تدل على الثبوت فلا يقتضي نفي ذلك نفي أصله كما قيل في المصدر مغالطة نشأت من عدم معرفة معنى الثبوت في الصفة فإن المراد به أنها لا تدل على تجدد وحدوث لا أنها تدل على الدوام، والأخفش فضل القراءة بالمصدر لما فيه من التأكيد ولم ينظر إلى أن ذلك في الإثبات لا في النفي أو ما في حكمه وأورد على ما قيل إن فيه تفضيل القراءة الشاذة على المتواترة وهو كما ترى.
ولذا فضل بعضهم القراءة بالمصدر كالأخفش وجعل المبالغة المستفادة منه راجعة إلى النهي ومنع كون ذلك بعيدا، وقيل إذا جعل التقدير في المتواترة ذا مرح تتحد مع الشاذة وتعقب بأن ذا مرح أبلغ من مرحا صفة لما فيه من الدلالة على أنه صاحب مرح وملازم له كأنه مالك إياه وفيه توقف كما لا يخفى، والتقييد بالأرض لا يصح أن يقال للاحتراز عن المشي في الهواء أو على الماء لأن هذا خارق ولا يحترز عنه بل للتذكير بالمبدأ والمعاد وهو أردع عن المشي مشية الفاخر المتكبر وادعى لقبول الموعظة كأنه قيل: لا تمش فيما هو عنصرك الغالب عليك الذي خلقت منه وإليه تعود والذي قد ضم من أمثالك كثيرا مشية الفاخر المتكبر، وقيل للتنصيص على أن النهي عن المشي مرحا في سائر البقع والأماكن لا يختص به أرض دون أرض، والأول ألطف.
إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تعليل للنهي وفيه تهكم بالمختال أي إنك لن تقدر أن تجعل فيها خرقا بدوسك وشدة وطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ التي عليها طُولًا بتعاظمك ومد قامتك فأين أنت والتكبر عليها إذا التكبر إنما يكون بكثرة القوة وعظم الجثة وكلاهما مفقود فيك أو أنك لن تقدر على ذلك فأنت أضعف من كل واحد من هذين الجمادين فكيف يليق بك التكبر، وقال بعض المحققين: مآل النهي والتعليل لا تفعل ذلك فإنه لا جدوى فيه وهو وجه حسن، ونصب طُولًا على أنه تمييز، وجوز أن يكون مفعولا له، وقبل: يشير كلام بعضهم إلى أنه منصوب على نزع الخافض وهو بمعنى التطاول أي لن تبلغ الجبال بتطاولك ولا يخفى بعده، وإيثار الإظهار على الإضمار حيث لم يقل لن تخرقها لزيادة الإيقاظ والتقريع، ثم إن الاختيال في المشي كبيرة كما تدل عليه الأحاديث الصحيحة وهذا فيما عدا بين الصفين أما بينهما فهو مباح لخبر صح فيه، ويكفي ما في الآية من التهكم والتقريع زاجرا لمن اعتاده حيث لا يباح ككثير من الناس اليوم. وفي الانتصاف قد حفظ الله تعالى عوام زماننا من هذه المشية وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين أو نال طرفا من رياسة الدنيا إذ هو يمشي خيلاء ولا يرى أنه يطاول الجبال ولكن يرى أنه يحك بيافوخه عنان السماء كأنهم على هذه الآية لا يمرون أو يمرون عليها وهم عنها معرضون اه.
وإذا كان هذا حال قراء زمانه وفقهائه فماذا أقول أنا في قراء زماني وفقهائهم سوى لا كثّر الله تعالى أمثالهم ولا ابتلانا بشيء من أفعالهم وجعلها أفعى لهم كُلُّ ذلِكَ المذكور في تضاعيف الأوامر والنواهي السابقة من الخصال المنحلة إلى نيف وعشرين كانَ سَيِّئُهُ وهو ما نهى عنه منها من الجعل مع الله سبحانه إلها آخر وعبادة غيره تعالى والتأفيف والنهر والتبذير وجعل اليد مغلولة إلى العنق وبسطها كل البسط وقتل الأولاد خشية إملاق وقتل النفس التي
73
حرم الله تعالى إلا بالحق وإسراف الولي في القتل وقفو ما ليس بمعلوم والمشي في الأرض مرحا فالإضافة لامية من إضافة البعض إلى الكل عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي مبغضا وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية وإلا لما وقع كما يدل عليه قوله صلّى الله عليه وسلّم ما شاء الله تعالى كان وما لم يشأ لم يكن وغير ذلك، وليست هذه الإرادة مرادفة أو ملازمة للرضا ليلزم اجتماع الضدين الإرادة المذكورة والكراهة كما يزعمه المعتزلة، وهذا تتميم لتعليل الأمور المنهي عنها جميعا، ووصف ذلك بمطلق الكراهة مع أن أكثره من الكبائر للإيذان بأن مجرد الكراهة عنده تعالى كافية في وجوب الكف عن ذلك، وتوجيه الإشارة إلى الكل ثم تعيين البعض دون توجيهها إليه ابتداء لما قيل: من أن البعض المذكور ليس بمذكور جملة بل على وجه الاختلاط لنكتة اقتضته، وفيه إشعار بكون ما عداه مرضيا عنده سبحانه وإنما لم يصرح بذلك إيذانا بالغنى عنه، وقيل اهتماما بشأن التنفير عن النواهي لما قالوا من أن التخلية أولى من التحلية ودرء المفاسد أهم من جلب المصالح، وجوز أن تكون الإضافة بيانية وذلِكَ إما إشارة إلى جميع ما تقدم ويؤخذ من المأمورات أضدادها وهي منهي عنها كما في قوله تعالى: أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً [الأنعام: ١٥١] بعد قوله سبحانه قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [الأنعام: ١٥١] وإما إشارة إلى ما نهى عنه صريحا فقط.
وقرأ الحجازيان والبصريان «سيئة» بفتح الهمزة وهاء التأنيث والنصب على أنه خبر كان، والإشارة إلى ما نهى عنه صريحا وضمنا أو صريحا فقط، ومَكْرُوهاً قيل بدل من سَيِّئُهُ والمطابقة بين البدل والمبدل منه غير معتبرة.
وضعف بأن بدل المشتق قليل، وقيل: صفة سَيِّئُهُ محمولة على المعنى فإنها بمعنى سيئا وقد قرىء به أو أن السيئة قد زال عنها معنى الوصفية وأجريت مجرى الجوامد فإنها بمعنى الذنب أو تجري الصفة على موصوف مذكر أي أمرا مكروها، وقيل: إنه خبر لكان أيضا ويجوز تعدد خبرها على الصحيح، وقيل: حال من المستكن في كانَ أو في الظرف بناء على جعله صفة سَيِّئُهُ لا متعلقا بمكروها فيستتر فيه ضميرها، والحال على هذا مؤكدة. وأنت تعلم أن ضمير السيئة المستتر مؤنث فجعل مكروها حالا منه كجعله صفة سَيِّئُهُ في الاحتياج إلى التأويل. وإضماره مذكرا في قوله: ولا أرض أبقل أبقالها لا يخفى ما فيه. وعن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قرأ: «شأنه» ذلِكَ المتقدم في التكاليف المفصلة مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ أي بعض منه أو من جنسه مِنَ الْحِكْمَةِ التي هي علم الشرائع أو معرفة الحق سبحانه لذاته والخير للعمل به أو الأحكام المحكمة التي لا يتطرق إليها النسخ والفساد، وفي الكشاف عن ابن عباس هذه الثماني عشرة آية يعني من لا تَجْعَلْ فيما مر إلى مَلُوماً مَدْحُوراً بعد كانت في ألواح موسى عليه السلام وهي عشر آيات في التوراة، وفي الدر المنثور أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن التوراة كلها في خمس عشرة آية من بني إسرائيل ثم تلا وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وهذا أعظم مدحا للقرآن الكريم مما في الكشاف، ومِنَ إما متعلقة بأوحى على أنها تبعيضية أو ابتدائية وإما بمحذوف وقع حالا من الموصول أو عائده المحذوف أي من الذي أوحاه إليك ربك كائنا من الحكمة، وجوز أن يكون الجار والمجرور بدلا من ما وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب نظير الخطاب السابق كرر للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه وأنه رأس كل حكمة وملاكها، ورتب عليه أولا ما هو عائدة الشرك في الدنيا حيث قال فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا [الإسراء: ٢٢] ورتب عليه هاهنا نتيجته في العقبى فقيل فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً من جهة نفسك ومن جهة غيرك مَدْحُوراً مبعدا من رحمة الله تعالى. وفي التفسير الكبير الفرق بين المذموم والملوم أن المذموم هو الذي يذكر أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر والملوم هو الذي يقال له لم فعلت هذا الفعل وما الذي حملك عليه وما استفدت منه إلا إلحاق الضرر بنفسك. ومن هذا يعلم أن الذم يكون أولا واللوم آخرا، والفرق بين المخذول
74
والمدحور أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، والمراد به من تركت إعانته وفوض إلى نفسه والمدحور المطرود والمراد به المهان والمستخف به انتهى. وفي إيراد الإلقاء مبنيا للمفعول جرى على سنن الكبرياء وازدراء بالمشرك وجعل له كخشبة يأخذها من كان فيلقيها في التنور، هذا وقد وحد الخطاب في بعض هذه الأوامر والنواهي وجمع في بعض آخر منها ولم يظهر لي سر اختيار كل من التوحيد والجمع فيما اختير فيه على وجه يسلم من القيل والقال ويهش له كمل الرجال، وقد ذكرت ذلك لبعض أحبابي من أجلة المحققين ورؤساء المدرسين وطلبت منه أن يحرر ما يظهر له حيث إني محقق كماله وفضله فكتب ما نصه أقول معترفا بالقصور محترزا عن الغرور متعذرا بالقول المأثور المأمور معذور يخطر على خاطر الفقير لتغيير أسلوب الخطاب وجوه تسعة لا تدخل في الحساب. الأول الإشعار بانقسام هذه التكاليف إلى أقسام ثلاثة قسم أهل الكل خوطب به الأمة مرتين مرة تصريحا بخطاب أنفسهم ومرة تعريضا بخطاب رسولهم صلّى الله عليه وسلّم وهذا الأهم هو التوحيد، وقسم مهم جدا لكن دون الأول خوطبوا به واحدة تصريحا وهو أمور سبعة، الأول مطلق الإحسان بالوالدين فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق، والثاني ترك قتل الأولاد، والثالث الزنا، والرابع ترك قتل النفس المحرمة إلا بالحق، والخامس ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، والسادس الإيفاء بالعهد، والسابع الوزن بالقسطاس المستقيم. وقسم ثالث دون الأولين في المهمية خوطبوا به واحدة تعريضا وهو أيضا أمور أحد عشر. الأول ترك قول أف للوالدين، والثاني ترك النهر فإن التأفيف والنهر من أهون مراتب العقوق بخلاف ترك الإحسان مطلقا، والثالث
قول القول الكريم لهما، والرابع خفض الجناح من الرحمة، والخامس الدعاء برحمة الله تعالى وهذه الثلاثة تركها ليس كترك مطلق الإحسان مثلا والسادس ترك إيتاء حق ذي القربى والمساكين وابن سبيل وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني، والسابع ترك التبذير والثامن قول القول الميسور، والتاسع العدل في المنع والعطاء، والعاشر ترك القفو لما ليس به علم الصادق على القول بموجب الظن مثلا، والحادي عشر ترك المشي مرحا وترك واحد من هذه الخمسة أيها كان لا يبلغ ترك واحد من الأمور المكلف بها المذكورة في القسم الثاني كما لا يخفى. والثاني من تلك الوجوه الإيماء باقتران خطاب الأمة في النهي عن كبائر خطيرة مثلا بخطابه صلّى الله عليه وسلّم عما ليس في خطرها إلى أن الذنوب تزداد عظما بعظم مرتكبها فرضا كما يدل عليه آية لَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ [الإسراء: ٧٤، ٧٥] وكريمة يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠] وكما اشتهر أن حسنات الأبرار سيئات المقربين وأن المقربين على خطر عظيم لكن لم تراع هذه النكتة في النهي عن الشرك إشارة إلى أنه في غاية العظم بحيث لا ينبغي أن يتصور في عظمه ازدياد وتفاوت الأفراد، أو نقول: لما عارضت هذه النكتة نكتة أخرى رجحت لكونها بالرعاية أحرى وهي الإشارة إلى أن الشرك كان عند الله سبحانه عظيما فكرر الخطاب بالنهي عنه تخصيصا وتعميما، وهكذا نقول في عدم رعاية نكتة الوجوه الآتية في التكليف بالتوحيد ولا نعيد. والثالث من تلك الوجوه التنبيه بتعميم الخطاب في النهي عن بعض المعاصي والأمر ببعض الطاعات على أن فتنة فعل تلك المعاصي وترك تلك الطاعات لا تصيب الذين ظلموا خاصة. والرابع منها الإشارة بتعميم الخطاب فيما عمم فيه من المنهيات والمأمورات إلى أن تلك المنهيات كما يجب على كل مكلف الانكفاف عنها يجب عليه كف الغير بحيث لو تركه لكان كفاعلها في أنه اقترف كبيرة نهى عنها نهي تلك المنهيات وإلى أن تلك المأمورات كما يجب على الكل أداؤها يجب إجبار التارك على أداؤها بحيث لو لم يجبر لكان كتاركها في أنه ترك واجبا أمر به أمر تلك المأمورات وبتخصيص الخطاب فيما خصص فيه إلى أنه ليس بتلك المثابة فإنه وإن وجب إجبار الغير على بعض تكاليفه لكن عسى أن لا يكون تركه كبيرة والخامس الرمز بتوحيد
75
الخطاب فيما وحد فيه أن تلك الطاعة لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون الصالحون وقليل ما هم بخلاف غيرها فإنه مضبوط.
والسادس الإشعار بأن التكاليف التي خوطب بها النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد أمته لا يقوم بها حق القيام إلا هو أو من يقتدي بأنواره ويقتفي لآثاره ويسعى في اتباع سننه القويم ويجتهد في التخلق بخلقه الكريم بخلاف غيرها مما خوطبوا به صريحا فإنها تأتي من أغلبهم.
والسابع أنه صرف الخطاب عنه صلّى الله عليه وسلّم في النهي عن قتل الأولاد والزنا وقتل النفس المحرمة إلا بالحق والتصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن إشارة إلى أن تلك الشنائع لا يأتيها النبي عليه الصلاة والسلام وإن لم ينه عنها لأن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كانت كافية في كفه عنها، وكذا صرف عنه الخطاب في الأمر بالإحسان بالوالدين والإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم يأتي بهذه الأمور وإن لم يؤمر بها لأن ترك مطلق الإحسان بالوالدين لو بلغا لديه الكبر مثلا يلزمه من الفظاظة وغلظة القلب وجفاء الطبع ما كان يأباه طبيعته صلّى الله عليه وسلّم وكذا الغدر والتطفيف كانا تأباهما أخلاقه الكريمة لكن خوطب بالنهي عن الشرك لأنه ليس للطبع والخلق في التوحيد والشرك دخل.
والثامن أنه تعالى إجلالا لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم لم يخاطبه بنهيه عن فواحش قتل الولد والزنا وقتل النفس بغير حق لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يأتيها قبل النهي، وكذا لم يخاطبه بأمر بالإيفاء بالعهد والوزن بالقسطاس المستقيم لئلا يوهم أنه كان وحاشاه يتركها قبل هذا، وهذا الإيهام ادعى للاعتناء بدفعه من الإيهام فيما خوطب به وحده، وخوطب بالنهي عن الشرك لأن معهودية دعوته صلّى الله عليه وسلّم للخاص والعام مدى الليالي والأيام كفته هذا الإيهام.
والتاسع لعل التكاليف التي خوطب صلّى الله عليه وسلّم بها كترك القفو لما ليس له به علم وترك المشي في الأرض مرحا لم تكن في غير دينه من سائر الأديان أو لم تكن مصرحا بها منصوصا عليها في الكتب السماوية ما عدا القرآن فوجه الخطاب إليه وحده تلويحا بأنها من خصائص دينه أو بأن التصريح بها والتنصيص عليها من خصائص كتابه، ويؤيد هذا الوجه قوله تعالى بعد النهي عن القفو بلا علم والمشي مرحا «ذلك مما أوحى إليك ربك من الحكمة» ثم إني لا أدعي في هذا بل وفي سائر الوجوه البت والجزم ولا أقفو ما ليس لي به علم بل أقول هذا خطر ببالي الكسير والعلم عند اللطيف الخبير اه.
ويرد على قوله في الأول فإن انتفاءه بأن لا يحسن إليهما أصلا من أشد مراتب العقوق أن العقوق الذي هو كبيرة فعل ما يتأذى به من فعل معه من الوالدين تأذيا ليس بالهين عرفا كما سمعت وعدم الإحسان أصلا قد لا يكون من ذلك، قال العلامة ابن حجر في أثناء الكلام على الفرق بين العقوق وقطع الرحم إنه لو فرض أن قريبه لم يصل إليه إحسان ولا إساءة قط لم يفسق بذلك لأن الأبوين إذا فرض ذلك في حقهما من غير أن يفعل معهما ما يقتضي التأذي العظيم لغناهما مثلا لم يكن كبيرة فأولى بقية الأقارب اه. وكأنه أحسن الله تعالى إليه ظن أنه إذا تحقق عدم الإحسان تحققت الإساءة وهو بمعزل عن الصواب، ويرد أيضا على قوله: وظاهر أن عدم القيام بإيتاء مجموع الحقوق الثلاثة أهون من ترك الأمور المذكورة في القسم الثاني أنه إن أراد أنه أهون من ترك مجموع تلك الأمور فلا شك إن بعض ما عده في القسم الثالث كالوزن بالقسطاس المستقيم ترك القيام به أهون من ترك مجموع التكليفات فما معنى هذا التخصيص وإن أراد أنه أهون من ترك كل واحد من ترك الأمور المذكورة فهو ممنوع كيف لا ويكون في ذلك قطيعة رحم وقاطعها ملعون في كتاب الله تعالى في ثلاثة مواضع.
76
وروى أحمد بإسناد صحيح أن من أربا الربا الاستطالة بغير حق وإن هذه الرحم شجنة من الرحمن فمن قطعها حرم الله تعالى عليه الجنة ومنع زكاة أيضا
وقد قال تعالى في حم السجدة وهي مكية كهذه السورة وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ [فصلت: ٦، ٧] وإن نوقش فيما ذكر قلنا: إن عدم القيام بإيتاء ما ذكر صادق على منع حقوق ثلاثة أصناف ولا شك أن منع ذي الحق حقه ظلم له فيتعدد الظلم فيما نحن فيه ولا أظن أن ذلك أهون من التطفيف وإن كان ظلما أيضا:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة على القلب من وقع الحسام المهند
ومما ذكرنا يعلم أن قوله ظاهر غير ظاهر، ويرد أيضا على قوله: وترك واحد من هذه الخمسة إلخ أن قوله سبحانه وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ نهي على ما اختاره الإمام عن كبائر لا شك في أن بعضها أعظم بكثير من بعض ما في القسم الثاني كالقول في الإلهيات والنبوات نحو ما يقوله المشركون تقليدا للأسلاف واتباعا للهوى وإن أبيت إلا تخصيصه ببعض ما قاله المفسرون ونقله الإمام مما هو أهون أفراده كالكذب قيل لك إن في كونه أهون من انتفاء الإحسان مطلقا مع كونه قد لا يكون كبيرة منعا ظاهرا كما لا يخفى. وكذا في كون المشي مرحا دون كل واحد من الأمور السابقة بحث.
وقد أخرج الشيخان «بينما رجل يمشي في حلة تعجبه نفسه مرجل مختال في مشيته إذ خسف الله تعالى به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة»
وروى أحمد وابن ماجة والحاكم «ما من رجل يتعاظم في نفسه ويختال في مشيته إلا لقي الله تعالى وهو عليه غضبان»
وصح «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر»
إلى غير ذلك من الأحاديث التي لم يجىء مثلها فيمن لم يحسن إلى والديه نعم جاء ذلك فيمن عق والديه، وبين عقوقهما وعدم الإحسان إليهما عموم وخصوص مطلق وعلى هذا فلا يخفى حال كما لا يخفى، ويرد على الوجه الثاني على ما فيه أنه غير واف بالغرض، وعلى الثالث أنه مجرد دعوى لم تساعدها الآثار، نعم ورد في بعض ما ذكر أن فتنته لا تصيب الظالم فقط ما يؤيده، ومن ذلك ما
أخرجه البيهقي وغيره «يا معشر المهاجرين خصال خمس إن ابتليتم بهن ونزلت بكم أعوذ بالله تعالى أن تدركوهن لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المئونة وجور السلطان ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا المطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا ولا نقضوا عهد الله تعالى وعهد رسوله صلّى الله عليه وسلّم إلا سلط الله تعالى عليهم عدوا من غيرهم فيأخذوا بعض ما في أيديهم وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله تعالى إلا جعل الله تعالى بأسهم بينهم»
وإن كان في عدم إيتاء المسكين وابن السبيل حقهما منع الزكاة فأمر الإيماء المذكور ولا يخفى حاله فإن الأخبار قد تظافرت بعموم شؤم ذلك،
فقد صح «ما منع قوم الزكاة إلا حبس الله تعالى عنهم القطر»
وفي رواية صحيحة «إلا ابتلاهم الله تعالى بالسنين»
إلى غير ذلك، ويرد على الوجه الرابع أن بعضهم قد أطلق القول بأن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كبيرة.
وصرح صاحب العدة بأن الغيبة نفسها صغيرة وترك النهي عنها كبيرة، وقال بعض المتأخرين: ونقله الجلال البلقيني ينبغي أن يفصل في النهي عن المنكر فيقال: إن كان كبيرة فالسكوت عليه مع إمكان دفعه كبيرة وإن كان صغيرة فالسكوت عليه صغيرة، ويقاس ترك المأمور بهذا إذا قلنا: إن الواجبات تتفاوت وهو الظاهر اه.
وقد علمت أن فيما وحد الخطاب فيه من الأوامر ما تركه كبيرة ومن النواهي ما فعله كذلك فلم يتحقق ما رجا سلمه الله تعالى على أن في تعبيره بالإجبار فيما عبر فيه ما لا يخفى، ويرد على الخامس أن في كون الطاعات التي
77
وحد فيها الخطاب لا تصدر إلا من الآحاد لأنها لا يوفي حقها إلا المتورعون منعا ظاهرا فإن أكثر الناس صالحهم وطالحهم لا يمشي في الأرض مرحا ومثل ذلك الدعاء للوالدين بالرحمة فإنا نسمعه على أتم وجه من كثير ممن لا يعرف الورع أي شيء هو، وكذا في قوله: بخلاف غيرها فإنه مضبوط فإن ترك التصرف في مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ممن له ولاية عليه أمر شاق لا يكاد يقوم به إلا الأفراد، قال في رد المحتار حاشية الدر المختار: لا ينبغي للموصى إليه أن يقبل لصعوبة العدل جدا، ومن هنا قال أبو يوسف: الدخول في الوصاية أول مرة غلط وثاني مرة خيانة وثالث مرة سرقة، ومن هذا يعمل ما في الوجه السادس، ويرد على السابع أيضا أن المشي في الأرض مرحا كالأمور التي صرف الخطاب في النهي عنها عنه صلّى الله عليه وسلّم في أن فطرته وفطنته وسلامة طبعه اللطيف واستقامة مزاجه الشريف كافية في الكف عنه فإن الكبر من البشر لا ينشأ إلا عن جهل وبلادة وقد جبل عليه الصلاة والسلام على أكمل ما يكون من التواضع بل وسائر الصفات التي هي كمال في النوع الإنساني ويؤيد ذلك قوله تعالى: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: ٤] مع أنه لم يصرف الخطاب فيه وأنه حيث اعتبر الفطنة في الكافي عن الكف لم ينفعه الاعتذار عن توحيد الخطاب في النهي عن الشرك بما اعتذر به فإن للفطنة دخلا تاما في التوحيد كما لا يخفى على فطن، ويرد على قوله في الثامن: وهذا الإيهام إلخ منع ظاهر فلا يخفى حاله كما لا يخفى، ويرد على التاسع أنه لا يساعده نقل ولا عقل بل جاء في النقل ما يخالفه كما سمعت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وإن اعتبر النهي عن الشرك من تلك التكليفات فهو كاف في تزييف هذا الوجه لأن النهي عن الشرك جاء به كل رسول ونطق به كل كتاب وما ذكره مؤيدا لغرضه بمعزل عن التأييد، هذا وبقيت إيرادات أخر على هذه الوجوه أعرضنا عنها وتركناها للذكي الفطن حذرا من التطويل فتأمل ذاك والله يتولى هداك.
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً خطاب للقائلين بأن الملائكة بنات الله سبحانه، والإصفاء بالشيء جعله خالصا، والهمزة للإنكار وهي داخلة على مقدر على أحد الرأيين والفاء للعطف على ذلك المقدر أي أفضلكم على جنابه فخصكم بأفضل الأولاد على وجه الخلوص وآثر لذاته أخسها وأدناها، والتعرض لعنوان الربوبية لتشديد النكير وتأكيده، وعبر بالإناث إظهارا للخسة.
وقال شيخ الإسلام: أشير بذكر الملائكة عليهم السلام وإيراد الإناث مكان البنات إلى كفرة لهم أخرى وهي وصفهم لهم عليهم السلام بالأنوثة التي هي أخس صفات الحيوان كقوله تعالى: وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً [الزخرف: ١٩] وفي الكشف أنه تعالى لما نهى عن الشرك ودل على فساده أتى بالفاء الواصلة وأنكر عليهم ذلك دليلا على مكان التعكيس وأنهم بعد ما عرفوا أنه سبحانه بريء من الشريك بدليل العقل والسمع نسبوا إليه تعالى ما هو شرك ونقص وازدراء بمن اصطفاه من عباده فيا له من كفرة شنيعة ولذا قيل:
إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ بمقتضى مذهبكم الباطل قَوْلًا عَظِيماً لا يقادر قدره في استتباع الإثم وخرقه لقضايا العقول بحيث لا يجترىء عليه ذو عقل حيث تجعلونه سبحانه من قبيل الأجسام السريعة الزوال المحتاجة إلى بقاء النوع بالتوالد وليس كمثله شيء وهو الواحد القهار الباقي بذاته ثم تضيفون إليه تعالى ما تكرهون من أخس الأولاد وتفضلون عليه سبحانه أنفسكم بالبنين ثم تصفون الملائكة عليهم السلام بما تصفون.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا من التصريف وهو كثرة صرف الشيء من حال إلى حال، ومفعوله هنا محذوف للعلم به أي صرفناه أي هذا المعنى والمراد عبرنا عنه بعبارات وقررناه بوجوه من التقريرات فِي هذَا الْقُرْآنِ العظيم أي في مواضع منه فالمراد بالقرآن مجموع التنزيل وجوز أن يراد به البعض المشتمل على إبطال إضافة البنات إليه سبحانه
78
ومفعول صَرَّفْنا محذوف أيضا أي صرفنا القول المشتمل على إبطال الإضافة المذكورة في هذا المعنى، وإيقاع القرآن على المعنى وجعله ظرفا للقول إما بإطلاق اسم المحل على الحال لما اشتهر أن الألفاظ قوالب المعاني أو بالعكس كما يقال الباب الفلاني في كذا وهذه الآية في تحريم كذا أي في بيانه، ويجوز تنزيل الفعل منزلة اللازم وتعديته بفي كما في قوله: يجرح في عراقيبها نصلي. أي أوقعنا التصريف فيه. وقرىء «صرفنا» بالتخفيف والصرف كالتصريف إلا في التكثير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتذكروا ويتعظوا ويطمئنوا له فإن التكرار يقتضي الإذعان واطمئنان النفس وَما يَزِيدُهُمْ ذلك التصريف إِلَّا نُفُوراً عن الحق وإعراضا عنه وهو تعكيس. وقرأ حمزة والكسائي هنا وفي لِيَذَّكَّرُوا [الفرقان: ٥٠] من الذكر الذي هو بمعنى التذكر ضد النسيان والغفلة، والتذكر على القراءة الأولى بمعنى الاتعاظ كما أشير إليه، والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء الحال أن يعرض عنهم ويحكي للسامعين هناتهم قُلْ في إظهار بطلان ذلك من جهة أخرى لَوْ كانَ مَعَهُ سبحانه وتعالى في الوجود آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ أي المشركون قاطبة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف بالتاء ثالث الحروف خطابا لهم والأمران في مثل هذا المقام شائعان، وذلك أنه إذا أمر أحد بتبليغ كلام لأحد فالمبلغ له في حال تكلم الآمر غائب ويصير مخاطبا عند التبليغ فإذا لو حظ الأول حقه الغيبة وإذا لو حظ الثاني حقه الخطاب وكذا قرؤوا فيما بعد. وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم هنا بالتاء وهناك بالياء آخر الحروف على أنه تنزيه منه سبحانه لنفسه ابتداء من غير أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقوله لهم، والكاف في محل النصب على أنها نعت لمصدر محذوف أي كونا مشابها لما يقولون والمراد بالمشابهة على ما قيل الموافقة والمطابقة.
إِذاً لَابْتَغَوْا جواب عن قولهم: إن مع الله سبحانه آلهة وجزاء للو أي لطلب الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ أي إلى من له الملك والربوبية على الإطلاق سَبِيلًا بالمغالبة والممانعة كما اطردت العادة بين الملوك، وهي إشارة إلى برهان التمانع كقوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وذلك بتصوير قياس استثنائي استثنى فيه نقيض التالي لينتج نقيض المقدم المطلوب، وسيأتي إن شاء الله تعالى تقريره في محله، وإلى هذا ذهب سعيد ابن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم، وعن مجاهد وقتادة أن المعنى إذا لطلبوا الزلفى إليه تعالى والتقرب بالطاعة لعلمهم بعلوه سبحانه عليهم وعظمته وهذا كقوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ [الإسراء: ٥٧] وهو إشارة إلى قياس اقتراني هكذا لو كان كما زعمتم آلهة لتقربوا إليه تعالى وكل من كان كذلك ليس إلها فهم ليسوا بآلهة. قيل ولَوْ على الأول امتناعية وعلى هذا شرطية، والقياس مركب من مقدمتين شرطية اتفاقية وحملية.
واختار المحققون الوجه الأول لأنه الأظهر الأنسب بقوله سبحانه: سُبْحانَهُ فإنه ظاهر في أن المراد بيان أنه يلزم ما يقولونه محذور عظيم من حيث لا يحتسبون.
وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب فليس مما يختص بهذا التقدير ولا مما يلزمهم من حيث لا يشعرون بل هو أمر يعتقدونه رأسا أي ينزه بذاته تنزيها حقيقا به سبحانه وَتَعالى متباعدا عَمَّا يَقُولُونَ من العظيمة التي هي أن يكون معه تعالى آلهة وأن يكون له بنات عُلُوًّا أي تعاليا فهو مصدر من غير فعله كقوله تعالى أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] كَبِيراً بعيد الغاية بل لا غاية وراءه كيف لا وأنه تعالى في أقصى غايات الوجود وهو الوجوب الذاتي وما يقولونه من أن معه آلهة وأن له أولادا في أدنى مراتب العدم وهو الامتناع الذاتي.
79
وقيل لأنه تعالى في أعلى مراتب الوجود وهو كونه واجب الوجود والبقاء لذاته واتخاذ الولد من أدنى مراتبه فإنه من خواص ما يمتنع بقاؤه.
وتعقب بأن ما يقولونه ليس مجرد اتخاذ الولد بل مع ما سمعت ولا ريب في أن ذلك ليس بداخل في حد الإمكان فضلا عن دخوله تحت الوجود، وكونه من أدنى مراتب الوجود إنما هو بالنسبة إلى من من شأنه ذلك، واعتذر بأنه من باب التنبيه بحال الأدنى على حال الأعلى ولا يخفى أن ذكر العلو بعد عنوانه بذي العرش في أعلى مراتب البلاغة تُسَبِّحُ بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو والأخوين وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء «سبحت» لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ أي من الملائكة والثقلين وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ من الأشياء حيوانا كان أو نباتا أو جمادا إِلَّا يُسَبِّحُ ملتبسا بِحَمْدِهِ تعالى، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال.
وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ بناء على أن كثيرا من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بحلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام.
وقوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال: لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بحلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلا عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطابا على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام.
وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه الباري سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقا سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي. وتعقبه بأنه لا يلائمه لا تَفْقَهُونَ لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي. وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليبا. وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن إنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات ولم يرتض
80
ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطا عقليا لا نسد باب العلم بكونه سبحانه وتعالى حيا وأيضا التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلّى الله عليه وسلّم.
وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بطعام ثريد فقال: إن هذا الطعام يسبح فقالوا: يا رسول الله وتفقه تسبيحه؟ قال: نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال: نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبح فقال: أدنها من آخر فأدناها منه فقال: يا رسول الله هذا الطعام يسبح ثم قال: ردها فقال رجل: يا رسول الله لو أمرّت على القوم جميعا فقال: لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا: من ذنب ردها فردها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا بينما نحن مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليس معنا ماء فقال لنا: اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال: حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه قال عبد الله: كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب.
وأخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه:
آمر كما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء، وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم: اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر الله تعالى منه
وأخرج النسائي وأبو الشيخ وابن مردويه عن ابن عمر قال: نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح.
وأخرج ابن أبي الدنيا وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال: ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحدا لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكا نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع فأنصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها فقال له الملك: كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت؟ قال: نعم قال: ماذا قالت؟ قالت: قال سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود: لا والذي جعلني نبيه إن لم أمدحه بهذا.
وأخرج أحمد في الزهد وأبو الشيخ عن شهر بن حوسب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وإني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح الله تعالى ونقدسه.
وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال: كنا عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال: أتدرون ما تقول هذه العصافير؟ قلنا: لا قال: أما إني ما أقول أنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها.
وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال: أتى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بغراب وافر الجناحين فقال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح.
81
وأخرج أبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح.
وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء وابن مردويه عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعا
أيضا. وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم. وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال:
«بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثاني سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وبحمده والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزة ووقارا» إلى ما لا يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية، وذكروا أن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى.
وقد روي عن بعض السلف سماعه لتسبيح بعض الجمادات، واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم:
بثبوته للاشياء مطلقا، وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت (١) وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت، وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال: جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم: هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن: كلا إنما ذاك كل شيء على أصله.
وأخرج عن السدي أنه قال: ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى، ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول.
وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية: كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان، وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت، واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب.
ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجها وفي القلب من صحة الرواية عن الحبر شيء، وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر، ولا أظن أن لما يخالفها امتيازا عليها في الصحة.
ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الإمام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات، وتفصى بعضهم عن هذا بالتزام أن لكل شيء حياة وعلما لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا الله تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة.
ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال: كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان، وقال الشيخ الأكبر قدس سره: إن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنسانا لا غير بالصورة ووقع التفاصل بين الخلائق في المزاج والكل يسبح الله تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه،
وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من
(١) وفيه خبر عن عائشة رضي الله تعالى عنها رواه الخطيب في تاريخ مرفوعا اه منه. [.....]
82
رطب ويابس
، والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال.
واستدل بعضهم في هذا المقام بما
روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في دعائه للحمى: يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلّى الله عليه وسلّم
، وجاء عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أن له شعورا واستفاض عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب للنيل كتابا يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها: إني أعدل عليك، وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول: إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز، ومن علم عظم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أو حال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجن الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة والسلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه قرب فكر يظنه المرء حقا وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف.
وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في تَسْبِيحَهُمْ على ما تقدم إلى توجيه وتفصي آخر عن الأول بأن قوله تعالى إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً متعلق بقوله سبحانه سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ ولا يخفى ما في التفصي، ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين لكل شيء، والتذييل باعتبار القصور في فقه الآخر، ويشكل أيضا أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلا عن الساكت فالحمل على المجاز واجب. وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق، وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضا وأنشدوا للحلاج:
جحودي لك تقديس... وعقلي فيك منهوس
فما آدم إلاك... وما في الكون إبليس
وأنت تعلم أن مثل هذا الحلج والندف صار سببا لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل. وقرىء لا يفقهون على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه جَعَلْنا بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفيفة.
بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وهم المشركون المتقدم ذكرهم، وأوثر الموصول على الضمير ذما لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد.
وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيدا لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد حِجاباً يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترءوا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم: «إن تتبعون إلا رجلا مسحورا» وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجبا مَسْتُوراً أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه وَعْدُهُ
83
مَأْتِيًّا
[مريم: ٦١] وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجيء فاعل لذلك كلابن وتامر، وجوز أن يكون الإسناد مجازيا كما اشتهر في المثال الأخير، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤوم بمعنى يأمن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستورا عن الحس فهو على ظاهره ويكون بيانا لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستورا في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذانا بتعدد الحجب أو مستورا كونه حجابا حيث لا يدرون أنهم لا يدرون، وقيل: إنه على الحذف والإيصال أي مستورا به الرسول صلّى الله عليه وسلّم.
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة.
أَنْ يَفْقَهُوهُ مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من أَكِنَّةً لا أن جَعَلْنا أو شيئا مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً صمما وثقلا عظيما مانعا من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلّى الله عليه وسلّم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جيء بها بيانا لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظيا وعلى جعله لفظيا لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم: المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال: الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج، وتعقب بأنه لا يلائم بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ إلخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضا يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى: وَجَعَلْنا إلخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم.
وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم وذلك أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجابا عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل.
وقيل: المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلّى الله عليه وسلّم وذاته الكريمة.
فقد أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي معا في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت: لما نزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ [المسد: ١] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول:
مذمما أبينا ودينه قلينا وأمره عصينا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم جالس، وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال: إنها لن تراني، وقرأ قرآن اعتصم به كما قال تعالى: «وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا» فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت: يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول: قد علمت قريش أني بنت سيدها.
84
وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر: يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: حال بيني وبينها جبريل عليه السلام
، وذكر الإمام أنه كان صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى: في سورة [الكهف:
٥٧] وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً.
وقوله سبحانه في [النحل: ١٠٨] أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وقوله جل وعلا في سورة [حم الجاثية: ٢٣] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا إلخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضرا مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعا يمنع من الرؤية قالوا: إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضرا أو حواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجابا مستورا ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعا لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين: إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضا ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب إلخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام
والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه متى ذهبت
فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضا وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصا في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم جهلا وكفرا من اتصافهم بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحرا وشعرا وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الأخبار بأن هناك أمرا وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال: حيث كان الكلام مسوقا لتعداد قبائحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلا ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، ووَحْدَهُ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحدا وحدة كوعده يعده وعدا وعدة وهو ساد مسدا لحال بمعنى واحدا، وقيل: هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيجاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد.
ومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالا من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحدا له أو موحدا بالذكر وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ هربوا أو نفروا نُفُوراً فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما.
85
وجوز أن يكون مفعولا لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالا على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن.
يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالأشعار
، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الهزء وهي متعلقة بيستمعون، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر أسماعهم غير ظاهر، والباء الأولى متعلقة بأعلم، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلا، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم.
إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف لأعلم لا مفعول به، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالأخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى: وَإِذْ هُمْ نَجْوى لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم.
والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم، وجوز أن يكون الأول ظرفا ليستمعون والثاني ظرفا ليتناجون، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر، ونَجْوى مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتلى وقتيل أي إذ هم متناجون إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفا كما قيل. والظَّالِمُونَ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم إِنْ تَتَّبِعُونَ أي ما تتبعون إن وجد منكم الإتباع فرضا، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي سحر فجن فهو كقولهم: إن هو إلا رجل مجنون، وقيل: جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر، وجعل بعضهم مَسْحُوراً بمعنى ساحرا كمستور بمعنى ساتر، وعن أبي عبيدة أن مسحورا بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر (١) أي رئة، ومن هذا قول امرئ القيس:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسحر بالطعام وبالشراب
وأراد نغذى، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت:
فإن تسألينا فيم نحن فإننا عصافير من هذا الأنام المسحر
وكنوا بذلك عن كونه بشرا يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة: لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة. وقال ابن عطية: إنه لا يناسب قوله تعالى: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي مثلوك فقالوا تارة شاعر وتارة ساحر وتارة مجنون مع علمهم بخلافه فَضَلُّوا في جميع ذلك عن منهاج الحاجة فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ما لا يخفى.
(١) قوله أو ذا سحر بتثليث السين وسكون الحاء وقد تفتح الرئة اه منه.
86
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً عطف على ضَرَبُوا ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمرا آخر يعجب منه أيضا. وفي الكشف الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيرا لضربوا لك الأمثال ألا ترى إلى قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك، ولا خفاء أن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم، وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به صلّى الله عليه وسلّم وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضا يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال، وأما على تفسير ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفا على قوله سبحانه فَضَلُّوا لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه كيف ضربوا لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالوا: أَإِذا كُنَّا إلخ اه.
ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون قالُوا معطوفا على ضَرَبُوا أيضا عطفا تفسيريا لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره، وعطفه على فَضَلُّوا مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء، والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة والسلام بالشاعر والساحر مثلا بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا، وأيضا كان الظاهر أن يقال فيك بدل لك ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه صلّى الله عليه وسلّم وعجزهم عن معارضته، ولَكَ أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة والسلام الممثل له، هذا وأقول: انظر هل ثم مانع من عطف قالُوا على يَقُولُ الظَّالِمُونَ وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضا وإعلانهم به أحيانا لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف، نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر.
والرفات ما تكسر وبلي من كل شيء، وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات.
وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء، وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه الغبار، وقال المبرد: هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة، والهمزة للاستفهام الإنكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا: إن ذلك لا يكون أصلا.
ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المقتضية للاتصال المقتضي للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافيا، وإِذا هنا كما في الدر المصون متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه.
قوله تعالى إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ لأنفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الاستفهام وإن كان تأكيدا مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد وهو مصب الإنكار، وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله.
وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها. وقيل الشرط والمعنى انبعث وقد كنا رفاتا في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاما ورفاتا كما يتراءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين خَلْقاً جَدِيداً نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى
87
المخلوق ووحد لاستواء الواحد في المصدر وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين قُلْ جوابا لهم وتقريبا لما استبعدوه.
كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً رد سبحانه قوله كُونُوا على قولهم كنا فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس، ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قول موسى عليه السلام أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [يونس: ٥٨، الشعراء: ٤٣] وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة: ٦٥، الأعراف: ١٦٦] لكنه قال: إنه على الفرض، وفي الكشف أنه غير ظاهر ولو جعل من باب كن فلانا على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاما ومع ذلك تبعثون لا محالة. لكان وجها قويما، وبحث فيه الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازا عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر، والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات.
والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين أَوْ خَلْقاً أي مخلوقا آخر مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن الله تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الأعراض فكيف إذا كنتم عظاما بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد، وقال مجاهد: الذي يكبر السموات والأرض والجبال.
وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس. وابن عمر والحسن، وابن جبير أنهم قالوا: ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت، والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلا عن أصل لا يضاد الحياة إن لم يقتضها، وفيه مبالغة حسنة وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه فَسَيَقُولُونَ لك: مَنْ يُعِيدُنا مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة قُلِ لهم تحقيقا للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشادا إلى طريقة الاستدلال الَّذِي فَطَرَكُمْ أي القادر العظيم الذي اخترعكم أَوَّلَ مَرَّةٍ من غير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم ترابا ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير، والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو فاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأولى كما فصل في محله.
وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظرف فطركم فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي سيحر كونها نحوك استهزاء كما روي عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر:
أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى خيولا عليها كالأسود ضواريا
ومثله قول الآخر:
أنغض نحوي رأسه وأقنعا كأنه يطلب شيئا أطمعا
وفي القاموس نغض كنصر وضرب نغضا ونغوضا ونغضانا ونغضا محركتين تحرك واضطرب كأنغض وحرك كأنغض، وفسر الفراء الإنغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض، وقال أبو الهيثم: من أخبر بشيء فحرك رأسه إنكارا له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤوسهم إنكارا وَيَقُولُونَ استهزاء مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة، وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام قُلِ لهم عَسى أَنْ يَكُونَ ذلك قَرِيباً فإن ما هو محقق
88
إتيانه قريب، ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحدا، وقيل: قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه وانتصاب قَرِيباً على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه، وجوز أن يكون منصوبا على الظرفية والأصل زمانا قريبا فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير أي عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبرا لعسى واسمها ضمير يعود على ما عاد عليه اسم يكون، وجوز أن يكون مرفوعا بعسى وهي تامة لا خبر لها أي عسى كونه قريبا أو في وقت قريب.
واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل: قرب أن يكون قريبا ولا فائدة فيه، وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقاربة في عسى لا وضعا ولا استعمالا، ويدل له ذكر قَرِيباً بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريبا يَوْمَ يَدْعُوكُمْ منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من قَرِيباً على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز أعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفا أو بضمير المصدر المستتر في يكون أو عسى العائد على العود مثلا بناء على مذهب الكوفيين المجوزين أعمال ضمير المصدر كما في قوله:
وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم وما هو عنها بالحديث المرجم
وجعله بدلا من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة، والدعاء قيل: مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى: فَتَسْتَجِيبُونَ مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧ وغيرها] في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور، وتجوز بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قوله: قم يا فلان أمر سريع لأبطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني، وقال الإمام وأبو حيان: يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق: ٤١] الآية، ويقال إن إسرافيل عليه السلام
وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت.
وأخرج أبو داود وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال: «قال صلّى الله عليه وسلّم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم»
لعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازا والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازا فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر.
بِحَمْدِهِ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية.
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال: يخرجون من قبورهم وهم يقولون: سبحانك اللهم وبحمدك
89
ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسرا حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل: منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعوكم ليس بشيء، وعن الطبري أن بِحَمْدِهِ معترض بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله:
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع
ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى
فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال: عسى أن يكون البعث قريبا يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري
، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله، وقيل: الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى: قَرِيباً فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث،
وأخرج الترمذي والطبراني وغيرهما عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن»
وفي رواية عن أنس مرفوعا «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن»
وقيل: الخطاب للفريقين وكلهم يقولون ما روي عن ابن جبير.
وَتَظُنُّونَ الظاهر أنه عطف على (تستجيبون) وإليه ذهب الحوفي وغيره، وقال أبو البقاء: هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون إِنْ لَبِثْتُمْ أي ما لبثتم في القبور إِلَّا قَلِيلًا كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدنيا كما روى غير واحد عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلّون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا [يس: ٥٢] وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب قَلِيلًا على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن يكون نعتا لمصدر محذوف أي لبثا قليلا ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية وَقُلْ لِعِبادِي أي المؤمنين فالإضافة لتشريف المضاف يَقُولُوا عند محاورتهم مع المشركين الَّتِي أي الكلمة أو العبارة التي هِيَ أَحْسَنُ ولا يخاشنوهم كقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت: ٤٦] ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش، ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله صلّى الله عليه وسلّم بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم.
وقال الزجاج: إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي إلخ. وقال المازني: إنه المقول أيضا إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر، والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى، ومقول يقولوا الَّتِي وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام.
إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى
90
تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق، وقرأ طلحة «ينزغ» بكسر الزاي، قال أبو حاتم: لعلها لغة والقراءة بالفتح، وقال صاحب اللوامح: الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ قدما لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطان ينزغ بينهم رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوفيق للإيمان أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر، وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل: قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة الله تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الإيمان، والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي. وقال الكرماني: هي للإضراب ولذا كررت معها أن، وقال ابن الأنباري: دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند الله تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا ومفوضا إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً [البقرة: ١١٩، فاطر: ٢٤] فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم، وهذا قبل نزول آية السيف وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلا لذلك وهو رد عليه إذ قالوا: بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبيا وأن يكون العراة الجوع كصهيب وبلال وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد.
وذكر من في السموات لإبطال قولهم لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: ٢١] وذكر من في الأرض لرد قولهم: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم بعلى اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أبو علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفا ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشىء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلّى الله عليه وسلّم فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلا: وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥] يعني محمدا صلّى الله عليه وسلّم، وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوما وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول: فيه الأحوص يا بيت عاتكة الذي أتغزل ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة:
وأراك تفعل ما تقول وبعضهم مذق اللسان يقول ما لا يفعل
فأنجز عدته، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علما للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء. أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال: الزبور ثناء على الله عز وجل ودعاء وتسبيح، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال: كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود.
91
والذي تدل عليه بعض الآثار اشتماله على بعض النواهي والأوامر،
فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أني أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلى أعطف قلوبهم عليكم
، والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه، ومع هذا الفرق بينه وبين التوراة ظاهر، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل.
وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضا في دخول أل عليه أي آتيناه زبورا من الزبر وجوز أن يكون مختصا بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى: لَيْلًا فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضا من الزبور فيه ذكره صلّى الله عليه وسلّم، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على ما في الكشف أنه تعالى لما أرشد نبيه صلّى الله عليه وسلّم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضا على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين، وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا متعلق بجميع السابق من قوله تعالى: قُلْ كُونُوا المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن وَقُلْ لِعِبادِي المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه: أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وقوله عز وجل: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من تتمة إن تتبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] ولو كان خيرا ما سبقونا إليه فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ إلخ للمؤمنين وروي ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجا بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلا: إِنَّ الشَّيْطانَ إلخ وضمير بينهم أما للكفار أو للفريقين وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو. قال في الكشف إنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بربكم أعلم بكم وقوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بقبول أوامره ونواهيه أو إن يشأ يعذبكم بآبائكم أو إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو إن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلا فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلا عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ الحث على ما قرر تكلف ما اه، وقيل: المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سببا لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين
92
الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عبادا لي يقولوا التي هي أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصبا للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهرا ثم قال لهم سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالهداية أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا
محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال سبحانه: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ إلخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بلا إله إلا الله ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال: ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجيء قوله سبحانه: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملال ولا يخفى أنه في حيز المنع، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة، وهي هاهنا ظاهرة ويكون قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ إلخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولا لا أظنه يخفى، والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس: كل ما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه.
فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلا من أهل البادية- واسمه ضمام بن ثعلبة- جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال صدق الحديث
فإن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا.
وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: زعم جبريل عليه السلام كذا، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله:
زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في شرح الفصيح عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين، وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفا هاهنا أو ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما، والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون الله سبحانه من العقلاء.
وأخرج عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والطبراني وجماعة عن ابن مسعود قال: كان نفر من الإنس يعبدون نفرا من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية، وكان هؤلاء الإنس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه، وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة، وفي رواية ابن جرير أنه قال:
كان قبائل من العرب يعبدون صنفا من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله سبحانه فنزلت الآية. وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا بالله تعالى فعبدوا عيسى وأمه «عزيرا والشمس والقمر والكواكب وعلى هذا ففي الآية على ما في البحر تغليب العاقل على غيره، ومتى صح أدراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناء على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد الباطل من الأصنام ويرتكب التغليب، وتعقب بأن ما سيأتي قريبا إن شاء الله تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام
93
بناء على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك، وارتكاب التغليب هناك أيضا خلاف الظاهر جدا، والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل: يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر، والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم.
فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون بأنفسهم كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ كالمرض والفقر والقحط وغيرها وَلا تَحْوِيلًا ولا نقله منكم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكون كذلك إذا كانت مفاضة من الغير، وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها، وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفي قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقا على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل: هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضا المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا تحصل لهم الإجابة، وقد يقال: المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلا ويحتج له بدليل الأشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداء.
وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناء على ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فنزلت، وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص. واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقا عن آلهتهم كان إذ ذاك مسلما عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم يَبْتَغُونَ يطلبون باجتهاد لأنفسهم إِلى رَبِّهِمُ ومالك أمرهم الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير يَبْتَغُونَ للمشار إليهم، وقال ابن فورك: الضمير أن للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى، ومفعول يَدْعُونَ محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى.
وقرأ ابن مسعود وقتادة «تدعون» بالتاء ثالثة الحروف وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «يدعون» بالياء آخر الحروف مبنيا للمفعول، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه «إلى ربك» بكاف الخطاب، واسم الإشارة مبتدأ والموصول أو بيان والخبر جملة يَبْتَغُونَ أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة، وقوله تعالى:
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين، الأول كون أي موصولة بدلا من ضمير يَبْتَغُونَ بدل بعض من كل وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس، ولا ينافي ذلك جمع يَرْجُونَ ويَخافُونَ فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعددا، والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ وأَقْرَبُ خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافا ليونس
94
وقال الطيبي: لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ [النحل: ٣٧] ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذ قوله تعالى: إِلى رَبِّهِمُ بأقرب وهو كما ترى.
وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه: إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافا بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاما جاريا على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضا فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه.
ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصا عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيرا في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجنا لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ولو شاء ربك لآمن وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لا يصلح جوابا فارقا بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه.
ولعمري لم يبق في القوس منزعا في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف، وجوز الحوفي والزجاج أن يكون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ مبتدأ وخبر الجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه. وتعقب ذلك في البحر بأن في إضمار الفعل المعلق نظرا ومع ذا هو وجه غير ظاهر، وجوز أبو البقاء كون أَيُّهُمْ أَقْرَبُ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلا من ضمير يَدْعُونَ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان: فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه، وقوله تعالى: وَيَرْجُونَ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون رَحْمَتَهُ تعالى وَيَخافُونَ عَذابَهُ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلا عن كونهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم، والجملة تعليل لقوله سبحانه: وَيَخافُونَ عَذابَهُ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه
ففي الحديث القدسي «سبقت رحمتي غضبي»
وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماء إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلّب رجاءه على خوفه، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال: لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفا من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهارا للاستغناء
95
عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطئ كافر، ومن قاله لاعتقاد أن الله عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلا لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بإماتة أهلها حتف أنوفهم أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وأنواع البلاء، وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة، وروي عن الأول أنه قال: الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة، وقال أيضا: وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلدا بلدا.
وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من عدو يحصرهم برا وبحرا وخرابا الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع،
وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «آخر قرية من قرى الإسلام خرابا المدينة»
كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه، وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضا الترمذي بنحوه وقال حسن غريب
ورواه أبو حيان بلفظ «آخر قرية في الإسلام خرابا المدينة»
وفي البحور الزاخرة أن سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ما
أخرجه الشيخان «لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة» الحديث.
وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات «المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا: فمن يأكلها؟ قال: السباع والعوافي»
وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت
في الصحيحين وغيرهما لكن بلفظ «يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة»
وفي حديث حذيفة مرفوعا «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجرا حجرا ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر»
وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجيء الحبشة فيخربونه أي البيت خرابا لا يعمر بعده أبدا
، نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك؟ فقيل: زمن عيسى عليه السلام، وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول الله وهو آخر الآيات، ومال إلى ذلك السفاريني، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خرابا يقتضي أن خراب مكة قبلها والله تعالى أعلم.
وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خرابا، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي
96
والسفياني إلا أن في أكثرها للمنقر مقالا. وزعم البوني وإضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محيي الدين قدس سره، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد يعد من اللغة العربية، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته.
وقال القاضي عياض في الشفاء:
روي أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنقل إليها الخزائن يخسف بها»
يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولا، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى: أَوْ مُعَذِّبُوها إلخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريبا إن شاء الله تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجيء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقي على وجه الأرض أحدا في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب، فمن ذلك ما
أخرجه الطبراني وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل: يا رسول الله أسليمة يومئذ على المؤمنين والمؤمنات؟ قال: وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول مه مه
إلى غير ذلك من الأخبار، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى إن الرجل ليعطى الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحا به في بعض الأحاديث،
فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال: حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعا ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر للناس الحديث
ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضا بل في الآثار ما يقتضيه كانَ ذلِكَ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره مَسْطُوراً مكتوبا، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إلا بين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له. واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الأبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى ادعى أنه يعلم منها أسماء أهل الجنة والنار وأسماء آبائهم وأخرى ادعى أنه يعلم منها الحوادث التي تكون في الجنة، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى.
هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بيانا
97
لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره أثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك، وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذابا شديدا لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة، ثم إنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التخصيص: أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضرّ وأنّ آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم، ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم، وهذا ظاهر بناء على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل.
وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا، ثم قال: إن تعميم القرية لا يساعده السباق ولا السباق اه وفيه تأمل. ومن الناس من رجحه على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق.
وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي الآيات التي اقترحتها قريش،
فقد أخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه والطبراني وغيرهم عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وأن ينحي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذي سألوا فإن كفروا أهلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم فقال عليه الصلاة والسلام: لا بل استأني بهم فأنزل الله تعالى هذه الآية
، وأن ما بعدها في تأويل مصدر منصوب على أنه مفعول منع على ما صرح به الطبرسي أو منصوب بنزع الخافض كما قيل: لتعدي الفعل إلى مفعوله الثاني بالحرف كما في قوله تعالى:
أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النساء: ١٤١] أي وما منعنا الإرسال أو من الإرسال بالآيات إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا أي بجنسها الْأَوَّلُونَ من الأمم السابقة المقترحة، والاستثناء مفرغ من أعم الأشياء وأن وما بعدها في تأويل مصدر فاعل منع أي ما منعنا شيء من الأشياء إلا تكذيب الأولين.
وزعم أبو البقاء أنه على تقدير مضاف أي إلا إهلاك تكذيب الأولين، ولا حاجة إليه عند الآخرين.
والمنع لغة كف الغير وقسره عن فعل يريد أن يفعله ولاستحالة ذلك في حقه سبحانه لاستلزامه العجز المحال المنافي للربوبية قالوا: إنه هنا مستعار للصرف وأن المعنى وما صرفنا عن إرسال الآيات المقترحة إلا تكذيب الأولين المقترحين المستتبع لاستئصالهم فإنه يؤدي إلى تكذيب الآخرين المقترحين بحكم اشتراكهم في العتو والعناد وهو مفض إلى أن يحل بهم مثل ما حل بهم بحكم الشركة في الجريرة والفساد وجريان السنة الإلهية والعادة الربانية بذلك وفعل ذلك بهم مخالف لما كتب في لوح القضاء بمداد الحكمة من تأخير عقوبتهم، وحاصله أنا تركنا إرسال الآيات لسبق مشيئتنا تأخير العذاب عنهم لحكم نعلمها، واستشعر بعضهم من الصرف نوع محذور فجعل المنع مجازا عن الترك. وتعقب بأنه لا يصح مع كون الفاعل التكذيب لأن التارك هو الله تعالى.
وأجيب بأن دعوى لزوم اتحاد الفاعل في المعنى الحقيقي والمستعار له مما لم يقم عليه دليل بل الظاهر خلافه.
98
وذكر بعض المحققين ولله تعالى أبوه وإن نوقش أن تكذيب الأولين المستتبع للاستئصال والمستلزم لتكذيب الآخرين المفضي لحلول الوبال مناف لإرسال الآيات المقترحة لتعين التكذيب المستدعي لما ينافي الحكمة في تأخير عقوبة هذه الأمة فعبر عن تلك المنافاة بالمنع على نهج الاستعارة إيذانا بتعاضد مبادئ الإرسال لا كما زعموا من عدم إرادته تعالى لتأييد رسوله صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزات وهو السر في إيثار الإرسال على الإيتاء لما فيه من الإشعار بتداعي الآيات إلى النزول لولا أن تمسكها يد التقدير، وإسناد المنع إلى تكذيب الأولين لا إلى علمه تعالى بما سيكون من المقترحين الآخرين كما في قوله تعالى: لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٣] لإقامة الحجة عليهم بإبراز الأنموذج وللإيذان بأن مدار عدم الإجابة إلى إيتاء مقترحهم ليس إلا صنيعهم، ثم حكمة التأخير قيل إظهار مزيد شرف النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقيل العناية بمن سيولد من بعضهم من المؤمنين وبمن سيؤمن منهم، وينبغي أن يزاد في كل إلى غير ذلك مثلا وإلا فلا حصر، وقيل معنى الآية إنا لا نرسل الآيات المقترحة لعلمنا بأنهم لا يؤمنون عندها كما لم يؤمن بها من اقترحوها قبلهم فيكون إرسالها عبثا لا فائدة فيه والحكيم لا يفعله، وأنت تعلم أنه إذا كان إرسال المقترح إذا لم يؤمن عنده المقترح عبثا لا يفعله الحكيم أشكل فعله من أول مرة على أن ما روي في سبب النزول يقتضي التفسير الأول كما لا يخفى وفسرت الآيات بالمقترحة لأن ما بها إثبات دعوى الرسالة من مقتضيات الإرسال وما زاد على ذلك ولم يكن عن اقتراح لطف من الملك المتعال وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ عطف على ما يفصح عنه النظم الكريم كأنه قيل: وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون حيث أتيناهم ما اقترحوا على أنبيائهم عليهم السلام من الآيات الباهرة فكذبوها وآتينا ثمود الناقة باقتراحهم على نبيهم صالح عليه السلام وأخرجناها لهم من الصخرة مُبْصِرَةً على صيغة اسم الفاعل حال من الناقة، والمراد ذات إبصار أو ذات بصيرة يبصرها الغير ويتبصر بها فالصيغة للنسب أو جاعلة الناس ذوي بصائر على أنه اسم فاعل من أبصره والهمزة للتعدية أي جعله ذا بصيرة وإدراك ويحتمل أن يكون إسناد الأبصار إليها مجازا وهو في الحقيقة حال من يشاهدها وقرأ قوم «مبصرة» بزنة اسم المفعول أي يبصرها الناس ولا خفاء في ذلك. وقرأ قتادة «مبصرة» بفتح الميم والصاد أي محل إبصار بجعل الحامل على الشيء بمنزلة محله نحو الولد مبخلة مجبنة. وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «مبصرة» بزنة اسم الفاعل والرفع على إضمار مبتدأ أي هي مبصرة، وقرأ الجمهور ثَمُودَ ممنوعا من الصرف، وقال هارون: أهل الكوفة ينونون في كل وجه وقال أبو حاتم لا تنون العامة، والعلماء بالقرآن ثَمُودَ في وجه من الوجوه وفي أربعة مواطن ألف مكتوبة ونحن نقرؤه بغير ألف اه. وهو كما قال الراغب عجمي، وقيل عربي وترك صرفه لكونه اسم قبيلة، وهو فعول من الثمد وهو الماء القليل الذي لا مادة له ومنه قيل: فلان مثمود ثمدته النساء أي قطعن مادة مائه لكثرة غشيانه لهن ومثمود إذا كثر عليه السؤال حتى نفدت مادة ماله وصحح كثير عربيته أي آتينا تلك القبيلة الناقة فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وجحدوا كونها من عند الله تعالى لتصديق رسوله أو فكفروا بها ظالمين أي لم يكتفوا بمجرد الكفر بها بل فعلوا بها ما فعلوا من العقر أو ظلموا أنفسهم وعرضوها للهلاك بسبب عقرها. ولعل تخصيص إيتائها بالذكر لما أن ثمود عرب مثل أهل مكة المقترحين وأن لهم من العلم بحالهم ما لا مزيد عليه حيث يشاهدون آثار هلاكهم لقرب ديارهم منهم ورودا وصدورا، وجوز أن يكون ذلك لأن الناقة من جهة أنها حيوان أخرج من الحجر أوضح دليل على تحقق مضمون قوله تعالى: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً [الإسراء: ٥٠] إلخ والأول أقرب وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي لمن أرسلت عليهم، والمراد بها إما المقترحة فالتخويف بالاستئصال لإنذارها به في عادة الله تعالى أي ما نرسلها إلا تخويفا من العذاب المستأصل كالطليعة له فإن لم يخافوا فعل
بهم ما فعل، وإما غيرها كآيات القرآن والمعجزات فالتخويف بعذاب الآخرة دون العذاب الدنيوي بالاستئصال أي ما نرسلها إلا تخويفا وإنذارا بعذاب الآخرة. واستظهر أبو حيان
99
كون المراد بها الآيات التي معها إمهال كالخسوف والكسوف وشدة الرعد والبرق والرياح والزلازل وغور ماء العيون وزيادتها على الحد حتى يغرق منها بعض الأرضين، وعد الحسن من ذلك الموت الذريع أي ما نرسلها إلا تخويفا مما هو أعظم منها.
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يعتبون أو يذكرون ويرجعون، وذكر ابن عطية أن آيات الله تعالى المعتبر بها ثلاثة أقسام، قسم عام في كل شيء. ففي كل شيء له آية، تدل على أنه واحد وهناك فكرة العلماء، وقسم معتاد كالرعد والكسوف وهناك فكرة الجهلة، وقسم خارق للعادة وقد انقضى بانقضاء النبوة وإنما يعتبر اليوم بتوهم مثله وتصوره اه.
وفيه غفلة عن الكرامة فإن أهل السنة يثبتونها للولي في كل عصر، والجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز على الوجه الأول أن تكون حالا من ضمير ظلموا أي فظلموا بها ولم يخافوا العاقبة والحال إنا ما نرسل بالآيات التي هي من جملتها إلا تخويفا من العذاب الذي يعقبها فنزل بهم ما نزل، ونصب تَخْوِيفاً على أنه مفعول له.
وجوز أن يكون حالا أي مخوفين، والباء في الموضعين سيف خطيب، و (الآيات) مفعول نرسل أو للملابسة والمفعول محذوف أي ما نرسل نبيا ملتبسا بها، وقيل إنها للتعدية وأن أرسل يتعدى بنفسه وبالباء. ورد بأنه لم ينقل عن أحد من الثقات، قال الخفاجي: ولا حجة في قول كثير:
لقد كذب الواشون ما بحت عندهم بسرّ ولا أرسلتهم برسول
لاحتمال الزيادة فيه أيضا مع أن الرسول فيه بمعنى الرسالة فهو مفعول مطلق والكلام في دخولها على المفعول به، ولا يخفى أن جعل الرسول مفعولا به وزيادة الباء فيه مما لا يقدم عليه فاضل وَإِذْ قُلْنا أي واذكر زمان قولنا بواسطة الوحي لَكَ يا محمد إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما كما رواه غير واحد عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلا يخفى عليه سبحانه شيء من أحوالهم وأفعالهم الماضية والمستقبلة من الكفر والتكذيب.
وقوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ إلى آخر الآية تنبيه على تحققها بالاستدلال عليها بما صدر عنهم عند مجيء بعض الآيات لاشتراك الكل في كونها أمورا خارقة للعادات منزلة من جناب رب العزة جل مجده لتصديق رسوله عليه الصلاة والسلام فتكذيبهم ببعضها يدل على تكذيب الباقي كما أن تكذيب الأولين بغير المقترحة يدل على تكذيبهم بالمقترحة، والمراد بالرؤيا ما عاينه صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به من العجائب السماوية والأرضية كما أخرجه البخاري والترمذي والنسائي وجماعة عن ابن عباس وهي عند كثير بمعنى الرؤية مطلقا وهما مصدر رأى مثل القربى والقرابة.
وقال بعض: هي حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا والمشهور اختصاصها لغة بالمنامية وبذلك تمسك من زعم أن الإسراء كان مناما وفي الآية ما يرد عليه، والقائلون بهذا المشهور الذاهبون إلى أنه كان يقظة كما هو الصحيح قالوا: إن التعبير بها إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا أو جار على زعمهم كتسمية الأصنام آلهة فقد روي أن بعضهم قال له صلّى الله عليه وسلّم لما قص عليهم الإسراء لعله شيء رأيته في منامك أو على التشبيه بالرؤيا لما فيها من العجائب أو لوقوعها ليلا أو لسرعتها أي وما جعلنا الرؤيا التي أريناكها عيانا مع كونها آية عظيمة وأية آية وقد أقمت البرهان على صحتها إلا فتنة افتتن بها الناس حتى ارتد بعض من أسلم منهم وَالشَّجَرَةَ عطف على الرُّؤْيَا أي وما جعلنا الشجرة الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إلا فتنة لهم أيضا.
والمراد بها كما روى البخاري وخلق كثير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما شجرة الزقوم، والمراد بلعنها
100
لعن طاعميها من الكفرة كما روي عنه أيضا، ووصفها بذلك من المجاز في الإسناد وفيه من المبالغة ما فيه أو لعنها نفسها ويراد باللعن معناه اللغوي وهو البعد فهي لكونها في أبعد مكان من الرحمة وهو أصل الجحيم الذي تنبت فيه ملعونة حقيقة.
وأخرج ابن المنذر عن الحبر أنها وصفت بالملعونة لتشبيه طلعها برؤوس الشياطين والشياطين ملعونون. وقيل تقول العرب لكل طعام مكروه ضار: ملعون، وروي في جعلها فتنة لهم أنه لما نزل في أمرها في الصافات وغيرها ما نزل. قال أبو جهل وغيره: هذا محمد صلّى الله عليه وسلّم يتوعدكم بنار تحرق الحجارة ثم يقول ينبت فيها الشجر وما نعرف الزقوم إلا بالتمر بالزبد، وأمر أبو جهل جارية له فأحضرت تمرا وزبدا وقال لأصحابه ترقموا.
وافتتن بهذه المقالة أيضا بعض الضعفاء ولقد ضلوا في ذلك ضلالا بعيدا حيث كابروا قضية عقولهم فإنهم يرون النعامة تبتلع الجمر وقطع الحديد المحماة الحمر فلا تضرها والسمندل يتخذ من وبره مناديل تلقى في النار إذا اتسخت فيذهب الوسخ وتبقى سالمة، ومن أمثالهم في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.
وعن ابن عباس أنها الكشوث المذكورة في قوله تعالى: كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ [إبراهيم: ٢٦] ولعنها في القرآن وصفها فيه بما سمعت في هذه الآية ومر آنفا ما مر عن العرب، والافتتان بها أنهم قالوا عند سماع الآية: ما بال الحشائش تذكر القرآن، والمعمول عليه عند الجمهور رواية الصحيح عن الحبر.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما وَالشَّجَرَةَ بالرفع على الابتداء وحذف الخبر أي والشجرة الملعونة في القرآن كذلك وَنُخَوِّفُهُمْ بذلك ونظائره من الآيات فإن الكل للتخويف، وإيثار صيغة الاستقبال للدلالة على الاستمرار التجددي.
وقرأ الأعمش «ويخوفهم» بالياء آخر الحروف فَما يَزِيدُهُمْ التخويف إِلَّا طُغْياناً تجاوزا عن الحد كَبِيراً لا يقادر قدره فلو أرسلنا بما اقترحوه من الآيات لفعلوا بها فعلهم بإخوانها وفعل بهم ما فعل بأمثالهم وقد سبقت كلمتنا بتأخير العقوبة العامة إلى الطامة الكبرى هذا فيما أرى هو الأوفق بالنظم الكريم واختاره في إرشاد العقل السليم.
وعن الحسن ومجاهد وقتادة وأكثر المفسرين تفسير الإحاطة بالقدرة، والكلام مسوق لتسلية رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما عسى يعتريه من عدم الإجابة إلى إنزال الآيات المقترحة لمخالفتها للحكمة من نوع حزن من طعن الكفرة حيث كانوا يقولون: لو كنت رسولا حقا لأتيت بهذه المعجزة كما أتى بها من قبلك من الأنبياء عليهم السلام فكأنه قيل اذكر وقت قولنا لك إن ربك اللطيف بك قد أحاط بالناس فهم في قبضة قدرته لا يقدرون على الخروج من ربقة مشيئته فهو يحفظك منهم فلا تهتم بهم وامض لما أمرتك به من تبليغ الرسالة ألا ترى أن الرؤيا التي أريناك من قبل جعلناها فتنة للناس مورثة للشبهة مع أنها ما أورثت ضعفا لأمرك وفتورا في حالك وبعضهم حمل الإحاطة على الإحاطة بالعلم إلا أنه ذكر في حاصل المعنى ما يقرب مما ذكر فقال: أي إنه سبحانه عالم بالناس على أتم وجه فيعلم قصدهم إلى إيذائك إذا لم تأتهم بما اقترحوا ويعصمك منهم فامض على ما أنت فيه من التبليغ والإنذار ألا ترى إلخ.
ولا يخفى أن ذكر الرب مضافا إلى ضميره صلّى الله عليه وسلّم وأمره عليه الصلاة والسلام بذكر ذلك القول أنسب بكون الآية مسوقة لتسليته على الوجه الذي نقل، وذكر التخويف وأنه ما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا أوفق بما فسرت به الآية أولا، وادعى بعضهم أنه لا يخلو عن نوع تسلية، وقيل: الإحاطة هنا الإهلاك كما في قوله تعالى: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف: ٤٢] والناس قريش ووقت ذلك الإهلاك يوم بدر، وعبر عنه بالماضي مع كونه منتظرا حسبما ينبىء عنه قوله
101
تعالى: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر: ٤٥] وقوله سبحانه: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران: ١٢] وغير ذلك لتحقق الوقوع، وأولت الرؤيا بما رآه صلّى الله عليه وسلّم في المنام من مصارعهم كما صرح به في بعض الروايات،
وصح أنه صلّى الله عليه وسلّم لما ورد ماء بدر كان يقول: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم وهو يضع يده الشريفة على الأرض هاهنا وهاهنا ويقول: هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان
، وهو ظاهر في كون ذلك مناما.
ويروى أن قريشا سمعت بما أوحي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في شأن بدر وما أري في منامه من مصارعهم فكانوا يضحكون ويسخرون وهو المراد بالفتنة، وبما رآه عليه الصلاة والسلام أنه سيدخل مكة وأخبر أصحابه فتوجه إليها فصده المشركون عام الحديبية وإليه ذهب أبو مسلم والجبائي، واعتذر عن كون ما ذكر مدنيا بأنه يجوز أن يكون الوحي بإهلاكهم وكذا الرؤيا واقعا بمكة وذكر الرؤيا وتعيين المصارع واقعين بعد الهجرة ويلزم منه أن يكون الافتتان بذلك بعد الهجرة وأن يكون ازديادهم طغيانا متوقعا غير واقع عند نزول الآية وكل ذلك خلاف الظاهر.
وأخرج ابن جرير عن سهل بن سعد قال: رأس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات عليه الصلاة والسلام وأنزل الله تعالى هذه الآية وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في الدلائل وابن عساكر عن سعيد بن المسيب قال: رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بني أمية على المنابر فساءه ذلك فأوحى الله تعالى إليه إنما هي دنيا أعطوها فقرت عينه وذلك قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم عن يعلى بن مرة قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: رأيت بني أمية على منابر الأرض وسيملكونكم فتجدونهم أرباب سوء واهتم عليه الصلاة والسلام لذلك فأنزل الله سبحانه وَما جَعَلْنَا الآية»
وأخرج عن ابن عمر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «رأيت ولد الحكم بن أبي العاص على المنابر كأنهم القردة وأنزل الله تعالى في ذلك وَما جَعَلْنَا إلخ والشجرة الملعونة الحكم وولده»
وفي عبارة بعض المفسرين هي بنو أمية.
وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت لمروان بن الحكم: «سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأبيك وجدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن»
فعلى هذا معنى إحاطته تعالى بالناس إحاطة أقداره بهم، والكلام على ما قيل على حذف مضاف أي وما جعلنا تعبير الرؤيا أو الرؤيا فيه مجاز عن تعبيرها، ومعنى جعل ذلك فتنة للناس جعله بلاء لهم ومختبرا وبذلك فسره ابن المسيب، وكان هذا بالنسبة إلى خلفائهم الذين فعلوا ما فعلوا وعدلوا عن سنن الحق وما عدلوا وما بعده بالنسبة إلى ما عدا خلفاءهم منهم ممن كان عندهم عاملا وللخبائث عاملا أو ممن كان من أعوانهم كيفما كان، ويحتمل أن يكون المراد ما جعلنا خلافتهم وما جعلناهم أنفسهم إلا فتنة، وفيه من المبالغة في ذمهم ما فيه، وجعل ضمير نُخَوِّفُهُمْ على هذا لما كان له أولا أو للشجرة باعتبار أن المراد بها بنو أمية ولعنهم لما صدر منهم من استباحة الدماء المعصومة والفروج المحصنة وأخذ الأموال من غير حلها ومنع الحقوق عن أهلها وتبديل الأحكام والحكم بغير ما أنزل الله على نبيه عليه الصلاة والسلام إلى غير ذلك من القبائح العظام والمخازي الجسام التي لا تكاد تنسى ما دامت الليالي والأيام، وجاء لعنهم في القرآن إما على الخصوص كما زعمته الشيعة أو على العموم كما نقول فقد قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ [الأحزاب:
٥٧] وقال عز وجل فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ [محمد: ٢٢، ٢٣] إلى آيات أخر ودخولهم في عموم ذلك يكاد يكون دخولا أوليا لكن لا يخفى أن هذا لا يسوغ عند أكثر أهل السنة لعن واحد منهم بخصوصه فقد صرحوا أنه لا يجوز لعن كافر بخصوصه ما لم
102
يتحقق موته على الكفر كفرعون ونمرود فكيف من ليس كافرا، وادعى السراج البلقيني جواز لعن العاصي المعين ونور دعواه
بحديث الصحيحين «إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت أن تجيء فبات غضبان لعنها الملائكة حتى تصبح».
وقال ولده الجلال بحثت مع والدي في ذلك باحتمال أن يكون لعن الملائكة لها بالعموم بأن يقول: لعن الله تعالى من باتت مهاجرة فراش زوجها ولو استدل لذلك
بخبر مسلم أنه صلّى الله عليه وسلّم مر بحمار وسم بوجهه فقال: لعن الله تعالى من فعل هذا لكان أظهر
إذ الإشارة بهذا صريحة في لعن معين إلا أن يؤول بأن المراد فاعل جنس ذلك لا فاعل هذا المعين وفيه ما فيه واستدل بعض من وافقه لذلك أيضا بما
صح أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «اللهم العن رعلا وذكوان وعصية عصوا الله تعالى ورسوله»
فإن فيه لعن أقوام بأعيانهم وأجيب بأنه يجوز أنه عليه الصلاة والسلام علم موتهم أو موت أكثرهم على الكفر فلم يلعن إلا من علم موته عليه وهو كما ترى، ولا يخفى أن تفسير الآية بما ذكر غير ظاهر الملاءمة للسياق والله تعالى أعلم بصحة الأحاديث، وقيل الشجرة الملعونة مجاز عن أبي جهل وكان فتنة وبلاء على المسلمين لعنه الله تعالى، وقيل مجاز عن اليهود الذين تظاهروا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولعنهم في القرآن ظاهر، وفتنتهم أنهم كانوا ينتظرون بعثته عليه الصلاة والسلام فلما بعث كفروا به وقالوا: ليس هو الذي كنا ننتظره فثبطوا كثيرا من الناس بمقالتهم عن الإسلام وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ تذكير لما جرى منه تعالى من الأمر ومن الملائكة من الامتثال والطاعة من غير تثبط وتحقيق لمضمون قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ إلخ، أما إن كان المراد من الموصول الملائكة فظاهر، وإما إن كان غيرهم فللمقايسة، وفيه إشارة إلى عاقبة أولئك الذين عاندوا الحق واقترحوا الآيات وكذبوا الرسول عليه الصلاة والسلام فإنهم داخلون في الذرية الذين احتنكهم إبليس عليه اللعنة واتبعوه إتباع الظل لذويه دخولا أوليا ومشاركون له في العناد أتم مشاركة حتى قالوا إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [الأنفال: ٣٢] فوجه مناسبة الآية لما قبلها ظاهر، وقيل الوجه مشابهة قريش الذين كذبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لإبليس في أن كلّا منهما حمله الحسد والكبر على ما صدر منه أي واذكر وقت قولنا للملائكة اسْجُدُوا لِآدَمَ تحية وتكريما له عليه السلام، وقيل المعنى اجعلوه قبلة سجودكم لله تعالى فَسَجَدُوا من غير تلعثم امتثالا لأمره تعالى إِلَّا إِبْلِيسَ لم يكن من الساجدين وكان معدودا في عدادهم مندرجا تحت الأمر بالسجود قالَ استئناف بياني كأنه قيل فما كان منه بعد التخلف، فأجيب بأنه قال أي بعد أن وبخ بما وبخ مما قصه الله سبحانه في غير هذا الموضع على سبيل الإنكار والتعجب أَسْجُدُ وقد خلقتني من نار لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً نصب على نزع الخافض أي من طين كما صرح به في آية أخرى، وجوز الزجاج كونه حالا من العائد المحذوف والعامل خَلَقْتَ فيكون المعنى أأسجد لمن كان في وقت خلقه طينا فالطينية وإن كانت مقدمة على خلقه إنسانا لكنها مقارنة لابتداء تعلقه به، والزمخشري أيضا كونه حالا من نفس الموصول والعامل حينئذ أَأَسْجُدُ على معنى أأسجد له وهو طين أي أصله طين، قال في الكشف: وهو أبلغ لأنه مؤيد لمعنى الإنكار وفيه تحقير له عليه السلام وحاشاه بجعله نفس ما كان عليه لم تزل عنه تلك الذلة وليس في جعله حالا من العائد هذه المبالغة، وأنت تعلم أن الحالية على كل حال خلاف الظاهر لكون الطين جامدا ولذا أوله بعضهم بمتأصلا، وجوز الزجاج أيضا وتبعه ابن عطية كونه تمييزا ولا يظهر ذلك، وذكر الخلق مع أنه يكفي في المقصود أن يقال: لمن كان من طين أدخل في المقصود مع أنه فيه على ما قيل إيماء إلى علة أخرى وهي أنه مخلوق والسجود إنما هو للخالق تعالى مجده.
قالَ أي إبليس، وفي إعادة الفعل بين كلامي اللعين إيذان بعدم اتصال الثاني بالأول وعدم ابتنائه عليه بل على غيره وقد ذكر ذلك في مواضع أخرى أي قال بعد طرده من المحل الأعلى ولعنه واستنظاره وإنظاره أَرَأَيْتَكَ هذَا
103
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ
الكاف حرف خطاب مؤكد لمعنى التاء قبله وهو من التأكيد اللغوي فلا محل له من الإعراب، ورأى علمية فتتعدى إلى مفعولين وهذَا مفعولها الأول والموصول صفته والمفعول الثاني محذوف لدلالة الصلة عليه، وهذا الإنشاء مجاز عن إنشاء آخر ومن هنا تسمعهم يقولون: المعنى أخبرني عن هذا الذي كرمته علي لم كرمته علي وأنا أكرم منه، والعلاقة ما بين العلم والإخبار من السببية والمسببية واللازمية والملزومية، وجملة لم كرمته واقعة على ما نص عليه أبو حيان موقع المفعول الثاني، وذهب بعض النحاة إلى أن رأى بصرية فتتعدى إلى واحد واختاره الرضي، ويجعلون الجملة الاستفهامية المذكورة مستأنفة.
وقال الفراء: الكاف ضمير في محل نصب أي أرأيت نفسك وهو كما تقول: أتدبرت آخر أمرك فإني صانع كذا، وهذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ مبتدأ وخبر وقد حذف منه الاستفهام أي أهذا إلخ، وقال بعضهم بهذا إلا أنه جعل الكاف حرف خطاب مؤكد أي أخبرني أهذا من كرمته عليّ، وقال ابن عطية: الكاف حرف كما قيل لكن معنى أرأيتك أتأملت كأن المتكلم ينبه المخاطب على استحضار ما يخاطبه به عقيبه، وكونه بمعنى أخبرني قول سيبويه.
والزجاج وتبعهما الحوفي والزمخشري وغيرهما، وزعم ابن عطية أن ذلك حيث يكون استفهام ولا استفهام في الآية.
وأنت تعلم أن المقرر في أرأيت بمعنى أخبرني أن تدخل على جملة ابتدائية يكون الخبر فيها استفهاما مذكورا أو مقدرا فمجرد عدم وجوده لا يأبى ذلك، وأيّا ما كان فاسم الإشارة للتحقير، والمراد من التكريم التفضيل.
وجملة لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف وابتداء كلام واللام موطئة للقسم وجوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ.
وفي البحر لو ذهب ذاهب إلا أن هذا مفعول أول لأرأيتك بمعنى أخبرني والمفعول الثاني الجملة القسمية المذكورة لانعقادهما مبتدأ وخبرا قبل دخول أرأيتك لذهب مذهبا حسنا إذ لا يكون في الكلام على هذا إضمار وهو كما ترى، والمراد من أخرتني أبقيتني حيا أو أخرت موتي، ومعنى لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستولين عليهم استيلاء قويا من قولهم: حنك الدابة واحتنكها إذا جعل في حنكها الأسفل حبلا يقودها به.
وأخرج هذا ابن جرير وغيره عن ابن عباس وإليه ذهب الفراء أو لأستأصلنهم وأهلكنهم بالإغواء من قولهم:
احتنك الجراد الأرض إذا أهلك نباتها وجرد ما عليها واحتنك فلان مال فلان إذا أخذه وأكله، وعلى ذلك قوله:
نشكو إليك سنة قد أجحفت جهدا إلى جهد بنا فأضعفت واحتنكت أموالنا وأجلفت.
وكأنه مأخوذ من الحنك وهو باطن أعلى الفم من داخل المنقار فهو اشتقاق من اسم عين، واختار هذا الطبري والجبائي وجماعة، وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد أنه قال يقول لأضلنهم وهو بيان لخلاصة المعنى، وهذا كقول اللعين لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٣٩] إِلَّا قَلِيلًا منهم وهو العباد المخلصون الذين جاء استثناؤهم في آية أخرى جعلنا الله تعالى وإياكم منهم. وعلم اللعين تسني هذا المطلب له حتى ذكره مؤكدا إما بواسطة التلقي من الملائكة سماعا وقد أخبرهم الله تعالى به أو رأوه في اللوح المحفوظ أو بواسطة استنباطه من قولهم أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة: ٣٠] مع تقرير الله تعالى له أو بالفراسة لما رأى فيه من قوة الوهم والشهوة والغضب المقتضية لذلك، ولا يبعد أن يكون استثناء القليل بالفراسة أيضا وكأنه لما رأى أن المانع من الاستيلاء في القليل مشتركا بينه وبين آدم عليه السلام ذكره من أول الأمر، وعن الحسن أنه ظن ذلك لأنه وسوس إلى آدم وغره حتى كان ما كان فقاس الفرع على الأصل وهو مشكل لأن هذا القول كان قبل الوسوسة التي كان بسببها ما
104
كان، ومن زعم أنه كان هناك وسوستان فعليه البيان ولا يأتي به حتى يؤوب القارظان أو يسجد لآدم عليه السلام الشيطان.
قالَ الله سبحانه وتعالى: اذْهَبْ ليس المراد به حقيقة الأمر بالذهاب ضد المجيء بل المراد تخليته وما سولته نفسه إهانة له كما تقول لمن يخالفك: افعل ما تريد، وقيل: يجوز أن يكون من الذهاب ضد المجيء فمعناه حينئذ كمعنى قوله تعالى: فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ [الحجر: ٣٤، ص: ٧٧]، وقيل: هو طرد وتخلية ويلزم على ظاهره الجمع بين الحقيقة والمجاز والقائل ممن يرى جوازه ويدل على أنه ليس المراد منه ضد المجيء تعقيبه بالوعيد في قوله سبحانه: فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ وضل عن الحق فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ أي جزاؤك وجزاؤهم فغلب المخاطب على الغائب رعاية لحق المتبوعية، وجوز الزمخشري وتبعه غير واحد أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات من غيبة المظهر إلى الخطاب، وتعقبه ابن هشام في تذكرته فقال: عندي أنه فاسد لخلو الجواب أو الخبر عن الرابط فإن ضمير الخطاب لا يكون رابطا وأجيب بأنه مؤول بتقدير فيقال لهم: إن جهنم جزاؤكم، ورد بأنه يخرج حينئذ عن الالتفات، وقال بعض المحققين: إن ضمير الخطاب إن سلم أنه لا يكون عائدا لا نسلم أنه إذا أريد به الغائب التفاتا لا يربط به لأنه ليس بأبعد من الربط بالاسم الظاهر فاحفظ.
جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا لا يدخر منه شيء كما قال ابن جبير من فر كعد لصاحبك عرضه فرة أي كمل لصاحبك عرضه، وعلى ذلك قوله:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وجاء وفر لازما نحو وفر المال يفر وفورا أي كمل وكثر، وانتصب جَزاءً على المصدر بإضمار تجزون أو تجازون فإنهما بمعنى وهذا المصدر لهما.
وجوز أبو حيان وغيره كون العامل فيه جَزاؤُكُمْ بناء على أن المصدر ينصب المفعول المطلق، وجوز كونه حالا موطئة لصفتها التي هي حال في الحقيقة ولذا جاءت جامدة كقوله تعالى: قُرْآناً عَرَبِيًّا [يوسف: ، طه: ١١٣، الزمر: ٢٨، فصلت: ٣، الشورى: ٧، الزخرف: ٣] ولا حاجة لتقدير ذوي فيه حينئذ وصاحب الحال مفعول تجزونه محذوفا والعالم الفعل، وقيل إنه حال من فاعله بتقدير ذوي جزاء، وقال الطيبي: قيل المعنى ذوي جزاء ليكون حالا عن ضمير المخاطبين ويكون المصدر عاملا وإلا فالعامل مفقود ثم قال: الأظهر أنه حال مؤكدة لمضمون الجملة نحو زيد حاتم جوادا، وفي الكشف أن هذا متعين وليس الأول بالوجه، ومثله جعله حالا عن الفاعل، وقيل هو تمييز ولا يقبل عند ذويه وَاسْتَفْزِزْ أي واستخف يقال استفزه إذا استخفه فخدعه وأوقعه فيما أراده منه، وأصل معنى الفز القطع ومنه تفزز الثوب إذا انقطع ويقال للخفيف فز ولذا سمي به ولد البقرة الوحشية كما في قول زهير:
إذا استغاث بشيء فز غيطلة خاف العيون فلم تنظر به الحشك
والواو على ما في البحر للعطف على اذهب، والمراد من الأمر التهديد وكذا من الأوامر الآتية، ويمنع من إرادة الحقيقة أن الله تعالى لا يأمر بالفحشاء مَنِ اسْتَطَعْتَ أي الذي استطعت أن تستفزه مِنْهُمْ فمن موصول مفعول اسْتَفْزِزْ ومفعول اسْتَطَعْتَ محذوف هو ما أشرنا إليه. واختار أبو البقاء كون من استفهامية في موضع نصب باستطعت وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إلى ارتكابه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى معصية الله تعالى ووسوستك، وعبر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له كصوت الحمار.
105
وأخرج ابن المنذر وابن جرير وغيرهما عن مجاهد تفسيره بالغناء والمزامير واللهو والباطل، وذكر الغزنوي أنه آدم عليه السلام أسكن ولد هابيل أعلى جبل وولد قابيل أسفله وفيهم بنات حسان فزمر الشيطان فلم يتمالكوا أن انحدروا واقترنوا وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ أي صح عليهم من الجلبة وهي الصياح قاله الفراء وأبو عبيدة، وذكر أن جلب وأجلب بمعنى. وقال الزجاج: أجلب على العدو جمع عليه الخيل.
وقال ابن السكيت: جلب عليه أعان عليه، وقال ابن الأعرابي: أجلب على الرجل إذا توعده الشر وجمع عليه الجمع، وفسر بعضهم أَجْلِبْ هنا بأجمع فالباء في قوله تعالى: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ مزيدة كما في لا يقرأن بالسور وقرأ الحسن «وآجلب» بوصل الألف وضم اللام من جلب ثلاثيا، والخيل يطلق على الأفراس حقيقة ولا واحد له من لفظه، وقيل إن واحده خائل لاختياله في مشيه وعلى الفرسان مجازا وهو المراد هنا، ومنه
قوله صلّى الله عليه وسلّم في بعض غزواته لأصحابه رضي الله تعالى عنهم «يا خيل الله اركبي»
والرجل بكسر الجيم فعل بمعنى فاعل فهو صفة كحذر بمعنى حاذر يقال: فلان يمشي رجلا أي غير راكب.
وقال صاحب اللوامح: هو بمعنى الرجال يعني أنه مفرد أريد به الجمع لأنه المناسب للمقام وما عطف عليه، وبهذا قرأ حفص وأبو عمر في رواية والحسن، وظاهر الآية يقتضي أن للعين خيلا ورجلا وبه قال جمع فقيل هم من الجن، وقيل منهم ومن الإنس وهو المروي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ومجاهد وقتادة قالوا: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فما كان من راكب يقاتل في معصية الله تعالى فهو من خيل إبليس وما كان من راجل يقاتل في معصية الله تعالى فهو من رجل إبليس، وقال آخرون: ليس للشيطان خيل ولا رجالة وإنما هما كناية عن الأعوان والأتباع من غير ملاحظة لكون بعضهم راكبا وبعضهم ماشيا.
وجوز بعضهم أن يكون استفزازه بصوته واجلابه بخيله ورجله تمثيلا لتسلطه على من يغويه فكأن مغوارا وقع على قوم فصوت بهم صوتا يزعجهم من أماكنهم وأجلب عليهم بجنده من خيالة ورجالة حتى استأصلهم، ومراده أن يكون في الكلام استعارة تمثيلية ولا يضر فيها اعتبار مجاز أو كناية في المفردات فلا تغفل.
وقرأ الجمهور «رجلك» بفتح الراء وسكون الجيم وهو اسم جمع راجل كركب وراكب لا جمع لغلبة هذا الوزن في المفردات، وقرىء «رجل» بفتح الراء وضم الجيم وهو مفرد كما في قراءة حفص وقد جاءت ألفاظ من الصفة المشبهة على فعل وفعل كسرا وضما كحدث وندس وغيرهما.
وقرأ عكرمة وقتادة «رجالك» كنبالك، وقرى «رجالك» ككفارك وكلاهما جمع رجلان وراجل كما في الكشف، وفي بعض نسخ الكشاف أنه قرىء «رجّالك» بفتح الراء وتشديد الجيم على أن أصله رجالة فحذف تاؤه تخفيفا وهي نسخة ضعيفة وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها مما لا ينبغي وصرفها فيما لا ينبغي.
وقيل بحملهم على صرفها في الزنا، وعن الضحاك بحملهم على الذبح للآلهة، وعن قتادة بحملهم على تسييب السوائب وبحر البحائر والتعميم أولى وَالْأَوْلادِ بالحث على التوصل إليهم بالأسباب المحرمة وارتكاب ما لا يرضي الله تعالى فيهم.
وأخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما المشاركة في الأولاد حملهم على تسميتهم بعبد الحرث. وعبد شمس، وفي رواية حملهم على أن يرغبوهم في الأديان الباطلة ويصبغوهم بغير صبغة الإسلام.
وفي أخرى حملهم على تحصيلهم بالزنا، وأخرى تزيين قتلهم إياهم خشية الإملاق أو العار، وقيل حملهم على أن يرغبوهم في القتال وحفظ الشعر المشتمل على الفحش والحرف الخسيسة الخبيثة، وعن مجاهد أن الرجل إذا لم
106
يسم عند الجماع فالجان ينطوي على إحليله فيجامع معه وذلك هي المشاركة في الأولاد، والأولى ما ذكرنا.
وَعِدْهُمْ المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة ونفع الأنساب الشريفة من لم يطع الله تعالى أصلا وعدم خلود أحد في النار لمنافاة ذلك عظم الرحمة وطول أمل البقاء في الدنيا ومن الوعد الكاذب وعده إياهم أنهم إذا ماتوا لا يبعثون وغير ذلك مما لا يحصى كثرة، ثم هذا من قبيل المشاركة في النفس كما في البحر.
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض بين ما خوطب به الشيطان لبيان حال مواعيده والالتفات إلى الغيبة لتقوية معنى الاعتراض مع ما فيه من صرف الكلام عن خطابه وبيان حاله للناس ومن الإشعار بعلية شيطنته للغرور وهو تزيين الخطأ بما يوهم أنه صواب ويقال: غر فلانا إذا أصاب غرته أي غفلته ونال منه ما يريد، وأصل ذلك على ما قال الراغب من الغر وهو الأثر الظاهر من الشيء، ونصبه على أنه وصف مصدر محذوف أي وعدا غرورا على الأوجه التي في رجل عدل.
وجوز أن يكون مفعولا من أجله أي وما يعدهم ويمينهم ما لا يتم ولا يقع إلا لأن يغرهم والأول أظهر.
وذكر الإمام في سبب كون وعد الشيطان غرورا لا غير أنه إنما يدعو إلى أحد ثلاثة أمور قضاء الشهوة. وإمضاء الغضب وطلب الرياسة والرفعة ولا يدعو البتة إلى معرفة الله تعالى وخدمته وتلك الأشياء الثلاثة ليست لذائذ في الحقيقة بل دفع آلام وإن سلم أنها لذائذ لكنها خسيسة يشترك فيها الناقص والكامل بل الإنسان والكلب ومع ذلك وهي وشيكة الزوال ولا تحصل إلا بمتاعب كثيرة ومشاق عظيمة ويتبعها الموت والهرم واشتغال البال بالخوف من زوالها والحرص على بقائها، ولذات البطن والفرج منها لا تتم إلا بمزاولة رطوبات متعفنة مستقذرة فتزيين ذلك لا يكاد يكون إلا بما هو أكذب من دعوى اجتماع النقيضين وهو الغرور.
إِنَّ عِبادِي الإضافة للتعظيم فتدل على تخصيص العباد بالمخلصين كما وقع التصريح به في الآية الأخرى ولقرينة كون الله تعالى وكيلا لهم يحميهم من شر الشيطان فإن من هو كذلك لا يكون إلا عبدا مكرما مختصا به تعالى، وكثيرا ما يقال لمن يستولي عليه حب شيء فينقاد له عبد ذلك الشيء ومنه عبد الدينار والدرهم وعبد الخميصة وعبد بطنه، ومن هنا يقال لمن يتبع الشيطان عبد الشيطان فلا حاجة إلى القول بأن في الكلام صفة محذوفة أي إن عبادي المخلصين.
وزعم الجبائي أن عِبادِي عام لجميع المكلفين وليس هناك صفة محذوفة لكن ترك الاستثناء اعتمادا على التصريح به في موضع آخر وليس بشيء، وفي هذه الإضافة إيذان بعلة ثبوت الحكم في قوله سبحانه:
لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي تسلط وقدرة على إغوائهم، وتأكيد الحكم مع اعتراف الخصم به لمزيد الاعتناء.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا لهم يتوكلون عليه جل وعلا ويستمدون منه تعالى في الخلاص عن إغوائك فيحميهم سبحانه منه، والخطاب في هذه الجملة قيل للشيطان كما في الجملة السابقة ففي التعرض لوصف الربوبية المنبئة عن المالكية المطلقة والتصرف الكلي مع الإضافة إلى ضميره إشعار بكيفية كفايته تعالى لهم وحمايته إياهم منه أعني سلب قدرته على إغوائهم، وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام أو للإنسان كأنه لما بين سبحانه من حال الشيطان ما بين صار ذلك لحصول الخوف في القلوب فقال سبحانه: وَكَفى بِرَبِّكَ أيها النبي أو أيها الإنسان وكيلا فهو جل
107
جلاله يدفع كيد الشيطان ويحفظ منه، والقلب يميل إلى عدم كونه خطابا للشيطان وإن كان في السابق له. واستدل بالآية على أن المعصوم من عصمه الله تعالى وإن الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الضلال وإلا لقيل وكفى بالإنسان وكيلا لنفسه، هذا وهاهنا سؤالان ذكرهما الإمام مع جوابيهما، الأول أن إبليس هل كان عالما بأن الذي تكلم معه بهذه التهديدات هو إله العالم أو لم يكن عالما فإن كان الأول فكيف يصر الوعيد الشديد بقوله سبحانه:
فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً مانعا له من المعصية مع أنه سمعه من الله جل جلاله من غير واسطة، وإن كان الثاني فكيف قال: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ والجواب لعله كان شاكا في الكل وكان يقول في كل قسم ما يخطر بباله على سبيل الظن، وأقول لا يخفى ما في هذا الجواب.
والحق فيه أنه كان جازما بأن الذي تكلم معه بذلك هو إله العالم جل وعلا إلا أنه غلبت عليه شقوته التي استعدت لها ذاته فلم يصر الوعيد مانعا له ولدا حين تنصب لهلاكه الحبائل إذا جاء وقته ويعاين من العذاب ما يعاين وتضيق عليه الأرض بما رحبت
فيقال له: اسجد اليوم لآدم عليه السلام لتنجو لا يسجد ويقول: لم أسجد له حيا فكيف أسجد له ميتا كما ورد في بعض الآثار
، وليس هذا بأعجب من حال الكفار الذين يعذبون يوم القيامة أشد العذاب على كفرهم ويطلبون العود ليؤمنوا حيث أخبر الله تعالى بأنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه. وربما يقال: إن اللعين مع هذا الوعيد له أمل بالنجاة، فقد حكي أن مولانا عبد الله التستري سأل الله تعالى أن يريه إبليس فرآه فسأله هل تطمع في رحمة الله تعالى؟ فقال: كيف لا أطمع فيها والله سبحانه يقول: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ [الأعراف: ١٥٦] وأنا شيء من الأشياء فقال التستري: ويلك إن الله تعالى قيد في آخر الآية فقال إبليس له: ويحك ما أجهلك القيد لك لا له، ولعله يزعم أن آيات الوعيد مطلقا مقيدة بالمشيئة وإن لم تذكر كما يقوله بعض الأشاعرة في آيات الوعيد للعصاة من المؤمنين.
السؤال الثاني ما الحكمة في أن الله تعالى أنظره إلى يوم القيامة ومكنه من الوسوسة؟ والحكيم إذا أراد أمرا وعلم أن له مانعا يمنع من حصوله لا يسعى في تحصيل ذلك المانع، والجواب أما على مذهبنا فظاهر، وأما المعتزلة فقال الجبائي منهم: إن الله تعالى علم أن الذين يكفرون عند وسوسة إبليس يكفرون بتقدير أن لا يوجد وحينئذ لم يكن في وجوده مزيد مفسدة، وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة إلا أنه تعالى أبقاه تشديدا للتكليف على الخلق ليستحقوا بذلك مزيد الثواب، وأنا أقول: إن إبليس ليس مانعا مما يريده الله جل مجده وتعالى جده فما شاء الله سبحانه كان وما لم يشأ لم يكن والله تبارك وتعالى خلق الخلق طبق علمه وعلم به طبق ما هو عليه في نفسه فافهم والله تعالى أعلم.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ مبتدأ وخبر، وقيل الموصول صفة رَبُّكُمُ وهو صفة لقوله تعالى الَّذِي فَطَرَكُمْ أو بدل منه وذلك جائز وإن تباعد ما بينهما اه، وفيه ما فيه، وأصل الإزجاء السوق حالا بعد حال والمراد به الإجزاء وكأن اختياره عليه لما أنه أدل منه على القسر وهو أوفق بالمقام وأعظم في الأنعام أي هو سبحانه وتعالى القادر الحكيم الذي يجري لنفعكم السفن في البحر بالريح اللينة وبالآلات حسبما جرت به عادته تعالى لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تصريح بالنفع أي لتطلبوا من رزقه الذي هو فضل من قبله سبحانه أو من الربح الذي هو جل شأنه معطيه، ومن تبعيضية وتفسير الفضل بالحج أو الغزو غير مناسب، وهذا تذكير لبعض النعم التي هي دلائل التوحيد الذي هو المراد الأصلي من البعثة وتمهيد لذكر توحيدهم عند مساس الضر تكملة لما مر من قوله سبحانه: فَلا يَمْلِكُونَ
108
الآية إِنَّهُ كانَ أزلا وأبدا بِكُمْ رَحِيماً حيث هيأ لكم ما تحتاجون إليه وسهل عليكم ما يعسر من مباديه، وهذا تذليل فيه تعليل لما سبق من الإزجاء والابتغاء للفضل، وصيغة الرحيم كما في إرشاد العقل السليم للدلالة على أن المراد بالرحمة الرحمة الدنيوية والنعمة العاجلة المنقسمة إلى الجليلة والحقيرة، وهو مبني على اختصاص الرحيم بالدنيا كما هو المشهور، وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيم الدنيا، وقيل بعدم الاختصاص وعليه يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما.
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ خوف الغرق بعصف الريح وتقاذف الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن خواطركم كل من تدعونه وترجون نفعه فلا تذكرونه إِلَّا إِيَّاهُ جل وعلا فإنكم تذكرونه وحده سبحانه لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره تعالى لكشف ما حل بكم من الضر استقلالا أو اشتراكا فالمراد بضلالهم غيبتهم عن الفكر لا عن النظر والحس لأنه أمر معلوم من قولهم: ضل عنه كذا إذا نسيه، وفي الكشف هو من ضل عنه كذا إذا ضاع ولا حاجة إلى تضمين أو من ضله فلان ذهب عنه فلم يقدر عليه ذكره الأزهري وأنشد:
والسائل المبتغي كرائمها يعلم أني تضلني عللي
أي تفارقني وتذهب عني فلا أتعلل بعلة وهذا أظهر، نعم الضلال راجع إلى الذكر لا بمعنى إضماره فإنه ركيك يقال ضل عن خاطري كذا إذا لم تذكره فإنه ضلال له لا أنه ضلال ذكره ولا تقول ضل عن خاطري ذكره وكذلك ضلني الأمر اه، والدعاء في هذا على ظاهره والاستثناء متصل بناء على أن ما عبارة عن المدعوين مطلقا وأنهم كانوا يدعون الله تعالى وغيره في الحوادث، وإن كانت ما عبارة عن آلهتهم الباطلة فقط وإنهم كانوا في حالة السراء يدعونها وحدها كما يدل عليه ظاهر ما بعد فالاستثناء منقطع، وفسر الدعاء على هذا بدعاء العبادة واللجأ.
وقال أبو حيان: الظاهر الانقطاع لأنه تعالى لم يندرج في من تدعون إذ المعنى ضلت آلهتهم أي معبوداتهم وهم لا يعبدون الله تعالى. وتعقب بأن مقتضى كونهم مشركين أنهم يعبدونه سبحانه أيضا لكن على طريق الإشراك بل قولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى [الزمر: ٣] كما قص سبحانه عنهم يقتضي أنه جل مجده المعبود الحقيقي عندهم، وقد يقال: إن الشارع أسقط مثل هذه العبادة عن درجة الاعتبار فهم غير عابدين الله جل وعلا شرعا بل قيل إنهم غير عابدين لغة أيضا لأن العبادة لغة غاية الخضوع والتذلل ولا يتحقق ذلك مع الشركة ولو على الوجه الذي زعموه فتأمل.
وجوز غير واحد أن يكون المعنى ضل من تدعونه عن إغاثتكم إلا إياه تعالى، والضلال فيه إما بمعنى الغيبة أو بمعنى عدم الاهتداء منه كأنه قيل ضل عن محجة الصواب في إنقاذكم ولم يقدر على ذلك، وأمر الاستثناء من الاتصال والانقطاع ومبنى كل على حاله، والزمخشري جوز أن يكون المعنى ضل من تدعون من الآلهة عن إغاثتكم ولكن الله تعالى هو الذي ترجونه وجعل الاستثناء عليه منقطعا فقيل إن ذلك لتخصيصه المدعوين بالآلهة.
وفي الكشف لعل الوجه فيه أنه تعالى ما كانوا يدعونه أي دعاء العبادة واللجأ إلا في تلك الحالة وأما في حالة السراء فيخصون آلهتهم بالدعاء، والتحقيق أن الضلال بهذا المعنى لم يتناول الحق سبحانه لأن معناه ضل المدعوون وغابوا عن إغاثتهم ولا يراد غابوا وحضر جل وعلا بل المراد ولكن رجوا أن يغيثهم ولا يخذلهم فعل المدعوين على حسبانهم وهذا هو الوجه إن شاء الله تعالى اه. ومبنى التحقيق لا يخفى على المتدرب في علم النحو، هذا ومن اللطائف
أن بعض الناس قال لبعض الأئمة: أثبت لي وجود الله تعالى ولا تذكر لي الجوهر والعرض فقال له: هل ركبت البحر؟ قال: نعم قال: فهل عصفت الريح؟ قال: نعم قال: فهل أشرفت بك السفينة على الغرق؟ قال: نعم قال: فهل
109
يئست من نفع من في السفينة ونحوهم من المخلوقين لك وإنجائهم مما أنت فيه إياك؟ قال نعم: فهل بقي قلبك متعلقا بشيء غير أولئك؟ قال: نعم قال: ذلك هو الله عز وجل فاستحس ذلك.
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الضر وأوصلكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ عن ذكره تعالى بعد أن كنتم غير ذاكرين إلا إياه سبحانه أو أعرضتم عن توحيده جل وعلا أو عن شكره عز وجل بتوحيده وطاعته سبحانه أو توغلتم في التوسع في كفران النعمة على أنه من العرض مقابل الطول وجعل كناية عن ذلك كما في قول ذي الرمة:
عطاء فتى تمكن في المعالي فأعرض في المكارم واستطالا
وكأنه أريد أعرضتم واستطلتم في الكفران إلا أنه استغنى بذكر العرض عن ذكر الطول للزومه له.
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض وهو بيان لحكم الجنس ويعلم منه حكم أولئك المخاطبين وفيه لطافة حيث أعرض سبحانه عن خطابهم بخصوصهم وذكر أن جنس الإنسان مجبول على الكفران فلما أعرضوا أعرض الله سبحانه عنهم.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار على معنى أنه لا ينبغي الأمن، والفاء للعطف على محذوف متوسط بينها وبين الهمزة أي أنجوتم فأمنتم وهو مذهب بعض النحويين، واختار بعضهم أن الهمزة مقدمة من تأخير لأصالتها في الصدارة والعطف على ما قبله، وجملة كانَ الْإِنْسانُ إلخ معترضة بين المتعاطفين ولا حذف في مثل ذلك وهو مذهب الأكثرين لكن لا يظهر تسبب الإنكار للأمن على ما قبل على ما يقتضيه هذا المذهب بل الظاهر ترتبه على النجاة فقط ولا مدخل للإعراض في تسبب الإنكار، والحق عندي في أمثال ذلك ما فيه استقامة المعنى من غير تكلف ولا يتعين التزام أحد المذهبين وإن أدى إلى التكلف فإنه تعصب محض، والخطاب لمن تقدم أفأمنتم أيها المعرضون عند النجاة أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ الذي هو مأمنكم أي أن يغيبه الله تعالى ويذهب به في أعماق الأرض مصاحبا بكم أي وأنتم عليه على أن الباء للمصاحبة والجار والمجرور في موضع الحال، وجوز أن تكون الباء للسببية والجار والمجرور متعلق بما عنده أي أن يغيبه سبحانه بسببكم وتعقب بأنه لا يلزم من قلبه بسببهم أن يكونوا مهلكين مخسوفا بهم. وأجيب بأنه حيث كان المراد من جانب البر جانبه الذي هم فيه استلزم خسفه هلاكهم ولولا هذا لم يكن في التوعد به فائدة، ونصب جانِبَ في الوجهين على أنه مفعول به ليخسف.
وفي الدر المصون أنه منصوب على الظرفية وحينئذ يجوز كون الباء للتعدية على معنى أفأمنتم أن يغيبكم في ذلك.
وفي القاموس خسف الله تعالى بفلان الأرض غيبه فيها، والظاهر أنه بيان للمعنى اللغوي للفظ، وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم عند ما وصلوا الساحل أعرضوا أو ليكون المعنى أن الجوانب والجهات متساوية بالنسبة إلى قدرته سبحانه وقهره وسلطانه فله في كل جانب برا كان أو بحرا سبب مرصد من أسباب الهلكة فليس جانب البحر وحده مختصا بذلك بل إن كان الغرق في جانب البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه تغييب تحت التراب كما أن الغرق تغييب تحت الماء فعلى العاقل أن يخاف من الله تعالى في جميع الجوانب وحيث كان.
والأول على تقدير أن يراد بجانب البر طرفه مما يلي البحر وهو الساحل، وهذا على احتمال أن يراد به ما يشتمل جميع جوانبه. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «نخسف» بنون العظمة وكذا في الأربعة التي بعده.
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ من فوقكم حاصِباً أخرج ابن المنذر عن ابن عباس أنه قال: هو مطر الحجارة، أي
110
مطرا يحصبكم أي يرميكم بالحصباء وهو صغار الحجارة وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة أنه فسر الحاصب بالحجارة نفسها ولعله حينئذ صيغة نسبة أي ذا حصب ويراد منه الرمي، وقال الفراء: الحاصب الريح التي ترمي بالحصباء، وقال الزجاج: هو التراب الذي فيه الحصباء والصيغة عليه صيغة نسبة أيضا، وجاء بمعنى ما تناثر من دقاق الثلج والبرد، ومنه قول الفرزدق:
مستقبلين شمال الشام تضربهم بحاصب كنديف القطن منثور
وبمعنى السحاب الذي يرمي بهما، واختار الزمخشري ومن تبعه تفسير الفراء والظاهر أن الكلام عليه على حقيقته فالمعنى أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء يرجمكم بها فيكون أشد عليكم من الغرق في البحر، ويقال نحو هذا على سائر تفاسير الحاصب، وقال الخفاجي في وصف الريح بالرمي بالحصباء: إنه عبارة عن شدتها، وذكرها إشارة إلى أنهم خافوا إهلاك الريح في البحر فقيل إن شاء أهلككم بالريح في البر أيضا، ولا أدري ما المانع من إرادة الظاهر والشدة تلزم الرمي المذكور عادة والإشارة هي الإشارة ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا تكلون إليه أموركم فيحفظكم من ذلك أو يصرفه عنكم غيره جل وعلا فإنه لأراد لأمره الغالب جل جلاله أَمْ أَمِنْتُمْ أي بل أأمنتم أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر الذي نجاكم منه فأعرضتم بركوب الفلك لا في الفلك لأنها مؤنثة وأوثرت كلمة في على كلمة إلى المنبئة عن مجرد الانتهاء للدلالة على استقرارهم فيه تارَةً أُخْرى أي مرة غير المرة الأولى، وهو منصوب على الظرفية ويجمع على تارات وتير كما في قوله: يقوم تارات ويمشي تيرا وربما حذفوا منه الهاء كقوله:
بالويل تارا والثبور تارا وإسناد الإعادة إليه تعالى مع أن العود باختيارهم ومما ينسب إليهم وإن كان مخلوقا له سبحانه كسائر أفعالهم باعتبار خلق الدواعي فيهم الملجئة إلى ذلك، وفيه إيماء إلى كمال شدة هول ما لا قوة في التارة الأولى بحيث لولا الإعادة ما عادوا فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ وأنتم في البحر قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ وهي الريح الشديدة التي تقصف ما تمر به من الشجر ونحوه أو التي لها قصيف وهو الصوت الشديد كأنها تتقصف أي تتكسر..
وأخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: القاصف من الريح الريح التي تغرق، وقيل: الريح المهلكة في البر حاصب والريح المهلكة في البحر قاصف والعاصف كالقاصف كما روي عن عبد الله بن عمرو، وفي رواية عن ابن عباس تفسير القاصف بالعاصف، وقرأ أبو جعفر «من الرياح» بالجمع فَيُغْرِقَكُمْ الله سبحانه بواسطة ما ينال فلككم من القاصف، وقرأ أبو جعفر «فتغرقكم» بالتاء ثالثة الحروف على أن الفعل مسند إلى الريح، والحسن، وأبو رجاء «فيغرّقكم» بالياء آخر الحروف وفتح الغين وشد الراء، وفي رواية عن أبي جعفر كذلك إلا أنه بالتاء لا الياء، وقرأ حميد بالنون وإسكان الغين وإدغام القاف في الكاف ورويت عن أبي عمرو وابن محيصن بِما كَفَرْتُمْ أي بسبب كفركم السابق وهو إعراضهم عند الإنجاء في المرة الأولى، وقيل: بسبب كفركم الذي هو دأبكم دائما ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نصيرا كما روي عن ابن عباس أو ثائرا يطلبنا بما فعلنا انتصارا منا أو دركا للنار من جهتنا فهو كقوله تعالى: فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: ١٤، ١٥] كما روي عن مجاهد، وضمير بِهِ قيل للإرسال، وقيل: للإغراق، وقيل: لهما باعتبار ما وقع ونحوه كما أشير إليه وكأنه سبحانه لما جعل الغرق بين الإعادة إلى البحر انتقاما في مقابلة الكفر عقبه تعالى بنفي وجدان التبييع فكأنه قيل ننتقم من غير أن يقوم لنصركم فهو وعيد على وعيد وجعل ما قبل من شق العذاب كمس الضر في البحر عقبه بنفي وجدان الوكيل فكأنه قيل
111
لا تجدون من تتكلون عليه في دفعه غيره تعالى لقوله سبحانه: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ وهذا اختيار صاحب الكشف فلا تغفل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي جعلناهم قاطبة برهم وفاجرهم ذوي كرم أي شرف ومحاسن جمة لا يحيط بها نطاق الحصر، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كرمهم سبحانه بالعقل، وفي رواية بتناولهم الطعام بأيديهم لا بأفواههم كسائر الحيوانات.
وعن الضحاك بالنطق، وعن عطاء بتعديل القامة وامتدادها، وعن زيد بن أسلم بالمطاعم واللذات، وعن يمان بحسن الصورة، وعن ابن جرير بالتسلط على غيرهم من الخلق وتسخيره لهم، وعن محمد بن كعب بجعل محمد صلّى الله عليه وسلّم منهم.
وقيل: بخلق الله تعالى أباهم آدم بيديه، وقيل: بتدبير المعاش والمعاد، وقيل: بالخط، وقيل: باللحية للرجل والذؤابة للمرأة، وقيل وقيل والكل في الحقيقة على سبيل التمثيل ومن ادعى الحصر في واحد كابن عطية حيث قال:
إنما التكريم بالعقل لا غير فقد ادعى غلطا ورام شططا وخالف صريح العقل وصحيح النقل ولذا استدل الإمام الشافعي بالآية على عدم نجاسة الآدمي بالموت وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ على أكباد رطبة وأعواد يابسة من الدواب والسفن فهو من حملته على كذا إذا أعطيته ما يركبه ويحمله فالمحمول عليه مقدر بقرينة المقام.
وقيل: المراد من حملهم في البر والبحر جعلهم قارين فيهما بأن لم يخسف بهم الأرض ولم يغرقهم بالماء، والأول انسب بالتكريم إذ لا يثبت لشيء من الحيوانات سواهم بخلاف الثاني وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون النعم وضروب المستلذات مما يحصل بصنعهم وبغير صنعهم من المأكولات والملبوسات والمفروشات والمقتنيات وغير ذلك وَفَضَّلْناهُمْ قيل: أي بالتكريم المذكور عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا عظيما، والمراد أن ذلك مخصوص بهم بالنسبة إلى الكثير فلم يكرم الكثير كما كرموا، وبحث الإمام في هذا المقام بأنه تعالى قال أولا:
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وقال سبحانه هنا وَفَضَّلْناهُمْ فلا بد من فرق بين التكريم والتفضيل لئلا يلزم التكرار.
والأقرب في ذلك أن يقال: إنه تعالى فضل الإنسان على سائر الحيوانات بأمور خلقية طبيعية ذاتية مثل العقل والنطق والخط والصورة الحسنة والقامة المديدة ثم إنه عز وجل عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل فكأنه قيل فضلناهم بالتعريض لاكتساب ما فيه النجاة والزلفى بواسطة ما كرمناهم به من مبادئ ذلك فعليهم أن يشكروا ويصرفوا ما خلق لهم لما خلق له فيوحدوا الله تعالى ولا يشركوا به شيئا ويرفضوا ما هم عليه من عبادة غيره عز وجل، ويقال نحو هذا عى ما سبق أيضا بقليل تغيير، وقال الطيبي: قد كرر في الآية ما ينبىء عن غاية المدح من ذكر الكرامة والتفضيل وتسخير الأشياء على سبيل الترقي كأنه قيل: ولقد كرمنا بني آدم بكرامة أبيهم عليه السلام ثم سخرنا لهم الأشياء ورزقناهم من الطيبات ثم فضلناهم تفضيلا أي تفضيل ولذا عقب بها قوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا إلخ وهو لبيان كرامة أبيهم وما توسط بينهما من الآيات كالاستطراد والاعتراض إلى آخر ما قال، ويعلم منه دفع التكرار وإن لم يسقه لذلك الغرض، وفيه تخصيص التكريم، وكذا فيما قيل إن التكريم بالنعم التي يصح بها التكليف والتفضيل بالتكليف الذي عرضهم به للمنازلة الرفيعة، والمراد بالكثير من عدا الملائكة عليهم السلام عند الكثير ومنهم الزمخشري وزعم أن الآية صريحة في تفضيل الملك على البشر وشنع على أهل السنة تشنيعا أقذع فيه.
والحق أنها لا تصلح للاحتجاج على التفضيل المتنازع فيه، ففي الكشف أن الظاهر من سياق الآية أنه حث للإنسان على الشكر وعلى أن لا يشرك به تعالى حيث ذكر ما في البر والبحر من حسن كلاءته سبحانه له وضمن فيه
112
أنه جلا وعلا هداهم إلى الفلك وصنعته وما يترتب عليه من الفوائد في قوله سبحانه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ الآيات فقال عز وجل وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي هذا النوع من بين سائر الأنواع باصطناعات خصصناهم بها فذكر تعالى منها حملهم في البر والبحر ورزقهم من الطيبات وتفضيلهم على كثير من المخلوقات وهذا التفضيل لا يراد منه عظم الدرجة وزيادة القربة عند الله تعالى وهو المتنازع فيه لأن الحكم للنوع من حيث هو وذكر الله تعالى لذلك موجبات تعم الصالح والطالح فسواء دخل في هذا الكثير الملائكة أو لم يدخل لم يدل على الأفضلية بالمعنى المذكور فلا يصلح لاحتجاج إحدى الطائفتين اه.
ثم إن على فرض أن التفضيل بالمعنى المتنازع فيه لا تدل الآية على أن الملك أفضل من البشر إلا بطريق المفهوم وفي حجيته خلاف، وأبو حنيفة رضي الله تعالى عنه لا يقول به على أنه يدل على أنهم فضلوا على الكثير ولم يفضلوا على مقابله وهو يحتمل المساواة وتفضيل المقابل فليس نصا في مذهب الزمخشري.
وجعل الطيبي من بيانية كما في قولك بذلت له العريض من جاهي أي فضلناهم على الكثيرين الذين خلقناهم من ذوي العقول كما هو الظاهر من (من) وهم منحصرون في الملك والجن والبشر فحيث خرج البشر لأن الشيء لا يفضل على نفسه بقي الملك والجن فيكون المراد بيان تفضيل البشر عليهم جميعا وهو الذي يقتضيه مقام المدح فإن الآية مسوقة له وإذا جعلت للتبعيض كان مِمَّنْ خَلَقْنا بدلا أي فضلناهم على بعض المخلوقين.
وذكر البعض في هذا المقام يدل على تعظيم المفضل عليه كما قرر في قوله تعالى وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة: ٢٥٣] وأي مدح لبني آدم وإثبات للفضل والكرامة بالجملة القسمية إذا جعلوا مفضلين على الجن والشياطين على أن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة لإخراج البعض كانت الملائكة أولى من الجن والشياطين لأنهم هم الموصوفون بالكثرة كما تدل عليه الأخبار الكثيرة كخبر أطيط السماء وخبر نزول قطرات المطر وخبر ما يدخل البيت المعمور في كل يوم من الملائكة إلى غير ذلك، وإليه ينظر قول صاحب التقريب إنه يحتمل أن يراد بكثير ممن خلقنا الملائكة إذ هم كثير من العقلاء المخلوقين اه.
وتعقب بأن ما ذكره من حمل من خَلَقْنا على تعميم ذوي العقول مقبول فإن تفضيلهم على غير ذوي العقول حينئذ آت من طريق مفهوم الموافقة فلا حاجة إلى ارتكاب خلاف الظاهر واعتبار تغليبهم ليعمهم وغيرهم لكن حمل من على البيان غير مقبول فإنه بعيد جدا لأن قيد الكثرة يضيع عليه حمل من على التعميم التغليبي أو الوضعي ولأن استعماله في التبعيض شائع أينما وقع في التنزيل واستعمالات الفصحاء وهو أكثر تعسفا من حمله على الغاية في قوله تعالى (١) فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه على ما ذكره الزمخشري فيه وأنه إذا قوبل بشيء آخر دل على القلة في المقابل كما في قوله تعالى فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ [الحديد: ٢٦] فإنه صرح بأنه يدل على أن الغلبة للفساق للمقابلة أما ورد ابتداء (٢) فربما كان الأكثر خلاف ذلك كما في قوله تعالى: فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ [النمل: ١٥] فقوله إن صفة الكثرة إذا جعلت مخصصة إلخ كلام لم يصدر عن ثبت، ولهذه النكتة قال صاحب التقريب: يحتمل دلالة على أنه مرجوح.
هذا ثم إن مسألة التفضيل مختلف فيها بين أهل السنة، فمنهم من ذهب إلى تفضيل الملائكة وهو مذهب ابن
(١) قوله فامسحوا برؤوسكم وأرجلكم منه كذا في نسخة المؤلف والتلاوة فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه.
(٢) قوله وأما ورد ابتداء كذا في نسخة المؤلف ولعله وأما إذا ورد إلخ فتأمل.
113
عباس رضي الله تعالى عنهما واختيار الزجاج على ما رواه الواحدي في البسيط، ومنهم من فصل فقال: إن الرسل من البشر أفضل مطلقا ثم الرسل من الملائكة على من سواهم من البشر والملائكة ثم عموم الملائكة على عموم البشر وهذا ما عليه أصحاب الإمام أبي حنيفة عليه الرحمة وكثير من الشافعية والأشعرية، ومنهم من عمم تفضيل الكمل من نوع الإنسان نبيا كان أو وليا، ومنهم من فضل الكروبيين من الملائكة مطلقا ثم الرسل من البشر ثم الكمل منهم ثم عموم الملائكة على عموم البشر.
وهذا ما عليه الإمام الرازي وبه يشعر كلام الغزالي في مواضع عديدة في كتبه، ومن هذا يعلم أن إطلاق القول بأن أهل السنة يفضلون البشر على الملك ليس على ما ينبغي، وهذه المسألة ومسألة تفضيل الأئمة ليستا مما يبدع الذاهب إلى أحد طرفيهما على ما في الكشف إذ لا يرجع إلى أصل في الاعتقاد ولا يستند إلى قطعي بعد أن يسلم من الطعن وما يخل بتعظيم في المسألتين لكن المشهور في مسألة تفضيل الأئمة أن القول بخلاف ما استقر عليه رأي أهل السنة ابتداع ومن أنصف قال بما في الكشف فهذر الزمخشري على من خالفه محض جهالة إذا لم يكن بتلك الغاية فكيف وهو قد بلغ فيه من السفاهة غايتها ومن البذاذة نهايتها وسيرى جزاء ذلك.
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ شروع في بيان تفاوت أحوال بني آدم في الآخرة بعد بيان حالهم في الدنيا، ويَوْمَ مفعول به لفعل محذوف أي اذكر يوم ندعو إلخ.
وجوز ابن عطية وغيره أن يكون ظرفا لفعل يدل عليه لا يُظْلَمُونَ ولم يجعل ظرفا له بناء على أن الفاء لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ولو ظرفا، وجوز أيضا أن يكون مبتدأ وهو مبني لإضافته إلى غير متمكن والخبر جملة فَمَنْ أُوتِيَ إلخ ويقدر للربط فيها فيه وفيه أن المنقسم إلى متمكن وغير متمكن هو الاسم لا الفعل وما في حيزه هنا فعل مضارع على أن بناء أسماء الظروف المضافة إلى جملة هو أحد ركنيها بناء على مذهب الكوفيين والبصريين لا يجوزون ذلك ومع هذا هو تخريج متكلف.
وجوز أيضا كونه ظرفا لفضلناهم قال: وتفضيل البشر على سائر الحيوانات يوم القيامة بيّن وبه قال بعض النحاة إلا أنه قال: فضلناهم بالثواب، وفيه أنه أي تفضيل للبشر ذلك اليوم والكفار منهم أخس من كل شيء إلا أن يقال:
يكفي في تفضيل الجنس تفضيل بعض أفراده ألا ترى صحة الرجال أفضل من النساء مع أن من النساء من هي أفضل من بعض الرجال بمراتب، وأيضا إذا أريد التفضيل بالثواب لا يصح إخراج الملائكة لأن جنس البشر يثابون والملائكة عليهم السلام لا يثابون كما هو مقرر في محله، ثم إنهم يشاركهم في الثواب الجن لأن مؤمنيهم يثابون كما يثاب البشر عند بعض، وقيل إن ثوابهم دون ثوابهم لأنهم لا يرون الله تعالى في الجنة عند من قال: إن الله تعالى يرى فيها فالبشر مفضلون عليهم في الثواب من هذه الجهة، وقيل ظرف يَقْرَؤُنَ أو ما دل عليه، وفيه أنهم لا يقرؤون كتابهم وقت الدعوة. وأجيب بأن المراد بيوم يدعون وقت طويل وهو اليوم الآخر الذي يكون فيه ما يكون ويبقى في جعله ظرفا للمذكور حديث الفاء.
وقال الفراء: هو ظرف لنعيدكم محذوفا، وقيل ظرف ليستجيبون، وقيل هو بدل من يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وقيل العامل فيه ما دل عليه قوله سبحانه مَتى هُوَ [الإسراء: ٥١] وهي أقوال في غاية الضعف، وأقرب الأقوال وأقواها ما ذكرناه أولا.
والإمام المقتدى به والمتبع عاقلا كان أو غيره، والجار والمجرور متعلق بندعو أي ندعو كل أناس من بني آدم
114
الذين فعلنا بهم في الدنيا ما فعلنا من التكريم وما عطف عليه بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين أو كتاب أو دين فيقال: يا أتباع فلان يا أهل دين كذا أو كتاب كذا.
وأخرج ابن مردويه عن علي كرّم الله تعالى وجهه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الآية: يدعى كل قوم بإمام زمانهم كتاب ربهم وسنة نبيهم
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر. وغيرهما عن ابن عباس أنه قال: إمام هدى وإمام ضلالة.
وأخرج ابن جرير من طريق العوفي عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: بإمامهم بكتاب أعمالهم فيقال: يا أصحاب كتاب الخير يا أصحاب كتاب الشر وروي ذلك عنه أبي العالية والربيع، والحسن
، وقرىء «بكتابهم» ولعل وجه كون ذلك إمامهم أنهم متبعون لما يحكم به من جنة أو نار، وقال الضحاك وابن زيد: هو كتابهم الذي نزل عليهم.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والخطيب في تاريخه عن أنس أنه قال: هو نبيهم الذي بعث إليهم.
واختار ابن عطية كغيره عموم الإمام لما ذكر في الآثار، وقيل: المراد القوى الحاملة لهم على عقائدهم وأفعالهم كالقوة النظرية والعملية والقوة الغضبية والشهوية سواء كانت الشهوة شهوة النقود أو الضياع أو الجاه والرياسة ولاتباعهم لها دعيت إماما، وهو مع كونه غير مأثور بعيد جدا فلا يقتدى بقائله وإن كان إماما.
وفي الكشاف أن من بدع التفاسير أن الإمام جمع أم كخف وخفاف وأن الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم وأن الحكمة في الدعاء بهن دون الآباء رعاية حق عيسى عليه السلام وشرف الحسن والحسين ولا يفضح أولاد الزنا، وليت شعري أيهما أبدع أصحة تفسيره أم بهاء حكمته انتهى، وهو مروي عن محمد بن كعب.
ووجه عدم قبوله على ما في الكشف، أما أولا فلأن إمام جمع أم غير شائع وإنما المعروف الأمهات.
وأما ثانيا فلأن رعاية حق عيسى عليه السلام في امتيازه بالدعاء بالأم فإن خلقه من غير أب كرامة له لا غض منه ليجبر بأن الناس أسوته في انتسابهم إلى الأمهات، وإظهار شرف الحسنين بدون ذلك أتم فإن أباهما خير من أمهما مع أن أهل البيت كحلقة مفرغة، وأما افتضاح أولاد الزنا فلا فضيحة إلا للامهات وهي حاصلة دعي غيرهم بالأمهات أو بالآباء ولا ذنب لهم في ذلك حتى يترتب عليه الافتضاح انتهى، وما ذكر من عدم شيوع الجمع المذكور بين، وأما الطعن في الحكمة فقد تعقب فإن حاصلها إنه لو دعي جميع الناس بآبائهم ودعي عيسى عليه السلام بأمه لربما أشعر بنقص فروعي تعظيمه عليه السلام ودعي الجميع بالأمهات وكذا روعي تعظيم الحسنين رضي الله تعالى عنهما لما أن في ذلك بيان نسبهما من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولو نسبا إلى أبيهما كرّم الله تعالى وجهه لم يفهم هذا وإن كان هو هو رضي الله تعالى عنه، وفي ذلك أيضا ستر على الخلق حتى لا يفتضح أولاد الزنا فإنه لو دعي الناس بآبائهم ودعوا هم بأمهاتهم علم أنهم لا نسبة لهم إلى آباء يدعون بهم وفيه تشهير لهم ولو دعوا بآباء لم يعرفوا بهم في الدنيا وإن لم ينسبوا إليهم شرعا كان كذلك، وعلى هذا يسقط ما في الكشف، وعندي أن القائل بذلك لا يكاد يقول به من غير أن يتمسك بخبر لأنه خلاف ما ينساق إلى الأذهان على اختلاف مراتبها ولا تكاد تسلم حكمته عن وهن ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر.
ولعل الخبر إن كان ليس بالصحيح ويعارضه ما قدمناه غير بعيد من
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فأحسنوا أسماءكم»
والله تعالى أعلم، وما ذكر من تعلق الجار بما عنده هو الظاهر الذي ذهب إليه الجمهور، وجوز أن يكون متعلقا بمحذوف وقع حالا أي مصحوبين بإمامهم، ثم إن الداعي إما الله عز وجل وإما الملك وهو الذي تشعر به الآثار فإسناد الفعل إليه تعالى مجاز.
115
وقرأ مجاهد «يدعو» بالياء آخر الحروف أي يدعو الله تعالى أو الملك، والحسن في رواية «يدعى» بالبناء للمفعول ورفع كُلَّ على النيابة عن الفاعل، وفي رواية أخرى «يدعوا» بضم الياء وفتح العين بعدها واو ورفع كُلَّ وخرجت على وجهين فإن الظاهر يدعون بإثبات النون التي هي علامة الرفع الأول إن الواو ليست ضمير جمع ولا علامته وإنما هي حرف من نفس الكلمة وكانت ألفا والأصل يدعى كما في القراءة الأخرى وقلبت الألف واوا على لغة من يقول في أفعى وهي الحية أفعو، وهذه اللغة مخصوصة بالوقف على المشهور فيكون قد أجري هنا الوصل مجرى الوقف. ونقل عن سيبويه أن قلب الألف في الآخر واوا لغة مطلقا، والثاني أن الواو ضمير أو علامة كما في يتعاقبون فيكم ملائكة والنون محذوفة كما في
قوله صلّى الله عليه وسلّم: «لا تؤمنوا حتى تحابوا وكما تكونوا يولّى عليكم»
في قول، وكذا في قول الشاعر:
أبيت أسرى وتبيتي تدلكي وجهك بالعنبر والمسك الذكي
وكأنها لكونها علامة إعراب عوملت معاملة حركته في إظهارها تارة وتقديرها أخرى، ولا فرق في كونها علامة إعراب بين أن تكون الواو ضميرا وأن تكون علامة جمع على الصحيح، والظاهر أن حذفها في مثل ما ذكر شاذ لا ضرورة وإلا فلا يصح هذا التخريج في الآية، وفي توجيه رفع كُلَّ على هذه القراءة الأقوال في توجيه الرفع في أمثاله وهي مشهورة في كتب النحو فَمَنْ أُوتِيَ يومئذ من أولئك المدعوين كِتابَهُ صحيفة أعمالهم والله سبحانه أعلم بحقيقتها بِيَمِينِهِ إبانة لخطر الكتاب المؤتى وتشريفا لصاحبه وتبشيرا له من أول الأمر بما في مطاويه فَأُولئِكَ إشارة إلى من باعتبار معناه وكأنه أشير بذلك إلى أنهم حزب مجتمعون على شأن جليل، وقيل فيه إشعار بأن قراءتهم لكتبهم على وجه الاجتماع لا على وجه الانفراد كما في حال الإيتاء، وأكثر الأخبار ظاهرة في أن حال القراءة كحال الإيتاء، نعم جاء من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أنه يؤتى العبد كتابه بيمينه فيقرأ سيئاته ويقرأ الناس حسناته ثم يحول الصحيفة فيعول الله تعالى حسناته فيقرؤها الناس فيقولون ما كان لهذا العبد من سيئة.
ويحتمل أن يكون كل من يؤتى كتابه بيمينه بعد أن يقرأه منفردا يأتي أصحابه ويقول هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة: ١٩] فيجتمعون عليه ويقرؤونه ويقرؤه هو أيضا معهم تلذذا به لكن لم نجد في ذلك أثرا ومع هذا لا يجدي نفعا فيما أراد القائل، وفي إلحاق اسم الإشارة علامة البعد إشارة إلى رفعة درجات المشار إليهم أي أولئك المختصون بتلك الكرامة التي يشعر بها إيتاء الكتاب باليمين يَقْرَؤُنَ ولو لم يكونوا قارئين في الدنيا كِتابَهُمْ الذي أوتوه باليمين ليذكروا أعمالهم ويقفوا على تفاصيلها فيحاسبوا عليها. وقيل يقرؤونه تبجحا بما سطر فيه من الحسنات المستتبعة لفنون الكرامات، والإظهار في مقام الإضمار لمزيد الاعتناء وَلا يُظْلَمُونَ أي لا ينقصون من أجور أعمالهم المرتسمة في كتبهم بل يؤتونها مضاعفة فَتِيلًا أي قدر فتيل وهو القشر الذي في شق النواة سمي بذلك لأنه على هيئة الشيء المفتول، وقيل هو ما تفتله بين أصابعك من خيط أو وسخ ويضرب به المثل في الشيء الحقير، ثم إن الذي يسرع إلى الذهن أن فاعل الإيتاء الملائكة عليهم السلام يعطون السعيد بعد أن يدعى كتابه بيمينه فيقرؤه فيحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا.
لكن
أخرج العقيلي عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الكتب كلها تحت العرش فإذا كان يوم القيامة يبعث الله تعالى ريحا فتطيرها إلى الأيمان والشمائل وأول خط فيها اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً
[الإسراء:
١٤] وهو ظاهر في أن فاعل الإيتاء ليس الملك إلا أن الخبر يحتاج إلى تنقير فإني لست من صحته على يقين.
نعم
جاء في حديث أخرجه الإمام أحمد عن عائشة الصديقة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «قلت يا رسول الله
116
هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال: أما عند ثلاث فلا إلى أن قال وعند تطاير الكتب»
وهو مؤيد بظاهره الخبر السابق والله تعالى أعلم.
وجاء في بعض الآثار أن أول من يؤتى كتابه بيمينه من هذه الأمة أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد وأول من يؤتى كتابه بشماله أخوه الأسود سود الله تعالى وجهه بعد أن يمد يمينه ليأخذه بها فيخلعها ملك
، وسبب ذلك مذكور في السير وَمَنْ كانَ من المدعوين المذكورين فِي هذِهِ الدنيا التي فعل بهم فيها من التكريم والتفضيل ما فعل أَعْمى لا يهتدي إلى طريق نجاته من النظر إلى ما أولاه مولاه جل علاوه والقيام بحقوقه وشكره سبحانه بما ينبغي له عز شأنه من الإيمان والعمل فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ التي عبر عنها- بيوم ندعو أَعْمى لا يهتدي أيضا إلى ما ينجيه ولا يظفر بما يجديه لأن العمى الأول موجب للثاني وهو في الموضعين مستعار من آفة البصر.
وجوز أن يكون أَعْمى الثاني أفعل تفضيل من عمى البصيرة وهو من العيوب الباطنة التي يجوز أن يصاغ منها أفعل التفضيل كالأحمق والأبله، وبنى على ذلك إمالة أبي عمرو الأول وتفخيمه الثاني وبيان أن الألف في الأول آخر الكلمة كما ترى وتحسن الإمالة في الأواخر وهي في الثاني على تقديره كونه أفعل تفضيل كأنها في وسط الكلمة لأن أفعل المذكور غير معرف باللام ولا مضاف لا يستعمل بدون من الجارة للمفضل عليه ملفوظة أو مقدرة وهو معها في حكم الكلمة الواحدة ولا تحسن الإمالة فيها ولا تكثر كما في المتطرفة.
وقد صرح بذلك أبو علي في الحجة فلا يرد إمالة «أدنى من ذلك» و «الكافرين» وأن حمزة والكسائي وأبا بكر يميلون الأعمى في الموضعين ولا حاجة إلى أن يقال: إنهم لا يرونه أفعل تفضيل أو أن الإمالة فيما يرونه كذلك للمشاكلة. وقال بعض المحققين: إنه لما أريد افتراق معنى الأعمى في الموضعين افترق اللفظان إمالة وتفخيما، وفخم الثاني لأن ما يدل على زيادة المعنى أولى بالتفخيم مع عدم حسن الإمالة فيه حسنها في الأول، ولا يظن بأبي عليّ أنه يقول بامتناع الإمالة وإنما يقول بأولوية التفخيم.
وقال بعضهم: إن كان العمى فيما يكون للبصر وما يكون للبصيرة حقيقة فلا إشكال، وإن كان حقيقة في الأول وتجوز به عن الثاني ففيه إشكال إلا أن يقال: إنه ألحق بما وضع لذلك وقد منعه آخرون لأن العلة وهي الإلباس بالوصف موجودة فيه فتدبر، وقوى هذا التأويل بعطف قوله تعالى: وَأَضَلُّ سَبِيلًا منه في الدنيا لزوال الاستعداد وعدم إمكان تدارك ما فات، وهذا بعينه هو الذي أوتي كتابه بشماله بدلالة حال ما سبق من الفريق المقابل له، ولعل العدول إلى هذا العنوان للإيذان بالعلة الموجبة كما في قوله تعالى: وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ [الواقعة: ٩٢] بعد قوله سبحانه:
وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ [الواقعة: ٩٠] وللرمز إلى علة حال الفريق الأول وفي ذلك ما هو من قبيل الاحتباك حيث ذكر في أحد الجانبين المسبب وفي الآخر السبب ودل بالمذكور في كل منهما على المتروك في الآخر تعويلا على شهادة العقل، وجعله ابن المنير مقابلا للقسم الأول على معنى فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فهو الذي يتبصره ويقرؤه ومن كان في الدنيا أعمى غير متبصر في نفسه ولا ناظر في معاده فهو في الآخرة كذلك غير متبصر في كتابه بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا على اختلاف التأويلين وهو خلاف الظاهر.
ويشعر أيضا بأن من كان في الدنيا أعمى عن السلوك في طريق نجاته لا يقرأ في الآخرة كتابه وهو خلاف المصرح به في الآيات والأحاديث، نعم فرق بين القراءتين ولعل الآية تشعر بالفرق وإن لم تقرر المقابلة بما ذكر هذا وعن أبي مسلم تفسير أَعْمى الثاني بأعمى العين ولا تجوز أي من كان في الدنيا أعمى القلب فهو في الآخرة أعمى العين أي يحشر كذلك عقوبة له على ضلالته في الدنيا وهو كقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه:
117
١٢٤] الآية، وتأول فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق: ٢٢] بالعلم والمعرفة، وعنه أيضا تجويز أن يكون العمى عبارة عما يلحقه من الغم المفرط كأنه قيل من كان في الدنيا ضالا فهو في الآخرة مغموم جدا فإن من لا يرى إلا ما يسوءه والأعمى سواء، وهذا كما يقال: فلان سخين العين وهو كما ترى.
وقيل إن هذه إشارة إلى النعم المذكورة قبل على معنى من كان أعمى غير متبصر في هذه النعم وقد عاينها فهو في شأن الآخرة التي لم يعاينها أعمى وأضل سبيلا، واستند في ذلك إلى ما أخرجه الفريابي. وابن أبي حاتم عن عكرمة قال: جاء نفر من أهل اليمن إلى ابن عباس فسأله رجل منهم أرأيت قوله تعالى: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى فقال ابن عباس: لم تصل المسألة اقرأ ما قبلها رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ [الإسراء:
٦٦] حتى بلغ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا ثم قال: من كان أعمى عن هذه النعم التي قد رأى وعاين فهو في أمر الآخرة التي لم ير ولم يعاين أعمى وأضل سبيلا.
وفي رواية أخرى أخرجها عنه ابن أبي حاتم وأبو الشيخ في العظمة من طريق الضحاك أنه قال في الآية: يقول تعالى من كان في الدنيا أعمى عما رأى من قدرتي من خلق السماء والأرض والجبال والبحار والناس والدواب وأشباه هذا فهو عما وصفت له في الآخرة أعمى وأضل سبيلا يقول سبحانه أبعد حجة.
وروى أبو الشيخ عن قتادة نحوه، ولا يخفى أن كلا التأويلين بعيد جدا وإن كان الثاني دون الأول في البعد ولا أظن الحبر يقول ذلك والله تعالى أعلم.
«ومن باب الإشارة في الآيات» قَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ قالت الوجودية من الصوفية: إنه تعالى سبق قضاؤه أن لا يعبد سواه فكل عابد إنما يعبد الله سبحانه من حيث يدري ومن حيث لا يدري فإنه جل شأنه الأول والآخر والظاهر والباطن والأعيان الثابتة ما شمت رائحة الوجود ولا تشمه أبدا، ومما ينسبونه إلى زين العابدين رضي الله تعالى عنه ويزعمون أنه مشير إلى مدعاهم قوله:
إني لأكتم من علمي جواهره كيلا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا
وقد تقدم في هذا أبو حسن إلى الحسين وأوصى قبله الحسنا
فرب جوهر علم لو أبوح به لقيل لي أنت ممن يعبد الوثنا
ولاستحل رجال مسلمون دمي يرون أقبح ما يأتونه حسنا
قالوا: إنه رضي الله تعالى عنه عنى بهذا الجوهر الذي لو باح به لقيل له: أنت ممن يعبد الوثن علم الوحدة إذ منه يعلم أن الوثن وكذا غيره مظهر له جل وعلا وليس في الدار غيره ديار، وقد مر عن قرب ما نقل عن الحلاج ومثله كثير للشيخ الأكبر قدس سره ولغيره عربا وعجما وهو عفا الله تعالى عنه قد فتح بابا في هذا المطلب لا يسد إلى أن يأتي أمر الله عز وجل وكأنه أوصى إليه بأن يبوح وينثر هاتيك الجواهر بين الأصاغر والأكابر كما أوصى إلى الحسنين بأن يكتما من ذلك ما علما، وفي بعض كتبه قدس سره ما هو صريح في أنه مأمور فإن صح ذلك فهو معذور، وأنا لا أرى عذرا لمن يقفو أثره في المقال مع مباينته له في الحال فإن هذا المطلب أجل من أن يحصل لغريق الشهوات وأسير المألوفات ورهين العادات ولله تعالى در من قال:
تقول نساء الحي تطمع أن ترى محاسن ليلى مت بداء المطامع
وكيف ترى ليلى بعين ترى بها سواها وما طهرتها بالمدامع
118
ولا يخفى أنه على تأويل الصوفية هذه الآية لا يكون قوله تعالى: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً داخلا فيما قضى إذ لا يسمعهم أن يقولوا إن كل أحد محسن بوالديه من حيث يدري ومن حيث لا، ويفهم من كلام بعض المتصوفة أن هذا إيصاء بالإحسان إلى الشيخ أيضا، وعليه فيحتمل أن يكون تثنية الوالدين كما في قولهم: القلم أحد اللسانين وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: ذو القربى إشارة إلى الروح لأنها كانت قبل في القربة والمشاهدة ثم هبطت حيث هبطت، والمسكين إشارة إلى العقل لأنه عاجز عن تحصيل العلم بحقيقة ربه سبحانه، وابن السبيل إشارة إلى القلب لأنه يتقلب في سبل السلوك إلى ملك الملوك، وحق الروح المشاهدة، والعقل الفكر، والقلب الذكر، وقيل: الأول إشارة إلى إخوان المعرفة الذين وصلوا معالي المقامات وحقهم ذكر ما يزيد تمكينهم، والثاني إشارة إلى العاشقين الذين سكنهم عشق مولاهم عن طلب ما سواه وحقهم ذكر ما يزيد عشقهم، والثالث إشارة إلى السالكين سبل الطلب الممتطين نجائب الهمة وحقهم ذكر ما يزيد رغبتهم ويهون مشقتهم وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فيه إشارة للمشايخ كيف يكونون مع المريدين أي لا يبخل على المريد بنشر فضائل المعرفة وحقائق القربة ولا تذكر شيئا لا يتحمل فيهلك وكن بين بين وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ الذي أخذ منكم قبل خلق الأشباح وهو أن توحدوه تعالى ولا تشركوا به شيئا.
وقال يحيى بن معاذ: لربك عليك عهود ظاهرا وباطنا فعهد على الأسرار أن لا تشاهد سواه جل جلاله، وعهد على الروح أن لا تفارق مقام القربة، وعهد على القلب أن لا يفارق الخوف، وعهد على النفس أن لا تترك شيئا من الفرائض، وعهد على الجوارح أن تلازم الأدب وتترك المخالفات وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ قيل فيه إشارة للمشايخ أيضا أن لا ينقصوا المستعدين ما يقتضيه استعدادهم من الفيوضات القلبية، وفي قوله تعالى: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ إشارة لهم أن يعرضوا أعمال المريدين القلبية والقالبية على الشريعة فهي القسطاس المستقيم وكفتاها الحظر والإباحة وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ الآية فيه إشارة إلى بعض ما يلزم السالك من التثبت والاحتياط والكف عن الدعاوى العاطلة تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ الآية وقد علمت ما عند الصوفية في تسبيح الأشياء من أنه قال إلا أنه لا يسمعه إلا من فاز بقرب النوافل أو من أشرق عليه شيء من أنواره كالذين سمعوا تسبيح الحصى في مجلس سيد الكاملين صلّى الله عليه وسلّم، والتسبيح الحالي مما لا ينكره أحد من المسلمين، وقرره بعض الصوفية بأن لكل شيء خاصية ليست لغيره وكما لا يخصه دون ما عداه فهو يشتاقه ويطلبه إذا لم يكن حاصلا له ويحفظه ويحبه إذا حصل فهو بإظهار خاصيته ينزه الله تعالى من الشريك وإلا لم يكن متوحدا فيها فلسان حاله يقول أوحده على ما وحدني وبطلب كماله ينزهه سبحانه عن صفات النقص كأنه يقول يا كامل كملني وبإظهار كماله كأنه يقول كملني الكامل المكمل وعلى هذا القياس، وحينئذ يقال: تسبحه السماوات بالكمال والتأثير والربوبية وبأنه كل يوم هو في شأن ونحو ذلك، والأرض بالخلاقية والرزاقية والرحمة إلى غير ذلك، والملائكة بالعلم والقدرة والتجرد عن المادة على القول بأنهم أرواح مجردة وهكذا وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً من الجهل وعمى القلب فلا يرون حقيقتك القدسية ولا يدركون منك إلا الصورة البشرية، وإنما خص ذلك بوقت قراءة القرآن مع أنهم في كل وقت هم أجهل الخلق به صلّى الله عليه وسلّم لأن في ذلك الوقت يظهر إشراق أنوار الصفات عليه الصلاة والسلام فإذا كانوا محجوبين إذ ذاك كانوا في غيره من الأوقات أحجب وأحجب وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً من الغشاوات الطبيعية والهيئات البدنية أَنْ يَفْقَهُوهُ فإن القرآن كلامه تعالى وهو أحد صفاته وإذا لم يعرفوا نبيه صلّى الله عليه وسلّم لم يعرفوه عز وجل وإذا لم يعرفوه سبحانه لم يعرفوا صفاته تعالى فلم يعرفوا كلامه سبحانه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً لرسوخ
119
أوساخ التعلقات فيها يمنعهم عن سماع القراءة وهذا ناشىء من جهلهم بأفعاله تعالى وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً لتشتت أهوائها وتفرق همهم في عبادة آلهتهم المتنوعة فلا تناسب الوحدة بواطنهم يَوْمَ يَدْعُوكُمْ للقيام من القبور فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ حامدين له تعالى مجده بلسان القال أو بلسان الحال حيث أظهر فيكم الحياة بعد الموت ونحو ذلك.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ في القبور أو في الدنيا إِلَّا قَلِيلًا لذهولكم عن ذلك الزمان أو لاستقصاركم الدنيا بالنسبة إلى الآخرة رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ فيه إشارة إلى أن المشيئة تابعة للعلم فمن علم سبحانه أهليته للرحمة شاء تعالى رحمته فرحمه ومن علم جل وعلا أهليته للعذاب شاء عذابه فعذبه، ولا يخفى ما في تقديم شق مشيئته الرحمة من تقوية الأمل أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي يدعونهم الكفار ويعبدونهم يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يطلب الأقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى فكيف بغير الأقرب والوسيلة في الأصل الواسطة التي يتوسل ويتقرب بها إلى الشيء وهي هنا الطاعة كما تقدم.
وقيل هي كرمه تعالى القديم وإحسانه عز وجل العميم، وقيل هي الشفاعة يوم القيامة، ولما كان مقام الوسيلة بهذا المعنى خاصا بنبينا صلّى الله عليه وسلّم أطلقوا الوسيلة عليه الصلاة والسلام، وفسرها بذلك هنا بعض الصوفية فكل من عبد من دون الله تعالى من عيسى وعزير والملائكة عليهم السلام وسيلتهم إلى الله تعالى نبينا صلّى الله عليه وسلّم بل هو عليه الصلاة والسلام وسيلة سائر الموجودات والواسطة بينهم وبين الله تعالى في إفاضته سبحانه الوجود وكذا سائر ما أفيض عليهم وأحظى الخلق بوساطته الأنبياء عليهم السلام فإنهم أشعة أنواره وعكوسات آثاره وهو النور الحق والنبي المطلق وكان نبيا وآدم بين الماء والطين وقد تلقى الأنبياء منه من وراء حجاب الأرحام والأصلاب وظهروا إذ كان محتجبا ظهور الكواكب في الليل فلما بزغت شمس النبوة المطلقة من أفق الظهور غابوا ونسخت أحكامهم على نحو غيبوبة الكواكب وانمحاق أنوارها وأضوائها عند طلوع الشمس من تحت الحجاب منخلعة عن الجلباب وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ لعلمهم بجماله وجلاله والرجاء والخوف جناحا من يطير إلى حضرة القدس وروضة الأنس ومن عطل أحدهما تعطل عن الطيران وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ إلى قوله سبحانه وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا فيه إشارة إلى اختلاف مراتب تمكن الشيطان من إغواء بني آدم فمن كان منهم ضعيف الاستعداد استفزه واستخفه بصوته فأغواه بوسوسة وهمس بل هاجسة ولمة، ومن كان قوي الاستعداد فإن كان خالصا عن شوائب الغيرية أو عن شوائب الصفات النفسانية لم يتمكن من إغوائه وهذا هو المراد بقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإن لم يكن خالصا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية منهمكا في الأمور الدنيوية شاركه في أمواله وأولاده وحرضه على إشراكهم بالله تعالى في المحبة وسول له التمتع والتكاثر والتفاخر بهم ومناه الأماني الكاذبة وزين له الآمال الفارغة، وإن لم ينغمس فإن كان عالما بتسويلاته أجلب عليه بخيله ورجله أي مكر بأنواع الحيل وكاده بصنوف الفتن وأفتاه بأن تحصيل أنواع الحطام والملاذ من جملة مصالح المعاش وغره بعلمه وحمله على الإعجاب به وأمثال ذلك حتى أضله على علم، وإن لم يكن عالما بل كان عابدا متنسكا أغواه بالوعد وغره برؤية الطاعة وتزكية النفس وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ الآية قيل كرمهم تعالى بأن خلق أباهم آدم على صورة الرحمن وجعل لهم ذلك بحكم الوراثة وأن الولد سر أبيه وفضلهم على الكثير بأن جعل لهم من النعم ما يستغرق العد وجوز أن يقال: تكريمهم بأن بسط موائد الأنعام لهم وجعل من عداهم طفيليا، وتفضيلهم بما ذكر في التكريم أولا وفيه احتمالات أخر يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي نناديهم بنسبتهم إلى من كانوا يقتدون به في الدنيا لأنه المستعلى محبتهم إياه على سائر محباتهم فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
120
ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫ ﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻ ﭽﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰ ﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪ ﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺ ﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮ ﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽ ﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔ ﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞ ﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮ ﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽ ﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇﰈﰉﰊ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤﭥﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯ ﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸﭹﭺﭻﭼﭽﭾ ﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗ ﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦﮧ ﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙﯚﯛﯜ ﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬ ﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵﯶ ﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃﰄﰅ ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚ ﭜﭝﭞﭟﭠﭡﭢﭣﭤ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫﭬﭭﭮﭯﭰﭱﭲﭳﭴﭵﭶﭷﭸ ﭺﭻﭼﭽﭾﭿﮀﮁ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈ ﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘﯙ
أي من جهة العقل الذي هو أقوى جانبيه فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ويأخذون أجور أعمالهم المكتوبة فيه وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أدنى شيء حقير من ذلك وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى عن الاهتداء إلى الحق فهو في الآخرة أعمى أيضا وَأَضَلُّ سَبِيلًا لبطلان الكسب هناك وهذا الذي يؤتى كتابه بشماله أي من جهة النفس التي هي أضعف جانبيه إلا أنه عبر عنه بما ذكر لما قدمنا، والله تعالى هو الهادي إلى سواء السبيل، ثم إنه عز وجل لما عدد نعمه على بني آدم ثم ذكر حالهم في الآخرة وانقسامهم إلى قسمين سعداء وأشقياء أتبع ذلك بذكر بعض مساوئ بعض الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على سيد أهل السعادة المقطوع له بالعصمة صلّى الله عليه وسلّم وفي ذلك إشارة إلى أنهم داخلون فيمن عمي عن الاهتداء في الدنيا دخولا أوليا فقال سبحانه وتعالى:
121
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ قيل نزلت في ثقيف قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب لا نعشر ولا نحشر ولا ننحني في الصلاة وكل ربا لنا فهو لنا وكل ربا علينا فهو موضوع عنا وأن تمتعنا باللات سنة وأن تحرم وادينا كما حرمت مكة فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله تعالى أمرني، وروى ذلك الثعلبي عن ابن عباس
ولم يذكر له سندا.
وقال العراقي فيه: إنا لم نجده في كتب الحديث ونقله الزمخشري بزيادة، ونقل غيره أنهم طلبوا ثلاث خصال عدم التجبية في الصلاة وكسر أصنامهم بأيديهم وتمتيعهم باللات سنة من غير أن يعبدوها بل ليأخذوا ما يهدى لها
فقال صلّى الله عليه وسلّم: «لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود» وأما كسر أصنامكم بأيديكم فذلك لكم وأما الطاغية اللات فإني غير
122
ممتعكم بها» وقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه: ما بالكم آذيتم رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه لا يدع الأصنام في أرض العرب فما زالوا به حتى أنزل الله تعالى الآية.
وأخرج ابن أبي إسحق وابن مردويه وغيرهما عنه رضي الله تعالى عنه أن أمية بن خلف. وأبا جهل. ورجالا من قريش أتوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: تعال فتمسح بآلهتنا وندخل معك في دينك وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يشتد عليه فراق قومه ويحب إسلامهم فرق لهم فأنزل الله تعالى هذه الآية إلى قوله سبحانه: نَصِيراً، وأخرج ابن مردويه من طريق الكلبي عن باذان عن جابر بن عبد الله مثله.
وأخرج ابن أبي حاتم عن جبير بن نفير أن قريشا أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا له: إن كنت أرسلت إلينا فاطرد الذين اتبعوك من سقّاط الناس ومواليهم لنكون نحن أصحابك فنزلت
وقيل: إنهم قالوا له عليه الصلاة والسلام: اجعل لنا آية رحمة آية عذاب. وآية عذاب آية رحمة حتى نؤمن بك فنزلت.
وفي ذلك روايات أخر مختلفة أيضا وفي بعضها ما لا يصح نسبته إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولا يكاد يؤول وذلك يدل على الوضع والتفسير لا يتوقف على شيء من ذلك، وأيّا ما كان فضمير الجمع للكفار وهم إما ثقيف أو قريش، وإِنْ مخففة من المثقلة واسمها ضمير شان مقدر واللام هي الفارقة بين المخففة وغيرها أي إن الشان قاربوا في ظنهم أن يوقعوك في الفتنة صار فيك عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأوامر والنواهي والوعد والوعيد لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتتقول علينا غير الذي أوحيناه إليك مما اقترح عليك ثقيف من تحريم وج مثلا أو قريش من جعل آية الرحمة آية عذاب وبالعكس، وقيل: المعنى لتحل محل المفتري علينا لأنك إن اتبعت أهواءهم أو همت أنك تفعل ذلك عن وحينا لأنك رسولنا فكنت كالمفتري.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ليتخذنك صديقا لهم، وكان المراد ليكونن بينك وبينهم مخالة وصداقة وهم أعداء الله تعالى فمخالتهم تقتضي الانقطاع عن ولايته عز وجل كما قيل:
وتطمع منها بالحديث وقد جرى حديث سواها في خروق المسامع
إذا صافى صديقك من تعادي فقد عاداك وانقطع الكلام
وقيل: الخليل هذا من الخلة بمعنى الحاجة أي لاتخذوك فقيرا محتاجا إليهم وهو كما ترى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي لولا تثبيتنا إياك على ما أنت عليه من الحق بعصمتنا لك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا من الركون الذي هو أدنى ميل، وأصله الميل إلى ركن، وذكروا. نه إذا أطلق يقع على أدنى الميل، ونصب شَيْئاً على المصدرية أي لولا ذلك لقاربت أن تميل إليهم شيئا يسيرا من الميل اليسير لقوة خدعهم وشدة احتيالهم لكن أدركتك العصمة فمنعتك من أن تقرب أدنى الأدنى من الميل إليهم فضلا عن نفس الميل إليهم، وهذا صريح في أنه صلّى الله عليه وسلّم لم يهم بإجابتهم ولم يكد، وبه يرد على من زعم أنه عليه الصلاة والسلام هم فمنعه نزول الآية وكأنه غره ظواهر بعض الروايات في بيان سبب النزول كرق في رواية ابن إسحاق ومن معه عن الحبر ولا يخفى أن في قوله سبحانه إِلَيْهِمْ دون إلى إجابتهم ما يقوي الدلالة على أنه عليه الصلاة والسلام بمعزل عن الإجابة في أقصى الغايات، وهذا الذي ذكر في معنى الآية هو الظاهر المتبادر للأفهام وذهب ابن الأنباري إلى أن المعنى لقد كادوا أن يخبروا عنك أنك ركنت إليهم ونسب فعلهم إليه عليه الصلاة والسلام مجازا واتساعا كما تقول للرجل كدت تقتل نفسك أي كاد الناس يقتلونك بسبب ما فعلت وهو من الألغاز المستغنى عنه.
واستدل بالآية على أن العصمة بتوفيق الله تعالى وعنايته.
وقرأ قتادة وابن أبي إسحق وابن مصرف «تركن» بضم الكاف مضارع ركن بفتحها وهو على قراءة الجمهور
123
مضارع ركن بكسر الكاف، وقيل: بفتحها أيضا وجعل ذلك من تداخل اللغتين إِذاً أي لو قاربت أن تركن إليهم أدنى ركنة لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ أي مضاعف الحياة وهو صفة محذوف والإضافة على معنى في أو للملابسة أي عذابا مضاعفا في الحياة، والمراد بها الحياة الدنيا لأنه المتبادر عند إطلاق لفظها وكذا يقال في قوله تعالى: وَضِعْفَ الْمَماتِ أي وعذابا ضعفا في الممات، والمراد به ما يشمل العذاب في القبر وبعد البعث، واستسهل بعض المحققين أن يكون التقدير من أول الأمر لأذقناك ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات وتكون الإضافة لامية والقرينة على تقدير العذاب لَأَذَقْناكَ والمعنى لو قاربت ما ذكرنا لنضاعفن لك العذاب المعجل للعصاة في الحياة الدنيا والعذاب المؤجل لهم بعد الموت.
وقيل المراد بالحياة حياة الآخرة وبعذاب الممات ما يكون في القبر وأمر الإضافة والتقدير على حاله، والمعنى لو قاربت لنضاعفن لك عذاب القبر وعذاب يوم القيامة المدخرين للعصاة، وفي هذه الشرطية إجلال عظيم بمكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتنبيه على أن الأقرب أشد خطرا وذلك أنه أوعد بضعف العذاب على مقاربة أدنى ركون وقد وضع عنا الركون ما لم يصدقه العمل، ونظير ذلك من وجه ما جاء في نسائه عليه الصلاة والسلام من قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠] وذكر في وجه مضاعفة جزاء خطأ الخطير أنه يكون سببا لارتكاب غيره مثله والاحتجاج به فكأنه سن ذلك
وقد جاء «من سن سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة»
وعلى هذا يضاعف عذاب الخطير في خطئه أضعافا مضاعفة، ولا يلزم من إثبات الضعف الواحد نفي الضعف المتعدد، وقيل الضعف من أسماء العذاب وأنشدوا على ذلك قوله:
لمقتل مالك إذ بان مني أبيت الليل في ضعف أليم
وذكر بعضهم أن الضعف ليس من أسماء العذاب وضعا لكنه يعبر به عنه لكثرة وصف العذاب به كما في قوله تعالى: عَذاباً ضِعْفاً [الأعراف: ٣٨، ص: ٦١] وزعم أن ذلك مراد القائل والله تعالى أعلم، واللام في لَأَذَقْناكَ ولَاتَّخَذُوكَ لام القسم على ما نص عليه الحوفي، والماضي في الموضعين واقع موقع المضارع الدال عليه اللام، والنون على ما نص عليه أبو حيان وأشرنا إليه فيما سبق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب أو يرفعه عنك،
روي عن قتادة أنه لما نزل قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا إلى هنا قال صلّى الله عليه وسلّم: اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين
، وينبغي للمؤمن إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها وأن يستشعر الخشية وازدياد التصلب في دين الله تعالى ويقول كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك ويستخفونك بعداوتهم ومكرهم مِنَ الْأَرْضِ أي الأرض التي أنت فيها وهي أرض مكة لِيُخْرِجُوكَ أي ليتسببوا إلى خروجك مِنْها وكان هذا الاستفزاز بما فعلوا من حصره صلّى الله عليه وسلّم في الشعب والتضييق عليه عليه الصلاة والسلام ووقع ذلك بعد نزول الآية كما في البحر وصار سببا لخروجه صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا.
وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ أي إن استفزوك فخرجت لا يبقون خِلافَكَ أي بعدك وبه قرأ عطاء بن رباح واستحسن أنها تفسير لا قراءة لمخالفتها سواد المصحف وأنشدوا:
عفت الديار خلافهم فكأنما بسط الشواطب بينهن حصيرا
وقرأ أهل الحجاز وأبو بكر وأبو عمرو «خلفك» بغير ألف والمعنى واحد واللفظان في الأصل من الظروف المكانية فتجوز فيهما واستعملا للزمان وقد اطرد إضافتهما كقبل وبعد إلى أسماء الأعيان على حذف مضاف يدل عليه ما قبله أي لا يلبثون خلف استفزازك وخروجك إِلَّا قَلِيلًا أي إلا زمانا قليلا، وجوز أن يكون التقدير إلا لبثا
124
قليلا والمعنيان متقاربان، واختير التقدير الأول لأن التوسع أعني إقامة الوصف مقام الموصوف بالظروف أشبه، وهذا وعيد لهم بإهلاك مجموعهم من حيث هو مجموع بعد خروجه صلّى الله عليه وسلّم بقليل وتحقق بإفناء البعض في بدر لا سيما وقد كانوا صناديدهم والرؤوس، وأنت تعرف أن معظم الشيء يقام مقام كله، وكان الزمان القليل على ما روى ابن أبي حاتم عن السدي ثمانية عشر شهرا، ويجوز أن يفسر الإخراج بالإكراه على الخروج والوعيد بإهلاك كل واحد منهم أي لو أخرجوك لاستؤصلوا على بكرة أبيهم لكن لم يقع المقدم لأن الإكراه على الخروج مباشرة وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مهاجرا بأمر ربه عز وجل فلم يقع التالي وهذا هو التفسير المروي عن مجاهد قال: أرادت قريش ذلك ولم تفعل لأنه سبحانه أراد استبقاءها وعدم استئصالها ليسلم منها ومن أعقابها من يسلم فأذن لرسوله عليه الصلاة والسلام بالهجرة فخرج بإذنه لا بإخراج قريش وقهرهم، والإخراج في قوله تعالى وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد: ١٣] محمول على المعنى الأول، وكذا في قول ورقة: يا ليتني كنت جذعا إذ يخرجك قومك
وقوله عليه الصلاة والسلام «أو مخرجيّ هم»
فلم تتضمن الآية وكذا الخبر إثبات إخراج قلنا بنفيه هنا، والقول بأنه يلزم على هذا التناقض بين هذه الآية والآية السابقة بناء على تفسير الإخراج فيها بالتسبب إلى الخروج لأن كاد تدل على مقاربته لا حصوله وهذه الآية دلت على حصوله مجاب عنه بأن قصارى ما دلت عليه الآية السابقة على التفسير الأول قرب حصول الاستفزاز منهم ليتسببوا به إلى خروجه صلّى الله عليه وسلّم وأنه لم يكن حاصلا وقت نزول الآية لا أنه لا يكون حاصلا أبدا ليناقض حصوله بعد. وحكى الزجاج أن استفزازهم ما أجمعوا عليه في دار الندوة من قتله صلّى الله عليه وسلّم والمراد من الأرض وجه البسيطة مطلقا، وقال أبو حيان: المراد ما على هذا الدنيا، وقيل ضمير كادُوا وما بعده لليهود،
فقد أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل. وابن عساكر عن عبد الرحمن بن غنم قال: إن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا إن كنت نبيا فالحق بالشام فإنها أرض المحشر وأرض الأنبياء فصدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما قالوا فغزا غزوة تبوك لا يريد إلا الشام فلما بلغ تبوك أنزل الله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ- إلى- تَحْوِيلًا
وأمره بالرجوع إلى المدينة وقال فيها محياك وفيها مماتك ومنها تبعث،
وفي رواية أنهم قالوا: يا أبا القاسم إن الشام أرض مقدسة وهي أرض الأنبياء فلو خرجت إليها لآمنا بك وقد علمنا أنك تخاف الروم فإن كنت نبيا فاخرج إليها فان الله تعالى سيحميك كما حمى غيرك من الأنبياء فخرج عليه الصلاة والسلام بسبب قولهم وعسكر بذي الحليفة وأقام ينتظر أصحابه فنزلت هذه الآية
فرجع صلّى الله عليه وسلّم ثم إنه عليه الصلاة والسلام قتل منهم بني قريظة وأجلى بني النضير بقليل. وتعقب بأنه ضعيف لم يقع في سيرة ولا كتاب يعتمد عليه، وذو الحليفة ليس في طريق الشام من المدينة وكيفما كان يكون المراد من الأرض عليه المدينة، وقيل أرض العرب، وكأن من ذهب إلى أن هذه الآية مدنية يستند إلى ما ذكر من الروايات، وقد صرح الخفاجي بأن هذا المذهب غير مرضي والله تعالى أعلم.
وقرأ عطاء «لا يلبّثون» بضم الياء وفتح اللام والباء مشددة. وقرأ يعقوب كذلك إلا أنه كسر الباء وقرأ أبي «وإذا لا يلبثوا» بحذف النون وكذا في مصحف عبد الله، وتوجيه الإثبات والحذف أن النحويين عدوا من جملة شروط عمل إذن كونها في أول الجملة فعلى قراءة الحذف تكون الجملة معطوفة على جملة لَيَسْتَفِزُّونَكَ وهي خبر كاد فيكون الشرط منخرما لتوسطها حينئذ في الكلام لكون ما بعدها خبر كاد كالمعطوف هو عليه، وعلى قراءة الإثبات تكون الجملة معطوفة على جملة وَإِنْ كادُوا فيتحقق الشرط والعطف لا يضر في ذلك، ووجه أبو حيان الإهمال بأن لا يَلْبَثُونَ جواب قسم محذوف أي والله إن استفزوك فخرجت لا يلبثون وقد توسطت إذا بين القسم المقدر والفعل فأهملت ثم قال ويحتمل أن يكون لا يلبثون خبرا لمبتدأ محذوف يدل عليه المعنى تقديره وهم إذا لا يلبثون
125
فتكون إذا واقعة بين المبتدأ وخبره ولذلك ألغيت وكلا التوجيهين ليس بوجيه كما لا يخفى.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على المصدرية أي سننّا سنة من إلخ وهي أن لا ندع أمة تستفز رسولها لتخرجه من بين ظهرانيها تلبث بعده إلا قليلا فالسنة لله عز وجل وأضيفت للرسل عليهم السلام لأنها سنت لأجلهم، ويدل على ذلك قوله سبحانه وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا حيث أضاف السنة إليه تعالى، وقال الفراء:
انتصب سُنَّةَ على إسقاط الخافض أي كسنة فلا يوقف على قوله تعالى: قَلِيلًا فالمراد تشبيه حاله صلّى الله عليه وسلّم بحال من قبله لا تشبيه الفرد بفرد من ذلك النوع وجوز أبو البقاء أن يكون مفعولا به لفعل محذوف أي اتبع سنة إلخ كما قال سبحانه فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] والأنسب بما قبل ما قبل، وكأنه اعتبر الأوامر بعد وهو خلاف ما عليه عامة المفسرين، والتحويل التغيير أي لا تجد لما أجرينا به العادة تغييرا أي لا يغيره أحد.
والمراد من نفي الوجدان هنا وفيما أشبهه نفي الوجود ودليل نفي وجود من يغير عادة الله تعالى أظهر من الشمس في رابعة النهار، وللإمام كلام في هذا المقام لا يخلو عن بحث، ثم أنه تعالى بعد أن ذكر كيد الكفار وسلى نبيه عليه الصلاة والسلام بما سلى أمره أن يقبل على شأنه من عبادة ربه تعالى شأنه ووعده بما يغبطه عليه كل الخلق ويتضمن ذلك إرشاده إلى أن لا يشغل قلبه بهم أو أنه سبحانه بعد أن قدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات أمر بأشرف العبادات بعد الإيمان وهي الصلاة فقال جل وعلا أَقِمِ الصَّلاةَ أي المفروضة
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها عن دائرة نصف النهار وهو المروي عن عمر بن الخطاب وابنه وابن عباس في رواية، وأنس وأبي برزة الأسلمي والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد، ورواه الإمامية عن أبي جعفر. وأبي عبد الله رضي الله تعالى عنهما
وخلق آخرين،
وأخرج ابن جرير. وإسحاق بن راهويه في مسنده وابن مردويه في تفسيره. والبيهقي في المعرفة عن أبي مسعود عقبة بن عامر قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتاني جبريل عليه السلام لدلوك الشمس حين زالت فصلى بي الظهر
وقيل لغروبها (١) وهو المروي عندنا عن علي كرم الله تعالى وجهه
، وأخرجه ابن مردويه والطبراني والحاكم وصححه، وغيرهم عن ابن مسعود، وابن المنذر وغيره عن ابن مسعود، وروى عن زيد بن أسلم والنخعي والضحاك والسدي، وإليه ذهب الفراء وابن قتيبة، وأنشد لذي الرمة:
مصابيح ليست باللواتي يقودها نجوم ولا بالأفلاك الدوالك
وأصل مادة د ل ك تدل على الانتقال ففي الزوال انتقال من دائرة نصف النهار إلى ما يليها وفي الغروب انتقال من دائرة الأفق إلى ما تحتها وكذا في الدلك المعروف انتقال اليد من محل إلى آخر بل كل ما أوله دال ولام مع قطع النظر عن آخره يدل على ذلك كدلج بالجيم من الدلجة وهي سير الليل وكذا دلج بالدلو إذا مشى بها من رأس البئر للمصب ودلح بالحاء المهملة إذا مشى مشيا متثاقلا ودلع بالعين المهملة إذا أخرج لسانه ودلف بالفاء إذا مشى مشية المقيد وبالقاف إذا أخرج المائع من مقره ووله إذا ذهب عقله وفيه انتقال معنوي إلى غير ذلك، وهذا المعنى يشمل كلا المعنيين السابقين وإن قيل إن الانتقال في الغروب أتم لأنه انتقال من مكان إلى مكان ومن ظهور إلى خفاء وليس في الزوال إلا الأول، وقيل إن الدلوك مصدر مزيد مأخوذ من المصدر المجرد أعني الدلك المعروف وهو أظهر في الزوال لأن من نظر إلى الشمس حينئذ يدلك عينه ويكون على هذا في دلوك الشمس تجوز عن دلوك ناظرها، وقد يستأنس في ترجيح القول الأول مع ما سبق بأن أول صلاة صلاها النبي صلّى الله عليه وسلّم نهار ليلة الإسراء الظهر، وقد صح أن
(١) أخرجه ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم اه منه.
126
جبريل عليه السلام ابتدأ بها حين علم النبي عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة في يومين، وقال المبرد: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها فالأمر بإقامة الصلاة لدلوكها أمر بصلاتين الظهر والعصر، وعلى القولين الآخرين أمر بصلاة واحدة الظهر أو العصر، واللام للتاقيت متعلقة بأقم وهي بمعنى بعد كما في قول متمم بن نويرة يرثي أخاه:
فلما تفرقنا كأني ومالكا لطول اجتماع لم نبت ليلة معا
ومنه كتبته لثلاث خلون من شهر كذا وتكون بمعنى عند أيضا، وقال الواحدي: هي للتعليل لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي إلى شدة ظلمته كما قال الراغب وغيره وهو وقت العشاء.
وأخرج ابن الأنباري في الوقف عن ابن عباس أن نافع بن الأرزق قال له: أخبرني ما الغسق؟ فقال: دخول الليل بظلمته وأنشد قول زهير بن أبي سلمى:
ظلت تجود يداها وهي لاهية حتى إذا جنح الإظلام والغسق
وقال النضر بن شميل: غسق الليل دخول أوله، قال الشاعر:
إن هذا الليل قد غسقا واشتكيت الهم والأرقا
وهو عنده وقت المغرب، وروي ذلك عن مجاهد، وأصله من السيلان يقال غسقت العين تغسق إذا هملت بالماء كأن الظلمة تنصب على العالم، وقيل: المراد من غسق الليل ما يعم وقتي المغرب والعشاء وهو ممتد إلى الفجر كما أن المراد بدلوك الشمس ما يعم وقتي الظهر والعصر ففي الآية بدخول الغاية تحت المعيا وبضم ما بعد إشارة إلى أوقات الصلوات الخمس، واختاره جماعة من الشيعة واستدلوا بها على أن وقت الظهر موسع إلى غروب الشمس ووقت المغرب موسع إلى انتصاف الليل وهي أحد أدلة الجمع في الحضر بلا عذر الذي ذهبوا إليه وأبدوا ذلك مما
رواه العياشي بإسناده عن عبيدة، وزرارة عن أبي عبد الله أنه قال في هذه الآية: إن الله تعالى افترض أربع صلوات أول وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل منها صلاتان أول وقتهما من عند زوال الشمس إلى غروبها إلا أن هذه قبل هذه ومنها صلاتان أول وقتهما غروب الشمس إلى انتصاف الليل إلا أن هذه قبل هذه وهو مرتضى المرتضى في أوقات الصلاة
، والمعتمد عليه عند جمهور المفسرين أن دلوك الشمس وقت الظهر وغسق الليل وقت العشاء كما ينبىء عنه إقحام الغسق وعدم الاكتفاء بإلى الليل، والجار والمجرور متعلق بأقم، وأجاز أبو البقاء تعلقه بمحذوف وقع حالا من الصلاة أي ممدودة إلى الليل والأول أولى وليس المراد بإقامة الصلاة فيما بين هذين الوقتين على وجه الاستمرار بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام الثابت في الروايات الصحيحة التي لم يروها- من شهد- أحد من الأئمة الطاهرين بزندقتهم ونجاسة بواطنهم كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه الصلاة والسلام، ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلاة من غير فصل بينها لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة فبعضها متصل ببعض بخلاف وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم عادة ينقطع أحدهما عن الآخر ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات، ثم إن المستدل من الشيعة بالآية لا يتم له الاستدلال بها على جواز الجمع بين صلاتي الظهر والعصر، وبين صلاتي المغرب والعشاء ما لم يضم إلى ذلك شيئا من الأخبار فإنها إذا لم يضم إليها ذلك أولى بأن يستدل بها على جواز الجمع بين الأربعة جميعها لا بين الاثنتين والاثنتين ولا يخفى ما في الاستدلال بها على هذا المطلب ولذا لم يرتضه أبو جعفر منهم، نعم ما ذهبوا إليه مما يؤيده ظواهر بعض الأحاديث الصحيحة
كحديث ابن عباس وهو في صحيح مسلم صلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الظهر والعصر جمعا بالمدينة
127
وفي رواية أنه صلّى الله عليه وسلّم صلى ثمانيا جميعا وسبعا جميعا من غير خوف ولا سفر.
واختلف في تأويله فمنهم من أوله بأنه جمع بعذر المطر والجمع بسبب ذلك تقديما وتأخيرا مذهب الشافعي في القديم وتقديما فقط في الجديد بالشرط المذكور في كتبهم، وخص مالك جواز الجمع بالمطر في المغرب والعشاء، وهذا التأويل مشهور عن جماعة من الكبار المتقدمين وهو ضعيف لما في صحيح مسلم عنه أيضا جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر، وكون المراد ولا مطر كثير لا يرتضيه ذو إنصاف قليل والشذوذ غير مسلم، ومنهم من أوله بأنه كان في غيم فصلى صلّى الله عليه وسلّم الظهر ثم انكشف الغيم وبان أن أول وقت العصر دخل فصلاها، وفيه أنه وإن كان فيه أدنى احتمال في الظهر والعصر إلا أنه لا احتمال في المغرب والعشاء، ومنهم من أوله بأنه عليه الصلاة والسلام أخر الأولى إلى آخر وقتها فصلاها فيه فلما فرغ منها دخل وقت الثانية فصلاها فصارت الصورة صورة جمع، وفيه أنه مخالف للظاهر مخالفة لا تحتمل، ويرده أيضا ما صح عن عبد الله بن شقيق قال: خطبنا ابن عباس يوما بعد العصر حتى غربت الشمس وبدت النجوم وجعل الناس يقولون: الصلاة الصلاة فجاء رجل من بني تميم فجعل لا يفتر ولا ينثني الصلاة الصلاة فقال ابن عباس: أتعلمني بالسنة لا أم لك رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء قال عبد الله بن شقيق: فحاك في صدري من ذلك شيء فأتيت أبا هريرة فسألته فصدق مقالته، ومنهم من قال: هو محمول على الجمع بعذر المرض أو نحوه مما هو في معناه من الأعذار وهذا قول الإمام أحمد والقاضي حسين من الشافعية واختاره منهم الخطابي والمتولي والروياني.
وقال النووي: هو المختار في التأويل ومذهب جماعة من الأئمة جواز الجمع في الحضر للحاجة لمن لا يتخذه عادة وهو قول ابن سيرين وأشهب من أصحاب مالك وحكاه الخطابي عن القفال الشاشي الكبير من أصحاب الإمام الشافعي، وعن أبي إسحق المروزي، وعن جماعة من أصحاب الحديث واختاره ابن المنذر ويؤيده ظاهر ما
صح عن ابن عباس ورواه مسلم أيضا أنه لما قال: جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة في غير خوف ولا مطر قيل له: لم فعل ذلك؟ فقال: أراد أن لا يخرج أحدا من أمته وهو من الحرج
بمعنى المشقة فلم يعلله بمرض ولا غيره، ويعلم مما ذكرنا أن قول الترمذي في آخر كتابه ليس في كتابي حديث أجمعت الأمة على ترك العمل به إلا حديث ابن عباس في الجمع بالمدينة من غير خوف ولا مطر وحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة ناشىء من عدم التتبع. نعم ما قاله في الحديث الثاني صحيح فقد صرحوا بأنه حديث منسوخ دل الإجماع على نسخه.
وقال ابن الهمام: إن حديث ابن عباس معارض بما
في مسلم من حديث ليلة التعريس أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «ليس في النوم تفريط إنما التفريط في اليقظة أن يؤخر الصلاة حتى يدخل وقت صلاة أخرى»
وللبحث في ذلك مجال.
ومذهب الإمام أبي حنيفة عدم جواز جمع صلاتي الظهر والعصر في وقت إحداهما والمغرب والعشاء كذلك مطلقا إلا بعرفات فيجمع فيها بين الظهر والعصر بسبب النسك وإلا بمزدلفة فيجمع فيها بين المغرب والعشاء بسبب ذلك أيضا واستدل بما استدل. وفي الصحيحين وسنن أبي داود وغيره ما لا يساعده على التخصيص، وأنت تعلم أن الاحتياط فيما ذهب إليه الإمام رضي الله تعالى عنه فالمحتاط لا يخرج صلاة الظهر مثلا عن وقتها المتيقن الذي لا خلاف فيه إلى وقت فيه خلاف، وقد صرح غير واحد بأنه إذا وقع التعارض يقدم الأحوط وتعارض الأخبار في هذا الفصل مما لا يخفى على المتتبع، هذا وزعم بعضهم أن المراد بالصلاة المأمور بإقامتها صلاة المغرب والتحديد المذكور بيان لمبدأ وقتها ومنتهاه على أن الغاية خارجة واستدل به على امتداده إلى غروب الشفق وهو خلاف ما
128
ذهب إليه الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه في الجديد من أنه ينقضي بمضي قدر زمن وضوء وغسل وتيمم، وطلب خفيف وإزالة خبث مغلظ يعم البدن والثوب والمحل وستر عورة واجتهاد في القبلة وأذان وإقامة وألحق بهما سائر سنن الصلاة المتقدمة كتعمم وتقمص ومشي لمحل الجماعة وأكل جائع حتى يشبع وسبع ركعات ولعل الزمان الذي يسع كل هذا يزيد على زمن ما بين غروب الشمس وغروب الشفق أي شفق كان في أكثر الإعراض، ثم لا يخفى أنه إذا كان المراد من غسق الليل وقت العشاء وفسر الغسق باجتماع الظلمة وشدتها كان ذلك مؤيدا لما في ظاهر الرواية عن الإمام أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه من أن أول وقت العشاء حين يغيب الشفق بمعنى البياض الذي يعقب الخمرة في الأفق الغربي لأن الظلمة لا تجتمع ولا تشتد ما لم يغب، ولا يأبى ذلك أن الأحاديث الصحيحة صريحة في أن أول وقتها حين يغيب الشفق وهو اللغة الحمرة المعلومة لأن تفسيره بالبياض قد جاء أيضا، وروي ذلك عن أبي بكر الصديق وعمر ومعاذ بن جبل وعائشة رضي الله تعالى عنهم أجمعين، ورواه عبد الرازق عن أبي هريرة وعن عمر بن عبد العزيز، وبه قال الأوزاعي والمزني وابن المنذر والخطابي، واختاره المبرد وثعلب، وما
رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «أول وقت العشاء حين يغيب الأفق»
ظاهر في كون الشفق البياض إذ لا غيبوبة للأفق إلا بسقوطه نعم ذهب صاحباه إلى أنه الحمرة وهو (١) قول ابن عباس وابن عمر رضي الله تعالى عنهم، ورواه أسد بن عمرو عن الإمام أيضا لكنه خلاف ظاهر الرواية عنه، والصحيح المفتي به عندنا ما جاء في ظاهر الرواية، وقد نص على ذلك المحقق ابن الهمام والعلامة قاسم وابن نجيم وغيرهما، وما قاله الإمام أبو المفاخر من أن الإمام رجع إلى قولهما وقال إنه الحمرة لما ثبت عنده من حمل عامة الصحابة إياه على ذلك وعليه الفتوى وتبعه المحبوبي وصدر الشريعة ليس بشيء لأن الرجوع لم يثبت ودون إثباته مع نقل الكافة عن الكافة خلافه خرط القتاد، وكذا دعوى حمل عامة الصحابة خلاف المنقول كما سمعت حتى أن البيهقي لم يرو أن الشفق الحمرة إلا عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما.
وما
رواه الدارقطني عنه قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الشفق الحمرة فإذا غاب وجبت الصلاة»
قال البيهقي والنووي فيه الصحيح أنه موقوف على ابن عمر رضي الله تعالى عنهما ومثل هذا الاختلاف الاختلاف في أول وقت العصر فقال الإمام: هو إذا صار ظل كل شيء مثليه بعد ظل الزوال وقالا: إذا صار ظل كل شيء مثله بعد ظل الزوال، وفتوى المحققين على قوله رحمة الله تعالى عليه بل قال ابن نجيم: إن الإفتاء بغيره لا يجوز وقد أطال الكلام في ذلك في رسالته رفع الغشاء عن وقتي العصر والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عطف على مفعول «أقم» أو نصب على الإغراء كما قال الزجاج وأبو البقاء والجمهور على الأول، والمراد بقرآن الفجر صلاته كما روي عن ابن عباس ومجاهد، وسميت قرآنا أي قراءة لأنها ركنها كما سميت ركوعا وسجودا وهذه حجة على ابن علية. والأصم في زعمهما أن القراءة ليست بركن في الصلاة قاله في الكشاف ورد بأن ذلك لا يدل على الركنية لجواز كون مدار التجوز كون القراءة مندوبة فيها وفي الكشف أنه مدفوع بأن العلاقة المعتبرة في إطلاق غير الصلاة وإرادة الصلاة هي علاقة الكل والجزء بدليل النظائر وهاهنا إذ ورد تجوزا فحمله على معلوم النظير من الاستقراء واجب على أن الندبية لا تصلح علاقة معتبرة إلا بالتكلف، وجعل، سبح بمعنى صلى لأن التسبيح بمعنى التنزيه البالغ والمصلى مسبح قولا بقراءة الفاتحة بل بالتكبير الواجب بالاتفاق وفعلا أيضا بالركوع والسجود مثلا الدالين على كمال التعظيم والتبجيل فهو الركن كله لا لأن التسبيح بمعنى
(١) أي في رواية اه منه.
129
قول سبحان الله ليقال تجوز عن الصلاة بما هو مندوب فيها. وتعقب بأن الاكتفاء بعلاقة الندبية التي يقول بها الأصم وابن علية لا تكلف فيه فإن القرآن جزء من الصلاة الكاملة فيكون ذلك كالنظائر بلا ضرر ولا ضير، وبأن مذهبهما في التكبير غير معلوم فدعوى الاتفاق غير مسلمة منه ولو كان كما ذكره لكان الوجوب كافيا في علاقة أخرى وهي اللزوم وفيه بحث، وأبقى الجصاص القرآن على حقيقته وقال في الآية دلالة على وجوب القراءة في صلاة الفجر لأن التقدير فيها وأقم قرآن الفجر والأمر للوجوب ولا قراءة في ذلك الوقت واجبة إلا في الصلاة وزعم أن كون المعنى صلوا الفجر غلط من وجهين الأول أنه صرف عن الحقيقة بغير دليل، والثاني أن فَتَهَجَّدْ بِهِ فيما بعد يأباه إذ لا معنى للتهجد بصلاة الفجر، وفيه أن الدليل قائم وهو أَقِمِ لاشتهار أَقِمِ الصَّلاةَ دون أقم القراءة وضمير بِهِ فيما بعد يجوز أن يرجع إلى القرآن بمعناه الحقيقي استخداما وهو أكثر من أن يحصى ثم متى دلت الآية على وجوب القراءة في صلاة الفجر نصا كان ثبوت وجوبها في غيرها من الصلاة قياسا، وذكر بعضهم أن في التعبير عن صلاة الفجر بخصوصها بما ذكر إشارة إلى أنه يطلب فيها من تطويل القراءة ما لم يطلب في غيرها وهو حسن، وقال الإمام: إن في الآية دلالة على أنه يسن التغليس في صلاة الفجر لأنه أضيف فيها القرآن إلى الفجر على معنى أقم قرآن الفجر والأمر للوجوب والفجر أول طلوع الصبح لانفجار ظلمة الليل عن نور الصباح حينئذ ولذلك سمي الفجر فجرا فيقتضي ذلك وجوب إقامة صلاة الفجر أول الطلوع وحيث أجمع على عدم وجوب ذلك بقي الندب لأن الوجوب عبارة عن رجحان مانع الترك فإذا منع مانع من تحقق الوجوب كالإجماع هنا وجب أن يرتفع المنع من الترك وأن يبقى أصل الرجحان حتى تقل مخالفة الدليل.
وأنت تعلم ما للعلماء من الخلاف في الباقي بعد رفع الوجوب، وما ذكر قول في المسألة لكنه لا يفيد المطلوب لأن صلاة الفجر اسم للصلاة المخصوصة سواء وقعت بغلس أم اسفار، والأخبار الصحيحة تدل على سنية الأسفار بها
كخبر الترمذي وهو كما قال: حسن صحيح «أسفروا بالفجر فإنه أعظم للأجر»
وحمله على تبين الفجر حتى لا يكون شك في طلوعه ليس بشيء إذ ما لم يتبين لا يحكم بجواز الصلاة فضلا عن إصابة الأجر المفاد بآخر الخبر ولو حمل أعظم فيه على عظيم ورد أن المناسب في التعليل فإنه لا تصح الصلاة بدونه على أنه على ما فيه ينفيه رواية الطحاوي أسفروا بالفجر فكلما أسفرتم فهو أعظم الأجر أو لأجوركم أو كما قال، وروي بسنده الصحيح عن إبراهيم قال: ما اجتمع أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على شيء ما اجتمعوا على التنوير، ومحال نظرا إلى علو شأنهم أن يجتمعوا على خلاف ما فارقهم عليه حبيبهم رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وفي الصحيحين عن ابن مسعود وما رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم صلى صلاة لميقاتها إلا صلاتين صلاة المغرب والعشاء بجمع وصلى الفجر يومئذ قبل ميقاتها مع أنه كان بعد الفجر كما يفيده لفظ البخاري
فيكون المراد قبل ميقاتها الذي اعتاد الأداء فيه، والظاهر أنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يعتاد التغليس إلا أنه فعله يومئذ ليمتد الوقوف، ونحن نقول بسنيته بفجر جمع لهذا الحديث.
وخبر عائشة رضي الله تعالى عنها «كان صلّى الله عليه وسلّم يصلي الصبح بغلس فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس»
حمل الغلس فيه بعض أصحابنا على غلس داخل المسجد، ويأباه قولها: ثم يرجعن إلى بيوتهن ما يعرفهن أحد من الغلس إذ لا يمكن حمل هذا الغلس المانع من معرفتهن في طريق رجوعهن إلى بيوتهن على غلس داخل المسجد، وكون المراد ما يعرفهن أحد في داخل المسجد من الغلس خلاف الظاهر على تقدير جعل الجملة حالا من ضمير يرجعن.
130
والظاهر ما أشرنا إليه، وكذا جعل الجملة حالا من نساء أو صفة لها كأنه قيل فتشهد معه نساء ملتفعات بمروطهن ما يعرفهن أحد من الغلس ثم يرجعن إلى بيوتهن، وقيل كان ذلك في يوم غيم، ويبعده كان فإنها شائعة الاستعمال فيما كان يداوم عليه عليه الصلاة والسلام، وقيل هو منسوخ كما يدل عليه اجتماع الصحابة على التنوير، ويبعد ذلك أن النسخ يقتضي سابقية وجود المنسوخ، وقول ابن مسعود: ما رأيت إلخ يفيد أن لا سابقية له. وقال بعضهم: ترجح في الأخبار المتعارضة هنا رواية الرجال خصوصا مثل ابن مسعود فإن الحال أكشف لهم في صلاة الجماعة فتأمل.
وذكر الطحاوي أن الذي ينبغي الدخول في الفجر وقت التغليس والخروج وقت الأسفار، وهو قول الإمام أبي حنيفة وصاحبيه وهو خلاف ما يذكره الأصحاب عنهم من البدء والختم في الأسفار وهو الذي يفيده حديث الترمذي وغيره والله تعالى أعلم، ثم إن صلاة الفجر وإن كانت إحدى الصلوات الخمس التي فرضت ليلة الإسراء عليه صلّى الله عليه وسلّم وعلى أمته ودلت هذه الآية على وجوب إقامتها كذلك إلا أنه عليه الصلاة والسلام لم يصلها صبح تلك الليلة لعدم العلم بكيفيتها حينئذ وإنما علم الكيفية بعد.
وقد قدمنا قريبا أن البداءة وقعت في صلاة الظهر إشارة إلى أن دينه عليه الصلاة والسلام سيظهر على الأديان ظهورها على بقية الصلوات، ونوه سبحانه هنا بشأن صلاة الفجر بقوله عز وجل:
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ حيث لم يقل سبحانه إنه كانَ مَشْهُوداً
أخرج أحمد والنسائي وابن ماجه والترمذي والحاكم وصححاه وجماعة عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال في تفسير ذلك: تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار،
وفي الصحيحين عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال: «قال النبي صلّى الله عليه وسلّم تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر
ثم قال أبو هريرة: «اقرؤوا إن شئتم وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً»
.
والمراد بهؤلاء الملائكة الكتبة والحفظة فتنزل ملائكة النهار وتصعد ملائكة الليل وتلتقي الطائفتان في ذلك الوقت، وكذا تلتقي الطائفتان وأمر النزول والصعود على العكس وقت العصر كما جاء في الآثار، وهذا مما يعكر على الإمام في زعمه أن هذا أيضا دليل قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان إذا شرع في الصلاة من أول الصبح يكون ملائكة الليل حاضرين لبقاء الظلمة فإذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القراءة وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء وحضر ملائكة النهار فإنه يلزمه على هذا البيان الذي لا يروج إلا على الصبيان القول بأن تأخير صلاة العصر إلى أن يزول الضوء وتظهر الظلمة وهو لا يقول به بل لا يقول به أحد.
وهل الطائفة التي تشهد اليوم مثلا تشهد غدا أو كل يوم تشهد طائفة أخرى لم تشهد قبل ولا تشهد بعد فيه خلاف، وسيأتي الكلام إن شاء الله تعالى فيما يتعلق بذلك.
وقيل يشهد الكثير من المصلين في العادة، وقيل من حقه أن تشهده الجماعة الكثيرة، وقيل تشهده وتحضر فيه شواهد القدرة من تبدل الضياء بالظلمة والانتباه بالنوم الذي هو أخو الموت، وهو احتمال أبداه الإمام وبسط الكلام فيه، ثم قال: وهذا المراد من قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً ثم ذكر احتمال كون المراد مشهودا بالجماعة الكثيرة وبسط الكلام أيضا في تحقيقه، وأنت تعلم أنه لا وجه للحصر المدلول عليه بقوله: وهذا هو المراد، ثم إبداء ذلك الاحتمال على أنه بعد ما صح تفسير النبي صلّى الله عليه وسلّم له بما سمعت لا ينبغي أن يقال في غيره هذا هو المراد، ولا يخفى ما في هذه الجملة من الترغيب والحث على الاعتناء بأمر صلاة الفجر لأن العبد في ذلك الوقت مشيع كراما ومتلقى كراما فينبغي أن يكون على أحسن حال يتحدث به الراحل ويرتاح له النازل.
131
وَمِنَ اللَّيْلِ قيل أي وعليك بعض الليل، وظاهره أنه من باب الإغراء كما نقل عن الزجاج وأبي البقاء في قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ وتعقبه أبو حيان بأن المغرى به لا يكون حرفا، ولا يجدي نفعا كون من للتبعيض لأن ذلك لا يجعلها اسما ألا ترى إجماع النحاة على أن واو مع حرف وإن قدرت بمع، وأجيب بأنه يحتمل أن يكون القائل بذلك قائلا باسمية مِنَ في مثل ذلك كما قالوا باسمية الكاف في نحو فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ [الفيل: ٥] وعن في نحو من عن يمين تارة وشمالي وعلى نحو من عليه، وكذا القائل بأن ذلك نصب على الظرفية بمقدر أي وقم بعض الليل، واختار الحوفي أن من متعلقة بفعل دل عليه معنى الكلام أي وأسهر من الليل فالفاء في قوله تعالى:
فَتَهَجَّدْ بِهِ إما عاطفة على ذلك المقدر أو مفسرة بناء على أنه من أسلوب وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ [البقرة: ٤٠] وفي الكشف أن الإغراء هو الظاهر هاهنا بخلافه فيما تقدم لأن النصب على التفسير والصلات مختلفة لا يتضح كل الاتضاح، ومعنى الإغراء من السابق واللاحق تتعاضد الأدلة عليه، وفيه منع ظاهر، والتهجد على ما نقل عن الليث الاستيقاظ من النوم للصلاة ويطلق على نفس الصلاة بعد القيام من النوم ليلا يقال: تهجد أي صلى في الليل بعد الاستيقاظ وكذا هجد وهذا يقتضي سابقية النوم في تحقق التهجد فلو لم ينم وصلى ما شاء لا يقال له تهجد، وهو المروي عن مجاهد والأسود وعلقمة وغيرهم، وقال المبرد: هو السهر للصلاة أو لذكر الله تعالى، وقيل: السهر للطاعة وظاهره عدم اشتراط سابقية النوم في تحققه، والمشهور أن ذلك يسمى قياما وما بعد النوم يسمى تهجدا، وأغرب الحجاج بن عمرو المازني فإنه روي عنه أنه قال: أيحسب أحدكم إذا قام من الليل فصلى حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد الصلاة بعد الرقاد ثم صلاة أخرى بعد رقدة ثم صلاة أخرى بعد رقدة هكذا كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أقول: إن تخلل النوم بين الصلوات جاء في صحيح مسلم من رواية حصين عن حبيب بن أبي ثابت، وهي مما استدركها الدارقطني على مسلم لاضطرابها فقد قال وروي عنه على سبعة أوجه وخالف فيه الجمهور يعني الخبر الذي فيه تخلل النوم، والكثير من الروايات ليس فيه ذلك فليحفظ. واشترط أن لا تكون الصلاة إحدى الخمس فلو نام عن العشاء ثم قام فصلاها لا يسمى متهجدا ولا ضرر في كونها واجبة كأن نام عن الوتر ثم قام إليها، وفي القاموس الهجود النوم كالتهجد وتهجد استيقظ كهجد ضد، وقال ابن الأعرابي: هجد الرجل صلى من الليل وهجد نام بالليل، وقال أبو عبيدة: الهاجد النائم والمصلي، وفي مجمع البيان أنه يقال هجدته إذا أنمته، وعليه قول لبيد:
قلت هجدنا فقال طال السرى ونقل عن ابن برزخ أنه يقال: هجدته إذا أيقظته ومصدر هذا التهجيد، وصرح في القاموس بأنه من الأضداد أيضا.
وذكر بعضهم أن المعروف في كلام العرب كون الهجود بمعنى النوم وفسر التهجد بترك الهجود أي النوم على أن التفعل للسلب كالتأثم والتحنث وهو مأخذ من فسره بالاستيقاظ، ويجوز أن يقال: إن التفعل للتكلف أي تكلف الهجود بمعنى اليقظة، ورجح هذا بأن مجيء التفعل للتكلف أكثر من مجيئه للسلب.
وعورض بأن استعمال الهجود في اليقظة مختلف في ثبوته وإن ثبت فهو أقل من استعماله في النوم، والضمير المجرور في بِهِ للقرآن من حيث هو لا بقيد إضافته إلى الفجر، واستدل بذلك على تطويل القراءة في صلاة التهجد، وقد صرح العلماء بندب ذلك،
وفي صحيح مسلم من حديث حذيفة «صليت وراء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فافتتح البقرة فقلت يركع عند المائة ثم مضى فقلت يصلي بها في ركعة فمضى فقلت يركع بها ثم افتتح النساء فقرأها ثم افتتح آل عمران فقرأها يقرأ مترسلا إذا مر بآية تسبيح سبح» الخبر
ويجوز أن يكون للبعض المفهوم من قوله تعالى:
وَمِنَ اللَّيْلِ والباء للظرفية أي فتهجد في ذلك البعض.
132
وقال ابن عطية: هو عائد على الوقت المقدر في النظم الكريم أي قم وقتا من الليل فتهجد فيه نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة على الصلوات الخمس المفروضة خاصة بك دون الأمة، ولعله الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر مع تقدم وقتها على وقتها، واستدل به على أن ما أمر به صلّى الله عليه وسلّم فأمته مأمورون به أيضا إلا أن يدل دليل على الاختصاص كما هنا ويدل على أن المراد ما ذكر ما أخرجه ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في ذلك يعني خاصة للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بقيام الليل وكتب عليه لكن صحح النون أنه نسخ عنه عليه الصلاة والسلام فرضية التهجد ونقله أبو حامد من الشافعية وقالوا إنه الصحيح.
وقيل الخطاب في لَكَ له صلّى الله عليه وسلّم والمراد هو وأمته على حد الخطاب في أَقِمِ الصَّلاةَ فيما سبق أي فريضة زائدة على الصلوات الخمس لنفعكم ففيه دليل على فرضية التهجد عليه عليه الصلاة والسلام وعلى أمته لكن نسخ ذلك في حق الأمة وبقي في حقه عليه الصلاة والسلام بناء على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن الضحاك قال: نسخ قيام الليل إلا عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أو ونسخ في حقه صلّى الله عليه وسلّم أيضا بناء على الصحيح، وهو خلاف الظاهر جدا، ويجوز أن يراد بالنافلة الفضيلة إما لأنه عليه الصلاة والسلام فضل على أمته بوجوبها وأن نسخ بعد أو لأنها فضيلة له صلّى الله عليه وسلّم وزيادة في درجاته وليست بالنسبة إليه مكفرة للذنوب وسادّة للخلل الواقع في الفرائض كما أنها وسائر النوافل بالنسبة إلى الأمة كذلك لكونه عليه الصلاة والسلام قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وفرائضه وسائر تعبداته واقعة على الوجه الأكمل.
وقد أخرج هذا الأخير البيهقي في الدلائل وابن جرير وغيرهما عن مجاهد، وابن أبي حاتم عن قتادة، وابن المنذر عن الحسن، واستحسنه الإمام، وضعفه الطبري، وجوز ابن عطية عموم الخطاب كما سمعت آنفا إلا أنه حمل نافلة على تطوعا وليس بشيء أيضا، وربما يختلج في بعض الأذهان بناء على ما تقدم عن أبي البقاء في قوله تعالى:
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا من أنه بتقدير اتبع سنة كما قال سبحانه: فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ [الأنعام: ٩٠] احتمال أن يكون قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ إلخ بيانا للاتباع المأمور به، وهو متضمن للأمر بالصلوات الخمس، وقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يصلونها على ما يدل قول جبريل عليه السلام في خبر تعليمه عليه الصلاة والسلام كيفية الصلاة بعد صلاته الخمس: هذا وقت الأنبياء من قبلك فإنه ظاهر في أنهم عليهم السلام كانوا يصلونها، غاية ما في الباب أنه على القول بأنها لم تجتمع لغير نبينا صلّى الله عليه وسلّم وهو الصحيح يحتمل أن المراد أنه وقتهم على الإجمال وإن اختص من اختص منهم بوقت، حيث ورد أن الصبح لآدم، والظهر لداود، وفي رواية لإبراهيم، والعصر لسليمان، وفي رواية ليونس، والمغرب ليعقوب، وفي رواية لعيسى، والعشاء ليونس، وفي رواية لموسى عليهم السلام إلا أن ذلك لا يضر بل هو أنسب بالأمر باتباع سنة جميعهم، وقد استدل الإمام على أنه صلّى الله عليه وسلّم أفضل من سائر الأنبياء عليهم السلام بقوله تعالى: «فبهداهم اقتده» من جهة أنه عليه الصلاة والسلام أمر بالاقتداء بهدي جميعهم وامتثل ذلك فكان عنده من الهدى ما عند الجميع فيكون أفضل من كل واحد منهم، وحينئذ يقال معنى كون ذلك نافلة له عليه الصلاة والسلام أنه زائد على الصلوات الخمس خاص به صلّى الله عليه وسلّم دون سائر الأنبياء عليهم السلام المأمور باتباع سنتهم، وهو مما لا ينبغي أن يلتفت إليه ويعول عليه بل اللائق به أن يجعل من قبيل حديث النفس وتخيلها بحرا من مسك موجه الذهب فإن فساده تأصيلا وتفريعا مما لا يخفى على من له أدنى مسكة وأقل اطلاع، والله تعالى العاصم من الزلل والحافظ من الخطأ والخطل، وانتصاب نافِلَةً إما على المصدرية بتقدير تنفل وقدر الحوفي نفلناك أو بجعل تهجد بمعنى تنفل أو بجعل نافلة بمعنى تهجدا، فإن ذلك عبادة زائدة، وإما على الحال من الضمير الراجع إلى القرآن أي حال كونه صلاة نافلة كما
133
قال أبو البقاء، وإما على المفعول لتهجد كما جوزه الحوفي إذا كان بمعنى صل، وجعل الضمير المجرور للبعض المفهوم، أو للوقت المقدر أي فصل فيه نافلة لك عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ الذي يبلغك إلى كمالك اللائق بك من بعد الموت الأكبر لما انبعثت من الموت الأصغر بالصلاة والعبادة، فالمعنى على التعليل والتهوين لمشقة قيام الليل حتى زعم بعضهم أن عسى بمعنى كي، وهو وهم بل هي كما قال أهل المعاني للأطماع، ولما كان إطماع الكريم إنسانا بشيء ثم حرمانه منه غرورا والله عز وجل أجل وأكرم من أن يغر أحدا فيطمعه في شيء ثم لا يعطيه قالوا هي للوجوب منه تعالى مجده على معنى أن المطمع به يكون ولا بد للوعد، وقيل هي على بابها للترجي لكن يصرف إلى المخاطب أي لتكن على رجاء من أن يبعثك ربك مَقاماً مَحْمُوداً وهي تامة وأَنْ يَبْعَثَكَ فاعلها ورَبُّكَ فاعله ومَقاماً كما قال جمع منصوب على الظرفية إما على إضمار فعل الإقامة أو على تضمين الفعل المذكور ذلك أي عسى أن يبعثك فيقيمك مقاما أي في مقام، أو يقيمك في مقام محمود باعثا إذ لا يصح أن يعمل في مثل هذا الظرف إلا فعل فيه معنى الاستقرار خلافا للكسائي، واستظهر في البحر كونه معمولا ليبعثك، وهو مصدر من غير لفظ الفعل لأن نبعث بمعنى نقيم تقول أقيم من قبره، وبعث من قبره.
وجوز أبو البقاء وغيره كونه حالا بتقدير مضاف أي نبعثك ذا مقام، وقيل يجوز أن يكون مفعولا به ليبعثك على تضمينه معنى نعطيك، وجوز أبو حيان أن تكون عسى ناقصة ورَبُّكَ الفاعل على تقدير أن ينتصب مَقاماً بمحذوف لا يبعث لئلا يلزم الفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، وتنكير مَقاماً للتعظيم، والمراد بذلك المقام مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء حيث لا أحد إلا وهو تحت لوائه صلّى الله عليه وسلّم
فقد أخرج البخاري وغيره عن ابن عمر قال:
«سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول لست بصاحب ذلك ثم موسى فيقول كذلك ثم محمد فيشفع فيقضي الله تعالى بين الخلق فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة فيومئذ يبعثه الله تعالى مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم».
وأخرج الترمذي وحسنه عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر ويبدي لواء الحمد ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض ولا فخر فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا فاشفع لنا إلى ربك فيقول إني أذنبت ذنبا أهبطت منه إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول ائتوا موسى (١) فيقول إني قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيقول إني عبدت من دون الله تعالى ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال من هذا فأقول محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله تعالى من الثناء والحمد والمجد فيقال ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع وقل يسمع لقولك فهو المقام المحمود الذي قال الله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وجاء في بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام يسجد أربع سجدات
أي كسجود الصلاة كما هو الظاهر تحت العرش فيجاب لما فزعوا إليه، وذكر الغزالي في الدرة الفاخرة أن بين إتيانهم نبيا وإتيانهم ما بعده ألف سنة ولا أصل له كما قال الحافظ ابن حجر، وقيل هو مقام الشفاعة لأمته صلّى الله عليه وسلّم لما
أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي في الدلائل
(١) قوله فيقول ائتوا موسى إلخ كذا في نسخة المؤلف
وعبارة صحيح الترمذي فيقول إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول إلخ
.
134
عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن المقام المحمود في الآية فقال: «هو المقام الذي شفع فيه لأمتي»
وأجاب من ذهب إلى الأول بأنه يحتمل أن يكون المراد المقام الذي أشفع فيه أولا لأمتي
فقد أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة أيضا من حديث طويل في الشفاعة فيه فزع الناس إلى آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام واعتذار كل منهم ما عدا عيسى عليه السلام بذنب أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «فيأتوني- يعني الناس- بعد من علمت من الأنبياء عليهم السلام فيقولون يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء وقد غفر الله تعالى لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر اشفع لنا إلى ربك ألا ترى إلى ما نحن فيه فأنطلق فآتي تحت العرش فأقع ساجدا لربي ثم يفتح الله تعالى علي من محامده وحسن الثناء عليه شيئا لم يفتحه على أحد قبلي ثم يقال يا محمد ارفع رأسك سل تعطه واشفع تشفع فأرفع رأسي فأقول أمتي يا رب فيقال يا محمد أدخل من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن من أبواب الجنة وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب»
ومن الناس من فسره بمقام الشفاعة في موقف الحشر حيث يعترف الجميع بالعجز أعم من أن تكون عامة كالشفاعة لفصل القضاء أو خاصة كالشفاعة لبعض عصاة أمته صلّى الله عليه وسلّم في العفو عنهم، والاقتصار على أحد الأمرين في بعض الأخبار لنكتة اقتضاها الحال ولكل مقام مقال، وحمل هذا الشفاعة للأمة في خبر أبي هريرة المتقدم على الشفاعة لبعض عصاتهم في الموقف قبل دخولهم النار وإلا فلو أريد الشفاعة لهم بعد الحساب ودخول أهل الجنة الجنة وأهل النار النار كما روي عن أبي سعيد لم يتيسر الجمع بين الروايات إلا بأن يقال: المقام المحمود هو مقام الشفاعة أعم من أن تكون في الموقف عامة وخاصة وأن تكون بعد ذلك ويكون الاقتصار لنكتة، وقد جاء تفسيره بمقام الشفاعة مطلقا،
فقد أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص قال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المقام المحمود فقال: هو الشفاعة
وأخرج ابن جرير عن وهب عن أبي هريرة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: المقام المحمود الشفاعة».
وأخرج ابن جرير والطبراني وابن مردويه من طرق عن ابن عباس أنه فسره بذلك، ثم الشفاعة من حيث هي وإن شاركه فيها صلّى الله عليه وسلّم غيره من الملائكة والأنبياء عليهم السلام وبعض المؤمنين إلا أن الشفاعة الكاملة والأنواع الفاضلة لا تثبت لغيره عليه الصلاة والسلام، وقد أوصل بعضهم الشفاعة المختصة به صلّى الله عليه وسلّم إلى عشر وذكره بعض شراح البخاري فليراجع، ووصف المقام بأنه محمود على ما ذكر باعتبار أن النبي صلّى الله عليه وسلّم يحمد فيه على أنعامه الواصل إلى الخاص والعام من أصناف الأنام.
وأخرج النسائي والحاكم وصححه وجماعة عن حذيفة رضي الله تعالى عنه قال: «يجمع الناس في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر حفاة عراة كما خلقوا قياما لا تكلم نفس إلا بإذنه فينادي يا محمد فيقول: لبيك وسعديك والخير في يديك والشر ليس إليك والمهدي من هديت وعبدك بين يديك وبك وإليك لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت»
فهذا المقام المحمود
وأخرج الطبراني عن ابن عباس أنه قال في الآية: يجلسه فيما بينه وبين جبريل عليه السلام ويشفع لأمته فذلك المقام المحمود.
وأخرج ابن جرير عن مجاهد أنه قال: المقام المحمود أن يجلسه معه على عرشه، وأنت تعلم أن الحمد على أكثر ما في هذه الروايات مجاز عند من يقول: إنه مختص بالثناء على الأنعام، وأما عند من يقول بعدم الاختصاص فلا مجاز، وتعقب الواحدي القول بأن المقام المحمود إجلاسه صلّى الله عليه وسلّم عز وجل على العرش بعد ذكر روايته عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بأنه قول رذل موحش فظيع لا يصح مثله عن ابن عباس، ونص الكتاب ينادي بفساده من وجوه، الأول أن البعث ضد الإجلاس يقال بعث الله تعالى الميت إذا أقامه من قبره وبعثت البارك والقاعد فانبعث فتفسيره به تفسير الضد بالضد، الثاني لو كان جالسا سبحانه وتعالى على العرش لكان محدودا متناهيا فيكون محدثا تعالى عن
135
ذلك علوا كبيرا، الثالث أنه سبحانه قال مَقاماً ولم يقل مقعدا والمقام موضع القيام لا القعود، الرابع أن الحمقى والجهال يقولون: إن أهل الجنة كلهم يجلسون معه تعالى ويسألهم عن أحوالهم الدنياوية فلا مزية له صلّى الله عليه وسلّم بإجلاسه معه عز وجل الخامس أنه إذا قيل: بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه انتهى. وأبو عمر لم يطلع إلا على رواية ذلك عن مجاهد فقال: إن مجاهدا وإن كان أحد الأئمة بتأويل القرآن حتى قيل: إذا جاءك التأويل عن مجاهد فحسبك إلا أن له قولين مهجورين عند أهل العلم، أحدهما تأويل المقام المحمود بهذا الإجلاس، والثاني تأويل إلى ربها ناظرة بانتظار الثواب.
وذكر النقاش عن أبي داود السجستاني أنه قال: من أنكر هذا الحديث فهو عندنا متهم فما زال أهل العلم يحدثون به، قال ابن عطية: أراد من أنكره على تأويله فهو متهم وقد يؤول قوله صلّى الله عليه وسلّم يجلسني معه على رفع محله وتشريفه على خلقه كقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ [الأعراف: ٢٠٦] وقوله سبحانه: حكاية ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً [التحريم: ١١] وقوله تعالى: وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت: ٦٩] إلى غير ذلك مما هو كناية عن المكانة لا عن المكان.
وأنت تعلم أنه لا ينبغي لمجاهد ولا لغيره أن يفسر المقام المحمود بالإجلاس على العرش حسبما سمعت من غير أن يثبت عنده ذلك الإجلاس
في خبر كخبر الديلمي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في قوله سبحانه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ إلخ يجلسني معه على السرير»
فإن تمسك المفسر بهذا أو نحوه لم يناظر إلا بالطعن في صحته وبعد إثبات الصحة لا مجال للمؤن إلا التسليم، وما ذكره الواحدي لا يستلزم عدم الصحة فكم وكم من حديث نصوا على صحته ويلزم من ظاهره المحال كحديث أبي سعيد الخدري المشتمل على رؤية المؤمنين الله عز وجل ثم إتيانه إياهم في أدنى صورة من التي رأوه فيها، وقوله تعالى لهم: أَنَا رَبُّكُمْ [الأنبياء: ٩٢] وقولهم نعوذ بالله تعالى منك حتى يكشف لهم عن ساق فيسجدون ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة وهو في الصحيحين،
وحديث لقيط بن عامر المشتمل على قوله صلّى الله عليه وسلّم: «تلبثون ما لبثتم ثم يتوفى نبيكم ثم تلبثون ما لبثتم ثم تبعث الصائحة- لعمر إلهك- لا تدع على ظهرها شيئا إلا مات والملائكة الذين مع ربك عز وجل فأصبح ربك يطوف في الأرض وخلت عليه البلاد» الحديث
، وقد رواه أئمة السنة في كتبهم وتلقوه بالقبول وقابلوه بالتسليم والانقياد إلى ما لا يحصى من هذا القبيل، ومذاهب المحدثين وأهل الفكر من العلماء في الكلام على ذلك مما لا تخفى، ومتى أجريت هناك فلتجر هنا فالكل قريب من قريب. والصوفية يقولون: إن لله عز وجل الظهور فيما يشاء على ما يشاء وهو سبحانه في حال ظهوره باق على إطلاقه حتى عن قيد الإطلاق فإنه العزيز الحكيم ومتى ظهر جل وعلا في صورة أجريت عليه سبحانه أحكامها من حيث الظهور فيوصف عز مجده عندهم بالجلوس ونحوه من تلك الحيثية وينحل بذلك أمور كثيرة إلا أنه مبني على ما دون إثباته خرط القتاد ويرد على ما ذكره الواحدي في الوجه الثالث أن المقام وإن كان في الأصل بمعنى محل القيام إلا أنه شاع في مطلق المحل ويطلق على الرتبة والشرف، وعلى ما ذكره في الوجه الأول أنه ليس هناك إلا تفسير المقام المحمود بالإجلاس لا تفسير البعث بالإجلاس نعم فيه مسامحة، والمراد أن إحلاله في المحل المحمود هو إجلاسه على العرش، وهذا المعنى يتأتى بإبقاء البعث على معناه وتقدير فيقيمك بمعنى فيحلك وبتفسيره بالإقامة بمعنى الإحلال، وقد يقال: لا مسامحة والمراد من المقام الرتبة، والبعث متضمن معنى الإعطاء أي عسى يعطيك ربك رتبة محمودة وهي إجلاسه إياك على عرشه باعثا، وما ذكره في الوجه الثاني حق لو أريد من الجلوس على العرش ظاهره أن أريد معنى آخر فلا نسلم اللازم وباب التأويل واسع، وقد أول
136
الإجلاس معه على رفع المحل والتشريف وهو مقول بالتشكيك فمتى صح أن أهل الجنة كلهم يجلسون معه آمنا به مع إثبات المزية للرسول صلّى الله عليه وسلّم فاندفع ما ذكره في الوجه الرابع، ويرد على ما في الوجه الخامس أن الإجلاس معه لم يفهم من مجرد البعث وما ادعى أحد ذلك فكون بعث السلطان فلانا يفهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه لا يضرنا كما لا يخفى على منصف.
وبالجملة كل ما قيل أو يقال لا يصغى إليه إن صح التفسير عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لكن يبقى حينئذ أنه يلزم التعارض بين ظواهر الروايات، ومن هنا قال بعضهم: المراد بالمقام المحمود ما ينتظم كل مقام يتضمن كرامة له صلّى الله عليه وسلّم، والاقتصار في بعض الروايات على بعض لنكتة نحو ما مر، ووصفه بكونه محمودا إما باعتبار أنه صلّى الله عليه وسلّم يحمد لله تعالى عليه أبلغ الحمد أو باعتبار أن كل من يشاهده يحمده ولم يشترط أن يكون الحمد في مقابلة النعمة ويدخل في هذا كل مقام له صلّى الله عليه وسلّم محمود في الجنة.
وكذا يدخل فيه ما جوز مفتي الصوفية سيدي شهاب الدين السهروردي أن يكون المقام المحمود وهو إعطاؤه عليه الصلاة والسلام مرتبة من العلم لم تعط لغيره من الخلق أصلا فإنه ذكر في رسالة له في العقائد أن علم عوام المؤمنين يكون يوم القيامة كعلم علمائهم في الدنيا ويكون علم العلماء إذ ذاك كعلم الأنبياء عليهم السلام ويكون علم الأنبياء كعلم نبينا صلّى الله عليه وسلّم ويعطى نبينا عليه الصلاة والسلام من العلم ما لم يعط أحد من العالمين ولعله المقام المحمود ولم أر ذلك لغيره عليه الرحمة والله تعالى أعلم.
ثم هذا الاختلاف في المقام المحمود هنا لم يقع فيه في دعاء الأذان بل ادعى العلامة ابن حجر الهيتمي أنه فيه مقام الشفاعة العظمى لفصل القضاء اتفاقا فتأمل في هذا المقام والله تعالى ولي الإنعام والإفهام.
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي إدخالا مرضيا جيدا لا يرى فيه ما يكره، والإضافة للمبالغة.
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ نظير الأول واختلف في تعيين المراد من ذلك فأخرج الزبير بن بكار عن زيد بن أسلم أن المراد إدخال المدينة والإخراج من مكة ويدل عليه ما قيل قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ إلخ.
وأيد بما أخرجه أحمد والطبراني والترمذي وحسنه والحاكم وصححه وجماعة عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم بمكة ثم أمر بالهجرة فأنزل الله تعالى عليه وَقُلْ رَبِّ الآية، وبدأ بالإدخال لأنه الأهم. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه الإدخال في القبر والإخراج منه وأيد بذكره بعد البعث، وقيل إدخال مكة ظاهرا عليها بالفتح وإخراجه صلّى الله عليه وسلّم منها آمنا من المشركين، وقيل إخراجه من المدينة وإدخال مكة بالفتح، وقال محمد بن المنكدر: إدخاله الغار وإخراجه منه، وقيل الإدخال في الجنة والإخراج من مكة، وقيل الإدخال في الصلاة والإخراج منها، وقيل الإدخال في المأمورات والإخراج عن المنهيات وقيل الإدخال فيما حمله صلّى الله عليه وسلّم من أعباء النبوة وأداء الشرع وإخراجه منه مؤديا لما كلفه من غير تفريط، وقيل الإدخال في بحار التوحيد والتنزيه والإخراج من الاشتغال بالدليل إلى معرفة المدلول والتأمل في الآثار إلى الاستغراق في معرفة الواحد القهار. وقيل وقيل والأظهر أن المراد إدخاله عليه الصلاة والسلام في كل ما يدخل فيه ويلابسه من مكان أو أمر وإخراجه منه فيكون عاما في جميع الموارد والمصادر واستظهر ذلك أبو حيان وفي الكشف أنه الوجه الموافق لظاهر اللفظ والمطابق لمقتضى النظم فسابقه ولا حقه لا يختصان بمكان دون آخر، وكفاك قوله تعالى وَاجْعَلْ لِي إلخ شاهد صدق على إيثاره.
وقرأ قتادة وأبو حيوة وحميد وإبراهيم بن أبي عبلة «مدخل» و «مخرج» بفتح الميم فيهما، قال صاحب اللوامح:
137
وهما مصدران من دخل وخرج لكنهما جاءا من معنى أدخلني وأخرجني السابقين دون لفظهما ومثل ذلك أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً [نوح: ١٧] ويجوز أن يكونا اسمي مكان وانتصابهما على الظرفية، وقال غيره من المحققين: هما مصدران منصوبان على تقدير فعلين ثلاثيين إذ مصدر المزيدين مضموم الميم كما في القراءة المتواترة أي أدخلني فادخل مدخل صدق وأخرجني فاخرج مخرج صدق.
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة تنصرني على من خالفني وهو مراد مجاهد بقوله حجة بينة، وفي رواية أخرى عنه أنه كتاب يحوي الحدود والأحكام وعن الحسن أنه أريد التسلط على الكافرين بالسيف وعلى المنافقين بإقامة الحدود، وقريب ما قيل إن المراد قهرا وعزا تنصر به الإسلام على غيره.
وزعم بعضهم أنه فتح مكة، وقيل السلطان أحد السلاطين الملوك فكأن المراد الدعاء بأن يكون في كل عصر ملك ينصر دين الله تعالى، قيل وهو ظاهر ما أخرجه البيهقي في الدلائل والحاكم وصححه عن قتادة قال: أخرجه الله تعالى من مكة مخرج صدق وأدخله المدينة مدخل صدق وعلم نبي الله أنه لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله تعالى وحدوده وفرائضه فإن السلطان عزة من الله عز وجل جعلها بين أظهر عباده لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض وأكل شديدهم ضعيفهم وفيه نظر، وفعيل على سائر الأوجه مبالغ في فاعل.
وجوز أن يكون في بعضها بمعنى مفعول، والحق أن المراد من السلطان كل ما يفيده الغلبة على أعداء الله تعالى وظهور دينه جل شأنه ووصفه بنصيرا للمبالغة وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ الإسلام والدين الثابت الراسخ.
والجملة عطف على جملة قُلْ أولا واحتمال أنها من مقول القول الأول لما فيها من الدلالة على الاستجابة في غاية البعد.
وَزَهَقَ الْباطِلُ أي زال واضمحل ولم يثبت الشرك والكفر وتسويلات الشيطان من زهقت نفسه إذا خرجت من الأسف، وعن قتادة أن الحق القرآن والباطل الشيطان، وعن ابن جريج أن الأول الجهاد والثاني الشرك وعن مقاتل الحق عبادة الله تعالى والباطل عبادة الشيطان وهذا قريب مما ذكرنا.
إِنَّ الْباطِلَ كائنا ما كان كانَ زَهُوقاً مضمحلا غير ثابت الآن أو فيما بعد أو مطلقا لكونه كان لم يكن، وصيغة فعول للمبالغة.
أخرج الشيخان وجماعة عن ابن مسعود قال: دخل النبي صلى الله عليه وسلّم مكة وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب فجعل يطعنها بعود في يده وقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً جاء الحق وما يبدىء الباطل وما يعيد،
وفي رواية الطبراني في الصغير والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس أنه صلى الله عليه وسلّم جاء ومعه قضيب فجعل يهوي به إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً حتى مر عليها كلها.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي ما هو في تقديم دينهم واستصلاح نفوسهم كالدواء الشافي للمرضى، ومِنَ للبيان وقدم اهتماما بشأنه، وأنكر أبو حيان جواز التقديم واختار هنا كون من لابتداء الغاية وهو إنكار غير مسموع فيفيد أن كل القرآن كذلك.
وفي الخبر من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى
أو للتبعيض ومعناه على ما في الكشف وننزل ما هو شفاء أي تدرج في نزوله شفاء فشفاء وليس معناه أنه منقسم إلى ما هو شفاء وليس بشفاء والمنزل الأول كما وهم الحوفي فأنكر جواز إرادة التبعيض وإنما المعنى أن ما لم ينزل بعد ليس بشفاء للمؤمنين لعدم الاطلاع وأن كل ما ينزل فهو شفاء لداء خاص يتجدد نزول الشفاء كفاء تجدد الداء.
138
وفيه أيضا أن هذا الوجه أوفق لمقتضى المقام ولا يخفى عليك بعده ولذا اختير في توجيه التبعيض أنه باعتبار الشفاء الجسماني وهو من خواص بعض دون بعض ومن البعض الأول الفاتحة وفيها آثار مشهورة، وآيات الشفاء وهي ست وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ [التوبة: ١٤] شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ [يونس: ٥٧]، فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ [النحل: ٦٩] وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ [الشعراء: ٨٠] قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ [فصلت: ٤٤].
قال السبكي: وقد جربت كثيرا، وعن القشيري أنه مرض له ولد أيس من حياته فرأى الله تعالى في منامه فشكى له سبحانه ذلك فقال له: اجمع آيات الشفاء واقرأها عليه أو اكتبها في إناء واسقه فيه ما محيت به ففعل فشفاه الله تعالى، والأطباء معترفون بأن من الأمور والرقى ما يشفي بخاصية روحانية كما فصله الأندلسي في مفرداته، وكذا داود في الجلد الثاني من تذكرته، ومن ينكر لا يعبأ به، نعم اختلف العلماء في جواز نحو ما صنعه القشيري عن الرؤيا وهو نوع من النشرة وعرفوها بأنها أن يكتب شيء من أسماء الله تعالى أو من القرآن ثم يغسل بالماء ثم يمسح به المريض أو يسقاه فمنع ذلك الحسن والنخعي ومجاهد،
وروى أبو داود من حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلّم سئل عن النشرة فقال: هي من عمل الشيطان
، وأجاز ذلك ابن المسيب، والنشرة التي قال فيها صلى الله عليه وسلّم ما قال هي النشرة التي كانت تفعل في الجاهلية وهي أنواع، منها ما يفعله أهل التعزيم في غالب الإعصار من قراءة أشياء غير معلومة المعنى ولم تثبت في السنة أو كتابتها وتعليقها أو سقيها، وقال مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله تعالى على أعناق المرضى على وجه التبرك بها إذا لم يرد معلقها بذلك مدافعة العين، وعنى بذلك أنه لا بأس بالتعليق بعد نزول البلاء رجاء الفرج والبر.
كالرقي التي وردت السنة بها من العين، وأما قبل النزول ففيه بأس وهو غريب، وعند ابن المسيب يجوز تعليق العوذة من كتاب الله تعالى في قصبة ونحوها وتوضع عند الجماع، وعند الغائط ولم يقيد بقبل أو بعد، ورخص الباقر في العوذة تعلق على الصبيان مطلقا، وكان ابن سيرين لا يرى بأسا بالشيء من القرآن يعلقه الإنسان كبيرا أو صغيرا مطلقا، وهو الذي عليه الناس قديما وحديثا في سائر الأمصار لكن توجيه التبعيض بما ذكر لا يساعده قوله سبحانه:
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد القرآن كله أو كل بعض منه الكافرين المكذبين به الواضعين للأشياء في غير موضعها مع كونه في نفسه شفاء لما في الصدور من أدواء الريب وأسقام الأوهام إلا خسارا أي هلاكا بكفرهم وتكذيبهم وزيادتهم من حيث إنهم كلما جددوا الكفر والتكذيب بالآية النازلة تدريجا ازدادوا بذلك هلاكا، وفسر بعضهم الخسار بالنقصان، ورجح أبو السعود الأول بأن ما بهم من داء الكفر والضلال حقيق بأن يعبر عنه بالهلاك لا بالنقصان المنبئ عن حصول بعض مبادئ الإسلام فيهم، وفيه كما قال إيماء إلا أن ما بالمؤمنين من الشبه والشكوك المعترية لهم في أثناء الاهتداء والاسترشاد بمنزلة الأمراض، وما بالكفرة من الجهل والعناد بمنزلة الموت والهلاك، وإسناد الزيادة المذكورة إلى القرآن مع أنهم المزدادون في ذلك لسوء صنيعهم باعتبار كونه سببا لذلك، وفيه تعجيب من أمره من حيث كونه مدارا للشفاء والهلاك:
كماء صار في الأصداف درا وفي ثغر الأفاعي صار سما
هذا وربما يقال: إن انقسام القرآن إلى ما هو شفاء من أدواء الريب وإسقام الوهم وإلى ما ليس كذلك مما لا ينبغي أن يكون فيه ريب لأن الشافي من أدواء الريب إنما هو الأدلة كالآيات الدالة على بطلان الشرك وثبوت الوحدانية له تعالى وكالآيات الدالة على إمكان الحشر الجسماني وليس كل آيات القرآن كذلك فإن منه ما هو أمر بصلاة وصوم وزكاة ومنه ما هو نهي عن قتل وزنى وسرقة ونحو ذلك وهو لا يشفي به أدواء الريب وإسقام الوهم وكذا آيات
139
القصص، نعم فيما ذكر نفع غير الشفاء من تلك الأدواء فهو رحمة وحينئذ يقال في الآية حذف أي ننزل من القرآن ما هو شفاء وما هو رحمة على معنى ننزل من القرآن آيات هي شفاء وآيات هي رحمة.
وفيه أن الريب غير مختص فيما يتعلق بالله عز وجل وبإمكان الحشر بل يكون أيضا في الرسالة وصدقه صلى الله عليه وسلّم في دعواها، وما من آية في القرآن إلا وهي مستقلة أو لها دخل في الشفاء من ذلك الداء لما فيها من الإعجاز وكذا ما من آية إلا وفيها نفع من جهة أخرى فكل آية رحمة كما أن كلها شفاء لكن كونه رحمة بالنسبة إلى كل واحد واحد من المؤمنين إذ كل مؤمن ينتفع به نوعا من الانتفاع وكونه شفاء بالفعل بالنسبة إلى من عرض له شيء من أدواء الريب وأسقام الوهم وليس كل المؤمنين كذلك، والقول بأن كلا كذلك في أول الإيمان غير مسلم ولا يحتاج إليه كما لا يخفى.
والإمام عمم شفائيته وقد أحسن فقال: هو شفاء للأمراض الروحانية وهي نوعان: اعتقادات باطلة وأخلاق مذمومة فلاشتماله على الدلائل الحقة الكاشفة عن المذاهب الباطلة في الإلهيات والنبوات والمعاد والقضاء والقدر المبينة لبطلانها يشفي عن النوع الأول من الأمراض ولاشتماله على تفاصيل الأخلاق المذمومة وتعريف ما فيها من المفاسد والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة والأعمال المحمودة يشفي عن النوع الآخر، والشفاء إشارة إلى التخلية والرحمة إشارة إلى التحلية ولأن الأولى أهم من الثانية قدم الشفاء على الرحمة فتأمل والله تعالى الموفق.
وقرأ البصريان «ننزل» بالنون والتخفيف، وقرأ مجاهد بالياء والتخفيف ورواها المروزي عن حفص.
وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما «شفاء ورحمة» بنصبهما، قال أبو حيان: ويتخرج ذلك على أنهما حالان والخبر للمؤمنين والعامل في الحال ما في الجار والمجرور من الفعل، ونظير ذلك وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر: ٦٧] في قراءة نصب «مطويات» وقول الشاعر:
رهط ابن كوز محقبى أدراعهم فيهم ورهط ربيعة بن حذار
ثم قال: وتقديم الحال على العامل فيه من الظرف لا يجوز إلا عند الأخفش، ومن منع جعله منصوبا على إضمار أعني، وأنت تعلم أن من يجوز مجيء الحال من المبتدأ لا يحتاج إلى ذلك وَإِذا أَنْعَمْنا بالصحة والسعة ونحوهما عَلَى الْإِنْسانِ أي جنسه فيكفي في صحة الحكم وجوده في بعض الأفراد ولا يضر وجود نقيضه في البعض الآخر، وقيل المراد به الوليد بن المغيرة أَعْرَضَ عن ذكرنا كأنه مستغن عنا فضلا عن القيام بمواجب شكرنا وَنَأى بِجانِبِهِ لوى عطفه عن طاعتنا وولاها ظهره، وأصل معنى النأي البعد وهو تأكيد للإعراض بتصوير صورته فهو أوفى بتأدية المراد منه، ومثله يجوز عطفه لإيهام المغايرة بينهما وهو أبلغ من ترك العطف على ما بين في محله، على أن ما ذكره أهل المعاني من أن التأكيد يتعين فيه ترك العطف لكمال الاتصال غير مسلم، والجانب على ظاهره والمراد ترك ذلك، ويجوز أن يكون كناية عن الاستكبار فإن ثنى العطف من أفعال المستكبرين ولا يبعد أن يراد بالجانب النفس كما يقال جاء من جانب فلان كذا أي منه وهو كناية أيضا كما يعبر بالمقام والمجلس عن صاحبه، وقرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان «وناء» هنا وفي [فصلت: ٥١] فقيل ذلك من باب القلب ووضع العين محل اللام كراء ووراء، وقيل لا قلب وناء بمعنى نهض كما في قوله:
حتى إذا ما التأمت مفاصله وناء في شق الشمال كاهله
أي نهض متوكئا على شماله، وفسر نهض هنا بأسرع والكلام على تقدير مضاف أي أسرع بصرف جانبه، وقيل: معناه تثاقل عن أداء الشكر فعل المعرض وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو نازلة من النوازل كانَ
140
يَؤُساً
شديد اليأس من رحمتنا لأنه لم يحسن معاملتنا في الرخاء حتى يرجو فضلنا في الشدة، وفي إسناد المساس إلى الشر بعد إسناد الأنعام إلى ضميره تعالى إيذان بأن الخير مراد بالذات والشر ليس كذلك لأن ذلك هو الذي يقتضيه الكرم المطلق والرحمة الواسعة وإلى ذلك الإشارة
بقوله صلى الله عليه وسلّم «اللهم إن الخير بيديك والشر ليس إليك»
وللفلاسفة ومن يحذو حذوهم في ذلك بحث طويل لا بأس بالاطلاع عليه ليؤخذ منه ما صفا ويترك منه ما كدر قالوا: إن الأول تعالى تام القدرة والحكمة والعلم كامل في جميع أفاعيله لا يتصور بخله بإفاضة الخيرات وليس الداعي له لذلك إلا علمه بوجوه الخير ومصالح الغير الذي هو عين ذاته كسائر صفاته وأما النقائص والشرور الواقعة في ضرب من الممكنات وعدم وصولها إلى كمالها المتصور في حقها فهي لقصور قابلياتها ونقص استعداداتها لا من بخل الحق تعالى مجده عن ذلك.
وقصور القابلية ينتهي في الآخرة إلى لوازم الماهيات الإمكانية ومنبعها الإمكان وتحقيق ذلك أن الشر يطلق عرفا على معنيين: أحدهما ما هو عدم كالفقر والجهل البسيط وهذا على ضربين: الأول عدم محض ليس بإزاء الوجود الذي يطلبه طباع الشيء ولا مما يمكن حصوله له من الكمالات والخيرات كقصور الممكن عن الوجود الواجبي والوجوب الذاتي وقصور بعض الممكنات عن بعض كقصور الأجسام عن النفوس فالخير الذي يقابل هذا منحصر في الواجب تعالى إذ له الكمال المطلق والوجود الحق بلا جهة إمكانية بوجه من الوجوه وما عداه من المهيئات المعروضة للوجود لا يخلو من شوب شرية ما وظلمة ما على تفاوت إمكاناتهم حسب تفاوت طبقاتهم في البعد عن ينبوع الوجود ومطلع نور الخير والجود، وهذا الشر منبعه الإمكان الذاتي، والثاني ما يكون عدم ما يطلبه الشيء أو ما يمكن حصوله له من الكمالات ولا يتصور هذا في غير الماديات إذ الإبداعيات يكون وجودها على أكمل ما يتصور في حقها فلا يكون لها شرية بهذا المعنى وما عداها من المتعلقة بالمادة لا تخلو من شرية على تفاوت إمكاناتها الاستعدادية بحسب تفاوت مراتبها في التعلق بالهيولى وهذا الشر منبعه الهيولى ومنبعها الإمكان إذ لولاه ما صدرت من مصدرها فآل الشر إلى الإمكان كما سمعت أولا.
وثانيهما ما يمنع الشيء عن الوصول إلى الخير الممكن في حقه من الوجود أو كمال الوجود كالبرد والحر المفسدين للثمار والمطر المانع للقصار عن تبييض الثياب والأخلاق الذميمة المانعة للنفس عن وصولها إلى كمالها العقلي كالبخل والإسراف والجهل المركب والسفاهة والأفعال الذميمة كالزنا والسرقة والنميمة وأشباه ذلك من الآلام والغموم وغير ذلك من الأشياء الوجودية لكن يتبعها إعدام، وإطلاق الشر عندهم على المعنى الأول حقيقة وعلى الثاني مجاز لأن الشر الحقيقي لا ذات له بل هو إما عدم ذات أو عدم كمال لذات، والبرهان عليه أنه لو كان أمرا وجوديا فلا يخلو إما أن يكون شرا لنفسه أو لغيره والأول باطل وإلا لما وجد إذ الشيء لا يقتضي لذاته عدمه أو عدم كماله كيف وجميع الأشياء طالبة لكمالاتها لا مقتضية لعدمها مع أنه لو اقتضى كان الشر ذلك العدم لا نفسه وكذا الثاني لأن كونه لغيره إما لأنه لعدم ذلك الغير أو لأنه لعدم بعض كمالاته فإنه لو لم يكن معدما لشيء أصلا لا لوجوده ولا لكمال وجوده لم يكن شرا لذلك الشيء ضرورة أن كل ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كمال له لا يكون شرا له فإذا ليس الشر إلا عدم ذلك الشيء أو عدم كماله لا نفس الأمر الوجودي المعدم بل هو في ذاته من الكمالات النفسانية أو الجسمانية كالظلم فإنه وإن كان شرا بالقياس إلى المظلوم وإلى النفس الناطقة التي كمالها في تسخير قواها وكسرها لكنه خير بالقياس إلى القوة الغضبية التي كمالها بالانتقام، وكذا الإحراق كمال للنار وشر لمن يتضرر به فعلم أن الشر إما عدم ذات أو عدم كمال لها فالوجود من حيث إنه وجود خير محض والعدم من حيث إنه عدم شر محض، ثم إنك
141
قد علمت أن الشر الذي هو بمعنى العدم منه ما هو من لوازم الماهيات التي لا علة لها ومنه ما لا يكون من هذا القبيل بل قد يلحق الماهيات لا من ذاتها فلا بد له من علة والكلام ليس في الأول الذي لا لمية له إذ قد تقرر أنه ليس للماهيات في كونها ممكنة ولا في حاجتها إلى علة لوجودها علة ولا لقصور الممكن عن الواجب بذاته ولا لتفاوت مراتب هذا النقصان في الماهيات علة بل إنما ذلك لاختلاف الماهيات في حدود ذاتها لا لأمر خارج عنها كيف ولو كان النقص في جميعها متشابها لكانت الماهيات ماهية واحدة بل الكلام في الثاني وهو عدم ما هو من الأمور الزائدة على مقتضى النوع كالجهل بالفلسفة للإنسان مثلا فإن ذلك ليس شرا له لأجل كونه إنسانا بل لأجل أنه فقد لما اقتضاه شخص مستعد له مشتاق إليه من حيث إنه وجد فيه هذا الاستحقاق والاشتياق الذي لا صلاح في أن يعم.
وهذا الشر إنما يوجد في الأشياء على سبيل الندرة فكل ما وجد فهو خير محض أو خيره أكثر من شره، وأما ما يكون شرا محضا أو مستولي الشرية أو متساوي الطرفين فمما لا وجود له أصلا حتى يحتاج فيه إلى منشأ سوى الواجب تعالى الذي هو خير محض لا يوجد منه شر أصلا كما توهمه كفرة المجوس، ثم كل ما كان خيرا محضا أو كان خيره أكثر يصدر من الواجب بمقتضى أن من شأنه إفاضة الخير لأن ترك الأول شر محض وترك الثاني شر غالب، وعالم العناصر من القسم الثاني فإن إيجابه للشرور على الوجه النادر ولا تسوغ عناية المبدع ورحمة الجواد إهماله وإلا لزم خير كثير لشر قليل وهو شر كثير على أنها إنما تكون للنفع في أشياء لو لم تخلق لخلق سربال الوجود وقصر رداء الجود وبقي في كتم العدم عوالم كثيرة ونفائس جمة غفيرة فمن هذه الحيثية يكون ذلك الشر القليل مقتضيا بالذات وهي مع ذلك إنما توجد تحت كرة القمر في بعض جوانب الأرض التي هي حقيرة بل لا شيء بالنسبة إلى ما عند ربك سبحانه وتكون لبعض الأشخاص في بعض الأوقات وليست أيضا شرورا بالنسبة إلى نظام الكل فإذا تصورت ذرة الشر في أبحر أشعة شمس الخير لا يضرها بل يزيدها بهاء وجمالا وضياء وكمالا كالشامة السوداء على الصورة المليحة البيضاء يزيدها حسنا وملاحة وإشراقا وصباحة.
ولا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء ومقابله بلا داع ومصلحة كما هو مذهب الأشاعرة وإلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات والشرور لكن الحكماء وأساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط وأمور العالم منوطة بقوانين كلية وأفعاله تعالى مربوطة بحكم ومصالح جلية وخفية.
وقول الإمام: إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب والجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول والضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها ناشىء من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار وليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، وبعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم ولا يجوزون صدور الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر إثبات ما افترته الثنوية من مبدأين خيري وشري فتخلصوا عن ذلك بذلك البحث فهو فضل لا فضول، وبالجملة ما يصدر عنه تعالى إما ما هو بريء بالكلية عن الشر وإما ما يلزمه شر قليل وفي تركه شر كثير ولا يصدر عنه تعالى ذلك أيضا في حق شخص إلا بعد طلب ماهيته له في نفسها كما يشير إليه قوله تعالى: أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [طه: ٥٠] إلى غير ذلك من الآيات.
وفي الإشارات وشروحها كلام طويل يتعلق بهذا المقام ولعل فيما ذكرنا كفاية لذوي الأفهام.
142
هذا ثم إنه سبحانه بعد أن ذكر حال القرآن بالنسبة إلى المؤمنين وإلى الكافرين وبين حال الكافر في حالي الإنعام ومقابله ذكر ما يصلح جوابا لم يقول: لم كان الأمر كذلك؟ فقال عز قائلا: قُلْ كُلٌّ أي واحد من المؤمن والكافر والمعرض والمقبل والراجي والقانط يَعْمَلُ عمله عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله وما هو عليه في نفس الأمر وتشابهه في الحسن والقبح من قولهم طريق ذو شواكل أي طرق تتشعب منه وهو مأخوذ من الشكل بفتح الشين أي المثل والنظير ويقال لست من شكلي ولا شاكلتي وأما الشكل بكسر الشين فالهيئة يقال جارية حسنة الشكل أي الهيئة، وظاهر عبارة القاموس أن كلا من الشكل والشكل يطلق على المثل والهيئة.
وهذا التفسير مروي عن الفراء والزجاج واختاره الزمخشري وغيره لقوله تعالى: فَرَبُّكُمْ الذي برأكم متخالفين أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسد طريقا وأبين منهاجا وفسر مجاهد الشاكلة بالطبيعة على أنها من شكلت الدابة إذا قيدتها أي على طبيعته التي قيدته لأن سلطان الطبيعة على الإنسان ظاهر وهو ضابط له وقاهر. وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ومثل ذلك في المأخذ تفسير بعضهم بالعادة ومن مشهور كلامهم العادات قاهرات، وكذا تفسير ابن زيد لها بالدين وكلا التفسيرين دون الأولين. ولعل الدين هنا بمعنى الحال وهو أحد معانيه.
وجوز الإمام وغيره أن يكون المراد أن كل أحد يفعل على وفق ما شاكل جوهر نفسه ومقتضى روحه فإن كانت نفسا مشرقة حرة طاهرة علوية صدرت عنه أفعال فاضلة كريمة وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ [الأعراف: ٥٨] وإن كانت نفسا كدرة نذلة خبيثة ظلمانية سفلية صدرت عنه أفعال خسيسة فاسدة وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً [الأعراف: ٥٨] واختار أن النفوس الناطقة البشرية مختلفة الماهية ولذا اختلفت آثارها، وسيأتي الكلام على ذلك إن شاء الله تعالى قريبا، ولا يرد أن خسة الأفعال وشرافتها إذا كانتا تابعتين لخسة النفس وشرافتها وهما أمران خلقيان لا مدخل لاختيار فيهما فعلام المدح والذم والثواب والعقاب لأنهم قالوا: إن ذلك لأمر ذاتي وهو حسن استعداد النفس في نفسها وسوء استعدادها أيضا في نفسها ولا تثاب النفس ولا تعاقب إلا لاستعدادها في الأزل وطلبها لذلك بلسان حالها والمشهور إطلاق القول بأن ذلك غير مجعول وإنما المجعول وجوده وإبرازه على طبق ما هو عليه في نفسه فاعملوا فكل ميسر لما خلق له ومن وجد خيرا فليحمد الله تعالى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه وقال بعض:
إنه مجعول بالجعل البسيط على معنى أنه أثر الفيض الأقدس الذي هو مقتضى ذاته عز وجل بطريق الإيجاب ويجري نحو هذا في الوجهين الأولين.
وقال بعض المتأخرين (١) من فلاسفة الإسلام المتصدين للجمع برأيهم بين الشريعة والفلسفة إن ذات الإنسان بحسب الفطرة الأصلية لا تقتضي إلا الطاعة واقتضاؤها للمعصية بحسب العوارض الغريبة الجارية مجرى المرض والخروج عن الحالة الطبيعية فيكون ميلها للمعصية مثل ميل منحرف المزاج الأصلي إلى أكل الطين، وقد ثبت في الحكمة أن الطبيعة بسبب عارض غريب تحدث في جسم المريض مزاجا خاصا يسمى مرضا فالمرض من الطبيعة بتوسط العارض الغريب كما أن الصحة منها،
وفي الحديث القدسي «إني خلقت عبادي كلهم حنفاء وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم»
وفي الأثر «كل مولود يولد على فطرة الإسلام ثم أبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه»
أي بواسطة الشياطين أو المراد بهم ما يعم شياطين الإنس والجن أو الشياطين كناية عن العوارض الغريبة فالخلق لو لم يحصل لهم مس من الشيطان ما عصو أو لبقوا على فطرتهم لكن مسهم الشيطان ففسدت عليهم فطرتهم الأصلية
(١) هو الملا صدر الدين الشيرازي صاحب الأسفار لا صاحب حواشي شرح التجريد المشهور حاله مع ملا جلال اه منه.
143
فاقتضوا أشياء منافية لهم مضادة لجوهرهم البهي الإلهي من الهيئات الظلمانية ونسوا أنفسهم وما جبلوا عليه:
ولولا المزعجات من الليالي ما ترك القطا طيب المنام
ولذا احتاجوا إلى رسل يبلغونهم آيات الله تعالى ويسنون لهم ما يذكرهم عهد ذواتهم من نحو الصلاة والصيام والزكاة وصلة الأرحام ليعودوا إلى فطرتهم الأصلية ومقتضى ذاتهم البهية ويعتدل مزاجهم ويتقوم اعوجاجهم، ولذا قيل:
الأنبياء أطباء وهم أعرف بالداء والدواء، ثم إن ذلك المرض الذي عرض لذواتهم والحالة المنافية التي قامت بهم لولا أن وجدوا من ذواتهم قبولا لعروضهما لهم ورخصة في حلوقهما بهم لم يكونا يعرضان ولا يلحقان فإذا كان مما تقتضيه ذواتهم أن تلحقهم أمور منافية مضادة لجواهرهم فإذا لحقتهم تلك الأمور اجتمعت فيها جهتان الملاءمة والمنافاة أما كونها ملائمة فلكون ذواتهم اقتضتها، وأما كونها منافية فلأنها اقتضتها على أن تكون منافية لهم فلو لم تكن منافية لم يكن ما فرض مقتضى لها بل أمرا آخر، وانظر إلى طبيعة (٢) التي تقتضي يبوسة حافظة لأي شكل كان حتى صارت ممسكة للشكل القسري المنافي لكرويتها الطبيعية ومنعت عن العود إليها فعروض ذلك الشكل للأرضية لكونها مقسورة من وجه ومطبوعة من وجه فالإنسان عند عروض مثل هذا المنافي ملتذ متألم سعيد شقي ملتذ ولكن لذته ألمه سعيد ولكن سعادته شقاوته وهذا لعمرك أمر عجيب لكنه أوضح بنمط غريب، ومن تأمل وأنصف ظهر له أن لا ملخص لكثير من الشبهات في هذا الفصل إلا بالذهاب إلى القول بالاستعداد الأزلي وأن لكل شيء حالة في نفسه مع قطع النظر عن سائر الاعتبارات لا يفاض عليه إلا هي لئلا يلزم انقلاب العلم جهلا وهو من أعظم المستحيلات والإثابة والتعذيب تابعان لذلك فسبحان الحكيم المالك فتثبت فكم قد زلت في هذا المقام أقدام أعلام كالأعلام نسأل الله تعالى أن ينور أفهامنا ويثبت أقدامنا ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ثم اعلم أنه روي عن أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه أنه قال: لم أر في القرآن أرجى من هذه الآية لا يشاكل بالعبد إلا العصيان ولا يشاكل بالرب إلا الغفران قال ذلك حين تذاكروا القرآن. فقال عمر: لم أر آية أرجى من التي فيها غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ [غافر: ٣] قدم الغفران قبل قبول التوبة، وقال عثمان: لم أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الحجر: ٤٩].
وقال علي كرم الله تعالى وجهه: لم أر أرجى من يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ [الزمر: ٥٣] الآية،
وقيل في الأرجى غير ذلك وسيمر عليك إن شاء الله تعالى لكن ما قاله الصديق لا يتأتى إلا على تقدير أن يراد كل أحد مطلقا يعمل على شاكلته فافهم.
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الظاهر عند المنصف أن السؤال كان عن حقيقة الروح الذي هو مدار البدن الإنساني ومبدأ حياته لأن ذلك من أدق الأمور التي لا يسع أحدا إنكارها ويشرئب كل إلى معرفتها وتتوفر دواعي العقلاء إليها وتكل الأذهان عنها ولا تكاد تعلم إلا بوحي، وزعم ابن القيم أن المسئول عنه الروح الذي أخبر الله تعالى عنه في كتابه أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة عليهم السلام قال لأنهم إنما يسألونه عليه الصلاة والسلام عن أمر لا يعرف إلا بالوحي وذلك هو الروح الذي عند الله تعالى لا يعلمه الناس، وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب إلى آخر ما قال وقد أطال، وفي البحور الزاخرة أن هذا هو الذي عليه أكثر السلف بل كلهم، والحق ما ذكرنا وهو الذي عليه الجمهور كما نص
(٢) قوله: إلى طبيعة التي تقتضي إلخ كذا في نسخة المؤلف وفيه حذف الموصوف والأصل إلى طبيعة الأرض التي تقتضي إلخ وانظر.
144
عليه في البحر. وغيره، نعم ما زعمه ابن القيم مروي عن بعض السلف فقد أخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال: الروح خلق من خلق الله تعالى وصورهم على صورة بني آدم وما ينزل من السماء ملك إلا ومعه واحد من الروح ثم تلا يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ [النبأ: ٣٨].
وأخرج أبو الشيخ وغيره من طريق عطاء عنه رضي الله تعالى عنه أنه قال في الروح المسئول عنه: هو ملك واحد له عشرة آلاف جناح جناحان منها ما بين المشرق والمغرب له ألف وجه لكل وجه لسان وعينان وشفتان يسبح الله تعالى بذلك إلى يوم القيامة.
وأخرج هو وغيره أيضا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال فيه: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة
. وتعقب هذا بأنه لا يصح عن علي كرم الله تعالى وجهه وطعن الإمام في ذلك بما طعن.
وأخرج ابن الأنباري في كتاب الأضداد عن مجاهد أنه قال: الروح خلق من الملائكة عليهم السلام لا يراهم الملائكة كما لا ترون أنتم الملائكة.
وأخرج أبو الشيخ عن سلمان أنه قال: الإنس والجن عشرة أجزاء فالإنس جزء والجن تسعة أجزاء والملائكة والجن عشرة أجزاء فالجن من ذلك جزء والملائكة تسعة والملائكة والروح عشرة أجزاء فالملائكة من ذلك جزء والروح تسعة أجزاء والروح والكروبيون عشرة أجزاء فالروح من ذلك جزء والكروبيون تسعة أجزاء، وقال الحسن وقتادة:
الروح هو جبرائيل عليه السلام وقد سمي روحا في قوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٣، ١٩٤] والسؤال عن كيفية نزوله وإلقائه الوحي إليه عليه الصلاة والسلام، وقال بعضهم هو القرآن وقد سمي روحا في قوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقيل غير ذلك.
وزعم بعضهم أن السؤال عن حدوث الروح بالمعنى الأول وقدمه وليس بشيء كما ستسمع إن شاء الله تعالى.
وضمير يسألون لليهود
فقد أخرج الشيخان. وغيرهما عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في خرب المدينة وهو متكىء على عسيب فمر بقوم من اليهود فقال بعضهم لبعض سلوه عن الروح وقال بعضهم: لا تسألوه فسألوه فقالوا: يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئا على العسيب فظننت أنه يوحى إليه فلما نزل الوحي قال وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية
، وقال بعضهم: لقريش لما أخرج أحمد. والنسائي والترمذي. والحاكم وصححاه وابن حبان وجماعة عن ابن عباس قال قالت قريش لليهود أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا سلوه عن الروح فسألوه فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ إلخ.
وفي السير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن قريشا بعثت النضر بن الحارث. وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة وقالوا لهم سلوهم محمدا فإنهم أهل كتاب عندهم من العلم ما ليس عندنا فخرجا حتى قدما المدينة فسألوهم فقالوا سلوه عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض فهو نبي فجاؤوا وسألوه فبين لهم صلّى الله عليه وسلّم قضيتين وأبهم أمر الروح وهو مبهم في التوراة، والآية على هذا وما قبله مكية وعلى خبر الصحيحين مدنية وجمع بعضهم بين ذلك بأن الآية نزلت مرتين فتدبر، وأيا ما كان فوجه تعقيب ما تقدم بها إن فسر الروح بالقرآن ظاهر ملائم لقوله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ ولما بعده من الامتنان عليه وعلى متبعيه بحفظه في الصدور والبقاء وكذلك إن فسر بجبرائيل عليه السلام، وأما على قول الجمهور فقد ورد معترضا دلالة على خسار الظالمين وضلالهم وأنهم مشتغلون عن تدبر الكتاب
145
والانتفاع به إلى التعنت بسؤال ما اقتضت الحكمة سد طريق معرفته، ويقال نحو هذا على القول المروي عن بعض السلف قُلِ الرُّوحُ أظهر في مقام الإضمار إظهارا لكمال الاعتناء مِنْ أَمْرِ رَبِّي كلمة مِنْ تبعيضية، وقيل:
بيانية والأمر واحد الأمور بمعنى الشأن والإضافة للاختصاص العلمي لا الإيجادي إذ ما من شيء إلا وهو مضاف إليه عز وجل بهذا المعنى، فيها من تشريف المضاف ما لا يخفى كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه أي هي من جنس ما استأثر الله تعالى بعلمه من الأسرار الخفية التي لا تكاد تدركها عيون عقول البشر.
وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا لا يمكن تعلقه بأمثال ذلك، وهذا على ما قيل ترك للبيان ونهي لهم عن السؤال.
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن عطاء بن يسار قال: نزلت هذه الآية بمكة فلما هاجر صلى الله عليه وسلّم إلى المدينة أتاه أحبار يهود فقالوا: يا محمد ألم يبلغنا عنك أنك تقول وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا
أفعنيتنا أم قومك قال: كلا قد عنيت قالوا: فإنك تتلو أنا أوتينا التوراة وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هي في علم الله تعالى قليل وقد آتاكم الله تعالى ما إن عملتم به انتفعتم فأنزل الله تعالى وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ- إلى قوله سبحانه- إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
[لقمان: ٢٧- ٢٨] وكأنه صلّى الله عليه وسلّم أشار إلى أن المراد في الآية- تبيانا لكل شيء- من الأمور الدينية ولا شك أنها أقل قليل بالنسبة إلى معلومات الله تعالى التي لا نهاية لها، وبهذا يرد على القائل بالعموم الحقيقي.
وفي رواية النسائي وابن حبان والترمذي والحاكم وصححاها أن اليهود قالوا حين نزلت الآية: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ [الكهف: ١٠٩] الآية
، ولا يخفى أن هذا أيضا لا يلزم منه التناقض لأن الكثرة والقلة من الأمور الإضافية فالشيء يكون قليلا بالنسبة إلى ما فوقه وكثيرا بالنسبة إلى ما تحته فما في التوراة قليل بالنسبة إلى ما في علم الله تعالى شأنه كثير بالنسبة إلى أمر آخر،
وفي رواية أخرجها ابن مردويه عن عكرمة أنه صلّى الله عليه وسلّم لما قال ذلك قال اليهود: نحن مختصون بهذا الخطاب فقال: بل نحن وأنتم فقالوا: ما أعجب شأنك ساعة تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] وساعة تقول:
هذا فنزل وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ
إلخ، ولا يلزم منه التناقض أيضا على نحو ما تقدم بأن يقال:
الحكمة الإنسانية أن يعلم من الخير ما تسعه القوة البشرية بل ما ينتظم به أمر المعاش والمعاد وهو قليل بالنسبة إلى معلوماته تعالى كثير بالنسبة إلى غيرها، وإلى تعميم الخطاب بحيث يشمل الناس أجمعين ذهب ابن جريج كما أخرجه عنه ابن جرير. وابن المنذر لكن يعكر على القول بالعموم ظاهر قراءة ابن مسعود والأعمش «وما أوتوا» فإنه يقتضي الاختصاص بالسائلين، والحديث الأخير الذي هو نص فيه قال العراقي: إنه غير صحيح، والحديث الأول الله تعالى أعلم بحاله، وقال غير واحد: معنى كون الروح من أمره تعالى أنه من الإبداعيات الكائنة بالأمر التكويني من غير تحصل من مادة وتولد من أصل كالجسد الإنساني فالمراد من الأمر واحد الأوامر أعني كن والسؤال عن الحقيقة والجواب إجمالي، ومآله أنا لروح من عالم الأرض مبدعة من غير مادة لا من عالم الخلق وهو من الأسلوب الحكيم كجواب موسى عليه السلام سؤال فرعون إياه ما رب العالمين إشارة إلى أن كنه حقيقته مما لا يحيط به دائرة إدراك البشر وإنما الذي يعلم هذا المقدار الإجمالي المندرج تحت ما استثني بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي إلا علما قليلا تستفيدونه من طرق الحواس فإن تعقل المعارف النظرية إنما هو في الأكثر من إحساس الجزئيات ولذلك قيل: من فقد حسا فقد فقد علما، ولعل أكثر الأشياء لا يدركه الحس لكونه غير محسوس أو محسوسا منع من إحساسه مانع كالغيبة مثلا وكذا لا يدرك شيئا من عرضياته ليرسمه بها فضلا عن أن ينتقل منها الفكر إلى الذاتيات
146
ليقف على الحقيقة، وظاهر كلام بعضهم أن الوقوف على كنه الروح غير ممكن فلا فرق عنده بين الجوابين.
وفرق الخفاجي بأن بيان كنه الروح ممكن بخلاف كنه الذات الأقدس، وفي الكشف أن سبيل معرفة الروح إزالة الغشاء عن أبصار القلوب باجتلاء كحل الجواهر من كلام علام الغيوب فهو عند المكتحلين أجلى جلي وعند المشتغلين أخفى خفي، ويشكل على هذا ما أخرجه ابن أبي حاتم عن عبد الله بن بريدة قال: لقد قبض النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يعلم الروح، ولعل عبد الله هذا يزعم أنها يمتنع العلم بها وإلا فلم يقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى علم كل شيء يمكن العلم به كما يدل عليه ما
أخرجه الإمام أحمد والترمذي وقال: حديث صحيح وسبيل البخاري عنه فقال: حديث حسن صحيح عن معاذ رضي الله تعالى عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «إني قمت من الليل فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت فإذا أنا بربي عز وجل في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قلت: لا أدري رب قال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى قلت لا أدري رب قلت لا أدري رب فرأيته وضع كفه بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين صدري وتجلى لي كل شيء وعرفت» الحديث (١)
و «رأيت» يعلم في الخبر السابق في بعض الكتب مضبوطا بالبناء للمفعول والروح مضبوطا بالرفع والإشكال على ذلك أوهن إلا أنه خلاف الظاهر.
ويفهم من كلام بعض متأخري الصوفية أنه يمتنع الوقوف على حقيقة الروح بل ذكر هذا البعض أن حقيقة جميع الأشياء لا يوقف عليها وهو مبني على ما لا يخفى عليك ورده أو قبوله مفوض إليك. ثم إن لي في هذا الوجه وقفة فإن الظاهر أن إطلاق عالم الأمر على الكائن من غير تحصل من مادة وتولد من أصل وإطلاق عالم الخلق على خلافه محض اصطلاح لا يعرف للعرب ولا يعرفونه، وفي الاستدلال عليه بقوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ [الأعراف:
٥٤] ما لا يخفى على منصف، هذا وذكر الإمام أن السؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة وليس في قوله تعالى:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ما يدل على وجه منها إلا أن الجواب المذكور لا يليق إلا بوجهين منها الأول كونه سؤالا عن الماهية: والثاني كونه سؤالا عن القدم والحدوث، وحاصل الجواب على الأول أنها جوهر بسيط مجرد محدث بأمر الله تعالى وتكوينه وتأثيره إفادة الحياة للجسد ولا يلزم (٢) من عدم العلم بحقيقته المخصوصة فإن أكثر حقائق الأشياء ماهياتها مجهولة ولم يلزم من كونها مجهولة نفيها ويشير إليه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ومبنى هذا أيضا الفرق بين عالم الأمر وعالم الخلق وقد سمعت ما فيه، وحاصل الجواب على الثاني أنه حادث حصل بفعل الله تعالى وتكوينه وإيجاده، وجعل قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا احتجاجا على الحدوث بمعنى أن الأرواح في مبدأ الفطرة تكون خالية عن العلوم والمعارف ثم يحصل فيها ذلك فلا تزال في تغير من حال إلى حال وهو من أمارات الحدوث، وأنت تعلم أن حمل السؤال على ما ذكر وجعل الجواب إخبارا بالحدوث مع عدم ملاءمته لحال السائلين لا يساعده التعرض لبيان قلة علمهم فإن ما سألوا عنه مما يفي به علمهم حينئذ وقد أخبر عنه وجعل ذلك احتجاجا على الحدوث من أعجب الحوادث كما لا يخفى على ذي روح والله تعالى أعلم.
وهاهنا أبحاث لا بأس بإيرادها: البحث الأول في شرح مذاهب الناس في حقيقة الإنسان، وظاهر كلام الإمام أن الاختلاف في حقيقته عين الاختلاف في حقيقة الروح، وفي القلب من ذلك ما فيه فذهب جمهور المتكلمين إلى أنه عبارة عن هذه البنية المحسوسة والهيكل المجسم المحسوس وهو الذي يشير إليه الإنسان بقوله أنا وأبطل ذلك
(١) وشرح هذا الحديث الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة وطبعناها والحمد لله.
(٢) قوله ولا يلزم إلخ كذا بخط مؤلفه وانظر.
147
الإمام يسبع عشرة حجة نقلية وعقلية لكن للبحث في بعضها مجال، منها ما تقدم من أن أجزاء البنية متغيرة زيادة ونقصانا وذبولا ونموا والعلم الضروري قاض بأن الإنسان من حيث هو أمر باق من أول العمر إلى آخره وغير الباقي غير الباقي، ومنها أن الإنسان قد يعتريه ما يشغله عن الالتفات إلى أجزاء بنيته كلا وبعضا ولا يغفل عن نفسه المعينة بدليل أنه يقول مع ذلك الشاغل فعلت وتركت مثلا وغير المعلوم غير المعلوم.
ومنها أنه قد توجد البنية المخصوصة وحقيقة الإنسان غير حاصلة فإن جبريل عليه السلام كثيرا ما رؤي في صورة دحية الكلبي وإبليس عليه اللعنة رؤي في صورة شيخ نجدي وقد تنتفي البنية مع بقاء حقيقة الإنسان فإن الممسوخ مثلا قردا باقية حقيقته مع انتفاء البنية المخصوصة وإلا لم يتحقق مسخ بل إماتة لذلك الإنسان وخلق قرد، ومنها أنه جاء في الخبر أن الميت إذا حمل على النعش رفرف روحه فوق النعش ويقول: يا أهلي. ويا ولدي لا تلعبن بكم الدنيا كما لعبت بي جمعت المال من حله ومن غير حله ثم تركته لغيري فالهناء له والتبعة علي فاحذروا مثل ما حل بي فصرح صلّى الله عليه وسلّم بأن هناك شيئا ينادي غير المحمول كان الأهل أهلا له وكان الجامع للمال من الحلال والحرام وليس ذلك إلا الإنسان إلى غير ذلك مما ذكره في تفسيره، وقيل: إن الإنسان هو الروح الذي في القلب، وقيل: إنه جزء لا يتجزأ في الدماغ، وقيل: إنه أجزاء نارية مختلطة بالأرواح القلبية والدماغية وهي المسماة بالحرارة الغريزية، وقيل: هو الدم الحال في البدن، وقيل وقيل إلى نحو ألف قول والمعول عليه عند المحققين قولان، الأول أن الإنسان عبارة عن جسم نوراني علوي حي متحرك مخالف بالماهية لهذا الجسم المحسوس سار فيه سريان الماء في الورد والدهن في الزيتون والنار في الفحم لا يقبل التحلل والتبدل والتفرق والتمزق مفيد للجسم المحسوس الحياة وتوابعها ما دام صالحا لقبول الفيض لعدم حدوث ما يمنع من السريان كالأخلاط الغليظة ومتى حدث ذلك حصل الموت لانقطاع السريان والروح عبارة عن ذلك الجسم واستحسن هذا الإمام فقال هو مذهب قوي وقول شريف يجب التأمل فيه فإنه شديد المطابقة لما ورد في الكتب الإلهية من أحوال الحياة والموت، وقال ابن القيم في كتابه- الروح: إنه الصواب ولا يصح غيره وعليه دل الكتاب والسنة وإجماع الصحابة وأدلة العقل والفطرة وذكر له مائة دليل وخمسة أدلة فليراجع.
الثاني أنه ليس بجسم ولا جسماني وهو الروح وليس بداخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا منفصل عنه ولكنه متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف وهو قول أكثر الإلهيين من الفلاسفة. وذهب إليه جماعة عظيمة من المسلمين منهم الشيخ أبو القاسم الراغب الأصفهاني وحجة الإسلام أبو حامد الغزالي ومن المعتزلة معمر بن عباد السلمي ومن الشيعة الشيخ المفيد ومن الكرامية جماعة ومن أهل المكاشفة والرياضة أكثرهم وقد قدمنا لك الأدلة على ذلك، ومن أراد الإحاطة بذلك فليرجع إلى كتب الشيخين أبي علي وشهاب الدين المقتول وإلى كتب الإمام الرازي كالمباحث المشرقية وغيره، وللشيخ الرئيس رسالة مفردة في ذلك سماها بالحجج الغر أحكمها وأتقنها ما يبتني على تعقل النفس لذاتها وابن القيم زيف حججه في كتابه وهو كتاب مفيد جدا يهب للروح روحا ويورث للصدر شرحا، واستدل الإمام على ذلك في تفسيره بالآية المذكورة فقال: إن الروح لو كان جسما منتقلا من حالة إلى حالة ومن صفة إلى صفة لكان مساويا للبدن في كونه متولدا من أجسام اتصفت بصفات مخصوصة بعد أن كانت موصوفة بصفات أخر فإذا سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنه وجب أن يبين أنه جسم كان كذا ثم صار كذا وكذا حتى صار روحا مثل ما ذكر في كيفية تولد البدن أنه كان نطفة ثم علقة ثم مضغة فلما لم يقل ذلك وقال. هو من أمر ربي بمعنى أنه لا يحدث ولا يدخل في الوجود إلا لأجل أن الله تعالى قال له كن فيكون دل ذلك على أنه جوهر ليس من جنس الأجسام بل هو جوهر قدسي مجرد، ولا يخفى أن ذلك من الإقناعيات الخطابية وهي كثيرة في هذا الباب، منها قوله تعالى:
148
وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩، ص: ٧٢] وقوله سبحانه: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: ١٧١] فإن هذه الإضافة مما تنبه على شرف الجوهر الإنسي وكونه عريا عن الملابس الحسية، ومنها
قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا النذير العريان»
ففيه إلى تجرد الروح عن علائق الأجرام،
وقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحمن
وفي رواية «على صورته»

وقوله عليه الصلاة والسلام: «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني»
ففي ذلك إيذان بشرف الروح وقربه من ربه قربا بالذات والصفات مجردا عن علائق الأجرام وعوائق الأجسام إلى غير ذلك مما لا يحصى وهو على هذا المنوال وللبحث فيه مجال أي مجال، وكان ثابت بن قرة يقول: إن الروح متعلق بأجسام سماوية نورانية لطيفة غير قابلة للكون والفساد والتفرق والتمزق وتلك الأجسام سارية في البدن وهي ما دامت سارية كان الروح مدبرا للبدن وإذا انفصلت عنه انقطع التعلق، وهو قول ملفق وأنا لا أستبعده.
«البحث الثاني في اختلاف الناس في حدوث الروح وقدمه» أجمع المسلمون على أنه حادث حدوثا زمانيا كسائر أجزاء العالم إلا أنهم اختلفوا في أنه هل هو حادث قبل البدن أم بعده فذهب طائفة إلى الحدوث قيل منهم محمد بن نصر المروزي. وأبو محمد بن حزم الظاهري وحكاه إجماعا وقد افترى، واستدل لذلك بما
في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله تعالى عنها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف»
قال ابن الجوزي في تبصرته: قال أبو سليمان الخطابي معنى هذا الحديث الأخبار عن كون الأرواح مخلوقة قبل الأجساد، وزعم ابن حزم أنها في برزخ وهو منقطع العناصر فإذا استعد جسد لشيء منها هبط إليه وأنها تعود إلى ذلك البرزخ بعد الوفاة ولا دليل لهذا من كتاب أو سنة.
وبعضهم استدل على ذلك بخبر خلق الله تعالى الأرواح قبل الأجساد بألفي عام، وتعقبه ابن القيم بأنه لا يصح إسناده، وذهب آخرون منهم حجة الإسلام الغزالي إلى الحدوث بعد، ومن أدلة ذلك كما
قال ابن القيم الحديث الصحيح «إن خلق ابن آدم يجمع في بطن أمه أربعين يوما دما ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»
ووجه الاستدلال أن الروح لو كان مخلوقا قبل لقيل، ثم يرسل إليه الملك بالروح فيدخله فيه، وصرح في روضة المحبين ونزهة المشتاقين باختيار هذا القول فقال إن القول بأن الأرواح خلقت قبل الأجساد قول فاسد وخطأ صريح، والقول الصحيح الذي دل عليه الشرع والعقل أنها مخلوقة مع الأجساد وأن الملك ينفخ الروح أي يحدثه بالنفخ في الجسد إذا مضى على النطفة أربعة أشهر ودخلت في الخامس، ومن قال إنها مخلوقة قبل فقد غلط، وأقبح منه قول من قال إنها قديمة انتهى، وفيه تأمل، ويوافق مذهب الحدوث قوله تعالى: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ [المؤمنون: ١٤] فليفهم.
وذهب أفلاطون ومن تقدمه من الفلاسفة إلى قدم الروح وذهب المعلم الأول إلى حدوثها مع حدوث البدن المستعد له كما ذهب إليه بعض الإسلاميين، وقد تقدم الكلام في استدلال كل جرحا وتعديلا، ويقال هنا: إن المعلم الأول قائل كغيره من الفلاسفة بتجرد الروح المسماة بالنفس الناطقة عندهم عن المادة فكيف يسعه القول بحدوثها مع قولهم كل حادث زماني يحتاج إلى مادة، وأجيب بأن المادة هاهنا أعم من المحل والمتعلق به والبدن مادة للنفس بهذا المعنى، وأنت تعلم أن استعداد الشيء للشيء لا يكون إلا فيما إذا كان ذلك مقترنا به لا مباينا عنه فالأولى أن يقال: إن البدن الإنساني لما استدعي لمزاجه الخاص صورة مدبرة له متصرفة فيه أي أمرا موصوفا بهذه الصفة من حيث هو كذلك وجب على مقتضى جود الواهب الفياض وجود أمر يكون مبدأ للتدابير الإنسية والأفاعيل البشرية ومثل هذا الأمر لا يمكن إلا أن يكون ذاتا مدركة للكليات مجردة في ذاتها فلا محالة قد فاض عليه حقيقة النفس لا من
149
حيث إن البدن استدعاها بل من حيث عدم انفكاكها عما استدعاه فالبدن استدعى باستعداده الخاص أمرا ماديا وجود المبدأ الفياض أفاد جوهرا قدسيا وكما أن الشيء الواحد قد يكون على ما قرروه جوهرا وعرضا باعتبارين كذلك يكون أمر واحد مجردا وماديا باعتبارين فالنفس الإنسانية مجردة ذاتا مادية فعلا فهي من حيث الفعل من التدبير والتحريك مسبوقة باستعداد البدن مقترنة به وأما من حيث الذات والحقيقة فمنشأ وجودها وجود المبدأ الواهب لا غير فلا يسبقها من تلك الحيثية استعداد البدن ولا يلزمها الاقتران في وجودها به ولا يلحقها شيء من مثالب الماديات إلا بالعرض.
ويمكن تأويل ما نقل عن أفلاطون في باب قدم النفس إلى هذا بوجه لطيف كذا قاله بعض صدور المتأخرين فتأمله.
«البحث الثالث» اختلف الناس في الروح والنفس هل هما شيء واحد أم شيئان فحكى ابن زيد عن أكثر العلماء أنهما شيء واحد فقد صح في الأخبار إطلاق كل منهما على الآخر وما
أخرجه البزار بسند صحيح عن أبي هريرة رفعه «أن المؤمن ينزل به الموت ويعاين ما يعاين يود لو خرجت نفسه والله تعالى يحب لقاءه وأن المؤمن تصعد روحه إلى السماء فتأتيه أرواح المؤمنين فيستخبرونه عن معارفه من أهل الدنيا» الحديث
ظاهر في ذلك.
وقال ابن حبيب: هما شيئان فالروح هو النفس المتردد في الإنسان والنفس أمر غير ذلك لها يدان ورجلان ورأس وعينان وهي التي تلتذ وتتألم وتفرح وتحزن وإنها هي التي تتوفى في المنام وتخرج وتسرح وترى الرؤيا وييقى الجسد دونها بالروح فقط لا يلتذ ولا يفرح حتى تعود، واحتج بقوله تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ [الزمر: ٤٢] الآية، وحكى ابن منده عن بعضهم أن النفس طينية نارية والروح نورية روحانية، وعن آخر أن النفس ناسوتية والروح لاهوتية، وذكر أن أهل الأثر على المغايرة وأن قوام النفس بالروح والنفس صورة العبد والهوى والشهوة والبلاء معجون فيها ولا عدو أعدى لا بن آدم من نفسه لا تريد إلا الدنيا ولا تحب إلا إياها، والروح تدعو إلى الآخرة وتؤثرها، وظاهر كلام بعض محققي الصوفية القول بالمغايرة ففي منتهى المدارك للمحقق الفرغاني أن النفس المضافة إلى الإنسان عبارة عن بخار ضبابي منبعث من باطن القلب الصنوبري حامل لقوة الحياة متجنس بأثر الروح الروحانية المرادة بقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [الحجر: ٢٩، ص: ٧٢] الثابت تعينها في عالم الأروح وأثرها واصل إلى هذا البخار الحامل للحياة فالنفس إذن أمر مجتمع من البخار ووصف الحياة وأثر الروح الروحانية وهذه النفس يحكم تجنسها بأثر الروح الروحانية متعينة لتدبير البدن الإنساني قابلة لمعالي الأمور وسفاسفها كما قال سبحانه وتعالى: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٨] والروح الروحانية أمر لا يكتنه والحق أنهما قد يتحدان إطلاقا وقد يتغايران، وابن القيم اعتمد ما عليه الأكثرون من الاتحاد ذاتا، وذكر غير واحد أنه هو الذي عليه الصوفية بيد أنهم قالوا: إن النفس هي الأصل في الإنسان فإذا صقلت بالرياضة وأنواع الذكر والفكر صارت روحا ثم قد تترقى إلى أن تصير سرا من أسرار الله تعالى.
وتفصيل الكلام حينئذ في هذا المقام أن للنفس مراتب تترقى فيها، الأولى تهذيب الظاهر باستعمال النواميس الإلهية من القيام والصيام وغيرهما، الثانية تهذيب الباطن عن الملكات الردية والأخلاق الدنية، الثالثة تحلي النفس بالصور القدسية، الرابعة فناؤها عن ذاتها وملاحظتها جلال رب العالمين جل جلاله، ويقال في كيفية الترقي في هذه المراتب أن الإنسان أول ما يولد فهو كباقي الحيوانات لا يعرف إلا الأكل والشرب ثم بالتدريج يظهر له باقي صفات النفس من الشهوة والغضب والحرص والحسد وغير ذلك من الهيآت التي هي نتائج الاحتجاب والبعد من معدن الجود والصفات الكمالية ثم إذا تيقظ من سنة الغفلة وقام من نوم الجهل وبان له أن وراء هذه اللذات البهيمية لذات أخر وفوق هذه المراتب مراتب أخر كمالية يتوب عن اشتغاله بالمنهيات الشرعية وينيب إلى الله تعالى بالتوجه إليه فيشرع في ترك
150
الفضول الدنيوية طلبا للكمالات الأخروية ويعزم عزما تاما ويتوجه إلى السلوك إلى ملك الملوك من مقام نفسه فيهاجر منه ويقع في الغربة ويا طوبى للغرباء وإن قيل: إنما الغربة للأحرار ذبح ثم إذا دخل في الطريق يزهد عن كل ما يعوقه عن مقصوده ويصده عن معبوده فيتصف بالورع والتقوى والزهد الحقيقي ثم يحاسب نفسه دائما في أقواله وأفعاله ويتهمها في كل ما تأمر به وإن كان عبادة فإنها مجبولة على حب الشهوات ومطبوعة على الدسائس الخفيات فلا ينبغي أن يأمنها ويكون على ثقة منها.
يحكى عن بعض الأكابر أن نفسه لم تزل تأمره بالجهاد وتحثه عليه فاستغرب ذلك ثم فطن أنها تريد أن تستريح من نصب القيام والصيام بالموت فلم يجبها إلى ذلك فإذا خلص منها وصفا وقته وطاب عيشه بما يجده في طريق المحبوب يتنور باطنه ويظهر له لوامع أنوار الغيب وينفتح له باب الملكوت وتلوح منه لوائح مرة بعد أخرى فيشاهد أمورا غيبية في صور مثالية فإذا ذاق شيئا منها يرغب في العزلة والخلوة والذكر والمواظبة على الطهارة والعبادة والمراقبة والمحاسبة ويعرض عن الملاذ الحسية كلها ويفرغ القلب عن محبتها فيتوجه باطنه إلى الحق تعالى بالكلية فيظهر له الوجد والسكر والشوق والعشق والهيمان ويجعله فانيا عن نفسه غافلا عنها فيشاهد الحقائق السرية والأنوار الغيبية فيتحقق بالمشاهدة والمعاينة والمكاشفة ويظهر له أنوار حقيقية تارة وتختفي أخرى حتى يتمكن ويتخلص من التلوين وينزل عليه السكينة الروحية والطمأنينة الإلهية ويصير ورود هذه البوارق والأحوال له ملكة فيدخل في عوالم الجبروت ويشاهد العقول المجردة والأنوار القاهرة من الملائكة المقربين والمهيمين ويتحقق بأنوارهم فيظهر له أنوار سلطان الأحدية وسواطع العظمة والكبرياء الإلهية فتجعله هباء منثورا ويندك حيئنذ جبال إنيته فيخر لله تعالى خرورا ويتلاشى في التعين الذاتي ويضمحل وجوده في الوجود الإلهي وهذا مقام الفناء والمحو وهو غاية السفر الأول للسالكين فإن بقي في الفناء والمحو ولم يجىء إلى البقاء والصحو صار مستغرقا في عين الجمع محجوبا بالحق عن الخلق لا يزيغ بصره عن مشاهدة جماله عز شأنه وأنوار ذاته وجلاله فاضمحلت الكثرة في شهوده واحتجب التفصيل عن وجوده وذلك هو الفوز العظيم، وفوق ذلك مرتبة يرجع فيها إلى الصحو بعد المحو وينظر إلى التفصيل في عين الجمع ويسع صدره الحق والخلق فيشاهد الحق في كل شيء ويرى كل شيء بالحق على وجه لا يوجب التكثر والتجسم وهو طور وراء طور العقل، ووقع في عبارة بعضهم أنه قد يصير العارف متخلقا بأخلاق الله تعالى بالحقيقة لا بمعنى صيرورة صفاته تعالى عرضا قائما بالنفس فإن هذا مما لا يتصور أبدا، والقول به خروج عن الشريعة والطريقة والحقيقة بل بمعنى علاقة أخرى أتم من علاقتها مع الصفات الكونية البدنية وغيرها لا تعلم حقيقتها، ولعل مرادهم بالمرتبة التي تترقى إليها النفس فتكون سرا من أسرار الله تعالى هي هذه المرتبة والاطلاع عليها يحتاج إلى سلوك طريقة الأبرار ولا يتم بمجرد الأنظار والأفكار والله تعالى الموفق للسلوك والمتفضل بالغنى على الصعلوك.
«البحث الرابع» اختلف الناس في الروح هل تموت أم لا؟ فذهبت طائفة إلى أنها تموت لأنها نفس وكل نفس ذائقة الموت وقد دل الكتاب على أنه لا يبقى إلا الله تعالى وحده وهو يستدعي هلاك الأرواح كغيرها من المخلوقات وإذا كانت الملائكة عليهم السلام يموتون فالأرواح البشرية أولى، وأيضا أخبر سبحانه عن أهل النار أنهم يقولون أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ [غافر: ١١] ولا تحقق الإماتتان إلا بإماتة البدن مرة وإماتة الروح أخرى.
وقالت طائفة: إنها تموت للأحاديث الدالة على نعيمها وعذابها بعد المفارقة إلى أن يرجعها الله تعالى إلى الجسد، وإن قلنا بموتها لزم انقطاع النعيم والعذاب، والصواب أن يقال: موت الروح هو مفارقتها الجسد فإن أريد بموتها هذا القدر فهي ذائقة الموت وإن أريد أنها تعدم وتضمحل فهي لا تموت بل تبقى مفارقة ما شاء الله تعالى ثم تعود إلى
151
الجسد وتبقى معه في نعيم أو عذاب أبد الآبدين ودهر الداهرين وهي مستثناة ممن يصعق عند النفخ في الصور على أن الصعق لا يلزم منه الموت والهلاك ليس مختصا بالعدم بل يتحقق بخروج الشيء عن حد الانتفاع به ونحو ذلك، وما ذكر في تفسير الإماتتين غير مسلم، وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام فيه.
وإلى أنها لا تموت بموت البدن ذهبت الفلاسفة أيضا، واحتج الشيخ عليه بأن قال: قد ثبت أن النفس يجب حدوثها عند حدوث البدن فلا يخلو إما أن يكونا معا في الوجود أو لأحدهما تقدم على الآخر فإن كانا معا فلا يخلو إما أن يكونا معا في الماهية أولا في الماهية والأول باطل وإلا لكانت النفس والبدن متضايفين لكنهما جوهران هذا خلف وإن كانت المعية في الوجود فقط من غير أن يكون لأحدهما حاجة في ذلك الوجود إلى الآخر فعدم كل واحد منهما يوجب عدم تلك المعية إما لا يوجب عدم الآخر وإما إن كان لأحدهما حاجة في الوجود إلى الآخر فلا يخلو إما أن يكون المقدم هو النفس أو البدن فإن كان المقدم في الوجود هو النفس فذلك التقدم إما أن يكون زمانيا أو ذاتيا والأول باطل لما ثبت أن النفس ليست موجودة قبل البدن، وأما الثاني فباطل أيضا لأن كل موجود يكون وجوده معلول شيء كان عدمه معلول عدم ذلك الشيء إذ لو انعدم ذلك المعلول مع بقاء العلة لم تكن تلك العلة كافية في إيجابها فلا تكون العلة علة بل جزء من العلة هذا خلف فإذا لو كان البدن معلولا لا متنع عدم البدن إلا لعدم النفس، والتالي بطلان البدن قد ينعدم لأسباب أخر مثل سوء المزاج أو سوء التركيب أو تفرق الاتصال فبطل أن تكون النفس علة للبدن، وباطل أيضا أن يكون البدن علة للنفس لأن العلل كما عرف أربع ومحال أن يكون البدن علة فاعلية للنفس فإنه لا يخلو إما أن يكون علة فاعلية لوجود النفس بمجرد جسميته أو لأمر زائد على جسميته والأول باطل وإلا لكان كل جسم كذلك، والثاني باطل أما أولا فلما ثبت أن الصور المادية إنما تفعل بواسطة الوضع وكل ما لا يفعل إلا بواسطة الوضع استحال أن يفعل أفعالا مجردة عن الحيز والوضع وأما ثانيا فلأن الصور المادية أضعف من المجرد القائم بنفسه والأضعف لا يكون سببا للأقوى ومحال أن يكون البدن علة قابلية لما ثبت أن النفس مجردة مستغنية عن المادة، ومحال أن يكون علة صورية للنفس أو تمامية فإن الأمر أولى أن يكون بالعكس فإذا ليس بين البدن والنفس علاقة واجبة الثبوت أصلا فلا يكون عدم أحدهما علة لعدم الآخر.
فإن قيل: ألستم جعلتم البدن علة لحدوث النفس؟ فنقول: قد بين أن الفاعل إذا كان منزها عن التغير ثم صدر عنه الفعل بعد أن كان غير صادر فلا بد وأن يكون لأجل أن شرط الحدوث قد حصل في ذلك الوقت دون ما قبله ثم إن ذلك الشرط لما كان شرطا للحدوث فقط وكان غنيا في وجوده عن ذلك الشيء استحال أن يكون عدم ذلك الشرط مؤثرا في عدم ذلك الشيء، ثم لما اتفق أن كان ذلك الشرط مستعدا لأن يكون آلة للنفس في تحصيل الكمالات والنفس لذاتها مشتاقة إلى الكمال لا جرم حصل للنفس شوق طبيعي إلى التصرف في ذلك البدن والتدبير فيه على الوجه الأصلح ومثل ذلك لا يمكن أن يكون عدمه علة لعدم ذلك الحادث بل ذهب الفلاسفة إلى استحالة انعدام النفس وبرهنوا على ذلك بما برهنوا وعندنا لا استحالة في ذلك.
«البحث الخامس في تمايز الأرواح بعد مفارقتها الأبدان» نص ابن القيم على أن كل روح تأخذ من بدنها صورة تتميز بها عن غيرها وأن تمايز الأرواح أعظم من تمايز الأبدان إلا أنه زعم أنه لا يمكن التمايز بينها على القول بأنها جوهر مجرد عن المادة وفيه نظر فإن القائلين بذلك قائلون بالتمايز أيضا باعتبار ما يحصل لها من التعلق بالبدن أو بنحو آخر من التمايز، وذكر الشيخ إبراهيم الكوراني في بعض رسائله أن الأرواح بعد مفارقتها أبدانها المخصوصة تتعلق بأبدان أخر مثالية حسبما يليق بها وإلى ذلك الإشارة بالطير الخضر
في حديث الشهداء ففي صحيح مسلم عن ابن مسعود أن
152
أرواح الشهداء في أجواف طير خضر،
وأخرج سعيد بن منصور عن مكحول عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أن ذراري المؤمنين أرواحهم في عصافير في شجر في الجنة
أي إنها تكون في أبدان على تلك الصور، ويؤيد ذلك
رواية ابن ماجة عن ابن مسعود أرواح الشهداء عند الله تعالى كطير خضر
وفي لفظ عن كعب أرواح الشهداء طير خضر
ولفظ ابن عمر في صورة طير بيض
وفي رواية علي بن عثمان اللاحقي عن مكحول أن ذراري المؤمنين أرواحهم عصافير في الجنة،
وعلى هذا يكون إنكار قوم من المتكلمين خبر في أجواف طير وكذا خبر في عصافير لما في ذلك من تعلق روحين في بدن واحد وقد قالوا باستحالته ناشئا من عدم التأمل والتثبت لأنه على ما قررنا لا يكون للطائر روح غير روح الشهيد على أنه لو بقي الخبر على ظاهره لم يلزم محال لجواز أن تكون الروح في جوف الطير على نحو كون الجنين في بطن أمه فتدبر.
«البحث السادس في مستقر الأرواح بعد مفارقة الأبدان» الذي دلت عليه الأخبار أن مستقر الأرواح بعد المفارقة مختلف فمستقر أرواح الأنبياء عليهم السلام في أعلى عليين وصح أن آخر كلمة تكلم بها صلّى الله عليه وسلّم اللهم الرفيق الأعلى وهو يؤيد ما ذكر، ومستقر أرواح الشهداء في الجنة ترد من أنهارها وتأكل من ثمارها وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش، وروي في أرواح أطفال المؤمنين ما هو قريب من ذلك،
وروى ابن المبارك عن كعب قال: جنة المأوى جنة فيها طير خضر ترعى فيها أرواح الشهداء على بارق نهر بباب الجنة في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشيا،
ولعل هذا كما قال ابن رجب في عوام الشهداء وما تقدم في خواصهم أو لعل هذا في شهداء الآخرة كالغريق والمبطون إلى غير ذلك، وأما مستقر أرواح سائر المؤمنين فقيل في الجنة أيضا وهو نص الإمام الشافعي،
وقد أخرج الإمام مالك عن كعب بن مالك مرفوعا «إنما نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله تعالى في جسده حين يبعثه» ورواه الإمام أحمد في مسنده وخرجه النسائي من طريق مالك وخرجه ابن ماجة ورواه خلق كثير
وروى ابن منده من حديث أم بشر مرفوعا ما هو نص في أن مستقر أرواح المؤمنين نحو مستقر أرواح الشهداء
، وقال وهب بن منبه: إن لله تعالى في السماء السابعة دارا يقال لها البيضاء يجتمع فيها أرواح المؤمنين ومستقر أرواح الكفار في سجين،
وفي حديث أم بشر أن أرواح الكفار في حواصل طير سود تأكل من النار وتشرب من النار وتأوي إلى جحر في النار يقولون ربنا لا تلحق بنا إخواننا ولا تؤتنا ما وعدتنا
، وقيل: مستقر أرواح الموتى أفنية قبورهم، وحكى هذا ابن حزم عن عامة أهل الحديث، واستدل له بعضهم
بحديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا مات أحدكم عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة وإن كان من أهل النار فمن أهل النار يقال هذا مقعدك حتى يبعثك الله تعالى»
وبأنه صلّى الله عليه وسلّم حين زار الموتى
قال «السلام عليكم دار قوم مؤمنين»
ورجح ابن عبد البر أن مستقر أرواح ما عدا الشهداء بأفنية القبور، وفيه أنه إن أريد أن الأرواح لا تفارق الأفنية فهو خطأ يرده نصوص الكتاب والسنة وإن أريد أنها تكون هناك وقتا من الأوقات كما روي عن مجاهد الأرواح على القبور سبعة أيام من يوم دفن الميت أولها إشراق على قبورها وهي في مقرها فهو حق لكن لا يقال مستقرها أقنية القبور، وعول بعض المحققين على أن الأرواح حيث كانت لها اتصال لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى وبذلك ترد السلام وتعرف المسلم ويعرض عليها مقعدها من الجنة أو النار، وقال بعضهم: لا مانع من انتقالها من مستقرها وعودها إليه في أسرع وقت حيث يشاء الله تعالى ذلك، نعم جاء في حديث البراء بن عازب ما يدل على أن أرواح المؤمنين تستقر في الأرض ولا تعود إلى السماء بعد عرضها حيث
قال فيه في صفة قبض روح المؤمن فإذا انتهى إلى العرش كتب كتابه في عليين ويقول الرب تعالى شأنه: ردوا عبدي إلى مضجعه فإني وعدتهم أني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى
وفي لفظ ردوا روح عبدي إلى الأرض فإني
153
وعدتهم أن أردهم فيها ثم قرأ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مِنْها خَلَقْناكُمْ [طه: ٥٥]
الآية لكن قال الحافظ ابن رجب: إن حديث البراء وحده لا يعارض الأحاديث الكثيرة المصرحة بأن الأرواح في الجنة لا سيما الشهداء، وقوله تعالى: مِنْها خَلَقْناكُمْ إلخ باعتبار الأبدان، وقالت طائفة: مستقر الأرواح مطلقا في السماء الدنيا عن يمين آدم عليه السلام وعن شماله ويدل عليه ما
في الصحيحين عن أبي ذر من حديث المعراج ففيه لما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رجل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قلت لجبريل من هذا قال آدم وهذه الأسودة عن يمينه وشماله نسم بنيه وأهل اليمين ثم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار
. ويجاب بأن المراد أنه عليه السلام يرى هذين الصنفين من جهة يمينه وجهة شماله وهو يجامع كون أرواح كل فريق في مستقرها من الجنة والنار فقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم الجنة والنار في صلاة الكسوف وهو في الأرض والجنة ليست فيها ورآهما وهو في السماء والنار ليست فيها، وفي حديث لأبي هريرة في الإسراء ما يؤيد ما قلنا. والنسفي في بحر الكلام جعل الأرواح على أربعة أقسام أرواح الأنبياء عليهم السلام تخرج من جسدها ويصير مثل صورتها مثل المسك والكافور وتكون في الجنة تأكل وتشرب وتتنعم وتأوي بالليل إلى قناديل معلقة تحت العرش، وأرواح الشهداء تخرج من جسدها وتكون في أجواف طير خضر في الجنة تأكل وتتنعم وتأوي إلى قناديل كأرواح الأنبياء. عليهم السلام، وأرواح المطيعين من المؤمنين بربض الجنة لا تأكل ولا تتمتع ولكن تنظر إلى الجنة، وأرواح العصاة منهم تكون بين السماء والأرض في الهواء، وأما أرواح الكفار ففي سجين في جوف طير سود تحت الأرض السابعة وهي متصلة بأجسادها فتعذب الأرواح وتتألم من ذلك الأجساد اه. وما ذكره في أرواح المطيعين مخالف لما صح من أنها تتمتع في الجنة. وفي الإفصاح أن المنعم من الأرواح على جهات مختلفة منها ما هو طائر في شجر الجنة ومنها ما هو في حواصل طير خضر ومنها ما يأوي إلى قناديل تحت العرش ومنها ما هو في حواصل طير بيض ومنها ما هو في حواصل طير كالزرازير، ومنها ما هو في أشخاص صور من صور الجنة ومنها ما هو في صورة تخلق من ثواب أعمالهم ومنها ما تسرح وتتردد إلى جثتها وتزورها ومنها ما تتلقى أرواح المقبوضين وممن سوى ذلك ما هو في كفالة ميكائيل عليه السلام ومنها ما هو في كفالة آدم عليه السلام ومنها ما هو في كفالة إبراهيم عليه السلام اه، قال القرطبي: وهذا قول حسن يجمع الأخبار حتى لا تتدافع وارتضاه الجلال السيوطي.
وأخرج ابن أبي الدنيا عن مالك قال: بلغني أن الروح مرسلة تذهب حيث شاءت وهو إن صح ليس على إطلاقه.
وقيل في مستقر الأرواح غير ذلك حتى زعم بعضهم أن مستقرها لعدم المحض وهو مبني على أنها من الإعراض وهي الحياة وهو قول باطل عاطل فاسد كاسد يرده الكتاب والسنة والإجماع والعقل السليم، ويعجبني في هذا الفصل ما ذكره الإمام العارف ابن برجان في شرح أسماء الله تعالى الحسنى حيث قال: والنفس مبراة من باطن ما خلق منه الجسم وهي روح الجسم وأوجد تبارك وتعالى الروح من باطن ما برأ منه النفس وهو للنفس بمنزلة النفس للجسم والنفس حجابه والروح يوصف بالحياة بإحياء الله تعالى شأنه له وموته خمود إلا ما شاء الله تعالى يوم خمود الأرواح والجسم يوصف بالموت حتى يحيى بالروح وموته مفارقة الروح إياه وإذا فارق هذا العبد الروحاني الجسم صعد به فإن كان مؤمنا فتحت له أبواب السماء حتى يصعد إلى ربه عز وجل فيؤمر بالسجود فيسجد ثم يجعل حقيقته النفسانية تعمر السفل من قبره إلى حيث شاء الله تعالى من الجو وحقيقته الروحانية تعمر العلو من السماء الدنيا إلى السابعة في سرور ونعيم ولذلك لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى عليه السلام قائما في قبره يصلي وإبراهيم عليه السلام تحت الشجرة قبل صعوده إلى السماء الدنيا ولقيهما في السموات العلى فتلك أرواحهما وهذه نفوسهما وأجسادهما
154
في قبورهما، وإن كان شقيا لم يفتح له فرمي من علو إلى الأرض اه، وفيه القول بالمغايرة بين الروح والنفس، وبهذا التحقيق تندفع معارضات كثيرة واعتراضات وفيرة، ويعلم أن حديث ما من أحد يمر بقبر أخيه المؤمن كان يعرفه في الدنيا فسلم عليه إلا عرفه ورد عليه السلام ليس نصا في أن الروح على القبر إذ يفهم منه أن الذي في القبر حقيقته النفسانية المتصلة بالروح اتصالا لا يعلم كنهه إلا الله تعالى. وللروح مع ذلك أحوالا وأطوارا لا يعلمها إلا الله تعالى فقد تكون مستغرقة بمشاهدة جمال الله تعالى وجلاله سبحانه ونحو ذلك وقد تصحو عن ذلك الاستغراق وهو المراد برد الروح
في خبر «ما من أحد يسلم علي إلا رد الله تعالى روحي فأرد عليه السلام»
والذي ينبغي أن يعول عليه مع ما ذكر أن الأرواح وإن اختلف مستقرها بمعنى محلها الذي أعطيته بفضل الله تعالى جزاء عملها لكن لها جولانا في ملك الله تعالى حيث شاء جل جلاله ولا يكون إلا بعد الأذن وهي متفاوتة في ذلك حسب تفاوتها في القرب والزلفى من الله تعالى حتى إن بعض الأرواح الطاهرة لتظهر فيراها من شاء الله تعالى من الأحياء يقظة وأن أرواح الموتى تتلاقى وتتزاور وتتذاكر وقد تتلاقى أرواح الأموات والأحياء مناما ولا ينكر ذلك إلا من يجعل الرؤيا خيالات لا أصل لها وذلك لا يلتفت إليه لكن لا ينبغي أن يبنى على ذلك حكم شرعي لاحتمال عدم الصحة وإن قامت قرينة عليها، وما صح من أن ثابت بن قيس بن شماس خرج مع خالد بن الوليد إلى حرب مسيلمة فاستشهد رضي الله تعالى عنه وكان عليه درع نفيسة فمر به رجل من المسلمين فأخذها فبينا رجل من الجند نائم إذ أتاه ثابت في منامه فقال له: أوصيك بوصية فإياك أن تقول هذا حلم فتضيعه إني لما قتلت أمس مر بي رجل من المسلمين فأخذ درعي ومنزله في أقصى الناس وعند خبائه فرس يستن في طوله وقد كفى على الدرع برمة وفوق البرمة رحل فأت خالدا فمره أن يبعث إلي درعي فيأخذها وإذا قدمت المدينة على خليفة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقل له: إن علي من الدين كذا وكذا وفلان من رقيقي عتيق فأتى الرجل خالدا فأخبره فبعث إلى الدرع وأتى بها وحدث أبا بكر رضي الله تعالى عنه برؤياه فأجاز وصيته، وقد ذكر ذلك ابن عبد البر وغيره مجاب عنه بأن ذلك كان بإجازة الوارث وهي بنته لغلبة ظن صدق الرؤيا بما قام من القرينة ولو لم تجز لم يسغ لأبي بكر رضي الله تعالى عنه ذلك بمجرد الرؤيا، وقيل: إن أبا بكر لم ير الرد ففعل ذلك من حصة بيت المال، ومثل هذه القصة قصة مصعب بن جثامة وعوف بن مالك وقد ذكرها ابن القيم في كتاب الروح وهي أغرب مما ذكر بكثير، وربما
يؤذن لأرواح بعض الناس في زيارة أهليهم كما ورد في بعض الآثار وبعض الأرواح تحبس في قبرها أو حيث شاء الله تعالى عن مقامها كروح من يموت وعليه دين استدانه في محرم
لا مطلقا كما هو المشهور، وتحقيقه في شرح الشمائل للعلامة ابن حجر ثم اعلم أن اتصال الروح بالبدن لا يختص بجزء دون جزء بل هي متصلة مشرقة على سائر أجزائه وإن تفرقت وكان جزء بالمشرق وجزء بالمغرب، ولعل هذا الإشراق على الأجزاء الأصلية لأنها التي يقوم بها الإنسان من قبره يوم القيامة على ما اختاره جمع، واعلم أيضا أن الروح على القول بتجردها لا مستقر لها بل لا يقال إنها داخل العالم أو خارجه كما سمعت وإنما المستقر حينئذ للبدن الذي تتعلق به، وقد نص بعض الصوفية على أنه لا مانع من أن تتعلق نفس ببدنين فأكثر بل هو واقع عندهم، وذكر بعضهم أن أحد البدنين هو البدن الأصلي والآخر مثالي يظهر للعيان على وجه خرق العادة، وقال آخر: إن الآخر من باب تطور الروح وظهورها بصورة على نحو ظهور جبريل عليه السلام بصورة دحية الكلبي وظهور القرآن لحافظه بصورة الرجل الشاحب يوم القيامة، والفلاسفة قالوا لا يجوز أن تتعلق نفس واحدة بأبدان كثيرة لأنه يلزم أن يكون معلوم أحدها معلوم الآخر ومجهول أحدها مجهول الآخر ومعلوم أن الأمر ليس كذلك، ولا يخفى أن هذا الدليل يدل على أن كل إنسانين يعلم أحدهما ما لا يعلم الآخر فإن نفسهما متغايرتان فلم لا يجوز وجود إنسانين يتعلق ببدنهما نفس واحدة ويكون كل ما علمه أحدهما علمه الآخر لا محالة وما يجهله أحدهما يكون مجهولا للآخر لا بد لعدم الجواز من دليل، وعلى ما ذكره
155
هؤلاء الصوفية يجوز أن تتعلق الروح ببدن في الجنة وببدن آخر حيث شاء الله تعالى بل يجوز أن تظهر في صور شتى في أماكن متعددة على حد ما قالوه في جبريل عليه السلام أنه في حال ظهوره في صورة دحية أو أعرابي غيره بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يفارق سدرة المنتهى، وأنت تعلم ما يقولون في تجلي الله تعالى في الصور وسمعت
خبر «إن الله تعالى خلق آدم على صورته»
ومن هنا قالوا: من عرف نفسه فقد عرف ربه فافهم الإشارة ولعمري هي عبارة، ثم إن أرواح سائر الحيوانات من البهائم ونحوها قيل: تكون بعد المفارقة في الهواء ولا اتصال لها بالأبدان، وقيل: تعدم ولا يعجز الله تعالى شيء، ومن الناس من قال: إن كان للحيوانات حشر يوم القيامة كما هو المشهور الذي تقتضيه ظواهر الآيات والأخبار فالأولى أن يقال ببقاء أرواحها في الهواء أو حيث شاء الله تعالى وإن لم يكن لها حشر كما ذهب إليه الغزالي وأول الظواهر فالأولى أن يقال بانعدامها، هذا وبقيت أبحاث كثيرة تركناها لضيق القفص واتساع دائرة الغصص، ولعل فيما ذكرناه هنا مع ما ذكرناه فيما قبل كفاية لأهل البداية وهداية لمن ساعدته العناية والله عز وجل ولي الكرم والجود، ومنه سبحانه بدء كل شيء وإليه جل وعلا يعود.
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين والذي ثبتناك عليه حين كادوا يفتنونك عنه إلى غير ذلك من أوصافه التي يشعر بها السياق، وإنما عبر عنه بالموصول تفخيما لشأنه ووصفا له بما في حيز الصلة ابتداء إعلاما بحاله من أول الأمر وبأنه ليس من قبيل كلام المخلوق، واللام الأولى موطئة للقسم «ولنذهبن» جوابه النائب مناب جزاء الشرط فهو مغن عن تقديره وليس جزاء لدخول اللام عليه وهو ظاهر وبذلك حسن حذف مفعول المشيئة، والمراد بالذهاب به محوه عن المصاحف والصدور وهو أبلغ من الأفعال، ويراد على هذا من القرآن على ما قيل صورته من أن تكون في نقوش الكتابة أو في الصور التي في القوة الحافظة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ أي القرآن عَلَيْنا وَكِيلًا أي متعهدا وملتزما استرداده بعد الذهاب به كما يلتزم الوكيل ذلك فيما يتوكل عليه حال كونه متوقعا أن يكون محفوظا في السطور والصدور كما كان قبل فالوكيل مجاز عما ذكر.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ استثناء منقطع على ما اختاره ابن الأنباري وابن عطية وغيرهما وهو مفسر بلكن في المشهور، والاستدراك على ما صرح به الطيبي وغيره، واقتضاه ظاهر كلام جمع عن قوله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ وقال في الكشف: إنه ليس استدراكا عن ذلك فإن المستثنى منه وَكِيلًا وهذا من المنقطع الممتنع إيقاعه موقع الاسم الأول الواجب فيه النصب في لغتي الحجاز وتميم كما في قوله تعالى: لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ [هود:
٤٣] إلا من رحم في رأي، وقولهم: لا تكونن من فلان إلا سلاما بسلام فقد صرح الرضي وغيره بأن الفريقين يوجبون النصب ولا يجوزون الإبدال في المنقطع فيما لا يكون قبله اسم يصح حذفه، وكون ما نحن فيه من ذلك ظاهر لمن له ذوق، والمعنى ثم بعد الإذهاب لا تجد من يتوكل علينا بالاسترداد ولكن رحمة من ربك تركته غير منصوب فلم تحتج إلى من يتوكل للاسترداد مأيوس عنه بالفقدان المدلول عليه بلا تجد، والتغاير المعنوي بين الكلامين من دلالة الأول على الإذهاب ضمنا والثاني على خلافه حاصل وهو كاف فافهم، ويفهم صنيع البعض اختيار أنه استثناء متصل من وَكِيلًا أي لا تجد وكيلا باسترداده إلا الرحمة فإنك تجدها مستردة، وأنت تعلم أن شمول الوكيل للرحمة يحتاج إلى نوع تكلف.
وقال أبو البقاء: إن رَحْمَةً نصب على أنه مفعول له والتقدير حفظناه عليك للرحمة، ويجوز أن يكون نصبا على أنه مفعول مطلق أي ولكن رحمناك رحمة اه وهو كما ترى، والآية على تقدير الانقطاع امتنان بإبقاء القرآن بعد الامتنان بتنزيله، وذكروا أنها على التقدير الآخر دالة على عدم الإبقاء فالمنة حينئذ إنما هي في تنزيله، ولا يخفى ما فيه
156
من الخفاء وما يذكر في بيانه لا يروي الغليل، والآية ظاهرة في أن مشيئة الذهاب به غير متحققة وأن فقدان المسترد إلا الرحمة إنما هو على فرض تحقق المشيئة لكن جاء في الأخبار أن القرآن يذهب به قبل يوم القيامة،
فقد أخرج البيهقي والحاكم وصححه وابن ماجة بسند قوي عن حذيفة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يدرس الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يدرى ما صيام ولا صدقة ولا نسك ويسري على كتاب الله تعالى في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية ويبقى الشيخ الكبير والعجوز يقولون أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله فنحن نقولها.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس وابن عمر قالا: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «يا أيها الناس ما هذه الكتب التي بلغني أنكم تكتبونها مع كتاب الله تعالى يوشك أن يغضب الله تعالى لكتابه فيسري عليه ليلا لا يترك في قلب ولا ورق منه حرف إلا ذهب به فقيل: يا رسول الله فكيف بالمؤمنين والمؤمنات؟ قال: من أراد الله تعالى به خيرا أبقى في قلبه لا إله إلا الله»
وأخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن أبي هريرة قال: يسري على كتاب الله تعالى فيرفع إلى السماء فلا يبقى في الأرض آية من القرآن ولا من التوراة والإنجيل والزبور فينزع من قلوب الرجال فيصبحون في الضلالة لا يدرون ما هم فيه.
وأخرج الديلمي عن ابن عمر مرفوعا لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث جاء له دوي حول العرش كدوي النحل فيقول الله عز وجل: ما لك؟ فيقول منك خرجت وإليك أعود أتلى ولا يعمل بي وأخرج محمد بن نصر نتحوه موقوفا على عبد الله بن عمرو بن العاص
وأخرج غير واحد عن ابن مسعود أنه قال: سيرفع القرآن من المصاحف والصدور، ثم قرأ وَلَئِنْ شِئْنا الآية
، وفي البهجة أنه يرفع أولا من المصاحف ثم يرفع لأعجل زمن من الصدور والذاهب به هو جبريل عليه السلام كما
أخرجه ابن أبي حاتم من طريق القاسم بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده فيا لها من مصيبة ما أعظمها وبلية ما أوخمها
فإن دلت الآية على الذهاب به فلا منافاة بينها وبين هذه الأخبار وإذا دلت على إبقائه فالمنافاة ظاهرة إلا أن يقال: إن الإبقاء لا يستلزم الاستمرار ويكفي فيه إبقاؤه إلى قرب قيام الساعة فتدبر، ومما يرشد إلى أن سوق الآية للامتنان قوله تعالى: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ لم يزل ولا يزال عَلَيْكَ كَبِيراً ومنه إنزال القرآن واصطفاؤه على جميع الخلق وختم الأنبياء عليهم السلام به وإعطاؤه المقام المحمود إلى غير ذلك وقال أبو سهل: (١) إلى أنها سيقت لتهديد غيره صلّى الله عليه وسلّم بإذهاب ما أوتوا ليصدهم عن سؤال ما لم يؤتوا كعلم الروح وعلم الساعة.
وقال صاحب التحرير: يحتمل أن يقال: إنه صلّى الله عليه وسلّم لما سئل عن الروح وذي القرنين وأهل الكهف وأبطأ عليه الوحي شق عليه ذلك وبلغ منه الغاية فأنزل الله تعالى هذه الآية تسكينا له صلّى الله عليه وسلّم والتقدير أيعز عليك تأخر الوحي فإنا إن شئنا ذهبنا بما أوحينا إليك جميعه فسكن ما كان يجده صلّى الله عليه وسلّم وطاب قلبه انتهى، وكلا القولين كما ترى.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقوا عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما لا تدركه العقول من النعوت الجليلة الشأن من البلاغة وحسن النظم وكمال المعنى، وتخصيص الثقلين بالذكر لأن المنكر لكونه من عند الله تعالى منهما لا من غيرهما والتحدي إنما كان معهما وإن كان النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إلى الملك كما هو مبعوث إليهما لا لأن غيرهما قادر على المعارضة فإن الملائكة عليهم السلام على فرض تصديهم لها وحاشاهم إذ هم معصومون لا يفعلون إلا ما يؤمرون عاجزون كغيرهم لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي هذا القرآن وأوثر الإظهار على إيراد الضمير الراجع إلى المثل المذكور احترازا عن أن يتوهم أن له مثلا معينا وإيذانا بأن المراد نفي الإتيان بمثل ما أي لا يأتون
(١) قوله وقال أبو سهل إلى أنها كذا في نسخة المؤلف والأولى وذهب أبو سهل إلخ كما هو ظاهر اه.
157
بكلام مماثل له فيما ذكر من الصفات الجليلة الشأن وفيهم العرب العرباء أرباب البراعة والبيان، وقيل: المراد تعجيز الإنس وذكر الجن مبالغة في تعجيزهم لأنهم إذا عجزوا عن الإتيان بمثله ومعهم الجن القادرون على الأفعال المستغربة فهم عن الإتيان بمثله وحدهم أعجز وليس بذاك، وقيل: يجوز أن يراد من الجن ما يشمل الملائكة عليهم السلام وقد جاء إطلاق الجن على الملائكة كما في قوله تعالى: وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [الصافات: ١٥٨] نعم الأكثر استعماله في غير الملائكة عليهم السلام ولا يخفى أنه خلاف الظاهر، وزعم بعضهم أن الملائكة عليهم السلام حيث كانوا وسائط في إتيانه لا ينبغي إدراجهم إذ لا يلائمه حينئذ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيه أنه ليس المراد نفي الإتيان بمثله من عند الله تعالى في شيء ممن أسند إليهم الفعل، وجملة «لا يأتون» جواب القسم الذي ينبىء عنه اللام الموطئة وساد مسد جزاء الشرط ولولاها لكان لا يَأْتُونَ جزاء الشرط وإن كان مرفوعا بناء على القول بأن فعل الشرط إذا كان ماضيا يجوز الرفع في الجواب كما في قول زهير:
وإن أتاه خليل يوم مسغبة يقول لا غائب مالي ولا حرم
لأن أداة الشرط إذا لم تؤثر في الشرط ظاهرا مع قربه جاز أن لا تؤثر في الجواب مع بعده، وهذا القول خلاف مذهب سيبويه ومذهب الكوفيين والمبرد كما فصل في موضعه، ولا يجوز عند البصريين مع وجود هذه اللام جعل المذكور جواب الشرط خلافا للفراء، وأما قول الأعشى:
لئن منيت بنا عن غب معركة لا تلفنا عن دماء الخلق ننتفل
فاللام ليست الموطئة بل هي زائدة على ما قيل فافهم، وحيث كان المراد بالاجتماع على الإتيان بمثل القرآن مطلق الاتفاق على ذلك سواء كان التصدي للمعارضة من كل واحد منهم على الانفراد أو من المجموع بأن يتألبوا على تلفيق كلام واحد بتلاحق الأفكار وتعاضد الأنظار قال سبحانه: وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا في تحقيق ما يتوخونه من الإتيان بمثله، والجملة عطف على مقدر أي لا يأتون بمثله لو لم يكن بعضهم لبعض ظهيرا ولو كان إلخ وهي في موضع الحال كالجملة المحذوفة، والمعنى لا يأتون بمثله على كل حال مفروض ولو في مثل هذه الحال المنافية لعدم الإتيان به فضلا عن غيرها وفيه رد لليهود أو قريش في زعمهم الإتيان بمثله،
فقد روي أن طائفة من الأولين قالوا: أخبرنا يا محمد بهذا الحق الذي جئت به أحق من عند الله تعالى فإنا لا نراه متناسقا كتناسق التوراة فقال صلّى الله عليه وسلّم لهم: أما والله إنكم لتعرفونه أنه من عند الله تعالى قالوا: إنا نجيئك بمثل ما تأتي به فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وفي رواية أن جماعة من قريش قالوا له صلّى الله عليه وسلّم: جئنا بآية غريبة غير هذا القرآن فإنا نحن نقدر على المجيء بمثله فنزلت
، ولعل مرادهم بهذه الآية الغريبة ما تضمنه الآيات بعد وهي قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ وحينئذ قيل يمكن أن تكون هذه الآية مع الآيات الأخر رد لجميع ما عنوه بهذا الكلام إلا أنه ابتدأ برد قولهم: نحن نقدر إلخ اهتماما به فإن قولهم ذلك منشا طلبهم الآية الغريبة.
وفي إرشاد العقل السليم أن في هذه الآية حسم أطماعهم الفارغة في روم تبديل بعض آياته ببعض ولا مساغ لكونها تقريرا لما قبلها من قوله تعالى: ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا كما قيل لكن لا لما قيل من أن الإتيان بمثله أصعب من استرداد عينه ونفي الشيء إنما يقرره نفي ما دونه دون نفي ما فوقه لأن أصعبية الاسترداد بغير أمره تعالى من الإتيان المذكور مما لا شبهة فيه بل لأن الجملة القسمية ليست مسوقة إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم بل إلى المكابرين من قبله عليه الصلاة والسلام انتهى، ومنه يعلم ما في قول بعضهم في وجه التقرير: أن عدم قدرة الثقلين على رده بعد إذهابه مساو لعدم قدرتهم على مثله لأن رده بعينه غير ممكن لعدم وصولهم إلى الله تعالى شأنه فلم يبق إلا رده بمثله فصرح بنفيه
158
تقريرا له من النظر وعدم الجدوى، هذا واستدل صاحب الكشاف بإعجاز القرآن على حدوثه إذ لو كان قديما لم يكن مقدورا فلا يكون معجزا كالمحال، وتعقبه في الكشف بأنه لا نزاع في حدوث النظم وإن تحاشى أهل السنة من إطلاق المخلوق عليه للإيهام وهو المعجز إنما النزاع في المعبر بهذه العبارة المعجزة وهو المسمى بالكلام النفسي فهو استدلال لا ينفعه وذكر نحوه ابن المنير.
وقال صاحب التقريب: الجواب منع الملازمة إذ مصحح المقدورية الإمكان وهو حاصل لا الحدوث وأيضا المعجز لفظه ولا يقال بقدمه والقديم كلام النفس ولا يقال بإعجازه وأيضا سلمنا أن القديم لا يقدر البشر على عينه لكن لم لا يقدر على مثله، واختار العلامة الطيبي هذا الأخير في الجواب، وقد ذكرنا في المقدمات من الكلام ما ينفعك في هذا المقام فتدبر والله تعالى ولي الأنعام ومسدد الأفهام.
وَلَقَدْ صَرَّفْنا كررنا ورددنا على أساليب مختلفة توجب زيادة تقرير ورسوخ لِلنَّاسِ أهل مكة وغيرهم كما هو الظاهر فِي هذَا الْقُرْآنِ المنعوت بما ذكر من النعوت الفاضلة مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى بديع هو في الحسن والغرابة واستجلاب النفوس كالمثل ومفعول صَرَّفْنا على ما استظهره أبو حيان محذوف أي البيان وقدره البينات والعبر ومن لابتداء الغاية وجوز ابن عطية أن تكون سيف خطيب فكل هو المفعول وهذا مبني على مذهب الكوفيين والأخفش لأنهم يجوزون زيادة من في الإيجاب دون جمهور البصريين.
وقرأ الحسن «صرفنا» بتخفيف الراء وقراءة الجمهور أبلغ، وأيّا ما كان فالمراد فعلنا ذلك للناس ليذعنوا ويتلقوه بالقبول فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وفسر به لثبوت الصدق بأصل الإعجاز، والمراد بالناس المذكورون أولا وأوثر الإظهار على الإضمار تأكيدا وتوضيحا، والمراد بالأكثر قيل: من كان في عهده صلّى الله عليه وسلّم من المشركين وأهل الكتاب.
واستظهر في البحر أنهم أهل مكة بدليل أن الضمائر الآتية لهم ونصب كُفُوراً على أنه مفعول أبى والاستثناء مفرغ وصح ذلك هنا مع أنه مشروط بتقدم النفي فلا يصح ضربت إلا زيدا لأن أبى قريب من معنى النفي فهو مؤول به فكأنه قيل ما قبل أكثرهم إلا كفورا وفيه من المبالغة ما ليس في أبوا الإيمان لأن فيه زيادة على أنهم لم يرضوا بخصلة سوى الكفر من الإيمان والتوقف في الأمر ونحو ذلك وأنهم بالغوا في عدم الرضا حتى بلغوا مرتبة الإباء، وإنما لم يجز ذلك في الإثبات لفساد المعنى إذ لا قرينة على تقدير أمر خاص والعموم لا يصح إذ لا يمكن في المثال أن تضرب كل أحد إلا زيدا فإن صح العموم في مثال جاز التفريغ في غير تأويل بنفي فيجوز صليت إلا يوم كذا إذ يجوز أن تصلي كل يوم غيره، وجوز أن تكون الآية من هذا القبيل بأن يكون المراد أبوا كل شيء فيما اقترحوه إلا كفورا وَقالُوا عند ظهور عجزهم ووضوح مغلوبيتهم بالإعجاز التنزيلي وغيره من المعجزات الباهرة متعللين بما لا تقتضي الحكمة وقوعه من الأمور ولا توقف لثبوت المدعى عليه وبعضه من المحالات العقلية لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ بالتخفيف من باب نصر المتعدي وبذلك قرأ الكوفيون أي تفتح، وقرأ باقي السبعة «تفجر» من فجر مشددا والتضعيف للتكثير لا للتعدية.
وقرأ الأعمش وعبد الله بن مسلم بن يسار «تفجر» من أفجر رباعيا وهي لغة في فجر لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مكة لقلة مياهها فالتعريف عهدي يَنْبُوعاً مفعول من نبع الماء كيعبوب من عب الماء إذا زخر وكثر موجه فالياء زائدة للمبالغة، والمراد عينا لا ينضب ماؤها، وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي أن الينبوع هو النهر الذي يجري من العين، والأول مروي عن مجاهد وكفى به أَوْ تَكُونَ لَكَ خاصة جَنَّةٌ بستان تستر أشجارها ما تحتها من العرصة
159
مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ خصوهما بالذكر لأنهما كانا الغالب في هاتيك النواحي مع جلالة قدرهما فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ أي تجريها خِلالَها نصب على الظرفية أي وسط تلك الجنة وأثنائها تَفْجِيراً كثيرا والمراد إما إجراء الأنهار خلالها عند سقيها أو إدامة إجرائها كما ينبىء الفاء أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ الجرم المعلوم كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً جمع كسفة كقطعة وقطع لفظا ومعنى وهو حال من السماء والكاف في كَما في محل النصب على أنه صفة مصدر محذوف أي إسقاطا مماثلا لما زعمت يعنون بذلك قوله تعالى: أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ: ٩] وزعم بعضهم أنهم يعنون ما في هذه السورة من قوله تعالى: أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً وليس بشيء، وقيل: إن المعنى كما زعمت أن ربك إن شاء فعل وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى في خبر ابن عباس، وقرأ مجاهد «يسقط السماء» بياء الغيبة ورفع «السماء» وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي ويعقوب «كشفا» بسكون السين في جميع القرآن إلا في الروم وابن عامر إلا في هذه السورة ونافع وأبو بكر في غيرهما، وحفص فيما عدا الطور في قوله. وفي النشر أنهم اتفقوا على إسكان السين في الطور وهو إما مخفف من المفتوح لأن السكون من الحركة مطلقا كسدر وسدر أو هو فعل صفة بمعنى مفعول كالطحن بمعنى المطحون أي شيئا مكسوفا أي مقطوعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي مقابلا كالعشير والمعاشر وأرادوا كما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس عيانا وهذا كقولهم «لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا» وفي رواية أخرى عن الحبر والضحاك تفسير القبيل بالكفيل أي كفيلا بما تدعيه يعنون شاهدا يشهد لك بصحة ما قلته وضامنا يضمن ما يترتب عليه وهو على الوجهين حال من الجلالة وحال الملائكة محذوفة لدلالة الحال المذكورة عليها أي قبلاء كما حذف الخبر في قوله:
ومن يك أمسى في المدينة رحله فإني وقيار بها لغريب
وذكر الطبرسي عن الزجاج أنه فسر قبيلا بمقابلة ومعاينة، وقال إن العرب تجريه في هذا المعنى مجرى المصدر فلا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث فلا تغفل، وعن مجاهد القبيل الجماعة كالقبيلة فيكون حالا من الملائكة، وفي الكشف جعله حالا من الملائكة لقرب اللفظ وسداد المعنى لأن المعنى تأتي بالله تعالى وجماعة من الملائكة لا تأتي بهما جماعة ليكون حالا على الجمع إذ لا يراد معنى المعية معه تعالى ألا ترى إلى قوله سبحانه حكاية عنهم «أو نرى ربنا» والقرآن يفسر بعضه بعضا انتهى، وقرأ الأعرج «قبلا» من المقابلة وهذا يؤيد التفسير الأول.
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب كما روي عن ابن عباس وقتادة وغيرهما، وأصله الزينة وإطلاقه على الذهب لأن الزينة به أرغب وأعجب، وقرأ عبد الله «من ذهب» وجعل ذلك في البحر تفسيرا لا قراءة لمخالفته سواد المصحف أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي تصعد في معارجها فحذف المضاف يقال رقي في السلم والدرجة والظاهر أن السماء هنا المظلة، وقيل: المراد المكان العالي وكل ما ارتفع وعلا يسمى سماء قال الشاعر:
وقد يسمى سماء كل مرتفع وإنما الفضل حيث الشمس والقمر
وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك فيها وحده أو لن نصدق رقيك فيها حَتَّى تُنَزِّلَ منها عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ بلغتنا على أسلوب كلامنا وفيه تصديقك قُلْ تعجبا من شدة شكيمتهم وفرط حماقتهم سُبْحانَ رَبِّي أو قل ذلك تنزيها لساحة الجلال عما لا يكاد يليق بها من مثل هذه الاقتراحات التي تضمنت ما هو من أعظم المستحيلات كإتيان الله تعالى على الوجه الذي اقترحوه أو عن طلب ذلك، وفيه تنبيه على بطلان ما قالوه.
وقرأ ابن كثير وابن عامر «قال سبحان ربي» أي قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل
160
عليهم السلام وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله تعالى على أيديهم حسبما تقتضيه الحكمة من غير تفويض إليهم فيه ولا تحكم منهم عليه سبحانه، وبَشَراً خبر كان ورَسُولًا صفته وهو معتمد الكلام وكونه بشرا توطئة لذلك ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا ودلالة على أن الرسل عليهم السلام من قبل كانوا كذلك ولهذا قال الزمخشري هل كنت إلا رسولا كسائر الرسل بشرا مثلهم، وزعم بعض أن ذكر بَشَراً ليس للتوطئة فإن طلب القوم منه عليه الصلاة والسلام ما طلبوه يحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة نفسه صلّى الله عليه وسلّم ويحتمل أن يكون طلب أن يأتي به بقدرة الله تعالى فذكر بَشَراً لنفي أن يأتي بذلك بقدرة نفسه كأنه قال: هل كنت إلا بشرا والبشر لا قدرة له على الإتيان بذلك، وذكر رسولا لنفي أن يأتي به بقدرة الله تعالى كأنه قيل هل كنت إلا رسولا والرسول لا يتحكم على ربه سبحانه.
وتعقب بأن هذا مع ما فيه من مخالفة لآثار كما ستعلمه قريبا إن شاء الله تعالى ظاهر في جعل الاسمين خبرين وهو مما يأباه الذوق السليم، وقال الخفاجي: إن كون الاسمين خبرين غير متوجه لأنه يقتضي استقلالها وأنهم أنكروا كلا منهما حتى رد عليهم بذلك ولم ينكر أحد بشريته صلّى الله عليه وسلّم، وتعقب بأنهم لما طلبوا منه عليه الصلاة والسلام ما لا يتأتى من البشر كالرقي في السماء كانوا بمنزلة من أنكر بشريته وهو كما ترى. وجوز بعضهم كون بشرا حالا من النكرة وسوغ ذلك تقدمه عليها وهو ركيك لأنه يقتضي أن له صلّى الله عليه وسلّم حالا آخر غير البشرية ولا يقول بذلك أحد اللهم إلا أن يكون من الوجودية. هذا والظاهر اتحاد القائل لجميع ما تقدم ويحتمل عدم الاتحاد بأن يكون بعض اقترح شيئا وبعض آخر اقترح آخر لكن نسب القول إلى الجميع لرضا كل بما اقترح الآخر.
وأخرج سعيد بن منصور، وغيره عن ابن جبير أن قوله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ إلخ نزل في عبد الله ابن أبي أمية وهو ظاهر في أنه القائل ولا يعكر عليه ضمير الجمع لما أشرنا إليه،
وأخرج ابن إسحاق. وجماعة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والأسود بن المطلب وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف وناسا آخرين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد فكلموه حتى تعذروا فيه فبعثوا إليه فجاءهم صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بداء وكان عليهم حريصا يحب رشدهم ويعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك وإنا والله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء وعبت الدين وسفهت الأحلام وشتمت الآلهة وفرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا وقد جثته فيما بيننا وبينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جثتكم به أطلب أموالكم ولا الشرف فيكم ولا الملك عليكم ولكن الله تعالى بعثني إليكم رسولا وأنزل علي كتابا وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا ولا أقل مالا ولا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا وليجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من قد مضى من آياتنا وليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل فإن
161
صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله تعالى وأنه بعثك رسولا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله تعالى بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا فإن لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول فيراجعنا عنك وتسأله أن يجعل لك جنانا كنوزا وقصورا من ذهب وفضة ويغنك عما نراك تبتغي فإنك تقول بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم فقال صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا وما بعثت إليكم بهذا ولكن الله تعالى بعثني بشيرا ونذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة وإن تردوه علي أصبر لأمر الله تعالى حتى يحكم الله تعالى بيني وبينكم قالوا: فتسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ذلك إلى الله تعالى إن شاء فعل بكم ذلك فقالوا: يا محمد فاعلم ربك أنا سنجلس معك ونسألك عما سألناك عنه ونطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ويخبرك مما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا وقال قائلهم: لن نؤمن لكن حتى تأتي بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عنهم وقام معه عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم
أمورا يتعرفوا بها منزلتك من الله تعالى فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما يخوفهم به من العذاب فو الله لا نؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم نرقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معك بنسخة منشورة معك بأربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لأصدقك ثم انصرف وانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا آسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعديهم فأنزل عليه هذه الآيات وقوله تعالى: كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ [الرعد: ٣٠] الآية وقوله سبحانه: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ [الرعد: ٣١]
الآية اه والله تعالى أعلم.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكيت أباطيلهم أَنْ يُؤْمِنُوا مفعول منع وقوله تعالى: إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى ظرف منع أو يؤمنوا أي ما منعهم وقت مجيء الوحي المقرون بالمعجزات المستدعية للإيمان أن يؤمنوا بالقرآن وبنبوتك أو ما منعهم أن يؤمنوا وقت مجيء ما ذكر إِلَّا أَنْ قالُوا فاعل منع أي إلا قولهم: أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا منكرين أن يكون رسول الله عليه الصلاة والسلام من جنس البشر وليس المراد أن هذا القول صدر عن بعض فمنع آخرين بل المانع هو الاعتقاد الشامل للكل المستتبع لهذا القول منهم.
وإنما عبر عنه بالقول إيذانا بأنه مجرد قول يقولونه بأفواههم من غير أن يكون له مفهوم ومصداق، وحصر المانع فيما ذكر مع أن لهم موانع شتى لما أنه معظمها أو لأنه هو المانع بحسب الحال أعني عند سماع الجواب بقوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا إذ هو الذي يتشبثون به حينئذ من غير أن يخطر ببالهم شبهة أخرى من شبههم الواهية، وفيه على هذا إيذان بكمال عنادهم حيث يشير إلى أن الجواب المذكور مع كونه حاسما لمواد شبههم مقتضيا للإيمان يعكسون الأمر ويجعلونه مانعا قاله بعض المحققين، وظاهر ذلك أن القوم لا يقولون برسالة أحد من الرسل المشهورين كإبراهيم وموسى عليهما السلام أصلا، وصرح بعضهم بأنهم لم ينكروا إرسال غيره صلّى الله عليه وسلّم منهم وبأن قولهم هذا كان تعنتا وهذا خلاف الظاهر هنا، ولعل القوم كانوا في ريب وتردد لا يستقيمون على حال فتدبر.
والظاهر أن الآية إخبار منه عز مجده عن الأمر المانع إياهم عن الإيمان، ويظهر من كلام ابن عطية أن هذا الكلام
162
منه عليه الصلاة والسلام قاله على معنى التوبيخ والتلهف وحاشا من له أدنى ذوق من أن يذهب إلى ذلك قُلْ لهم أولا من قبلنا تبيينا للحكمة وتحقيقا للحق المزيح للريب لَوْ كانَ أي لو وجد فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي البشر ولا يطيرون إلى السماء فيسمعوا من أهلها ويعلموا ما يجب علمه مُطْمَئِنِّينَ ساكنين مقيمين فيها، وقال الجبائي أي مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها غير خائفين ولا متعبدين بشرع لأن المطمئن من زال الخوف عنه لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا يعلمهم ما لا تستقل قدرهم بعلمه ليسهل عليهم الاجتماع به والتلقي منه وأما عامة البشر فلا يسهل عليهم ذلك لبعد ما بين الملك وبينهم فلا يبعث إليهم وإنما يبعث إلى خواصهم لأن الله تعالى قد وهبهم نفوسا زكية وأيدهم بقوى قدسية وجعل لهم جهتين جهة ملكية بها من الملك يستفيضون وجهة بشرية بها على البشر يفيضون، وجعل كل البشر كذلك مخل بالحكمة، وأنزل الملك عليهم على وجه يسهل التلقي منه بأن يظهر لهم بصورة بشر كما ظهر جبريل عليه السلام مرارا في صورة دحية الكلبي.
وقد صح أن أعرابيا جاء وعليه أثر السفر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن الإسلام والإيمان والإحسان وغيرها فأجابه عليه الصلاة والسلام بما أجابه ثم انصرف ولم يعرفه أحد من الصحابة رضي الله تعالى عنهم فقال صلّى الله عليه وسلّم هذا جبريل جاءكم يعلمكم أمر دينكم مما لا يجدي نفعا لأولئك الكفرة كما قال تعالى جده وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام: ٩]
وقيل علة تنزيل الملك عليهم أن الجنس إلى الجنس إلى الجنس أميل وهو به آنس، ولعل الأول أولى وإن زعم خلافه.
وحكى الطبرسي عن بعضهم أنه قال في الآية: إن العرب قالوا كنا ساكنين مطمئنين فجاء محمد صلّى الله عليه وسلّم فأزعجنا وشوش علينا أمرنا فبين سبحانه أنه لو كان ملائكة مطمئنين لأوجبت الحكمة إرسال الرسل إليهم ولم يمنع اطمئنانهم الإرسال فكذلك الناس لا يمنع كونهم مطمئنين إرسال الرسل إليهم، وأنت تعلم أن هذا بمراحل عن السياق ولا يصح فيه أثر كما لا يخفى على المتتبع.
ونصب مَلَكاً يحتمل أن يكون على الحالية من رسولا الواقع مفعولا لنزلنا وسوغ ذلك التقدم، ويحتمل أن يكون على المفعولية لنزلنا ورسولا صفة له، وكذا الكلام في قوله تعالى أبعث الله بشرا رسولا، ورجع غير واحد الأول بأنه أكثر موافقة للمقام وأنسب، ووجه ذلك القطب وصاحب التقريب بأنه على الحالية يفيد المقصود بمنطوقه وعلى الوصفية يفيد خلاف المقصود بمفهومه، أما الأول فلأن منطوقه ابعث الله تعالى رسولا حال كونه بشرا لا ملكا ولنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا وهو المقصود، وأما الثاني فلأن التقييد بالصفة يفيد أبعث الله تعالى بشرا مرسلا لا بشرا غير مرسل ولنزلنا عليهم ملكا مرسلا لا ملكا غير مرسل وهو خلاف المقصود بل غير مستقيم، وقال صاحب الكشف تبعا لشيخه العلامة الطيبي في ذلك: لأن التقديم إزالة عن موضعه الأصلي دلالة على أنه مصب الإنكار في الأول أعني أبعث الله بشرا رسولا فيدل على أن البشرية منافية لهذا الثابت- أعني الرسالة- كما تقول أضربت قائما زيدا ولو قلت أضربت زيادا قائما أو القائم لم يفد تلك الفائدة لأن الأول يفيد أن المنكر ضربه قائما لا الضرب مطلقا، والثاني يفيد أن المنكر ضرب زيد لاتصافه بهذه الصفة المانعة ولا يفيد أن أصل الضرب حسن ومسلم والجهة منكرة هذا إن جعل التقديم للحصر وإن جعل للاهتمام دل على كونه مصب الإنكار وإن لم يدل على ثبوت مقابله، وعلى التقديرين فائدة التقديم لائحة اه، وهو أكثر تحقيقا. واستشكل بعضهم هذه الآية بأنها ظاهرة في أنه إنما يرسل إلى كل قبيل ما يناسبه ويجانسه كالبشر للبشر والملك للملك ولا يرسل إلى قبيل مالا يناسبه ولا يجانسه وهو ينافي كونه صلّى الله عليه وسلّم مرسلا إلى الجن كالإنس إجماعا معلوما من الدين بالضرورة فيكفر منكره ومن نازع في ذلك وهم وأجيب بمنع كونها
163
ظاهرة في ذلك بل قصارى ما تدل عليه أن القول أنكروا أن يبعث الله تعالى إلى البشر بشرا وزعموا أنه يجب أن يكون المبعوث إليهم ملكا ومرامهم نفي أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم مبعوثا إليهم فأجيبوا بما حاصله أن الحكمة تقتضي بعث الملك إلى الملائكة لوجود المناسبة المصححة للتلقي لا إلى عامة البشر لانتفاء تلك المناسبة فأمر الوجوب الذي يزعمونه بالعكس وليس في هذا أكثر من الدلالة على أن أمر البعث منوط بوجود المناسبة فمتى وجدت صح البعث ومتى لم توجد لا يصح البعث وأنها موجودة بين الملك والملك لا بينه وبين عامة البشر كالمنكرين المذكورين وهذا لا ينافي بعثته صلّى الله عليه وسلّم إلى الجن لأنه عليه الصلاة والسلام متى صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الملك والتلقي منه صح فيه المناسبة المصححة للاجتماع مع الجن والإلقاء إليهم كيف لا وهو عليه الصلاة والسلام نسخة الله تعالى الجامعة وآيته الكبرى الساطعة وإذا قلنا إن اجتماعه عليه الصلاة والسلام بالجن وإلقاءه عليهم بعد تشكلهم له فأمر المناسبة أظهر وليس تشكل الملك لو أرسل إلى البشر بمجد لما سمعت آنفا، ويقال نحو هذا في إرساله صلّى الله عليه وسلّم إلى الملائكة لما فيه عليه الصلاة والسلام من قوة الإلقاء إليهم كالتلقي منهم، وإلى كونه عليه الصلاة والسلام مرسلا إليهم ذهب من الشافعية تقي الدين السبكي والبارزي والجلال المحلي في خصائصه، ومن الحنابلة ابن تيمية وابن مفلح في كتاب الفروع، ومن المالكية عبد الحق وقال ابن تيمية: لا نزاع بين العلماء في جنس تكليفهم بالأمر والنهي.
وقال إبراهيم اللقاني: لا شك في ثبوت أصل التكليف بالطاعات العملية في حقهم وأما نحو الإيمان فهو فيهم ضروري فيستحيل تكليفهم به، وقال السبكي في فتاويه: الجن مكلفون بكل شيء من هذه الشريعة لأنه إذا ثبت أنه عليه الصلاة والسلام مرسل إليهم كما هو مرسل إلى الإنس وأن الدعوة عامة والشريعة كذلك لزمتهم جميع التكاليف التي توجد فيهم أسبابها لا أن يقوم دليل على تخصيص بعضها فنقول: إنه يجب عليهم الصلاة والزكاة إن ملكوا نصابا بشرطه والحج وصوم رمضان وغيرها من الواجبات ويحرم عليهم كل حرام في الشريعة بخلاف الملائكة فإنا لا نلتزم أن هذه التكاليف كلها ثابتة في حقهم إذا قلنا بعموم الرسالة إليهم بل يحتمل ذلك ويحتمل الرسالة في شيء خاص اه.
ولا مانع من أن يكلفهم كلهم بما جاءه من ربه جل جلاله بواسطة بعضهم على أنه ليس كل ما جاء به عليه الصلاة والسلام حاصلا بوساطة الملك فيمكن أن يكون ما كلفوا به لم يكن بوساطة أحد منهم، وأنكر بعضهم إرساله صلّى الله عليه وسلّم إليهم وبعدم الإرسال إليهم جزم الحليمي والبيهقي من الشافعية ومحمود بن حمزة الكرمائي في كتابه العجائب والغرائب من الحنفية بل نقل البرهان النسفي والفخر الرازي في تفسيريهما الإجماع عليه وجزم به من المتأخرين زين الدين العراقي في نكته على ابن الصلاح والجلال المحلي في شرح جمع الجوامع وصريح آية لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان: ١] إذ العالم ما سوى الله تعالى وصفاته، وخبر مسلم أرسلت إلى الخلق كافة يؤيد المذهب الأول، نعم استدل أهل هذا المذهب بما استدلوا به وفيه ما فيه، وقد ادعى بعض الناس أن الآية تؤيد مذهبهم لأنه تعالى خص فيها الملك بالإرسال إلى الملائكة فيتعين أن يكون هو الرسول إليهم لا البشر سواء كان بينه وبينهم مناسبة أم لا وقد سمعت ما نقل عن العلامة القطب وصاحب التقريب من أن المراد لنزلنا عليهم رسولا حال كونه ملكا لا بشرا، وأجيب بأنه بعد إرخاء العنان لا تدل الآية إلا على تعيين إرسال الملك إلى الملائكة إذا كانوا في الأرض يمشون مطمئنين بدل البشر ولا يلزم منه أن لا يصح إرسال البشر إليهم إذا لم يكونوا كذلك لجواز أن يكون حكمة التعيين في الصورة الأولى سوى المناسبة المترتب عليها سهولة الاجتماع والتلقي شيء آخر لا يوجد في الصورة الثانية وذلك أنه إذا كان أهل الأرض ملائكة وأرسل إليهم بشر له قوة الإلقاء إليهم والإفاضة عليهم، نحو إرسال رسل البشر عليهم السلام إليهم صعب بحسب الطبع على ذلك الرسول بقاؤه معهم زمنا يعتد بهم كما يبقى رسل البشر مع البشر كذلك إلا أن يجعل
164
مشاركا لهم فيما جبلوا عليه ويلحق بهم وهو أشبه شيء بإخراجه عن الطبيعة البشرية بالمرة فيكون العدول عن إرسال ملك إلى إرساله أشبه شيء بالعبث المنافي للحكمة اه فتدبر.
فلعل الله سبحانه يمن عليك بما يروي الغليل وتأمل في جميع ما تقدم فلعلك توفق بعون الله تعالى إلى الجرح والتعديل قُلْ لهم ثانيا من جهتك بعد ما قلت لهم من قبلنا ما قلت وبينت لهم ما تقتضيه الحكمة في البعثة ولم يرفعوا إليه رأسا كَفى بِاللَّهِ عز وجل وحده شَهِيداً على أني قد أديت ما علي من مواجب الرسالة أكمل أداء وإنكم فعلتم ما فعلتم من التكذيب والعناد، وقيل شهيدا على أني رسول الله تعالى إليكم بإظهار المعجزة على وفق دعواي، ورجح الأول بأنه أوفق بقوله تعالى: بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وكذا بقوله سبحانه تعليلا للكفاية إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ أي الرسل والمرسل إليهم خَبِيراً بَصِيراً أي محيطا بظواهرهم وبواطنهم فيجازيهم على ذلك، وزعم الخفاجي أن الثاني أوفق بالسباق منه إذ يكون الكلام عليه كالسابق ردا لإنكارهم أن يكون الرسول بشرا وإلى ذلك ذهب الإمام وأن كون الأول أوفق بقوله تعالى إِنَّهُ كانَ إلخ لا وجه له لأن معناه التهديد والوعيد بأنه سبحانه يعلم ظواهرهم وبواطنهم وأنهم إنما ذكروا هذه الشبهة للحسد وحب الرياسة والاستنكاف عن الحق وفيه من التسلية لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم ما فيه، وأنت تعلم أن إنكار كون الأول أوفق بذلك مما لا وجه له لظهور خلافه، ولا ينافيه تضمن الجملة الوعيد والتسلية، وأيضا يبقى أمر أوفقيته بيني وبينكم في البين ومع ذلك في تصدير الكلام بقل نوع تأييد لإرادة الأول كما لا يخفى على الذكي، هذا وإنما لم يقل سبحانه بيننا تحقيقا للمفارقة وإبانة للمباينة، ونصب شَهِيداً أما على الحال أو على التمييز وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ كلام مبتدأ غير داخل في حيز قُلْ يفصل ما أشار إليه الكلام السابق من مجازاة العباد لما أن علمه تعالى في مثل هذا الموضع مستعمل بمعنى المجازاة أي من يهد الله تعالى إلى الحق فَهُوَ الْمُهْتَدِ إليه وإلى ما يؤدي إليه من الثواب أو المهتدي إلى كل مطلوب والأكثرون حذفوا ياء المهتدي وَمَنْ يُضْلِلْ يخلق فيه الضلال لسوء اختياره وقبح استعداده كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أي أنصارا مِنْ دُونِهِ عز وجل يهدونهم إلى طريق الحق أو إلى طريق يوصلهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية أو إلى طريق النجاة من العذاب الذي يستدعيه ضلالهم على معنى لن تجد لأحد منهم وليا على ما يقتضيه قضية مقابلة الجمع بالجمع من انقسام الآحاد على الآحاد على ما هو المشهور وقيل قال سبحانه: أَوْلِياءَ مبالغة لأن الأولياء إذا لم تنفعهم فكيف الولي الواحد، وضمير لَهُمْ عائد على من باعتبار معناه كما أن (هو) عائد عليه باعتبار لفظه فلذا أفرد الضمير تارة وجمع أخرى.
وفي إيثار الإفراد والجمع فيما أوثرا فيه تلويح بوحدة طريق الحق وقلة سالكيه وتعدد سبل الضلال وكثرة الضلال، وذكر أبو حيان وتبعه بعضهم أن الجملة الثانية من المواضع التي جاء فيها الحمل على المعنى ابتداء من غير أن يتقدمه الحمل على اللفظ وهي قليلة في القرآن. وتعقب ذلك الخفاجي بأنه لا وجه له فإنه حمل فيها الضمير على اللفظ أولا إذ في قوله تعالى يُضْلِلْ ضمير محذوف مفردا ذو تقديره يضلله على الأصل وهو راجع إلى لفظ من فلا يقال إنه لم يتقدمه حمل على اللفظ ثم قال: وأغرب من ذلك ما قيل إنه قد يقال إن الحمل على اللفظ قد تقدمه في قوله سبحانه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ وإن كان في جملة أخرى اه. وفيه أن وجهه جعل أبي حيان من مفعول يُضْلِلْ كما نص عليه في البحر وكذا نص على أنها في الجملة الأولى مفعول «يهد» وحينئذ ليس هناك ضمير مفرد محذوف كما لا يخفى فتفطن، وجوز كون الجملتين داخلتين في حيز قُلْ لمجيء ومن بالواو، وقوله تعالى: وَنَحْشُرُهُمْ أوفق بالأول وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم للإيذان لكمال الاعتناء بأمر الحشر، وعلى الاحتمال الثاني يجعل حكاية
165
لما قاله الله تعالى عليه الصلاة والسلام يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يقومون من قبورهم عَلى وُجُوهِهِمْ في موضع الحال من الضمير المنصوب أي كائنين عليها إما مشيا بأن يزحفون منكبين عليها ويشهد له ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أنس قال قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم
، والمراد كيف يحشر هذا الجنس على الوجه لأن ذلك خاص بالكفار وغيرهم يحشر على وجه آخر.
فقد أخرج أبو داود والترمذي وحسنه وابن جرير وغيرهم عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف صنف مشاة أي على العادة وصنف ركبان وصنف على وجوههم قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك، وإما سحبا بأن تجرهم الملائكة منكبين عليها كقوله تعالى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨]
ويشهد له ما
أخرجه أحمد والنسائي والحاكم وصححه عن أبي ذر أنه تلا هذه الآية وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ إلخ فقال: حدثني الصادق المصدوق صلّى الله عليه وسلّم أن الناس يحشرون يوم القيامة على ثلاثة أفواج فوج طاعمين كاسين راكبين وفوج يمشون ويسعون وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم
وأخرج أحمد والنسائي والترمذي وحسنه عن معاوية بن حيدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنكم تحشرون رجالا وركبانا وتجرون على وجوهكم»

وليطلب وجه الجمع فإن لم يوجد فالمعول عليه ما شهد له حديث الشيخين، ولا تعين الآية أعني قوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ الثاني لأن القرآن يفسر بعضهم بعضا لأنها في حالهم بعد دخول النار وما هنا في حالهم قبل فتغايرا، وزعم بعضهم أن الكلام على المجاز وذلك كما يقال للمنصرف خائبا عن أمر مهموما انصرف على وجهه فالمراد ونحرهم يوم القيامة مهمومين خائبين، وكأن الداعي لهذا الارتكاب أنه قد روي عن ابن عباس حمل الأحوال الآنية على المجاز وحينئذ تكون جميع الأحوال على طراز واحد ولا يخفى عليك فإياك أن تلتفت إلى تأويل نطقت السنة النبوية بخلافه ولا تعبأ بقوم يفعلون ذلك عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أحوال من الضمير المستكن في الجار والمجرور الواقع حالا أولا وفي إرشاد العقل السليم أنها أحوال من الضمير المجرور في الحال السابقة، والأول أبعد عن القيل والقال، وجوز أبو البقاء كون ذلك بدلا من تلك الحال وهو كما ترى.
واستظهر أبو حيان كون المراد مما ذكر حقيقته ويكون ذلك في مبدأ الأمر ثم يرد الله تعالى إليهم أبصارهم ونطقهم وسمعهم فيرون النار ويسمعون زفيرها وينطقون بما حكى الله تعالى عنهم في غير موضع.
نعم قد يختم على أفواههم في البين، وقيل هو على المجاز على معنى أنهم لفرط الحيرة والذهول يشبهون أصحاب هذه الصفات أو على معنى أنهم لا يرون شيئا يسرهم ولا يسمعون كذلك ولا ينطقون بحجة كما أنهم كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق ولا يسمعونه وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس وروي أيضا عن الحسن فنزل ما يقولونه ويسمعونه ويبصرونه منزلة العدم لعدم الانتفاع به، ولا يعكر عليه أن بعض الآيات يدل على سلب بعض القوى عنهم لاختلاف الأوقات، وقيل عميا عن النظر إلى ما جعل الله تعالى لأوليائه بكما عن الكلام معه سبحانه صما عما مدح الله تعالى به أولياءه، وقيل يحصل لهم ذلك حقيقة بعد قوله تعالى لهم اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: ١٠٨] وعلى هذا تكون الأحوال مقدرة كقوله تعالى مَأْواهُمْ أي مستقرهم جَهَنَّمُ على تقدير جعله حالا ويحتمل أن يكون استئنافا، وقوله سبحانه كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً يحتمل أيضا الاستئناف ويحتمل أن يكون حالا من جهنم كما قال أبو البقاء، وجعل العامل في الحال معنى المأوى، وقال الطبرسي: هو حال
166
منها لأنها توضع (١) متلظ ومتسعر ولولا ذلك ما جعل حالا منها.
وجوز جعله حالا مما جعلت الجملة الأولى منه لكن بعد اعتبارها في النظم والرابط الضمير المنصوب في زِدْناهُمْ وهو كما ترى والاستئناف أقل مؤنة، والخبو وكذا الخبو بضمتين وتشديد وهما مصدرا خبت النار سكون اللهب قال في البحر: يقال خبت النار تخبو إذا سكن لهبها وخمدت إذا سكن جمرها وضعف وهمدت إذا طفئت جملة، وقال الراغب: خبت النار سكن لهبها وصار عليها خباء من رماد أي غشاء، وفي القاموس تفسير خبت بسكنت وطفئت وتفسير طفئت بذهب لهبها وفيه مخالفة لما في البحر والأكثرون على ما فيه، ومن الغريب ما أخرجه ابن الأنباري عن أبي صالح من تفسير خَبَتْ في الآية بحميت وهو خلاف المشهور والمأثور، والسعير اللهب، والمعنى كلما سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم ولم يبق ما تتعلق به النار وتحرقه زدناهم لهبا وتوقدا بأن أعدناهم على ما كانوا فاستعرت النار بهم وتوقدت، أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية إن الكفرة وقود النار فإذا أحرقتهم فلم يبق شيء صارت جمرا تتوهج فذلك خبوها فإذا بدلوا خلقا جديدا عاودتهم، ولعل ذلك على ما قاله بعض الأجلة عقوبة لهم على إنكارهم الإعادة بعد الإفناء بتكررها مرة بعد الأخرى ليروها عيانا حيث لم يروها برهانا كما يفصح عنه ما بعد. واستشكل ما ذكر بأن قوله تعالى: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها [النساء: ٥٦] يدل على أن النار لا تتجاوز عن إنضاجهم إلى إحراقهم وإفنائهم فيعارض ذلك، وأجاب بعضهم بأن تبديلهم جلودا غيرها بإحراقها وإفنائها وخلق غيرها فكأنه قيل كلما نضجت جلودهم أحرقناها وأفنيناها وخلقنا لهم غيرها، وبعض بأن المراد كلما نضجت جلودهم كمال النضج بأن يبلغ شيها إلى حد لو بقيت عليه لا يحس صاحبها بالعذاب وهو مرتبة الاحتراق بدلناهم إلخ ويدل على ذلك قوله تعالى: لِيَذُوقُوا الْعَذابَ [النساء: ٥٦]، وقال الخفاجي: أجيب بأنه يجوز أن يحصل لجلودهم تارة النضج وتارة الإفناء أو كل منهما في حق قوم على أنه لا سد لباب المجاز بأن يجعل النضج عبارة عن مطلق تأثير النار إذ لا يحصل في ابتداء الدخول غير الإحراق دون النضج اه. ولا يخفى ما في قوله بأن يجعل النضج: عبارة عن مطلق تأثير النار من المساهلة، وفي قوله:
إذ لا يحصل إلخ منع ظاهر، وذكر أنه أورد على الجواب الأول أن كلمة كلما تنافيه وفيه بحث فتأمل، وربما يتوهم أن بين هذه الآية وقوله تعالى: لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ [البقرة: ١٦٢، آل عمران: ٨٨] تعارضا لأن الخبو يستلزم التخفيف وهو مدفوع بأن الخبو سكون اللهب كما سمعت، واستلزامه تخفيف عذاب النار ممنوع، على أنا لو سلمنا الاستلزام، فالعذاب الذي لا يخفف ليس منحصرا بالعذاب بالنار والإيلام بحراراتها وحينئذ فيمكن أن يعوض ما فات منه بسكون اللهب بنوع آخر من العذاب مما لا يعلمه إلا الله تعالى. وذكر الإمام أن قوله سبحانه زِدْناهُمْ سَعِيراً يقتضي ظاهره أن الحالة الثانية أزيد من الحالة الأولى فتكون الحالة الأولى تخفيفا بالنسبة إلى الحالة الثانية، وأجاب بأنه حصل في الحالة الأولى خوف حصول الثانية فكان العذاب شديدا، ويحتمل أن يقال: لما عظم العذاب صار التفاوت الحاصل في أثنائه غير مشعور به نعوذ بالله تعالى منه اه، وقد يقال: ليس في الآية أكثر من ازدياد توقدهم ولعله لا يستلزم ازدياد عذابهم، والمراد من الآية كلما أحرقوا أعيدوا إلا أنه عبر بما عبر للمبالغة، ويشير إلى كون المراد ذلك قوله تعالى: زِدْناهُمْ دون زدناها فتدبر ذلِكَ أي العذاب المفهوم من قوله سبحانه كلما خبت زدناهم سعيرا أو إلى جميع ما ذكر من حشرهم على وجوههم عميا وبكما وصما إلخ، والمفهوم مما ذكرنا مندرج فيه
(١) قوله توضع متلظ كذا بخط مؤلفه ولعل لفظ موضع سقط من العبارة كما هو ظاهر.
167
جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ أي بسبب أنهم كَفَرُوا بِآياتِنا القرآنية والآفاقية الدالة على صحة الإعادة دلالة واضحة أو على صحة ما أرسلناك به مطلقا فيشمل ما ذكر، وذلِكَ مبتدأ وجزاؤهم خبره والظرف متعلق به، وحوز أن يكون جَزاؤُهُمْ مبتدأ ثانيا والظرف خبره والجملة خبر لذلك، وأن يكون جَزاؤُهُمْ بدلا من ذلك أو بيانا والخبر هو الظرف، وقيل ذلك خبر مبتدأ محذوف أي الأمر ذلك وما بعده مبتدأ وخبر، وليس بشيء وَقالُوا منكرين أشد الإنكار أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً هو في الأصل كما قال الراغب كالفتات ما تكسر وتفرق من التبن والمراد هنا بالين متفرقين أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً إما مصدر مؤكد من غير لفظه أي لمبعوثون بعثا جديدا وإما حال أي مخلوقين مستأنفين.
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله تعالى الذي قدر على خلق هذه الأجرام والأجسام الشديدة العظيمة التي بعض ما تحويه البشر قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ من الأنس أي ومن هو قادر على ذلك كيف لا يقدر على إعادتهم وهي أهون عليه جل وعلا، وقال بعض المحققين: مثل هنا مثلها في- مثلك لا يبخل- أي قادر على أن يخلقهم، والمراد بالخلق الإعادة كما عبر عنها أو لا بذلك حيث قيل خَلْقاً جَدِيداً ولا يخلو عن بعد، وزعم بعضهم أن المراد قادر على أن يخلق عبيدا آخرين يوحدونه تعالى، ويقرون بكمال حكمته وقدرته ويتركون ذكر هذه الشبهات الفاسدة كقوله تعالى: وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ [فاطر: ١٦] وقوله سبحانه:
وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ [التوبة: ٣٩] وفيه أنه لا يلائم السياق كما لا يخفى على ذوي الأذواق، ثم اعلم أن ظاهر الآية أن الكفرة أنكروا إعادتهم يوم القيامة على معنى جمع أجزائهم المتفرقة وعظامهم المتفتتة وتاليفها وإفاضة الحياة عليها كما كانت في الدنيا فهو الذي عنوه بقولهم أإنا لمبعوثون خلقا جديدا بعد قولهم أئذا كنا عظاما ورفاتا فرد عليهم بإثبات ذلك بطريق برهاني، وعلى هذا تكون الآية أحد أدلة من يقول: إن الحشر بإعادة أجزاء الأبدان التي تتفرق كأبدان ما عدا الأنبياء عليهم السلام ومن لم يعمل خطيئة قط والمؤذنين احتسابا ونحوهم ممن حرمت أجسادهم على الأرض كما جاء في الأخبار وجمعها بعد تفرقها وعنوا بذلك الأجزاء الأصلية وهي الحاصلة في أول الفطرة حال نفخ الروح وهي عندهم محفوظة من أن تصير جزءا لبدن آخر فضلا عن أن تصير جزءا أصليا له، والذاهبون إلى هذا هم الأقل وحكاه الآمدي بصيغة قيل لكن رجحه الفخر الرازي وذكر أن الأكثر على أن الله سبحانه يعدم الذوات بالكلية ثم يعيدها وقال: إنه الصحيح، وكذا قال البدر الزركشي، وذكر اللقاني أنه قول أهل السنة والمعتزلة القائلين بصحة الفناء والعدم على الأجسام بل بوقوعه وإن اختلفوا في أن ذلك هل هو بحدوث ضد أو بانتفاء شرط أو بلا ولا فذهب إلى الأخير القاضي من أهل السنة وأبو الهذيل من المعتزلة قالا: إن الله تعالى يعدم ما يريد إعدامه على نحو إيجاده إياه فيقول له عند أبي الهذيل افن فيفنى كما يقول له كن فيكون. وذهب جمهور المعتزلة إلى الأول فقالوا: إن فناء الجوهر بحدوث ضد له وهو الفناء ثم اختلفوا فذهب ابن الأخشيد إلى أن الله تعالى يخلق الفناء في جهة من جهات الجواهر فتعدم الجواهر بأسرها، وقال ابن شبيب: أنه تعالى يحدث في كل جوهر بعينه فناء يقتضي عدم الجوهر في الزمان الثاني وذهب أبو علي وأبو هاشم واتباعهما إلى أن الله تعالى يعدم الجوهر بخلق فناء لا في محل معين منه ثم اختلفا فقال أبو علي وأتباعه: إن الله سبحانه يخلق فناء واحدا لا في محل فيفني به الجواهر بأسرها وقال أبو هاشم وأتباعه إنه تعالى يخلق لكل جوهر فناء لا في محل.
وذهب إمام الحرمين وأكثر أهل السنة وبشر المريسي والكعبي من المعتزلة إلى الثاني ثم اختلفوا في تعيين الشرط فقال بشر: إنه بقاء يخلقه سبحانه لا في محل فإن لم يخلقه عدم الجوهر. وقال الأكثر والكعبي: إنه بقاء قائم بالجوهر يخلقه جل وعلا فيه حالا فحالا فإذا لم يخلقه تعالى فيه انتفى الجوهر. وقال إمام الحرمين: إنه الأعراض التي
168
يجب اتصاف الجسم بها فإن الله تعالى شأنه يخلقها في الجسم حالا فحالا فمتى لم يخلقها سبحانه فيه انعدم. وقال النظام: إنه خلق الله تعالى الجوهر حالا فحالا فإن الجواهر عنده لا بقاء لها بل هي متجددة بتجدد الأعراض فإذا لم يوالي عز مجده على الجوهر خلقه فني، وأنت تعلم أن أكثر هذه الأقاويل من قبيل الأباطيل سيما القول بأن الفناء أمر محقق في الخارج ضد للبقاء قائم بنفسه أو بالجوهر وكون البقاء موجودا لا في محل، ولعل وجه البطلان غني عن البيان. واحتجوا لهذا المذهب بقوله سبحانه كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [القصص: ٨٨] وقوله تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦] وأجابوا عن الآية بأن الكفار اكتفوا بأقل اللازم وأرادوا المبالغة في الإنكار لأنه إذا لم يمكن بزعمهم الحشر بعد كونهم عظاما ورفاتا فعدم إمكانه بعد فنائهم بالمرة أظهر وأظهر، وفيه أن هلاك كل شيء خروجه عن صفاته المطلوبة منه والتفرق كذلك فيقال له هلاك ويسمى أيضا فناء عرفا فالاحتجاج بالآيتين غير تام وإن ما قالوه في الجواب عن الآية خلاف الظاهر. ولا يرد عليهم أن إعادة المعدوم محال لما ذكره الفلاسفة من الأدلة لما ذكره المسلمون في إبطالها، ومن الناس من قال: إن عجب الذنب لا يفنى وإن فني ما عداه من أجزاء البدن
لحديث الصحيحين «ليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظما واحدا وهو عجب الذنب منه خلق الخلق يوم القيامة».
وفي رواية مسلم «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذنب منه خلق ومنه يركب»
وصحح المزني أنه يفنى أيضا وتأول الحديث بأن المراد منه أن كل الإنسان يبلى بالتراب ويكون سبب فنائه إلا عجب الذنب فإن الله تعالى يفنيه بلا تراب كما يميت ملك الموت بلا ملك موت، والخلق منه والتركيب يمكن أن يكون بعد إعادته فليس ما ذكر نصا في بقائه، ووافقه على ذلك ابن قتيبة، وأنت تعلم أن ظواهر الأخبار تدل على عدم فنائه مطلقا، وتوقف بعض العلماء عن الجزم بأحد المذهبين السابقين في كيفية الحشر.
وقال السعد: إنه الحق وهو اختيار إمام الحرمين وفي المواقف وشرحه للسيد السند هل يعدم الله تعالى الأجزاء البدنية ثم يعيدها أو يفرقها ويعيد فيها التأليف الحق أنه لم يثبت في ذلك شيء فلا جزم فيه نفيا ولا إثباتا لعدم الدليل على شيء من الطرفين.
وقال حجة الإسلام الغزالي في كتاب الاقتصاد: فإن قيل ما تقولون هل تعدم الجواهر والأعراض ثم يعادان جميعا أو تعدم الأعراض دون الجواهر ثم تعاد الأعراض فقط؟ قلنا كل ذلك ممكن، والحق أنه ليس في الشرع دليل قاطع على تعيين أحد الأمرين الممكنين.
وقال بعضهم: الحق وقوع الأمرين جميعا إعادة ما انعدم بعينه وإعادة ما تفرق بإعراضه وهو حسن، والكلام في هذا المقام طويل جدا ولعل الله سبحانه وتعالى يمن علينا باستيفائه ولو في مواضع متعددة.
وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا وهو ميقات إعادتهم وحشرهم أو موتهم وهو على هذا اسم جنس لأن لكل أحد أجلا للموت يخصه، وقد جاء إطلاق الأجل على الموت ووجهه أنه يطلق على مدة الحياة وعلى آخرها والموت مجاور لذلك لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي الريب فيه والإنكار لمن تدبره أو النفي على ظاهره، والجملة معطوفة على أَوَلَمْ يَرَوْا وهي وإن كانت إنشائية وفي عطف الإخبارية عليها مقال مؤولة بخبرية والعطف على الصلة فيما مر متعذر للفصل بخبر أن.
وكذا على ما بعد أن المصدرية لفظا ومعنى والمعنى كما في الكشف وغيره قد علموا بدليل العقل أن الله تعالى قادر على إعادتهم وقد جعل أجلا لها لا ريب فيه فلا بد منها أي إذا كان ذلك ممكنا في نفسه واجب الوقوع بخبر الصادق لا يبقى للإنكار معنى فإن كان الأجل بمعنى ميقات إعادتهم أي يوم القيامة لقولهم أَإِذا كُنَّا عِظاماً
169
وَرُفاتاً
وهو الظاهر فهو واضح، وإن كان بمعنى الموت فوجهه أنهم قد علموا إمكانه وأنهم ميتون لا محالة منسلخون من هذه الحياة وأنه لا بد لهم من جزاء فلم يخلقوا عبثا ولم يتركوا سدى ففيم الإنكار، وكأنه قد اكتفى بالموت عما بعده لأنه أول القيامة ومن مات فقد قامت قيامته فالعطف في التقدير على قد علموا، ويعلم من هذا التقرير أن الجامع بين الجملتين لصحة العطف في غاية القوة.
وزعم القطب أن الأولى العطف على ما بعد أن المصدرية أما أولا فلأنه أقرب، وأما ثانيا فلأن جعل الأجل يدخل حينئذ تحت قدرته تعالى وتحت علمهم بخلاف ما إذا عطف على قوله سبحانه «أو لم يروا» إلخ ولا يخفى ما فيه على من استدارت كرة فكره على محور التحقيق فَأَبَى الظَّالِمُونَ الذين كفروا بالآيات وقالوا ما قالوا، ووضع الظاهر موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالظلم وتجاوز الحد بالمرة إِلَّا كُفُوراً أي جحودا.
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي خزائن نعمه التي أفاضها على كافة الموجودات فالرحمة مجاز عن النعم والخزائن استعارة تحقيقية أو تخييلية، وأَنْتُمْ على ما ذهب إليه الحوفي. والزمخشري.
وأبو البقاء. وابن عطية وغيرهم فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور لأن لو يمتنع أن يليها الاسم والأصل لو تملكون تملكون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، ومثل ذلك قول حاتم وقد أسر فلطمته جارية لو ذات سوار لطمتني، وقول الملتمس:
ولو غير أخوالي أرادوا نقيصتي جعلت لهم فوق العرانين ميسما
وفائدة الحذف والتفسير على ما قيل الإيجاز فإنه بعد قصد التوكيد لو قيل تملكون تملكون لكان إطنابا وتكرارا بحسب الظاهر، والمبالغة لتكرير الإسناد أو لتكرير الشرط فإنه يقتضي تكرر ترتب الجزاء عليه والدلالة على الاختصاص وذلك بناء على أن أَنْتُمْ بعينه ضمير تَمْلِكُونَ المؤخر فهو في المعنى فاعل مقدم وتقديم الفاعل المعنوي يفيد الاختصاص إذا ناسب المقام فيفيد الكلام حينئذ ترتب الإمساك، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى المراد منه على تفردهم بملك الخزائن ويعلم منه ترتبه على ملكها بالاشتراك بالطريق الأولى، وإلى تخريج مثل هذا التركيب على هذا الطرز ذهب البصريون بيد أن أبا الحسن بن الصائغ وغيره صرحوا بأنهم يمنعون إيلاء لو فعلا مضمرا في الفصيح ويجيزونه في الضرورة وفي نادر كلام، ولعل شعر المتلمس ومثل حاتم عندهم من ذلك والحق خلاف ذلك.
وقال أبو الحسن علي بن فضالة المجاشعي: إن التقدير لو كنتم أنتم تملكون، وظاهره أن أنتم عنده توكيد للضمير المحذوف مع الفعل وليس بشيء، وقال أبو الحسن بن الصائغ: إن الأصل لو كنتم تملكون فحذفت كان وحدها وانفصل الضمير فهو عنده اسم لكان محذوفة وجملة تَمْلِكُونَ خبرها وعلى هذا تخرج نظائره.
قال أبو حيان بعد نقل ما تقدم: وهذا التخريج أحسن لأن حذف كان بعد لو معهود في لسان العرب، ولا يخفى أن الكلام على ما سمعت أولا أفيد وإن كان الظاهر أن الإمساك على هذا يكون على استمرار الملك، والمراد من الإمساك البخل وذلك لأن البخل إمساك خاص فلما حذف المفعول ووجه إلى نفس الفعل بمعنى لفعلتم الإمساك جعل كناية عن أبلغ أنواعه وأقبحها، وإلى كونه كناية عما ذكر ذهب صاحب الفرائد وغيره.
وجوز أن يكون مضمنا معنى البخل وتعقب بأنه ليس بشيء لفظا ومعنى، وعلى ما ذكرنا يتخرج قولهم للبخيل ممسك خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي مخافة الفقر كما أخرجه ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس وروي نحوه عن قتادة وإليه ذهب الراغب قال: يقال أنفق فلان إذا افتقر، وأبو عبيدة قال: أنفق وأملق وأعدم وأصرم بمعنى واحد، وقال بعضهم:
170
الإنفاق بمعناه المعروف وهو صرف المال، وفي الكلام مقدر أي خشية عاقبة الإنفاق.
وجوز أن يكون مجازا عن لازمه وهو النفاد، ونصب خَشْيَةَ على أنه مفعول له، وجعله مصدرا في موضع الحال كما جوزه أبو البقاء خلاف الظاهر، وقد بلغت هذه الآية في الوصف بالشح الغاية القصوى التي لا يبلغها الوهم حيث أفادت أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى التي لا تتناهى وانفردوا بملكها من غير مزاحم أمسكوها من غير مقتض إلا خشية الفقر، وإن شئت فوازن بقول الشاعر:
ولو أن دارك أنبتت لك أرضها... إبرا يضيق بها فناء المنزل
وأتاك يوسف يستعيرك ابرة... ليخيط قد قميصه لم تفعل
مع أن فيه من المبالغات ما يزيد على العشرة ترى التفاوت الذي لا يحصر، وجعل غير واحد الخطاب فيها عاما فيقتضي أن يكون كل واحد من الناس بخيلا كما هو ظاهر ما بعد مع أنه أثبت لبعضهم الإيثار مع الحاجة.
وأجيب بأن ذلك بالنسبة إلى الجواد الحقيقي والفياض المطلق عز مجده فإن الإنسان إما ممسك أو منفق والإنفاق لا يكون إلا لغرض للعاقل كعوض مالي أو معنوي كثناء جميل أو خدمة واستمتاع كما في النفقة على الأهل أو نحو ذلك وما كان لعوض كان مبادلة لا مبادلة أو هو بالنظر إلى الأغلب وتنزيل غيره منزلة العدم كما قيل:
عدنا في زماننا... عن حديث المكارم
من كفى الناس شره... فهو في جود حاتم
وهذا الجواب عندي أولى من الأول وعلى ذلك يحمل قوله تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً مبالغا في البخل، وجاء القتر بمعنى تقليل النفقة وهو بإزاء الإسراف وكلاهما مذموم ويقال قترت الشيء واقترته وقترته أي قللته وفلان مقتر فقير، وأصل ذلك كما قال الراغب من القتار والقتر وهو الدخان الساطع من الشواء والعود ونحوهما فكأن المقتر والمقتر هو الذي يتناول من الشيء قتاره، وقيل الخطاب لأهل مكة الذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع والأنهار وغيرها، والمراد من الإنسان كما في القول الأول الجنس ولا شك في أن جنس الإنسان مجبول على البخل لأن مبنى أمره الحاجة، وقيل الإنسان وعليه الإمام، ووجه ارتباط الآية بما قبلها على تخصيص الخطاب أن أهل مكة طلبوا ما طلبوا من الينبوع والأنهار لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم فبيّن سبحانة أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله تعالى لبخلوا وشحوا ولما قدموا على إيصال النفع لأحد، والمراد التشنيع عليهم بأنهم في غاية الشح ويقترحون ما يقترحون أو المراد أن صفتهم هذه فلا فائدة في إسعافهم بما طلبوا كذا قال العسكري وغيره فالآية عندهم مرتبطة بقوله تعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء: ٩٠] ويكفي على العموم اندراج أهل مكة فيه.
وقال أبو حيان: المناسب في وجه الارتباط أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام قد منحه الله تعالى ما لم يمنحه لأحد من النبوة والرسالة إلى الإنس والجن فهو صلّى الله عليه وسلّم أحرص الناس على إيصال الخير إليهم وإنقاذهم من الضلال يثابر على ذلك ويخاطر بنفسه في دعائهم إلى الله تعالى ويعرض ذلك على القبائل وأحياء العرب سمحا بذلك لا يطلب منهم أجرا وهؤلاء أقرباؤه لا يكاد يجيب منهم أحد إلا الواحد بعد الواحد قد لجوا في عناده وبغضائه فلا يصل منهم إلا الأذى فنبه تعالى شأنه بهذه الآية على سماحته عليه الصلاة والسلام وبذل ما آتاه الله تعالى وعلى امتناع هؤلاء أن يصل منهم شيء من الخير إليه صلّى الله عليه وسلّم فهي قد جاءت مبينة للباين ما بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم من حرصه على نفعهم
171
وعدم إيصال شيء من الخير منهم إليه اه. فالارتباط بين الآية وبين مجموع الآيات السابقة من حيث إنها تشعر بحرصه صلّى الله عليه وسلّم على هدايتهم ولعمري إن هذا مما يأباه الذوق السليم والذهن المستقيم.
ويحتمل أن يكون وجه الارتباط اشتمالها على ذمهم بالشح المفرط كما أن ما قبلها مشتمل على ذمهم بالكفر كذلك وهما صفتان سيئتان ضرر أحداهما قاصر وضرر الأخرى متعد فتأمل فلمسلك الذهن اتساع والله تعالى أعلم بمراده، ولما حكى سبحانه عن قريش ما حكى من العنت والعناد مع رسوله صلّى الله عليه وسلّم سلاه تعالى جده بما جرى لموسى عليه السلام مع فرعون وما صنع سبحانه بفرعون وقومه فقال عز قائلا:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ظاهر السياق والنظائر يقتضيان كون المعنى تسع أدلة وواضحات الدلالة على نبوة موسى عليه السلام وصحة ما جاء به من عند الله تعالى ولا ينافيه أنه قد أوتي من ذلك ما هو أكثر مما ذكر لأن تخصيص العدد بالذكر لا يدل على نفي الزائد كما حقق في الأصول وإلى هذا ذهب غير واحد إلا أنه اختلف في تعيين هذه التسع ففي بعض التفاسير هي كما في التوراة العصا ثم الدم ثم الضفادع ثم القمل ثم موت البهائم ثم برد كنار أنزل مع نار مضطرمة أهلكت ما مرت به من نبات وحيوان ثم جراد ثم ظلمة ثم موت عم كبار الآدميين وجميع الحيوانات. وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها العصا واليد والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والسنين ونقص من الثمرات، وروي ذلك عن مجاهد والشعبي وقتادة وعكرمة.
وتعقب هذا بأن السنين والنقص من الثمرات آية واحدة كما روي عن الحسن.
ورد بأنه ليس بالحسن إذ ظاهر قوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف:
١٣٠] يقتضي المغايرة فيحمل الأول على الجدب في بواديهم والثاني على النقصان في مزارعهم أو على نحو ذلك وقد تقدم الكلام فيه فلا ضير في عدهما آيتين. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في رواية أخرى عن الحبر أنها يده عليه السلام ولسانه وعصاه والبحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وفي الكشاف عنه رضي الله تعالى عنه أنها العصا واليد والجراد والقمل والضفادع والدم والحجر والبحر والطور الذي نتقه الله تعالى على بني إسرائيل. وتعقبه في الكشف بقوله فيه: إن الحجر والطور ليسا من الآيات المذهوب بها إلى فرعون وقال تعالى: فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ [النمل: ١٢] وذكر سبحانه في هذه السورة لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ والإشارة إلى الآيات ثم قال: والجواب جاز أن يكون التسع البينات بعضا منها غير البعض من تلك التسع وليس في هذه الآية أن الكل لفرعون وقومه وأما الإشارة فإلى البعض بالضرورة لأن الكل إنما حصلت على التدريج وفلق البحر لم يكن في معرض التحدي بل عند ما حق الهلاك اه، ولا يخلو عن ارتكاب خلاف الظاهر، وما روي عن ابن عباس أولا لائح الوجه ما فيه أشكال ونسبه في الكشاف إلى الحسن وهو خلاف ما وجدناه في الكتب التي يعول عليها في أمثال ذلك، وروي أن عمر بن عبد العزيز عليه الرحمة سأل محمد بن كعب عن هذه الآيات فعد ما عد وذكر فيه الطمس فقال عمر: كيف يكون الفقيه إلا هكذا ثم قال: يا غلام أخرج ذلك الجراب فأخرجه فنفضه فإذا بيض مكسور بنصفين وجوز مكسور وفوم وحمص وعدس كلها حجارة هذا وظاهر بعض الأخبار يقتضي خلاف ذلك.
فقد أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجة والترمذي وقال حسن صحيح والحاكم وقال صحيح
172
لا نعرف له علة وخلق آخرون عن صفوان بن عسال «أن يهوديين قال. أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي نسأله فأتياه صلّى الله عليه وسلّم فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال عليه الصلاة والسلام: لا تشركوا بالله شيئا ولا تزنوا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله تعالى إلا بالحق ولا تسرقوا ولا تسحروا ولا تأكلوا الربا ولا تمشوا ببريء إلى سلطان ليقتله ولا تقذفوا محصنة ولا تفروا من الزحف».
وفي رواية «أو قال لا تفروا من الزحف- شك شعبة- وعليكم يا يهود خاصة أن لا تعتدوا في السبت فقبلا يديه ورجليه وقالا نشهد إنك نبي» الخبر
، ومن هنا قيل المراد بالآيات الأحكام، وقال الشهاب الخفاجي: إنه التفسير الصحيح، ووجه إطلاقها عليها بأنها علامات على السعادة لمن امتثلها والشقاوة لغيره، وقيل أطلقت عليها لأنها نزلت في ضمن آيات بمعنى عبارات دالة على المعاني نحو آيات الكتاب فيكون من قبيل إطلاق الدال وإرادة المدلول، وقيل لا ضير أن يراد على ذلك بالآيات العبارات الإلهية الدالة على تلك الأحكام من حيث إنها دالة عليها، وفيه وكذا في سابقة القول بإطلاق الآيات على ما أنزل على غير نبينا صلّى الله عليه وسلّم من العبارات الإلهية كإطلاقها على ما أنزل عليه عليه الصلاة والسلام منها. واستشكل بأن الآيات في الرواية التي لا شك فيها عشرة وما في الآية المسئول عنها تسع، وأجيب بأن الأخير فيها أعني لا تعتدوا في السبت ليس من الآيات لأن المراد بها أحكام عامة ثابتة في الشرائع كلها وهو ليس كذلك ولذا غير الأسلوب فيه فهو تذييل للكلام وتتميم له بالزيادة على ما سألوه صلّى الله عليه وسلّم، وفي الكشف أنه من الأسلوب الحكيم لأنه عليه الصلاة والسلام لما ذكر التسع العامة في كل شريعة ذكر خاصا بهم ليدل على إحاطة علمه صلّى الله عليه وسلّم بالكل وهو حسن وليس الأسلوب الحكيم فيه بالمعنى المشهور فإطلاق القول بأنه ليس من الأسلوب الحكيم كما فعل الخفاجي ليس في محله.
وقال بعض الأجلة: إن هذه الأشياء لا تعلق لها بفرعون وإنما أوتيها بنو إسرائيل ولعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم بما ذكر لما أنه المهم للسائل وقبوله لما أنه كان في التوراة مسطورا وقد علم أنه ما علمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا من جهة الوحي اه.
وتعقب بأنا لا نسلم أنه يجب في الآيات المذكورة في الآية أن تكون مما له تعلق بفرعون وما بعد ليس نصا في ذلك نعم هو كالظاهر فيه لكن كثيرا ما تترك الظواهر للأخبار الصحيحة سلمنا أنه يجب أن يكون لها تعلق لكن لا نسلم أن تلك الأحكام لا تعلق لها لجواز أن يكون كلها أو بعضها مما خوطب به فرعون وبنو إسرائيل جميعا لا بد لنفي ذلك من دليل، وكأن حاصل ما أراد من قوله لعل جوابه صلّى الله عليه وسلّم إلخ أن ذلك الجواب من الأسلوب الحكيم بأن يكون موسى عليه السلام قد أوتي تسع آيات بينات بمعنى المعجزات الواضحات وهي المرادة في الآية وأوتي تسعا أخرى بمعنى الأحكام وهي غير مرادة إلا أن الجواب وقع عنها لما ذكر وهو كما ترى فتأمل.
فمؤيدات كل من التفسيرين أعني تفسير الآيات بالأدلة والمعجزات وتفسيرها بالأحكام متعارضة وأقوى ما يؤيد الثاني الخبر فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وقرأ جمع «فسل» والظاهر أنه خطاب لنبينا صلّى الله عليه وسلّم والسؤال بمعناه المشهور إلا أن الجمهور على أنه خطاب لموسى عليه السلام، والسؤال إما بمعنى الطلب أو بمعناه المشهور لقراءة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأخرجها أحمد في الزهد وابن المنذر وابن جرير وغيرهم عن ابن عباس فسأل على صيغة الماضي بغير همز كقال وهي لغة قريش فإنهم يبدلون الهمزة المتحركة وذلك لأن هذه القراءة دلت على أن السائل موسى عليه السلام وأنه مستعقب عن الإيتاء فلا يجوز أن يكون فاسأل خطابا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لئلا تتخالف القراءتان ولا بد إذ ذاك من إضمار لئلا يختلفا خبرا وطلبا أي فقلنا له اطلبهم من فرعون وقل له أرسل معي بني إسرائيل أو اطلب منهم أن يعاضدوك وتكون قلوبهم وأيديهم
173
معك أو سلهم عن إيمانهم وعن حال دينهم واستفهم منهم هل هم ثابتون عليه أو اتبعوا فرعون ويتعلق بالقول بالمضمر قوله تعالى: إِذْ جاءَهُمْ وهو متعلق بسأل على قراءته صلّى الله عليه وسلّم والدليل على ذلك المضمر في اللفظ قوله تعالى: فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ لأنه لو كان فاسأل خطابا لنبينا عليه الصلاة والسلام لانفك النظم وأيضا لا يظهر استعقابه ولا تسببه عن إيتاء موسى عليه السلام نعم جعل الذاهبون إلى الأول فاسأل اعتراضا من باب زيد فاعلم فقيه والفاء تكون للاعتراض كالواو وعلى ذلك قوله:
واعلم فعلم المرء ينفعه أن سوف يأتي كل ما قدرا
وهذا الوجه مستغن عن الإضمار وإِذْ جاءَهُمْ متعلق عليه بآتينا ظرفا ولا يصح تعلقه بسل إذ ليس سؤاله صلّى الله عليه وسلّم في وقت مجيء موسى عليه السلام، قال في الكشف: والمعنى فاسأل يا محمد مؤمني أهل الكتاب عن ذلك إما لأن تظاهر الأدلة أقوى، وإما من باب التهييج والإلهاب، وإما للدلالة على أنه أمر محقق عندهم ثابت في كتابهم وليس المقصود حقيقة السؤال بل كونهم أعني المسئولين من أهل علمه ولهذا يؤمر مثلك بسؤالهم وهذا هو الوجه الذي يحمل به موقع الاعتراض، وجوز أن يكون منصوبا باذكر مضمرا على أنه مفعول به وجاز على هذا أن لا يجعل فَسْئَلْ اعتراضا ويجعل اذكر بدلا عن اسأل لما سمعت من أن السؤال ليس على حقيقته وكذا جوز أن يكون منصوبا كذلك بيخبروك مضمرا وقع جواب الأمر أي سلهم يخبروك إذ جاءهم.
ولا يجوز على هذا الاعتراض، نعم يجوز الاعتراض على هذا بأن أخبر يتعدى بالباء أو عن لا بنفسه فيجب أن يقدر بدل الإخبار الذكر ونحوه مما يتعدى بنفسه وإما جعله ظرفا له غير صحيح إذ الإخبار غير واقع في وقت المجيء، واعترض أيضا بأن السؤال عن الآيات والجواب بالإخبار عن وقت المجيء أو ذكره لا يلائمه.
ويمكن الجواب بأن المراد يخبروك بذلك الواقع وقت مجيئه لهم أو يذكروا ذلك لك وهو كما ترى، وبعضهم جوز تعلقه بيخبروك على أن إذ للتعليل، وعلى هذا يجوز تعلقه باذكر، والمعنى على سائر احتمالات كون الخطاب لنبينا عليه الصلاة والسلام إذ جاء آباءهم إذ بنو إسرائيل حينئذ هم الموجودون في زمانه صلّى الله عليه وسلّم وموسى عليه السلام ما جاءهم فالكلام إما على حذف مضاف أو على ارتكاب نوع من الاستخدام، والاحتمالات على تقدير جعل الخطاب لمن يسمع هي الاحتمالات التي سمعت على تقدير جعله لسيد السامعين عليه الصلاة والسلام.
والفاء في فَقالَ على سائر الاحتمالات والأوجه فصيحة والمعنى إذ جاءهم فذهب إلى فرعون وادعى النبوة وأظهر المعجزة وكيت وكيت فقال: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك ولذلك اختل كلامك وادعيت ما ادعيت وهو كقوله: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: ٢٧].
وقال الفراء والطبري: مسحورا بمعنى ساحرا على النسب أو حقيقة وهو يناسب قلب العصا ونحوه على تفسير الآيات بالمعجزات قالَ موسى عليه السلام ردا لقوله المذكور لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع أو بعضها والإشارة إلى ذلك بما ذكر على حد قوله على إحدى الروايتين والعيش بعد أولئك الأيام. وقد مر إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي خالقهما ومدبرهما، وحاصل الرد أن علمك بأن هاتيك الآيات من الله تعالى إذ لا يقدر عليها سواه تعالى يقتضي أني لست بمسحور ولا ساحر وأن كلامي غير مختل لكن حب الرياسة حملك على العناد في التعرض لعنوان الربوبية إيماء إلى ان إنزالها من آثار ذلك، وفي البحر ما أحسن إسناد إنزالها إلى رب السموات والأرض إذ هو عليه السلام لما سأله فرعون في أول محاورته فقال له: وما رب العالمين؟ قال: رب السموات والأرض تنبيها على نقصه وأنه لا تصرف له في الوجود فدعواه الربوبية دعوى مستحيل فبكته وأعلمه أنه يعلم آيات الله تعالى
174
ومن أنزلها ولكنه مكابر معاند كقوله تعالى: وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤] وخاطبه بذلك على سبيل التوبيخ أي أنت بحال من يعلم هذه أو هي من الوضوح بحيث تعلمها وليس خطابه على جهة إخباره عن علمه أو العلم بعلمه ليكون إفادة لازم الخبر كقولك لمن حفظ التوراة حفظت التوراة.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجه وزيد بن علي رضي الله تعالى عنهما والكسائي «لقد علمت» بضم التاء
فيكون موسى عليه السلام قد أخبر عن نفسه أنه ليس بمسحور كما زعم عدو الله تعالى وعدوه بل هو يعلم أن ما أنزل تلك الآيات إلا خالق السموات والأرض ومدبرهما، وروي عن الأمير كرم الله تعالى وجهه أنه قال: والله ما علم عدو الله تعالى ولكن موسى عليه السلام هو الذي علم، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأنه رواه كلثوم المرادي وهو مجهول وكيف يقول ذلك باب مدينة العلم كرم الله تعالى وجهه، ووجه نسبة العلم إليه ظاهر.
وقد ذكر الجلال السيوطي في الدر المنثور أن سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم أخرجوا عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه كان يقرأ بالضم ويقول ذلك
ولم يتعقبه بشيء، ولعل هذا المجهول الذي ذكره أبو حيان في أسانيدهم والله تعالى أعلم.
وجملة ما أَنْزَلَ إلخ معلق عنها سادة (١) مسد عَلِمْتَ وقوله تعالى: بَصائِرَ حال من هؤلاء والعامل فيه أنزل المذكور عند الحوفي وأبي البقاء وابن عطية وما قبل إلا يعمل فيما بعدها إذا كان مستثنى منه أو تابعا له وقد نص الأخفش والكسائي على جواز ما ضرب هندا إلا زيد ضاحكة ومذهب الجمهور عدم الجواز فإن ورد ما ظاهره ذلك أول عندهم على إضمار فعل يدل عليه ما قبل والتقدير هنا أنزلها بصائر أي بينات مكشوفات تبصرك صدقي على أنه جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بينة وتطلق البصائر على الحجج بجعلها كأنها بصائر العقول أي ما أنزلها إلا حججا وأدلة على صدقي وتكون بمعنى العبرة كما ذكره الراغب، هذا ولا يخفى عليك أنه إذا كان المراد من الآيات التسع ما اقتضاه خبر صفوان السابق يجوز أن تكون هؤُلاءِ إشارة إلى ما أظهره عليه السلام من المعجزات ويعتبر إظهار ذلك فيما يفصح عنه الفاء الفصيحة وإن أبيت إلا جعلها إشارة إلى الآيات المذكورة بذلك المعنى لتحقق جميعها من أول الأمر وثبوتها وقت المحاورة وشدة ملاءمة الإنزال لها احتجت إلى ارتكاب نوع تكلف فيما لا يخفى عليك وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا كما روي عن الحسن ومجاهد على أنه من ثبر اللازم بمعنى هلك، ومفعول فيه للنسب بناء على أنه يأتي له من اللازم والمتعدي، وفسره بعضهم بمهلكا وهو ظاهر، وعن الفراء أنه قال: أي مصروفا عن الخير مطبوعا على الشر من قولهم: ما ثبرك عن هذا أي ما منعك وإليه يرجع ما أخرجه الطستي عن ابن عباس من تفسيره بملعونا محبوسا عن الخير.
وأخرج الشيرازي في الألقاب وابن مردويه من طريق ميمون بن مهران عنه رضي الله تعالى عنه تفسيره بناقص العقل، وفي معناه تفسير الضحاك بمسحور قال: رد موسى عليه السلام بمثل ما قال له فرعون مع اختلاف اللفظ، وأخرج ابن أبي الدنيا في ذم الغضب عن أنس بن مالك أنه سئل عن مَثْبُوراً في الآية فقال: مخالفا ثم قال: الأنبياء عليهم السلام (٢) من أن يلعنوا أو يسبوا، وأنت تعلم أن هذا معنى مجازي له وكذا ناقص العقل ولا داعي إلى ارتكابه، وما
(١) قوله مسد علمت كذا بخط مؤلفه وسقط منه مضاف والأصل مسد مفعولي علمت.
(٢) قوله الأنبياء عليهم السلام من أن يلعنوا إلخ كذا بخطه ولعل فيه سقطا من قلمه والأصل الأنبياء عليهم السلام مبرؤون من أن يلعنوا إلخ أو نحو ذلك وفي الدر المنثور الأنبياء أكرم من أن تلعن أو تسب. [.....]
175
ذكره الإمام مالك فيه ما فيه، نعم قيل: إن تفسيره بهالكا ونحوه مما فيه خشونة ينافي قوله تعالى خطابا لموسى وهارون عليهما السلام: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً [طه: ٤٤] وأشار أبو حيان إلى جوابه بأن موسى عليه السلام كان أولا يتوقع من فرعون المكروه كما قال: إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى [طه: ٤٥] فأمر أن يقول له قولا لينا فلما قال سبحانه له: لا تَخَفْ [طه: ٢١، ٦٨ وغيرها] وثق بحماية الله تعالى فصال عليه صولة المحمي وقابله من الكلام بما لم يكن ليقابله به قبل ذلك، وفيه كلام ستطلع عليه إن شاء الله تعالى في محله، وبالجملة التفسير الأول أظهر التفاسير ولا ضير فيه لا سيما مع تعبير موسى عليه السلام بالظن ثم إنه عليه السلام قد قارع ظنه بظنه وشتان ما بين الظنين فإن ظن فرعون إفك مبين وظن موسى عليه السلام يحوم حول اليقين.
وقرأ أبي، وابن كعب «وإن أخالك يا فرعون لمثبورا» على إن المخففة واللام الفارقة، وأخال بمعنى أظن بكسر الهمزة في الفصيح وقد تفتح في لغة كما في القاموس.
فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أي موسى وقومه، وأصل الاستفزاز الإزعاج وكنى به عن إخراجهم مِنَ الْأَرْضِ أي أرض مصر التي هم فيها أو من جميع الأرض ويلزم إخراجهم من ذلك قتلهم واستئصالهم وهو المراد فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فعكسنا عليه مكره حيث أراد ذلك لهم دونه فكان له دونهم فاستفز بالإغراق هو وقومه وهذا التعكيس أظهر من الشمس على الثاني وظاهر على الأول لأنه أراد إخراجهم من مصر فأخرج هو أشد الإخراج بالإهلاك والزيادة لا تضر في التعكيس بل تؤيده.
وَقُلْنا على لسان موسى عليه السلام مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد فرعون على معنى من بعد إغراقه أو الضمير للإغراق المفهوم من الفعل السابق أي من بعد إغراقه وإغراق من معه لِبَنِي إِسْرائِيلَ الذين أراد فرعون استفزازهم اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها وهي أرض مصر، وهذا ظاهر أن ثبت أنهم دخلوها بعد أن خرجوا منها واتبعهم فرعون وجنوده وأغرقوا وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية أولئك الذين أراد فرعون استفزازهم، واختار غير واحد أن المراد من الأرض الأرض المقدسة وهي أرض الشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الكرة أو الحياة أو الساعة أو الدار الآخرة، والمراد على جميع ذلك قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي مختلطين أنتم وهم ثم نحكم بينكم ونميز سعداء كم من أشقيائكم وأصل اللفيف الجماعة من قبائل شتى فهو اسم جمع كالجميع ولا واحد له أو هو مصدر شامل للقليل والكثير لأنه يقال لف لفا ولفيفا، والمراد منه ما أشير إليه، وفسره ابن عباس بجميعا وكيفما كان فهو حال من الضمير المجرور في بكم، ونص بعضهم على أن في بِكُمْ تغليب المخاطبين على الغائبين، والمراد بهم وبكم وما ألطفه مع لَفِيفاً وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ عود إلى شرح حال القرآن الكريم فهو مرتبط بقوله تعالى لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: ٨٨] الآية وهكذا طريقة العرب في كلامها تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى آخر ثم إلى آخر ثم تعود إلى ما ذكرته أولا والحديث شجون فضمير الغائب للقرآن وأبعد من ذهب إلى أنه لموسى عليه السلام، والآية مرتبطة بما عندها، والإنزال فيها كما في قوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ [الحديد:
٢٥] وقد حمله بعضهم على هذا المعنى فيما قبل أو للآيات التسع وذكر على المعنى أو للوعد المذكور آنفا، والظاهر أن الباء في الموضعين للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من ضمير القرآن واحتمال أن يكون أولا حالا من ضميره تعالى خلاف الظاهر، والمراد بالحق الأول على ما قيل الحكمة الإلهية المقتضية لإنزاله وبالثاني ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ونحوها أي ما أنزلناه إلا ملتبسا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق الذي اشتمل عليه، وقيل الباء الأولى للسببية متعلقة بالفعل بعد والثانية للملابسة، وقيل هما للسببية فيتعلقان بالفعل وقال أبو سليمان
176
الدمشقي: الحق الأول التوحيد والثاني الوعد والوعيد والأمر والنهي، وقيل الحق في الموضعين الأمر المحفوظ الثابت، والمعنى ما أنزلناه من السماء إلا محفوظا بالرصد من الملائكة وما نزل على الرسول إلا محفوظا بهم من تخليط الشياطين، وحاصله أنه محفوظ حال الإنزال وحال النزول وما بعده لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
وأبعد من جوز كون المراد بالحق الثاني النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعنى نزوله به نزوله عليه وحلوله عنده من قولهم نزل بفلان ضيف، وعلى سائر الأوجه لا تخفى فائدة ذكر الجملة الثانية بعد الأولى، وما يتوهم من التكرار مندفع ونحا الطبري إلى أن الجملة الثانية توكيد للأولى من حيث المعنى لأنه يقال أنزلته فنزل وأنزلته فلم ينزل إذا عرض له مانع من النزول فجاءت الجملة الثانية مزيلة لهذا الاحتمال وتحاشى بعضهم من إطلاق التوكيد لما بين الإنزال والنزول من المغايرة وادعى أنه لو كانت الثانية توكيدا للأولى لما جاز العطف لكمال الاتصال وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَنَذِيراً للعاصي من العقاب فلا عليك إلا التبشير والإنذار لا هداية الكفرة المقترحين وإكراههم على الدين ولعل الجملة لتحقيق حقية بعثته صلّى الله عليه وسلّم إثر تحقيق حقيقة القرآن ونصب ما بعد إلا على الحال.
وَقُرْآناً نصب بفعل مضمر يفسره قوله تعالى فَرَقْناهُ فهو من باب الاشتغال ورجع النصب على الرفع العطف على الجملة الفعلية ولو رفع على الابتداء في غير القرآن جاز إلا أنه لا بد له من ملاحظة مسوغ عند من لا يكتفي في صحة الابتداء بالنكرة بحصول الفائدة وعلى هذا أخرجه الحوفي.
وقال ابن عطية: هو مذهب سيبويه، وقال الفراء: هو منصوب بأرسلناك أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وقرآنا كما تقول رحمة لأن القرآن رحمة، ولا يخفى أنه إعراب متكلف لا يكاد يقوله فاضل، ومما يقضي منه العجب ما جوزه ابن عطية من نصبه بالعطف على الكاف في أَرْسَلْناكَ.
وقال أبو البقاء: وهو دون الأول وفوق ما عداه إنه منصوب بفعل مضمر دل عليه آتَيْنا السابق أو أَرْسَلْناكَ وجملة فَرَقْناهُ في موضع الصفة له أي آتيناك قرآنا فرقناه أي أنزلناه منجما مفرقا أو فرقنا فيه بين الحق والباطل فحذف الجار وانتصب مجروره على أنه مفعول به على التوسع كما في قوله: ويوما شهدناه سليما وعامرا وروي ذلك عن الحسن، وعن ابن عباس بينّا حلاله وحرامه، وقال الفراء: أحكمناه وفصلناه كما في قوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: ٤] وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأبي وعبد الله وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمر بن قائد وزيد بن علي وعمرو بن ذر وعكرمة والحسن بخلاف عنه «فرقّناه» بشد الراء ومعناه كالمخفف أي أنزلناه مفرقا منجما بيد أن التضعيف للتكثير في الفعل وهو التفريق، وقيل فرق بالتخفيف يدل على فصل متقارب وبالتشديد على فصل متباعد والأول أظهر، ولما كان قوله تعالى الآتي عَلى مُكْثٍ يدل على كثرة نجومه كانت القراءتان بمعنى، وقيل معناه فرقنا آياته بين أمر ونهي وحكم وأحكام ومواعظ وأمثال وقصص وأخبار مغيبات أتت وتأتي والجمهور على الأول.
وقد أخرج ابن أبي حاتم وابن الأنباري وغيرهما عن ابن عباس قال: نزل القرآن جملة واحدة من عند الله تعالى من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا فنجمته السفرة على جبريل عليه السلام عشرين ليلة ونجمه جبريل عليه السلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم عشرين سنة
وفي رواية أنه أنزل ليلة القدر في رمضان ووضع في بيت العزة في السماء الدنيا ثم أنزل نجوما في عشرين
وفي رواية في ثلاث وعشرين سنة
وفي أخرى في خمس وعشرين
، وهذا الاختلاف على ما في البحر مبني على الاختلاف في سنة صلّى الله عليه وسلّم.
177
وأخرج ابن الضريس من طريق قتادة عن الحسن كان يقول: أنزل الله القرآن على نبي الله صلّى الله عليه وسلّم في ثماني عشرة سنة ثمان سنين بمكة وعشر بعد ما هاجر.
وتعقبه ابن عطية بأنه قول مختل لا يصح عن الحسن، واعتمد جمع أن بين أوله وآخره ثلاثا وعشرين سنة وكان ينزل به جبريل عليه السلام على ما قيل خمس آيات خمس آيات، فقد أخرج البيهقي في الشعب عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات فإن جبريل عليه السلام كان ينزل به خمسا خمسا. وأخرج ابن عساكر من طريق أبي نضرة قال: كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس آيات بالغداة وخمس آيات بالعشي ويخبر أن جبريل عليه السلام نزل به خمس آيات خمس آيات، وكان المراد في الغالب فإنه قد صح أنه نزل بأكثر من ذلك وبأقل منه.
وقرأ أبي وعبد الله «فرقناه عليك» لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي تؤدة وتأنّ فإنه أيسر للحفظ وأعون على الفهم وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقيل أي تطاول في المدة وتقضيها شيئا فشيئا، والظاهر تعلق لتقرأه بفرقناه وعلى الناس بتقرأه وعلى مكث به أيضا إلا أن فيه تعلق حرفي جر بمعنى بمتعلق واحد. وأجيب بأن تعلق الثاني بعد اعتبار تعلق الأول به فيختلف المتعلق، وفي البحر لا يبالى بتعلق هذين الحرفين بما ذكر لاختلاف معناهما لأن الأول في موضع المفعول به والثاني في موضع الحال أي متمهلا مترسلا، ولما في ذلك من القيل والقال اختار بعضهم تعلقه بفرقناه، وجوز الخفاجي تعلقه بمحذوف أي تفريقا أو فرقا على مكث أو قراءة على مكث منك كمكث تنزيله، وجعله أبو البقاء في موضع الحال من الضمير المنصوب في فرقناه أي متمكثا، ومن العجيب قول الحوفي أنه بدل من عَلَى النَّاسِ وقد تعقبه أبو حيان بأنه لا يصح لأن عَلى مُكْثٍ من صفات القارئ أو من صفات المقروء وليس من صفات الناس ليكون بدلا منهم، والمكث مثلث الميم وقرىء بالضم والفتح ولم يقرأ بالكسر وهو لغة قليلة، وزعم ابن عطية إجماع القراء على الضم.
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث والمصالح فذكر هذا بعد قوله تعالى: فَرَقْناهُ إلخ مفيد وذلك لأن الأول دال على تدريج نزوله ليسهل حفظه وفهمه من غير نظر إلى مقتض لذلك وهذا أخص منه فإنه دال على تدريجه بحسب الاقتضاء قُلْ للذين كفروا آمِنُوا بِهِ أي بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي به على معنى أن إيمانكم به وعدم إيمانكم به سواء لأن إيمانكم لا يزيده كمالا وعدم إيمانكم لا يورثه نقصا.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ أي العلماء الذين قرؤوا الكتب السالفة من قبل تنزل القرآن وعرفوا حقيقة الوحي وأمارات النبوة وتمكنوا من تمييز الحق والباطل والمحق والمبطل أو رأوا نعتك ونعت ما أنزل إليك إِذا يُتْلى أي القرآن عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ الخرور السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن وهو مجتمع اللحيين ويطلق على ما ينبت عليه من الشعر مجازا وكذا يطلق على الوجه تعبيرا بالجزء عن الكل قيل وهو المراد وروي عن ابن عباس فكأنه قيل يسقطون بسرعة على وجوههم سُجَّداً تعظيما لأمر الله تعالى أو شكرا لإنجاز ما وعد به في تلك الكتب من بعثتك والظاهر أن هنا خروا وسجودا على الحقيقة، وقيل: لا شيء من ذلك وإنما المقصود أنهم ينقادون لما سمعوا ويخضعون له كمال الانقياد والخضوع فأخرج الكلام على سبيل الاستعارة التمثيلية، وفسر الخرور للأذقان بالسقوط على الوجوه الزمخشري ثم قال: وإنما ذكر الذقن لأنه أول ما يلقى الساجد به الأرض من وجهه، وقيل: فيه نظر لأن الأول هو الجبهة والأنف ثم وجه بأنه إذا ابتدأ الخرور فأقرب الأشياء من وجهه إلى الأرض هو الذقن، وكأنه أريد أول ما يقرب من اللقاء، وجوز أن تبقى الأذقان على حقيقتها والمراد المبالغة في الخشوع وهو تعفير اللحى على التراب أو
178
أنه ربما خروا على الذقن كالمغشى عليهم لخشية الله تعالى، وقيل: لعل سجودهم كان هكذا غير ما عرفناه وهو كما ترى.
وقال صاحب الفرائد المراد المبالغة في التحامل على الجبهة والأنف حتى كأنهم يلصقون الأذقان بالأرض وهو وجه حسن جدا واللام على ما نص عليه الزمخشري للاختصاص وذكر أن المعنى جعلوا أذقانهم للخرور واختصوها به.
ومعنى هذا الاختصاص على ما في الكشف أن الخرور لا يتعدى الأذقان إلى غيرها من الأعضاء المقابلة وحقق ذلك بما لا مزيد عليه واعترض القول بالاختصاص بأنه مخالف لما سبق من قوله: إن الذقن أول ما يلقي الساجد به الأرض وأجيب بما أجيب وتعقبه الخفاجي بأنه مبني على أن الاختصاص الذي تدل عليه اللام بمعنى الحصر وليس كذلك وإنما هو بمعنى تعلق خاص ولو سلّم فمعنى الاختصاص بالذقن الاختصاص بجهته ومحاذيه وهي جهة السفل ولا شك في اختصاصه به إذ هو لا يكون لغيره يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يقعون على الأرض عند التحقيق، والمراد تصوير تلك الحالة كما في قوله: فخر صريعا لليدين وللفم فتأمل.
واختار بعضهم كون اللام بمعنى على، وزعم بعض عود ضميري بِهِ وقَبْلِهِ على النبي صلّى الله عليه وسلّم ويأباه السباق واللحاق، وأخرج ابن المنذر وابن جرير أن ضمير يُتْلى لكتابهم ولا يخفى حاله والظاهر أن الجملة الاسمية داخلة في حيز قُلْ وهي تعليل لما يفهم من قوله تعالى: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا من عدم المبالاة بذلك أي إن لم تؤمنوا به فقد آمن به أحسن إيمان من هو خير منكم، ويجوز أن لا تكون داخلة في حيز قل بل هي تعليل له على سبيل التسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنه قيل تسل بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة ولا تكترث بإيمانهم وأغراضهم وقد ذكر كلا الوجهين الكشاف قال في الكشف والحاصل أن المقصود التسلي والازدراء وعدم المبالاة المفيد للتوبيخ والتقريع مفرع عليه مدمج أو بالعكس والصيغة في الثاني أظهر والتعليل بقوله سبحانه إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في الأول.
وقال ابن عطية يتوجه في الآية معنى آخر وهو أن قوله سبحانه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إنما جاء للوعيد والمعنى افعلوا أي الأمرين شئتم فسترون ما تجازون به ثم ضرب لهم المثل على جهة التقريع بمن تقدم من أهل الكتاب أي إن الناس لم يكونوا كما أنتم في الكفر بل كان الذين أوتوا التوراة والإنجيل والزبور والكتب المنزلة إذا يتلى عليهم ما أنزل عليهم خشعوا وآمنوا اه، وهو بعيد جدا ولا يخلو عن ارتكاب مجاز.
وربما يكون في الكلام عليه استخدام وَيَقُولُونَ أي في سجودهم أو مطلقا سُبْحانَ رَبِّنا عن خلف وعده أو عما يفعل الكفرة من التكذيب إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إن مخففة من المثقلة واسمها ضمير شأن واللام فارقة أي إن الشأن هذا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرر الخرور للأذقان لاختلاف السبب فإن الأول لتعظيم أمر الله تعالى أو الشكر لإنجاز الوعد والثاني لما أثر فيهم من مواعظ القرآن، والجار والمجرور إما متعلق بما عنده أو بمحذوف وقع حالا مما قبل أو مما بعد أي ساجدين، وجملة يَبْكُونَ حال أيضا أي باكين من خشية الله تعالى، ولما كان البكاء ناشئا من الخشية الناشئة من التفكر الذي يتجدد جيء بالجملة الفعلية المفيدة للتجدد، وقد جاء في مدح البكاء من خشيته تعالى أخبار كثيرة
فقد أخرج الحكيم الترمذي عن النضر بن سعد قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لو أن عبدا بكى في أمة لأنجى الله تعالى تلك الأمة من النار ببكاء ذلك العبد وما من عمل إلا له وزن وثواب إلا الدمعة فإنها تطفئ بحورا من النار وما اغرورقت عين بمائها من خشية الله تعالى إلا حرم الله تعالى جسدها على النار فإن فاضت على خده لم يرهق وجهه قتر ولا ذلة»
وأخرج أيضا عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله تعالى وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى»
وأخرج هو والنسائي ومسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله
179
صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله تعالى حتى يعود اللبن في الضرع ولا اجتمع على عبد غبار في سبيل الله تعالى ودخان جهنم» زاد النسائي في منخريه ومسلم أبدا
، وينبغي أن يكون ذلك حال العلماء فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وغيرهما عن عبد الأعلى التيمي أنه قال: إن من أوتي من العلم ما لا يبكيه لخليق أن قد أوتي من العلم ما لا ينفعه لأن الله تعالى نعت أهل العلم فقال وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ أي القرآن بسماعهم خُشُوعاً لما يزيدهم علما ويقينا بأمر الله تعالى على ما حصل عندهم من الأدلة.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ
أخرج ابن جرير وابن مروديه عن ابن عباس قال: صلى صلّى الله عليه وسلّم بمكة ذات يوم فدعا الله تعالى فقال في دعائه: يا الله يا رحمن فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابىء ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو إلهين فنزلت،
وعن الضحاك أنه قال: قال أهل الكتاب للرسول صلّى الله عليه وسلّم: إنك لتقل ذكر الرحمن وقد أكثر الله تعالى في التوراة هذا الاسم فنزلت
، والمراد على الأول التسوية بين اللفظين بأنهما عبارتان عن ذات واحد وإن اختلف الاعتبار والتوحيد إنما هو للذات الذي هو المعبود وهو يلائم قوله تعالى فيما بعد وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وعلى الثاني التسوية في حسن الإطلاق والإفضاء إلى المقصود فإن أهل الكتاب فهموا أحسنية الرحمن لكونه أحب إليه تعالى إذ أكثر ذكره في كتابهم وكأن حكمة ذلك أن موسى عليه السلام كان غضوبا كما دلت عليه الآثار فأكثر له من ذكر الرحمن ليعامل أمته بمزيد الرحمة لأن الأنبياء عليهم السلام يتخلقون بأخلاق الله تعالى، قال القاضي البيضاوي: وهذا أجوب لقوله تبارك اسمه أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى لأن توصيف الأسماء بالحسنى يفهم منه أن المقول لهم ذلك يظنون أحسنية اسم من اسم لا التغاير، وقال صاحب الكشف: الغرض على الوجهين التسوية بين اللفظين في الحسن والاختلاف إنما هو بأن الاستواء في الحسن رد لمن قال: إنك لتقل إلخ بأن الإتيان بأحد الحسنين كاف أو لمن قال: ينهانا أن ندعو إلهين وهو يدعو بأن الاختلاف بين اللفظين الدالين على كماله تعالى لا بين كاملين فالأجوبية ممنوعة انتهى.
وتعقب بأن أنسبية التوصيف بالحسنى للثاني ظاهرة مما لا تكاد تنكر، ووجه الطيبي الأجوبية بأن اعتراض اليهود كان تعبيرا للمسلمين على ترجيح أحد الاسمين على الآخر واعتراض المشركين كان تعبيرا على الجمع بين اللفظين، وقوله تعالى: «أيّا ما تدعوا» يطابق الرد على اليهود لأن المعنى أي اسم من الاسمين دعوتموه فهو حسن وهو لا ينطبق على اعتراض المشركين ثم قال: هذا مسلم إذا كان أو للتخيير ويجوز أن تكون للإباحة والانطباق حينئذ ظاهر فإن المشركين حظروا الجمع بين الاسمين فيكون ردهم بإباحة الجمع بين الأسماء المتكاثرة فضلا عن الجمع بين الاسمين على أن الجواب بالتخيير في الرد على أهل الكتاب غير مطابق لأنهم اعترضوا بالترجيح. وأجيب بالتسوية لأن أو تقتضيها، وكان الجواب العتيد أن يقال: إنما رجحنا الله على الرحمن في الذكر لأنه جامع لجميع صفات الكمال بخلاف الرحمن، وسيأتي قريبا إن شاء الله تعالى تتمة الكلام فيما يتعلق بهذا.
ومنع الأجوبية أيضا الجلبي بأن تقديم الخبر في قوله تعالى: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يقتضي أجوبية الأول إذ معناه هذه الأسماء لله تعالى لا لغيره كما زعم المشركون إلا أن يقال أو للتخيير وهو غير مسلم بل يتعين كونها للإباحة لأنها كما قال الرضي وغيره يجوز الجمع فيها بين المتعاطفين والاقتصار على أحدهما وفي التخيير لا يجوز الجمع وهو هنا جائز. ودفع بأن المعنى لله تعالى أسماء متفقة في الحسن لأنها لا تختلف مدلولاتها بالذات بخلاف غيره سبحانه فإن أسماءه تختلف فالقصر إذا كان بأن لم يكن التقديم لمجرد التشويق ناظر إلى الوصف لا للأسماء وهذا لا يتوقف على تسليم التخيير، ثم إنه لا مانع من إرادته بل أي تقتضيه لأنها لأحد الشيئين فإذا قلت لأحد: أي الأمرين
180
تفعل فافعل لم تأمره بفعلهما بل بفعل أحدهما وأما الدلالة على جواز الجمع فمن خارج النظم ودلالة العقل لأنهم إذا لم يتنافيا جاز الجمع بينهما، ومن هنا تعلم أنه لا حاجة إلى حمل التخيير في كلام من عبر به على غير الاصطلاح المشهور الذي هو اصطلاح النحاة فيه إذا قوبل بالإباحة بأن يقال: مراده به التسوية بين الاسمين في الدلالة على ذات واحدة وسواء فيه الإفراد والجمع، قال في التلويح: وفي التخيير قد يجوز الجمع بحكم الإباحة الأصلية وهذا يسمى التخيير على سبيل الإباحة اه. والظاهر أن الحق مع مانع الأجوبية والقائل بالإباحة فتدبر، والدعاء على ما اختاره أبو حيان وجماعة بمعنى النداء، وقال الزمخشري: هو بمعنى التسمية لا بمعنى النداء وهو يتعدى إلى مفعولين تقول دعوته زيدا ثم يترك أحدهما استغناء عنه فتقول دعوت زيدا، والأصل على ما قيل أن يتعدى إلى الثاني بالباء لكنه يتسع فيحذف الباء والمفعول الآخر هنا محذوف أي سموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم وكذا يقال في الدعاء الثاني، وعلل ذلك بأنه لو حمل على الحقيقة المشهورة يلزم إما الاشتراك إن تغاير مدلولا الاسمين أو عطف الشيء على نفسه بأو وهو إنما يجوز بالواو إن اتحدا، وبحث فيه بأنا نختار الثاني ولا يلزم ما ذكر لأنه قصد اللفظ كما تقول نادي النبي صلّى الله عليه وسلّم بمحمد أو بأحمد مع أن اختلاف مفهوميهما يكفي لصحته، وما روي في سبب النزول أو لا ينادي على ما قيل على إرادة النداء، وقيل إن كانت الآية ردا على المشركين فهو بمعنى التسمية وإن كانت ردا على اليهود فهو بمعنى النداء وجعل الطيبي لذلك تفسير الزمخشري إياه بالتسمية مؤذنا بميله إلى أنها رد على المشركين وفي ذلك تأمل، وأَيًّا اسم شرط جازم منصوب بتدعوا وجازم له فهو عامل ومعمول من جهتين والتنوين عوض عن المضاف إليه المحذوف والتقدير أي هذين الاسمين وما حرف مزيد للتأكيد، وقيل إنها اسم شرط مؤكد به. وقرأ طلحة بن مصرف من بدل ما وخرج على زيادتها على مذهب الكسائي أو جعلها أداة شرط والجمع بين أداتي الشرط كالجمع بين حرفي الجر في قوله: فاصبحن لا يسألنني عن بما به شاذ، وجملة فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى واقعة موقع جواب الشرط وهي في الحقيقة تعليل له، وكأن أصل الكلام أيّا ما تدعوه به فهو حسن لأن له سبحانه الأسماء الحسنى اللاتي منها هذان، وفي العدول عن حق الجواب إقامة الشيء بدليله وفيه مبالغة لا تخفى، وهذا التقدير ظاهر على القول الثاني في سبب النزول ويقدر على القول الأول فيه فمدلوله واحد ونحوه، ولا حاجة إلى ذلك بل يقدر على القولين فهو حسن على ما سمعت عن صاحب الكشف.
وقال الطيبي وقد حمل أو على الإباحة وجعل الخطاب للمشركين: التقدير قل سموا ذاته المقدسة بالله وبالرحمن فهما سيان في استصواب التسمية بهما فبأيهما سميته فأنت مصيب وإن سميته بهما جميعا فأنت أصوب لأن له الأسماء الحسنى وقد أمرنا سبحانه بأن ندعوه بها في قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها فجواب الشرط الأول قولنا فأنت مصيب ودل على الشرط الثاني وجوابه قوله تعالى: فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى والآية على هذا فن من فنون الإيجاز الذي هو من حلية التنزيل، وعلى تقدير فهو حسن حسبما سمعت أولا من باب الإطناب اه وهو كما ترى.
ونقل في البحر أن منهم من وقف على أَيًّا على معنى أي اللفظين تدعوه به جاز ثم استأنف فقال ما تدعو فله الأسماء الحسنى. وتعقبه بأن هذا لا يصح لأن ما لا يطلق على آحاد ذوي العلم ولأن الشرط يقتضي عموما وهو لا يصح هنا، وضمير فَلَهُ عائد على المسمى أو المنادى المفهوم من الكلام والقرينة عقلية وهي أن الأسماء تكون للمسمى وللمنادى لا للاسم واللفظ المنادى به، وسيأتي إن شاء الله تعالى عن محيي الدين قدس سره غير ذلك في باب الإشارة، ووصف الأسماء بالحسنى لدلالتها على ما هو جامع لجميع صفات الكمال بحيث لا يشذ منها شيء وما
181
هو من صفات الجلال والجمال والإكرام، هذا واعلم أن الظاهر مما روي عن اليهود أنهم لا ينكرون حسن سائر أسمائه تعالى وإنما يزعمون أن الرحمن منها أحب أسمائه تعالى إليه وأعظمها وأشرفها لكثرة ذكره تعالى إياه في التوراة واختلاف أسمائه عزت أسماؤه في الشرف والعظم مما ذهب إليه المسلمون أيضا.
ويدل عليه تخصيصه صلّى الله عليه وسلّم بعض الأسماء بأنه الاسم الأعظم
فقد روي «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سمع رجلا يدعو وهو يقول: اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد فقال عليه الصلاة والسلام: والذي نفسي بيده لقد سأل الله تعالى باسمه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل به أعطى
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: اسم الله تعالى في هاتين الآيتين وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ [البقرة: ١٦٣] وفاتحة آل عمران الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ
ونص حجة الإسلام الغزالي في أوائل كتابه المقصد الأسنى على أن الله أعظم الأسماء التسعة والتسعين لأنه دال على الذات الجامعة لصفات الإلهية كلها وسائر الأسماء لا يدل آحادها إلا على آحاد المعاني من علم أو قدرة أو فعل أو غيره ولأنه أخص الأسماء إذ لا يطلقه أحد على غيره تعالى لا حقيقة ولا مجازا وسائر الأسماء قد يسمى به غيره عز وجل كالقادر والعليم والرحيم وغيرها، واسمه تعالى الرحمن لا يسمى به غيره تعالى أيضا وهو من هذا الوجه قريب من اسم الله سبحانه وإن كان مشتقا من الرحمة قطعا ولذا جمع عز وجل بينهما في قوله سبحانه قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ اه.
وقال في أواخره: فإن قيل ما بال تسعة وتسعين من أسمائه تعالى اختصت بأن من أحصاها دخل الجنة مع أن الكل أسماء الله تعالى فنقول: الأسامي يجوز أن تتفاوت فضيلتها لتفاوت معانيها في الجلالة والشرف فتكون تسعة وتسعون منها تجمع أنواعا من المعاني المنبئة عن الجلال لا يجمع ذلك غيرها مختص بزيادة شرف انتهى، وقال الإمام الرازي في هذه الآية: تخصيص هذين الاسمين يعني الله والرحمن بالذكر يدل على أنهما أشرف من سائر الأسماء، وتقديم اسم الله على اسم الرحمن يدل على قولنا: الله أعظم الأسماء إلى غير ذلك مما ذكره غير واحد من الأجلة، والآية إنما تصلح بحسب الظاهر ردا لما فهمه اليهود إذا كان المراد منها نفي التفاوت الذي زعموه وحينئذ يقع التعارض بينها وبين ما يدل على التفاوت من الأخبار، وقد يجعل هذا وجها لاختيار كون سبب النزول قول المشركين ولعل أثره أصح، وما نقلناه فيما سبق عن العلامة الطيبي مؤيد لما قلناه، واحتج الجبائي بالآية على أنه تعالى ليس خالق الظلم وإلا لصح اشتقاق اسم له سبحانه منه وحينئذ يبطل ما دلت عليه الآية من كون أسمائه تعالى بأسرها حسنى.
وأجيب بمنع الملازمة لأن الظلم ليس صفته عز وجل وكونه خالقا له لا يصح الاشتقاق منه وإلا لصح الاشتقاق من الطول والقصر والسواد والبياض لأنه تعالى خالق لذلك بالإتفاق، نعم لا ينبغي أن يقال لله تبارك وتعالى خالق القبيح للزوم الأدب معه سبحانه ويقال خالق كل شيء. وما هو من أسمائه جلت أسماؤه الخالق لا خالق كذا فافهم سلك الله تعالى بنا وبك الطريق الأقوم.
وهذه الآية على ما قيل من آيات الحفظ بناء على ما
أخرج البيهقي في الدلائل من طريق نهشل بن سعيد عن الضحاك عن ابن عباس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قال في قوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر الآية هو أمان من السرق
وأن رجلا من المهاجرين تلاها حين أخذ مضجعه فدخل عليه سارق فجمع ما في البيت وحمله والرجل ليس بنائم حتى انتهى إلى الباب فوجده مردودا فوضع الكارة وفعل ذلك ثلاث مرات فضحك صاحب الدار ثم قال: إني أحصنت بيتي وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا
أخرج أحمد والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن حبان وغيرهم عن ابن عباس قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة فكان إذا صلى
182
بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمع ذلك المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به
فقال الله تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك وابتغ بين ذلك سبيلا يقول بين الجهر والمخافتة، وظاهره أن المراد بالصلاة القراءة التي هي أحد أجزائها مجازا، ويجوز أن يكون الكلام على تقدير مضاف أي بقراءة صلاتك، والظاهر أن المراد بالقراءة ما يعم البسملة وغيرها وبعض الأخبار يفيد ظاهره تخصيصها بالبسملة،
فقد أخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن سعيد قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرفع صوته ببسم الله الرحمن الرحيم وكان مسيلمة قد تسمى بالرحمان فكان المشركون إذا سمعوا ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام قالوا: قد ذكر مسيلمة إله اليمامة ثم عارضوه بالمكاء والتصدية والصفير فأنزل الله تعالى هذه الآية
، ولا يخفى على هذه الرواية أشدية مناسبة الآية لما قبلها.
وأخرج ابن أبي حاتم عن الربيع قال: كان أبو بكر إذا صلى من الليل خفض صوته جدا وكان عمر إذا صلى من الليل رفع صوته جدا فقال عمر: يا أبا بكر لو رفعت من صوتك شيئا وقال أبو بكر: يا عمر لو خفضت من صوتك شيئا فأتيا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاخبراه بأمرهما فأنزل الله تعالى الآية فأرسل عليه الصلاة والسلام إليهما فقال: يا أبا بكر ارفع من صوتك شيئا وقال لعمر اخفض من صوتك شيئا
، وفي رواية أنه قيل لأبي بكر: لم تصنع هذا؟ فقال: أناجي ربي وقد عرف حاجتي، وقيل لعمر: لم تصنع هذا؟ قال: أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان، وأمر التجوز أو حذف المضاف على هذا مثله على الأول وكذا على ما أخرجه ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها وابتغ بين ذلك سبيلا بالجهر في بعض كالمغرب والعشاء والمخافتة في بعض كما فيما عدا ذلك.
وقيل الصلاة بمعنى الدعاء لما أخرج الشيخان وغيرهما عن عائشة قالت: إنما نزلت هذه الآية وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها في الدعاء، وأخرج نحوه ابن أبي شيبة عن مجاهد، وروي ذلك عن ابن عباس أيضا ابن جرير وابن المنذر وجماعة وكانوا يجهرون بأللهم ارحمني،
وأخرجوا عن عبد الله بن شداد أن أعرابا من بني تميم كانوا إذا سلم النبي صلّى الله عليه وسلّم قالوا: أي جهرا اللهم ارزقنا إبلا وولدا فنزلت
، وفي رواية أخرى عن عائشة أن الصلاة هنا التشهد وكان الأعراب كما نقل عن ابن سيرين يجهرون بتشهدهم فنزلت، وقيل الصلاة على حقيقتها الشرعية فقد أخرج ابن عساكر عن الحسن أنه قال: المعنى لا تصل الصلاة رياء ولا تدعها حياء، وروى نحوه ابن أبي حاتم والطبراني عن ابن عباس أيضا، والأكثرون على التفسير المروي عنه أولا، والمخافتة إسرار الكلام بحيث لا يسمعه المتكلم، ومن هنا قال ابن مسعود كما أخرجه عنه ابن أبي شيبة وابن جرير: لم يخافت من اسمع أذنيه، وخفت وهو من باب ضرب وخافت بمعنى يقال خفت يخفت خفتا وخفوتا وخافت مخافتة إذا أسر وأخفى، والتعبير عن الأمر الوسط بالسبيل باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون ويؤمه المقتدون ويوصلهم إلى المطلوب، وقد جاء عن عبد الله بن الشخير وأبي قلابة خير الأمور أوساطها، والآية على ما يقتضيه كلام الأكثرين محكمة، وقيل منسوخة بناء على ما
أخرجه ابن مردويه وابن أبي حاتم عن ابن عباس من أنه صلّى الله عليه وسلّم أمر بمكة بالتوسط بأن لا يجهر جهرا شديدا ولا يخفض حتى لا يسمع أذنيه فلما هاجر إلى المدينة سقط ذلك،
وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: ٥٥] وهو كما ترى، ولا يخفى عليك حكم رفع الصوت بالقراءة فوق الحاجة وحكم المخافتة بالمعنى الذي سمعته المسطوران في كتب الفقه فراجعها إن لم يكن ذلك على ذبر منك، وأخرج ابن أبي داود في المصاحف عن أبي رزين قال قرأ عبد الله «ولا تخافت بصوتك ولا تعال به» وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى وبني مليح حيث قالوا: عزيز ابن الله والمسيح ابن الله تعالى والملائكة بنات الله سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، ونفي
183
اتخاذ الولد ظاهر في نفي التبني ويعلم منه نفي أن يكون له سبحانه ولد الصلب من باب أولي، وقد نفي ذلك صريحا في قوله تعالى لَمْ يَلِدْ [الإخلاص: ٣] وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ ظاهره أنه رد على الثنوية وهم المشركون في الربوبية، ويجوز أن يكون كناية عن نفي الشركة في الألوهية فيكون ردا على الوثنية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر ومانع له سبحانه من الذل لا عتزازه تعالى بنفسه فمن صلة لولي وضمن معنى المنع والنصر أو لم يوال تعالى أحدا من أجل مذلة فالولاية بمعنى المحبة على أصلها ومن تعليلية، وليس المعنى على الوجهين نفي الذل والنصر في الأول والموالاة والذل في الثاني على أسلوب- لا يهتدي بمناره- بل المراد أنه تعالى إذا اتخذ عبدا له وليا فذلك محض الاصطناع في شأن العبد لا أن هناك حاجة، وكذلك نصر الله تعالى كمال للناصر لا أن ثمة حاجة ألا ترى إلى قوله سبحانه: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [محمد: ٧] وإلى هذا ذهب صاحب الكشف وهو حسن، وجعل ذلك على الوجهين الفاضل الطيبي من ذاك الأسلوب، وفي الحواشي الشهابية في بيان ثاني الوجهين أن المراد نفي أن يكون له تعالى مولى يلتجىء هو سبحانه إليه، وأما الولي الذي يوصف به المؤمن فليس الولاية فيه بهذا المعنى بل بمعنى من يتولى أمره لمحبته له تفضلا منه عز وجل ورحمة فغاير بين الولايتين، ولعل الحق مع صاحب الكشف، ومن عجيب ما قيل إن مِنَ الذُّلِّ في موضع الصفة لولي ومن فيه للتبعيض وأن الكلام على حذف مضاف أي لم يكن له ولي من أهل الذل والمراد بهم اليهود والنصارى، ولعمري إنه لا ينبغي أن يلتفت إليه.
وربما يتوهم أن المقام مقام التنزيه لا مقام الحمد لأنه يكون على الفعل الاختياري وبه وما ذكر من الصفات العدمية ويدفع بأنه لاق وصفه تعالى بما ذكر بكلمة التحميد لأنه يدل على نفي الإمكان المقتضي للاحتياج وإثبات أنه تعالى الواجب الوجود لذاته الغني عما سواه المحتاج إليه ما عداه فهو الجواد المعطي لكل قابل ما يستحق فهو تعالى المستحق للحمد دون غيره عز وجل، وهذا الذي عناه الزمخشري وقال في الكشف: لك أن تتخذ نفي هذه الصفات وهي ذرائع منع المعروف أما الولد فلأنه مبخلة، وأما الشريك فلأنه مانع من التصرف كيف يشاء، وأما الاحتياج إلى من يعتز به أو يذب عنه فاظهر رديفا لإثبات أضدادها على سبيل الكناية وهو وجه حسن ولو حمل الكلام على ظاهره أيضا لكان له وجه وذلك لأن قول القائل الحمد لله فيه ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد فإذا قلت الحمد لله المنزه عن النقائص مثلا يكون قد قويت معنى الإلهية المفهومة من اللفظ فيكون وصفا لائقا مؤيدا لا ستحقاقه تعالى الحمد من غير نظر إلى مدخلية الوصف في الحمد بالاستقلال وهذا بين مكشوف إلا أن الزمخشري حاول أن ينبه على مكان الفائدة الزائدة اه.
وتعقب بأن ما ذكره من أن في الحمد لله ما ينبىء أن الإلهية تقتضي الحمد لا يتم على مذهب مانعي الاشتقاق في الاسم الكريم وفيه تأمل. والآية على ما قال العلامة الطيبي من التقسيم الحاصر لأن المانع من إيتاء النعم إما فوقه سبحانه وتعالى أو دونه أو مثله عز وجل فبنى الكلام على الترقي وبدىء من الأدون وختم بالأعلى فنفى الكل فمنه ولد الكثرة وله القل والدق والجل تعالى كبرياؤه وعظمت نعماؤه، ولدلالة ما تقدم على أنه تعالى هو الكامل وما عداه ناقص استحق التكبير ولذا عطف عليه قوله سبحانه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً والتكبير أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال، وفي الأمر بذلك بعد ما تقدم مؤكدا بالمصدر المنكر من غير تعيين لما يعظم به تعالى إشارة إلى أنه مما لا تسعه العبارة ولا تفي به القوة البشرية وإن بالغ العبد في التنزيه والتمجيد واجتهد في العبادة والتحميد فلم يبق إلا الوقوف بإقدام المذلة في حضيض القصور والاعتراف بالعجز عن القيام بحقه جل وعلا وإن طالت القصور،
وروى غير واحد أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يعلم الغلام من بني عبد المطلب إذا أفصح الحمد لله إلى آخر الآية سبع مرات وسماها عليه الصلاة والسلام
184
كما أخرج أحمد والطبراني عن معاذ آية العز
وأخرج أبو يعلى وابن السني عن أبي هريرة قال: خرجت أنا ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويدي في يده فأتى على رجل رث الهيئة فقال: أي فلان ما بلغ بك ما أرى قال: السقم والضر قال صلّى الله عليه وسلّم: ألا أعلمك كلمات تذهب عنك السقم والضر توكلت على الحي الذي لا يموت الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا الآية فأتى عليه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد حسنت حالته فقال: مهيم. فقال: لم أزل أقول الكلمات التي علمتني.
وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج والبيهقي في الأسماء والصفات عن إسماعيل بن أبي فديك قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما كربني أمر إلا مثل لي جبريل عليه السلام فقال: يا محمد قل: توكلت على الحي الذي لا يموت والحمد لله الذي لم يتخذ ولدا»
إلى آخر الآية،
وأخرج ابن السني والديلمي عن فاطمة بنت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وعليها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لها إذا أخذت مضجعك فقولي: «الحمد لله الكافي سبحان الله الأعلى حسبي الله وكفى ما شاء الله قضى سمع الله لمن دعا ليس من الله ملجأ ولا وراء الله ملتجى توكلت على ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم، الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا- إلى وكبره تكبيرا ثم قال- صلّى الله عليه وسلّم: ما من مسلم يقرأها عند منامه ثم ينام وسط الشياطين والهوام فتضره»
هذا وما ألطف المناسبة بين ابتداء هذه السورة، وهذا الختام وليس ذلك بدعا في كلام اللطيف العلام «ومن باب الإشارة في الآيات» وإن كادوا ليفتنونك إلى آخره تنبيه لحبيبه صلّى الله عليه وسلّم عن الوقوع فيما يخل بحفظ شرائط المحبة وفيه إشارة إلى إيصاله إلى مقام التمكين أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ الآية، ذكر أن الصلاة على خمسة أقسام صلاة المواصلة والمناغاة في مقام الخفي وصلاة المشاهدة في مقام الروح وصلاة المناجاة في مقام السر وصلاة الحضور في مقام القلب وصلاة المطاوعة والانقياد في مقام النفس، فدلوك الشمس إشارة إلى زوال شمس الوحدة عن الاستواء على وجود العبد بالفناء المحض فإنه لا صلاة في حال الاستواء إذ لا وجود للعبد حينئذ ولا شعور له بنفسه، وإنما تجب بالزوال وحدوث ظل وجود العبد سواء عند الاحتجاب بالخلق وهو حالة الفرق قبل الجمع أو عند البقاء وهو حالة الفرق بعد الجمع، وغسق الليل إشارة إلى غسق ليل النفس وقرآن الفجر إشارة إلى قرآن فجر القلب، وأدل الصلوات وألطفها صلاة المواصلة وأفضلها صلاة الشهود المشار إليها بصلاة العصر وأخفها صلاة السر المشار إليها بصلاة المغرب وأشدها تثبيتا للنفس صلاة النفس المشار إليها بصلاة العشاء وأزجرها للشيطان صلاة الحضور المشار إليها بالفجر إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي تشهده ملائكة الليل والنهار وهذا إشارة إلى نزول صفات القلب وأنوارها وذهاب صفات النفس وزوالها، وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أي زيادة على الفرائض الخمس خاصة بك قيل لكونه علامة مقام النفس فيجب تخصيصه بزيادة الطاعة لزيادة احتياج هذا المقام إلى الصلاة بالنسبة إلى سائر المقامات، وقيل إنما خص صلّى الله عليه وسلّم بالتهجد لأن الليل وقت خلوة المحب بالحبيب وهو عليه الصلاة والسلام الحبيب الأعظم، والخليل المكرم عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وهو مقام إلحاق الناقص بالكامل والكامل بالأكمل وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي حضرة الوحدة في عين الجمع مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا بلا آفة زيغ البصر إلى الالتفات إلى الغير أصلا وَأَخْرِجْنِي إلى فضاء الكثرة عند الرجوع إلى التفصيل بالوجود الموهوب الحقاني مُخْرَجَ صِدْقٍ سالما من آفة التلوين والانحراف عن جادة الاستقامة وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجة ناصرة بالتثبيت والتمكين وَقُلْ إذا زالت نقطة الغين عن العين جاءَ الْحَقُّ أي ظهر الوجود الثابت وهو الوجود الواجبي وَزَهَقَ الْباطِلُ وهو الوجود الإمكاني،
ففي الحديث الصحيح أصدق كلمة قالها شاعر كلمة لبيد:
ألا كل شيء ما خلا الله باطل
185
ويقال الحق العلم والباطل الجهل والحق ما بدا من الإلهام والباطل هواجس النفس ووساوس الشيطان. وقال فارس: كل ما يحملك على سلوك سبيل الحقيقة فهو حق وكل ما يحجبك ويفرق عليك وقتك فهو باطل وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من أمراض الصفات الذميمة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بالغيب يفيدهم الكمالات والفضائل العظيمة فالأول إشارة إلى التخلية والثاني إلى التحلية، ويقال هو شفاء من داء الشك الضعفاء المؤمنين ومن داء النكرة للعارفين ومن وجع الاشتياق للمحبين ومن داء القنوط للمريدين والقاصدين، وأنشدوا:
وكتبك حولي لا تفارق مضجعي وفيها شفاء للذي أنا كاتم
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ الباخسين حظوظهم من الكمال بالميل إلى الشهوات النفسانية إِلَّا خَساراً بزيادة ظهور أنفسهم بصفاتها من إنكار ونحوه وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ فاحتجب بالنعمة عن المنعم ولم يشكر وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً لجهله بعظيم قدرة الله تعالى ولم يصبر قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ على طريقته التي تشاكل استعداده وكل إناء بالذي فيه يرشح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي من عالم الإبداع وهو عالم الذوات المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين فلا يمكن إدراك المحجوبين لها وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا وهو علم المحسوسات مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بنوره بمقتضى العناية الأزلية فَهُوَ الْمُهْتَدِ دون غيره وَمَنْ يُضْلِلْ بمنع ذلك النور عنه فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ من دونه تعالى يهدونه أو يحفظونه من قهره عز وجل وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ لا نجذابهم إلى الجهة السفلية عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا لأنها أحوال تناسب أحوالهم في الدنيا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً لعلمهم بحقيته، ووقوفهم على ما أودع فيه من الأسرار وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ لعظمته أو شوقا لمنزله وحبا للقائه، قال أبو يعقوب السوسي: البكاء على أنواع: بكاء من الله تعالى وهو أن يبكي خوفا مما جرى به القلم في الفاتحة ويظهر في الخاتمة وبكاء على الله عز وجل وهو أن يبكي تحسرا على ما يفوته من الحق تعالى، وبكاء لله تبارك وتعالى وهو أن يبكي عند ذكره سبحانه وذكر وعده ووعيده وبكاء بالله تعالى وهو أن يبكي بلا حظ منه في بكائه، وقال القاسم: البكاء على وجوه بكاء الجهال على ما جهلوا وبكاء العلماء على ما قصروا وبكاء الصالحين مخافة الفوت وبكاء الأئمة مخافة السبق وبكاء الفرسان من أرباب القلوب للهيبة والخشية ولا بكاء للموحدين، وفي الآية إشارة ما إلى السماع ولا أشرف من سماع القرآن فهو الروح والريحان قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قيل دعاء الله بالفناء في الذات ودعاء الرحمن بالفناء في الصفة وصفة الرحمانية هي أم الصفات وبها استوى سبحانه على عرشه، ومن ذلك يعلم أنه ليس المراد من الإيجاد إلا رحمة الموجودين أَيًّا ما تَدْعُوا أي أيّا ما طلبت من هذين المقامين فَلَهُ تعالى في هذين المقامين الْأَسْماءُ الْحُسْنى لا لك إذ لست هناك بموجود أما في الفناء في الذات فظاهر وأما في الفناء في الصفة المذكورة فلأن الرحمن لا يصلح اسما لغير تلك الذات ولا يمكن ثبوت تلك الصفة لغيرها، ولا يخفى عليك أن ضمير له على هذا التأويل عائد على ما عاد إليه على التفسير. وفي الفتوحات المكية أنه تعالى جعل الأسماء الحسنى لله كما هي للرحمن غير أن الاسم له معنى وصورة فيدعى الله بمعنى الاسم ويدعى الرحمن بصورته لأن الرحمن هو المنعوت بالنفس وبالنفس ظهرت الكلمات الإلهية في مراتب الخلاء الذي ظهر فيه العالم فلا ندعوه إلا بصورة الاسم وله صورتان صورة عندنا من أنفاسنا وتركيب حروفنا وهي التي ندعوه بها وهي أسماء الأسماء الإلهية وهي كالخلع عليها ونحن بصورة هذه الأسماء مترجمون عن الأسماء الإلهية ولها صور من نفس الرحمن من كونه قائلا ومنعوتا بالكلام وخلف تلك الصور المعاني التي هي كالأرواح للأسماء الإلهية التي يذكر الحق بها نفسه وهي من نفس الرحمن فله الأسماء الحسنى وأرواح تلك الصور هي التي لاسم الله خارجة عن حكم النفس لا تنعت بالكيفية
186
وهي لصور الأسماء النفسية الرحمانية كالمعاني للحروف، ولما علمنا هذا وأمرنا بأن ندعوه سبحانه وخيرنا بين الاسمين الجليلين فإن شئنا دعوناه بصور الأسماء النفسية الرحمانية وهي الهمم الكونية التي في أرواحنا وإن شئنا دعوناه بالأسماء التي من أنفاسنا بحكم الترجمة فإذا تلفظنا بها أحضرنا في نفوسنا أما الله فننظر المعنى وأما الرحمن فننظر صورة الاسم الإلهي النفسي الرحماني كيفما شئنا فعلنا فإن دلالة الصورتين منا ومن الرحمن على المعنى واحد سواء علمنا ذلك أو لم نعلمه اه، وهو كلام يعسر فهمه إلا على من شاء الله تعالى بيد أنه ليس فيه حمل الدعاء على ما سمعت وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فضلا عن أن
يكون له سبحانه ولد بطريق التولد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ فلا مدخل لغيره تعالى في ملكية شيء على الحقيقة وما يوجد بسبب ليس السبب إلا آلة له ولا تملك الآلة شيئا بل لا شيء إلا وهو صنعه تعالى على الحقيقة والسرير مثلا وإن أضيف إلى النجار من حيث الصنعة إلا أنه في الحقيقة آلة كالقدوم ولا يضاف العمل إلى الآلة على الحقيقة كذا قيل، وللشيخ قدس سره كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن والتسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في هذا المقام يفصح عن بعض هذا ذكره في الباب الثامن التسعين بعد المائة فارجع إليه وتدبر، وكذا له كلام في قوله سبحانه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ لكن يغني عنه ما قدمناه وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً قال بعضهم: تكبيره تعالى أن تعلم أنك لا تطيق أن تكبره إلا به، وقال ابن عطاء تكبيره عز وجل بتعظيم منته وإحسانه في القلب بالعلم بالتقصير في الشكر وكيف يوفي أحد شكره تعالى ونعمه جل وعلا لا تحصى وآلاؤه لا تستقصى، هذا وقد تم بفضل الله تعالى تفسير هذه السورة الكريمة.
187
سورة الكهف
: ويقال سورة أصحاب الكهف كما في حديث أخرجه ابن مردويه،
وروى البيهقي من حديث ابن عباس مرفوعا أنها تدعى في التوراة الحائلة تحول بين قارئها وبين النار
إلا أنه قال: إنه منكر وهي مكية كلها في المشهور واختاره الدابي، وروي عن ابن عباس وابن الزبير رضي الله تعالى عنهما، وعدها بعضهم من السور التي نزلت جملة لما
أخرج الديلمي في مسند الفردوس عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: نزلت سورة الكهف جملة معها سبعون ألفا من الملائكة،
وفي رواية أخرى عن ابن عباس أنها مكية إلا قوله تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ [الكهف: ٢٨] الآية فمدني، وروي ذلك عن قتادة، وقال مقاتل: هي مكية إلا أولها إلى جُرُزاً [الكهف: ٨] وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الكهف: ١٠٧] إلى آخرها فمدني، وهي مائة وإحدى عشرة آية عند البصريين ومائة وعشرة عند الكوفيين ومائة وست عند الشاميين ومائة وخمس عند الحجازيين، ووجه مناسبة وضعها بعد الإسراء على ما قيل افتتاح تلك بالتسبيح وهذه بالتحميد وهما مقترنان في الميزان وسائر الكلام نحو فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر: ٩٨، النصر: ٣] فسبحان الله وبحمده وأيضا تشابه اختتام تلك وافتتاح هذه فإن في كل منهما حمدا، نعم فرق بينهما بأن الحمد الأول ظاهر في الحمد الذاتي والحمد المفتتح به في هذه يدل على الاستحقاق الغير الذاتي، وقال الجلال السيوطي في ذلك: أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثة أشياء عن الروح وعن قصة أصحاب الكهف وعن قصة ذي القرنين، وقد ذكر جواب السؤال الأول في آخر السورة الأولى وجواب السؤالين الآخرين في هذه فناسب اتصالهما، ولم تجمع الأجوبة الثلاثة في سورة لأنه لم يقع الجواب عن الأول بالبيان فناسب أن يذكر وحده في سورة، واختيرت سورة الإسراء لما بين الروح وبين الإسراء من المشاركة بأن كلا منهما مما لا يكاد تصل إلى حقيقته العقول، وقيل: إنما ذكر هناك لما أن الإسراء متضمن العروج إلى المحل الأرفع والروح متصفة بالهبوط من ذلك المحل ولذا قال ابن سينا فيها:
هبطت إليك من المحل الأرفع ورقاء ذات تعزز وتمنع
ثم قال: ظهر لي وجه آخر وهو أنه تعالى لما قال في تلك وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] والخطاب لليهود استظهر على ذلك بقصة موسى نبي بني إسرائيل مع الخضر عليهما السلام التي كان سببها ذكر العلم والأعلم وما دلت عليه من كثرة معلومات الله تعالى التي لا تحصى فكانت هذه السورة كإقامة الدليل لما ذكر من الحكم في تلك السورة.
وقد ورد في الحديث أنه لما نزل وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا قالت اليهود: قد أوتينا التوراة فيها علم كل شيء فنزل قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي
[الكهف: ١٠٩] الآية فتكون هذه السورة من هذه الجهة جوابا عن شبهة الخصوم فيما قرر في تلك، وأيضا لما قال سبحانه هناك فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [الإسراء: ١٠٤] شرح ذلك هنا وبسطه بقوله سبحانه فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ [الكهف: ٩٨] إلى
189
Icon