سبب نزول ﴿ سبحان الذي أسرى بعبده ﴾ ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له، فأنزل الله ذلك تصديقاً له، وهذه السورة مكية قال صاحب الغنيان بإجماع وقيل : إلا آيتين ﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾ ﴿ وإن كادوا ليستفزونك ﴾ وقيل : إلا أربع هاتان وقوله :﴿ وإذ قلنا لك إن ربك أحاط بالناس ﴾ وقوله ﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق ﴾، وزاد مقاتل قوله تعالى :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾ الآية وقال قتادة إلا ثماني آيات أنزلت بالمدينة وهي من قوله :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾ إلى آخرهن.
ومناسبة أول هذه السورة لآخر ما قبلها أنه تعالى لما أمره بالصبر ونهاه عن الحزن عليهم وأن يضيق صدره من مكرهم، وكان من مكرهم نسبته إلى الكذب والسحر والشعر وغير ذلك مما رموه به، أعقب تعالى ذلك بذكر شرفه وفضله واحتفائه به وعلو منزلته عنده،
ﰡ
[الجزء السابع]
سورة الإسراء[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٢٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤)
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
وَمِنَّا الَّذِي لَاقَى لِسَيْفِ مُحَمَّدٍ | فَجَاسَ بِهِ الْأَعْدَاءُ عَرْضَ الْعَسَاكِرِ |
فَجُسْنَا دِيَارَهُمْ عَنْوَةً | وَأَبْنَاءُ سَادَاتِهِمْ مُوَثَّقِينَا |
إِلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بِالْمَطِيِّ وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: الْجَوْسُ وَالْحَوْسُ وَالْعَوْسُ وَالْهَوْسُ الطَّوَافُ بِاللَّيْلِ. فَالْجَوْسُ وَالْحَوْسُ طَلَبُ الشَّيْءِ بِاسْتِقْصَاءٍ. حَظَرْتُ الشَّيْءَ مَنَعْتُهُ.
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي
سَبَبُ نُزُولِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ذِكْرُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِقُرَيْشٍ الْإِسْرَاءَ بِهِ وَتَكْذِيبُهُمْ لَهُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ ذَلِكَ تَصْدِيقًا لَهُ، وَهَذِهِ السُّورَةُ مَكِّيَّةٌ قَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ بِإِجْمَاعٍ وَقِيلَ: إِلَّا آيَتَيْنِ وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ وَقِيلَ: إِلَّا أَرْبَعَ هَاتَانِ وَقَوْلُهُ: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَقَوْلُهُ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَزَادَ مُقَاتِلٌ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ الْآيَةَ وَقَالَ قَتَادَةُ إِلَّا ثَمَانِيَ آيَاتٍ أُنْزِلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَهِيَ مِنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إِلَى آخِرِهِنَّ. وَمُنَاسَبَةُ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِآخِرِ مَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَهُ بِالصَّبْرِ وَنَهَاهُ عَنِ الْحُزْنِ عَلَيْهِمْ وَأَنْ يَضِيقَ صَدْرُهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، وَكَانَ مِنْ مَكْرِهِمْ نِسْبَتُهُ إِلَى الْكَذِبِ والسحر والسعر وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا رَمَوْهُ بِهِ، أَعْقَبَ تَعَالَى ذَلِكَ بِذِكْرِ شَرَفِهِ وَفَضْلِهِ وَاحْتِفَائِهِ بِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَهُ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى سُبْحَانَ فِي الْبَقَرَةِ. وَزَعَمَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنَّهُ عَلَمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَعُثْمَانَ لِلرَّجُلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَمْ يَنْصَرِفْ لِأَنَّ فِي آخِرِهِ زَائِدَتَيْنِ وَهُوَ مَعْرِفَةٌ بِالْعَلَمِيَّةِ وَإِضَافَتُهُ لَا تَزِيدُهُ تَعْرِيفًا انْتَهَى. وَيَعْنِيَانِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا لَمْ يُضَفْ كَقَوْلِهِ:
سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ وَأَمَّا إِذَا أُضِيفَ فَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ عَلَمٌ لَنُوِيَ تَنْكِيرُهُ ثُمَّ يُضَافُ وَصَارَ إِذْ ذَاكَ تَعْرِيفُهُ بِالْإِضَافَةِ لَا بِالْعَلَمِيَّةِ.
أَسْرى بِمَعْنَى سَرَى وَلَيْسَتِ الْهَمْزَةُ فيه للتعدية وعدّيا بِالْبَاءِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعْدِيَتِهِ بِالْبَاءِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، بَلِ الْمَعْنَى جَعَلَهُ يَسْرِي لِأَنَّ السُّرَى يَدُلُّ عَلَى الِانْتِقَالِ كَمَشَى وَجَرَى وَهُوَ مُسْتَحِيلٍ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ كَقَوْلِهِ: لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «١» أَيْ لَأَذْهَبَ سَمْعَهُمْ، فَأَسْرَى وَسَرَى عَلَى هَذَا كسقى وأسقى إذا كَانَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ مَعْنَاهُ سَرَى بِعَبْدِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَظْهَرُ أَنَّ أَسْرى مُعَدَّاةٌ بِالْهَمْزَةِ إِلَى مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَسْرَى الْمَلَائِكَةَ بِعَبْدِهِ لِأَنَّهُ يُقْلِقُ أَنْ يُسْنَدَ أَسْرَى وَهُوَ بِمَعْنَى سَرَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِذْ هُوَ فِعْلٌ يُعْطِي النُّقْلَةَ كَمَشَى وَجَرَى وَأَحْضَرَ وَانْتَقَلَ، فَلَا يَحْسُنُ إِسْنَادُ شَيْءٍ مِنْ هَذَا وَنَحْنُ نَجِدُ مَنْدُوحَةً فَإِذَا صَرَّحَتِ الشَّرِيعَةُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذَا النَّحْوِ
كقوله في الحديث:
حُمِلَ ذَلِكَ بِالتَّأْوِيلِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُخَلِّصِ مِنْ نَفْيِ الحوادث، وأَسْرى فِي هَذِهِ الْآيَةِ تَخْرُجُ فَصِيحَةً كَمَا ذَكَرْنَا وَلَا يُحْتَاجُ إِلَى تَجَوُّزِ قَلَقٍ فِي مِثْلِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ فَإِنَّهُ أَلْزَمُ لِلنُّقْلَةِ مِنْ أَتَيْتُهُ وَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمُ انْتَهَى. وَإِنَّمَا احْتَاجَ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَى هَذِهِ الدَّعْوَى اعْتِقَادَ أَنَّهُ إِذَا كَانَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى لَزِمَ مِنْ كَوْنِ الْبَاءِ لِلتَّعْدِيَةِ مُشَارَكَةُ الْفَاعِلِ لِلْمَفْعُولِ وَهَذَا شَيْءٌ ذَهَبَ إِلَيْهِ الْمُبَرِّدُ، فَإِذَا قُلْتَ: قُمْتُ بِزَيْدٍ لَزِمَ مِنْهُ قِيَامُكَ وَقِيَامُ زِيدٍ عِنْدَهُ وَهَذَا لَيْسَ كَذَلِكَ، الْتَبَسَتْ عِنْدَهُ بَاءُ التَّعْدِيَةِ بِبَاءِ الْحَالِ، فَبَاءُ الْحَالِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمُشَارَكَةُ إِذِ الْمَعْنَى قُمْتُ مُلْتَبِسًا بِزَيْدٍ وَبَاءُ التَّعْدِيَةِ مُرَادِفَةٌ لِلْهَمْزَةِ، فَقُمْتُ بِزَيْدٍ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ كَقَوْلِكَ أَقَمْتُ زَيْدًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِقَامَتِكَهُ أَنْ تَقُومَ أَنْتَ.
قَالَ ابن عطية: ويحتمل أن يَكُونَ أَسْرَى بِمَعْنَى سَرَى عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَنَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ «١» يَعْنِي أَنْ يَكُونَ التقدير لسرت مَلَائِكَتُهُ بِعَبْدِهِ، فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْمُشَارَكَةَ وَالْبَاءُ لِلتَّعْدِيَةِ وَأَيْضًا فَمَوَارِدُ الْقُرْآنِ فِي فَأَسْرِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ وَوَصْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ «٢» وأَنْ أَسْرِ بِعِبادِي «٣» قرىء بِالْقَطْعِ وَالْوَصْلِ، وَيَبْعُدُ مَعَ الْقَطْعِ تَقْدِيرُ مَفْعُولٍ مَحْذُوفٍ إِذْ لَمْ يُصَرَّحْ بِهِ فِي مَوْضِعٍ، فَيُسْتَدَلُّ بِالْمُصَرَّحِ عَلَى الْمَحْذُوفِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِسْرَاءَ كَانَ بِشَخْصِهِ وَلِذَلِكَ كَذَّبَتْ قُرَيْشٌ بِهِ وَشَنَّعَتْ عَلَيْهِ، وَحِينَ قَصَّ ذلك على أم هانىء قَالَتْ: لَا تُحَدِّثِ النَّاسَ بِهَا فَيُكَذِّبُوكَ وَلَوْ كَانَ مَنَامًا اسْتُنْكِرَ ذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُعْتَقَدَ. وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ مَرْوِيٌّ فِي الْمَسَانِيدِ عَنِ الصَّحَابَةِ فِي كُلِّ أَقْطَارِ الْإِسْلَامِ، وَذُكِرَ أَنَّهُ رَوَاهُ عِشْرُونَ مِنَ الصَّحَابَةِ. قِيلَ وَمَا رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنَّهُ كَانَ مَنَامًا فَلَعَلَّهُ لَا يَصِحُّ عَنْهُمَا، وَلَوْ صَحَّ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ حُجَّةٌ لِأَنَّهُمَا لَمْ يُشَاهِدَا ذَلِكَ لِصِغَرِ عَائِشَةَ وَكُفْرِ مُعَاوِيَةَ إِذْ ذَاكَ، وَلِأَنَّهُمَا لَمْ يُسْنِدَا ذَلِكَ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا حَدَّثَا بِهِ عَنْهُ. وَعَنِ الْحَسَنِ كَانَ فِي الْمَنَامِ رُؤْيَا رَآهَا وَقَوْلُهُ: بِعَبْدِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَالَ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ الْأَنْصَارِيُّ: لَمَّا وَصَلَ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ إِلَى الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ وَالْمَرَاتِبِ الرَّفِيعَةِ فِي الْمَعَارِجِ أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ: يَا محمد بم أُشَرِّفُكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ بِنِسْبَتِي إِلَيْكَ بِالْعُبُودِيَّةِ، فَأَنْزَلَ فِيهِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ الْآيَةَ
انْتَهَى. وَعَنْهُ قَالُوا: عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، وَعَنْهُ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ وَهَذِهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ وَاخْتِصَاصٍ. وقال الشاعر:
(٢) سورة هود: ١١/ ١٨ وسورة الحجر: ١٥/ ٦٥.
(٣) سورة طه: ٢٠/ ٧٧ وسورة الشعراء: ٢٦/ ٥٢.
لَا تَدْعُنِي إِلَّا بِيَا عَبْدَهَا | لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي |
وَانْتَصَبَ لَيْلًا عَلَى الظَّرْفِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ السُّرَى لَا يَكُونُ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَلَكِنَّهُ ذُكِرَ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَقِيلَ: يَعْنِي فِي جَوْفِ اللَّيْلِ فَلَمْ يَكُنْ إِدْلَاجًا وَلَا ادِّلَاجًا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْلًا بِلَفْظِ التَّنْكِيرِ تَقْلِيلَ مُدَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَأَنَّهُ أَسْرَى بِهِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الشَّامِ مَسِيرَةَ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَذَلِكَ أَنَّ التَّنْكِيرَ فِيهِ قَدْ دَلَّ عَلَى مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَحُذَيْفَةَ مِنَ اللَّيْلِ أَيْ بَعْضِ اللَّيْلِ كَقَوْلِهِ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «١» عَلَى الْأَمْرِ بِالْقِيَامِ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ: مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هُوَ الْمَسْجِدُ الْمُحِيطُ بِالْكَعْبَةِ بِعَيْنِهِ، وَهُوَ قَوْلُ أَنَسٍ. وَقِيلَ مِنَ الْحِجْرِ. وَقِيلَ مِنْ بَيْنِ زَمْزَمَ وَالْمَقَامِ. وَقِيلَ مِنْ شِعْبِ أَبِي طَالِبٍ. وَقِيلَ مِنْ بَيْتِ أُمِّ هانىء. وَقِيلَ مِنْ سَقْفِ بَيْتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ يَكُونُ أَطْلَقَ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَلَى مَكَّةَ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ: قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامٍ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ بِعَامٍ وَنِصْفٍ فِي رَجَبٍ. وَقِيلَ فِي سَبْعَ عَشْرَةَ مِنْ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ وَالرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ ابْنُ إِحْدَى وَخَمْسِينَ سَنَةً وَتِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةٍ وَعِشْرِينَ يَوْمًا. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ بَعْدَ الْمَبْعَثِ بِسَبْعَةِ أَعْوَامٍ. وَعَنِ الْحَرْبِيِّ لَيْلَةَ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ رَبِيعٍ الْآخِرِ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، وَالْمُتَحَقِّقُ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ بَعْدَ شَقِّ الصَّحِيفَةِ وَقَبْلَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ، وَوَقَعَ لِشَرِيكِ بْنِ أَبِي نَمِرٍ فِي الصَّحِيحِ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ ذَلِكَ وَهْمٌ مِنْ شَرِيكٍ. وَحَكَى الزَّمَخْشَرِيُّ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ.
وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْقَاسِمِ الرُّعَيْنِيُّ فِي تَارِيخِهِ: أُسْرِيَ بِهِ مِنْ مَكَّةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَعُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ شَهْرًا، وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ نَائِمًا فِي بَيْتِ أم هانىء بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، فَأُسْرِيَ بِهِ وَرَجَعَ مِنْ لَيْلَتِهِ وَقَصَّ الْقِصَّةَ عَلَى أُمِّ هانىء وَقَالَ: «مُثِّلَ لِيَ النَّبِيُّونَ فَصَلَّيْتُ بِهِمْ». وَقَامَ لِيَخْرُجَ إِلَى الْمَسْجِدِ فَتَشَبَّثَتْ أُمُّ هانىء بِثَوْبِهِ فَقَالَ: «مَا لَكِ» ؟ قَالَتْ: أَخْشَى أَنْ يُكَذِّبَكَ قَوْمُكَ إِنْ أَخْبَرْتَهُمْ، قَالَ: «وَإِنْ كَذَّبُونِي» فَخَرَجَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ أَبُو جَهْلٍ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحَدِيثِ الْإِسْرَاءِ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ هَلُمَّ فَحَدَّثَهُمْ فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ وَوَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ تَعَجُّبًا وَإِنْكَارًا، وَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنَ بِهِ وَسَعَى رِجَالٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: إِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لقد صدق، قالوا:
وَهَذِهِ وَاللَّهِ الْعِيرُ قَدْ أَقْبَلَتْ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ كَمَا قَالَ مُحَمَّدٌ ثُمَّ لَمْ يُؤْمِنُوا وَقَالُوا: مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ، وَقَدْ عُرِجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ وَكَانَ الْعُرُوجُ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ
، وَأَخْبَرَ قُرَيْشًا أَيْضًا بِمَا رَأَى فِي السَّمَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ، وَأَنَّهُ لَقِيَ الْأَنْبِيَاءَ وَبَلَغَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَسِدْرَةَ الْمُنْتَهَى. وَهَذَا عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ: أن هَذِهِ اللَّيْلَةَ هِيَ لَيْلَةُ الْمِعْرَاجِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٍ. وَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ هِيَ غَيْرُ لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ.
والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَسُمِّيَ الْأَقْصَى لِأَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ أَقْصَى بُيُوتِ اللَّهِ الْفَاضِلَةِ مِنَ الْكَعْبَةِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَقْصَى الْبَعِيدَ دُونَ مُفَاضَلَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سِوَاهُ، وَيَكُونَ الْمَقْصِدُ إِظْهَارَ الْعَجَبِ فِي الْإِسْرَاءِ إِلَى هَذَا الْبُعْدِ فِي لَيْلَةٍ انْتَهَى. وَلَفْظَةُ: إِلَى تَقْتَضِي أَنَّهُ انْتَهَى الْإِسْرَاءُ بِهِ إِلَى حَدِّ ذَلِكَ الْمَسْجِدِ وَلَا يَدُلُّ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ عَلَى دُخُولِهِ.
والَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ صِفَةُ مَدْحٍ لِإِزَالَةِ اشْتِرَاطٍ عَارِضٍ وَبَرَكَتُهُ بِمَا خُصَّ بِهِ مِنَ الْخَيْرَاتِ الدِّينِيَّةِ كَالنُّبُوَّةِ وَالشَّرَائِعِ وَالرُّسُلِ الَّذِينَ كَانُوا فِي ذَلِكَ الْقُطْرِ وَنَوَاحِيهِ وَنَوَادِيهِ، وَالدُّنْيَاوِيَّةِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَشْجَارِ وَالْأَنْهَارِ وَطِيبِ الْأَرْضِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «أَنَّهُ تَعَالَى بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الْفُرَاتِ وَخَصَّ فِلَسْطِينَ بِالتَّقْدِيسِ».
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِنُرِيَهُ بِالنُّونِ وَهُوَ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْغَائِبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ، وَقِرَاءَةُ الْحَسَنِ لِيُرِيَهُ بِالْيَاءِ فَيَكُونُ الِالْتِفَاتُ فِي آيَاتِنَا وَهَذِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ وَالْآيَاتُ الَّتِي أُرِيَهَا هِيَ الْعَجَائِبُ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا النَّاسَ
وَإِسْرَاؤُهُ مِنْ مَكَّةَ وَعُرُوجُهُ إِلَى السَّمَاءِ وَوَصْفُهُ الْأَنْبِيَاءَ وَاحِدًا وَاحِدًا حَسْبَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ لِيُرِيَ مُحَمَّدًا لِلنَّاسِ آيَةً، أَيْ يَكُونُ النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ آيَةً فِي أَنْ يَصْنَعَ اللَّهُ بِبَشَرٍ هَذَا الصُّنْعَ فَتَكُونُ الرُّؤْيَةُ عَلَى هَذَا رُؤْيَةَ الْقَلْبِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لِأَقْوَالِ مُحَمَّدٍ الْبَصِيرُ بِأَفْعَالِهِ الْعَالِمُ بِتَهْذِيبِهَا
وَلَمَّا ذَكَرَ تَشْرِيفَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِالْإِسْرَاءِ وَإِرَاءَتَهُ الْآيَاتِ ذَكَرَ تَشْرِيفَ مُوسَى بِإِيتَائِهِ التَّوْرَاةَ وَآتَيْنا مَعْطُوفٌ عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ مِنْ تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَبَرَاءَتِهِ مِنَ السُّوءِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ الْمُشَارَكَةُ فِي الْخَبَرِ أَوْ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَطْفُ قَوْلِهِ وَآتَيْنَا عَلَى مَا فِي قَوْلِهِ أَسْرَى بِعَبْدِهِ مِنْ تَقْدِيرِ الْخَبَرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَسْرَيْنَا بِعَبْدِنَا وَأَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا وَآتَيْنَا. وَقَالَ الْعُكْبَرِيُّ وَآتَيْنَا مَعْطُوفٌ عَلَى أَسْرَى انْتَهَى. وَفِيهِ بُعْدٌ والْكِتابَ هُنَا التَّوْرَاةُ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ مِنْ وَجَعَلْنَاهُ عَلَى الْكِتَابِ، ويحتمل أن يعود على مُوسَى، وَيَجُوزَ أَنْ تَكُونَ أَنْ تَفْسِيرِيَّةً وَلَا نَهْيَ وَأَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً تَعْلِيلًا أَيْ لِأَنْ لَا يَتَّخِذُوا وَلَا نَفْيَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ أَنْ زَائِدَةً وَيَكُونَ لَا تَتَّخِذُوا مَعْمُولًا لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ خِلَافًا لِمُجَوِّزِ ذَلِكَ إِذْ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ أَنْ.
وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَعِيسَى وَأَبُو رَجَاءٍ وَأَبُو عَمْرٍو مِنَ السَّبْعَةِ: يَتَّخِذُوا بِالْيَاءِ عَلَى الْغَيْبَةِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَالْوَكِيلُ فَعِيلٌ مِنَ التَّوَكُّلِ أَيْ مُتَوَكِّلًا عَلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ رَبًّا تَكِلُونَ إِلَيْهِ أُمُورَكُمْ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَفِيظًا لَكُمْ سِوَايَ. وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ: قِيلَ لِلرَّبِّ وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عِبَادِهِ، لَا عَلَى مَعْنَى ارْتِفَاعِ مَنْزِلَةِ الْمُوَكِّلِ وَانْحِطَاطِ أَمْرِ الْوَكِيلِ انْتَهَى. وَانْتَصَبَ ذُرِّيَّةَ عَلَى النِّدَاءِ أَيْ يَا ذُرِّيَّةً أَوْ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ وَكِيلًا، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِيَتَّخِذُوا ووكيلا وَفِي مَعْنَى الْجَمْعِ أَيْ لَا يَتَّخِذُوا وُكَلَاءَ ذُرِّيَّةً، أَوْ عَلَى إِضْمَارِ أَعْنِي. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ ذُرِّيَّةُ بِالرَّفْعِ وَخُرِّجَ عَلَى أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَتَّخِذُوا عَلَى قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا يَجُوزُ فِي الْقِرَاءَةِ بِالتَّاءِ لِأَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ لَوْ قُلْتَ ضَرَبْتُكَ زَيْدًا عَلَى الْبَدَلِ لَمْ يَجُزْ انْتَهَى. وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ إِطْلَاقِ أَنَّكَ لَا تُبْدِلُ مِنْ ضَمِيرِ مُخَاطَبٍ يَحْتَاجُ إِلَى تَفْصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ فِي بدل بعض من كل وَبَدَلِ اشْتِمَالٍ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ فِي بَدَلِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ وَهُمَا لِعَيْنٍ وَاحِدَةٍ وَإِنْ كَانَ يُفِيدُ التَّوْكِيدَ جَازَ بِلَا خِلَافٍ، نَحْوُ: مَرَرْتُ بِكُمْ صَغِيرِكُمْ وَكَبِيرِكُمْ وَإِنْ لَمْ يُفِدِ التَّوْكِيدَ، فَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ الْمَنْعُ وَمَذْهَبُ الْأَخْفَشِ وَالْكُوفِيِّينَ الْجَوَازُ وَهُوَ الصَّحِيحُ لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَقَدِ اسْتَدْلَلْنَا عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ فِي شَرْحِ كِتَابِ التَّسْهِيلِ، وَذَكَرَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ تَنْبِيهًا عَلَى النِّعْمَةِ الَّتِي نَجَّاهُمْ بِهَا مِنَ الْغَرَقِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبَانُ بْنُ
قَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَانَ يَحْمَدُ اللَّهَ عَلَى طَعَامِهِ.
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ شُكْرُهُ إِذَا أَكَلَ قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، فَإِذَا فَرَغَ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: كَانَ إِذَا لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَإِذَا نَزَعَهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. وَقِيلَ: الضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ إِلَى مُوسَى انْتَهَى. وَنَبَّهَ عَلَى الشُّكْرِ لِأَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ التَّوْحِيدَ إِذِ النِّعَمُ الَّتِي يَجِبُ الشُّكْرُ عَلَيْهَا هِيَ مِنْ عِنْدِهِ تَعَالَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ كُونُوا مُوَحِّدِينَ شَاكِرِينَ لِنِعَمِ اللَّهِ مُقْتَدِينَ بِنُوحٍ الَّذِي أَنْتُمْ ذُرِّيَّةُ مَنْ حُمِلَ مَعَهُ.
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً.
قَضَى يَتَعَدَّى بِنَفْسِهِ إِلَى مَفْعُولٍ كَقَوْلِهِ: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ «١» وَلَمَّا ضُمِّنَ هُنَا مَعْنَى الْإِيحَاءِ أَوِ الْإِنْفَاذِ تَعَدَّى بِإِلَى أَيْ وَأَوْحَيْنَا أَوْ أَنْفَذْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْقَضَاءِ الْمَحْتُومِ الْمَبْتُوتِ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ أَعْلَمْنَاهُمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا قَضَيْنَا عَلَيْهِمْ، وَعَنْهُ أَيْضًا كَتَبْنَا. وَاللَّامُ فِي لَتُفْسِدُنَّ جَوَابُ قَسَمٍ، فَإِمَّا أَنْ يُقَدَّرَ مَحْذُوفًا وَيَكُونُ مُتَعَلَّقُ الْقَضَاءِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ وَعُلُوِّهِمْ، ثُمَّ أَقْسَمَ عَلَى وُقُوعِ ذَلِكَ وَأَنَّهُ كَائِنٌ لَا مَحَالَةَ، فَحُذِفَ مُتَعَلَّقُ قَضَيْنَا وَأُبْقِيَ مَنْصُوبُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ قَضَيْنَا أُجْرِيَ مَجْرَى القسم ولتفسدنّ جَوَابُهُ، كَقَوْلِهِمْ قَضَاءُ اللَّهِ لَأَقُومَنَّ. وَقَرَأَ أَبُو الْعَالِيَةِ وَابْنُ جُبَيْرٍ فِي الْكُتُبِ عَلَى الْجَمْعِ وَالْجُمْهُورُ عَلَى الْإِفْرَادِ فَاحْتُمِلَ أَنْ يُرِيدَ بِهِ الْجِنْسَ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُرَادَ التَّوْرَاةُ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَنَصْرُ بْنُ عَلِيٍّ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ لَتُفْسَدُنَّ بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ السِّينِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ أَيْ يُفْسِدُكُمْ غَيْرُكُمْ. فَقِيلَ مِنَ الْإِضْلَالِ. وَقِيلَ مِنَ الْغَلَبَةِ. وَقَرَأَ عِيسَى لَتَفْسُدُنَّ بِفَتْحِ التَّاءِ وَضَمِّ السِّينِ أَيْ فَسَدْتُمْ بأنفسكم بارتكاب المعاصي
وَقِيلَ: سَبَبُ قَتْلِ زَكَرِيَّا أَنَّهُمُ اتَّهَمُوهُ بِمَرْيَمَ قِيلَ قَالُوا حِينَ حَمَلَتْ مَرْيَمُ: ضَيَّعَ بِنْتَ سَيِّدِنَا حَتَّى زَنَتْ، فَقَطَعُوهُ بِالْمِنْشَارِ فِي الشَّجَرَةِ.
وقيل شعياء قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَإِنْ كَانَ زَكَرِيَّاءُ مَاتَ مَوْتًا وَلَمْ يُقْتَلْ وَإِنَّ الَّذِي دَخَلَ الشَّجَرَةَ وَقُطِعَ نِصْفَيْنِ بِالْمِنْشَارِ فِي وَسَطِهَا هُوَ شعياء، وَكَانَ قَبْلَ زَكَرِيَّاءَ وَحُبِسَ أَرْمِيَاءُ حِينَ أَنْذَرَهُمْ سَخَطَ اللَّهِ وَالْآخِرَةَ قَبْلَ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّاءَ وَقَصْدَ قَتْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَعْلَمَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُمْ عِصْيَانٌ وَكُفْرٌ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الرُّسُلِ وَفِي الْكُتُبِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنَّهُ سَيُرْسِلُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً تَغْلِبُهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُذِلُّهُمْ ثُمَّ يَرْحَمُهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَجْعَلُ لَهُمُ الْكَرَّةَ وَيَرُدُّهُمْ إِلَى حَالِهِمُ الْأُولَى مِنَ الظُّهُورِ فَتَقَعُ مِنْهُمُ الْمَعَاصِي وَكُفْرُ النِّعَمِ وَالظُّلْمُ وَالْقَتْلُ وَالْكُفْرُ بِاللَّهِ مِنْ بَعْضِهِمْ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أُمَّةً أُخْرَى تُخَرِّبُ دِيَارَهُمْ وَتَقْتُلُهُمْ وَتُجْلِيهِمْ جَلَاءً مُبَرِّحًا وَدَلَّ الْوُجُودُ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ كُلِّهِ، قِيلَ وَكَانَ بَيْنَ آخِرِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مِائَتَا سَنَةٍ وَعَشْرُ سِنِينَ مُلْكًا مُؤَيَّدًا ثَابِتًا. وَقِيلَ سَبْعُونَ سَنَةً. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ لَتَعْصُنَّ فِي الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ وَلَتَعْلُنَّ أَيْ تَطْغَوْنَ وَتَعْظُمُونَ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عُلِيًّا كَبِيرًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِكَسْرِ اللَّامِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ. وَقِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ عُلُوًّا وَالصَّحِيحُ فِي فُعُولٍ الْمَصْدَرُ أَكْثَرُ كَقَوْلِهِ: وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً «١» بِخِلَافِ الْجَمْعِ، فَإِنَّ الْإِعْلَالَ فِيهِ هُوَ الْمَقِيسُ وَشَذَّ التَّصْحِيحُ نَحْوُ نَهُوَ وَنُهُوٌّ خِلَافًا لِلفَرَّاءِ إِذْ جَعَلَ ذَلِكَ قِيَاسًا فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أَيْ مَوْعِدُ أُولَاهُمَا لِأَنَّ الْوَعْدَ قَدْ سَبَقَ ذَلِكَ وَالْمَوْعُودُ هُوَ الْعِقَابُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ وَعْدُ عِقَابِ أُولَاهُمَا. وَقِيلَ: الْوَعْدُ بِمَعْنَى الْوَعِيدِ.
وَقِيلَ: بِمَعْنَى الْمَوْعِدِ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْوَقْتُ، وَالضَّمِيرُ فِي أُولَاهُمَا عَائِدٌ عَلَى الْمَرَّتَيْنِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ عِباداً وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ عَبِيدًا. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: غَزَاهُمْ وَقَتَادَةُ جَالُوتُ مِنْ أَهْلِ الْجَزِيرَةِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ إِسْحَاقَ غَزَاهُمْ سَنْجَارِيبُ وَجُنُودُهُ مَلِكُ بَابِلَ. وَقِيلَ بخت نصر، وَرُوِيَ أَنَّهُ دَخَلَ قَبْلُ فِي جَيْشٍ مِنَ الْفُرْسِ وهو حامل يسير في مطبخ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَاهُ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما فعلوا وَلَمْ نَمْنَعْهُمْ عَلَى أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَعَلَا أَسْنَدَ بَعْثَ الْكَفَرَةِ إِلَى نَفْسِهِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «١» وَكَقَوْلِ الدَّاعِي: وَخَالِفْ بَيْنَ كَلِمَتِهِمْ وَأَسْنَدَ الْجَوْسَ وَهُوَ التَّرَدُّدُ خِلَالَ الدِّيَارِ بِالْفَسَادِ إِلَيْهِمْ، فَتَخْرِيبُ الْمَسْجِدِ وَإِحْرَاقُ التَّوْرَاةِ مِنْ جُمْلَةِ الْجَوْسِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِمُ انْتَهَى. وَفِي قَوْلِهِ خَلَّيْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا فَعَلُوا دَسِيسَةُ الِاعْتِزَالِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: بَعَثْنا يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ أَرْسَلَ إِلَى مَلِكِ تِلْكَ الْأُمَّةِ رَسُولًا بأمره بِغَزْو بَنِي إِسْرَائِيلَ فَتَكُونُ الْبَعْثَةُ بِأَمْرٍ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَبَّرَ بِالْبَعْثِ عَمَّا أَلْقَى فِي نَفْسِ الْمَلِكِ أَيْ غَزَاهُمُ انْتَهَى. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أَيْ قِتَالٍ وَحَرْبٍ شَدِيدٍ لِقُوَّتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ وَكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَجاسُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ أَبُو السَّمَّالِ وَطَلْحَةُ فَحَاسُوا بالحاء المهملة. وقرىء فَتَجَوَّسُوا عَلَى وَزْنِ تَكَسَّرُوا بِالْجِيمِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ خِلالَ الدِّيارِ وَاحِدًا وَيُجْمَعُ عَلَى خَلَلٍ كَجَبَلٍ وَجِبَالٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خِلَالَ مُفْرَدًا كَالْخَلَلِ وَهُوَ وَسَطُ الدِّيَارِ وَمَا بَيْنَهَا، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ فِي هَذِهِ الْبِعْثَةِ الْأُولَى خَرَّبَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ وَوَقَعَ الْقَتْلُ فِيهِمْ وَالْجَلَاءُ وَالْأَسْرُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُ حِينَ غُزُوا جَاسَ الْغَازُونَ خِلَالَ الدِّيَارِ وَلَمْ يَكُنْ قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَانْصَرَفَتْ عَنْهُمُ الْجُيُوشُ. وَالضَّمِيرُ في وَكانَ عائدا عَلَى وَعْدِ أُولَاهُمَا. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَكَانَ وَعْدُ الْعِقَابِ وَعْدًا لَا بُدَّ أَنْ يُفْعَلَ انْتَهَى. وَقِيلَ يَعُودُ عَلَى الْجُيُوشِ ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ هَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ، وَجَعَلَ رَدَدْنا مَوْضِعَ نَرُدُّ إِذْ وَقَتَ إِخْبَارِهِمْ لَمْ يَقَعِ الْأَمْرُ بَعْدُ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ وَعْدُ اللَّهِ فِي غَايَةِ الثِّقَةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَبَّرَ عَنْ مُسْتَقْبَلِهِ بِالْمَاضِي، وَالْكَرَّةُ الدَّوْلَةُ وَالْغَلَبَةُ عَلَى الَّذِينَ بُعِثُوا عَلَيْهِمْ حَتَّى تَابُوا وَرَجَعُوا عَنِ الْفَسَادِ مَلَكُوا بَيْتَ الْمَقْدِسِ قَبْلَ الكرة قبل بخت نصر وَاسْتِبْقَاءِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَسْرَاهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَرُجُوعِ الْمُلْكِ إِلَيْهِمْ، وَذُكِرَ فِي سَبَبِ ذَلِكَ أَنَّ مَلِكًا غَزَا أَهْلَ بابل وكان بخت نصر قَدْ قَتَلَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَرْبَعِينَ أَلْفًا مِمَّنْ يقرأ
فَأَكْرِمْ بِقَحْطَانَ مِنْ وَالِدٍ | وَحِمْيَرُ أَكْرِمْ بِقَوْمٍ نَفِيرًا |
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَيْ أَطَعْتُمُ اللَّهَ كَانَ ثَوَابُ الطَّاعَةِ لِأَنْفُسِكُمْ، وَإِنْ أَسَأْتُمْ بِمَعْصِيَتِهِ كَانَ عِقَابُ الْإِسَاءَةِ لِأَنْفُسِكُمْ لَا يَتَعَدَّى الْإِحْسَانُ وَالْإِسَاءَةُ إِلَى غَيْرِكُمْ، وَجَوَابُ وَإِنْ أَسَأْتُمْ قَوْلُهُ: فَلَها عَلَى حَذْفِ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وَلَهَا خَبَرُهُ تَقْدِيرُهُ فَالْإِسَاءَةُ لَهَا. قَالَ الْكَرْمَانِيُّ:
جَاءَ فَلَهَا بِاللَّامِ ازْدِوَاجًا انْتَهَى. يَعْنِي أَنَّهُ قَابَلَ قَوْلَهُ لِأَنْفُسِكُمْ بِقَوْلِهِ فَلَهَا. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ:
اللَّامُ بِمَعْنَى إِلَى أَيْ فَإِلَيْهَا تَرْجِعُ الْإِسَاءَةُ. وَقِيلَ اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى أَيْ فَعَلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ:
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وللقم فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أَيِ الْمَرَّةُ الْآخِرَةِ فِي إِفْسَادِكُمْ وَعُلُوِّكُمْ، وَجَوَابُ إِذَا مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ جَوَابُ إِذَا الْأُولَى تَقْدِيرُهُ بَعَثْنَاهُمْ عَلَيْكُمْ وَإِفْسَادُهُمْ فِي ذَلِكَ بِقَتْلِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمَا السَّلَامُ. وَسَبَبُ قَتْلِهِ فِيمَا
رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ: أَنَّ مَلِكًا أَرَادَ أَنْ يَتَزَوَّجَ مَنْ لَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُهَا، فَنَهَاهُ يَحْيَى بْنُ زَكَرِيَّا وَكَانَ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ حَاجَةٌ كُلَّ يَوْمٍ عِنْدَ الْمَلِكِ تَقْضِيهَا، فَأَلْقَتْ أُمُّهَا إِلَيْهَا أَنْ تَسْأَلَهُ عَنْ ذَبْحِ يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بِسَبَبِ مَا كَانَ مَنْعُهُ مِنْ تَزَوُّجِ ابْنَتِهَا فَسَأَلَتْهُ ذَلِكَ، فدافعها فألحق عَلَيْهِ فَدَعَا بِطَسْتٍ فَذَبَحَهُ فَنَدَرَتْ قَطْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ فَلَمْ تَزَلْ تَغْلِي حَتَّى بعث اللَّهُ عَلَيْهِمْ بُخْتُ نَصَّرَ وَأُلْقِيَ فِي نَفْسِهِ أَنْ يَقْتُلَ عَلَى ذَلِكَ الدَّمِ مِنْهُمْ حَتَّى يَسْكُنَ، فَقَتَلَ عَلَيْهِ مِنْهُمْ سَبْعِينَ أَلْفًا.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ الْمَبْعُوثُ فِي المرة الآخرة بخت نصر لِأَنَّ قَتْلَ يَحْيَى بَعْدَ رفع عيسى، وبخت نصر كَانَ قَبْلَ عِيسَى بِزَمَنٍ
وقرأ الجمهور لِيَسُوؤُا بِلَامِ كَيْ وَيَاءِ الْغَيْبَةِ وَضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ الْعَائِدِ عَلَى الْمَبْعُوثِينَ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ لِيَسُوءَ بِالْيَاءِ وَهَمْزَةٍ مَفْتُوحَةٍ عَلَى الْإِفْرَادِ وَالْفَاعِلُ الْمُضْمَرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى الْوَعْدِ أَوْ عَلَى الْبَعْثِ الدَّالِّ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الْجَزَاءِ الْمَحْذُوفَةِ.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طالب وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكِسَائِيُّ لِنَسُوءَ بِالنُّونِ
الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَفِيهَا ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ لِنَسُوءُنَّ بِلَامِ الْأَمْرِ وَالنُّونِ الَّتِي لِلْعَظَمَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الْخَفِيفَةِ آخِرًا.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَيْضًا لَنَسُوءُنَّ وَلَيَسُوءُنَّ بِالنُّونِ وَالْيَاءِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَهِيَ لَامُ الْقَسَمِ
، وَدَخَلَتْ لَامُ الْأَمْرِ فِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ كَقَوْلِهِ: وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ «١» وَجَوَابُ إِذَا هُوَ الْجُمْلَةُ الْأَمْرِيَّةُ عَلَى تَقْدِيرِ الْفَاءِ. وَفِي مُصْحَفِ أُبَيٍّ لِيُسِيءَ بِيَاءٍ مَضْمُومَةٍ بِغَيْرِ وَاوٍ. وَفِي مُصْحَفِ أَنَسٍ لِيَسُوءَ وَجْهَكُمْ عَلَى الْإِفْرَادِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالْوُجُوهِ الْحَقِيقَةُ لِأَنَّ آثَارَ الْأَعْرَاضِ النَّفْسَانِيَّةِ فِي الْقَلْبِ تَظْهَرُ عَلَى الْوَجْهِ، فَفِي الْفَرَحِ يَظْهَرُ الْإِسْفَارُ وَالْإِشْرَاقُ، وَفِي الْحُزْنِ يَظْهَرُ الْكُلُوحُ وَالْغَبَرَةُ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُعَبَّرَ عَنِ الْجُمْلَةِ بِالْوَجْهِ فَإِنَّهُمْ سَاءُوهُمْ بِالْقَتْلِ وَالنَّهْبِ وَالسَّبْيِ فَحَصَلَتِ الْإِسَاءَةُ لِلذَّوَاتِ كُلِّهَا أَوْ عَنْ سَادَاتِهِمْ وَكُبَرَائِهِمْ بِالْوُجُوهِ، وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ فِي الْخِطَابِ يَا وَجْهَ الْعَرَبِ.
وَاللَّامُ فِي وَلِيَدْخُلُوا لَامُ كَيْ مَعْطُوفًا عَلَى مَا قَبْلَهَا مِنَ لَامَ كَيْ، وَمَنْ قَرَأَ بِلَامِ الْأَمْرِ أَوْ بِلَامِ الْقَسَمِ جَازَ أَنْ يَكُونَ وَلِيَدْخُلُوا وَمَا بَعْدَهَا أَمْرًا، وَجَازَ أَنْ تَكُونَ لَامُ كَيْ أَيْ وَبَعَثْنَاهُمْ لِيَدْخُلُوا. والْمَسْجِدَ مَسْجِدُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَمَعْنَى كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَيْ بِالسَّيْفِ وَالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ وَالْإِذْلَالِ، وَهَذَا يَبْعُدُ قَوْلُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ أُولَى الْمَرَّتَيْنِ لَمْ يَكُنْ فِيهَا قَتْلٌ وَلَا قِتَالٌ وَلَا نَهْبٌ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ. وَلِيُتَبِّرُوا يُهْلِكُوا. وَقَالَ قُطْرُبٌ:
يهدموا. قال الشاعر:
فَمَا النَّاسُ إِلَّا عَامِلَانِ فَعَامِلٌ | يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وَآخَرُ رَافِعُ |
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ «١» ثُمَّ ذَكَرَ مَا أُعِدَّ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ جَعْلُ جَهَنَّمَ لَهُمْ حَصِيراً وَالْحَصِيرُ السِّجْنُ. قَالَ لَبِيدٌ:
وَمَقَامُهُ غَلَبَ الرِّجَالَ كَأَنَّهُمْ | جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ |
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا.
لما ذكر تعالى من اخْتَصَّهُ بِالْإِسْرَاءِ وَهُوَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْ آتَاهُ التَّوْرَاةَ وَهُوَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَنَّهَا هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، وَذَكَرَ مَا قَضَى عَلَيْهِمْ فِيهَا مِنَ التَّسْلِيطِ عليهم
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ قَيْدٌ فِي الْإِيمَانِ الْكَامِلِ إِذِ الْعَمَلُ هُوَ كَمَالُ الْإِيمَانِ، نَبَّهَ عَلَى الْحَالَةِ الْكَامِلَةِ لِيَتَحَلَّى بِهَا الْمُؤْمِنُ، وَالْمُؤْمِنُ الْمُفَرِّطُ فِي عَمَلِهِ لَهُ بِإِيمَانِهِ حَظٌّ فِي عَمَلِ الصَّالِحَاتِ وَالْأَجْرُ الْكَبِيرُ الْجَنَّةُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ ذَكَرَ الْمُؤْمِنِينَ الْأَبْرَارَ وَالْكُفَّارَ وَلَمْ يَذْكُرِ الْفَسَقَةَ؟ قُلْتُ: كَانَ النَّاسُ حِينَئِذٍ إِمَّا مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَإِمَّا مُشْرِكٌ، وَإِنَّمَا حَدَثَ أَصْحَابُ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ بَعْدَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَهَذَا مُكَابَرَةٌ بَلْ وَقَعَ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْضِ الْمُؤْمِنِينَ هَنَاتٌ وَسَقَطَاتٌ بَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْقُرْآنِ، وَبَعْضُهَا مَذْكُورٌ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ الثَّابِتِ.
وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عُطِفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً بُشِّرُوا بِفَوْزِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَبِكَيْنُونَةِ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ لِأَعْدَائِهِمُ الْكُفَّارِ، إِذْ فِي عِلْمِ الْمُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ وَتَبْشِيرِهِمْ بِهِ مَسَرَّةٌ لَهُمْ، فَهُمَا بِشَارَتَانِ وَفِيهِ وَعِيدٌ لِلْكُفَّارِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ وَيُخْبَرَ بِأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ انْتَهَى. فَلَا يَكُونُ إِذْ ذَاكَ دَاخِلًا تَحْتَ الْبِشَارَةِ. وَفِي قَوْلِهِ: وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مَنْ آمَنَ بِالْآخِرَةِ لَا يُعَدُّ لَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ، وَأَنَّهُ لَيْسَ عَمَلُ الصَّالِحَاتِ شَرْطًا فِي نَجَاتِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَيُبَشِّرُ مُشَدَّدًا مُضَارِعُ بَشَّرَ الْمُشَدَّدِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ
(٢) سورة البيّنة: ٩٨/ ٣.
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ: نَزَلَتْ ذَامَّةً لِمَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنَ الدُّعَاءِ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فِي أَوْقَاتِ الْغَضَبِ وَالضَّجَرِ، وَمُنَاسَبَتُهَا لِمَا قَبْلَهَا أَنَّ بَعْضَ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ كَانَ يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ بِتَعْجِيلِ مَا وُعِدَ بِهِ مِنَ الشَّرِّ فِي الْآخِرَةِ، كَقَوْلِ النَّضْرِ:
فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً «٢» الْآيَةَ. وَكُتِبَ وَيَدْعُ بِغَيْرِ وَاوٍ عَلَى حَسَبِ السَّمْعِ وَالْإِنْسَانُ هُنَا لَيْسَ وَاحِدًا مُعَيَّنًا، وَالْمَعْنَى أَنَّ فِي طِبَاعِ الْإِنْسَانِ أَنَّهُ إِذَا ضَجِرَ وَغَضِبَ دَعَا عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وَمَالِهِ بِالشَّرِّ أَنْ يُصِيبَهُ كَمَا يَدْعُو بِالْخَيْرِ أَنْ يُصِيبَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ عَدَمِ تَثَبُّتِهِ وَقِلَّةِ صَبْرِهِ. وَعَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَشَارَ بِهِ إِلَى آدَمَ لَمَّا نُفِخَ الرُّوحُ فِي رَأْسِهِ عَطَسَ وَأَبْصَرَ، فَلَمَّا مَشَى الرُّوحُ فِي بَدَنِهِ قَبْلَ سَاقِهِ أَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ فَذَهَبَ يَمْشِي مُسْتَعْجِلًا فَلَمْ يَقْدِرْ، أَوِ الْمَعْنَى ذُو عَجَلَةٍ مَوْرُوثَةٍ مِنْ أَبِيكُمُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ تَنْبُو عَنْهُ أَلْفَاظُ الْآيَةِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هَذِهِ الْآيَةُ ذَمٌّ لِقُرَيْشٍ الَّذِينَ قَالُوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ «٣» الْآيَةَ.
وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولُوا: فَاهْدِنَا إِلَيْهِ وَارْحَمْنَا. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هِيَ مُعَاتَبَةٌ لِلنَّاسِ عَلَى أَنَّهُمْ إِذَا نَالَهُمْ شَرٌّ وَضُرٌّ دَعَوْا وَأَلَحُّوا فِي الدُّعَاءِ وَاسْتَعْجَلُوا الْفَرَجَ، مِثْلَ الدُّعَاءِ الَّذِي كَانَ يَجِبُ أَنْ يَدْعُوهُ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ انْتَهَى. وَالْبَاءُ في بِالشَّرِّ وبِالْخَيْرِ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى فِي، وَالْمَدْعُوُّ بِهِ لَيْسَ الشَّرَّ وَلَا الْخَيْرَ، وَيُرَادُ عَلَى هَذَا أَنْ تَكُونَ حَالَتَاهُ فِي الشَّرِّ وَالْخَيْرِ مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ لِلَّهِ والرغبة والذكر، وَيَنْبُو عَنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُهُ: دُعاءَهُ إِذْ هُوَ مَصْدَرٌ تَشْبِيهِيٌّ يَقْتَضِي وُجُودَهُ، وَفِي هَذَا الْقَوْلِ شَبَّهَ دُعاءَهُ فِي حَالَةِ الشَّرِّ بِدُعَاءٍ مَقْصُودٍ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُوجَدَ فِي حَالَةِ الْخَيْرِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى وَيَدْعُ الْإِنْسانُ فِي طَلَبِ الْمُحَرَّمِ كَمَا يَدْعُو فِي طَلَبِ الْمُبَاحِ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْقُرْآنَ وَأَنَّهُ هَادٍ إِلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَقِيمَةِ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ مِمَّا لَمْ يَكْمُلِ الِانْتِفَاعُ إِلَّا بِهِ، وَمَا دَلَّ عَلَى تَوْحِيدِهِ مِنْ عَجَائِبِ الْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ، وأَيْضًا لَمَّا ذَكَرَ عَجَلَةَ الْإِنْسَانِ وَانْتِقَالَهُ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ ذَكَرَ أَنَّ كُلَّ هَذَا الْعَالَمِ كَذَلِكَ فِي
(٢) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
(٣) سورة الأنفال: ٨/ ٣٢.
وَقِيلَ: مَحْوُهُ نَقْصُهُ عَمَّا كَانَ خُلِقَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِضَاءَةِ، وَأَنَّهُ جَعَلَ نُورَ الشَّمْسِ سَبْعِينَ جُزْءًا وَنُورَ الْقَمَرِ كَذَلِكَ، فَمَحَا مِنْ نُورِ الْقَمَرِ حَتَّى صَارَ عَلَى جُزْءٍ وَاحِدٍ، وجعل ما محا مِنْهُ زَائِدًا فِي نُورِ الشَّمْسِ، وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ عَلِيٍّ
وَابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: جَعَلْنَاهَا لَا تُبْصَرُ الْمَرْئِيَّاتُ فِيهَا كَمَا لَا يُبْصَرُ مَا مُحِيَ مِنَ الْكِتَابِ.
قَالَ: وَهَذَا مِنَ الْبَلَاغَةِ الْحَسَنَةِ جِدًّا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أَيْ جَعَلْنَا اللَّيْلَ ممحوا لضوء مَطْمُوسَهُ، مُظْلِمًا لَا يُسْتَبَانُ مِنْهُ شَيْءٌ كَمَا لَا يُسْتَبَانُ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَمْحُوِّ، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مُبْصِرًا أَيْ يُبْصَرُ فِيهِ الْأَشْيَاءُ وَتُسْتَبَانُ، أَوْ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ الَّتِي هِيَ الْقَمَرُ حَيْثُ لَمْ يُخْلَقْ لَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ فَتُرَى بِهِ الْأَشْيَاءُ رُؤْيَةً بَيِّنَةً، وَجَعَلْنَا الشَّمْسَ ذَاتَ شُعَاعٍ يُبْصَرُ فِي ضَوْئِهَا كُلُّ شَيْءٍ انْتَهَى. وَنُسِبَ الْإِبْصَارُ إِلَى آيَةَ النَّهارِ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ كَمَا تَقُولُ: لَيْلٌ قَائِمٌ وَنَائِمٌ، أَيْ يُقَامُ فِيهِ وَيُنَامُ فِيهِ. فَالْمَعْنَى يُبْصَرُ فِيهَا.
وَقِيلَ: مَعْنَى مُبْصِرَةً مُضِيئَةٌ. وَقِيلَ: هُوَ مِنْ بَابِ أَفْعَلَ، وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ مَنْ أسند أفعل إليه كقولهم: أَجْبَنَ الرَّجُلُ إِذَا كَانَ أَهْلُهُ جُبَنَاءَ، وَأَضْعَفَ إِذَا كَانَ دَوَابُّهُ ضِعَافًا فَأَبْصَرَتِ
وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ مُبْصِرَةً بِفَتْحِ الْمِيمِ،
وَالصَّادِ وَهُوَ مَصْدَرٌ أُقِيمَ مَقَامَ الِاسْمِ، وَكَثُرَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي صِفَاتِ الْأَمْكِنَةِ كَقَوْلِهِمْ: أَرْضٌ مَسْبَعَةٌ وَمَكَانٌ مَضَبَّةٌ، وَعَلَّلَ الْمَحْوَ وَالْإِبْصَارَ بِابْتِغَاءِ الْفَضْلِ وَعِلْمِ عَدَدِ السِّنِينَ وَالْحِسَابِ، وَوَلِيَ التَّعْلِيلَ بِالِابْتِغَاءِ مَا وَلِيَهُ مِنْ آيَةِ النَّهَارِ وَتَأَخَّرَ التَّعْلِيلُ بِالْعِلْمِ عَنْ آيَةِ اللَّيْلِ. وَجَاءَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ «١» الْبُدَاءَةُ بِتَعْلِيلِ الْمُتَقَدِّمِ ثُمَّ تَعْلِيلِ الْمُتَأَخِّرِ بِالْعِلَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ، وَهُمَا طَرِيقَانِ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهِمَا.
وَمَعْنَى لِتَبْتَغُوا لِتَتَوَصَّلُوا إِلَى اسْتِبَانَةِ أَعْمَالِكُمْ وَتَصَرُّفِكُمْ فِي مَعَايِشِكُمْ وَالْحِسابَ لِلشُّهُورِ وَالْأَيَّامِ وَالسَّاعَاتِ، وَمَعْرِفَةُ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ إِنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ آيَةِ اللَّيْلِ لَا مِنْ جِهَةِ آيَةِ النَّهَارِ وَكُلَّ شَيْءٍ مِمَّا تَفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ فِي دِينِكُمْ وَدُنْيَاكُمْ فَصَّلْناهُ بَيَّنَّاهُ تَبْيِينًا غَيْرَ مُلْتَبِسٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ نَصْبَ وَكُلَّ شَيْءٍ عَلَى الِاشْتِغَالِ، وَكَانَ ذَلِكَ أَرْجَحَ مِنَ الرَّفْعِ لِسَبْقِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ وَكُلَّ شَيْءٍ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْحِسابَ وَالطَّائِرَ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا قُدِّرَ لَهُ وَعَلَيْهِ، وَخَاطَبَ اللَّهُ الْعَرَبَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِمَا تَعْرِفُ إِذْ كَانَ مِنْ عَادَتِهَا التَّيَمُّنُ وَالتَّشَاؤُمُ بِالطَّيْرِ فِي كَوْنِهَا سَانِحَةً وَبَارِحَةً وَكَثُرَ ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَتْهُ بِالظِّبَاءِ وَحَيَوَانِ الْفَلَاةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كُلُّهُ تَطَيُّرًا. وَكَانَتْ تَعْتَقِدُ أَنَّ تِلْكَ الطِّيَرَةَ قَاضِيَةٌ بِمَا يَلْقَى الْإِنْسَانُ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ، فَأَخْبَرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْلَغِ إِشَارَةٍ أَنَّ جَمِيعَ ما يلقى الإنسان من خَيْرٍ وَشَرٍّ فَقَدْ سَبَقَ بِهِ الْقَضَاءُ وَأُلْزِمَ حَظُّهُ وَعَمَلُهُ وَمَكْسَبُهُ فِي عُنُقِهِ، فَعَبَّرَ عَنِ الْحَظِّ وَالْعَمَلِ إِذْ هُمَا مُتَلَازِمَانِ بِالطَّائِرِ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ بِحَسَبِ مُعْتَقَدِ الْعَرَبِ فِي التَّطَيُّرِ، وَقَوْلِهِمْ فِي الْأُمُورِ عَلَى الطَّائِرِ الْمَيْمُونِ وَبِأَسْعَدِ طَائِرٍ، وَمِنْهُ مَا طَارَ فِي الْمُحَاصَّةِ وَالسَّهْمِ، وَمِنْهُ فَطَارَ لَنَا مِنَ الْقَادِمِينَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ أَيْ كَانَ ذَلِكَ حَظَّنَا.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: طائِرَهُ عَمَلَهُ، وَعَنِ السُّدِّيِّ كِتَابَهُ الَّذِي يَطِيرُ إِلَيْهِ. وَعَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ: الطَّائِرُ عِنْدَ الْعَرَبِ الْحَظُّ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيهِ الْبَخْتَ. وَعَنِ الْحَسَنِ: يَا ابْنَ آدَمَ بُسِطَتْ لَكَ صَحِيفَةٌ إِذَا بُعِثْتَ قُلِّدْتَهَا فِي عُنُقِكَ، وَخُصَّ الْعُنُقُ لِأَنَّهُ مَحَلُّ الزِّينَةِ وَالشَّيْنِ فَإِنْ كَانَ خَيْرًا زَانَهُ كَمَا يُزَيِّنُ الطَّوْقُ وَالْحُلِيُّ، وَإِنْ كَانَ شَرًّا شَانَهُ كَالْغُلِّ فِي الرَّقَبَةِ. وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ وَأَبُو رَجَاءٍ طَيْرَهُ. وقرىء: فِي عُنُقِهِ بِسُكُونِ النُّونِ. وقرأ الجمهور ومنهم أبو جعفر:
مَنْشُوراً غَيْرَ مَطْوِيٍّ لِيُمْكِنَهُ قراءته، ويَلْقاهُ ومَنْشُوراً صِفَتَانِ لِكِتَابٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْشُوراً حَالًا مِنْ مَفْعُولِ يَلْقَاهُ اقْرَأْ كِتابَكَ مَعْمُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ يُقَالُ لَهُ:
اقْرَأْ كِتابَكَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: يَقْرَأُ ذَلِكَ الْيَوْمَ مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا قَارِئًا. وَقَالَ الزمخشري وغيره. وبِنَفْسِكَ فَاعِلُ كَفى انْتَهَى. وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ وَالْبَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى سَبِيلِ الْجَوَازِ لَا اللُّزُومِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ إِذَا حُذِفَتِ ارْتَفَعَ ذَلِكَ الِاسْمُ بِكَفَى. قَالَ الشَّاعِرُ:
كَفَى الشَّيْبُ وَالْإِسْلَامُ لِلْمَرْءِ ناهيا وقال آخر:
وَيُخْبِرُنِي عَنْ غَائِبِ الْمَرْءِ هَدْيُهُ | كَفَى الْهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ الْمَرْءُ مُخْبِرَا |
كَفى اسْمُ فِعْلٍ بِمَعْنَى اكْتَفِ، وَالْفَاعِلُ مُضْمَرٌ يَعُودُ عَلَى الْمُخَاطَبِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَا تَكُونُ الْبَاءُ زَائِدَةً. وَإِذَا فَرَّعْنَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ إِنَّ بِنَفْسِكَ هُوَ فَاعِلُ كَفى فَكَانَ الْقِيَاسُ أَنْ تَدْخُلَ تَاءُ التَّأْنِيثِ لِتَأْنِيثِ الْفَاعِلُ، فَكَانَ يَكُونُ التَّرْكِيبُ كَفَتْ بِنَفْسِكَ كَمَا تُلْحَقُ مَعَ زِيَادَةِ مِنْ فِي الْفَاعِلِ إِذَا كَانَ مُؤَنَّثًا، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها «١» وَقَوْلِهِ: وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ «٢» وَلَا نَحْفَظُهُ جَاءَ التَّأْنِيثُ فِي كَفَى إِذَا كَانَ الْفَاعِلُ مُؤَنَّثًا مَجْرُورًا بِالْبَاءِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِنَفْسِكَ ذَاتُكَ أَيْ كَفَى بِكَ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: يُرِيدُ بِنَفْسِهِ جَوَارِحَهُ تَشْهَدُ عَلَيْهِ إِذَا أَنْكَرَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ أَيْ مَا أَشَدَّ كِفَايَةَ ما علمت بما علمت. والْيَوْمَ منصوب بكفى وعَلَيْكَ متعلق بحسيبا. وَمَعْنَى حَسِيباً حَاكِمًا عَلَيْكَ بِعَمَلِكَ قَالَهُ الْحَسَنُ. قَالَ: يَا ابْنَ آدَمَ لَقَدْ أَنْصَفَكَ اللَّهُ وَجَعَلَكَ حَسِيبَ نَفْسِكَ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: مُحَاسِبًا يَعْنِي فَعِيلًا بِمَعْنَى مُفَاعِلٍ كَجَلِيسٍ وَخَلِيطٍ. وَقِيلَ: حَاسِبًا كضريب القداح
(٢) سورة الأنعام: ٦/ ٤.
كَفَى بِنَفْسِكَ رَجُلًا حَسِيبًا. وَقَالَ الْأَنْبَارِيُّ: وَإِنَّمَا قَالَ حَسِيباً وَالنَّفْسُ مُؤَنَّثَةٌ لِأَنَّهُ يَعْنِي بِالنَّفْسِ الشَّخْصَ، أَوْ لِأَنَّهُ لَا عَلَامَةَ لِلتَّأْنِيثِ فِي لَفْظِ النَّفْسِ، فَشُبِّهَتْ بِالسَّمَاءِ وَالْأَرْضِ قَالَ تَعَالَى: السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ «١». وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا مَنِ اهْتَدى الْآيَةَ قَالَتْ فِرْقَةٌ: نَزَلَتِ الْإِشَارَةُ فِي الْهُدَى إِلَى أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الْأَسْوَدِ، وَفِي الضَّلَالِ إِلَى الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ. وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ هَذَا قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ اكْفُرُوا بِمُحَمَّدٍ وَإِثْمُكُمْ عَلَيَّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى فِي آخِرِ الْأَنْعَامِ وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا غَيَّا انْتِفَاءَ التَّعْذِيبِ بِبِعْثَةِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَالْمَعْنَى حَتَّى يَبْعَثَ رَسُولًا فَيُكَذَّبُ وَلَا يُؤْمَنُ بِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَانْتِفَاءُ التَّعْذِيبِ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِي الدُّنْيَا بِالْهَلَاكِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَوْ فِي الْآخِرَةِ بِالنَّارِ فَهُوَ يَشْمَلُهُمَا، وَيَدُلُّ عَلَى الشُّمُولِ قَوْلُهُ فِي الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَإِذا أَرَدْنا
وَفِي الْآخِرَةِ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
وَآيٌ كَثِيرَةٌ نُصَّ فِيهَا عَلَى الْهَلَاكِ فِي الدُّنْيَا بِأَنْوَاعٍ مِنَ الْعَذَابِ حِينَ كَذَّبَتِ الرُّسُلَ. وَقَوْلُهُ فِي عَذَابِ الْآخِرَةِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نذير؟ وقالوا: بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ، وَكُلَّمَا تَدُلُّ عَلَى عُمُومِ أَزْمَانِ الْإِلْقَاءِ فَتَعُمُّ الْمُلْقَيْنَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «٢» وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّ هَذَا فِي حُكْمِ الدُّنْيَا، أَيْ أَنَّ اللَّهَ لَا يُهْلِكُ أُمَّةً بِعَذَابٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ الرِّسَالَةِ إِلَيْهِمْ وَالْإِنْذَارِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ الْحُجَّةُ لَازِمَةٌ لَهُمْ قَبْلَ بِعْثَةِ الرَّسُولِ لِأَنَّ مَعَهُمْ أَدِلَّةَ الْعَقْلِ الَّتِي بِهَا يُعْرَفُ اللَّهُ وَقَدْ أَغْفَلُوا النَّظَرَ وَهُمْ مُتَمَكِّنُونَ مِنْهُ، وَاسْتِيجَابُهُمُ الْعَذَابَ لِإِغْفَالِهِمُ النَّظَرَ فِيمَا مَعَهُمْ رُكُونُهُمْ لِذَلِكَ الْإِغْفَالِ الشَّرَائِعَ الَّتِي لَا سَبِيلَ إِلَيْهَا إِلَّا بِالتَّوْقِيفِ وَالْعَمَلُ بِهَا لَا يَصِحُّ إِلَّا بَعْدَ الْإِيمَانِ. قُلْتُ: بَعْثَةُ الرَّسُولِ صَلَّى الله عليه وسلم من جُمْلَةِ التَّنْبِيهِ عَلَى النَّظَرِ وَالْإِيقَاظِ مِنْ رَقْدَةِ الْغَفْلَةِ لِئَلَّا يَقُولُوا كُنَّا غَافِلِينَ، فَلَوْلَا بَعَثْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا يُنَبِّهُنَا عَلَى النَّظَرِ فِي أَدِلَّةِ الْعَقْلِ انْتَهَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: الْمَعْنَى وَمَا كُنَّا مُسْتَأْصِلِينَ فِي الدُّنْيَا لِمَا اقْتَضَتْهُ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ حَتَّى
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٢٤.
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً، كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَا يُعَذِّبُ أَحَدًا حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْهِ رَسُولًا بَيَّنَ بَعْدَ ذَلِكَ عِلَّةَ إِهْلَاكِهِمْ وَهِيَ مُخَالَفَةُ أَمْرِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالتَّمَادِي عَلَى الْفَسَادِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذا أَرَدْنا
وَقْتَ إِهْلَاكِ قَوْمٍ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ زَمَانِ إِهْلَاكِهِمْ إِلَّا قَلِيلٌ انْتَهَى. فَتُؤَوَّلُ أَرَدْنا
عَلَى مَعْنَى دَنَا وَقْتُ إِهْلَاكِهِمْ وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ الِاعْتِزَالِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَمَرْنَا، وَفِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي هُوَ ضِدُّ النَّهْيِ، وَاخْتُلِفَ فِي مُتَعَلَّقِهِ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَعَصَوْا وَفَسَقُوا. وَذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَسَقُوا وَرَدَّ عَلَى مَنْ قَالَ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَقَالَ:
أَيْ أَمَرْنَاهُمْ بِالْفِسْقِ فَفَعَلُوا، وَالْأَمْرُ مَجَازٌ لِأَنَّ حَقِيقَةَ أَمْرِهِمْ بِالْفِسْقِ أَنْ يَقُولَ لَهُمْ افْسُقُوا وَهَذَا لَا يَكُونُ، فَبَقِيَ أَنْ يَكُونَ مَجَازًا، وَوَجْهُ الْمَجَازِ أَنَّهُ صَبَّ عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَجَعَلُوهَا ذَرِيعَةً إِلَى الْمَعَاصِي وَاتِّبَاعِ الشَّهَوَاتِ، فَكَأَنَّهُمْ مَأْمُورُونَ بِذَلِكَ لِتَسَبُّبِ إِيلَاءِ النِّعْمَةِ فِيهِ، وَإِنَّمَا خَوَّلَهُمْ إِيَّاهَا لِيَشْكُرُوا وَيَعْمَلُوا فِيهَا الْخَيْرَ وَيَتَمَكَّنُوا مِنَ الْإِحْسَانِ وَالْبِرِّ كَمَا خَلَقَهُمْ أَصِحَّاءَ أَقْوِيَاءَ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَطَلَبَ مِنْهُمْ إِيثَارَ الطَّاعَةِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَآثَرُوا الْفُسُوقَ فَلَمَّا فَسَقُوا حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ، وَهِيَ كَلِمَةُ الْعَذَابِ فَدَمَّرَهُمْ. فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا زَعَمْتَ أَنَّ مَعْنَاهُ أَمَرْنَاهُمْ بِالطَّاعَةِ فَفَسَقُوا؟ قُلْتُ: لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دليل عليه غير جائز فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ. وَذَلِكَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ إِنَّمَا حُذِفَ لِأَنَّ فَسَقُوا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَلَامٌ مُسْتَفِيضٌ.
يُقَالُ: أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، لَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ قِيَامٌ أَوْ قِرَاءَةٌ، وَلَوْ ذَهَبْتَ تُقَدِّرُ غَيْرَهُ فَقَدْ رُمْتَ مِنْ مُخَاطِبِكَ عِلْمَ الْغَيْبِ وَلَا يَلْزَمُ هَذَا قَوْلَهُمْ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي أَوْ فَلَمْ يَمْتَثِلْ أَمْرِي لِأَنَّ ذَلِكَ مُنَافٍ لِلْأَمْرِ مُنَاقِضٌ لَهُ، وَلَا يَكُونُ مَا يُنَاقِضُ الْأَمْرَ مَأْمُورًا بِهِ، فَكَانَ مُحَالًا أَنْ يُقْصَدَ أَصْلًا حَتَّى يُجْعَلَ دَالًّا عَلَى الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَانَ الْمَأْمُورُ بِهِ فِي هَذَا الْكَلَامِ غَيْرَ مَدْلُولٍ
؟ قُلْتُ: لَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ قَوْلَهُ فَفَسَقُوا
يُدَافِعُهُ فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ، فَكَانَ صَرْفُ الْأَمْرِ إِلَى الْمَجَازِ هُوَ الْوَجْهَ. وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ تَقُولُ: لَوْ شَاءَ لَأَحْسَنَ إِلَيْكَ، وَلَوْ شَاءَ لَأَسَاءَ إِلَيْكَ، تُرِيدُ لَوْ شَاءَ الْإِحْسَانَ وَلَوْ شَاءَ الْإِسَاءَةَ فَلَوْ ذَهَبْتَ تُضْمِرُ خِلَافَ مَا أَظْهَرْتَ وَقُلْتَ: قَدْ دَلَّتْ حَالُ مَنْ أَسْنَدْتَ إِلَيْهِ الْمَشِيئَةَ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْإِحْسَانِ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْإِسَاءَةِ فَاتْرُكِ الظَّاهِرَ الْمَنْطُوقَ بِهِ وَأَضْمِرْ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ حَالُ صَاحِبِ الْمَشِيئَةِ لَمْ يَكُنْ عَلَى سَدَادٍ انْتَهَى.
أَمَّا مَا ارْتَكَبَهُ مِنَ الْمَجَازِ وَهُوَ أَنَّ أَمَرْنا مُتْرَفِيها
صَبَبْنَا عَلَيْهِمُ النِّعْمَةَ صَبًّا فَيَبْعُدُ جِدًّا. وَأَمَّا قَوْلُهُ وَأَقْدَرَهُمْ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ إِلَى آخِرِهِ فَمَذْهَبُ الِاعْتِزَالِ، وَقَوْلُهُ لِأَنَّ حَذْفَ مَا لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ غَيْرُ جَائِزِ تَعْلِيلٌ لَا يَصِحُّ فِيمَا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ، بَلْ ثَمَّ مَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ. وَقَوْلُهُ فَكَيْفَ يُحْذَفُ مَا الدَّلِيلُ قَائِمٌ عَلَى نَقِيضِهِ إِلَى قَوْلِهِ عِلْمَ الْغَيْبِ، فَنَقُولُ: حَذْفُ الشَّيْءِ تَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةٍ مُوَافِقَةٍ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا مَثَّلَ بِهِ فِي قَوْلِهِ أَمَرْتُهُ فَقَامَ وَأَمَرْتُهُ فَقَرَأَ، وَتَارَةً يَكُونُ لِدَلَالَةِ خِلَافِهِ أَوْ ضِدِّهِ أَوْ نَقِيضِهِ فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ «١» قَالُوا:
تَقْدِيرُهُ مَا سَكَنَ وَمَا تَحَرَّكَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «٢» قَالُوا: الْحَرَّ وَالْبَرْدَ.
وَقَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضًا | أُرِيدُ الْخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي |
أَأَلْخَيْرُ الَّذِي أَنَا أَبْتَغِيهِ | أَمِ الشَّرُّ الَّذِي هُوَ يَبْتَغِينِي |
(٢) سورة النحل: ١٦/ ٨١.
يُدَافِعُهُ، فَكَأَنَّكَ أَظْهَرْتَ شَيْئًا وَأَنْتَ تَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ. قُلْنَا: نَعَمْ يَدَّعِي إِضْمَارَ خِلَافِهِ وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ نَقِيضُهُ. وَقَوْلُهُ: وَنَظِيرُ أَمَرَ شَاءَ فِي أَنَّ مَفْعُولَهُ اسْتَفَاضَ فِيهِ الْحَذْفُ. قُلْتُ: لَيْسَ نَظِيرَهُ لِأَنَّ مَفْعُولَ أَمَرَ لَمْ يَسْتَفِضْ فِيهِ الْحَذْفُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، بَلْ لَا يَكَادُ يُسْتَعْمَلُ مِثْلُ شَاءَ مَحْذُوفًا مَفْعُولُهُ لِدَلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ، وَأَكْثَرُ اسْتِعْمَالِهِ مُثْبَتَ الْمَفْعُولِ لِانْتِفَاءِ الدَّلَالَةِ عَلَى حَذْفِهِ. قَالَ تَعَالَى: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ «١» أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ «٢» أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا «٣» قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ «٤» أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا «٥» أَيْ بِهِ وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَمَرْتُكَ الْخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ أَمَرْتُهُ فَعَصَانِي يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ الْفِسْقِ لِأَنَّ الْفِسْقَ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، فَكَوْنُهُ فِسْقًا يُنَافِي كَوْنَهُ مأمورا به، أَنَّ كَوْنَهُ مَعْصِيَةً يُنَافِي كَوْنَهَا مَأْمُورًا بِهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَدُلَّ هَذَا اللَّفْظُ عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَيْسَ بِفِسْقٍ. هَذَا الْكَلَامُ فِي غَايَةِ الظُّهُورِ فَلَا أدري لم أَصَرَّ صَاحِبُ الْكَشَّافِ عَلَى قَوْلِهِ مَعَ ظُهُورِ فَسَادِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الْحَقَّ مَا ذَكَرُوهُ، وَهُوَ أَنْ الْمَعْنَى أَمَرْنَاهُمْ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ وَهِيَ الْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْقَوْمُ خَالَفُوا ذَلِكَ عِنَادًا وَأَقْدَمُوا عَلَى الْفِسْقِ انْتَهَى.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى أَمَرْنا
كَثَّرْنَا أَيْ كَثَّرْنَا مُتْرَفِيها
يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ أَيْ كَثَّرَهُمْ حَكَاهُ أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: الْعَرَبُ تَقُولُ: أَمِرَ الْقَوْمُ إِذَا كَثُرُوا وَأَمِرَهُمُ اللَّهُ إِذَا كَثَّرَهُمُ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: الْجَيِّدُ فِي أَمَرْنَا أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى كَثَّرْنَا، وَاسْتَدَلَّ أَبُو عُبَيْدَةَ عَلَى صِحَّةِ هَذِهِ اللُّغَةِ بِمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «خَيْرُ الْمَالِ سِكَّةٌ مَأْبُورَةٌ وَمُهْرَةٌ مَأْمُورَةٌ»
أَيْ كَثِيرَةُ النَّسْلِ، يُقَالُ: أَمِرَ اللَّهُ الْمُهْرَةَ أَيْ كَثَّرَ وَلَدَهَا، وَمَنْ أَنْكَرَ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ بِمَعْنَى كَثَّرَهُمْ لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَيْهِ لِثُبُوتِ ذَلِكَ لُغَةً وَيَكُونُ مِنْ بَابِ مَا لَزِمَ وعدّي بالحركة
(٢) سورة يوسف: ١٢/ ٤٠.
(٣) سورة الطور: ٥٢/ ٣٢.
(٤) سورة الأعراف: ٧/ ٢٩.
(٥) سورة الفرقان: ٢٥/ ٦٠.
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَيَحْيَى بْنُ يَعْمُرَ وَعِكْرِمَةُ. أَمَرْنا
بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَحَكَاهَا النَّحَّاسُ وَصَاحِبُ اللَّوَامِحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَرَدَّ الْفَرَّاءُ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ لَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ إِذْ نُقِلَ أَنَّهَا لُغَةٌ كَفَتْحِ الْمِيمِ وَمَعْنَاهَا كَثَّرْنَا. حَكَى أَبُو حَاتِمٍ عَنْ أَبِي زَيْدٍ يُقَالُ: أَمَرَ اللَّهُ مَالَهُ وَأَمِرَهُ أَيْ كَثَّرَهُ بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ، وَأَبُو رَجَاءٍ، وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ، وَسَلَّامٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَالْكَلْبِيُّ: آمَرْنَا بِالْمَدِّ
وَجَاءَ كَذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَالْحَسَنِ، وَقَتَادَةَ، وَأَبِي الْعَالِيَةِ، وَابْنِ هُرْمُزَ، وَعَاصِمٍ، وَابْنِ كَثِيرٍ، وَأَبِي عَمْرٍو، وَنَافِعٍ، وَهُوَ اخْتِيَارُ يَعْقُوبَ وَمَعْنَاهُ كَثَّرْنَا. يُقَالُ أَمِرَ اللَّهُ الْقَوْمَ وَآمَرَهُمْ فَتَعَدَّى بِالْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ وَالسُّدِّيُّ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَأَبُو الْعَالِيَةِ:
أَمَرْنا بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ وَالْحَسَنِ وَالْبَاقِرِ
وَعَاصِمٍ وَأَبِي عُمَرَ وَعُدِّيَ أَمَرَ بِالتَّضْعِيفِ، وَالْمَعْنَى أَيْضًا كَثَّرْنَا وَقَدْ يَكُونُ أَمَرْنا
بِالتَّشْدِيدِ بِمَعْنَى وَلَّيْنَاهُمْ وَصَيَّرْنَاهُمْ أُمَرَاءَ، وَاللَّازِمُ مِنْ ذَلِكَ أُمِّرَ فُلَانٌ إِذَا صَارَ أَمِيرًا أَيْ وَلِيَ الْأَمْرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا وَجْهَ لِكَوْنِ أَمَرْنا
مِنَ الْإِمَارَةِ لِأَنَّ رِيَاسَتَهُمْ لَا تَكُونُ إِلَّا لِوَاحِدٍ بَعْدَ وَاحِدٍ وَالْإِهْلَاكُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي مُدَّةِ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَمَا قَالَهُ أَبُو عَلِيٍّ لَا يَلْزَمُ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الْأَمِيرَ هُوَ الْمَلِكُ بَلْ كَوْنُهُ مِمَّنْ يَأْمُرُ وَيُؤْتَمَرُ بِهِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي أَمِيرًا مَنْ يُؤْتَمَرُ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَلِكًا. وَلَئِنْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الْمَلِكَ فَلَا يَلْزَمُ مَا قَالَ لِأَنَّ الْقَرْيَةَ إِذَا مُلِّكَ عَلَيْهَا مُتْرَفٌ ثُمَّ فَسَقَ ثُمَّ آخَرُ فَفَسَقَ ثُمَّ كَذَلِكَ كَثُرَ الْفَسَادُ وَتَوَالَى الْكُفْرُ وَنَزَلَ بِهِمْ عَلَى الْآخِرِ مِنْ مُلُوكِهِمْ، وَرَأَيْتُ فِي النَّوْمِ أَنِّي قرأت وقرىء بِحَضْرَتِي وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
الْآيَةَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ. فَأَقُولُ فِي النَّوْمِ: مَا أَفْصَحَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ، وَالْقَوْلُ الَّذِي حَقَّ عَلَيْهِمْ هُوَ وَعِيدُ اللَّهِ الَّذِي قَالَهُ رَسُولُهُمْ. وَقِيلَ: الْقَوْلُ
لَأَمْلَأَنَّ وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أُبَالِي.
وَالتَّدْمِيرُ الْإِهْلَاكُ مَعَ طَمْسِ الْأَثَرِ وَهَدْمِ الْبِنَاءِ. وَكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى المفعول بأهلكنا أَيْ كَثِيرًا مِنَ الْقُرُونِ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ بَيَانٌ لِكَمْ وَتَمْيِيزٌ لَهُ كَمَا يُمَيَّزُ الْعَدَدُ بِالْجِنْسِ، وَالْقُرُونُ عَادٌ وَثَمُودُ وَغَيْرُهُمْ وَيَعْنِي بِالْإِهْلَاكِ هُنَا الْإِهْلَاكَ بِالْعَذَابِ، وَفِي ذَلِكَ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ لِمُشْرِكِي مَكَّةَ وَقَالَ: مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ بَعْدِ آدَمَ لِأَنَّ نُوحًا أَوَّلُ نَبِيٍّ بَالَغَ قَوْمُهُ فِي تَكْذِيبِهِ، وَقَوْمُهُ أَوَّلُ مَنْ حَلَّتْ بِهِمُ الْعُقُوبَةُ بِالْعُظْمَى وَهِيَ الِاسْتِئْصَالُ بِالطُّوفَانِ. وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عُمُرِ القرن ومِنَ الْأُولَى لِلتَّبْيِينِ وَالثَّانِيَةُ لِابْتِدَاءِ الغاية وتعلقا
قَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ».
وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا بِعَمَلِ الْآخِرَةِ فَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مَنْ نَصِيبٍ».
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ وَكَانُوا يَغْزُونَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ لِلْغَنِيمَةِ لَا لِلثَّوَابِ، ومَنْ شَرْطٌ وَجَوَابُهُ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِمَشِيئَتِهِ أَيْ مَا يشاء تعجيله. ولِمَنْ نُرِيدُ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: لَهُ بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِأَنَّ الضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى مَنِ الشَّرْطِيَّةِ، وَهِيَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، وَلَكِنْ جَاءَتِ الضَّمَائِرُ هُنَا عَلَى اللَّفْظِ لَا عَلَى الْمَعْنَى، فَقَيَّدَ الْمُعَجَّلَ بِإِرَادَتِهِ فَلَيْسَ مَنْ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ يَحْصُلُ لَهُ مَا يُرِيدُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يَخْتَارُونَ الدُّنْيَا وَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ مِنْهَا إِلَّا مَا قَسَمَهُ الله لهم، وكثيرا مِنْهُمْ يَتَمَنَّوْنَ النَّزْرَ الْيَسِيرَ فَلَا يَحْصُلُ لَهُمْ، وَيَجْمَعُ لَهُمْ شَقَاوَةَ الدُّنْيَا وَشَقَاوَةَ الْآخِرَةِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ مَا نَشاءُ بِالنُّونِ وَرُوِيَ عَنْ نَافِعٍ مَا يَشَاءُ بِالْيَاءِ. فَقِيلَ الضَّمِيرُ فِي يَشَاءُ يَعُودُ عَلَى اللَّهِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ الِالْتِفَاتِ فَقِرَاءَةُ النُّونِ وَالْيَاءِ سَوَاءٌ. وَقِيلَ يَجُوزُ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَنِ الْعَائِدِ عَلَيْهَا الضَّمِيرُ فِي لَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ عَامًّا بَلْ لَا يَكُونُ لَهُ مَا يَشَاءُ إِلَّا آحاد أَرَادَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي لِمَنْ نُرِيدُ يُقَدَّرُ مَعَ تَقْدِيرِهِ مُضَافٌ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ، أَيْ لِمَنْ نُرِيدُ تَعْجِيلَهُ لَهُ أَيْ تَعْجِيلَ مَا نَشَاءُ. وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ الْمَعْنَى لِمَنْ نُرِيدُ هَلَكَتَهُ وَمَا قَالَهُ لَا يَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظٌ فِي الْآيَةِ.
وجَعَلْنا بِمَعْنَى صَيَّرْنَا، وَالْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ جَهَنَّمَ وَالثَّانِي لَهُ لِأَنَّهُ يَنْعَقِدَ مِنْهُمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، فَنَقُولُ: جَهَنَّمُ لِلْكَافِرِينَ كَمَا قَالَ هَؤُلَاءِ لِلنَّارِ وَهَؤُلَاءِ للجنة ويَصْلاها حَالٌ مِنْ جَهَنَّمَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الَّذِي فِي لَهُ. وَقَالَ صَاحِبُ الْغُنْيَانِ: مَفْعُولُ
مَدْحُوراً إِشَارَةٌ إِلَى الْبُعْدِ وَالطَّرْدِ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ أَيْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ بِأَنْ يُؤْثِرَهَا عَلَى الدُّنْيَا، وَيَعْقِدَ إِرَادَتَهُ بِهَا وَسَعى فِيمَا كُلِّفَ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ سَعْيَها أَيِ السَّعْيَ الْمُعَدَّ لِلنَّجَاةِ فِيهَا. وَهُوَ مُؤْمِنٌ هُوَ الشَّرْطُ الْأَعْظَمُ فِي النَّجَاةِ فَلَا تَنْفَعُ إِرَادَةٌ وَلَا سَعْيٌ إِلَّا بِحُصُولِهِ. وَفِي الْحَقِيقَةِ هُوَ النَّاشِئُ عَنْهُ إِرَادَةُ الْآخِرَةِ وَالسَّعْيُ لِلنَّجَاةِ فِيهَا وَحُصُولُ الثَّوَابِ، وَعَنْ بَعْضِ الْمُتَقَدِّمِينَ مَنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ ثَلَاثٌ لَمْ يَنْفَعْهُ عَمَلُهُ: إِيمَانٌ ثَابِتٌ، وَنِيَّةٌ صَادِقَةٌ، وَعَمَلٌ مُصِيبٌ، وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَأُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَنْ اتَّصَفَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَرَاعَى مَعْنَى مَنْ فَلِذَلِكَ كَانَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَشْكُرُهُمْ عَلَى طَاعَتِهِمْ وَهُوَ تَعَالَى الْمَشْكُورُ عَلَى مَا أَعْطَى مِنَ الْعَقْلِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ وَإِيضَاحِ الدَّلَائِلِ، وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلشُّكْرِ حَقِيقَةً وَمَعْنَى شُكْرِهِ تعالى المطيع الإثناء عَلَيْهِ وَثَوَابُهُ عَلَى طَاعَتِهِ. وانتصب كُلًّا بنمد وَالْإِمْدَادُ الْمُوَاصَلَةُ بِالشَّيْءِ، وَالْمَعْنَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ نُمِدُّ كَذَا قَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَأَعْرَبُوا هؤُلاءِ بَدَلًا مِنْ كُلًّا وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ كُلٍّ عَلَى تَقْدِيرِ كُلُّ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ يَكُونُ إِذْ ذَاكَ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ بَعْضٍ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيُرُ كُلُّ الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ بَدَلَ كُلٍّ مِنْ كُلٍّ عَلَى جِهَةِ التَّفْصِيلِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْإِمْدَادَ هُوَ فِي الرِّزْقُ فِي الدُّنْيَا وَهُوَ تَأْوِيلُ الْحَسَنِ وَقَتَادَةَ، أَيْ أَنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ فِي الدُّنْيَا مُرِيدِي الْعَاجِلَةَ الْكَافِرِينَ، وَمُرِيدِي الْآخِرَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَمُدُّ الْجَمِيعَ بِالرِّزْقِ، وَإِنَّمَا يَقَعُ التَّفَاوُتُ فِي الْآخِرَةِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً أَيْ إِنَّ رِزْقَهُ لَا يَضِيقُ عَنْ مُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ مِنَ الطَّاعَاتِ لِمُرِيدِ الْآخِرَةِ وَالْمَعَاصِي لِمُرِيدِ الْعَاجِلَةِ، فَيَكُونُ الْعَطَاءُ عِبَارَةٌ عَمَّا قَسَمَ اللَّهُ لِلْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَيَنْبُو لَفْظُ الْعَطَاءِ عَلَى الْإِمْدَادِ بِالْمَعَاصِي. وَالظَّاهِرُ أَنَّ انْظُرْ بَصَرِيَّةٌ لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الدُّنْيَا مُشَاهَدٌ وكَيْفَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بَعْدَ حَذْفِ حَرْفِ الْجَرِّ، لِأَنَّ نَظَرَ يَتَعَدَّى بِهِ، فَانْظُرْ هُنَا مُعَلَّقَةٌ.
وَلَمَّا كَانَ النَّظَرُ مُفْضِيًا وَسَبَبًا إِلَى الْعِلْمِ جَازَ أَنْ يُعَلَّقَ، وَيَجُوزَ أَنْ يَكُونَ انْظُرْ مِنْ نَظَرِ الْفِكْرِ فَلَا كَلَامَ فِي تَعْلِيقِهِ إِذْ هُوَ فِعْلٌ قَلْبِيٌّ. وَالتَّفْضِيلُ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الطَّاعَاتِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى الْجَنَّةِ، وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِمُ الْكُفَّارُ كَأَنَّهُ قِيلَ: انْظُرْ فِي تَفْضِيلِ فَرِيقٍ عَلَى فَرِيقٍ، وَعَلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ قِيلَ فِي تَفْضِيلِ شَخْصٍ عَلَى شَخْصٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ، وَالْمَفْضُولُ فِي قَوْلِهِ: أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ مِنْ دَرَجَاتِ الدُّنْيَا وَمِنْ تَفْضِيلِ الدُّنْيَا.
وَرُوِيَ أَنْ قَوْمًا مِنَ الْأَشْرَافِ وَمَنْ دُونَهُمُ اجْتَمَعُوا بِبَابِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَخَرَجَ
حديثا «إِنَّ أَنْزَلَ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَأَسْفَلَهُمْ دَرَجَةً كَالنَّجْمِ يُرَى فِي مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا وَقَدْ أَرْضَى اللَّهُ الْجَمِيعَ فَمَا يَغْبِطُ أَحَدٌ أَحَدًا».
وَالْخِطَابُ فِي لَا تَجْعَلْ لِلسَّامِعِ غَيْرِ الرَّسُولِ.
وَقَالَ الطبري وغيره: الْخِطَابُ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُرَادُ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ. فَتَقْعُدَ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ قَوْلِهِمْ شَحَذَ الشَّفْرَةَ حَتَّى قَعَدَتْ كَأَنَّهَا حَرْبَةٌ، بِمَعْنَى صَارَتْ. يَعْنِي فَتَصِيرُ جَامِعًا عَلَى نَفْسِكَ الذَّمَّ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنَ الْهَلَاكِ مِنَ الذُّلِّ وَالْخِذْلَانِ وَالْعَجْزِ عَنِ النُّصْرَةِ مِمَّنْ جَعَلْتَهُ شَرِيكًا لَهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنِ اسْتِعْمَالِ فَتَقْعُدَ بِمَعْنَى فَتَصِيرَ لَا يَجُوزُ عِنْدَ أَصْحَابِنَا، وَقَعَدَ عِنْدَهُمْ بِمَعْنَى صَارَ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْمَثَلِ، وَذَهَبَ الْفَرَّاءُ إِلَى أَنَّهُ يَطَّرِدُ جَعْلُ قَعَدَ بِمَعْنَى صَارَ، وَجَعَلَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلَ الرَّاجِزِ:
لَا يُقْنِعُ الْجَارِيَةَ الْخِضَابُ | وَلَا الْوِشَاحَانِ وَلَا الْجِلْبَابُ |
مِنْ دُونِ أَنْ تَلْتَقِي الْأَرْكَابُ | وَيَقْعُدَ الْأَيْرُ لَهُ لُعَابُ |
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٤٩]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥) وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩)
أُفٍّ وَأَوَّهْ بمعين أَتَوَجَّعُ، وَكَانَ قِيَاسُهُ أَنْ لَا يُبْنَى لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ مَوْقِعَ الْمَبْنِيِّ. وَذَكَرَ الزَّنَاتِيُّ فِي كِتَابِ الْحُلَلِ لَهُ: إِنَّ فِي أُفٍّ لُغَاتٍ تُقَارِبُ الْأَرْبَعِينَ وَنَحْنُ نَسْرُدُهَا مَضْبُوطَةً كَمَا رَأَيْنَاهَا وَهِيَ: أُفَ أُفِ أُفُ أف أف أف أفا أف أف أفا أف أُفٌ أُفْ أُفْءَ أُفَّى بِغَيْرِ إِمَالَةٍ أُفِّيِ بِالْإِمَالَةِ الْمَحْضَةِ أُفِّيِ بِالْإِمَالَةِ بَيْنَ بَيْنَ أُفِيْ أُفُوْ أُفَّهُ أُفِّهْ أُفُّهْ فَهَذَا اثْنَانِ وَعِشْرُونَ مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَضْمُومَةِ أف أف أف أف أف أفا أف أف إِفًا إِفِّي بِالْإِمَالَةِ إِفَّى فَهَذِهِ إِحْدَى عَشْرَةَ مَعَ الْهَمْزَةِ الْمَكْسُورَةِ أَفْ أَفٌ آفٌ آفٍّ آفَّى. وَذَكَرَ ابْنُ عَطِيَّةَ أُفَّاهْ بِهَاءِ السَّكْتِ وَهِيَ تَمَامُ الْأَرْبَعِينَ. النَّهْرُ الزَّجْرُ بِصِيَاحٍ وَإِغْلَاظٍ. قَالَ الْعَسْكَرِيُّ: وَأَصْلُهُ الظُّهُورُ، وَمِنْهُ النَّهْرُ وَالِانْتِهَارُ، وَأَنْهَرَ الدَّمَ أَظْهَرَهُ وَأَسَالَهُ، وَانْتَهَرَ الرَّجُلَ أَظْهَرَ لَهُ الْإِهَانَةَ بِقُبْحِ الزَّجْرِ وَالطَّرْدِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الِانْتِهَارُ إِظْهَارُ
تَرَائِبَ يَسْتَضِيءُ الْحَلْيُ فِيهَا | كَجَمْرِ النَّارِ بُذِّرَ بِالظَّلَامِ |
قَالَ الشَّاعِرُ:
بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأَمَّا عِظَامُهَا | فَبِيضٌ وَأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ |
الرُّفَاتُ قَالَ الْفَرَّاءُ: التُّرَابُ. وَقِيلَ: الَّذِي بُولِغَ فِي دَقِّهِ حَتَّى تَفَتَّتَ، وَيُقَالُ: رَفَتَ الشَّيْءَ كَسَرَهُ يَرْفِتُهُ بِالْكَسْرِ وَالرُّفَاتُ الْأَجْزَاءُ الْمُتَفَتِّتَةُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مُكَسَّرٍ، وَفُعَالٌ بِنَاءٌ لِهَذَا الْمَعْنَى كَالْحُطَامِ وَالْفُتَاتِ وَالرُّضَاضِ وَالدُّقَاقِ.
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَقَضى فِعْلًا مَاضِيًا مِنَ الْقَضَاءِ. وَقَرَأَ بَعْضُ وَلَدِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ:
وَقَضَاءُ رَبِّكَ مَصْدَرُ قَضى مَرْفُوعًا عَلَى الِابْتِدَاءِ وأَلَّا تَعْبُدُوا الْخَبَرُ. وَفِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابِهِ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ وَمَيْمُونِ بْنِ مِهْرَانَ مِنَ التَّوْصِيَةِ. وَقَرَأَ بَعْضُهُمْ: وَأَوْصَى مِنَ الْإِيصَاءِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ ذَلِكَ التَّفْسِيرُ لِأَنَّهَا قِرَاءَةٌ مُخَالِفَةٌ لِسَوَادِ الْمُصْحَفِ وَالْمُتَوَاتِرُ هُوَ وَقَضى وَهُوَ الْمُسْتَفِيضُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمْ فِي أَسَانِيدِ الْقُرَّاءِ السَّبْعَةِ. وَقَضى هُنَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ بِمَعْنَى أَمَرَ. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَأَصْحَابُهُ: بِمَعْنَى وَصَّى. وَقِيلَ: أَوْجَبَ وَأَلْزَمَ وَحَكَمَ. وَقِيلَ: بِمَعْنَى أَحْكَمَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَقُولُ إِنَّ الْمَعْنَى وَقَضى رَبُّكَ أمره أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَلَيْسَ فِي هَذِهِ
قَالَ الْحَوْفِيُّ: الْبَاءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِقَضَى، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُتَعَلِّقَةً بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَأَوْصَى بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وإِحْساناً مَصْدَرٌ أَيْ تُحْسِنُوا إِحْسَانًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً عَطْفٌ عَلَى أَنِ الْأُولَى أَيْ أَمَرَ الله أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَأَنْ تُحْسِنُوا بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَعَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ يَكُونُ قَوْلُهُ: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً مَقْطُوعًا مِنَ الْأَوَّلِ كَأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ بِقَضَاءِ اللَّهِ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَا يَجُوزُ أَنْ تَتَعَلَّقَ الْبَاءُ فِي بِالْوالِدَيْنِ بِالْإِحْسَانِ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَيْهِ صِلَتُهُ. وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ فِي الْبَسِيطِ: الْبَاءُ فِي قَوْلِهِ بِالْوالِدَيْنِ مِنْ صِلَةِ الْإِحْسَانِ، وَقُدِّمَتْ عَلَيْهِ كَمَا تَقُولُ: بِزَيْدٍ فَامْرُرِ، انْتَهَى. وَأَحْسَنَ وَأَسَاءَ يَتَعَدَّى بِإِلَى وَبِالْبَاءِ قَالَ تَعَالَى:
وَقَدْ أَحْسَنَ بِي «١» وَقَالَ الشَّاعِرُ:
أَسِيئِي بِنَا أَوْ أَحْسِنِي لَا مَلُومَةً وَكَأَنَّهُ تَضَمَّنَ أَحْسَنَ مَعْنَى لَطَفَ، فَعُدِّيَ بِالْبَاءِ وإِحْساناً إِنْ كَانَ مَصْدَرًا يَنْحَلُّ لِأَنْ وَالْفِعْلِ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ مُتَعَلَّقِهِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى أَحْسِنُوا فَيَكُونُ بَدَلًا مِنَ اللَّفْظِ بِالْفِعْلِ نَحْوُ ضَرْبًا زَيْدًا، فَيَجُوزُ تَقْدِيمُ مَعْمُولِهِ عَلَيْهِ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ تَكُونَ أَنْ حرف تفسير ولا تَعْبُدُوا نهي وإِحْساناً مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْأَمْرِ عُطِفَ مَا مَعْنَاهُ أَمْرٌ عَلَى نَهْيٍ كَمَا عُطِفَ فِي:
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَبْلُغَنَّ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الشَّدِيدَةِ وَالْفِعْلُ مُسْنَدٌ إِلَى أَحَدُهُما. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ ذَكْوَانَ بِالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: إِمَّا يَبْلُغَانَّ بِأَلِفِ التَّثْنِيَةِ وَنُونِ التَّوْكِيدِ الْمُشَدَّدَةِ وَهِيَ قِرَاءَةُ السُّلَمِيُّ وَابْنُ وَثَّابٍ وَطَلْحَةُ وَالْأَعْمَشُ وَالْجَحْدَرِيِّ. فَقِيلَ الْأَلِفُ عَلَامَةُ تَثْنِيَةٍ لَا ضَمِيرٌ عَلَى لُغَةِ أَكَلُونِي الْبَرَاغِيثُ، وَأَحَدُهُمَا فاعل وأَوْ كِلاهُما عَطْفٌ عَلَيْهِ، وَهَذَا لَا يَجُوزُ لِأَنَّ شَرْطَ الْفَاعِلِ فِي الْفِعْلِ الَّذِي لَحِقَتْهُ عَلَامَةُ التَّثْنِيَةِ أَنْ يكون مسند المثنى أو معرف بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ، وَنَحْوُ قَامَا أَخَوَاكَ أَوْ قَامَا زَيْدٌ وَعَمْرٌو عَلَى خِلَافٍ فِي هَذَا الْأَخِيرِ هَلْ يَجُوزُ أَوْ لَا يَجُوزُ، وَالصَّحِيحُ جوازه وأَحَدُهُما لَيْسَ مُثَنًّى وَلَا هُوَ مُعَرَّفٌ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ مَعَ مُفْرَدٍ. وَقِيلَ: الْأَلِفُ ضَمِيرُ الوالدين وأَحَدُهُما بدل من الضمير وكِلاهُما عَطْفٌ عَلَى أَحَدُهُما وَالْمَعْطُوفُ عَلَى الْبَدَلِ بَدَلٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ. فَإِنْ قُلْتَ: لَوْ قِيلَ إِمَّا يَبْلُغَانَّ كِلاهُما كَانَ كِلاهُما تَوْكِيدًا لَا بَدَلًا، فَمَا لَكَ زَعَمْتَ أَنَّهُ بَدَلٌ؟ قُلْتُ: لِأَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا للاثنين فَانْتَظَمَ فِي حُكْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مِثْلَهُ.
فَإِنْ قلت: ما ضرك لو جَعَلْتَهُ تَوْكِيدًا مَعَ كَوْنِ الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بَدَلًا وَعَطَفْتَ التَّوْكِيدَ عَلَى الْبَدَلِ؟ قُلْتُ: لَوْ أُرِيدَ تَوْكِيدُ التَّثْنِيَةِ لَقِيلَ كِلاهُما فَحَسْبُ فَلَمَّا قِيلَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما عُلِمَ أَنَّ التَّوْكِيدَ غَيْرُ مُرَادٍ فَكَانَ بَدَلًا مِثْلَ الْأَوَّلَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَلَى هَذِهِ
وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْنٍ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ | وَأُخْرَى رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشُلَّتِ |
فَلَيْسَ مِنْ بَدَلِ التَّقْسِيمِ لِأَنَّ شَرْطَ ذَلِكَ الْعَطْفُ بِالْوَاوِ، وأَيْضًا فَالْبَدَلُ الْمُقَسَّمُ لَا يَصْدُقُ الْمُبْدَلُ فِيهِ على أحد قسميه، وكِلاهُما يَصْدُقُ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْمُبْدَلُ مِنْهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْمُقَسَّمِ. وَنُقِلَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ أَنَّ كِلاهُما تَوْكِيدٌ وَهَذَا لَا يَتِمُّ إِلَّا بِأَنْ يُعْرَبَ أَحَدُهُما بَدَلَ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ، وَيُضْمَرَ بعده فعل رافع الضمير، وَيَكُونُ كِلاهُما تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ، وَالتَّقْدِيرُ أَوْ يَبْلُغَا كِلاهُما وَفِيهِ حَذْفُ الْمُؤَكِّدِ. وَقَدْ أَجَازَهُ سِيبَوَيْهِ وَالْخَلِيلُ قَالَ: مَرَرْتُ بِزَيْدٍ وَإِيَّايَ أَخُوهُ أَنْفُسَهُمَا بِالرَّفْعِ وَالنَّصْبِ، الرَّفْعُ عَلَى تَقْدِيرِهِمَا صَاحِبَايَ أنفسهما، والنصف عَلَى تَقْدِيرِ أَعْيُنِهِمَا أَنْفُسَهُمَا، إِلَّا أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ وَابْنِ جِنِّي وَالْأَخْفَشِ قَبْلَهُمَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَذْفُ الْمُؤَكَّدِ وَإِقَامَةُ الْمُؤَكِّدِ مَقَامَهُ، وَالَّذِي نَخْتَارُهُ أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُما بَدَلًا من الضمير وكِلاهُما مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَوْ يَبْلُغَ كِلاهُما فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ لَا مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ، وَصَارَ الْمَعْنَى أَنْ يَبْلُغَ أَحَدُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ يَبْلُغَ كِلاهُما عِنْدَكَ الْكِبَرَ. وَجَوَابُ الشَّرْطِ فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَتَقَدَّمَ مَدْلُولُ لَفْظِ أُفٍّ فِي الْمُفْرَدَاتِ وَاللُّغَاتِ الَّتِي فِيهَا، وَإِذَا كَانَ قَدْ نَهَى أَنْ يَسْتَقْبِلَهُمَا بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الضَّجَرِ وَالتَّبَرُّمِ بِهِمَا فَالنَّهْيُ عَمَّا هُوَ أَشَدُّ كَالشَّتْمِ وَالضَّرْبِ هُوَ بِجِهَةِ الْأَوْلَى، وَلَيْسَتْ دَلَالَةُ أُفٍّ عَلَى أَنْوَاعِ الْإِيذَاءِ دَلَالَةً لَفْظِيَّةً خِلَافًا لِمَنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أُفٍّ كَلِمَةُ كَرَاهَةٍ بَالَغَ تَعَالَى فِي الْوَصِيَّةِ بِالْوَالِدَيْنِ، وَاسْتِعْمَالِ
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: إِنَّ مَعْنَاهُ إِذَا رَأَيْتَ منهما في حال الشيخ الْغَائِطَ وَالْبَوْلَ اللَّذَيْنِ رَأَيَا مِنْكَ فِي حَالِ الصِّغَرِ فَلَا تَقْذَرْهُمَا وَتَقُولُ أُفٍّ انْتَهَى. وَالْآيَةُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمَّا نَهَاهُ تَعَالَى أَنْ يَقُولَ لَهُمَا مَا مَدْلُولُهُ أَتَضَجَّرُ مِنْكُمَا ارْتَقَى إِلَى النَّهْيِ عَمَّا هُوَ مِنْ حَيْثُ الْوَضْعُ أَشَدُّ مِنْ أُفٍّ وَهُوَ نَهْرُهُمَا، وَإِنْ كَانَ النَّهْيُ عَنْ نَهْرِهِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّهْيُ عَنْ قَوْلِ أُفٍّ لِأَنَّهُ إِذَا نَهَى عَنِ الْأَدْنَى كَانَ ذَلِكَ نَهْيًا عَنِ الْأَعْلَى بِجِهَةِ الْأَوْلَى، وَالْمَعْنَى وَلَا تَزْجُرْهُمَا عَمَّا يَتَعَاطَيَانِهِ مِمَّا لَا يُعْجِبُكَ وَقُلْ لَهُما بَدَلَ قَوْلِ أُفٍّ وَنَهْرِهِمَا قَوْلًا كَرِيماً أَيْ جَامِعًا لِلْمَحَاسِنِ مِنَ الْبِرِّ وَجَوْدَةِ اللَّفْظِ. قَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: قَوْلُ الْعَبْدِ الْمُذْنِبِ للسيد اللفظ. وَقِيلَ: قَوْلًا كَرِيماً أَيْ جَمِيلًا كَمَا يَقْتَضِيهِ حُسْنُ الْأَدَبِ. وَقَالَ عُمَرُ: أَنْ تَقُولَ يَا أَبَتَاهُ يَا أُمَّاهُ انْتَهَى.
كَمَا خَاطَبَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ مَعَ كُفْرِهِ، وَلَا تَدْعُوهُمَا بِأَسْمَائِهِمَا لِأَنَّهُ مِنَ الْجَفَاءِ وَسُوءِ الْأَدَبِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ كَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ نَحَلَنِي أَبُو بَكْرٍ كَذَا. وَلَمَّا نَهَاهُ تَعَالَى عَنِ الْقَوْلِ الْمُؤْذِي وَكَانَ لَا يَسْتَلْزِمُ ذَلِكَ الْأَمْرَ بِالْقَوْلِ الطَّيِّبِ أَمَرَهُ تَعَالَى بِأَنْ يَقُولَ لَهُمَا الْقَوْلَ الطَّيِّبَ السَّارَّ الْحَسَنَ، وَأَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ دَالًّا عَلَى التَّعْظِيمِ لَهُمَا وَالتَّبْجِيلِ.
وَقَالَ عَطَاءٌ: تَتَكَلَّمُ مَعَهُمَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَرْفَعَ إِلَيْهِمَا بَصَرَكَ وَلَا تَشُدَّ إِلَيْهِمَا نَظَرَكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يُنَافِي الْقَوْلَ الْكَرِيمَ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ قَوْلًا سَهْلًا سَلِسًا لَا شَرَاسَةَ فِيهِ، ثُمَّ أَمَرَهُ تَعَالَى بِالْمُبَالَغَةِ فِي التَّوَاضُعِ مَعَهُمَا بِقَوْلِهِ: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ. وَقَالَ الْقَفَّالُ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا مَعْنَى جَناحَ الذُّلِّ؟ قُلْتُ: فِيهِ وَجْهَانِ. أَحَدُهُمَا:
أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ كَمَا قَالَ: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «٢» فَأَضَافَهُ إِلَى الذُّلِّ أَوِ الذِّلِّ كَمَا أُضِيفَ حَاتِمٌ إِلَى الْجُودِ عَلَى مَعْنَى وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَكَ الذَّلِيلَ أَوِ الذَّلُولَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَجْعَلَ لِذُلِّهِ أَوْ لِذِلِّهِ جَنَاحًا خَفِيضًا كَمَا جَعَلَ لَبِيدٌ لِلشَّمَالِ يَدًا، وَلِلْقَرَّةِ زَمَانًا مُبَالَغَةً فِي التَّذَلُّلِ وَالتَّوَاضُعِ لَهُمَا انْتَهَى. وَالْمَعْنَى أَنَّهُ جَعَلَ اللِّينَ ذُلًّا وَاسْتَعَارَ لَهُ جَنَاحًا ثُمَّ رَشَّحَ هَذَا الْمَجَازَ بِأَنْ أَمَرَ بِخَفْضِهِ. وَحُكِيَ أَنَّ أَبَا تَمَّامٍ لَمَّا نَظَمَ قَوْلَهُ:
لَا تَسْقِنِي مَاءَ الْمُلَامِ فَإِنَّنِي | صَبٌّ قَدِ اسْتَعْذَبْتُ مَاءَ بُكَائِيَا |
أَرَاشُوا جَنَاحِي ثُمَّ بَلُّوهُ بِالنَّدَى | فَلَمْ أَسْتَطِعْ مِنْ أَرْضِهِمْ طَيَرَانَا |
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٨٨.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَما نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ رَحْمَةً مِثْلَ رَحْمَتِهِمَا. وَسَرَدَ الزَّمَخْشَرِيُّ وَغَيْرُهُ أَحَادِيثَ وَآثَارًا كَثِيرَةً فِي بِرِّ الْوَالِدَيْنِ يُوقَفُ عَلَيْهَا فِي كُتُبِهِمْ. وَلَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَأَمَرَ بِالْإِحْسَانِ إِلَى الْوَالِدَيْنِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْكِبَرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ رُبَّمَا تَظَاهَرَ بِعِبَادَةٍ وَإِحْسَانٍ إِلَى وَالِدَيْهِ دُونَ عَقْدِ ضَمِيرٍ عَلَى ذَلِكَ رِيَاءً وَسُمْعَةً، أَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ الضَّمَائِرُ مِنْ دُونِ قَصْدِ عِبَادَةِ اللَّهِ وَالْبِرِّ بِالْوَالِدَيْنِ. ثُمَّ قَالَ: إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أَيْ ذَوِي صَلَاحٍ ثُمَّ فَرَطَ مِنْكُمْ تَقْصِيرٌ فِي عِبَادَةٍ أَوْ بِرٍّ وَأُبْتُمْ إِلَى الْخَيْرِ فَإِنَّهُ غَفُورٌ لِمَا فَرَطَ مِنْ هَنَاتِكُمْ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ فَرَطَتْ مِنْهُ جِنَايَةٌ ثُمَّ تَابَ مِنْهَا، وَيَنْدَرِجُ فِيهِ مَنْ جَنَى عَلَى أَبَوَيْهِ ثُمَّ تَابَ مِنْ جِنَايَتِهِ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: هِيَ فِي الْمُبَارَزَةِ تَكُونُ مِنَ الرَّجُلِ إِلَى أَبِيهِ لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ إِلَّا الْخَيْرَ.
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
قَالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ وغيرهم.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ فِيهَا: هُمْ قُرَابَةُ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَمَرَ بِإِعْطَائِهِمْ حُقُوقَهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْحَقَّ هُنَا مُجْمَلٌ وَأَنَّ ذَا الْقُرْبى عَامٌّ فِي ذِي الْقَرَابَةِ فَيُرْجَعُ فِي تَعْيِينِ الْحَقِّ وَفِي تَخْصِيصِ ذِي الْقَرَابَةِ إِلَى السُّنَّةِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّ الْقَرَابَةَ إِذَا كَانُوا مَحَارِمَ فُقَرَاءَ عَاجِزِينَ عَنِ التَّكَسُّبِ وَهُوَ مُوسِرٌ حَقُّهُمْ أَنْ يُنْفِقَ عَلَيْهِمْ. وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ: يُنْفِقُ عَلَى الْوَلَدِ وَالْوَالِدَيْنِ فَحَسْبُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ. وَنَهَى تَعَالَى عَنِ التَّبْذِيرِ وَكَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَنْحَرُ إِبِلَهَا وَتَتَيَاسَرُ عَلَيْهَا وَتُبَذِّرُ أَمْوَالَهَا فِي الْفَخْرِ وَالسُّمْعَةِ وَتَذْكُرُ ذَلِكَ فِي أَشْعَارِهَا، فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنِ النَّفَقَةِ فِي غَيْرِ وُجُوهِ الْبِرِّ وَمَا يُقَرِّبُ مِنْهُ تَعَالَى. وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ: التَّبْذِيرُ إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي غَيْرِ حَقٍّ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: لَوْ أَنْفَقَ مَالَهُ كُلَّهُ فِي حَقٍّ مَا كَانَ مُبَذِّرًا. وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ أَنَّهُ الْإِسْرَافُ الْمُتْلِفُ لِلْمَالِ، وَقَدِ احْتَجَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى الْحَجْرِ عَلَى الْمُبَذِّرِ، فَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ مَنْعُهُ مِنْهُ بِالْحَجْرِ وَالْحَيْلُولَةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَالِهِ إِلَّا بِمِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ لَا يَرَى الْحَجْرَ لِلتَّبْذِيرِ وَإِنْ كَانَ مَنْهِيًّا عَنْهُ.
وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ إِنْ بَذَلَهُ فِي الشَّهَوَاتِ وَخِيفَ عَلَيْهِ النَّفَادُ، فَإِنْ أَنْفَقَ وَحَفِظَ الْأَصْلَ فَلَيْسَ بِمُبَذِّرٍ وَأُخُوَّةُ الشَّيَاطِينِ كَوْنُهُمْ قُرَنَاءَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَفِي النَّارِ فِي الْآخِرَةِ، وَتَدُلُّ هَذِهِ الْأُخُوَّةُ عَلَى أَنَّ التَّبْذِيرَ هُوَ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ كَوْنِهِمْ يُطِيعُونَهُمْ فِيمَا يَأْمُرُونَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِسْرَافِ فِي الدُّنْيَا. وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَالضَّحَّاكُ إِخْوَانَ الشَّيْطَانِ عَلَى الْإِفْرَادِ وَكَذَا ثَبَتَ فِي مُصْحَفِ أَنَسٍ، وَذُكِرَ كُفْرُ الشَّيْطَانِ لِرَبِّهِ لِيُحْذَرَ وَلَا يُطَاعَ لِأَنَّهُ لا يدعو إلى خيركما قَالَ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ.
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي نَاسٍ مِنَ مُزَيْنَةَ اسْتَحْمَلُوا الرَّسُولَ فَقَالَ: «لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ». فَبَكَوْا.
وَقِيلَ فِي بِلَالٍ وَصُهَيْبٍ وَسَالِمٍ وَخَبَّابٍ: سَأَلُوهُ مَا لَا يَجِدُ فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ.
وَرُوِيَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي وَسُئِلَ قَالَ: «يَرْزُقُنَا اللَّهُ وَإِيَّاكُمْ مِنْ فَضْلِهِ»
فَالرَّحْمَةُ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ الْمُنْتَظَرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٍ وَعِكْرِمَةَ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الرَّحْمَةُ الْأَجْرُ وَالثَّوَابُ وَإِنَّمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قَوْمٍ كَانُوا يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَأْبَى أَنْ يُعْطِيَهُمْ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْلَمُ مِنْهُمْ نَفَقَةَ الْمَالِ فِي فَسَادٍ، فَكَانَ يُعْرِضُ عَنْهُمْ وَعَنْهُ فِي الْأَجْرِ فِي مَنْعِهِمْ لِئَلَّا يُعِينَهُمْ عَلَى
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنْ أَعْرَضْتَ عَنْ ذِي الْقُرْبَى وَالْمِسْكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ حَيَاءً مِنَ الرَّدِّ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً وَلَا تَتْرُكْهُمْ غَيْرَ مُجَابِينَ إِذَا سَأَلُوكَ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا سُئِلَ شَيْئًا وَلَيْسَ عِنْدَهُ أَعْرَضَ عَنِ السَّائِلِ وَسَكَتَ حَيَاءً،
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ وَإِنْ لَمْ تَنْفَعْهُمْ وَتَرْفَعْ خَصَاصَتَهُمْ لِعَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ، وَلَا يُرِيدُ الْإِعْرَاضَ بِالْوَجْهِ كِنَايَةً بِالْإِعْرَاضِ عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ أَبَى أَنْ يُعْطِيَ أَعْرَضَ بِوَجْهِهِ انْتَهَى. وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى حَقَّهُ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ وَنَهَاهُ عَنِ التَّبْذِيرِ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْكَ إِعْرَاضٌ عَنْهُمْ فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَعَلَّلَ الْإِعْرَاضَ بِطَلَبِ الرَّحْمَةِ وَهِيَ كِنَايَةٌ عَنِ الرِّزْقِ والتوسعة وطلب ذلك ناشىء عَنْ فِقْدَانِ مَا يَجُودُ بِهِ وَيُؤْتِيهِ مَنْ سَأَلَهُ، وَكَأَنَّ الْمَعْنَى وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ لِإِعْسَارِكَ فَوَضَعَ الْمُسَبَّبَ وَهُوَ ابْتِغَاءُ الرَّحْمَةِ مَوْضِعَ السَّبَبِ وَهُوَ الْإِعْسَارُ. وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ يَكُونَ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ عِلَّةً لِجَوَابِ الشَّرْطِ فَهُوَ يَتَعَلَّقُ بِهِ، وَقُدِّمَ عَلَيْهِ أَيْ فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا سَهْلًا لَيِّنًا وَعِدْهُمْ وَعْدًا جَمِيلًا رَحْمَةً لَهُمْ وَتَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ، أَيِ ابْتَغِ رَحْمَةَ اللَّهِ الَّتِي تَرْجُوهَا بِرَحْمَتِكَ عَلَيْهِمُ انْتَهَى. وَمَا أَجَازَهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَا بَعْدَ فَاءِ الْجَوَابِ لَا يَعْمَلُ فِيمَا قَبْلَهُ لَا يَجُوزُ فِي قَوْلِكَ إِنْ يَقُمْ فَاضْرِبْ خَالِدًا أَنْ تَقُولَ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا فَاضْرِبْ، وَهَذَا مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ فَإِنْ حَذَفْتَ الْفَاءَ فِي مِثْلِ إِنْ يَقُمْ يَضْرِبْ خَالِدًا فَمَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ وَالْكِسَائِيِّ الْجَوَازُ، فَتَقُولُ: إِنْ يَقُمْ خَالِدًا نَضْرِبْ، وَمَذْهَبُ الْفَرَّاءِ الْمَنْعُ فَإِنْ كَانَ مَعْمُولُ الْفِعْلِ مَرْفُوعًا نَحْوُ إِنْ تَفْعَلْ يَفْعَلْ زَيْدٌ فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ زَيْدٌ عَلَى أَنْ يَكُونَ مرفوعا بيفعل، هَذَا وَأَجَازَ سِيبَوَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعًا بِفِعْلٍ يُفَسِّرُهُ يَفْعَلُ كَأَنَّكَ قُلْتَ: إِنْ تَفْعَلْ يَفْعَلْ زَيْدٌ يَفْعَلُ، وَمَنَعَ ذَلِكَ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ جُبَيْرٍ: الضَّمِيرُ فِي عَنْهُمُ عَائِدٌ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، وَالْمَعْنَى وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ لِتَكْذِيبِهِمْ إِيَّاكَ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ أَيْ نَصْرٍ لَكَ عَلَيْهِمْ أَوْ هِدَايَةٍ مِنَ اللَّهِ لَهُمْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلُ الْمَيْسُورُ الْمُدَارَاةُ لَهُمْ بِاللِّسَانِ قَالَهُ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَيَسَّرَ يَكُونُ لَازِمًا وَمُتَعَدِّيًا فَمَيْسُورٌ مِنَ الْمُتَعَدِّي تَقُولُ: يَسَّرْتُ لَكَ كَذَا إِذَا أَعْدَدْتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يُقَالُ يَسَرَ الْأَمْرُ وَعَسَرَ مِثْلُ سَعَدَ وَنَحَسَ فَهُوَ مَفْعُولٌ انْتَهَى وَلِمَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَشَارَ الشَّاعِرُ فِي الْقَصِيدَةِ الَّتِي تُسَمَّى بِالْيَتِيمَةِ فِي قَوْلِهِ:
لِيَكُنْ لَدَيْكَ لِسَائِلٍ فَرَجٌ | إِنْ لَمْ يَكُنْ فَلْيَحْسُنِ الرَّدُّ |
إِنْ لَمْ يَكُنْ وَرِقٌ يَوْمًا أَجُودُ بِهِ | لِلسَّائِلِينَ فَإِنِّي لَيِّنُ الْعُودِ |
لَا يَعْدَمُ السَّائِلُونَ الْخَيْرَ مِنْ خُلُقِي | إِمَّا نَوَالِي وَإِمَّا حُسْنُ مَرْدُودِي |
قِيلَ: نَزَلَتْ فِي إِعْطَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَمِيصَهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ غَيْرُهُ وَبَقِيَ عُرْيَانًا.
وَقِيلَ: أَعْطَى الْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ مِائَةً مِنَ الْإِبِلِ، وَعُيَيْنَةَ مِثْلَ ذَلِكَ، وَالْعَبَّاسَ بْنَ مِرْدَاسٍ خَمْسِينَ ثُمَّ كَمَّلَهَا مِائَةً فَنَزَلَتْ،
وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ اسْتُعِيرَ فِيهَا الْمَحْسُوسُ لِلْمَعْقُولِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُخْلَ مَعْنًى قَائِمٌ بِالْإِنْسَانِ يَمْنَعُهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ فَاسْتُعِيرَ لَهُ الْغُلَّ الَّذِي هُوَ ضَمُّ الْيَدِ إِلَى الْعُنُقِ فَامْتَنَعَ مِنْ تَصَرُّفِ يَدِهِ وَإِجَالَتِهَا حَيْثُ تُرِيدُ، وَذَكَرَ الْيَدَ لِأَنَّ بِهَا الْأَخْذَ وَالْإِعْطَاءَ، وَاسْتُعِيرَ بَسْطَ الْيَدِ لِإِذْهَابِ الْمَالِ وَذَلِكَ أَنَّ قَبْضَ الْيَدِ يَحْبِسُ مَا فِيهَا، وَبَسْطَهَا يُذْهِبُ مَا فِيهَا، وَطَابَقَ فِي الِاسْتِعَارَةِ بَيْنَ بَسْطِ الْيَدِ وَقَبْضِهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّ جَعْلَ الْيَدِ مَغْلُولَةً هُوَ قَبْضُهَا، وَغَلُّهَا أَبْلَغُ فِي الْقَبْضِ وَقَدْ طَابَقَ بَيْنَهُمَا أَبُو تَمَّامٍ. فَقَالَ فِي الْمُعْتَصِمِ:
تَعَوَّدَ بَسْطَ الْكَفِّ حَتَّى لوانّه | ثَنَاهَا لِقَبْضٍ لَمْ تُجِبْهُ أَنَامِلُهُ |
إِنَّ الْبَخِيلَ مَلُومٌ حَيْثُ كَانَ | وَلَكِنَّ الْجَوَادَ عَلَى علّانه هرم |
لَمَّا بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُ هُوَ الْمُتَكَفِّلُ بِأَرْزَاقِ الْعِبَادِ حَيْثُ قَالَ إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أَتْبَعَهُ بِالنَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ نَظِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ومن إِمْلَاقٍ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: نَرْزُقُهُمْ ونرزقكم. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ وَابْنُ وَثَّابٍ:
وَلا تَقْتُلُوا بالتضعيف. وقرىء خَشْيَةَ بِكَسْرِ الْخَاءِ، وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ خِطْأً بِكَسْرِ الْخَاءِ وَسُكُونِ الطَّاءِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ بِكَسْرِهَا وَفَتْحِ الطَّاءِ وَالْمَدِّ، وَهِيَ قِرَاءَةُ طَلْحَةَ وَشِبْلٍ وَالْأَعْمَشِ وَيَحْيَى وَخَالِدِ بْنِ إِلْيَاسَ وَقَتَادَةَ وَالْحَسَنِ وَالْأَعْرَجِ بِخِلَافٍ عَنْهُمَا. وَقَالَ النَّحَّاسُ:
لَا أَعْرِفُ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ وَجْهًا وَلِذَلِكَ جَعَلَهَا أَبُو حَاتِمٍ غَلَطًا. وَقَالَ الْفَارِسِيُّ: هِيَ مَصْدَرٌ مِنْ خاطأ يخاطىء وَإِنْ كُنَّا لَمْ نَجِدْ خَاطَأَ وَلَكِنْ وَجَدْنَا تَخَاطَأَ وَهُوَ مُطَاوِعُ خَاطَأَ، فَدَلَّنَا عَلَيْهِ فَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
تَخَاطَأْتُ النَّبْلَ أَخْشَاهُ | وَأُخِّرَ يَوْمِي فَلَمْ يَعْجَلِ |
تَخَاطَأَهُ الْقَنَّاصُ حَتَّى وَجَدْتُهُ | وَخُرْطُومُهُ فِي مَنْقَعِ الْمَاءِ رَاسِبُ |
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا: لَمَّا نَهَى تَعَالَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ نَهَى عَنِ التَّسَبُّبِ فِي إِيجَادِهِ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ، فَنَهَى عَنْ قُرْبَانِ الزِّنَا وَاسْتَلْزَمَ ذَلِكَ النَّهْيَ عَنِ الزِّنَا، وَالزِّنَا الْأَكْثَرُ فِيهِ الْقَصْرُ وَيُمَدُّ لُغَةً لَا ضَرُورَةً، هَكَذَا نَقَلَ اللُّغَوِيُّونَ. وَمِنَ الْمَدِّ قَوْلُ الشَّاعِرِ وَهُوَ الْفَرَزْدَقُ:
أَبَا حَاضِرٍ مَنْ يَزْنِ يُعْرَفْ زِنَاؤُهُ | وَمَنْ يَشْرَبِ الْخُرْطُومَ يُصْبِحْ مُسَكَّرَا |
كَانَتْ فَرِيضَةَ مَا تَقُولُ كَمَا | كَانَ الزِّنَاءُ فَرِيضَةَ الرَّجْمِ |
وسَبِيلًا نُصِبَ عَلَى التَّمْيِيزِ التَّقْدِيرُ، وَسَاءَ سَبِيلُهُ انْتَهَى. وَإِذَا كَانَ سَبِيلًا نَصْبًا عَلَى التَّمْيِيزِ فَإِنَّمَا هُوَ تَمْيِيزٌ لِلْمُضْمَرِ الْمُسَّتكِنِّ فِي ساءَ، وَهُوَ مِنَ الْمُضْمَرِ الَّذِي يُفَسِّرُهُ مَا بَعْدَهُ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَكُونُ تَقْدِيرُهُ وَسَاءَ سَبِيلُهُ سَبِيلًا لِأَنَّهُ إِذْ ذَاكَ لَا يَكُونُ فَاعِلُهُ ضَمِيرًا يُرَادُ بِهِ الْجِنْسُ مُفَسَّرًا بِالتَّمْيِيزِ، وَيَبْقَى التَّقْدِيرُ أَيْضًا عَارِيًا عَنِ الْمَخْصُوصِ بِالذَّمِّ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ «١» فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ قَالَ الضَّحَّاكُ: هَذِهِ أَوَّلُ مَا نَزَلْ مِنْ الْقُرْآنِ فِي شَأْنِ الْقَتْلِ انْتَهَى.
وَلَمَّا نَهَى عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ وَعَنْ إِيجَادِهِمْ مِنَ الطَّرِيقِ غَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ نَهَى عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ فَانْتَقَلَ مِنَ الْخَاصِّ إِلَى الْعَامِّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا مَنْهِيَّاتٌ مُسْتَقِلَّةٌ لَيْسَتْ مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ: وَقَضى رَبُّكَ كاندراج أَلَّا تَعْبُدُوا «٢» وَانْتَصَبَ مَظْلُوماً عَلَى الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ المستكن فِي قُتِلَ وَالْمَعْنَى أَنَّهُ قُتِلَ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ وَهُوَ الطَّالِبُ بِدَمِهِ شَرْعًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَصْحَابِهِ انْدِرَاجُ مَنْ يَرِثُ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ فِي الْوَلِيِّ عَلَى قَدْرِ مَوَارِيثِهِمْ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ عِنْدَهُمْ هُوَ الْوَارِثُ هُنَا. وَقَالَ مَالِكٌ: لَيْسَ لِلنِّسَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا الْقِصَاصُ لِلرِّجَالِ. وَعَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَالْحَكَمِ:
لَيْسَ إِلَى النِّسَاءِ شَيْءٌ مِنَ الْعَفْوِ وَالدَّمِ وَلِلسُّلْطَانِ التَّسَلُّطُ عَلَى الْقَاتِلِ فِي الِاقْتِصَاصِ مِنْهُ أَوْ حُجَّةٌ يُثْبِتُ بِهَا عَلَيْهِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عطية: وَالسُّلْطَانُ الْحُجَّةُ وَالْمَلِكُ الَّذِي جَعَلَ إِلَيْهِ مِنَ التَّخْيِيرِ فِي قَبُولِ الدَّمِ أَوِ الْعَفْوِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالضَّحَّاكُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: السُّلْطَانُ الْقَوَدُ وَفِي كِتَابِ التَّحْرِيرِ السُّلْطَانُ الْقُوَّةُ وَالْوِلَايَةُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْبَيِّنَةُ فِي طَلَبِ الْقَوَدِ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْقَوَدُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ الْحُجَّةُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: الْوَالِي أَيْ وَالِيًا يُنْصِفُهُ فِي حَقِّهِ، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي فَلا يُسْرِفْ عَلَى الْوَلِيِّ، وَالْإِسْرَافُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أن يقتل غير
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٢٣.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: السَّلْطَنَةُ مُجْمَلَةٌ يُفَسِّرُهَا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ «١» الْآيَةَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ الْفَتْحِ: «مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَأَهْلُهُ بَيْنَ خِيَرَتَيْنِ إِنْ أَحَبُّوا قَتَلُوا وَإِنْ أَحَبُّوا أَخَذُوا الدِّيَةَ».
فَمَعْنَى فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ لَا يُقْدِمْ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقَتْلِ، وَيَكْتَفِي بِأَخْذِ الدِّيَةِ أَوْ يَمِيلُ إِلَى الْعَفْوِ وَلَفْظَةُ فِي مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَاءِ أَيْ فَلَا يَصِيرُ مُسْرِفًا بِسَبَبِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْقَتْلِ، وَيَكُونُ مَعْنَاهُ التَّرْغِيبَ فِي الْعَفْوِ كَمَا قَالَ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «٢» انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَلَوْ سُلِّمَ أَنَّ فِي بِمَعْنَى الْبَاءِ لَمْ يَكُنْ صَحِيحَ الْمَعْنَى، لِأَنَّ مَنْ قَتَلَ بِحَقٍّ قَاتِلَ مُوَلِّيهِ لَا يصير مسرقا بِقَتْلِهِ، وَإِنَّمَا الظَّاهِرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ النَّهْيُ عَمَّا كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُهُ مِنْ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ، وَقَتْلِ غَيْرِ الْقَاتِلِ وَالْمُثْلَةِ وَمُكَافَأَةِ الَّذِي يَقْتُلُ مَنْ قَتَلَهُ. وَقَالَ مُهَلْهَلٌ حِينَ قَتَلَ بُجَيْرَ بْنَ الْحَارِثِ بْنِ عَبَّادٍ: بُؤْ بِشِسْعِ نَعْلِ كُلَيْبٍ.
وَأَبْعَدُ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي فَلا يُسْرِفْ لَيْسَ عَائِدًا عَلَى الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا يَعُودُ عَلَى الْعَامِلِ الدَّالِّ عَلَيْهِ، وَمَنْ قُتِلَ أَيْ لَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ تَعَدِّيًا وَظُلْمًا فَيَقْتُلُ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَتْلُهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ فَلا يُسْرِفْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَحُذَيْفَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ وَمُجَاهِدٌ بِخِلَافٍ وَجَمَاعَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ مِنْ تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ وَهْمٌ بِتَاءِ الْخِطَابِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَلَى خِطَابِ الْوَلِيِّ فَالضَّمِيرُ لَهُ. وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: الْخِطَابُ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِهِ أَيْ فَلَا تَقْتُلُوا غَيْرَ الْقَاتِلِ انْتَهَى. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ السَّرَّاجُ صَاحِبُ الدَّعْوَةِ الْعَبَّاسِيَّةِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ قَرَأَ أَبُو مُسْلِمٍ صَاحِبُ الدَّوْلَةِ. وَقَالَ صَاحِبُ كِتَابِ اللَّوَامِحِ أَوْ مُسْلِمٌ الْعِجْلِيُّ مَوْلَى صَاحِبِ الدَّوْلَةِ: فَلا يُسْرِفْ بِضَمِّ الْفَاءِ عَلَى الْخَبَرِ، وَمَعْنَاهُ النَّهْيُ وَقَدْ يَأْتِي الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِلَفْظِ الْخَبَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي الِاحْتِجَاجِ بِأَبِي مُسْلِمٍ فِي الْقِرَاءَةِ نَظَرٌ، وَفِي قِرَاءَةِ أُبَيٍّ فَلَا تُسْرِفُوا فِي الْقَتْلِ إِنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ كَانَ مَنْصُورًا انْتَهَى. رَدَّهُ عَلَى وَلَا تَقْتُلُوا وَالْأَوْلَى حَمْلُ قَوْلِهِ إِنَّ وَلِيَّ الْمَقْتُولِ عَلَى التَّفْسِيرِ لَا عَلَى الْقِرَاءَةِ لِمُخَالَفَتِهِ السَّوَادَ، وَلِأَنَّ الْمُسْتَفِيضَ عَنْهُ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً كَقِرَاءَةِ الْجَمَاعَةِ وَالضَّمِيرُ فِي إِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْوَلِيِّ لِتَنَاسُقِ الضَّمَائِرِ وَنَصْرُهُ إِيَّاهُ بِأَنْ أَوْجَبَ لَهُ الْقِصَاصَ، فَلَا يُسْتَزَادُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ نَصْرُهُ بِمَعُونَةِ السُّلْطَانِ وَبِإِظْهَارِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْحَقِّ. وَقِيلَ:
(٢) سورة البقرة: ٢/ ٢٣٧.
كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ»
وَكَقَوْلِهِ: «انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا»
إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْثِلَةِ. وَقِيلَ: عَلَى الْقَتْلِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: عَلَى الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ إِذَا قُتِلَ فِي الدُّنْيَا وَخَلَصَ بِذَلِكَ مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ فَقَدْ نُصِرَ، وَهَذَا ضَعِيفٌ بَعِيدُ الْقَصْدِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي أنه الذي بقتله الْوَلِيِّ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيُسْرِفُ فِي قَتْلِهِ فَإِنَّهُ مَنْصُورٌ بِإِيجَابِ الْقِصَاصِ عَلَى الْمُسْرِفِ انْتَهَى. وَهَذَا بَعِيدٌ جِدًّا.
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ لَمَّا نَهَى عَنْ إِتْلَافِ النُّفُوسِ نَهَى عَنْ أَخْذِ الْأَمْوَالِ كَمَا
قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ».
لما كَانَ الْيَتِيمُ ضَعِيفًا عَنْ أَنْ يَدْفَعَ عَنْ مَالِهِ لِصِغَرِهِ نَصَّ عَلَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِ مَالِهِ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي أَوَاخِرِ الْأَنْعَامِ. وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عام فيما عقده الإنساب بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ، أَوْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ آدَمِيٍّ فِي طَاعَةٍ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا ظَاهِرُهُ أَنَّ الْعَهْدَ هُوَ الْمَسْئُولُ مِنَ الْمُعَاهِدِ أَنْ يفي به وَلَا يُضَيِّعَهُ أَوْ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّخْيِيلِ، كَأَنَّهُ يُقَالُ لِلْعَهْدِ: لِمَ نُكِثْتَ، فَمُثِّلَ كَأَنَّهُ ذَاتٌ مِنَ الذَّوَاتِ تُسْأَلُ لِمَ نُكِثَتْ دَلَالَةً عَلَى الْمُطَاوَعَةِ بِنَكْثِهِ وَإِلْزَامِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى نَكْثِهِ، كَمَا جَاءَ وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ «١» فِيمَنْ قَرَأَ بِسُكُونِ اللَّامِ وَكَسْرِ التَّاءِ الَّتِي لِلْخِطَابِ. وَقِيلَ: هُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ إِنَّ ذَا العهد كان مسؤولا عَنْهُ إِنْ لَمْ يَفِ بِهِ.
ثُمَّ أَمَرَ تَعَالَى بِإِيفَاءِ الْكَيْلِ وَبِالْوَزْنِ الْمُسْتَقِيمِ، وَذَلِكَ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى الْمُعَامَلَةِ بِالْأَمْوَالِ. وَفِي قَوْلِهِ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْكَيْلَ هُوَ عَلَى الْبَائِعِ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ ذَلِكَ لِلْمُشْتَرِي. وَقَالَ الْحَسَنُ: بِالْقِسْطاسِ القبان وهو القلسطون وَيُقَالُ الْقَرَسْطُونُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: بِالْقِسْطاسِ الْعَدْلُ لَا أَنَّهُ آلَةٌ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَحَفْصٌ بِكَسْرِ الْقَافِ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا وَهُمَا لُغَتَانِ. وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ بِالْإِبْدَالِ مِنَ السِّينِ الْأُولَى صَادًا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَاللَّفْظِيَّةُ لِلْمُبَالَغَةِ مِنَ الْقِسْطِ انْتَهَى. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْقِسْطِ لِاخْتِلَافِ الْمَادَّتَيْنِ لِأَنَّ الْقِسْطَ مَادَّتُهُ ق س ط، وَذَلِكَ مَادَّتُهُ ق س ط س إِلَّا أَنِ اعْتُقِدَ زِيَادَةُ السِّينِ آخِرًا كَسِينِ قدموس وضغيوس وَعُرْفَاسَ، فَيُمْكِنُ لَكِنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَوَاضِعِ زِيَادَةِ السِّينِ المقيسة والتقييد بقوله:
ذلِكَ خَيْرٌ أَيِ الْإِيفَاءُ وَالْوَزْنُ لِأَنَّ فِيهِ تَطْيِيبَ النُّفُوسِ بِالِاتِّسَامِ بِالْعَدْلِ وَالْإِيصَالِ لِلْحَقِّ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أَيْ عَاقِبَةً، إِذْ لَا يَبْقَى عَلَى الْمُوفِي وَالْوَازِنِ تَبِعَةٌ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ مِنَ الْمَآلِ وَهُوَ الْمَرْجِعُ كَمَا قَالَ: خَيْرٌ مَرَدًّا، خَيْرٌ عُقْبًا، خَيْرٌ أَمَلًا وَإِنَّمَا كَانَتْ عَاقِبَتُهُ أَحْسُنُ لِأَنَّهُ اشْتُهِرَ بِالِاحْتِرَازِ عَنِ التَّطْفِيفِ، فَعُوِّلَ عَلَيْهِ فِي الْمُعَامَلَاتِ وَمَالَتِ الْقُلُوبُ إِلَيْهِ.
وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً.
لَمَّا أَمَرَ تَعَالَى بِثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ، الْإِيفَاءِ بِالْعَهْدِ، وَالْإِيفَاءِ بِالْكَيْلِ، وَالْوَزْنِ بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بثلاثة أمّناه: وَلا تَقْفُ وَلا تَمْشِ وَلا تَجْعَلْ. وَمَعْنَى وَلا تَقْفُ لَا تَتَّبِعْ مَا لَا عِلْمَ لَكَ بِهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، نَهَى أَنْ نَقُولَ مَا لَا نَعْلَمُ وَأَنْ نَعْمَلَ بِمَا لَا نَعْلَمُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّهْيُ عَنِ اتِّبَاعِ التَّقْلِيدِ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ بِمَا لَا يُعْلَمُ صِحَّتُهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
مَعْنَاهُ لَا تَرْمِ أَحَدًا بِمَا لَا تَعْلَمُ. وَقَالَ قَتَادَةُ لَا تَقُلْ رَأَيْتُ وَلَمْ تَرَهْ وَسَمِعْتُ وَلَمْ تَسْمَعْهُ وَعَلِمْتُ وَلَمْ تَعْلَمْهُ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بن الحنيفة: لَا تَشْهَدْ بِالزُّورِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَلَا تَقُلْ لَكِنَّهَا كَلِمَةٌ تُسْتَعْمَلُ فِي الْقَذْفِ وَالْعَضْهِ انْتَهَى.
وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ قَفَا مُؤْمِنًا بِمَا لَيْسَ فِيهِ حَبَسَهُ اللَّهُ فِي رَدْغَةِ الْخَبَالِ حَتَّى يَأْتِيَ بِالْمَخْرَجِ».
وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ بْنُ كِنَانَةَ لَا تَقْفُو مِنَّا وَلَا نَنْتَفِي مِنْ أَبِينَا».
وَمِنْهُ قَوْلُ النَّابِغَةِ الْجَعْدِيِّ:
وَمِثْلُ الدُّمَى شُمُّ الْعِرَانِينَ سَاكِنٌ | بِهِنَّ الْحَيَا لَا يَتَّبِعْنَ التَّقَافِيَا |
فَلَا أَرْمِي الْبَرِيءَ بِغَيْرِ ذَنْبٍ | وَلَا أَقْفُو الْحَوَاضِنَ إِنْ قُفِينَا |
فكل من القائلين حمل على واحد من تلك الأنواع. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهِ مُبْطِلُ الِاجْتِهَادِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ ذَلِكَ نَوْعٌ مِنَ الْعِلْمِ، وَقَدْ أَقَامَ الشَّرْعُ غَالِبَ الظَّنِّ مَقَامَ الْعِلْمِ وَأَمَرَ
هَجَوْتَ زَبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِرًا | مِنْ هَجْوِ زَبَّانَ لَمْ تَهْجُو وَلَمْ تَدَعِ |
رَأَيْتُهُمْ فِي نُجُومٍ لِأَنَّهُ إِنَّمَا وَصَفَهَا بِالسُّجُودِ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ مَنْ يَعْقِلُ عَبَّرَ عَنْهَا بِكِنَايَةِ مَنْ يَعْقِلُ.
وَحَكَى الزَّجَّاجُ أَنَّ الْعَرَبَ تُعَبِّرُ عَمَّنْ يَعْقِلُ وَعَمَّا لَا يَعْقِلُ بِأُولَئِكَ، وَأَنْشَدَ هُوَ وَالطَّبَرِيُّ:
ذُمَّ الْمَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى | وَالْعَيْشَ بَعْدَ أُولَئِكَ الْأَيَّامِ |
وقال الزمخشري: وعَنْهُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ، أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا كان مسؤولا عنه، فمسؤول مُسْنَدٌ إِلَى الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ كَالْمَغْضُوبِ فِي قَوْلِهِ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ «٢» يُقَالُ لِلْإِنْسَانِ: لِمَ سَمِعْتَ مَا لَا يَحِلُّ لَكَ سَمَاعُهُ؟ وَلِمَ نَظَرْتَ مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ النَّظَرُ إِلَيْهِ؟ وَلِمَ عَزَمْتَ عَلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ الْعَزْمُ عَلَيْهِ؟ انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مِنْ أَنَّ عَنْهُ فِي مَوْضِعِ الرَّفْعِ بِالْفَاعِلِيَّةِ، وَيَعْنِي بِهِ أَنَّهُ مَفْعُولٌ لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُهُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْجَارَّ وَالْمَجْرُورَ وَمَا يُقَامُ مَقَامَ الْفَاعِلِ مِنْ مَفْعُولٍ بِهِ وَمَصْدَرٍ وَظَرْفٍ بِشُرُوطِهِمَا جَارٍ مَجْرَى الْفَاعِلِ، فَكَمَا أَنَّ الْفَاعِلَ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ فَكَذَلِكَ مَا جَرَى مَجْرَاهُ وَأُقِيمُ مَقَامَهُ، فَإِذَا قُلْتَ غَضِبَ عَلَى زَيْدٍ فَلَا يَجُوزُ عَلَى زَيْدٍ غَضِبَ بِخِلَافِ غَضِبْتُ عَلَى زَيْدٍ فَيَجُوزُ عَلَى زَيْدٍ غَضِبْتُ. وَقَدْ حَكَى الِاتِّفَاقَ مِنَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الَّذِي يُقَامُ مَقَامَ الْفَاعِلِ عَلَى الْفِعْلِ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي الْمُقْنِعِ مِنْ تَأْلِيفِهِ، فَلَيْسَ عَنْهُ مَسْؤُلًا كَالْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ لِتَقَدُّمِ الْجَارِّ والمجرور في عَنْهُ مَسْؤُلًا وَتَأْخِيرِهِ فِي الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَلِمَ نَظَرْتَ مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ أَسْقَطَ إِلَى، وَهُوَ لَا يَجُوزُ إِلَّا إِنْ جَاءَ فِي ضَرُورَةِ شِعْرٍ لِأَنَّ نَظَرَ يَتَعَدَّى بِإِلَى فَكَانَ التَّرْكِيبُ، وَلِمَ نَظَرْتَ إِلَى مَا لَمْ يَحِلَّ لَكَ كَمَا قَالَ النَّظَرُ إِلَيْهِ فَعَدَّاهُ بِإِلَى.
وَانْتَصَبَ مَرَحاً عَلَى الْحَالِ أَيْ مَرَحاً كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ رَكْضًا أَيْ رَاكِضًا أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أي ذَا مَرَحٍ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا مِنْ أَجْلِهِ أَيْ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ لِلْمَرَحِ وَلَا يَظْهَرُ ذَلِكَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرَحَ هُوَ السُّرُورُ وَالِاغْتِبَاطُ بِالرَّاحَةِ وَالْفَرَحِ وَكَأَنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنَى الِاخْتِيَالِ لِأَنَّ غَلَبَةَ السُّرُورِ وَالْفَرَحِ يَصْحَبُهَا التَّكَبُّرُ والاختيال، ولذلك بقوله
(٢) سورة الفاتحة: ١/ ٧.
لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لَنْ تَجْعَلَ فِيهَا خَرْقًا بِدَوْسِكَ لَهَا وَشِدَّةِ وَطْئِكَ، وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بِتَطَاوُلِكَ وَهُوَ تَهَكُّمٌ بِالْمُخْتَالِ. وَقَرَأَ الْجَرَّاحُ الْأَعْرَابِيُّ: لَنْ تَخْرِقَ بِضَمِّ الرَّاءِ.
قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تُعْرَفُ هَذِهِ اللُّغَةُ. وَقِيلَ: أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ مَحْصُورٌ بَيْنَ جَمَادَيْنِ ضَعِيفٌ عَنِ التَّأْثِيرِ فِيهِمَا بِالْخَرْقِ وَبُلُوغِ الطُّولِ وَمَنْ كَانَ بِهَذِهِ الْمَثَابَةِ لَا يَلِيقُ بِهِ التَّكَبُّرُ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَا تَمْشِ فَوْقَ الْأَرْضِ إِلَّا تَوَاضُعًا | فَكَمْ تَحْتَهَا قَوْمٌ هُمْ مِنْكَ أَرْفَعُ |
طُولًا نَصْبٍ عَلَى الْحَالِ، وَالْعَامِلُ فِي الْحَالِ تَبْلُغَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ تخرق، وطُولًا بِمَعْنَى مُتَطَاوِلٍ انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: طُولًا مَصْدَرٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الْفَاعِلِ أَوِ الْمَفْعُولِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا وَمَفْعُولًا لَهُ وَمَصْدَرًا مِنْ مَعْنَى تَبْلُغَ انْتَهَى. وَقَرَأَ الْحَرَمِيَّانِ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَالْأَعْرَجُ سَيِّئَةً بِالنَّصْبِ وَالتَّأْنِيثِ. وَقَرَأَ بَاقِي السَّبْعَةِ وَالْحَسَنُ وَمَسْرُوقٌ سَيِّئُهُ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ مُضَافًا لِهَاءِ الْمُذَكَّرِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ سَيِّئَاتُهُ بِالْجَمْعِ مُضَافًا لِلْهَاءِ، وَعَنْهُ أَيْضًا سَيِّئَاتٌ بِغَيْرِهَا، وَعَنْهُ أَيْضًا كَانَ خَبِيثُهُ. فَأَمَّا الْقِرَاءَةُ الْأُولَى فَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَصْدَرَيِ النَّهْيَيْنِ السَّابِقَيْنِ، وَهُمَا قَفْوُ مَا لَيْسَ لَهُ بِهِ عِلْمٌ، وَالْمَشْيُ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا. وَقِيلَ: إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ الْمَنَاهِي الْمَذْكُورَةِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ، وسيئة خبر كان وأنت ثُمَّ قَالَ مَكْرُوهًا فَذُكِّرَ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: السَّيِّئَةُ فِي حُكْمِ الْأَسْمَاءِ بِمَنْزِلَةِ الذَّنْبِ، وَالِاسْمُ زَالَ عَنْهُ حُكْمُ الصِّفَاتِ فَلَا اعْتِبَارَ بِتَأْنِيثِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَرَأَ سَيِّئَةً وَمَنْ قَرَأَ سَيِّئًا، أَلَا تَرَاكَ تَقُولُ: الزِّنَا سَيِّئَةٌ كَمَا تَقُولُ السَّرِقَةُ سَيِّئَةٌ، فَلَا تُفَرِّقُ بَيْنَ إِسْنَادِهَا إِلَى مُذَكَّرٍ وَمُؤَنَّثٍ انْتَهَى. وَهُوَ تَخْرِيجٌ حَسَنٌ.
(٢) سورة لقمان: ٣١/ ١٩.
قِيلَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِسَيِّئَةٍ لَمَّا كَانَ تَأْنِيثُهَا مَجَازِيًّا جَازَ أَنْ تُوصَفَ بِمُذَكَّرٍ، وَضُعِّفَ هَذَا بِأَنَّ جَوَازَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى الْمُؤَنَّثِ الْمَجَازِيِّ إِذَا تَقَدَّمَ، أَمَّا إِذَا تَأَخَّرَ وَأُسْنِدَ إِلَى ضَمِيرِهَا فَهُوَ قَبِيحٌ، تَقُولُ: أَبْقَلَ الْأَرْضُ إِبْقَالَهَا فَصِيحًا وَالْأَرْضُ أَبْقَلَ قَبِيحٌ، وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ سَيِّئُهُ بِالتَّذْكِيرِ وَالْإِضَافَةِ فسيئة اسم كانَ ومَكْرُوهاً الْخَبَرُ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ مِنَ الخصال ما هو سيىء وَمَا هُوَ حَسَنٌ أُشِيرَ بِذَلِكَ إِلَى الْمَجْمُوعِ وَأُفْرِدَ سَيِّئَةٌ وَهُوَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ، فَالْحُكْمُ عَلَيْهِ بِالْكَرَاهَةِ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ إِلَى آخِرِ الْمَنْهِيَّاتِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ فتخرج عَلَى أَنْ يَكُونَ مِمَّا أُخْبِرَ فِيهِ عَنِ الْجَمْعِ إِخْبَارَ الْوَاحِدِ الْمُذَكَّرِ وَهُوَ قَلِيلٌ نَحْوُ قَوْلِهِ:
فَإِنَّ الْحَوَادِثَ أَوْدَى بِهَا لِصَلَاحِيَةِ الْحِدْثَانِ مَكَانَ الْحَوَادِثِ وَكَذَلِكَ هَذَا أَيْضًا كَانَ مَا يَسُوءُ مَكَانَ سَيِّئَاتِهِ ذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِ التَّكَالِيفِ مِنْ قَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ- إِلَى قَوْلِهِ- وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً «١» وَهِيَ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ نَوْعًا مِنَ التَّكَالِيفِ بَعْضُهَا أَمْرٌ وَبَعْضُهَا نَهْيٌ بَدَأَهَا بِقَوْلِهِ لَا تَجْعَلْ. وَاخْتَتَمَ الْآيَاتِ بِقَوْلِهِ وَلا تَجْعَلْ وَقَالَ: مِمَّا أَوْحَى لِأَنَّ ذَلِكَ بَعْضٌ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْهِ إِذْ أَوْحَى إِلَيْهِ بِتَكَالِيفَ أخر، ومِمَّا أَوْحى خَبَرٌ عَنْ ذَلِكَ، ومِنَ الْحِكْمَةِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِأَوْحَى وَأَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ مَا، وَأَنْ يَكُونَ حَالًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ الْمَحْذُوفِ الْعَائِدِ عَلَى مَا وَكَانَتْ هَذِهِ التَّكَالِيفُ حِكْمَةً لِأَنَّ حَاصِلَهَا يَرْجِعُ إِلَى الْأَمْرِ بِالتَّوْحِيدِ وَأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الدُّنْيَا وَالْإِقْبَالِ عَلَى الْآخِرَةِ، وَالْعُقُولُ تَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهَا وَهِيَ شَرَائِعُ فِي جَمِيعِ الْأَدْيَانِ لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ كَانَتْ فِي أَلْوَاحِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، أَوَّلُهَا لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ قَالَ تَعَالَى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ «٢» وَكَرَّرَ تَعَالَى النَّهْيَ عَنِ الشِّرْكِ، فَفِي النَّهْيِ الْأَوَّلِ. فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا «٣» وَفِي الثَّانِي فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَذْمُومٍ وَمَلُومٍ أَنَّ كَوْنَهُ مَذْمُومًا أَنْ يَذْكُرَ أَنَّ الْفِعْلَ الَّذِي أَقْدَمَ عَلَيْهِ قَبِيحٌ مُنْكَرٌ، وَكَوْنَهُ مَلُومًا أَنْ يقال له بعد
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٤٥.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ١٨.
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً.
لَمَّا نَبَّهَ تَعَالَى عَلَى فَسَادِ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ شَرِيكًا وَنَظِيرًا أَتْبَعَهُ بِفَسَادِ طَرِيقَةِ مَنْ أَثْبَتَ لِلَّهِ وَلَدًا، وَالِاسْتِفْهَامُ مَعْنَاهُ الْإِنْكَارُ وَالتَّوْبِيخُ وَالْخِطَابُ لِمَنِ اعْتَقَدَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللَّهِ وَمَعْنَى أَفَأَصْفاكُمْ آثَرَكُمْ وَخَصَّكُمْ وهذا كما قال: أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى «١» وَهَذَا خِلَافُ الْحِكْمَةِ وَمَا عَلَيْهِ مَعْقُولُكُمْ وَعَادَتُكُمْ، فَإِنَّ الْعَبِيدَ لَا يُؤْثَرُونَ بِأَجْوَدِ الْأَشْيَاءِ وَأَصْفَاهَا مِنَ الشَّوْبِ وَيَكُونُ أَرْدَؤُهَا وَأَدْوَنُهَا لِلسَّادَاتِ. وَمَعْنَى عَظِيماً مُبَالَغًا فِي الْمُنْكَرِ وَالْقُبْحِ حَيْثُ أَضَفْتُمْ إِلَيْهِ الْأَوْلَادَ ثُمَّ حَيْثُ فَضَّلْتُمْ عَلَيْهِ تَعَالَى أَنْفُسَكُمْ فَجَعَلْتُمْ لَهُ مَا تَكْرَهُونَ، ثُمَّ نِسْبَةُ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ شَرِيفِ مَا خَلَقَ إِلَى الْأُنُوثَةِ. وَمَعْنَى صَرَّفْنا نَوَّعْنَا مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ وَمِنْ مِثَالٍ إِلَى مِثَالٍ، وَالتَّصْرِيفُ لُغَةً صَرْفُ الشَّيْءِ مِنْ جِهَةٍ إِلَى جِهَةٍ ثُمَّ صَارَ كِنَايَةً عَنِ التَّبْيِينِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ وَلَقَدْ صَرَّفْنا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ. فَقَالَ: لَمْ نَجْعَلْهُ نَوْعًا وَاحِدًا بَلْ وَعْدًا وَوَعِيدًا، وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا، وَأَمْرًا وَنَهْيًا، وَنَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَأَخْبَارًا وَأَمْثَالًا مِثْلَ تَصْرِيفِ الرِّيَاحِ مِنْ صَبًا وَدَبُورٍ وَجَنُوبٍ وَشَمَالٍ، وَمَفْعُولُ صَرَّفْنا عَلَى هَذَا الْمَعْنَى مَحْذُوفٌ وَهِيَ هَذِهِ الْأَشْيَاءُ أَيْ: صَرَّفْنَا الْأَمْثَالَ وَالْعِبَرَ والحكم والأحكام والأعلام.
وَقِيلَ: فِي زَائِدَةٌ أَيْ صَرَّفْنا هذَا الْقُرْآنِ كَمَا قَالَ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي «١» وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ فِي لَا تُزَادُ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُرِيدَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِبْطَالَ إِضَافَتِهِمْ إِلَى اللَّهِ الْبَنَاتِ لِأَنَّهُ مِمَّا صَرَّفَهُ وَكَرَّرَ ذِكْرَهُ، وَالْمَعْنَى وَلَقَدْ صَرَّفْنا الْقَوْلَ فِي هَذَا الْمَعْنَى، وَأَوْقَعْنَا التَّصْرِيفَ فِيهِ وَجَعَلْنَاهُ مَكَانًا لِلتَّكْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ بِهَذَا الْقُرْآنِ إِلَى التَّنْزِيلِ، وَيُرِيدُ وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ يَعْنِي هَذَا الْمَعْنَى فِي مَوَاضِعَ مِنَ التَّنْزِيلِ، فَتَرَكَ الضَّمِيرَ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ انْتَهَى. فَجَعَلَ التَّصْرِيفَ خَاصًّا بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَبْلَهُ وَجَعَلَ مَفْعُولَ صَرَّفْنا إِمَّا الْقَوْلُ فِي هَذَا الْمَعْنَى أَوِ الْمَعْنَى وَهُوَ الضَّمِيرُ الَّذِي قَدَّرَهُ فِي صَرَّفْنَاهُ وَغَيْرُهُ جَعَلَ التَّصْرِيفَ عَامًّا فِي أَشْيَاءَ فَقَدَّرَ مَا يَشْمَلُ مَا سِيقَ لَهُ مَا قَبْلَهُ وَغَيْرَهُ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ. فَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هُوَ بِمَعْنَى الْعَامَّةِ يَعْنِي بِالْعَامَّةِ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ، قَالَ:
لِأَنَّ فَعَلَ وَفَعَّلَ رُبَّمَا تَعَاقَبَا عَلَى مَعْنًى وَاحِدٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: عَلَى مَعْنَى صَرَفْنَا فِيهِ النَّاسَ إِلَى الْهُدَى بِالدُّعَاءِ إِلَى اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ لِيَذَّكَّرُوا أَيْ لِيَتَذَكَّرُوا مِنَ التَّذْكِيرِ، أُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الذَّالِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَطَلْحَةُ وَابْنُ وَثَّابٍ وَالْأَعْمَشُ لِيَذْكُرُوا بِسُكُونِ الذَّالِ وَضَمِّ الْكَافِ مِنَ الذِّكْرِ أو الذكر، أي ليعظوا وَيَعْتَبِرُوا وَيَنْظُرُوا فِيمَا يُحْتَجُّ بِهِ عَلَيْهِمْ وَيَطْمَئِنُّوا إِلَيْهِ وَما يَزِيدُهُمْ أَيِ التَّصْرِيفُ إِلَّا نُفُوراً أَيْ بُعْدًا وَفِرَارًا عَنِ الْحَقِّ كَمَا قَالَ: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «٢» وَقَالَ: فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ «٣» وَالنُّفُورُ مِنْ أَوْصَافِ الدَّوَابِّ الشَّدِيدَةِ الشِّمَاسِ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى نِسْبَةَ الْوَلَدِ إِلَيْهِمْ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ ذَكَرَ قَوْلَهُمْ أَنَّهُ تَعَالَى مَعَهُ آلِهَةٌ وَرَدَّ عَلَيْهِمْ.
وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَفْصٌ كَما يَقُولُونَ بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتَ، وَالْجُمْهُورُ بِالتَّاءِ. وَمَعْنَى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا إِلَى مُغَالَبَتِهِ وَإِفْسَادِ مُلْكِهِ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاؤُهُ كَمَا يَفْعَلُ الْمُلُوكُ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ. وَقَالَ هَذَا الْمَعْنَى أَوْ مِثْلَهُ ابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ وَالنَّقَّاشُ وَالْمُتَكَلِّمُونَ أَبُو مَنْصُورٍ وَغَيْرُهُ، وَعَلَى هَذَا تَكُونُ الْآيَةُ بَيَانًا لِلتَّمَانُعِ كَمَا فِي قَوْلِهِ لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «٤» وَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَقَالَ قَتَادَةُ مَا مَعْنَاهُ: لابتغوا
(٢) سورة التوبة: ٩/ ١٢٥.
(٣) سورة المدثر: ٧٤/ ٤٩. [.....]
(٤) سورة الأنبياء: ٢١/ ٢٢.
مُتَعَلِّقَةٌ بِمَا تَعَلَّقَتْ بِهِ مَعَ وهو الاستقرار ومَعَهُ خَبَرُ كَانَ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: كَوْنًا لِقَوْلِكُمْ.
وَقَالَ الزمخشري: وإِذاً دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ مَا بَعْدَهَا وَهُوَ لَابْتَغَوْا جَوَابٌ عَنْ مَقَالَةِ الْمُشْرِكِينَ وَجَزَاءٌ للو انْتَهَى. وَعُطِفَ وَتَعالى عَلَى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ لِأَنَّهُ اسْمٌ قَامَ مَقَامَ الْمَصْدَرِ الَّذِي هُوَ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ، أَيْ بَرَاءَةُ اللَّهِ وَقُدِّرَ تَنَزَّهَ وَتَعَالَى يَتَعَلَّقُ بِهِ عن عَلَى سَبِيلِ الْإِعْمَالِ إِذْ يَصِحُّ لِسُبْحَانَ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ عَنْ كَمَا فِي قَوْلِهِ سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ «٢» وَالتَّعَالِي فِي حَقِّهِ تَعَالَى هُوَ بِالْمَكَانَةِ لَا بِالْمَكَانِ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ: عَمَّا تَقُولُونَ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ. وَانْتَصَبَ عُلُوًّا عَلَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ أَيْ تَعَالِيًا وَوُصِفَ تَكْبِيرًا مُبَالَغَةً فِي مَعْنَى الْبَرَاءَةِ وَالْبُعْدِ عَمَّا وَصَفُوهُ بِهِ لِأَنَّ الْمُنَافَاةَ بَيْنَ الْوَاجِبِ لِذَاتِهِ وَالْمُمْكِنِ لِذَاتِهِ، وَبَيْنَ الْقَدِيمِ وَالْمُحْدَثِ، وَبَيْنَ الْغَنِيِّ وَالْمُحْتَاجِ مُنَافَاةٌ لَا تَقْبَلُ الزِّيَادَةَ، وَنِسْبَةُ التَّسْبِيحِ للسموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ حَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى النُّطْقِ بِالتَّسْبِيحِ حَقِيقَةً، وَأَنَّ مَا لَا حَيَاةَ فِيهِ وَلَا نُمُوَّ يُحْدِثُ اللَّهُ لَهُ نُطْقًا وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ اللَّفْظِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا كَانَ مِنْ نَامٍ حَيَوَانٍ وَغَيْرِهِ يُسَبِّحُ حَقِيقَةً، وَبِهِ قَالَ عِكْرِمَةُ قَالَ: الشَّجَرَةُ تُسَبِّحُ وَالْأُسْطُوَانَةُ لَا تُسَبِّحُ.
وَسُئِلَ الْحَسَنُ عَنِ الْخِوَانِ أَيُسَبِّحُ؟ فَقَالَ: قَدْ كان تسبّح مَرَّةً يُشِيرُ إِلَى أَنَّهُ حِينَ كَانَ شَجَرَةً كَانَ يُسَبِّحُ، وَحِينَ صَارَ خُوَانًا مَدْهُونًا صَارَ جَمَادًا لَا يُسَبِّحُ. وَقِيلَ: التَّسْبِيحُ الْمَنْسُوبُ لِمَا لَا يَعْقِلُ مَجَازٌ وَمَعْنَاهُ أَنَّهَا تُسَبِّحُ بِلِسَانِ الْحَالِ حَيْثُ يَدُلُّ عَلَى الصَّانِعِ وَعَلَى قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَكَمَالِهِ، فَكَأَنَّهَا تَنْطِقُ بِذَلِكَ وَكَأَنَّهَا تُنَزِّهُ اللَّهَ عَمَّا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ مِنَ الشُّرَكَاءِ وَغَيْرِهَا.
وَيَكُونُ قَوْلُهُ: وَلكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ خِطَابًا لِلْمُشْرِكِينَ، وَهُمْ وَإِنْ كَانُوا مُعْتَرِفِينَ بِالْخَالِقِ أَنَّهُ اللَّهُ لَكِنَّهُمْ لَمَّا جَعَلُوا مَعَهُ آلِهَةً لَمْ يَنْظُرُوا وَلَمْ يُقِرُّوا لِأَنَّ نَتِيجَةَ النَّظَرِ الصَّحِيحِ وَالْإِقْرَارِ الثَّابِتِ خِلَافُ مَا كَانُوا عَلَيْهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْقَهُوا التَّسْبِيحَ وَلَمْ يَسْتَوْضِحُوا الدَّلَالَةَ عَلَى الْخَالِقِ فَيَكُونُ التَّسْبِيحُ الْمُسْنَدُ إلى السموات وَالْأَرْضِ وَمَنْ فِيهِنَّ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ قَدْرًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ يَصْدُرُ التَّسْبِيحُ حَقِيقَةً مِمَّنْ فِيهِنَّ مِنْ مَلَكٍ وَإِنْسٍ وجان ولا
(٢) سورة الصافات: ٣٧/ ١٨٠.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ثُمَّ أعاد على السموات وَالْأَرْضِ ضَمِيرَ مَنْ يَعْقِلُ لَمَّا أَسْنَدَ إِلَيْهَا فِعْلَ الْعَاقِلِ وَهُوَ التَّسْبِيحُ انْتَهَى. وَيُعْنَى بِالضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ وَمَنْ فِيهِنَّ وَكَأَنَّهُ تُخُيِّلَ أَنَّ هُنَّ لَا يَكُونُ إِلَّا لِمَنْ يَعْقِلُ مِنَ الْمُؤَنَّثَاتِ وَلَيْسَ كَمَا تُخُيِّلَ بَلْ هُنَّ يَكُونُ ضَمِيرَ الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ مُطْلَقًا. وَقَرَأَ النحويان وحزة وَحَفْصٌ: تُسَبِّحُ بِالتَّاءِ مِنْ فَوْقُ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِالْيَاءِ، وَفِي بَعْضِ الْمَصَاحِفِ سَبَّحَتْ له السموات بِلَفْظِ الْمَاضِي وَتَاءِ التَّأْنِيثِ وَهِيَ قِرَاءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وَالْأَعْمَشِ وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حَيْثُ لَا يُعَاجِلُكُمْ بِالْعُقُوبَةِ عَلَى سُوءِ نَظَرِكُمْ غَفُوراً إِنْ رَجَعْتُمْ وَوَحَّدْتُمُ اللَّهَ تَعَالَى.
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً.
نَزَلَتْ وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فِي أَبِي سُفْيَانَ وَالنَّضْرِ وَأَبِي جَهْلٍ وَأُمِّ جَمِيلٍ امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ، كَانُوا يُؤْذُونَ الرَّسُولَ إِذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ، فَحَجَبَ اللَّهُ أَبْصَارَهُمْ إِذَا قَرَأَ فَكَانُوا يَمُرُّونَ بِهِ وَلَا يَرَوْنَهُ قَالَهُ الْكَلْبِيُّ:
وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ نَزَلَتْ فِي امْرَأَةِ أَبِي لَهَبٍ، دَخَلَتْ مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ وَبِيَدِهَا فِهْرٌ وَالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَهُ، فَقَالَتْ: هَجَانِي صَاحِبُكَ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرٍ، قَالَتْ: قَالَ فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ «١» وَمَا يُدْرِيهِ مَا فِي جِيدِي؟ فَقَالَ لِأَبِي بَكْرٍ: «سَلْهَا هَلْ تَرَى غَيْرَكَ فَإِنَّ مَلَكًا لَمْ يَزَلْ يَسْتُرُنِي عَنْهَا» فَسَأَلَهَا فَقَالَتْ: أَتَهْزَأُ بِي مَا أَرَى غَيْرَكَ؟ فَانْصَرَفَتْ وَلَمْ تَرَ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقِيلَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ بَنِي عَبْدِ الدَّارِ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فِي اللَّيْلِ إِذَا صَلَّى وَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ، فَحَالَ اللَّهُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَذَاهُ.
وَلَمَّا تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي تَقْرِيرِ الْإِلَهِيَّةِ جَاءَ بَعْدَهُ تَقْرِيرُ النُّبُوَّةِ وَذِكْرُ شَيْءٍ مِنْ أَحْوَالِ الْكَفَرَةِ فِي إِنْكَارِهَا وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ، وَالْمَعْنَى وَإِذَا شَرَعْتَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى الْفَرَاغِ مِنَ الْقِرَاءَةِ بَلِ الْمَعْنَى عَلَى أَنَّكَ إِذَا الْتَبَسْتَ بِقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَا يُرَادُ بِالْقُرْآنِ جَمِيعُهُ بَلْ مَا ينطلق
وَعَنْ كَعْبٍ أَنَّ الرَّسُولَ كَانَ يَسْتَتِرُ بِهَذِهِ الْآيَاتِ
وَعَنِ ابْنِ سِيرِينَ أَنَّهُ عَيَّنَهَا لَهُ هَاتِفٌ مِنْ جَانِبِ الْبَيْتِ
وَعَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ أَسَرَّ زَمَانًا ثُمَّ اهْتَدَى قِرَاءَتَهَا فَخَرَجَ لَا يُبْصِرُهُ الْكُفَّارُ وَهُمْ يَتَطَلَّبُونَهُ تَمَسُّ ثِيَابُهُمْ ثِيَابَهُ.
قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَيُزَادُ إِلَى هَذِهِ الْآيِ أَوَّلُ يس إِلَى فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ «٤»
فَفِي السِّيرَةِ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ حِينَ نَامَ عَلَى فِرَاشِهِ خَرَجَ يَنْثُرُ التُّرَابَ على رؤوس الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ وَهُوَ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَاتِ مِنْ يس، ولم يبق أحد مِنْهُمْ إِلَّا وَضَعَ عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمَعْنَى جَعَلْنَا بَيْنَ رُؤْيَتِكَ وَبَيْنَ أَبْصَارِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كَمَا وَرَدَ فِي سَبَبِ النُّزُولِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَالزَّجَّاجُ وَجَمَاعَةٌ مَا معناه: جَعَلْنا بَيْنَكَ فَهْمِ مَا تَقْرَأُ وَبَيْنَهُمْ حِجاباً فَلَا يُقِرُّونَ بِنُبُوَّتِكَ وَلَا بِالْبَعْثِ، فَالْمَعْنَى قَرِيبٌ مِنَ الْآيَةِ بَعْدَهَا، وَالظَّاهِرُ إِقْرَارُ مَسْتُوراً عَلَى مَوْضُوعِهِ مِنْ كَوْنِهِ اسْمَ مَفْعُولٍ أَيْ مَسْتُوراً عَنْ أَعْيُنِ الْكُفَّارِ فَلَا يَرَوْنَهُ، أَوْ مَسْتُوراً بِهِ الرَّسُولُ عَنْ رُؤْيَتِهِمْ. وَنُسِبَ السَّتْرُ إِلَيْهِ لَمَّا كَانَ مَسْتُورًا بِهِ قَالَهُ الْمُبَرِّدُ، وَيُؤَوَّلُ مَعْنَاهُ إِلَى أَنَّهُ ذُو سَتْرٍ كَمَا جَاءَ فِي صِيغَةِ لَابِنٍ وَتَامِرٍ أَيْ ذُو لَبَنٍ وَذُو تَمْرٍ. وَقَالُوا: رَجُلٌ مَرْطُوبٌ أَيْ ذُو رَطْبَةٍ وَلَا يُقَالُ رَطَّبْتُهُ، وَمَكَانٌ مَهُولٌ أَيْ ذُو هَوْلٍ، وَجَارِيَةٌ مَغْنُوجَةٌ وَلَا يُقَالُ هُلْتُ الْمَكَانَ وَلَا غَنِجَتِ الْجَارِيَةُ. وَقَالَ الْأَخْفَشُ وَجَمَاعَةٌ مَسْتُوراً سَاتِرًا وَاسْمُ الْفَاعِلِ قَدْ يَجِيءُ بِلَفْظِ المفعول كما قالوا مشؤوم وَمَيْمُونٌ يُرِيدُونَ شَائِمٌ وَيَامِنٌ. وَقِيلَ: مَسْتُورٌ وَصْفٌ عَلَى جِهَةِ الْمُبَالَغَةِ كَمَا قَالُوا شِعْرٌ شَاعِرٌ، وَرُدَّ بِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ إِنَّمَا تَكُونُ بِاسْمِ الْفَاعِلِ وَمِنْ لَفْظِ الْأَوَّلِ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُ فِي أَوَائِلِ الْأَنْعَامِ وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.
قِيلَ: دَخَلَ مَلَأُ قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ يَزُورُونَهُ، فَدَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَرَأَ وَمَرَّ بِالتَّوْحِيدِ، ثُمَّ قَالَ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ وَتَدِينُ لكم العجم» فولوا وانفروا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَةَ فِي حَالِ الْفَارِّينَ عِنْدَ وَقْتِ قِرَاءَتِهِ وَمُرُورِهِ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى إِذَا جَاءَتْ مَوَاضِعُ التَّوْحِيدِ فَرَّ الْكُفَّارُ إِنْكَارًا لَهُ وَاسْتِبْشَاعًا لِرَفْضِ آلِهَتِهِمْ وَاطِّرَاحِهَا.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٥٧.
(٣) سورة الجاثية: ٤٥/ ٢٣.
(٤) سورة يس: ٣٦/ ٩.
ونُفُوراً حَالٌ جَمْعُ نَافِرٍ كَقَاعِدٍ وَقُعُودٍ، أَوْ مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ الصَّدْرِ لِأَنَّ مَعْنَى وَلَّوْا نَفَرُوا، وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي وَلَّوْا عَلَى الْكُفَّارِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُمْ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: هُوَ ضَمِيرُ الشَّيَاطِينِ لِأَنَّهُمْ يَفِرُّونَ مِنَ الْقُرْآنِ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى وَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهُمْ ذِكْرٌ. وَقَالَ أَبُو الْحَوْرَاءِ أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: لَيْسَ شَيْءٌ أَطْرَدَ لِلشَّيْطَانِ مِنَ الْقَلْبِ مِنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَلَا وَإِذا ذَكَرْتَ الْآيَةَ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ: هُوَ الْبَسْمَلَةُ
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أَيْ بِالِاسْتِخْفَافِ الَّذِي يَسْتَمِعُونَ بِهِ وَالْهُزْءِ بِكَ وَاللَّغْوِ،
كَانَ إِذَا قَرَأَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَامَ رَجُلَانِ مِنْ بَنِي عَبْدِ اللَّهِ عَنْ يَمِينِهِ وَرَجُلَانِ مِنْهُمْ عَنْ يَسَارِهِ، فَيُصَفِّقُونَ وَيُصَفِّرُونَ ويخلطون عليه بالأشعار.
وبما مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ، وَمَا كَانَ فِي مَعْنَى الْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَإِنْ كَانَ مُتَعَدِّيًا لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ فِي بَابِ أَفْعَلَ فِي التَّعَجُّبِ، وَفِي أَفْعَلِ التَّفْضِيلِ تَعَدَّى بِالْبَاءِ تَقُولُ: مَا أَعْلَمَ زَيْدًا بِكَذَا وَمَا أَجْهَلَهُ بِكَذَا، وَهُوَ أَعْلَمُ بِكَذَا وَأَجْهَلُ بِكَذَا بِخِلَافِ سَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُتَعَدِّيَةِ لِمَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّهُ يَتَعَدَّى فِي أَفْعَلَ فِي التَّعَجُّبِ وَأَفْعَلَ التَّفْضِيلِ بِاللَّامِ، تَقُولُ: مَا أَضْرِبَ زَيْدًا لِعَمْرٍو وَزَيْدٌ أَضْرَبُ لِعَمْرٍو مِنْ بَكْرٍ. وَبِهِ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ كَمَا تَقُولُ: يَسْتَمِعُونَ بِالْهُزْءِ أَيْ هَازِئِينَ وإِذْ يَسْتَمِعُونَ نَصْبٍ بِأَعْلَمَ أَيْ أَعْلَمُ وَقْتَ اسْتِمَاعِهِمْ بِمَا بِهِ يَسْتَمِعُونَ وَبِمَا بِهِ يَتَنَاجَوْنَ، إِذْ هُمْ ذَوُو نَجْوَى إِذْ يَقُولُ بَدَلٌ مِنْ إِذْ هُمْ انْتَهَى.
مَا أَفْهَمُ مَا تَقُولُ، وَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: أَرَى بَعْضَهُ حَقًّا، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: مَجْنُونٌ، وَقَالَ أَبُو لَهَبٍ: كَاهِنٌ، وَقَالَ حُوَيْطِبٌ: شَاعِرٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، وَبَعْضُهُمْ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ،
وَرُوِيَ أَنَّ تَنَاجِيَهُمْ كَانَ عِنْدَ عُتْبَةَ دَعَا أَشْرَافَ قُرَيْشٍ إِلَى طَعَامٍ فَدَخَلَ عَلَيْهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَرَأَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ وَدَعَاهُمْ إِلَى اللَّهِ. فَتَنَاجَوْا يَقُولُونَ سَاحِرٌ مَجْنُونٌ
، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَسْحُوراً مِنَ السِّحْرِ أَيْ خَبِلَ عَقْلَهُ السِّحْرُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَخْدُوعًا نَحْوُ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ «١» أَيْ تُخْدَعُونَ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: مَسْحُوراً مَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ سَحْرًا أَيْ رِئَةً فَهُوَ لَا يَسْتَغْنِي عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهُوَ مِثْلُكُمْ وَلَيْسَ بِمَلَكٍ، وَتَقُولُ الْعَرَبُ لِلْجَبَانِ: قَدِ انْتَفَخَ سَحْرُهُ وَلِكُلِّ مَنْ أَكَلَ أَوْ شَرِبَ مِنْ آدَمِيٍّ وَغَيْرِهِ مَسْحُورٌ. قال:
أَرَانَا مَوْضِعِينَ لِأَمْرِ غَيْبٍ | ونسحر بالطعام والشراب |
فَإِنْ تَسْأَلِينَا فِيمَ نَحْنُ فَإِنَّنَا | عَصَافِيرُ مِنْ هَذَا الْأَنَامِ الْمُسَحَّرِ |
وَحَكَى الطَّبَرِيُّ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وأصحابه وَقالُوا: أَإِذا كُنَّا هَذَا اسْتِفْهَامُ تَعَجُّبٍ وَإِنْكَارٍ وَاسْتِبْعَادٍ لَمَّا ضَرَبُوا لَهُ الْأَمْثَالَ وَقَالُوا عَنْهُ إِنَّهُ مَسْحُورٌ ذَكَرُوا مَا اسْتَدَلُّوا بِهِ عَلَى زَعْمِهِمْ عَلَى اتِّصَافِهِ بِمَا نَسَبُوا إِلَيْهِ، وَاسْتَبْعَدُوا أَنَّهُ بَعْدَ مَا يَصِيرُ الْإِنْسَانُ رُفَاتًا يُحْيِيهِ اللَّهُ وَيُعِيدُهُ، وَقَدْ رُدَّ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الَّذِي فَطَرَهُمْ بَعْدَ الْعَدَمِ الصِّرْفِ عَلَى مَا يَأْتِي شَرْحُهُ فِي الْآيَةِ بَعْدَ هَذَا، وَمَنْ قَرَأَ مِنَ الْقُرَّاءِ إِذَا وَإِنَّا مَعًا أَوْ إِحْدَاهُمَا عَلَى صُورَةِ الْخَبَرِ فَلَا يُرِيدُ الْخَبَرَ حَقِيقَةً لِأَنَّ ذَلِكَ كَانَ يَكُونُ تَصْدِيقًا بِالْبَعْثِ وَالنَّشْأَةِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنَّهُ حذف همزة الاستفهام لدلالة الْمَعْنَى. وَفِي الْكَلَامِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ إِذَا كُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا نُبْعَثُ أَوْ نُعَادُ، وَحُذِفَ لِدِلَالَةِ مَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ وَهَذَا الْمَحْذُوفُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وَالَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الِاسْتِفْهَامُ وَانْصَبَّ عَلَيْهِ عِنْدَ يُونُسَ وخلقا حَالٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ عَلَى الْمَفْعُولِ أي مخلوقا.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٠ الى ٦٩]
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
لَمَّا رَأَتْنِي أَنْغَضَتْ لِيَ الرَّأْسَا وَقَالَ الْآخَرُ:
أَنْغَضَ نَحْوِي رَأَسَهُ وَأَقْنَعَا | كَأَنَّهُ يَطْلُبُ شيئا أطمعا |
ظَعَائِنُ لَمْ يَسْكُنَّ أَكْنَافَ قَرْيَةٍ | بِسَيْفٍ وَلَمْ يَنْغُضْ بِهِنَّ الْقَنَاطِرُ |
نشكو إِلَيْكَ سَنَةً قَدْ أَجْحَفَتْ | جَهْدًا إِلَى جَهْدٍ بِنَا فأضعفت |
كما استغاث بشيء فَزُّ غَيْطَلَةٍ | خَافَ الْعُيُونَ فلم ينظرنه الْحَشَكُ |
الْحَاصِبُ الرِّيحُ تَرْمِي بِالْحَصْبَاءِ قَالَهُ الْفَرَّاءُ، وَالْحَصَبُ الرَّمْيُ بِالْحَصْبَاءِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصِّغَارُ.
وَقَالَ الْفَرَزْدَقُ:
مُسْتَقْبِلِينَ شَمَالَ الشَّامِ نَضْرِبُهُمْ | بِحَاصِبٍ كَنَدِيفِ الْقُطْنِ مَنْثُورِ |
وَإِنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ الْمَاءَ تَارَةً | فَيَبْدُو وَتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ |
إِنَّ الرِّيَاحَ إِذَا مَا أَعْصَفَتْ قَصَفَتْ | عِيدَانَ نَجْدٍ وَلَا يَعْبَأْنَ بِالرَّتَمِ |
قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَمَّا قالوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً «١» قِيلَ لَهُمْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً فَرَدَّ قَوْلُهُ كُونُوا عَلَى قَوْلِهِمْ كُنَّا كَأَنَّهُ قِيلَ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً وَلَا تَكُونُوا عِظَامًا فَإِنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى إِحْيَائِكُمْ. وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ تَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُجَدِّدَ اللَّهُ خَلْقَكُمْ وَيَرُدَّهُ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ وَإِلَى رُطُوبَةِ الحي وغضاضته بعد ما كُنْتُمْ عِظَامًا يَابِسَةً، مَعَ أَنَّ الْعِظَامَ بَعْضُ أَجْزَاءِ الْحَيِّ بَلْ هِيَ عَمُودُ خَلْقِهِ الَّذِي يُبْنَى عَلَيْهِ سَائِرُهُ، فَلَيْسَ بِبْدَعٍ أَنْ يَرُدَّهَا اللَّهُ بِقُدْرَتِهِ إِلَى حَالَتِهَا الْأُولَى، وَلَكِنْ لَوْ كُنْتُمْ أَبْعَدَ شَيْءٍ مِنَ الْحَيَاةِ وَرُطُوبَةِ الْحَيِّ وَمِنْ جِنْسِ مَا رُكِّبَ بِهِ الْبَشَرُ، وَهُوَ أَنْ تَكُونُوا حِجارَةً يَابِسَةً أَوْ حَدِيداً مَعَ أَنَّ طِبَاعَهَا الْقَسَاوَةُ وَالصَّلَابَةُ لَكَانَ قَادِرًا عَلَى أَنْ يَرُدَّكُمْ إِلَى حَالِ الْحَيَاةِ أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ عِنْدَكُمْ عَنْ قَبُولِ الْحَيَاةِ، وَيَعْظُمُ فِي زَعْمِكُمْ عَلَى الْخَالِقِ إِحْيَاؤُهُ فَإِنَّهُ يُحْيِيهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كُونُوا إِنِ اسْتَطَعْتُمْ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ الصَّعْبَةَ الْمُمْتَنِعَةَ التَّأَتِّي لَا بُدَّ مِنْ بَعْثِكُمْ. وَقَوْلُهُ كُونُوا هُوَ الَّذِي يُسَمِّيهِ الْمُتَكَلِّمُونَ التَّعْجِيزَ مِنْ أَنْوَاعِ أَفْعَلَ، وَبِهَذِهِ الْآيَةِ مَثَّلَ بَعْضُهُمْ وَفِي هَذَا عِنْدِي نَظَرٌ وَإِنَّمَا التَّعْجِيزُ حَيْثُ يَقْتَضِي بِالْأَمْرِ فِعْلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ المخاطب كقوله تعالى: فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ «٢» وَنَحْوِهِ. وَأَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَمَعْنَاهَا كُونُوا بِالتَّوَهُّمِ وَالتَّقْدِيرِ كَذَا وَكَذَا الَّذِي فَطَرَكُمْ كَذَلِكَ هُوَ يُعِيدُكُمُ انْتَهَى. وَقَالَ مُجَاهِدٌ:
الْمَعْنَى كُونُوا مَا شِئْتُمْ فَسَتُعَادُونَ. وَقَالَ النَّحَّاسُ: هَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكُونُوا حِجَارَةً وَإِنَّمَا الْمَعْنَى أَنَّهُمْ قَدْ أَقَرُّوا بِخَالِقِهِمْ وَأَنْكَرُوا الْبَعْثَ فَقِيلَ لَهُمْ اسْتَشْعِرُوا أَنْ تَكُونُوا مَا شِئْتُمْ، فَلَوْ كُنْتُمْ حِجارَةً أَوْ حَدِيداً لَبُعِثْتُمْ كَمَا خُلِقْتُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ انْتَهَى.
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ صَلَابَتُهُ وَزِيَادَتُهُ عَلَى قُوَّةِ الْحَدِيدِ وَصَلَابَتِهِ، وَلَمْ
(٢) سورة آل عمران: ٣/ ١٦٨.
وَهَذَا التَّفْسِيرُ لَا يَتِمُّ إِلَّا إِذَا أُرِيدَ الْمُبَالَغَةُ لَا نَفْسُ الْأَمْرِ، لِأَنَّ الْبَدَنَ جِسْمٌ وَالْمَوْتَ عَرَضٌ وَلَا يَنْقَلِبُ الْجِسْمُ عَرَضًا وَلَوْ فُرِضَ انْقِلَابُهُ عَرَضًا لَمْ يَكُنْ لِيَقْبَلَ الْحَيَاةَ لِأَجْلِ الضِّدِّيَّةِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: الذي يكبر السموات وَالْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُمْ لَوْ كَانُوا أَصْلَبَ شَيْءٍ وَأَبْعَدَهُ مِنْ حُلُولِ الْحَيَاةِ بِهِ كَانَ خَلْقُ الْحَيَاةِ فِيهِ مُمْكِنًا. قَالُوا: مَنِ الَّذِي هُوَ قَادِرٌ عَلَى صَيْرُورَةِ الْحَيَاةِ فِينَا وَإِعَادَتِنَا فَنَبَّهَهُمْ عَلَى مَا يَقْتَضِي الْإِعَادَةَ، وَهُوَ أَنَّ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَاخْتَرَعَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ هُوَ الَّذِي يُعِيدُكُمْ والَّذِي مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ التَّقْدِيرُ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ يُعِيدُكُمْ فَيُطَابِقُ الْجَوَابُ السُّؤَالَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا أَيْ يُعِيدُكُمُ الَّذِي فَطَرَكُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، أَيْ مُعِيدُكُمُ الَّذِي فطركم وأَوَّلَ مَرَّةٍ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ فَطَرَكُمْ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ.
فَسَيُنْغِضُونَ أَيْ يُحَرِّكُونَهَا عَلَى سَبِيلِ التَّكْذِيبِ وَالِاسْتِبْعَادِ، وَيَقُولُونَ: مَتَى هُوَ؟
أَيْ مَتَى الْعَوْدُ؟ وَلَمْ يَقُولُوا ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيمِ لِلْعَوْدِ. وَلَكِنْ حَيْدَةً وَانْتِقَالًا لِمَا لَا يُسْأَلُ عَنْهُ لِأَنَّ مَا يَثْبُتُ إِمْكَانُهُ بِالدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لَا يُسْأَلُ عَنْ تَعْيِينِ وُقُوعِهِ، وَلَكِنْ أَجَابَهُمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ بِقُرْبِ وُقُوعِهِ لَا بِتَعْيِينِ زَمَانِهِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهِ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ فِي عَسى إِضْمَارٌ أَيْ عَسى هُوَ أَيِ الْعَوْدُ، وَاحْتُمِلَ أَنْ يَكُونَ مَرْفُوعُهَا أَنْ يَكُونَ فَتَكُونَ تَامَّةً. وقَرِيباً يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ خَبَرَ كَانَ عَلَى أَنَّهُ يَكُونُ الْعَوْدُ مُتَّصِفًا بِالْقُرْبِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا أَيْ زَمَانًا قَرِيبًا وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ يَوْمَ نَدْعُوكُمْ بَدَلًا مِنْ قَرِيبًا.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ظَرْفٌ لِيَكُونَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِاسْمِ كَانَ وَإِنْ كَانَ ضَمِيرَ الْمَصْدَرِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعْمَلُ انْتَهَى. أَمَّا كَوْنُهُ ظَرْفًا لِيَكُونَ فَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ عَمَلِ كَانَ النَّاقِصَةِ فِي الظَّرْفِ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَأَمَّا قَوْلُهُ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَعْمَلُ فَهُوَ مَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ، وَأَمَّا الْكُوفِيُّونَ فَيُجِيزُونَ أَنْ يَعْمَلَ نَحْوِ مُرُورِي بِزَيْدٍ حَسَنٌ وهو بعمر وقبيح، يُعَلِّقُونَ بِعَمْرٍو بِلَفْظِ هُوَ أَيْ وَمُرُورِي بِعَمْرٍو قَبِيحٌ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّعَاءَ حَقِيقَةٌ أَيْ يَدْعُوكُمْ بِالنِّدَاءِ الَّذِي يُسْمِعُكُمْ وَهُوَ النَّفْخَةُ الْأَخِيرَةُ كما قال يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «١»
وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فَأَحْسِنُوا أَسْمَاءَكُمْ».
وَمَعْنَى فَتَسْتَجِيبُونَ تُوَافِقُونَ الدَّاعِيَ فِيمَا دَعَاكُمْ إِلَيْهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الدُّعَاءُ وَالِاسْتِجَابَةُ كِلَاهُمَا مَجَازٌ، وَالْمَعْنَى يَوْمَ يَبْعَثُكُمْ فَتَنْبَعِثُونَ مُطَاوِعِينَ مُنْقَادِينَ لَا تَمْتَنِعُونَ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكُفَّارِ إِذِ الْكَلَامُ قَبْلَ ذَلِكَ مَعَهُمْ فَالضَّمِيرُ لَهُمْ وبِحَمْدِهِ حَالٌ مِنْهُمْ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَهِيَ مُبَالَغَةٌ فِي انْقِيَادِهِمْ لِلْبَعْثِ كَقَوْلِكَ لِمَنْ تَأْمُرُهُ بِرُكُوبِ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ فَيَتَأَبَّى وَيَمْتَنِعُ سَتَرْكَبُهُ وَأَنْتَ حَامِدٌ شَاكِرٌ، يَعْنِي أَنَّكَ تُحْمَلُ عَلَيْهِ وَتُقْسَرُ قَسْرًا حَتَّى أَنَّكَ تَلِينُ لِينَ المسمح الرَّاغِبِ فِيهِ الْحَامِدِ عَلَيْهِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ينفضون التراب عن رؤوسهم وَيَقُولُونَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِكَ انْتَهَى.
وَذَلِكَ لِمَا ظَهَرَ لَهُمْ مِنْ قُدْرَتِهِ.
وَقِيلَ: مَعْنَى بِحَمْدِهِ أَنَّ الرَّسُولَ قَائِلٌ ذَلِكَ لَا أَنَّهُمْ يَكُونُ بِحَمْدِهِ حَالًا مِنْهُمْ فَكَأَنَّهُ قَالَ: عَسَى أَنْ تَكُونَ السَّاعَةُ قَرِيبَةً يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَقُومُونَ بِخِلَافِ مَا تَعْتَقِدُونَ الْآنَ، وَذَلِكَ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى صِدْقِ خَبَرِي كَمَا تَقُولُ لِرَجُلٍ خَصَمْتَهُ أَوْ حَاوَرْتَهُ فِي عِلْمٍ: قَدْ أَخْطَأْتَ بِحَمْدِ اللَّهِ فَبِحَمْدِ اللَّهِ لَيْسَ حَالًا مِنْ فَاعِلِ أَخْطَأْتَ، بَلِ الْمَعْنَى أَخْطَأْتَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَهَذَا مَعْنًى مُتَكَلَّفٌ نَحَا إِلَيْهِ الطَّبَرِيُّ وَكَانَ بِحَمْدِهِ يَكُونُ اعْتِرَاضًا إِذْ مَعْنَاهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
فَإِنِّي بِحَمْدِ اللَّهِ لَا ثَوْبَ فَاجِرٍ | لَبِسْتُ وَلَا مِنْ غَدْرَةٍ أَتَقَنَّعُ |
بَيَّنَ النَّفْخَتَيْنِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُزَالُ عَنْهُمُ الْعَذَابِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا فَهَذَا عائد إلى لَبِثْتُمْ فِيمَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَقْرِيبُ وَقْتِ الْبَعْثِ فَكَأَنَّكَ بِالدُّنْيَا وَلَمْ تَكُنْ وَبِالْآخِرَةِ لَمْ تَزَلْ فَهَذَا يَرْجِعُ إِلَى اسْتِقْلَالِ مُدَّةِ اللُّبْثِ فِي الدُّنْيَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَتَظُنُّونَ وَتَرَوْنَ الْهَوْلَ فَعِنْدَهُ تَسْتَقْصِرُونَ مُدَّةَ لُبْثِكُمْ فِي الدُّنْيَا وَتَحْسَبُونَهَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، وَعَنْ قَتَادَةَ تَحَاقَرَتِ الدُّنْيَا فِي أَنْفُسِهِمْ حِينَ عَايَنُوا الْآخِرَةَ
ويَوْمَ يَدْعُوكُمْ خِطَابٌ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ لَا مَعَ الْكَافِرِينَ لِأَنَّهُمْ يَسْتَجِيبُونَ لِلَّهِ بِحَمْدِهِ يَحْمَدُونَهُ عَلَى إِحْسَانِهِ إِلَيْهِمْ فَلَا يَلِيقُ هَذَا إِلَّا بِهِمْ. وَقِيلَ: يَحْمَدُهُ الْمُؤْمِنُ اخْتِيَارًا وَالْكَافِرُ اضْطِرَارًا، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِلْكَافِرِ وَالْمُؤْمِنِ وَهُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وَإِذَا كَانَ الْخِطَابُ لِلْكُفَّارِ وَهُوَ الظَّاهِرُ فَيُحْمَلُ أَنْ يَكُونَ الظَّنُّ عَلَى بَابِهِ فَيَكُونُ لَمَّا رَجَعُوا إِلَى حَالَةِ الْحَيَاةِ وَقَعَ لَهُمُ الظَّنُّ أَنَّهُمْ لَمْ يَنْفَصِلُوا عَنِ الدُّنْيَا إِلَّا فِي زَمَنٍ قَلِيلٍ إِذْ كَانُوا فِي ظَنِّهِمْ نَائِمِينَ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْيَقِينِ مِنْ حَيْثُ عَلِمُوا أَنَّ ذَلِكَ مُنْقَضٍ مُتَصَرِّمٌ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ وَتَظُنُّونَ مَعْطُوفٌ عَلَى تَسْتَجِيبُونَ وَقَالَهُ الْحَوْفِيُّ. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيْ وَأَنْتُمْ تَظُنُّونَ وَالْجُمْلَةُ حَالٌ انْتَهَى. وَإِنْ هُنَا نَافِيَةٌ، وَتَظُنُّونَ مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ، وَقَلَّمَا ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ فِي أَدَوَاتِ التَّعْلِيقِ إِنِ النَّافِيَةَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ انْتِصَابُ قَلِيلًا عَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ أَيْ إلّا زمن قَلِيلًا. كَقَوْلِهِ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ «١» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أَيْ لُبْثًا قَلِيلًا وَدَلَالَةُ الْفِعْلِ عَلَى مصدره دلالة قوية.
قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً.
قِيلَ: سَبَبُ نُزُولِهَا أَنَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَتَمَهُ بَعْضُ الْكَفَرَةِ، فَسَبَّهُ عُمَرُ وَهَمَّ بِقَتْلِهِ فَكَادَ يُثِيرُ فِتْنَةً فَنَزَلَتِ الْآيَةُ وَهِيَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وَارْتِبَاطُهَا بِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ لَمَّا تَقَدَّمَ مَا نَسَبَ الْكُفَّارُ لِلَّهِ تَعَالَى مِنَ الْوَلَدِ، وَنُفُورُهُمْ عَنْ كِتَابِ اللَّهِ إِذَا سَمِعُوهُ، وَإِيذَاءُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنِسْبَتُهُ إِلَى أَنَّهُ مَسْحُورٌ، وَإِنْكَارُ الْبَعْثِ كَانَ ذَلِكَ مَدْعَاةً لِإِيذَاءِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَجْلَبَةً لِبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ إِيَّاهُمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِمَا عَامَلُوهُمْ، فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يُوصِيَ الْمُؤْمِنِينَ
وَقِيلَ: عِبَادِي هنا المشركون إذا الْمَقْصُودُ هُنَا الدُّعَاءُ إِلَى الْإِسْلَامِ، فَخُوطِبُوا بِالْخِطَابِ الْحَسَنِ لِيَكُونَ ذَلِكَ سَبَبًا إِلَى قَبُولِ الدِّينِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: قُلْ لِلَّذِينَ أَقَرُّوا أَنَّهُمْ عِبَادٌ لِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ تَعَالَى وَتَنْزِيهُهُ عَنِ الْوَلَدِ وَاتِّخَاذِ الْمَلَائِكَةِ بَنَاتٍ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ نَزْغِ الشَّيْطَانِ وَوَسْوَسَتِهِ وَتَحْسِينِهِ. وَقِيلَ: عِبَادِي شَامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ عَلَى مَا يَأْتِي تَفْسِيرُ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَالَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ لَفْظَةَ عِبَادِي مُضَافَةٌ إِلَيْهِ تَعَالَى كَثُرَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الْمُؤْمِنِينَ فِي الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ «١» فَادْخُلِي فِي عِبادِي عَيْناً «٢» يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «٣».
وقُلْ خِطَابٌ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ أَمْرٌ، وَمَعْمُولُ الْقَوْلِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وَانْجَزَمَ يَقُولُوا عَلَى أَنَّهُ جَوَابٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ قُلْ قَالَهُ الْأَخْفَشُ، وَهُوَ صَحِيحُ الْمَعْنَى عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَكُونَ عِبَادِي يُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنُونَ لِأَنَّهُمْ لِمُسَارَعَتِهِمْ لِامْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى بِنَفْسِ مَا يَقُولُ لَهُمْ ذَلِكَ قَالُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ. وَعَنْ سِيبَوَيْهِ أَنَّهُ انْجَزَمَ عَلَى جَوَابٍ لِشَرْطٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ أَنْ يَقُلْ لَهُمْ يَقُولُوا فَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ حَذْفُ مَعْمُولِ الْقَوْلِ وَحَذْفُ الشَّرْطِ الَّذِي يَقُولُوا جَوَابُهُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: انْجَزَمَ جَوَابًا لِلْأَمْرِ الَّذِي هُوَ مَعْمُولُ قُلْ أَيْ قُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا. وَقِيلَ مَعْمُولُ قُلْ مَذْكُورٌ لَا مَحْذُوفٌ وَهُوَ يَقُولُوا عَلَى تَقْدِيرِ لَامِ الْأَمْرِ وَهُوَ مَجْزُومٌ بِهَا قَالَهُ الزَّجَّاجُ. وَقِيلَ: يَقُولُوا مَبْنِيٌّ وَهُوَ مُضَارِعٌ حَلَّ مَحَلَّ الْمَبْنِيِّ الَّذِي هُوَ فِعْلُ الْأَمْرِ فَبُنِيَ، وَالْمَعْنَى قُلْ لِعِبادِي قُولُوا قَالَهُ الْمَازِنِيُّ، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ جَرَتْ فِي قَوْلِهِ قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ «٤» وَتَرْجِيحُ مَا يَنْبَغِي أَنْ يُرَجَّحَ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
(٢) سورة الفجر: ٨٩/ ٢٩.
(٣) سورة الإنسان: ٧٦/ ٦.
(٤) سورة إبراهيم: ١٤/ ٣١.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ يَعْنِي يَقُولُ لَهُمْ هَذِهِ الْكَلِمَةَ وَنَحْوَهَا وَلَا تَقُولُوا لَهُمْ أَنَّكُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ وَأَنَّكُمْ مُعَذَّبُونَ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِمَّا يَغِيظُهُمْ وَيُهَيِّجُهُمْ عَلَى الشَّرِّ. وَقَوْلُهُ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ اعْتِرَاضٌ بِمَعْنَى يُلْقِي بَيْنَهُمُ الْفَسَادَ وَيُغْرِي بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ لِيَقَعَ بَيْنَهُمُ الْمُشَارَّةُ وَالْمُشَاقَّةُ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ: إِذَا أَرَدْتُمُ الْحُجَّةَ عَلَى الْمُخَالِفِ فَاذْكُرُوهَا بِالطَّرِيقِ الْأَحْسَنِ وَهُوَ أَنْ لَا يُخْلَطَ بِالسَّبِّ كَقَوْلِهِ ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «١» وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «٢» وَخَلْطُ الْحُجَّةِ بِالسَّبِّ سَبَبٌ لِلْمُقَابَلَةِ بِمِثْلِهِ، وَتَنْفِيرٌ عَنْ حُصُولِ الْمَقْصُودِ مِنْ إِظْهَارِ الْحُجَّةِ وَتَأْثِيرِهَا، ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى هَذَا الطَّرِيقِ بِقَوْلِهِ: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ جَامِعًا لِلْفَرِيقَيْنِ أَيْ مَتَى امْتَزَجَتِ الْحُجَّةُ بِالْإِيذَاءِ كَانَتِ الْفِتْنَةُ انْتَهَى. وَقَرَأَ طَلْحَةُ يَنْزَغُ بِكَسْرِ الزَّايِ. قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَعَلَّهَا لُغَةٌ وَالْقِرَاءَةُ بِالْفَتْحِ. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: هِيَ لُغَةٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هُمَا لُغَتَانِ نَحْوُ يَعْرِشُونَ وَيَعْرُشُونَ انْتَهَى. وَلَوْ مثل بينطح وَيَنْطِحُ كَانَ أَنْسَبَ وَبَيَّنَ تَعَالَى سَبَبَ النَّزْغِ وَهِيَ الْعَدَاوَةُ الْقَائِمَةُ لِأَبِيهِمْ آدَمَ قَبْلَهُمْ وَقَوْلُهُ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ «٣» الْآيَةَ وَغَيْرُهَا مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَلُّطِهِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَابْتِغَاءِ الْغَوَائِلِ الْمُهْلِكَةِ لَهُ. وَالْخِطَابُ بِقَوْلِهِ رَبُّكُمْ إِنْ كَانَ لِلْمُؤْمِنِينَ فَالرَّحْمَةُ الْإِنْجَاءُ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ وَأَذَاهُمْ وَالتَّعْذِيبُ تَسْلِيطُهُمْ عَلَيْهِمْ.
وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ أَيْ عَلَى الْكُفَّارِ حَافِظًا وَكَفِيلًا فَاشْتَغِلْ أَنْتَ بِالدَّعْوَةِ وَإِنَّمَا هِدَايَتُهُمْ إِلَى اللَّهِ. وَقِيلَ: يَرْحَمْكُمْ بِالْهِدَايَةِ إِلَى التَّوْفِيقِ وَالْأَعْمَالِ الصالحة، وإن شاء
(٢) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٤٦.
(٣) سورة الأعراف: ٧/ ١٧.
وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: أَوْ دَخَلَتْ هُنَا لِسَعَةِ الْأَمْرَيْنِ عِنْدَ اللَّهِ ولا يرد عَنْهُمَا، فَكَانَتْ مُلْحَقَةً بِأَوِ الْمُبِيحَةِ فِي قَوْلِهِمْ جَالِسِ الْحَسَنَ أَوِ ابْنَ سِيرِينَ يَعْنُونَ قَدْ وَسَّعْنَا لَكَ الْأَمْرَ. وَقَالَ الْكَرْمَانِيُّ: أَوْ لِلْإِضْرَابِ وَلِهَذَا كَرَّرَ إِنْ وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ انْتَقَلَ مِنَ الْخُصُوصِ إِلَى الْعُمُومِ فَقَالَ مُخَاطِبًا لِرَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِيُبَيِّنَ أَنَّ عِلْمَهُ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْكُمْ بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ مَنْ في السموات وَالْأَرْضِ، بِأَحْوَالِهِمْ وَمَقَادِيرِهِمْ وَمَا يَسْتَأْهِلُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، وبِمَنْ مُتَعَلِّقٌ بِأَعْلَمَ كَمَا تَعَلَّقَ بِكُمْ قَبْلَهُ بِأَعْلَمَ وَلَا يَدُلُّ تَعَلُّقُهُ بِهِ عَلَى اخْتِصَاصِ أَعْلَمِيَّتِهِ تَعَالَى بِمَا تَعَلَّقَ بِهِ كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ أَعْلَمُ بِالنَّحْوِ لَا يَدُلُّ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ أَعْلَمَ بِغَيْرِ النَّحْوِ مِنَ الْعُلُومِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: الْبَاءُ تَتَعَلَّقُ بِفِعْلٍ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ بِمَنْ قَالَ لِأَنَّهُ لَوْ عَلَّقَهَا بِأَعْلَمَ لَاقْتَضَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَعْلَمَ بِغَيْرِ ذَلِكَ وَهَذَا لَا يَلْزَمُ، وأَيْضًا فَإِنَّ عَلِمَ لَا يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ إِنَّمَا يَتَعَدَّى لِوَاحِدٍ بِنَفْسِهِ لَا بِوَاسِطَةِ حَرْفِ الْجَرِّ أَوْ لَا يُبَيِّنُ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ. وَلَمَّا كَانَ الْكُفَّارُ قَدِ اسْتَبْعَدُوا تَنْبِئَةَ الْبَشَرِ إِذْ فِيهِ تَفْضِيلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَخْبَرَ تَعَالَى بِتَفْضِيلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى بَعْضٍ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَبْعَدُ تَفْضِيلُ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ إِذْ وَقَعَ التَّفْضِيلُ فِي هَذَا الْجِنْسِ الْمُفَضَّلِ عَلَى النَّاسِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِمَا خَصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الْمَزَايَا فَهُوَ يُفَضِّلُ مَنْ شَاءَ مِنْهُمْ عَلَى مَنْ شَاءَ إِذْ هُوَ الْحَكِيمُ فَلَا يَصْدُرُ شَيْءٌ إِلَّا عَنْ حِكْمَتِهِ. وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ لَا يُسْتَنْكَرُ تَفْضِيلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَخُصَّ داوُدَ بِالذِّكْرِ هُنَا لِأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ هُنَا: فَإِنْ قُلْتَ: هَلَّا عُرِّفَ الزَّبُورُ كَمَا عُرِّفَ فِي وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ قُلْتُ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الزَّبُورُ وَزَبُورٌ كَالْعَبَّاسِ وَعَبَّاسٍ وَالْفَضْلِ وَفَضْلٍ، وَأَنْ يُرِيدَ وَآتَيْنا داوُدَ بَعْضَ الزَّبُورِ وَهِيَ الْكُتُبُ وَأَنْ يُرِيدَ مَا ذُكِرَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وسلم من الزَّبُورِ، فَسُمِّيَ ذَلِكَ زَبُوراً لِأَنَّهُ بَعْضُ الزَّبُورِ كَمَا سُمِّيَ بَعْضُ الْقُرْآنِ قُرْآنًا.
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَزَلَتْ فِي عَبَدَةِ الشَّيَاطِينِ وَهُمْ خُزَاعَةُ أَسْلَمَتِ الشَّيَاطِينُ وَبَقَوْا يَعْبُدُونَهُمْ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ، وَعَنْهُ أَيْضًا وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ زَيْدٍ وَالْحَسَنِ فِي عَبَدَةِ الْمَلَائِكَةِ وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي عَبَدَةِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ وَعُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ وَأُمِّهِ انْتَهَى. وَيَكُونُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ عَامًّا غُلِّبَ فِيهِ مَنْ يَعْقِلُ عَلَى مَا لَا يَعْقِلُ، وَالْمَعْنَى ادْعُوهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَكْشِفُوا عَنْكُمُ. الضُّرَّ مِنْ مَرَضٍ أَوْ فَقْرٍ أَوْ عَذَابٍ وَلَا أَنْ يُحَوِّلُوهُ من واحد إلى وَاحِدٍ إِلَى آخَرَ أَوْ يُبَدِّلُوهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: يَدْعُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَابْنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ بِتَاءِ الْخِطَابِ، وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِيَاءِ الْغَيبَةِ مبنيا للمفعول، والمعنى
وَفِي قَوْلِهِ: زَعَمْتُمْ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى الَّذِينَ وَهُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ زَعَمْتُمُوهُمْ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وأُولئِكَ مبتدأ والَّذِينَ صفته، والخبر يَبْتَغُونَ. والْوَسِيلَةَ الْقُرْبُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالظَّاهِرُ أَنَّ أُولئِكَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَعْبُودِينَ وَالْوَاوُ فِي يَدْعُونَ لِلْعَابِدِينَ، وَالْعَائِدُ عَلَى الَّذِينَ مَنْصُوبٌ مَحْذُوفٌ أَيْ يَدْعُونَهُمْ.
وَقَالَ ابْنُ فَوْرَكٍ: الإشارة بقوله بأولئك إِلَى النَّبِيِّينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ، وَالضَّمِيرُ الْمَرْفُوعُ فِي يَدْعُونَ ويَبْتَغُونَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالْمَعْنَى يَدْعُونَ النَّاسَ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا إِنْ الَّذِينَ عَظُمَتْ مَنْزِلَتُهُمْ وَهُمُ الْأَنْبِيَاءُ لَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ إِلَّا إِلَيْهِ، فَهُمْ أَحَقُّ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِمْ فَلَا يَعْبُدُوا غَيْرَ اللَّهِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: إِلى رَبِّهِمُ بِضَمِيرِ الْجَمْعِ الْغَائِبِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ إِلَى رَبِّكَ بِالْكَافِ خِطَابًا لِلرَّسُولِ، وَاخْتَلَفُوا فِي إِعْرَابِ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَتَقْدِيرِهِ. فَقَالَ الْحَوْفِيُّ:
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ابْتِدَاءٌ وَخَبَرٌ، وَالْمَعْنَى يَنْظُرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فَيَتَوَسَّلُونَ بِهِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بَدَلًا مِنَ الْوَاوِ فِي يَبْتَغُونَ انْتَهَى. فَفِي الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَضْمَرَ فِعْلَ التَّعْلِيقِ، وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ لِأَنَّ نَظَرَ إِنْ كَانَ بمعنى الفكر تعدّى بفي، وَإِنْ كَانَتْ بَصَرِيَّةً تَعَدَّتْ بإلى، فَالْجُمْلَةُ الْمُعَلَّقُ عَنْهَا الْفِعْلُ عَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إِسْقَاطِ حَرْفِ الْجَرِّ كَقَوْلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً «١» وَفِي إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمُعَلَّقِ نَظَرٌ، وَالْوَجْهُ الثَّانِي قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قَالَ: وَتَكُونُ أَيْ مَوْصُولَةً، أَيْ يَبْتَغِي مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْهُمْ وَأَزْلَفُ الْوَسِيلَةَ إِلَى اللَّهِ فَكَيْفَ بِغَيْرِ الْأَقْرَبِ انْتَهَى. فَعَلَى الْوَجْهِ يَكُونُ أَقْرَبُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَاحْتُمِلَ أَيُّهُمْ أَنْ يَكُونَ مُعْرَبًا وَهُوَ الْوَجْهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا لِوُجُودِ مُسَوِّغِ الْبِنَاءِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَوْ ضُمِّنَ يَبْتَغُونَ الْوَسِيلَةَ مَعْنَى يَحْرِصُونَ فَكَأَنَّهُ قِيلَ يَحْرِصُونَ أَيُّهُمْ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ بِالطَّاعَةِ وَازْدِيَادِ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ، فَيَكُونُ قَدْ ضُمِّنَ يَبْتَغُونَ مَعْنَى فِعْلٍ قَلْبِيٍّ وَهُوَ يَحْرِصُونَ حَتَّى يَصِحَّ التَّعْلِيقُ،
وَقَالَ ابن عطية: وأَيُّهُمْ ابتدأ وأَقْرَبُ خبره، والتقدير نظرهم وددكهم أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَهَذَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، أَيْ يَتَبَارَوْنَ فِي طَلَبِ الْقُرْبِ. فَجَعَلَ الْمَحْذُوفَ نَظَرَهُمْ وَوَدَكَهُمْ وَهَذَا مُبْتَدَأٌ فَإِنْ جَعَلْتَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِنَظَرِهِمُ الْمَحْذُوفِ بَقِيَ الْمُبْتَدَأُ الَّذِي هُوَ نَظَرُهُمْ بِغَيْرِ خَبَرٍ مُحْتَاجٌ إِلَى إِضْمَارِ الْخَبَرِ، وَإِنْ جَعَلْتَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ هُوَ الْخَبَرَ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ نَظَرَهُمْ لَيْسَ هُوَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَإِنْ جَعَلْتَ التَّقْدِيرَ نَظَرَهُمْ فِي أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أَيْ كَائِنٌ أَوْ حَاصِلٌ فَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ لِأَنَّ كَائِنًا وَحَاصِلًا لَيْسَ مِمَّا تَعَلَّقَ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: أَيُّهُمْ مبتدأ وأَقْرَبُ خَبَرُهُ، وَهُوَ اسْتِفْهَامٌ فِي موضع نصب بيدعون، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَيُّهُمْ بِمَعْنَى الَّذِي وَهُوَ بَدَلٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي يَدْعُونَ وَالتَّقْدِيرُ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ انتهى. ففي الوجه الأولى عُلِّقَ يَدْعُونَ وَهُوَ لَيْسَ فِعْلًا قَلْبِيًّا، وَفِي الثَّانِي فُصِلَ بَيْنَ الصِّلَةِ وَمَعْمُولِهَا بِالْجُمْلَةِ الْحَالِيَّةِ، وَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ لِأَنَّهَا مَعْمُولَةٌ لِلصِّلَةِ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كَغَيْرِهِمْ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ، فَكَيْفَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آلِهَةٌ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً يَحْذَرُهُ كُلُّ أَحَدٍ.
وإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِنْ نَافِيَةٌ ومِنْ زَائِدَةٌ فِي الْمُبْتَدَأِ تَدُلُّ عَلَى اسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ إِلَّا خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُصُوصُ وَالتَّقْدِيرُ وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ظَالِمَةٍ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَمِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ انْتَهَى. وَالَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ عَلَى قَوْلِ مَنْ يُثْبِتُ لَهَا هَذَا الْمَعْنَى هُوَ أَنْ يَتَقَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ إِبْهَامٌ مَا فَتَأْتِي مِنْ لِبَيَانِ مَا أُرِيدَ بِذَلِكَ الَّذِي فِيهِ إِبْهَامُ مَا. كَقَوْلِهِ مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ «٢» وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ مُبْهَمٌ تَكُونُ مِنْ فِيهِ بَيَانًا لَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَهُ لِبَيَانِ الْجِنْسِ مِنَ النَّاسِخِ وَيَكُونُ هُوَ قَدْ قَالَ لِاسْتِغْرَاقِ الْجِنْسِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ الْخُصُوصُ انْتَهَى.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ جَمِيعَ الْقُرَى تَهْلِكُ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَإِهْلَاكُهَا تَخْرِيبُهَا وَفَنَاؤُهَا، وَيَتَضَمَّنُ تَخْرِيبُهَا هَلَاكَ أَهْلِهَا بِالِاسْتِئْصَالِ أَوْ شَيْئًا فشَيْئًا أَوْ تعذب والمعنى أَهْلِهَا بِالْقَتْلِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ. وَقِيلَ: الْهَلَاكُ لِلصَّالِحَةِ وَالْعَذَابُ لِلطَّالِحَةِ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: وَجَدْتُ في كتب
(٢) سورة فاطر: ٣٥/ ٢.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ سَأَلُوا أَنْ يَجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَبًا وَأَنْ يُنَحِّيَ عَنْهُمُ الْجِبَالَ فَيَزْرَعُونَ، اقْتَرَحُوا ذَلِكَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنْ شِئْتَ أَنْ أَفْعَلَ ذَلِكَ لَهُمْ فَإِنْ تَأَخَّرُوا عَاجَلْتُهُمْ بِالْعُقُوبَةِ، وَإِنْ شِئْتَ اسْتَأْنَيْتُ بِهِمْ عَسَى أَنْ أَجْتَبِيَ مِنْهُمْ مُؤْمِنِينَ فَقَالَ: «بَلْ تَسْتَأْنِي بِهِمْ يَا رَبِّ». فَنَزَلَتْ
، وَاسْتُعِيرَ الْمَنْعُ لِلتَّرْكِ أَيْ مَا تَرَكْنَا إِرْسَالَ الْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ إِلَّا لِتَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِهَا، وَتَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ لَيْسَ عِلَّةً فِي إِرْسَالِ الْآيَاتِ لِقُرَيْشٍ، فالمعنى إلّا ابتاعهم طَرِيقَةَ تَكْذِيبِ الْأَوَّلِينَ بِهَا، فَتَكْذِيبُ الْأَوَّلِينَ فَاعِلٌ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ فَإِذَا كَذَّبُوا بِهَا كَمَا كَذَّبَ الْأَوَّلُونَ عَاجَلْتُهُمْ بِعَذَابِ الِاسْتِئْصَالِ وَقَدِ اقْتَضَتِ الْحِكْمَةُ أَنْ لَا أَسْتَأْصِلَهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَالْمَعْنَى وَمَا صَرَفَنَا عَنْ إِرْسَالِ مَا تَقْتَرِحُونَهُ مِنَ الْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الَّذِينَ هُمْ أَمْثَالُهُمْ مِنَ الْمَطْبُوعِ عَلَى قُلُوبِهِمْ كَعَادٍ وَثَمُودَ، وَإِنَّهَا لَوْ أُرْسِلَتْ لَكَذَّبُوا بِهَا تَكْذِيبَ أُولَئِكَ وَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ كَمَا يَقُولُونَ فِي غَيْرِهَا، وَاسْتَوْجَبُوا الْعَذَابَ الْمُسْتَأْصِلَ وَقَدْ عَزَمْنَا أَنْ نُؤَخِّرَ أَمْرَ مَنْ بُعِثْتَ إِلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي اقْتَرَحَهَا الْأَوَّلُونَ ثُمَّ كَذَّبُوا بِهَا لَمَّا أُرْسِلَتْ إِلَيْهِمْ فَأُهْلِكُوا وَاحِدَةً وَهِيَ نَاقَةُ صَالِحٍ لِأَنَّ آثَارَ هَلَاكِهِمْ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ قَرِيبَةٌ مِنْ حُدُودِهِمْ يُبْصِرُهَا صَادِرُهُمْ وَوَارِدُهُمُ انْتَهَى.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ثَمُودَ مَمْنُوعَ الصَّرْفِ. وَقَالَ هَارُونُ: أَهْلُ الْكُوفَةِ يُنَوِّنُونَ ثَمُودَ فِي كُلِّ وَجْهٍ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَا تُنَوِّنُ الْعَامَّةُ وَالْعُلَمَاءُ بِالْقُرْآنِ ثَمُودَ فِي وَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَفِي أَرْبَعَةِ مَوَاطِنَ ألف مكتوبة ونحن نقرؤها بِغَيْرِ أَلِفٍ انْتَهَى. وَانْتُصِبَ مُبْصِرَةً عَلَى الْحَالِ وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ مُبْصِرَةً بِالرَّفْعِ عَلَى إِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ أَيْ هِيَ مُبْصِرَةٌ، وَأَضَافَ الْإِبْصَارَ إِلَيْهَا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ لَمَّا كَانَتْ يُبْصِرُهَا النَّاسُ، وَالتَّقْدِيرُ آيَةٌ مُبْصِرَةٌ. وَقَرَأَ قَوْمٌ: بِفَتْحِ الصَّادِ اسْمَ مَفْعُولٍ أَيْ يُبْصِرُهَا النَّاسُ وَيُشَاهِدُونَهَا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالصَّادِ مَفْعَلَةً مِنَ الْبَصَرِ أَيْ مَحَلَّ إِبْصَارٍ كَقَوْلِهِ:
وَالْكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لِنَفْسِ النعم
الْمَعْنَى أَنَّهُمْ جَحَدُوا كَوْنَهَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقِيلَ: جَعَلُوا التَّكْذِيبَ بِهَا مَوْضِعَ التَّصْدِيقِ وَهُوَ مَعْنَى الْقَوْلِ قَبْلَهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْآيَاتِ الْأَخِيرَةَ غَيْرُ الْآيَاتِ الْأُولَى، لُوحِظَ فِي ذَلِكَ وَصْفُ الِاقْتِرَاحِ وَفِي هَذِهِ وَصْفُ غَيْرِ الْمُقْتَرَحَةِ وَهِيَ آيَاتٌ مَعَهَا إِمْهَالٌ لَا مُعَاجَلَةٌ كَالْكُسُوفِ وَالرَّعْدِ وَالزَّلْزَلَةِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: وَالْمَوْتُ الذَّرِيعُ،
وَفِي حَدِيثِ الْكُسُوفِ: «فَافْزَعُوا إِلَى الصَّلَاةِ».
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَآيَاتُ اللَّهِ الْمُعْتَبَرُ بِهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامِ قِسْمٌ عَامٌّ فِي كُلِّ شَيْءٍ إذ حيث ما وَضَعْتَ نَظَرَكَ وَجَدْتَ آيَةً. وَهُنَا فِكْرَةُ الْعُلَمَاءِ، وَقِسْمٌ مُعْتَادٌ كَالرَّعْدِ وَالْكُسُوفِ وَنَحْوِهِ وَهُنَا فِكْرَةُ الْجَهَلَةِ فَقَطْ، وَقِسْمٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ وَقَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ النُّبُوَّةِ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ تَوَهُّمًا لِمَا سَلَفَ مِنْهُ انْتَهَى. وَهَذَا الْقِسْمُ الْأَخِيرُ قَالَ فِيهِ وَقَدِ انْقَضَى بِانْقِضَاءِ النُّبُوَّةِ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يُثْبِتُ هَذَا الْقِسْمَ لِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَيُسَمِّيهِ كَرَامَةً.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنْ أَرَادَ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ فَالْمَعْنَى لَا نُرْسِلُهَا إِلَّا تَخْوِيفاً مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ الْعَاجِلِ كَالطَّلِيعَةِ وَالْمُقَدِّمَةِ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَخَافُوا وَقَعَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا فَالْمَعْنَى وَما نُرْسِلُ مَا نُرْسِلُ مِنَ الْآيَاتِ كَآيَاتِ الْقُرْآنِ وَغَيْرِهَا إِلَّا تَخْوِيفاً وَإِنْذَارًا بِعَذَابِ الْآخِرَةِ. وَقِيلَ: الْآيَاتُ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ تَخْوِيفًا لِعِبَادِهِ سَمَاوِيَّةٌ كُسُوفُ الشَّمْسِ، وَخُسُوفُ الْقَمَرِ، وَالرَّعْدُ، وَالْبَرْقُ، وَالصَّوَاعِقُ، وَالرُّجُومُ وَمَا يَجْرِي مَجْرَى ذَلِكَ. وَأَرْضِيَّةٌ زَلَازِلُ، وَخَسْفٌ، وَمُحُولٌ وَنِيرَانٌ تَظْهَرُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ، وَغَوْرُ مَاءِ الْعُيُونِ وَزِيَادَتُهَا عَلَى الْحَدِّ حَتَّى تُغْرِقَ بَعْضَ الْأَرَضِينَ، وَلَا سَمَاوِيَّةٌ وَلَا أَرْضِيَّةٌ الرِّيَاحُ الْعَوَاصِفُ وَمَا يَحْدُثُ عَنْهَا مِنْ قَلْعِ الْأَشْجَارِ وَتَدْمِيرِ الدِّيَارِ وَمَا تَسُوقُهُ مِنَ السَّوَاقِي وَالرِّيَاحِ السَّمُومِ.
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً.
لَمَّا طَلَبُوا الرَّسُولَ بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ وَأَخْبَرَ اللَّهُ بِالْمَصْلَحَةِ فِي عَدَمِ الْمَجِيءِ بِهَا طَعَنَ الْكُفَّارُ فِيهِ، وَقَالُوا: لَوْ كَانَ رَسُولًا حَقًّا لَأَتَى بِالْآيَاتِ الْمُقْتَرَحَةِ فَبَيَّنَ اللَّهُ أَنَّهُ يَنْصُرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ وَأَنَّهُ أَحاطَ بِالنَّاسِ. فَقِيلَ بِعِلْمِهِ فَلَا يَخْرُجُ شَيْءٌ عَنْ عِلْمِهِ. وَقِيلَ: بِقُدْرَتِهِ فَقُدْرَتُهُ غَالِبَةٌ كُلَّ شَيْءٍ. وَقِيلَ: الْإِحَاطَةُ هُنَا الْإِهْلَاكُ كَقَوْلِهِ وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ «٢» وَالظَّاهِرُ أَنَّ النَّاسَ عام.
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٤٢. [.....]
فَأَقُولُ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الرُّؤْيَا.
فَقَالَ الْجُمْهُورُ هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ وَيَقَظَةٍ وَهِيَ مَا رَأَى فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ مِنَ الْعَجَائِبِ قَالَ الْكُفَّارُ: إِنَّ هَذَا لَعَجَبٌ نَخُبُّ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرَيْنِ إِقْبَالًا وَإِدْبَارًا وَيَقُولُ مُحَمَّدٌ جَاءَهُ مِنْ لَيْلَتِهِ وَانْصَرَفَ مِنْهُ، فَافْتَتَنَ بِهَذَا التَّلْبِيسِ قَوْمٌ مِنْ ضُعَفَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَارْتَدُّوا وَشَقَّ ذَلِكَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ
، فَعَلَى هَذَا يَحْسُنُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أَيْ فِي إِضْلَالِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ أَيْ فَلَا تَهْتَمَّ أَنْتَ بِكُفْرِ مَنْ كَفَرَ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ فَقَدْ قِيلَ لَكَ إِنَّ اللَّهَ مُحِيطٌ بِهِمْ مَالِكٌ لِأَمْرِهِمْ وَهُوَ جَعَلَ رُؤْيَاكَ هَذِهِ فِتْنَةً لِيَكْفُرَ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْكُفْرُ، وَسُمِّيَتِ الرُّؤْيَةُ فِي هَذَا التَّأْوِيلِ رُؤْيَا إِذْ هُمَا مَصْدَرَانِ مِنْ رَأَى. وَقَالَ النَّقَّاشُ: جَاءَ ذَلِكَ مِنِ اعْتِقَادِ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَنَامِيَّةٌ وَإِنْ كَانَتِ الْحَقِيقَةُ غَيْرَ ذَلِكَ انْتَهَى. وَعَنِ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرِهِمْ: هُوَ قِصَّةُ الْإِسْرَاءِ وَالْمِعْرَاجِ عِيَانًا آمَنَ بِهِ الْمُوَفَّقُونَ وَكَفَرَ بِهِ الْمَخْذُولُونَ، وَسَمَّاهُ رُؤْيَا لِوُقُوعِهِ فِي اللَّيْلِ وَسُرْعَةِ تَقَضِّيهِ كَأَنَّهُ مَنَامٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا هُوَ رُؤْيَاهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ مَكَّةَ فَعَجَّلَ فِي سَنَتِهِ الْحُدَيْبِيَةَ وَرُدَّ فَافْتَتَنَ النَّاسُ، وَهَذَا مُنَاسِبٌ لِصَدْرِ الْآيَةِ فَإِنَّ الْإِحَاطَةَ بِمَكَّةَ أَكْثَرُ مَا كَانَتْ. وَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ: هِيَ رُؤْيَاهُ بَنِي أُمَيَّةَ يَنْزُونَ عَلَى مِنْبَرِهِ نَزْوَ الْقِرَدَةِ فَاهْتَمَّ لِذَلِكَ وَمَا اسْتَجْمَعَ ضَاحِكًا مِنْ يَوْمِئِذٍ حَتَّى مَاتَ، فَنَزَلَتِ الْآيَةُ مُخْبِرَةً أَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُلْكِهِمْ وَصُعُودِهِمُ الْمَنَابِرَ إِنَّمَا يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وَيَجِيءُ قَوْلُهُ أَحاطَ بِالنَّاسِ أَيْ بِأَقْدَارِهِ وَإِنْ كَانَ مَا قَدَّرَهُ اللَّهُ فَلَا تَهْتَمَّ بِمَا يَكُونُ بَعْدَكَ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فِي خُطْبَتِهِ فِي شَأْنِ بَيْعَتِهِ لِمُعَاوِيَةَ: وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ
وَقَالَتْ عَائِشَةُ: الرُّؤْيَا رُؤْيَا مَنَامٍ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي بِفَسَادِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ رُؤْيَا الْمَنَامِ لَا فِتْنَةَ فِيهَا وَمَا كَانَ أحد لينكرها انتهى. ولبس كَمَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: فَإِنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ حَقٌّ وَيُخْبِرُ النَّبِيُّ بِوُقُوعِ ذَلِكَ لَا مَحَالَةَ فَيَصِيرُ إِخْبَارُهُ بِذَلِكَ فِتْنَةً لِمَنْ يُرِيدُ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ: سَأَلْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ الْقُرْطُبِيَّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ:
ذَهَبَ الْمُفَسِّرُونَ فِيهَا إِلَى أَمْرٍ غَيْرِ مُلَائِمٍ فِي سِيَاقِ أَوَّلِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهَا رُؤْيَةُ عَيْنٍ يَقَظَةً لَمَّا آتَاهُ بَدْرًا أَرَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَصَارِعَ الْقَوْمِ فَأَرَاهَا النَّاسَ، وَكَانَتْ فِتْنَةً لِقُرَيْشٍ فَإِنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوا أَخَذُوا فِي الْهُزْءِ وَالسُّخْرِيَةِ بِالرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ هُنَا هِيَ أَبُو جَهْلٍ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَعَلَّ اللَّهَ تَعَالَى أَرَاهُ مَصَارِعَهُمْ فِي مَنَامِهِ فَقَدْ كَانَ يَقُولُ حِينَ وَرَدَ مَاءَ بَدْرٍ: «وَاللَّهِ لَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى مَصَارِعِ القوم» وهو يومىء إِلَى الْأَرْضِ وَيَقُولُ: «هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ هَذَا مَصْرَعُ فُلَانٍ». فَتَسَامَعَتْ قُرَيْشٌ بِمَا أُوحِيَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَمْرِ بَدْرٍ وَمَا أُرِيَ فِي مَنَامِهِ مِنْ مَصَارِعِهِمْ، فَكَانُوا يَضْحَكُونَ وَيَسْتَسْخِرُونَ بِهِ اسْتِهْزَاءً.
وَقِيلَ: رَأَى فِي الْمَنَامِ أَنَّ وَلَدَ الْحَكَمِ يَتَدَاوَلُونَ مِنْبَرَهُ كَمَا يَتَدَاوَلُ الصِّبْيَانُ الْكُرَةَ
انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ أُرِيدَ بِالشَّجَرَةِ حَقِيقَتُهَا. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هِيَ الْكَشُوثُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَها مِنْ قَرارٍ «١» وَعَنْهُ أَيْضًا: هِيَ الشَّجَرَةَ الَّتِي تَلْتَوِي عَلَى الشَّجَرَةِ فَتُفْسِدُهَا. قَالَ: وَالْفِتْنَةُ قَوْلُهُمْ مَا بَالُ الْحَشَائِشِ تُذْكَرُ فِي الْقُرْآنِ. وَقَالَ الْجُمْهُورُ: هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ لَمَّا نَزَلَ أَمْرُهَا فِي الصَّافَّاتِ وَغَيْرِهَا. قَالَ أَبُو جَهْلٍ وَغَيْرُهُ: هَذَا مُحَمَّدٌ يَتَوَعَّدُكُمْ بِنَارٍ تُحْرِقُ الْحِجَارَةَ ثُمَّ يَزْعُمُ أَنَّهَا تُنْبِتُ الشَّجَرَ وَالنَّارُ تَأْكُلُ الشَّجَرَ وَمَا نَعْرِفُ الزَّقُّومَ إِلَّا التَّمْرَ بِالزُّبْدِ، ثُمَّ أَمَرَ أَبُو جَهْلٍ جَارِيَةً لَهُ فَأَحْضَرَتْ تَمْرًا وَزُبْدًا وَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: «تَزَقَّمُوا» فَافْتَتَنَ أَيْضًا بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ بَعْضُ الضُّعَفَاءِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَنْكَرُوا أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ الشَّجَرَةَ مِنْ جِنْسٍ لَا تَأْكُلُهُ النَّارُ، فَهَذَا وَبَرُ السَّمَنْدَلِ وَهُوَ دُوَيْبَةٌ بِبِلَادِ التُّرْكِ يُتَّخَذُ مِنْهَا مَنَادِيلُ إِذَا اتَّسَخَتْ طُرِحَتْ فِي النَّارِ فَيَذْهَبُ الْوَسَخُ وَبَقِيَ الْمِنْدِيلُ سَالِمًا لَا تَعْمَلُ فِيهِ النَّارُ، وَتَرَى النَّعَامَةَ تَبْتَلِعُ الْجَمْرَ وَقِطَعَ الْحَدِيدِ الْحُمْرِ كَالْجَمْرِ بِإِحْمَاءِ النَّارِ فَلَا يَضُرُّهَا ثُمَّ أَقْرَبُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خَلَقَ فِي كُلِّ شَجَرَةٍ نَارًا فَلَا تُحْرِقُهَا فَمَا أَنْكَرُوا أَنْ يَخْلُقَ فِي النَّارِ شَجَرَةً لَا تُحْرِقُهَا. وَالْمَعْنَى أَنَّ الْآيَاتِ إِنَّمَا نرسل بها
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَسَأَلْتُ بَعْضَهُمْ فَقَالَ نَعَمِ الطَّعَامُ الْمَلْعُونُ الْقِشْبُ الْمَمْحُونُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْمَلْعُونَةَ يُرِيدُ آكِلَهَا، وَنَمَّقَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ: لُعِنَتْ حَيْثُ لُعِنَ طَاعِمُوهَا مِنَ الْكَفَرَةِ وَالظَّلَمَةِ لِأَنَّ الشَّجَرَةَ لَا ذَنْبَ لَهَا حَتَّى تُلْعَنَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِلَعْنِ أَصْحَابِهَا عَلَى الْمَجَازِ انْتَهَى. وَقِيلَ لَمَّا شبه طلعها برؤوس الشَّيَاطِينِ، وَالشَّيْطَانُ مَلْعُونٌ نُسِبَتِ اللَّعْنَةُ إِلَيْهَا. وَقَالَ قَوْمٌ الشَّجَرَةَ هُنَا مَجَازٌ عَنْ وَاحِدٍ وَهُوَ أَبُو جَهْلٍ. وَقِيلَ هُوَ الشَّيْطَانُ. وَقِيلَ مَجَازٌ عَنْ جَمَاعَةٍ وَهُمُ الْيَهُودُ الَّذِينَ تَظَاهَرُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَفِتْنَتُهُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ بَعْثَةَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ كَفَرُوا بِهِ وَقَالُوا:
لَيْسَ هُوَ الَّذِي كُنَّا نَنْتَظِرُهُ فَثَبَّطُوا كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِمَقَالَتِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ. وَقِيلَ بَنُو أُمَيَّةَ حَتَّى أَنَّ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ مَنْ لَا يُعَبِّرُ عَنْهُمْ إِلَّا بِالشَّجَرَةِ الْمَلْعُونَةِ لِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مَنِ اسْتِبَاحَةِ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ حِلِّهَا وَتَغْيِيرِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَبْدِيلِ الْأَحْكَامِ، وَلَعْنُهَا فِي الْقُرْآنِ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «٣» إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ عَطْفًا عَلَى الرُّؤْيَا فَهِيَ مُنْدَرِجَةٌ فِي الْحَصْرِ، أَيْ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ بِرَفْعِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ عَلَى الِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ كَذَلِكَ أَيْ فِتْنَةٌ، وَالضَّمِيرُ فِي وَنُخَوِّفُهُمْ لِكُفَّارِ مَكَّةَ. وَقِيلَ لِمُلُوكِ بَنِي أُمَيَّةَ بَعْدَ الْخِلَافَةِ الَّتِي
قَالَ
(٢) سورة آل عمران ٣/ ١٢.
(٣) سورة هود: ١١/ ١٨.
وَالْأَوَّلُ أَصْوَبُ. وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ:
وَيُخَوِّفُهُمْ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ وَالْجُمْهُورُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا.
مُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَمَّا نَازَعُوا الرَّسُولَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي النُّبُوَّةِ وَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ الْآيَاتِ كَانَ ذَلِكَ لِكِبْرِهِمْ وَحَسَدِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على مَا آتَاهُ اللَّهُ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالدَّرَجَةِ الرَّفِيعَةِ، فَنَاسَبَ ذِكْرَ قِصَّةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَإِبْلِيسَ حَيْثُ حَمَلَهُ الْكِبْرُ وَالْحَسَدُ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ السُّجُودِ. وَالثَّانِي أَنَّهُ لَمَّا قَالَ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً «١» بَيَّنَ مَا سَبَبُ هَذَا الطُّغْيَانِ وَهُوَ قَوْلُ إِبْلِيسَ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا وَانْتَصَبَ طِيناً عَلَى الْحَالِ قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَتَبِعَهُ الْحَوْفِيُّ، فَقَالَ: مِنَ الْهَاءِ فِي خَلَقْتُهُ الْمَحْذُوفَةِ، وَالْعَامِلُ خَلَقْتَ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فَقَالَ طِيناً إِمَّا مِنَ الْمَوْصُولِ وَالْعَامِلُ فِيهِ أَأَسْجُدُ عَلَى آسْجُدُ لَهُ وَهُوَ طِينٌ أَيْ أَصْلُهُ طِينٌ، أَوْ مِنَ الرَّاجِعِ إِلَيْهِ مِنَ الصِّلَةِ عَلَى آسْجُدُ لِمَنْ كَانَ فِي وَقْتِ خَلْقِهِ طِيناً انْتَهَى. وَهَذَا تَفْسِيرُ مَعْنًى. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: وَالْعَامِلُ فِيهِ خَلَقْتَ يَعْنِي إِذَا كَانَ حَالًا مِنَ الْعَائِدِ الْمَحْذُوفِ وَأَجَازَ الْحَوْفِيُّ أَنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلَى حَذْفِ مِنَ التَّقْدِيرُ مِنْ طِينٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي قَوْلِهِ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «٢» وَأَجَازَ الزَّجَّاجُ أَيْضًا وَتَبِعَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا وَلَا يَظْهَرُ كَوْنُهُ تَمْيِيزًا وَقَوْلُهُ أَأَسْجُدُ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَعَجُّبٍ. وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَأَسْجُدُ وَمَا قَبْلَهُ كَلَامٌ مَحْذُوفٌ، وَكَأَنَّ تَقْدِيرَهُ قَالَ: لِمَ لَمْ تَسْجُدْ لِآدَمَ قَالَ: أَأَسْجُدُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ وَقَالَ آسْجُدُ جُمَلٌ قَدْ ذُكِرَتْ حَيْثُ طُوِّلَتْ قِصَّتُهُ، وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ لِلْخِطَابِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَلَا يَلْحَقُ كَافُ الْخِطَابِ هَذِهِ إِلَّا إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي، وَبِهَذَا الْمَعْنَى قَدَّرَهَا الْحَوْفِيُّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَهُوَ قَوْلُ سِيبَوَيْهِ فِيهَا وَالزَّجَّاجِ.
قَالَ الْحَوْفِيُّ: وأَ رَأَيْتَكَ بِمَعْنَى عَرِّفْنِي وَأَخْبِرْنِي، وَهَذَا منصوب بأرأيتك، والمعنى
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ١٢.
وَالْكَافُ فِي أَرَأَيْتَكَ حَرْفُ خِطَابٍ وَمُبَالَغَةٍ فِي التَّنْبِيهِ لَا مَوْضِعَ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ فَهِيَ زَائِدَةٌ، وَمَعْنَى أَرَأَيْتَ أَتَأَمَّلْتَ وَنَحْوَهُ كَانَ الْمُخَاطِبُ بِهَا يُنَبِّهُ الْمُخَاطَبَ لِيَسْتَجْمِعَ لِمَا يَنُصُّهُ عَلَيْهِ بَعْدُ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هِيَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَمَثَّلَ بِقَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ زَيْدًا أَيُؤْمِنُ هُوَ. وَقَالَهُ الزَّجَّاجُ وَلَمْ يُمَثِّلْ، وَقَوْلُ سِيبَوَيْهِ صَحِيحٌ حَيْثُ يَكُونُ بَعْدَهَا اسْتِفْهَامٌ كَمِثَالِهِ، وَأَمَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهِيَ كَمَا قُلْتُ وَلَيْسَتِ الَّتِي ذَكَرَ سِيبَوَيْهِ رَحِمَهُ اللَّهُ انْتَهَى. وَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ فِي أَرَأَيْتَكَ هُنَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلِذَلِكَ قُدِّرَ الِاسْتِفْهَامُ وَهُوَ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ فَقَدِ انْعَقَدَ مِنْ قَوْلِهِ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لِمَ كَرَّمْتَهُ عَلَيَّ جُمْلَةٌ مِنْ مُبْتَدَأٍ وَخَبَرٍ، وَصَارَ مِثْلَ:
زَيْدٌ أَيُؤْمِنُ هُوَ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَرَأَيْتَكَ فَعَمِلَتْ فِي الْأَوَّلِ، وَالْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ فِي مَوْضِعِ الثَّانِي وَالْمُسْتَقِرُّ فِي أَرَأَيْتَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي أَنْ تَدْخُلُ عَلَى جُمْلَةٍ ابْتِدَائِيَّةٍ يَكُونُ الْخَبَرُ اسْتِفْهَامًا، فَإِنْ صُرِّحَ بِهِ فَذَلِكَ وَاضِحٌ وَإِلَّا قُدِّرَ. وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ فِي الْأَنْعَامِ وَفِي شَرْحِ التَّسْهِيلِ.
وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُنَا لِلْكَافِ محل مِنَ الْإِعْرَابِ وَهُوَ النَّصْبُ أَيْ أَرَأَيْتَ نَفْسَكَ قَالَ: وَهَذَا كَمَا تَقُولُ أَتَدَبَّرْتَ آخِرَ أَمْرِكَ. فَإِنِّي صَانِعٌ فِيهِ كَذَا، ثُمَّ ابْتَدَأَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ انْتَهَى. وَالرَّدُّ عَلَيْهِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَلَوْ ذَهَبَ ذَاهِبٌ إِلَى أَنَّ هَذَا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِقَوْلِهِ:
أَرَأَيْتَكَ بِمَعْنَى أَخْبِرْنِي وَالثَّانِي الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ بَعْدَهُ لِانْعِقَادِهِمَا مُبْتَدَأً وَخَبَرًا قَبْلَ دُخُولِ أَرَأَيْتَكَ لذهب مَذْهَبًا حَسَنًا، إِذْ لَا يَكُونُ فِي الْكَلَامِ إِضْمَارٌ، وَتَلَخَّصَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الْكَافُ إِمَّا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وَهَذَا مُبْتَدَأٌ، وَإِمَّا حَرْفُ خِطَابٍ وَهَذَا مَفْعُولٌ بِأَرَأَيْتَ بِمَعْنًى مَحْذُوفٍ، وَهُوَ الْجُمْلَةُ الِاسْتِفْهَامِيَّةُ أَوْ مَذْكُورٍ وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْقَسَمِيَّةُ، وَمَعْنَى لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أَيْ أَخَّرْتَ مَمَاتِي وَأَبْقَيْتَنِي حَيًّا.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَأَحْتَنِكَنَّ لَأَسْتَوْلِيَنَّ عَلَيْهِمْ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ لَأُضِلَّنَّهُمْ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: لَأَسْتَأْصِلَنَّ وَكَفَرَ إِبْلِيسُ بِجَهْلِهِ صِفَةَ الْعَدْلِ مِنَ اللَّهِ حِينَ لَحِقَتْهُ الْأَنَفَةُ وَالْكِبْرُ، وَظَهَرَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ إِذْ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُكَرَّمَ بِالسُّجُودِ مِنِّي مَنْ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، وَأَقْسَمَ إِبْلِيسُ عَلَى أَنَّهُ يَحْتَنِكُ ذُرِّيَّةَ آدَمَ وَعَلِمَ ذَلِكَ إِمَّا بِسَمَاعِهِ
جَزاؤُكُمْ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ضَمِيرَ مِنْ عَلَى سَبِيلِ الِالْتِفَاتِ وَالْمَوْفُورُ الْمُكَمَّلُ وَوَفَرَ مُتَعَدٍّ كَقَوْلِهِ:
وَمَنْ يَجْعَلِ الْمَعْرُوفَ مِنْ دُونِ عَرْضِهِ | يَفْرِهُ وَمَنْ لَا يَتَّقِ الشَّتْمَ يُشْتَمِ |
وَقَرَأَ الْحَسَنُ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِوَصْلِ الْأَلِفِ وَضَمِّ اللَّامِ مِنْ جَلَبَ ثُلَاثِيًّا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِبْلِيسَ لَهُ خَيْلٌ وَرَجَّالَةٌ مِنَ الْجِنِّ جِنْسِهِ قَالَهُ قَتَادَةُ، وَالْخَيْلُ تُطْلَقُ عَلَى الْأَفْرَاسِ حَقِيقَةً وَعَلَى أَصْحَابِهَا مَجَازًا وَهُمُ الْفُرْسَانُ، وَمِنْهُ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، وَالْبَاءُ فِي بِخَيْلِكَ قِيلَ زَائِدَةٌ. وَقِيلَ: مِنَ الْآدَمِيِّينَ أُضِيفُوا إِلَيْهِ لِانْخِرَاطِهِمْ فِي طَاعَتِهِ وَكَوْنِهِمْ أَعْوَانَهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ قاله مجاهد.
(٢) سورة ص: ٣٨/ ٨٢- ٨٣.
(٣) سورة فصلت: ٤١/ ٤٠.
رَجِلًا إِلَّا بِأَصْحَابِ وَقَالَ الزمخشري: وقرىء وَرَجِلِكَ عَلَى أَنْ فَعِلًا بِمَعْنَى فَاعِلٍ نَحْوَ تَعِبٍ وَتَاعِبٍ، وَمَعْنَاهُ وَجَمْعُكَ الرَّجُلَ وَتُضَمُّ جِيمُهُ أَيْضًا فَيَكُونُ مِثْلَ حَدِثَ وَحَدُثَ وَنَدِسَ وَنَدُسَ وَأَخَوَاتٌ لَهُمَا انْتَهَى. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَرِجَالِكَ. وقرىء: وَرُجِّلَ لَكَ بِضَمِّ الرَّاءِ وَتَشْدِيدِ الْجِيمِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَمْوَالِ. قَالَ الضَّحَّاكُ: مَا يَذْبَحُونَ لِآلِهَتِهِمْ وَقَتَادَةُ الْبَحِيرَةُ وَالسَّائِبَةُ. وَقِيلَ: مَا أُصِيبَ مِنْ مَالٍ وَحَرَامٍ. وَقِيلَ: مَا جَعَلُوهُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ لِغَيْرِ اللَّهِ. وَقِيلَ: مَا صُرِفَ فِي الزِّنَا وَالْأَوْلَى مَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِ حَقِّهِ وَمَا وُضِعَ فِي غَيْرِ حَقِّهِ وَالْمُشَارَكَةُ فِي الْأَوْلَادِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
تَسْمِيَتُهُمْ عَبْدَ الْعُزَّى وَعَبْدَ اللَّاتِ وَعَبْدَ الشَّمْسِ وَعَبْدَ الحارث، وَعَنْهُ أَيْضًا تَرْغِيبُهُمْ فِي الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ كَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّةِ. وَعَنْهُ أَيْضًا إِقْدَامُهُمْ عَلَى قَتْلِ الْأَوْلَادِ قَالَ الْحَسَنُ وقتادة. ما مَجَّسُوهُ وَهَوَّدُوهُ وَنَصَّرُوهُ وَصَبَغُوهُمْ غَيْرَ صِبْغَةِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: عَدَمُ التَّسْمِيَةِ عِنْدَ الْجِمَاعِ فَالْجَانُّ يَنْطَوِي إِذْ ذَاكَ عَلَى إِحْلِيلِهِ فَيُجَامِعُ مَعَهُ. وَقِيلَ تَرْغِيبُهُمْ فِي الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ وَحِفْظِ الشِّعْرِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الْفُحْشِ، وَالْأَوْلَى أَنَّهُ كُلُّ تَصَرُّفٍ فِي الْوَلَدِ يُؤَدِّي إِلَى ارْتِكَابِ مُنْكَرٍ وَقَبِيحٍ، وَأَمَّا وَعْدُهُ فَهُوَ الْوَعْدُ الْكَاذِبُ كَوَعْدِهِمْ أَنْ لَا بَعْثَ وَهَذِهِ مُشَارَكَةٌ فِي النُّفُوسِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَعِدْهُمْ الْمَوَاعِيدَ الْكَاذِبَةَ مِنْ شَفَاعَةِ الْآلِهَةِ وَالْكَرَامَةِ عَلَى اللَّهِ بِالْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ، وَتَسْوِيفِ التَّوْبَةِ وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ بِدُونِهَا، وَالِاتِّكَالِ عَلَى الرَّحْمَةِ وَشَفَاعَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْكَبَائِرِ وَالْخُرُوجِ مِنَ النَّارِ بَعْدَ أَنْ يَصِيرُوا حَمِيمًا، وَإِيثَارِ الْعَاجِلِ عَلَى
وَقِيلَ: ثَمَّ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ أَيْ إِنَّ عِبادِي الصَّالِحِينَ، وَنَفَى السُّلْطَانَ وَهُوَ الْحَجَّةُ وَالِاقْتِدَارُ عَلَى إِغْوَائِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ وَيَدُلُّ عَلَى لَحْظِ الصِّفَةِ قَوْلُهُ إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ «١». وَقَالَ الْجُبَّائِيُّ: عِبادِي عَامٌّ فِي الْمُكَلَّفِينَ، وَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ فِي آيٍ مَنِ اتَّبَعَهُ فِي قَوْلِهِ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «٢» وَاسْتَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ عَلَى تَخْلِيطِ الْعَقْلِ وَإِنَّمَا قُدْرَتُهُ عَلَى الْوَسْوَسَةِ، وَلَوْ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ لَخَبَطَ الْعُلَمَاءَ لِيَكُونَ ضَرَرُهُ أَتَمَّ، وَمَعْنَى وَكِيلًا حَافِظًا لِعِبَادِهِ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ مِنْ إِغْوَاءِ الشَّيْطَانِ أَوْ وَكِيلًا يَكِلُونَ أُمُورَهُمْ إِلَيْهِ فَهُوَ حَافِظُهُمْ بِتَوَكُّلِهِمْ عَلَيْهِ.
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى وَصْفَ الْمُشْرِكِينَ فِي اعْتِقَادِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَأَنَّهَا تَضُرُّ وَتَنْفَعُ، وَأَتْبَعَ ذَلِكَ بِقِصَّةِ إِبْلِيسَ مَعَ آدَمَ، وَتَمْكِينِهِ مِنْ وَسْوَسَةِ ذُرِّيَّتِهِ وَتَسْوِيلِهِ ذَكَرَ مَا يَدُلُّ مِنْ أَفْعَالِهِ عَلَى وَحْدَانِيَّتِهِ، وَأَنَّهُ هُوَ النَّافِعُ الضَّارُّ الْمُتَصَرِّفُ فِي خَلْقِهِ بِمَا يَشَاءُ، فَذَكَرَ إِحْسَانَهُ إِلَيْهِمْ بَحْرًا وَبَرًّا، وَأَنَّهُ تَعَالَى مُتَمَكِّنٌ بِقُدْرَتِهِ مِمَّا يُرِيدُهُ. وَإِزْجَاءُ الْفُلْكِ سَوْقُهَا مِنْ مَكَانٍ إِلَى مَكَانٍ بِالرِّيحِ اللَّيِّنَةِ وَالْمَجَادِيفِ، وَذَلِكَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ وَابْتِغَاءُ الْفَضْلِ طَلَبُ التِّجَارَةِ أَوِ الْحَجُّ فِيهِ أَوِ الْغَزْوُ. وَالضُّرُّ فِي الْبَحْرِ الْخَوْفُ مِنَ الْغَرَقِ بِاضْطِرَابِهِ وَعَصْفِ الرِّيحِ، وَمَعْنَى ضَلَّ ذهب
(٢) سورة الحجر: ١٥/ ٤٢.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الْمُرَادُ بِالْإِنْسَانِ الْكُفَّارُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِلَّا إِيَّاهُ اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْدَرِجْ فِي قَوْلِهِ مَنْ تَدْعُونَ إِذِ الْمَعْنَى ضَلَّتْ آلِهَتُهُمْ أَيْ مَعْبُودَاتُهُمْ وَهُمْ لَا يَعْبُدُونَ اللَّهَ.
وَقِيلَ: هُوَ اسْتِثْنَاءٌ مُتَّصِلٌ وَهَذَا عَلَى مَعْنَى ضل من يلجؤون إليه وهم كانوا يلجؤون فِي بَعْضِ أُمُورِهِمْ إِلَى مَعْبُودَاتِهِمْ، وَفِي هَذِهِ الْحَالَةِ لا يلجؤون إِلَّا إِلَى اللَّهِ وَالْهَمْزَةُ فِي أَفَأَمِنْتُمْ لِلْإِنْكَارِ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْفَاءُ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَنَجَوْتُمْ فَأَمِنْتُمُ انْتَهَى. وَتَقَدَّمَ لَنَا الْكَلَامُ مَعَهُ فِي دَعْوَاهُ أَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ لِلْعَطْفِ عَلَى مَحْذُوفٍ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَحَرْفِ الْعَطْفِ، وَأَنَّ مَذْهَبَ الْجَمَاعَةِ أَنْ لَا مَحْذُوفَ هُنَاكَ، وَأَنَّ الْفَاءَ وَالْوَاوَ لِلْعَطْفِ عَلَى مَا قَبْلَهَا وَأَنَّهُ اعْتَنَى بِهَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ لِكَوْنِهَا لَهَا صَدْرُ الْكَلَامِ فَقُدِّمَتْ وَالنِّيَّةُ التَّأْخِيرُ، وَأَنَّ التَّقْدِيرَ فَأَمِنْتُمْ. وَقَدْ رَجَعَ الزَّمَخْشَرِيُّ إِلَى مَذْهَبِ الْجَمَاعَةِ وَالْخِطَابُ لِلسَّابِقِ ذِكْرُهُمْ أَيْ أَفَأَمِنْتُمْ أَيُّهَا النَّاجُونَ الْمُعْرِضُونَ عَنْ صُنْعِ اللَّهِ الَّذِي نَجَّاكُمْ، وَانْتَصَبَ جانِبَ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ بِنَخْسِفَ كَقَوْلِهِ فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ «١» وَالْمَعْنَى أَنْ نُغَيِّرَهُ بِكُمْ فَتَهْلَكُونَ بِذَلِكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَنْ نَقْلِبَهُ وَأَنْتُمْ عَلَيْهِ.
وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: جانِبَ الْبَرِّ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ، وَلَمَّا كَانَ الْخَسْفُ تَغْيِيبًا فِي التُّرَابِ قال: جانِبَ الْبَرِّ وبِكُمْ حَالٌ أَيْ نَخْسِفُ جانِبَ الْبَرِّ مَصْحُوبًا بِكُمْ.
وَقِيلَ: الْبَاءُ لِلسَّبَبِ أَيْ بِسَبَبِكُمْ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى جانِبَ الْبَرِّ الَّذِي أَنْتُمْ فِيهِ، فَيَحْصُلُ بِخَسْفِهِ إِهْلَاكُهُمْ وَإِلَّا فَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَسْفِ جانِبَ الْبَرِّ بِسَبَبِهِمْ إِهْلَاكُهُمْ.
قَالَ قَتَادَةُ: الْحَاصِبُ الْحِجَارَةُ. وَقَالَ السُّدِّيُّ: رَامٍ يَرْمِيكُمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ قُدْرَتَهُ تَعَالَى بَالِغَةٌ فَإِنْ كَانَ نَجَّاكُمْ مِنَ الْغَرَقِ وَكَفَرْتُمْ نِعْمَتَهُ فَلَا تَأْمَنُوا إِهْلَاكَهُ إِيَّاكُمْ وَأَنْتُمْ فِي الْبَرِّ، إِمَّا بِأَمْرٍ يَكُونُ مِنْ تَحْتِكُمْ وَهُوَ تَغْوِيرُ الْأَرْضِ بِكُمْ، أَوْ مِنْ فَوْقِكُمْ بِإِرْسَالِ حَاصِبٍ عَلَيْكُمْ، وَهَذِهِ الْغَايَةُ فِي تَمَكُّنِ الْقُدْرَةِ ثُمَّ لَا تَجِدُوا عند حلول أحد
طَالِبُ الثَّأْرِ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الْمُطَالِبُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: مَنْ يُتْبِعُ بِالْإِنْكَارِ مَا نَزَلَ بِكُمْ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى فَسَوَّاها وَلا يَخافُ عُقْباها «١»
وَفِي الْحَدِيثِ: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ».
وَقَالَ الشَّمَّاخُ:
كَمَا لَاذَ الْغَرِيمُ مِنَ التَّبِيعِ وَيُقَالُ: فُلَانٌ عَلَى فُلَانٍ تَبِيعٌ، أَيْ مُسَيْطِرٌ بِحَقِّهِ مُطَالِبٌ بِهِ. وَأَنْشَدَ ابْنُ عَطِيَّةَ:
غَدَوْا وَغَدَتْ غِزْلَانُهُمْ فَكَأَنَّهَا | ضوامن غرم لدهن تَبِيعُ |
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٧]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ مِنَ إِزْجَاءِ الْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ وَمِنْ تَنْجِيَتِهِمْ مِنَ الْغَرَقِ، تَمَّمَ ذِكْرَ الْمِنَّةِ بِذِكْرِ تَكْرِمَتِهِمْ وَرِزْقِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ، أَوْ لَمَّا هَدَّدَهُمْ بِمَا هَدَّدَ مِنَ الْخَسْفِ وَالْغَرَقِ وَأَنَّهُمْ كَافِرُو نِعْمَتَهُ ذَكَرَ مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ لِيَتَذَكَّرُوا فَيَشْكُرُوا نِعَمَهُ وَيُقْلِعُوا عَنْ مَا كَانُوا فِيهِ مِنَ الْكُفْرِ وَيُطِيعُوهُ تَعَالَى، وَفِي ذِكْرِ النِّعَمِ وَتَعْدَادِهَا هَزٌّ لِشُكْرِهَا وَكَرَّمَ مُعَدًّى بِالتَّضْعِيفِ مِنْ كَرُمَ أَيْ جَعَلْنَاهُمْ ذَوِي كَرَمٍ بِمَعْنَى الشَّرَفِ وَالْمَحَاسِنِ الْجَمَّةِ، كَمَا تَقُولُ: ثَوْبٌ كَرِيمٌ وَفَرَسٌ كَرِيمٌ أَيْ جَامِعٌ لِلْمَحَاسِنِ. وَلَيْسَ مِنْ كَرَمِ الْمَالِ. وَمَا جَاءَ عَنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ تَكْرِيمِهِمْ وَتَفْضِيلِهِمْ بِأَشْيَاءَ ذَكَرَهَا هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لَا عَلَى الْحَصْرِ فِي ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ التَّفْضِيلَ بِالْعَقْلِ وَعَنِ الضَّحَّاكِ بِالنُّطْقِ. وَعَنْ عَطَاءٍ بِتَعْدِيلِ الْقَامَةِ وَامْتِدَادِهَا، وَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ بِالْمَطَاعِمِ وَاللَّذَّاتِ، وَعَنْ يَمَانٍ بِحُسْنِ الصُّورَةِ، وَعَنْ
وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَهَذَا أَيْضًا مِنْ تَكْرِيمِهِمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فِي الْبَرِّ عَلَى الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ وَالْإِبِلِ، وَفِي الْبَحْرِ عَلَى السُّفُنِ. وَقَالَ غَيْرُهُ: عَلَى أَكْبَادٍ رَطْبَةٍ وَأَعْوَادٍ يَابِسَةٍ. والطَّيِّباتِ كَمَا تَقَدَّمَ الْحَلَالُ أَوِ الْمُسْتَلَذُّ وَلَا يَتَّسِعُ غَيْرِهِ مِنَ الْحَيَوَانِ فِي الرِّزْقِ اتِّسَاعَهُ لِأَنَّهُ يَكْتَسِبُ الْمَالَ وَيَلْبَسُ الثِّيَابَ وَيَأْكُلُ الْمُرَكَّبَ مِنَ الْأَطْعِمَةِ بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ، فَإِنَّهُ لَا يَكْتَسِبُ وَلَا يَلْبَسُ وَلَا يَأْكُلُ غَالِبًا إِلَّا لَحْمًا نَيِّئًا وَطَعَامًا غَيْرَ مُرَكَّبٍ، وَالظَّاهِرُ أَنُّ كَثِيرًا بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: فُضِّلُوا عَلَى الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ غَيْرَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَأَشْبَاهِهِمْ وَهَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَعَنْهُ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيْسَ أَفْضَلَ مِنَ الْمَلَكِ وَهُوَ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْحَيَوَانُ وَالْجِنُّ هُوَ الْكَثِيرُ الْمَفْضُولُ وَالْمَلَائِكَةُ هُمُ الْخَارِجُونَ عَنِ الْكَثِيرِ الْمَفْضُولِ. وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الْآيَةُ تَقْضِي بِفَضْلِ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْإِنْسِ مِنْ حَيْثُ هُمْ الْمُسْتَثْنَوْنَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
«١» وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ مِنَ الْآيَةِ، بَلِ التَّفْضِيلُ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ لَمْ تَعْنِ لَهُ الْآيَةُ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ أَفْضَلُ وَيُحْتَمَلُ التَّسَاوِي، وَإِنَّمَا يَصِحُّ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ مِنْ مَوَاضِعَ أُخَرَ مِنَ الشَّرْعِ انْتَهَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هُوَ مَا سِوَى الْمَلَائِكَةِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَحَسْبُ بَنِي آدَمَ تَفْضِيلًا أَنْ تُرْفَعَ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ وَهُمْ هُمْ وَمَنْزِلَتُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَتُهُمْ، وَالْعَجَبُ مِنَ الْمُجْبِرَةِ كَيْفَ عَكَسُوا فِي كُلِّ شَيْءٍ وَكَابَرُوا حَتَّى جَسَرَتْهُمُ الْمُكَابَرَةُ عَلَى الْعَظِيمَةِ الَّتِي هِيَ تَفْضِيلُ الْإِنْسَانِ عَلَى الْمَلَكِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَشْنِيعًا أَقْذَعَ فِيهِ يُوقَفُ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابِهِ. وَقِيلَ: وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ بِالْغَلَبَةِ وَالِاسْتِيلَاءِ. وَقِيلَ: بِالثَّوَابِ وَالْجَزَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ لَمْ تَتَعَرَّضِ الْآيَةُ لِلتَّفْضِيلِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بَيْنَ الْإِنْسِ وَالْمَلَائِكَةِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنْوَاعًا مِنْ كَرَامَاتِ الْإِنْسَانِ فِي الدُّنْيَا ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ أَحْوَالِ الْآخِرَةِ فقال: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي الْعَامِلِ فِي يَوْمَ. فَقِيلَ: الْعَامِلُ فِيهِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ مَتَى هُوَ. وَقِيلَ: فَتَسْتَجِيبُونَ. وَقِيلَ: هُوَ بَدَلٌ مِنْ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وَهَذِهِ أَقْوَالٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ، وَلَوْلَا أَنَّهُمْ ذَكَرُوهَا لَضَرَبْتُ عَنْ ذِكْرِهَا صَفْحًا وَهُوَ فِي هَذِهِ الْأَقْوَالِ ظَرْفٌ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ انْتَصَبَ عَلَى الظَّرْفِ وَالْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرْ وَعَلَى تَقْدِيرِ اذْكُرْ لَا يَكُونُ ظَرْفًا بَلْ هُوَ مَفْعُولٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا بَعْدَ قَوْلِهِ هُوَ ظَرْفٌ: وَالْعَامِلُ فِيهِ اذْكُرْ أَوْ فِعْلٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ وَلا يُظْلَمُونَ، وَحَكَاهُ أَبُو الْبَقَاءِ وَقَدَّرَهُ وَلا يُظْلَمُونَ يَوْمَ نَدْعُو.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَصِحُّ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ وَفَضَّلْناهُمْ وَذَلِكَ أَنَّ فَضْلَ الْبَشَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى سَائِرِ الْحَيَوَانِ بَيِّنٌ لِأَنَّهُمُ الْمُنَعَّمُونَ الْمُكَلَّفُونَ الْمُحَاسَبُونَ الَّذِينَ لَهُمُ الْقَدْرُ إِلَّا أَنَّ هَذَا يَرُدُّهُ أَنَّ الْكُفَّارَ يَوْمَئِذٍ أَخْسَرُ مَنْ كُلِّ حَيَوَانٍ، إِذْ يَقُولُ الْكَافِرُ: يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ أَيْضًا: وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ يَوْمَ مَنْصُوبًا عَلَى الْبِنَاءِ لَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ، وَيَكُونُ مَوْضِعُهُ رَفْعًا بِالِابْتِدَاءِ، وَالْخَبَرُ فِي التَّقْسِيمِ الَّذِي أَتَى بَعْدُ فِي قَوْلِهِ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ إِلَى قَوْلِهِ وَمَنْ كانَ انْتَهَى. وَقَوْلُهُ مَنْصُوبًا عَلَى الْبِنَاءِ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ مَبْنِيًّا عَلَى الْفَتْحِ، وَقَوْلُهُ: لَمَّا أُضِيفَ إِلَى غَيْرِ مُتَمَكِّنٍ لَيْسَ بِجَيِّدٍ لِأَنَّ الَّذِي يَنْقَسِمُ إِلَى مُتَمَكِّنٍ وَغَيْرِ مُتَمَكِّنٍ هُوَ الِاسْمُ لَا الْفِعْلُ، وَهَذَا أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ وَمَذْهَبُ الْبَصْرِيِّينَ أَنَّهُ إِذَا أُضِيفَ إِلَى فِعْلٍ مُضَارِعٍ مُعْرَبٍ لَا يَجُوزُ بِنَاؤُهُ، وَهَذَا الْوَجْهُ الَّذِي ذَكَرَهُ هُوَ عَلَى رَأْيِ الْكُوفِيِّينَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: والخبر في التقسيم فالتقسيم عَارٍ مِنْ رَابِطٍ لِهَذِهِ الجملة التقسيمية بالمبتدأ لا إِنْ قَدَّرَ مَحْذُوفًا، فَقَدْ يُمْكِنُ أَيْ مِمَّنْ أُوتِيَ كِتابَهُ فِيهِ بِيَمِينِهِ وَهُوَ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْرِيجِ تَخْرِيجٌ مُتَكَلَّفٌ.
وَقَالَ بَعْضُ النُّحَاةِ: الْعَامِلُ فِيهِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ وَفَضَّلْناهُمْ بِالثَّوَابِ، وَهَذَا الْقَوْلُ قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْهُ قَبْلُ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: هُوَ ظَرْفٌ لِقَوْلِهِ ثُمَّ لَا تَجِدُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَعْمُولٌ لِقَوْلِهِ نُعِيدُكُمْ مُضْمَرَةٌ أَيْ نُعِيدُكُمْ يَوْمَ نَدْعُوا وَالْأَقْرَبُ
أَبِيتُ أُسَرِّي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي | وَجْهَكِ بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الزَّكِيِّ |
إِمَامُهُمْ مَنِ ائتموا به من نَبِيٌّ أَوْ مُقَدَّمٌ فِي الدِّينِ أَوْ كِتَابٌ أَوْ دِينٌ، فَيُقَالُ: يَا أَهْلَ دِينِ كَذَا وَكِتَابِ كَذَا. وَقِيلَ: بِكِتَابِ أَعْمَالِهِمْ يَا أَصْحَابَ كِتَابِ الْخَيْرِ وَيَا أَصْحَابَ كِتَابِ الشَّرِّ. وَفِي قِرَاءَةِ الْحَسَنِ بِكِتَابِهِمْ وَمِنْ بِدَعِ التَّفْسِيرِ أَنَّ الْإِمَامَ جَمْعُ أُمٍّ وَأَنَّ النَّاسَ يُدْعَوْنَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأُمَّهَاتِهِمْ، وَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي الدُّعَاءِ بِالْأُمَّهَاتِ دُونَ الْآبَاءِ رِعَايَةَ حَقِّ عِيسَى وَشَرَفِ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ.
وَأَنْ لَا يَفْتَضِحَ أَوْلَادُ الزِّنَا وَلَيْتَ شِعْرِي أَيُّهُمَا أَبْدَعُ أَصِحَّةُ لَفْظِهِ أَمْ بَهَاءُ حِكْمَتِهِ انْتَهَى. وَإِيتَاءُ الْكِتَابِ دَلِيلٌ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الشَّرِيعَةِ مِنَ الصُّحُفِ الَّتِي يُؤْتَاهَا الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ، وَإِيتَاؤُهُ بِالْيَمِينِ دَلِيلٌ عَلَى نَجَاةِ الطَّائِعِ وَخَلَاصِ الْفَاسِقِ مِنَ النَّارِ إِنْ دَخَلَهَا وَبِشَارَتِهِ أَنَّهُ لَا يُخَلَّدُ فِيهَا فَأُولئِكَ جَاءَ جَمْعًا عَلَى مَعْنَى مَنْ إِذْ قَدْ حُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ أَوَّلًا فَأُفْرِدَ فِي قَوْلِهِ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَقِرَاءَتُهُمْ كُتُبَهُمْ هُوَ عَلَى سَبِيلِ التَّلَذُّذِ بِالِاطِّلَاعِ عَلَى مَا تَضَمَّنَتْهَا مِنَ الْبِشَارَةِ، وَإِلَّا فَقَدْ عَلِمُوا مِنْ حَيْثُ إِيِتَاؤُهُمْ إِيَّاهَا بِالْيَمِينِ أَنَّهُمْ مَنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ وَمِنْ فَرَحِهِمْ بِذَلِكَ يَقُولُ الْبَارِي لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «١» وَلَمْ يَأْتِ هُنَا قَسِيمُ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ وَهُوَ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ، وَإِنْ كَانَ قَدْ أَتَى فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بَلْ جَاءَ قَسِيمُهُ قَوْلُهُ.
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى وَذَلِكَ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُقَابِلُهُ لِأَنَّ مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ
فِي هذِهِ إِلَى الدُّنْيَا وَقَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ أَيْ: مَنْ كَانَ فِي هَذِهِ الدَّارِ أَعْمَى عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ وَعِبَرِهِ وَالْإِيمَانِ بِأَنْبِيَائِهِ، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ فَهُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى معنى أنه خبر إن لَا يَتَوَجَّهَ لَهُ صَوَابٌ وَلَا يَلُوحَ لَهُ نُجْحٌ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: هُوَ أَعْمَى فِي الْآخِرَةِ عَنْ حُجَجِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ النِّعَمُ يُشِيرُ إِلَى نِعَمِ التَّكْرِيمِ وَالتَّفْضِيلِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ الَّتِي لَمْ تَرَ وَلَمْ تُعَايِنْ أَعْمى. وَقِيلَ: وَمَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا ضَالًّا كَافِرًا فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا تُقْبَلُ وَفِي الدُّنْيَا يَهْتَدِي إِلَى التَّخَلُّصِ مِنَ الْآفَاتِ، وَفِي الْآخِرَةِ لَا يَهْتَدِي إِلَى ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ. وَقِيلَ: فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنْ طَرِيقِ الْجَنَّةِ. وَقِيلَ: أَعْمَى الْبَصَرِ كَمَا قَالَ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً «١» وَقَوْلُهُ: وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً «٢». وَقِيلَ: مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا أَعْمَى عَنْ إِبْصَارِ الْحَقِّ وَالِاعْتِبَارِ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى عَنِ الِاعْتِذَارِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالظَّاهِرُ عِنْدِي أَنَّ الْإِشَارَةَ بِهَذِهِ إِلَى الدُّنْيَا أَيْ مَنْ كَانَ فِي دُنْيَاهُ هذِهِ وَقْتَ إِدْرَاكِهِ وَفَهْمِهِ أَعْمى عَنِ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللَّهِ فَهُوَ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ حَيْرَةً وَعَمًى لِأَنَّهُ قَدْ بَاشَرَ الْخَيْبَةَ وَرَأَى مَخَائِلَ الْعَذَابِ، وَبِهَذَا التَّأْوِيلِ تَكُونُ مُعَادِلَةً الَّتِي قَبْلَهَا مِنْ ذِكْرِ مَنْ يُؤْتَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. وَإِذَا جَعَلْنَا قَوْلَهُ فِي الْآخِرَةِ بِمَعْنَى فِي شَأْنِ الْآخِرَةِ لَمْ تَطَّرِدِ الْمُعَادَلَةُ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْأَعْمَى مُسْتَعَارٌ مِمَّنْ لَا يُدْرِكُ الْمُبْصَرَاتِ لِفَسَادِ حَاسَّتِهِ لِمَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى طَرِيقِ النَّجَاةِ، أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَلِفَقْدِ النَّظَرِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلِأَنَّهُ لَا يَنْفَعُهُ الِاهْتِدَاءُ إِلَيْهِ وَقَدْ جَوَّزُوا أَنْ يَكُونَ الثَّانِي بِمَعْنَى التَّفْضِيلِ. وَمِنْ ثَمَّ قَرَأَ أَبُو عمر الأول مما لا وَالثَّانِي مُفَخَّمًا لِأَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ تَمَامُهُ بِمِنْ فَكَانَتْ أَلِفُهُ فِي حُكْمِ الْوَاقِعَةِ فِي وَسَطِ الْكَلَامِ كَقَوْلِهِ أَعْمالُكُمْ «٣» وَأَمَّا الْأَوَّلُ فَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ فَكَانَتْ أَلِفُهُ وَاقِعَةً فِي الطَّرَفِ مُعَرَّضَةً لِلْإِمَالَةِ انْتَهَى. وَتَعْلِيلُهُ تَرْكُ إِمَالَةِ أَعْمَى الثَّانِي أَخَذَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنْ أَبِي عَلِيٍّ قَالَ أَبُو عَلِيٍّ:
لِأَنَّ الْإِمَالَةَ إِنَّمَا تَحْسُنُ في الأواخر، وأَعْمى لَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ تَقْدِيرَهُ أَعْمى من كذا
(٢) سورة طه: ٢٠/ ١٢٥.
(٣) سورة البقرة: ٢/ ١٣٩ وغيرها.
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لَا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا.
الضَّمِيرُ فِي وَإِنْ كادُوا قِيلَ لِقُرَيْشٍ. وَقِيلَ لِثَقِيفٍ، وَذَكَرُوا أَسْبَابَ نُزُولٍ مُخْتَلِفَةً وَفِي بَعْضِهَا مَا لَا يَصِحُّ نِسْبَتُهُ إِلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَيُوقَفُ عَلَى ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالزَّمَخْشَرِيِّ وَالتَّحْرِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا عَدَّدَ نِعَمَهُ عَلَى بَنِي آدَمَ ثُمَّ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الْآخِرَةِ مِنْ إِيتَاءِ الْكِتَابِ بِالْيَمِينِ لِأَهْلِ السَّعَادَةِ، وَمِنْ عَمَى أَهْلِ الشَّقَاوَةِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِمَا يَهُمُّ بِهِ الْأَشْقِيَاءَ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْمَكْرِ وَالْخِدَاعِ وَالتَّلْبِيسِ عَلَى سَيِّدِ أَهْلِ السَّعَادَةِ الْمَقْطُوعِ لَهُ بِالْعِصْمَةِ، وَمَعْنَى لَيَفْتِنُونَكَ لَيَخْدَعُونَكَ وَذَلِكَ فِي ظَنِّهِمْ لَا أَنَّهُمْ قَارَبُوا ذَلِكَ إِذْ هُوَ مَعْصُومٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنْ يُقَارِبُوا فِتْنَتَهُ عَمَّا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ، وَتِلْكَ الْمُقَارَبَةُ فِي زَعْمِهِمْ سَبَبُهَا رَجَاؤُهُمْ أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ مَا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ مِنْ تَبْدِيلِ الْوَعْدِ وَعِيدًا أَوِ الْوَعِيدِ وَعْدًا، وَمَا اقْتَرَحَتْهُ ثَقِيفٌ مِنْ أَنْ يُضِيفَ إِلَى اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ عليه وإِنْ هَذِهِ هِيَ الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَلِيَتْهَا الْجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ وَهِيَ كادُوا لِأَنَّهَا مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ وَإِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى مَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ مِنَ الْأَفْعَالِ عَلَى النَّوَاسِخِ الَّتِي لِلْإِثْبَاتِ عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ النَّحْوِ، وَاللَّامُ فِي لَيَفْتِنُونَكَ هِيَ الْفَارِقَةُ بَيْنَ إِنْ هَذِهِ وَإِنِ النَّافِيَةِ وَإِذاً حَرْفُ جَوَابٍ وَجَزَاءٍ، وَيُقَدَّرُ قَسَمٌ هُنَا تَكُونُ لَاتَّخَذُوكَ جَوَابًا لَهُ، وَالتَّقْدِيرُ وَاللَّهِ إِذاً أَيْ إِنِ افْتُتِنْتَ وَافْتَرَيْتَ لَاتَّخَذُوكَ ولا اتخذوك فِي مَعْنَى لَيَتَّخِذُونَكَ كَقَوْلِهِ وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا «١» أَيْ لَيَظَلُّنَّ لِأَنَّ إِذاً تَقْتَضِي الِاسْتِقْبَالَ لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى جزءا فَيُقَدَّرُ مَوْضِعُهَا بِأَدَاةِ الشَّرْطِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ أَيْ وَلَوِ اتَّبَعْتَ مُرَادَهُمْ لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا
وَمَا نُؤَخِّرُهُ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ انْتَهَى.
وَجَوَابُ لَوْلا يَقْتَضِي إِذَا كَانَ مُثْبَتًا امْتِنَاعَهُ لِوُجُودِ مَا قَبْلَهُ، فَمُقَارَبَةُ الرُّكُونِ لَمْ تَقَعْ مِنْهُ فَضْلًا عَنِ الرُّكُونِ وَالْمَانِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ وُجُودُ تَثْبِيتِ اللَّهِ. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي إِسْحَاقَ وَابْنُ مُصَرِّفٍ: تَرْكَنُ بِضَمِّ الْكَافِ مُضَارِعُ رَكَنَ بِفَتْحِهَا وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَصْدَرِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ: يُرِيدُ ضِعْفَ عَذَابِ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ عَذَابِ الْمَمَاتِ عَلَى مَعْنَى أَنَّ مَا يَسْتَحِقُّهُ مَنْ أَذْنَبَ مِنْ عُقُوبَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ كُنَّا نُضَعِّفُهُ. وَذَهَبَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ إِلَى أَنَّ الْمَعْنَى لَقَدْ كَادَ أَنْ يُخْبِرُوا عَنْكَ أَنَّكَ رَكَنْتَ إِلَى قَوْلِهِمْ بِسَبَبِ فِعْلِهِمْ إِلَيْهِ مَجَازًا وَاتِّسَاعًا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: كِدْتَ تَقْتُلُ نَفْسَكَ أَيْ كَادَ النَّاسُ يَقْتُلُونَكَ بِسَبَبِ مَا فَعَلْتَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا
، وَلَكِنَّ هَذَا تَعْرِيفٌ لِلْأُمَّةِ لِئَلَّا يَرْكَنَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى وَشَرَائِعِهِ انْتَهَى. وَاللَّامُ فِي لَأَذَقْناكَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ قَبْلَ إِذاً أَيْ وَاللَّهِ إِنْ حَصَلَ رُكُونٌ لَيَكُونَنَّ كَذَا، وَالْقَوْلُ فِي لَأَذَقْناكَ كَالْقَوْلِ فِي لَاتَّخَذُوكَ مِنْ وُقُوعِ الْمَاضِي مَوْضِعَ الْمُضَارِعِ الدَّاخِلِ عليه
وَرُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ لَا تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ».
قَالَ حَضْرَمِيٌّ: الضَّمِيرُ فِي وَإِنْ كادُوا لِيَهُودِ الْمَدِينَةِ وَنَاحِيَتِهَا كَحُيِّي بْنِ أَخْطَبَ وَغَيْرِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ ذَهَبُوا إِلَى الْمَكْرِ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالُوا: إِنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ لَيْسَتْ بِأَرْضِ الْأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّمَا أَرْضُ الْأَنْبِيَاءِ الشَّامُ، وَلَكِنَّكَ تَخَافُ الرُّومَ فَإِنْ كُنْتَ نَبِيًّا فَاخْرُجْ إِلَيْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيَحْمِيكَ كَمَا حَمَى غَيْرَكَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَنَزَلَتْ
، وَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ لَمْ يُلْبِثْهُمْ بَعْدُ إِلَّا قَلِيلًا.
وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّهُ خَرَجَ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ وَعَسْكَرَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ وَأَقَامَ يَنْتَظِرُ أَصْحَابَهُ فَنَزَلَتْ وَرَجَعَ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ لَمْ يَقَعْ فِي سِيرَةٍ وَلَا فِي كِتَابٍ يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ، وَذُو الْحُلَيْفَةِ لَيْسَ فِي طَرِيقِ الشَّامِ مِنَ الْمَدِينَةِ انْتَهَى.
وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: الضَّمِيرُ لِقُرَيْشٍ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ، وَاسْتِفْزَازُهُمْ هُوَ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ مِنْ إِخْرَاجِهِ مِنْ مَكَّةَ كَمَا ذَهَبُوا إِلَى حَصْرِهِ فِي الشِّعْبِ، وَوَقَعَ اسْتِفْزَازُهُمْ هَذَا بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ وَضَيَّقُوا عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ وَاتَّبَعُوهُ إِلَى الْغَارِ وَنَفَذَ عَلَيْهِمُ الْوَعِيدُ فِي أن لم يلبثوا خلفه إِلَّا قَلِيلًا يَوْمَ بَدْرٍ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ حَاكِيًا أَنَّ اسْتِفْزَازَهُمْ مَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي دَارِ النَّدْوَةِ مِنْ قَتْلِهِ وَالْأَرْضُ عَلَى هَذَا الدُّنْيَا. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: ذَهَبَتْ قُرَيْشٌ إِلَى هَذَا وَلَكِنَّهُ لَمْ يَقَعْ مِنْهَا لِأَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ تَعَالَى اسْتِبْقَاءَ قريش وأن لا يستأصلهما أَذِنَ لِرَسُولِهِ فِي الْهِجْرَةِ فَخَرَجَ بِإِذْنِهِ لَا بِقَهْرِ قُرَيْشٍ، وَاسْتُبْقِيَتْ قُرَيْشٌ لِيُسْلِمَ مِنْهَا وَمِنْ أَعْقَابِهَا مَنْ أَسْلَمَ قَالَ: وَلَوْ أَخْرَجَتْهُ قُرَيْشٌ لَعُذِّبُوا. ذَهَبَ مُجَاهِدٌ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يَلْبَثُونَ لِجَمِيعِهِمْ. وَقَالَ الْحَسَنُ: لَيَسْتَفِزُّونَكَ لَيَفْتِنُونَكَ عَنْ رَأْيِكَ. وَقَالَ ابْنُ عِيسَى: لَيُزْعِجُونَكَ وَيَسْتَخِفُّونَكَ. وَأَنْشَدَ:
يُطِيعُ سَفِيهَ الْقَوْمِ إِذْ يَسْتَفِزُّهُ | وَيَعْصِي حَلِيمًا شَيَّبَتْهُ الْهَزَاهِزُ |
وَفِي الْحَدِيثِ: «يَا لَيْتَنِي كُنْتُ فِيهَا جَذَعًا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ قَالَ: أَوَ مُخْرِجِيَّ هُمْ» ؟
الْحَدِيثَ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ. لَكِنَّ الْإِخْرَاجَ الَّذِي هُوَ عِلَّةُ لِلِاسْتِفْزَازِ لَمْ يَقَعْ فَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ وَالْحَدِيثِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مَا خَرَجَ بِسَبَبِ إِخْرَاجِهِمْ وَإِنَّمَا خَرَجَ بِأَمْرِ اللَّهِ فَزَالَ التَّنَاقُضُ انْتَهَى.
وَلَا يَلْبَثُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَاللَّهِ إِنِ اسْتَفَزُّوكَ فَخَرَجْتَ لَا يَلْبَثُونَ وَلِذَلِكَ لَمْ تَعْمَلْ إِذاً لِأَنَّهَا تَوَسَّطَتْ بَيْنَ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ، وَالْفِعْلِ فَلَا يَلْبَثُونَ لَيْسَتْ مُنْصَبَّةً عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ الْإِعْرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لَا يَلْبَثُونَ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْمَعْنَى تقديره، وهم إِذاً لَا يَلْبَثُونَ فَوَقَعَتْ إِذًا بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ فَأُلْغِيَتْ. وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا بِحَذْفِ النُّونِ أَعْمَلَ إِذًا فَنَصَبَ بِهَا عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ، وَبِأَنْ مُضْمَرَةٍ بَعْدَهَا عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ وَكَذَا هِيَ فِي مُصْحَفِ عَبْدِ اللَّهِ مَحْذُوفَةُ النُّونِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: مَا وَجْهُ الْقِرَاءَتَيْنِ؟ قُلْتُ: أَمَّا الشَّائِعَةُ فَقَدْ عَطَفَ فِيهَا الْفِعْلَ عَلَى الْفِعْلِ وَهُوَ مَرْفُوعٌ لِوُقُوعِهِ خَبَرَ كَادَ، وَالْفِعْلُ فِي خَبَرِ كَادَ وَاقِعٌ مَوْقِعَ الِاسْمِ. وَأَمَّا قِرَاءَةُ أُبَيٍّ فَفِيهَا الْجُمْلَةُ بِرَأْسِهَا الَّتِي هِيَ وَإِذًا لَا يَلْبَثُوا عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ انْتَهَى. وَقَرَأَ عَطَاءٌ لَا يَلْبَثُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْبَاءِ مُشَدَّدَةٍ. وَقَرَأَ يَعْقُوبُ كَذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ كَسَرَ الْبَاءَ. وَقَرَأَ الْأَخَوَانِ وَابْنُ عَامِرٍ وَحَفْصٌ خِلافَكَ وَبَاقِي السَّبْعَةِ خَلْفَكَ وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ. قَالَ الشَّاعِرُ:
عَفَتِ الدِّيَارُ خِلَافَهُمْ فَكَأَنَّمَا | بَسَطَ الشَّوَاطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرًا |
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٨١.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: سُنَّةَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ سَنَنَّا بِكَ سُنَّةَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولًا بِهِ أَيِ اتَّبِعْ سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «١» انْتَهَى. وَهَذَا مَعْنًى غَيْرُ الْأَوَّلِ وَالْمُفَسِّرُونَ عَلَى الْأَوَّلِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لمعنى الآية قبلها وَلا تَجِدُ لِمَا أَجْرَيْنَا بِهِ الْعَادَةَ تَحْوِيلًا مِنْهُ إِلَى غيره إذا كُلُّ حَادِثٍ لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ وَصِفَةٌ مُعَيَّنَةٌ وَنَفْيُ الْوِجْدَانِ هُنَا وَفِيمَا أَشْبَهَهُ معناه نفي الوجود.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ١١١]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢)
أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧)
وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩) قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
هَذَا مَقَامُ قَدَمَيْ رَبَاحٍ | غُدْوَةً حَتَّى دَلَكَتْ بَرَاحُ |
مَصَابِيحُ لَيْسَتْ بِاللَّوَاتِي يَقُودُهَا | نُجُومٌ وَلَا بِالْآفِلَاتِ الدَّوَالِكِ |
إِنَّ هَذَا اللَّيْلَ قَدْ غَسَقَا | وَاشْتَكَيْتُ الْهَمَّ وَالْأَرَقَا |
ظَلَّتْ تَجُودُ يَدَاهَا وَهِيَ لَاهِيَةٌ | حَتَّى إِذَا جَنَحَ الْإِظْلَامُ وَالْغَسَقُ |
أَلَا زَارَتْ وَأَهْلُ منى هجود | وليت خيالنا منا يَعُودُ |
أَلَا طَرَقَتْنَا وَالرِّفَاقُ هُجُودُ وَقَالَ آخر:
وَبَرْكٍ هُجُودٍ قَدْ أَثَارَتْ مَخَافَتِي زَهَقَتْ نَفْسُهُ تَزْهَقُ زُهُوقًا ذَهَبَتْ، وَزَهَقَ الْبَاطِلُ زَالَ وَاضْمَحَلَّ، وَلَمْ يَثْبُتْ. قَالَ الشَّاعِرُ:
وَلَقَدْ شَفَى نَفْسِي وَأَبْرَأَ سَقَمَهَا | إِقْدَامُهُ مُزَالَةً لَمْ تَزْهَقِ |
أَنْتَ الَّذِي كَلَّفْتَنِي رَقْيَ الدَّرَجْ | عَلَى الْكَلَالِ وَالْمَشِيبِ وَالْعَرَجْ |
أَمِنْ زَيْنَبَ ذِي النَّارِ قُبَيْلَ الصُّبْحِ
مَا تخبو إذا ما أخمدت ألقى عَلَيْهَا الْمَنْدَلُ الرَّطْبُ وَقَالَ آخر:
وسطه كالبراع أَوْ سَرْجِ الْمَجْدَلِ | طُورًا يَخْبُو وَطُورًا يُنِيرُ |
إِذَا جَارَى الشَّيْطَانَ فِي سَنَنِ الْغَيِّ | وَمَنْ مَالَ مِثْلُهُ مَثْبُورُ |
فَخَرُّوا لِأَذْقَانِ الْوُجُوهِ تَنُوشُهُمْ | سِبَاعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْعَوَادِي وَتَنْتِفُ |
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي
وَمُنَاسَبَةُ أَقِمِ الصَّلاةَ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا ذَكَرَ كَيْدَهُمْ لِلرَّسُولِ وَمَا كَانُوا يَرُومُونَ بِهِ، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُقْبِلَ عَلَى شَأْنِهِ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّهِ وَأَنْ لَا يَشْغَلَ قَلْبَهُ بِهِمْ، وَكَانَ قَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي الْإِلَهِيَّاتِ وَالْمَعَادِ وَالنُّبُوَّاتِ، فَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِالْأَمْرِ بِأَشْرَفِ الْعِبَادَاتِ وَالطَّاعَاتِ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي إِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالْمُوَاجَهُ بِالْأَمْرِ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَاللَّامُ فِي لِدُلُوكِ قَالُوا: بِمَعْنَى بَعْدَ أَيْ بَعْدَ دُلُوكِ الشَّمْسِ كَمَا قَالُوا ذَلِكَ فِي قَوْلِ مُتَمِّمِ بْنِ نُوَيْرَةَ يَرْثِي أَخَاهُ مَالِكًا:
فَلَمَّا تَفَرَّقْنَا كَأَنِّي وَمَالِكًا | لِطُولِ اجْتِمَاعٍ لَمْ نَبِتْ لَيْلَةً مَعًا |
فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَأَبُو بُرْدَةَ وَالْحَسَنُ وَالْجُمْهُورُ: دُلُوكُ الشَّمْسِ زَوَالُهَا، وَالْإِشَارَةُ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَغَسَقُ اللَّيْلِ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أُرِيدَ بِهِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا تَعُمُّ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ.
وَرَوَى ابْنُ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ حِينَ زَالَتْ فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ».
وَرَوَى جَابِرٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنْ عِنْدِهِ وَقَدْ طَعِمَ وَزَالَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: «اخْرُجْ يَا أَبَا بَكْرٍ فَهَذَا حِينَ دَلَكَتِ الشَّمْسُ».
وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَزَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ: دُلُوكُ الشَّمْسِ غُرُوبُهَا وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى الْمَغْرِبِ وغَسَقِ اللَّيْلِ ظُلْمَتُهُ فَالْإِشَارَةُ إِلَى الْعَتَمَةِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الصُّبْحِ، وَلَمْ تَقَعْ إِشَارَةٌ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إِلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ انْتَهَى.
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ الْغُرُوبُ،
وَتَتَعَلَّقُ اللَّامُ وَإِلَى بِأَقِمْ، فَتَكُونُ إِلَى غَايَةٍ لِلْإِقَامَةِ. وَأَجَازَ أَبُو الْبَقَاءِ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الصَّلَاةِ قَالَ: أَيْ مَمْدُودَةٌ وَيَعْنِي بِقُرْآنِ الْفَجْرِ صَلَاةَ الصُّبْحِ، وَخُصَّتْ بِالْقُرْآنِ وَهُوَ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّهُ عِظَمُهَا إِذْ قِرَاءَتُهَا طَوِيلَةٌ مَجْهُورٌ بِهَا، وَانْتَصَبَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ عَطْفًا عَلَى الصَّلاةَ.
وَقَالَ الْأَخْفَشُ: انْتَصَبَ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ تَقْدِيرُهُ وَآثِرْ قُرْآنَ الْفَجْرِ أَوْ عَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ انْتَهَى. وَسُمِّيَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ بِبَعْضِ مَا يَقَعُ فِيهَا. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سُمِّيَتْ صَلَاةُ
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ فِي قَوْلِهِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَتِمُّ إِلَّا بِالْقِرَاءَةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا قِرَاءَةَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ وَاجِبَةٌ إِلَّا فِي الصَّلَاةِ وَمَنْ قَالَ مَعْنَى وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صَلَاةُ الْفَجْرِ غَلِطَ لِأَنَّهُ صَرَفَ الْكَلَامَ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الْمَجَازِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ، وَلِأَنَّ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ وَيَسْتَحِيلُ التَّهَجُّدُ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ لَيْلًا. وَالْهَاءُ فِي بِهِ كِنَايَةٌ عَنْ قُرْآنَ الْفَجْرِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ، فَثَبَتَ أَنَّ الْمُرَادَ حَقِيقَةُ الْقُرْآنِ لَا مَكَانُ التَّهَجُّدِ بِالْقُرْآنِ الْمَقْرُوءِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَاسْتِحَالَةُ التَّهَجُّدِ فِي اللَّيْلِ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، وَعَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مَا ذَكَرُوا لَكَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى وُجُوبِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّهُ لَمْ تُجْعَلِ الْقِرَاءَةُ عِبَارَةً عَنِ الصَّلَاةِ إِلَّا وَهِيَ مِنْ أَرْكَانِهَا انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ وَالظَّاهِرُ نَدْبِيَّةُ إِيقَاعِ صَلَاةِ الصُّبْحِ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِيقَاعِ قُرْآنِ الْفَجْرِ، فَكَانَ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوَّلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، لَكِنَّ الْإِجْمَاعَ مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ فَبَقِيَ النَّدْبُ لِوُجُودِ الْمَطْلُوبِيَّةِ، فَإِذَا انْتَفَى وُجُوبُهَا بَقِيَ نَدْبُهَا وَأَعَادَ قُرْآنَ الْفَجْرِ فِي قَوْلِهِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَأْتِ مُضْمَرًا فَيَكُونُ أَنَّهُ عَلَى سَبِيلِ التَّعْظِيمِ وَالتَّنْوِيهِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ وَمَعْنَى مَشْهُوداً تَشْهَدُهُ الْمَلَائِكَةُ حَفَظَةُ اللَّيْلِ وَحَفَظَةُ النَّهَارِ كَمَا جَاءَ
فِي الْحَدِيثِ: «إِنَّهُمْ يَتَعَاقَبُونَ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَصَلَاةِ الْعَصْرِ».
وَهَذَا قَوْلُ الْجُمْهُورِ. وَقِيلَ يَشْهَدُهُ الْكَثِيرُ مِنَ الْمُصَلِّينَ فِي الْعَادَةِ. وَقِيلَ: مِنْ حَقِّهِ أَنْ تَشْهَدَهُ الْجَمَاعَةُ الْكَثِيرَةُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حَثًّا عَلَى طُولِ الْقِرَاءَةِ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ لِكَوْنِهَا مَكْثُورًا عَلَيْهَا لِيَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ فَيَكْثُرُ الثَّوَابُ، وَلِذَلِكَ كَانَتِ الْفَجْرُ أَطْوَلَ الصَّلَوَاتِ قِرَاءَةً انْتَهَى. وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ حَثًّا أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَعَلَيْكَ قُرْآنَ الْفَجْرِ أَوْ وَالْزَمْ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ عَسْكَرٍ: مَشْهُوداً يَشْهَدُهُ اللَّهُ وَمَلَائِكَتُهُ، وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي
قَوْلِهِ فِيهِ: «يَشْهَدُهُ مَلَائِكَةُ اللَّيْلِ وَمَلَائِكَةُ النَّهَارِ». وَقَالَ فِيهِ التِّرْمِذِيُّ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ لِلْوَقْتِ الْمَذْكُورِ وَلَمْ يَدُلَّ أَمْرُهُ تَعَالَى إِيَّاهُ عَلَى اخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ دُونَ أُمَّتِهِ ذَكَرَ مَا اخْتَصَّهُ بِهِ تَعَالَى وَأَوْجَبَهُ عَلَيْهِ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ وَهُوَ فِي أُمَّتِهِ تَطَوُّعٌ.
فَقَالَ: وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أَيْ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ نافِلَةً زِيَادَةً مَخْصُوصًا بِهَا أَنْتَ وَتَهَجَّدَ هُنَا تَفَعَّلَ بِمَعْنَى الْإِزَالَةِ وَالتَّرْكِ، كَقَوْلِهِمْ: تَأَثَّمَ وَتَحَنَّثَ تَرَكَ التَّأَثُّمَ وَالتَّحَنُّثَ، وَمِنْهُ تَحَنَّثْتُ بِغَارِ حِرَاءَ أَيْ بِتَرْكِ التَّحَنُّثِ، وَشُرِحَ بِلَازِمِهِ وَهُوَ التَّعَبُّدُ وَمِنَ لِلتَّبْعِيضِ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: مِنَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ تَقْدِيرُهُ وَاسْهَرْ مِنَ اللَّيْلِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ:
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ وَقُمْ بَعْدَ نَوْمَةٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمِنَ لِلتَّبْعِيضِ التَّقْدِيرُ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ أَيْ وَقُمْ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمِنَ اللَّيْلِ وَعَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ وَالتَّهَجُّدُ تَرْكُ الْهُجُودِ لِلصَّلَاةِ انْتَهَى. فَإِنْ كَانَ تَفْسِيرُهُ وَعَلَيْكَ بَعْضَ اللَّيْلِ تَفْسِيرَ مَعْنًى فَيَقْرُبُ، وَإِنْ كَانَ أَرَادَ صِنَاعَةَ النَّحْوِ وَالْإِعْرَابِ فَلَا يَصِحُّ لِأَنَّ الْمُغْرَى بِهِ لَا يَكُونُ حَرْفًا، وَتَقْدِيرُ مِنْ بِبَعْضٍ فِيهِ مُسَامَحَةٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُرَادِفِهِ أَلْبَتَّةَ، إِذْ لَوْ كَانَ مُرَادِفَهُ لَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ اسْمًا وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ، أَلَا تَرَى إِجْمَاعَ النَّحْوِيِّينَ عَلَى أَنَّ وَاوَ مَعَ حَرْفٌ وَإِنْ قُدِّرَتْ بِمَعَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي بِهِ يَعُودُ عَلَى الْقُرْآنِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الذِّكْرِ، وَلَا تُلْحَظُ الْإِضَافَةُ فِيهِ وَالتَّقْدِيرُ فَتَهَجَّدْ بِالْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ عَائِدٌ عَلَى وَقْتِ الْمُقَدَّرِ فِي وَقُمْ وَقْتًا مِنَ اللَّيْلِ انْتَهَى. فَتَكُونُ الْبَاءُ ظَرْفِيَّةً أَيْ فَتَهَجَّدْ فِيهِ وَانْتُصِبَ نافِلَةً. قَالَ الْحَوْفِيُّ: عَلَى الْمَصْدَرِ أَيْ نَفَّلْنَاكَ نَافِلَةً قَالَ: وَيَجُوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ نافِلَةً بِتَهَجَّدْ إِذَا ذَهَبْتَ بِذَلِكَ إِلَى مَعْنَى صَلِّ بِهِ نَافِلَةً أَيْ صَلِّ نَافِلَةً لَكَ.
وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: فِيهِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى تَهَجَّدْ أَيْ تَنَفَّلْ نفلا ونافِلَةً هُنَا مَصْدَرٌ كَالْعَاقِبَةِ وَالثَّانِي هُوَ حَالٌ أَيْ صَلَاةُ نَافِلَةٍ انْتَهَى. وَهُوَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي بِهِ وَيَكُونُ عَائِدًا عَلَى الْقُرْآنِ لَا عَلَى وَقْتِ الَّذِي قَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وَقَالَ الْأَسْوَدُ وَعَلْقَمَةُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْأَسْوَدِ وَالْحَجَّاجُ بْنُ عَمْرٍو: التَّهَجُّدُ بَعْدَ نَوْمَةٍ. وَقَالَ الْحَسَنُ: مَا كَانَ بَعْدَ الْعِشَاءِ الْآخِرَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: نافِلَةً زِيَادَةً لَكَ فِي الْفَرْضِ وَكَانَ قِيَامُ اللَّيْلِ فَرْضًا عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي التَّنَفُّلِ وَالْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ
وَمِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: رَمَقَ صَلَاتَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَيْلَةً فَصَلَّى بِالْوَتْرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً.
وَعَنْ عَائِشَةَ: أَنَّهُ مَا كَانَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عشرة ركعة.
وعَسى مَدْلُولُهَا فِي الْمَحْبُوبَاتِ التَّرَجِّي. فَقِيلَ: هِيَ عَلَى بَابِهَا فِي التَّرَجِّي تَقْدِيرُهُ لِتَكُنْ عَلَى رَجَاءٍ مِنْ أَنْ يَبْعَثَكَ. وَقِيلَ هِيَ بِمَعْنَى كَيْ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هَذَا تَفْسِيرَ مَعْنًى، وَالْأَجْوَدُ أَنَّ أَنْ هَذِهِ التَّرَجِّيَةُ وَالْإِطْمَاعُ بِمَعْنَى الْوُجُوبِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ: فَتَهَجَّدْ وعَسى هُنَا تَامَّةٌ وفاعلها أَنْ يَبْعَثَكَ، ورَبُّكَ فاعل بيبعثك ومَقاماً الظاهر أنه معمول لِيَبْعَثَكَ هُوَ مَصْدَرٌ مِنْ غَيْرِ لَفْظِ الْفِعْلِ لِأَنَّ يَبْعَثَكَ بِمَعْنَى يُقِيمُكَ تَقُولُ أُقِيمَ مِنْ قَبْرِهِ وَبُعِثَ مِنْ قَبْرِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِ أَيْ فِي مَقَامٍ مَحْمُودٍ. وَقِيلَ: مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ ذَا مَقَامٍ. وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ التَّقْدِيرُ فَتَقُومُ مَقاماً وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَسى هُنَا نَاقِصَةً، وَتَقَدَّمَ الْخَبَرُ عَلَى الِاسْمِ فَيَكُونُ رَبُّكَ مرفوعا اسم عَسى وأَنْ يَبْعَثَكَ الْخَبَرُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ بِهَا إِلَّا فِي هَذَا الْإِعْرَابِ الْأَخِيرِ. وَأَمَّا فِي قَبْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ مَقاماً مَنْصُوبٌ بِيَبْعَثَكَ ورَبُّكَ مَرْفُوعٌ بِعَسَى فَيَلْزَمُ الْفَصْلُ بِأَجْنَبِيٍّ بَيْنَ مَا هُوَ موصول وبين مَعْمُولِهِ. وَهُوَ لَا يَجُوزُ.
وَفِي تَفْسِيرِ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ أَقْوَالٌ:
أَحَدُهَا: أَنَّهُ فِي أَمْرِ الشَّفَاعَةِ الَّتِي يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحِ وَهِيَ عِدَةٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَفِي هَذِهِ الشَّفَاعَةِ يَحْمَدُهُ أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ
وَفِي دُعَائِهِ الْمَشْهُورِ: «وَابْعَثْهُ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي وَعَدْتَهُ»
وَاتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ الشَّفَاعَةُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ فِي أَمْرِ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ فِي إِخْرَاجِهِ لِمُذْنِبِهِمْ مِنَ النَّارِ، وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ لَا تَكُونُ إِلَّا بَعْدَ الْحِسَابِ وَدُخُولِ الْجَنَّةِ وَدُخُولِ النَّارِ، وَهَذِهِ لَا يَتَدَافَعُهَا الْأَنْبِيَاءُ بَلْ يَشْفَعُونَ وَيَشْفَعُ الْعُلَمَاءُ.
وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ هَذِهِ الشَّفَاعَةِ وَفِي آخِرِهِ: «حَتَّى لَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ
أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ. قَالَ: ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ: «الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمَقَامُ الَّذِي أَشْفَعُ فِيهِ لِأُمَّتِي»
فَظَاهِرُ هَذَا الْكَلَامِ تَخْصِيصُ شَفَاعَتِهِ لِأُمَّتِهِ، وَقَدْ تَأَوَّلَهُ مَنْ حَمَلَ ذَلِكَ عَلَى الشَّفَاعَةِ الْعُظْمَى الَّتِي يَحْمَدُهُ بِسَبَبِهَا الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ لِأُمَّتِهِ وَغَيْرِهِمْ أَوْ يُقَالُ إِنَّ كُلَّ مَقَامٍ مِنْهُمَا مَحْمُودٌ.
الثَّالِثُ:
عَنْ حُذَيْفَةَ: يَجْمَعُ اللَّهُ النَّاسَ فِي صَعِيدٍ فَلَا تَتَكَلَّمُ نَفْسٌ فَأَوَّلُ مَدْعُوٍّ محمد صلى الله عليه وَسَلَّمَ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ»
وَالْمَهْدِيُّ مَنْ هَدَيْتَ وَعَبْدُكَ بَيْنَ يَدَيْكَ وَبِكَ وَإِلَيْكَ لَا مَنْجَأَ وَلَا مَلْجَأَ إِلَّا إِلَيْكَ، تَبَارَكْتَ وَتَعَالَيْتَ سُبْحَانَكَ رَبَّ الْبَيْتِ. قَالَ:
فَهَذَا قَوْلُهُ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً.
الرَّابِعُ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مَعْنَى الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ الْمُقَامُ الَّذِي يَحْمَدُهُ الْقَائِمُ فِيهِ، وَكُلُّ مَنْ رَآهُ وَعَرَفَهُ وَهُوَ مُطْلَقٌ فِي كُلِّ مَا يَجْلِبُ الْحَمْدَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَرَامَاتِ انْتَهَى. وَهَذَا قَوْلٌ حَسَنٌ وَلِذَلِكَ نَكَّرَ مَقاماً مَحْمُوداً فَلَمْ يَتَنَاوَلْ مَقَامًا مَخْصُوصًا بَلْ كُلُّ مَقَامٍ مَحْمُودٍ صَدَقَ عَلَيْهِ إِطْلَاقُ اللَّفْظِ.
الْخَامِسُ: مَا قَالَتْ فِرْقَةٌ مِنْهَا مُجَاهِدٌ
وَقَدْ رُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ هُوَ أَنْ يُجْلِسَهُ اللَّهُ مَعَهُ عَلَى الْعَرْشِ.
وَذَكَرَ الطَّبَرِيُّ فِي ذَلِكَ حَدِيثًا وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنْ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيِّ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَنْكَرَ هَذَا الْحَدِيثَ فَهُوَ عِنْدَنَا مُتَّهَمٌ مَا زَالَ أَهْلُ الْعِلْمِ يُحَدِّثُونَ بِهَذَا. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَعْنِي مَنْ أَنْكَرَ جَوَازَهُ عَلَى تَأْوِيلِهِ. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو وَمُجَاهِدٌ:
إِنْ كَانَ أَحَدُ الْأَئِمَّةِ يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ فَإِنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ مَهْجُورَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَحَدُهُمَا هَذَا وَالثَّانِي فِي تَأْوِيلِ إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ «١» قَالَ: تَنْتَظِرُ الثَّوَابَ لَيْسَ مِنَ النَّظَرِ، وَقَدْ يُؤَوَّلُ قَوْلُهُ مَعَهُ عَلَى رَفْعِ مَحَلِّهِ وَتَشْرِيفِهِ عَلَى خَلْقِهِ كَقَوْلِهِ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «٢» وَقَوْلِهِ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً «٣» وإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ «٤» كُلُّ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنِ الْمَكَانَةِ لَا عَنِ الْمَكَانِ.
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: هَذَا الْقَوْلِ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَهُوَ قَوْلٌ رَذْلٌ مُوحِشٌ فَظِيعٌ لَا يَصِحُّ مِثْلُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَنَصُّ الْكِتَابِ يُنَادِي بِفَسَادِهِ مِنْ وجوه.
(٢) سورة الأعراف: ٧/ ٢٠٦.
(٣) سورة التحريم: ٦٦/ ١١.
(٤) سورة العنكبوت: ٢٩/ ٦٩. [.....]
الثَّانِي: لَوْ كَانَ جَالِسًا تَعَالَى عَلَى الْعَرْشِ لَكَانَ مَحْدُودًا مُتَنَاهِيًا فَكَانَ يَكُونُ مُحْدَثًا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ قَالَ مَقاماً وَلَمْ يَقُلْ مَقْعَدًا مَحْمُوداً، وَالْمَقَامُ مَوْضِعُ الْقِيَامِ لَا مَوْضِعُ الْقُعُودِ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحَمْقَى وَالْجُهَّالَ يَقُولُونَ إِنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ يَجْلِسُونَ كُلُّهُمْ مَعَهُ تَعَالَى وَيَسْأَلُهُمْ عَنْ أَحْوَالِهِمُ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا مَزِيَّةَ لَهُ بِإِجْلَاسِهِ مَعَهُ.
الْخَامِسُ: أَنَّهُ إِذَا قِيلَ بَعَثَ السُّلْطَانُ فُلَانًا لَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَجْلَسَهُ مَعَ نَفْسِهِ انْتَهَى. وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ.
وَلَمَّا أَمَرَهُ تَعَالَى بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ وَالتَّهَجُّدِ وَوَعَدَهُ بَعْثَهُ مَقاماً مَحْمُوداً وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ أَمَرَهُ بِأَنْ يَدْعُوَهُ بِمَا يَشْمَلُ أُمُورَهُ الدُّنْيَوِيَّةَ وَالْأُخْرَوِيَّةَ، فَقَالَ وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَوَارِدِهِ وَمَصَادِرِهِ دُنْيَوِيَّةً وَأُخْرَوِيَّةً، وَالصِّدْقُ هُنَا لَفْظٌ يَقْتَضِي رَفْعَ الْمَذَامِّ وَاسْتِيعَابَ الْمَدْحِ كَمَا تَقُولُ: رَجُلُ صِدْقٍ إِذْ هُوَ مُقَابِلُ رَجُلِ سُوءٍ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَقَتَادَةُ: هُوَ إِدْخَالٌ خَاصٌّ وَهُوَ فِي الْمَدِينَةِ، وَإِخْرَاجٌ خَاصٌّ وَهُوَ مِنْ مَكَّةَ. فَيَكُونُ الْمُقَدَّمُ فِي الذِّكْرِ هُوَ الْمُؤَخَّرُ فِي الْوُقُوعِ، وَمَكَانُ الْوَاوِ هو الأهم فبدىء بِهِ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَأَبُو صَالِحٍ: مَا مَعْنَاهُ إِدْخَالُهُ فِيمَا حَمَلَهُ مِنْ أَعْبَاءِ النُّبُوَّةِ وَأَدَاءِ الشَّرْعِ وَإِخْرَاجُهُ مِنْهُ مُؤَدِّيًا لِمَا كُلِّفَهُ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَدْخِلْنِي الْقَبْرَ مُدْخَلَ صِدْقٍ إِدْخَالًا مَرْضِيًّا عَلَى طَهَارَةٍ وَطِيبٍ مِنَ السَّيِّئَاتِ، وَأَخْرِجْنِي مِنْهُ عِنْدَ الْبَعْثِ إِخْرَاجًا مَرْضِيًّا مُلْقًى بِالْكَرَامَةِ آمِنًا مِنَ السُّخْطِ، يَدُلُّ عَلَيْهِ ذِكْرُهُ عَلَى ذِكْرِ الْبَعْثِ. وَقِيلَ: إِدْخَالُهُ مَكَّةَ ظَاهِرًا عَلَيْهَا بِالْفَتْحِ، وَإِخْرَاجُهُ مِنْهَا آمِنًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُنْكَدِرِ: إِدْخَالُهُ الْغَارَ وَإِخْرَاجُهُ مِنْهُ سَالِمًا. وَقِيلَ: الْإِخْرَاجُ مِنَ الْمَدِينَةِ وَالْإِدْخَالُ مَكَّةَ بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ:
الْإِدْخَالُ فِي الصَّلَاةِ وَالْإِخْرَاجُ مِنْهَا. وَقِيلَ: الْإِدْخَالُ فِي الْجَنَّةِ وَالْإِخْرَاجُ مِنْ مَكَّةَ. وَقِيلَ:
الْإِدْخَالُ فِيمَا أمر به الإخراج مِمَّا نَهَاهُ عَنْهُ. وَقِيلَ: أَدْخِلْنِي فِي بِحَارِ دَلَائِلِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ، وَأَخْرِجْنِي مِنَ الِاشْتِغَالِ بِالدَّلِيلِ إِلَى مَعْرِفَةِ الْمَدْلُولِ وَالتَّأَمُّلِ فِي آثَارِ مُحْدَثَاتِهِ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَحَدِ الْفَرْدِ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: حِينَ رَجَعَ مِنْ تَبُوكَ وَقَدْ قَالَ
وَقَرَأَ الجمهور: مُدْخَلَ ومُخْرَجَ بِضَمِّ مِيمِهِمَا وَهُوَ جَارٍ قِيَاسًا عَلَى أَفْعَلَ مَصْدَرٌ، نَحْوَ أَكْرَمْتُهُ مَكْرَمًا أَيْ إِكْرَامًا. وَقَرَأَ قَتَادَةُ وَأَبُو حَيْوَةَ وَحُمَيْدٌ وَإِبْرَاهِيمَ بْنَ أَبِي عَبْلَةَ بِفَتْحِهِمَا. وَقَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ: وَهُمَا مَصْدَرَانِ مَنْ دَخَلَ وَخَرَجَ لَكِنَّهُ جَاءَ مِنْ مَعْنَى أَدْخِلْنِي وَأَخْرِجْنِي الْمُتَقَدِّمَيْنِ دُونَ لَفْظِهِمَا وَمِثْلُهُمَا أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «٢» وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَا اسْمَ الْمَكَانِ وَانْتِصَابُهُمَا عَلَى الظَّرْفِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَنْصُوبَانِ مَصْدَرَيْنِ عَلَى تَقْدِيرِ فِعْلٍ أَيْ أَدْخِلْنِي فَأَدْخُلُ مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي فَأَخْرُجُ مُخْرَجَ صِدْقٍ.
وَالسُّلْطَانُ هُنَا قَالَ الْحَسَنُ: التَّسْلِيطُ عَلَى الْكَافِرِينَ بِالسَّيْفِ، وَعَلَى الْمُنَافِقِينَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ. وَقَالَ قَتَادَةُ: مُلْكًا عَزِيزًا تَنْصُرُنِي بِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ نَاوَأَنِي. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: حُجَّةٌ بَيِّنَةٌ.
وَقِيلَ: كِتَابًا يَحْوِي الْحُدُودَ وَالْأَحْكَامَ. وَقِيلَ: فَتْحُ مَكَّةَ. وَقِيلَ: فِي كُلِّ عَصْرٍ سُلْطاناً ينصر دينك ونَصِيراً مُبَالَغَةً فِي نَاصِرٍ. وَقِيلَ: فَعِيلٌ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، أَيْ مَنْصُورًا، وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ كُلُّهَا مُحْتَمِلَةٌ لِقَوْلِهِ سُلْطاناً نَصِيراً
وَرُوِيَ أَنَّهُ تَعَالَى وَعَدَهُ ذَلِكَ وَأَنْجَزَهُ لَهُ فِي حَيَاتِهِ وَتَمَّمَهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ.
قال قتادة: والْحَقُّ القرآن والْباطِلُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ:
الجهاد والْباطِلُ الشِّرْكُ. وَقِيلَ: الْإِيمَانُ وَالْكُفْرُ. وَقَالَ مُقَاتِلٌ: جَاءَتْ عِبَادَةُ اللَّهِ وَذَهَبَتْ عِبَادَةُ الشَّيْطَانِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَسْتَشْهِدُ بِهَا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ وَقْتَ طَعْنِهِ الْأَصْنَامَ وَسُقُوطِهَا لِطَعْنِهِ إِيَّاهَا بِمِخْصَرَةٍ حَسْبَمَا ذُكِرَ فِي السير. وزَهُوقاً صِفَةُ مُبَالَغَةٍ فِي اضْمِحْلَالِهِ وعلم ثُبُوتِهِ فِي وَقْتٍ مَا.
ومِنَ فِي مِنَ الْقُرْآنِ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقِيلَ لِلتَّبْعِيضِ قَالَهُ الْحَوْفِيُّ: وَأَنْكَرَ ذَلِكَ لِاسْتِلْزَامِهِ أَنَّ بَعْضَهُ لَا شِفَاءَ فِيهِ وَرُدَّ هَذَا الْإِنْكَارُ لِأَنَّ إِنْزَالَهُ إِنَّمَا هُوَ مُبَعَّضٌ. وَقِيلَ: لِبَيَانِ الْجِنْسِ قَالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنَ الَّتِي لِبَيَانِ الْجِنْسِ لَا تَتَقَدَّمُ عَلَى الْمُبْهَمِ الَّذِي تُبَيِّنُهُ وَإِنَّمَا تَكُونُ مُتَأَخِّرَةً عَنْهُ. وَقَرَأَ الجمهور: ونُنَزِّلُ بِالنُّونِ وَمُجَاهِدٌ بِالْيَاءِ خَفِيفَةً وَرَوَاهَا الْمَرْوَزِيُّ عَنْ حَفْصٍ. وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: شفاء ورحمة بنصبهما
(٢) سورة نوح: ٧١/ ١٧.
رَهْطُ ابن كوز محقي أَدْرَاعِهِمْ | فِيهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بْنِ حِذَارِ |
وَقِيلَ: شِفَاءٌ بِالرُّقَى وَالْعَوْذِ كَمَا جَاءَ فِي حَدِيثِ الَّذِي رَقِيَ بِالْفَاتِحَةِ مِنْ لَسْعَةِ الْعَقْرَبِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي النُّشْرَةِ وَهُوَ أَنْ يُكْتَبَ شَيْءٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَوْ مِنَ الْقُرْآنِ ثُمَّ يُغْسَلُ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُمْسَحُ بِهِ الْمَرِيضُ أَوْ يُسْقَاهُ، فَأَجَازَ ذَلِكَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ وَلَمْ يَرَهُ مُجَاهِدٌ.
وَعَنْ عَائِشَةَ: كَانَتْ تَقْرَأُ بِالْمُعَوِّذَتَيْنِ فِي إِنَاءٍ ثُمَّ تَأْمُرُ أَنْ يُصَبَّ عَلَى الْمَرِيضِ.
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْمَازِنِيُّ: النُّشْرَةُ أَمْرٌ مَعْرُوفٌ عِنْدَ أَهْلِ التَّعْزِيمِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهَا تنشر عن صاحبها أَيْ تَحُلُّ، وَمَنَعَهَا الْحَسَنُ وَالنَّخَعِيُّ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ أَنَّ الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ: «هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ».
وَيُحْمَلُ ذَلِكَ عَلَى مَا إِذَا كَانَتْ خَارِجَةً عَمَّا فِي كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ الرَّسُولِ، وَالنُّشْرَةُ مِنْ جِنْسِ الطِّبِّ فِي غُسَالَةِ شَيْءٍ لَهُ فَضْلٌ.
وَقَالَ مَالِكٌ: لَا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الْكُتُبِ الَّتِي فِيهَا أَسْمَاءُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى أَعْنَاقِ الْمَرْضَى عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا إِذَا لَمْ يُرِدُ مُعَلِّقُهَا بِذَلِكَ مُدَافَعَةَ الْعَيْنِ، وَهَذَا مَعْنَاهُ قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ بِهِ شَيْءٌ مِنَ الْعَيْنِ أَمَّا بَعْدُ نُزُولِ الْبَلَاءِ فَيَجُوزُ رَجَاءَ الْفَرَجِ وَالْبُرْءِ وَالْمَرَضُ كَالرُّقَى الْمُبَاحَةِ الَّتِي وَرَدَتِ السُّنَّةُ بِهَا مِنَ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ: يَجُوزُ تَعْلِيقُ الْعُوذَةِ فِي قَصَبَةٍ أَوْ رُقْعَةٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَيَضَعُهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَعِنْدَ الْغَائِطِ،
وَرَخَّصَ الْبَاقِرُ فِي الْعُوذَةِ تُعَلَّقُ عَلَى الصِّبْيَانِ
وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ لَا يَرَى بَأْسًا بِالشَّيْءِ مِنَ الْقُرْآنِ يُعَلِّقُهُ الْإِنْسَانُ.
وَخَسَارُ الظَّالِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ يَضَعُونَ الشَّيْءَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ هُوَ بِإِعْرَاضِهِمْ عَنْهُ وَعَدَمِ تَدَبُّرِهِ بِخِلَافِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ يَزْدَادُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وَتَدَبُّرِ مَعَانِيهِ إِيمَانًا.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تَنْوِيعَ مَا أَنْزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ شِفَاءً وَرَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِ وَبِزِيَادَةِ خسار للظالم، عرّض بِمَا أَنْعَمَ بِهِ وَمَا حَوَاهُ مِنْ لَطَائِفِ الشَّرَائِعِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَمَعَ ذَلِكَ أَعْرَضَ عَنْهُ وَبَعُدَ بِجَانِبِهِ اشْمِئْزَازًا لَهُ وَتَكَبُّرًا عَنْ قُرْبِ سَمَاعِهِ وَتَبْدِيلًا مَكَانَ شُكْرِ الْإِنْعَامِ كُفْرَهُ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: وَنَأى مِنَ النَّأْيِ وَهُوَ الْبُعْدُ، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَنَاءٍ. وَقِيلَ هُوَ مَقْلُوبٌ نَأَى فَمَعْنَاهُ بَعُدَ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ نَهَضَ بِجَانِبِهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
حَتَّى إِذَا مَا الْتَأَمَتْ مَفَاصِلُهُ | وَنَاءَ فِي شِقِّ الشِّمَالِ كَاهِلُهُ |
وَعَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ: لَمْ أَرَ فِي الْقُرْآنِ آيَةً أَرْجَى مِنَ الَّتِي فِيهَا غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ «٣» قَدَّمَ الْغُفْرَانَ قَبْلَ قَبُولِ التَّوْبَةِ. وَعَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ أر آية أرجى من نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ «٤».
وَعَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ وَرَضِيَ عَنْهُ لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ يَا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «٥» الْآيَةَ.
قَالُوا ذَلِكَ حِينَ تَذَاكَرُوا الْقُرْآنَ. وَعَنِ الْقُرْطُبِيِّ: لَمْ أَرَ آيَةً أَرْجَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «٦» الآية.
(٢) سورة المعارج: ٧٠/ ١٩.
(٣) سورة غافر: ٤٠/ ٣.
(٤) سورة الحجر: ١٥/ ٤٩.
(٥) سورة الزمر: ٣٩/ ٥٣.
(٦) سورة الأنعام: ٦/ ٨٢.
فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ: إِنِّي مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَرْثٍ بالمدينة وهو متكىء عَلَى عَسِيبٍ، فَمَرَّ بِنَا نَاسٌ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ فَسَيُفْتِيكُمْ بِمَا تَكْرَهُونَ فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْهُمْ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ مَا تَقُولُ فِي الرُّوحِ؟ فَسَكَتَ ثُمَّ مَاجَ فَأَمْسَكْتُ بِيَدِي عَلَى جَبْهَتِهِ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُنَزَّلُ عَلَيْهِ فأنزل عليه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الْآيَةَ.
وَرُوِيَ أَنَّ يَهُودَ قَالُوا لِقُرَيْشٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ وَعَنْ فِتْيَةٍ فُقِدُوا فِي أَوَّلِ الزَّمَانِ، وَعَنْ رَجُلٍ بَلَغَ شَرْقَ الْأَرْضِ وَغَرْبَهَا فَإِنْ أَجَابَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَوْ لَمْ يُجِبْ فِي شَيْءٍ فَهُوَ كَذَّابٌ، وَإِنْ أَجَابَ فِي بَعْضِ ذَلِكَ وَسَكَتَ عَنْ بَعْضٍ فَهُوَ نبي. وفي طُرُقِ هَذَا: إِنْ فَسَّرَ الثَّلَاثَةَ فَهُوَ كَذَّابٌ وَإِنْ سَكَتَ عَنِ الرُّوحِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَنَزَلَ فِي شَأْنِ الْفِتْيَةِ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ «١» وَنَزَلَ فِي شَأْنِ الَّذِي بَلَغَ الشَّرْقَ والغرب وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ «٢» وَنَزَلَ في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ وَالظَّاهِرُ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وَمِنْ سُؤَالِ قُرَيْشٍ أَنَّهَا مَكِّيَّةٌ، وَالرُّوحُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ هُنَا الرُّوحُ الَّتِي فِي الْحَيَوَانِ وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَالَ قَتَادَةُ: هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قال وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَكْتُمُهُ. وَقِيلَ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ
وَعَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ مَلَكٌ
، وَذَكَرَ مِنْ وَصْفِهِ مَا اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ وَلَا يَصِحُّ عَنْ عَلِيٍّ.
وَقِيلَ: الرُّوحُ الْقُرْآنُ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَةُ قَبْلَهُ وَالْآيَةُ بَعْدَهُ. وَقِيلَ: خَلْقٌ عَظِيمٌ رُوحَانِيٌّ أَعْظَمُ مِنَ الْمَلَكِ. وَقِيلَ: الرُّوحُ جُنْدٌ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ ذَكَرَهُ الْعَزِيزِيُّ. وَقَالَ أَبُو صَالِحٍ خَلْقٌ كَخَلْقِ آدَمَ وَلَيْسُوا بَنِي آدَمَ لَهُمْ أَيْدٍ وَأَرْجُلٌ، وَلَا يَنْزِلُ مَلَكٌ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا وَمَعَهُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنْ مَاهِيَّتِهَا وَحَقِيقَتِهَا وَقِيلَ عَنْ كَيْفِيَّةِ مُدَاخَلَتِهَا الْجَسَدَ الْحَيَوَانِيَّ وَانْبِعَاثِهَا فِيهِ وَصُورَةِ مُلَابَسَتِهَا لَهُ، وَكِلَاهُمَا مُشْكِلٌ لَا يَعْلَمُهُ قَبْلُ إِلَّا اللَّهُ. وَقَدْ رَأَيْتُ كِتَابًا يُتَرْجَمُ بِكِتَابِ النَّفْخَةِ وَالتَّسْوِيَةِ لِبَعْضِ الْفُقَهَاءِ الْمُتَصَوِّفَةِ يَذْكُرُ فِيهَا أَنَّ الْجَوَابَ فِي قَوْلِهِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي إِنَّمَا هُوَ لِلْعَوَامِّ، وَأَمَّا الْخَوَاصُّ فَهُمْ عِنْدَهُ يَعْرِفُونَ الرُّوحَ، وَأَجْمَعَ عُلَمَاءُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ الرُّوحَ مَخْلُوقَةٌ، وَذَهَبَ كَفَرَةُ الْفَلَاسِفَةِ وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَنْتَمِي إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنَّهَا قديمة
(٢) سورة الكهف: ١٨/ ٣٨.
وَقِيلَ: مِنْ وَحْيِ رَبِّي، وَكَلَامُهُ لَيْسَ مِنْ كَلَامِ الْبَشَرِ وَيَتَخَرَّجُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ أن الرُّوحَ هُنَا الْقُرْآنُ. وَقِيلَ: مِنْ عِلْمِ رَبِّي وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْخِطَابَ فِي وَما أُوتِيتُمْ هُمُ الَّذِينَ سَأَلُوا عَنِ الرُّوحِ وَهُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْيَهُودِ. وَقِيلَ الْيَهُودُ بِجُمْلَتِهِمْ. وَقِيلَ النَّاسُ كُلُّهُمْ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ لِأَنَّ قَوْلَهُ قُلِ الرُّوحُ إِنَّمَا هُوَ أَمْرٌ بِالْقَوْلِ لِجَمِيعِ الْعَالَمِ إِذْ جَمِيعُ عُلُومِهِمْ مَحْصُورَةٌ وَعِلْمُهُ تَعَالَى لَا يَتَنَاهَى. وَقَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَالْأَعْمَشُ: وَمَا أُوتُوا بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا عَلَى السَّائِلِينَ، وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا أَنْعَمَ بِهِ مِنْ تَنْزِيلِ الْقُرْآنِ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شِفَاءً وَرَحْمَةً وَقُدْرَتَهُ عَلَى ذَلِكَ، ذَكَرَ قُدْرَتَهُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِمَا أَوْحَى وَلَكِنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَشَأْ ذَلِكَ وَالْمَعْنَى أَنَّا كَمَا نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِنْزَالِهِ نَحْنُ قَادِرُونَ عَلَى إِذْهَابِهِ. وَقَالَ أَبُو سَهْلٍ: هَذَا تَهْدِيدٌ لِغَيْرِ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ بِإِذْهَابِ مَا أُوتُوا لِيَصُدَّهُمْ عَنْ سُؤَالِ مَا لَمْ يُؤْتَوْا كَعِلْمِ الرُّوحِ وَعِلْمِ السَّاعَةِ.
وَرُوِيَ لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَرْتَفِعَ الْقُرْآنُ وَالْحَدِيثُ
وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ يُسْرَى بِهِ فِي لَيْلَةٍ فَيَذْهَبُ بِمَا فِي الْمَصَاحِفِ وَبِمَا فِي الْقُلُوبِ
، ثُمَّ قَرَأَ عَبْدُ اللَّهِ وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ. وَقَالَ صَاحِبُ التَّحْرِيرِ:
وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ وَجْهٌ غَيْرُ مَا ذُكِرَ وَهُوَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ لَمَّا سُئِلَ عَنِ الرُّوحِ شَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَبَلَغَ مِنْهُ الْغَايَةَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَهْذِيبًا لَهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ أَيَعِزُّ عَلَيْكَ تَأَخُّرُ الْوَحْيِ فَإِنَّا لَوْ شِئْنَا ذَهَبْنَا بِمَا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ جَمِيعِهِ فَسَكَتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَطَابَ قَلْبُهُ وَلَزِمَ الْأَدَبَ انْتَهَى. وَالْبَاءُ فِي لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي لِلتَّعْدِيَةِ كَالْهَمْزَةِ وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ «٢» فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. وَالْكَفِيلُ هُنَا قِيلَ مَنْ يَحْفَظُ مَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ. وَقِيلَ كَفِيلًا بِإِعَادَتِهِ إِلَى الصُّدُورِ. وَقِيلَ كَفِيلًا يَضْمَنُ لَكَ أَنْ يُؤْتِيَكَ مَا أُخِذَ مِنْكَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْمَعْنَى أَنَّ شِئْنَا ذَهَبْنَا بِالْقُرْآنِ وَمَحَوْنَاهُ عَنِ الصُّدُورِ وَالْمَصَاحِفِ وَلَمْ نَتْرُكْ لَهُ أَثَرًا وَبَقِيتَ كَمَا كُنْتَ لَا تَدْرِي مَا الْكِتَابُ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهَذَا الذَّهَابِ مَنْ يَتَوَكَّلُ عَلَيْنَا بِاسْتِرْدَادِهِ وَإِعَادَتِهِ مَحْفُوظًا مَسْطُورًا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِلَّا أَنْ
(٢) سورة البقرة: ١٢/ ٢٠.
قَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تَمْنَعُ مِنْ أَنْ تُسْلَبَ الْقُرْآنَ، وَقَالَ فِي زَادِ الْمَسِيرِ الْمَعْنَى لَكِنَّ اللَّهَ يَرْحَمُكَ فَأَثْبَتُ ذَلِكَ فِي قَلْبِكَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ تُمْسِكَ ذَلِكَ عَلَيْكَ وَتَخْرِيجُ الزَّمَخْشَرِيِّ الْأَوَّلُ جَعَلَهُ اسْتِثْنَاءً مُتَّصِلًا جَعَلَ رَحْمَتَهُ تَعَالَى مُنْدَرِجَةً تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى وَكِيلًا.
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا.
لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى إِنْعَامَهُ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالنُّبُوَّةِ بإنزال وَحْيِهِ عَلَيْهِ وَبَاهِرَ قُدْرَتِهِ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَذَهَبَ بِالْقُرْآنِ، ذَكَرَ مَا مَنَحَهُ تَعَالَى مِنَ الدَّلِيلِ عَلَى نَبُّوتِهِ الْبَاقِي بَقَاءَ الدَّهْرِ، وَهُوَ الْقُرْآنُ الَّذِي عَجَزَ الْعَالَمُ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ، وَأَنَّهُ مِنْ أَكْبَرِ النِّعَمِ وَالْفَضْلِ الَّذِي أَبْقَى لَهُ ذِكْرًا إِلَى آخِرِ الدَّهْرِ وَرَفَعَ لَهُ قَدْرًا بِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَإِذَا كَانَ فُصَحَاءُ اللِّسَانِ الَّذِي نَزَلَ بِهِ وَبُلَغَاؤُهُمْ عَجَزُوا عَنِ الْإِتْيَانِ بِسُورَةٍ وَاحِدَةٍ مِثْلِهِ فَلَأَنْ يَكُونُوا أَعْجَزَ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ جَمِيعِهِ، وَلَوْ تَعَاوَنَ الثَّقَلَانِ عَلَيْهِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ الْجِنُّ تَفْعَلُ أَفْعَالًا مُسْتَغْرَبَةً كَمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قِصَّةِ سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أُدْرِجُوا مَعَ الْإِنْسِ فِي التَّعْجِيزِ لِيَكُونَ ذَلِكَ أَبْلَغَ فِي الْعَجْزِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْمَلَائِكَةُ مُنْدَرِجِينَ تَحْتَ لَفْظِ الْجِنِّ لِأَنَّهُ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِمْ هَذَا الِاسْمُ كَقَوْلِهِ وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً «١» وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ اسْتِعْمَالَهُ فِي غَيْرِ الْمَلَائِكَةِ مِنَ الْأَشْكَالِ الْجِنِّيَّةِ الْمُسْتَتِرِينَ عَنْ أَبْصَارِ الْإِنْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْجِنَّ هُنَا لِأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بُعِثَ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ فَوَقَعَ التَّعْجِيزُ لِلثَّقَلَيْنِ معا لذلك.
وَلَا يَأْتُونَ جَوَابُ الْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ قَبْلَ اللَّامِ الْمُوَطِّئَةِ فِي لَئِنِ وَهِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الشَّرْطِ كَقَوْلِهِ لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ «١» فَالْجَوَابُ فِي نَحْوِ هَذَا لِلْقَسَمِ الْمَحْذُوفِ لَا لِلشَّرْطِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ مَرْفُوعًا. فَأَمَّا قَوْلُ الْأَعْشَى:
لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْرَكَةٍ | لَأَتْلَفْنَا عَنْ دِمَاءِ الْقَوْمِ نَنْتَفِلُ |
عَلَامَ تَلْفِتِينَ وَأَنْتِ تَحْتِي وَفِي قَوْلِ جَرِيرٍ:
تَلْفِتُ إِنَّهَا تَحْتَ ابْنِ قَيْنٍ وَأَلَا تَرَى قَوْلَ الْأَعْرَابِيِّ: عَزَّ فَحَكَمَ فَقَطَعَ، وَأَلَا تَرَى إِلَى الِاسْتِدْلَالِ الْآخَرِ عَلَى الْبَعْثِ بِقَوْلِهِ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ «٢» فَقَالَ: إِنَّ الزِّيَارَةَ تَقْتَضِي الِانْصِرَافَ، وَمِنْهُ عَلِمَ بَشَّارٌ بِقَوْلِ أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ فِي شِعْرِ الْأَعْشَى:
وَأَنْكَرَتْنِي وَمَا كان الذي نكرت
(٢) سورة التكاثر: ١٠٢/ ٢.
مَنْ أَحْوَجَ الْكَرِيمَ أَنْ يُقْسِمَ فَهُمْ مَعَ هَذِهِ الْأَفْهَامِ أَقَرُّوا بِالْعَجْزِ، وَلَجَأَ النِّجَادُ مِنْهُمْ إِلَى السَّيْفِ وَرَضِيَ بِالْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَكَشْفِ الْحُرُمِ. وَهُوَ كَانَ يَجِدُ الْمَنْدُوحَةَ عَنْ ذَلِكَ بِالْمُعَارَضَةِ انْتَهَى. مَا اقْتَصَرْنَا عَلَيْهِ مِنْ كَلَامِهِ وَكَانَ قَدْ قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ قَوْلَهُ وَالْعَجْزُ فِي مُعَارَضَةِ الْقُرْآنِ إِنَّمَا وَقَعَ فِي النَّظْمِ، وَعِلَّةُ ذَلِكَ الْإِحَاطَةُ الَّتِي لَا يَتَّصِفُ بِهَا إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَالْبَشَرُ مُقَصِّرٌ ضَرُورَةً بِالْجَهْلِ وَالنِّسْيَانِ وَالْغَفْلَةِ وَأَنْوَاعِ النَّقْصِ، فَإِذَا نَظَمَ كَلِمَةً خَفِيَ عَنْهُ الْعِلَلُ الَّتِي ذَكَرْنَا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَلَا يَأْتُونَ جَوَابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، وَلَوْلَا اللَّامُ الْمُوَطِّئَةُ لَجَازَ أَنْ تَكُونَ جَوَابًا لِلشَّرْطِ. كَقَوْلِهِ:
يَقُولُ لَا غَائِبٌ مَالِي وَلَا حَرِمُ لِأَنَّ الشَّرْطَ وَقَعَ مَاضِيًا انْتَهَى. يَعْنِي بِالشَّرْطِ قَوْلَهُ وَهُوَ صَدْرُ الْبَيْتِ:
وَإِنْ أَتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْأَلَةٍ فَأَتَاهُ فِعْلٌ مَاضٍ دَخَلَتْ عَلَيْهِ أَدَاةُ الشَّرْطِ فَخَلَّصَتْهُ لِلِاسْتِقْبَالِ، وَأَفْهَمَ كَلَامُ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَقُولَ: وَإِنْ كَانَ مَرْفُوعًا هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ الَّذِي هُوَ وَإِنْ أَتَاهُ، وَهَذَا الَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ هُوَ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَلِمَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْمُبَرِّدِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ فِي مِثْلِ هَذَا التَّرْكِيبِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ الشَّرْطِ مَاضِيًا وَبَعْدَهُ مُضَارِعٌ مَرْفُوعٌ أَنَّ ذَلِكَ الْمُضَارِعَ هُوَ عَلَى نِيَّةِ التَّقْدِيمِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ، وَمَذْهَبُ الْكُوفِيِّينَ والمبرد أنه هو الْجَوَابُ لَكِنَّهُ عَلَى حَذْفِ الْفَاءِ، وَمَذْهَبٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ وَهُوَ الَّذِي قَالَ بِهِ الزَّمَخْشَرِيُّ وَالْكَلَامُ عَلَى هَذِهِ الْمَذَاهِبِ مَذْكُورٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالْعَجَبُ مِنَ الْمَذَاهِبِ وَمِنْ زَعْمِهِمْ أَنَّ الْقُرْآنَ قَدِيمٌ مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ مُعْجِزٌ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْمُعْجِزُ حَيْثُ تَكُونُ الْقُدْرَةُ فَيُقَالُ: اللَّهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْأَجْسَامِ وَالْعِبَادِ عَاجِزُونَ عَنْهُ، وَالْمُحَالُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلْقُدْرَةِ فِيهِ وَلَا مَدْخَلَ لَهَا فِيهِ كَثَانِي الْقَدِيمِ فَلَا يُقَالُ لِلْفَاعِلِ قَدْ عَجَزَ عَنْهُ وَلَا هُوَ مُعْجِزٌ، وَلَوْ قِيلَ ذَلِكَ لَجَازَ وَصْفُ اللَّهِ بِالْعَجْزِ لِأَنَّهُ لَا يُوصَفُ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْمُحَالِ إِلَّا أَنْ يُكَابِرُوا فَيَقُولُوا: هُوَ قَادِرٌ عَلَى الْمُحَالِ فَإِنَّ رَأْسَ مَالِهِمُ الْمُكَابَرَةُ وَقَلْبُ الْحَقَائِقِ انْتَهَى. وَتَكَرَّرَ لَفْظُ مِثْلِ فِي قَوْلِهِ: لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْكِيدِ
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى عَجْزَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ عَنْ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ نَبَّهَ عَلَى فَضْلِهِ تَعَالَى بِمَا رَدَّدَ فِيهِ وَضَرَبَ مِنَ الْأَمْثَالِ وَالْعِبَرِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى تَوْحِيدِهِ تَعَالَى، وَمَعَ كَثْرَةِ مَا رَدَّدَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ وَأَسْبَغَ مِنَ النِّعَمِ لَمْ يَكُونُوا إِلَّا كَافِرِينَ بِهِ وَبِنِعَمِهِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: صَرَّفْنا بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ وَالْحَسَنُ بِتَخْفِيفِهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَفْعُولَ صَرَّفْنا مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ الْبَيِّنَاتُ وَالْعِبَرُ ومِنْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مؤكدة زائدة التقدير وَلَقَدْ صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ انْتَهَى. يَعْنِي فَيَكُونُ مَفْعُولُ صَرَّفْنا كُلِّ مَثَلٍ وَهَذَا التَّخْرِيجُ هُوَ عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ وَالْأَخْفَشِ لَا عَلَى مَذْهَبِ جُمْهُورِ الْبَصْرِيِّينَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَثَلِ هُوَ الْقَوْلُ الْغَرِيبُ السَّائِرُ فِي الْآفَاقِ، وَالْقُرْآنُ مَلْآنُ مِنَ الْأَمْثَالِ الَّتِي ضَرَبَهَا اللَّهِ تَعَالَى.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنْ كُلِّ مَعْنًى هُوَ كَالْمَثَلِ فِي غَرَابَتِهِ وَحُسْنِهِ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ إِشَارَةٌ إِلَى التَّحَدِّي بِهِ بِالْجِهَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ كَالتَّحَدِّي بِكُلِّ الْقُرْآنِ كَالَّذِي هُنَا، وَبِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَبِكَلَامٍ مِنْ سُورَةٍ كَقَوْلِهِ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ «١» وَمَعَ ظُهُورِ عَجْزِهِمْ أَبَوْا إِلَّا كُفُوراً انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقِيلَ: مِنْ كُلِّ مَثَلٍ مِنَ التَّرْغِيبِ وَالتَّرْهِيبِ وَأَنْبَاءِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ وَذِكْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَأَكْثَرِ النَّاسِ. قِيلَ: مَنْ كَانَ فِي عَهْدِ الرَّسُولِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: أَهْلُ مَكَّةَ وَهُوَ الظَّاهِرُ بِدَلِيلِ مَا أَتَى بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي دُخُولِ إِلَّا بَعْدَ أَبَى فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ.
وَرُوِيَ فِي مَقَالَتِهِمْ هَذِهِ أَخْبَارٌ مُطَوَّلَةٌ هِيَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيَرِ مُلَخَّصُهَا أَنَّ صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ اجْتَمَعُوا وَسَيَّرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا جَاءَ إِلَيْهِمْ جَرَتْ بَيْنَهُمْ مُحَاوَرَاتٌ فِي تَرْكِ دِينِهِمْ وَطَلَبِهِ مِنْهُمْ أَنْ يُوَحِّدُوا وَيَعْبُدُوا اللَّهَ فَأَرْغَبُوهُ بِالْمَالِ وَالرِّئَاسَةِ وَالْمُلْكِ فَأَبَى، فَقَالَ: «لَسْتُ أَطْلُبُ ذَلِكَ».
فَاقْتَرَحُوا عَلَيْهِ السِّتَّ الْآيَاتِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّهُ هُنَا، وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ الْآيَةِ لِمَا قَبْلَهَا أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا تَحَدَّاهُمْ بِأَنَّ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ فَتَبَيَّنَ عَجْزُهُمْ عَنْ ذَلِكَ وَإِعْجَازُهُ، وَانْضَمَّتْ إِلَيْهِ مُعْجِزَاتٌ أُخَرُ وَبَيِّنَاتٌ وَاضِحَةٌ فَلَزِمَتْهُمُ الْحُجَّةُ وَغُلِبُوا أَخَذُوا يَتَعَلَّلُونَ بِاقْتِرَاحِ آيَاتِ فِعْلِ الْحَائِرِ الْمَبْهُوتِ الْمَحْجُوجِ، فَقَالُوا مَا حكاه الله عنهم.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: تُسْقِطَ بِتَاءِ الْخِطَابِ مُضَارِعُ أَسْقَطَ السَّمَاءَ نَصْبًا، وَمُجَاهِدٌ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ مُضَارِعُ سَقَطَ السَّمَاءُ رَفْعًا، وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ كِسَفاً بِسُكُونِ السِّينِ وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِفَتْحِهَا. وَقَوْلُهُمْ كَما زَعَمْتَ إِشَارَةٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «١». وَقِيلَ: كَما زَعَمْتَ إِنَّ رَبَّكَ إِنْ شَاءَ فَعَلَ. وَقِيلَ: هُوَ مَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْ قوله أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً «٢». قَالَ أَبُو عَلِيٍّ قَبِيلًا مُعَايَنَةً كَقَوْلِهِ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا «٣». وَقَالَ غَيْرُهُ: قَبِيلًا كَفِيلًا مِنْ تقبله بكذا إذا كَفَلَهُ، وَالْقَبِيلُ وَالزَّعِيمُ وَالْكَفِيلُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: قَبِيلًا كَفِيلًا بِمَا تَقُولُ شَاهِدًا لِصِحَّتِهِ، وَالْمَعْنَى أَوْ تَأْتِي بِاللَّهِ قَبِيلًا وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا كَقَوْلِهِ:
كُنْتُ مِنْهُ وَوَالِدِي بَرِّيًّا | وَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ |
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٦٨.
(٣) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢١.
وَقَدْ يُسَمَّى سَمَاءً كُلُّ مُرْتَفِعٍ | وَإِنَّمَا الْفَضْلُ حَيْثُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ |
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا كَانُوا يَقْصِدُونَ بِهَذِهِ الِاقْتِرَاحَاتِ إِلَّا الْعِنَادَ وَاللَّجَاجَ، وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ لَقَالُوا هَذَا سِحْرٌ كَمَا قَالَ عِزَّ وَعَلَا وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ «١» وَحِينَ أَنْكَرُوا. الْآيَةَ الْبَاقِيَةَ الَّتِي هِيَ الْقُرْآنُ وَسَائِرُ الْآيَاتِ، وَلَيْسَتْ بِدُونِ مَا اقْتَرَحُوهُ بَلْ هِيَ أَعْظَمُ لَمْ يَكُنِ انْتَهَى وَشَقُّ الْقَمَرِ أَعْظَمُ مِنْ شَقِّ الْأَرْضِ ونبع الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ أَعْظَمُ مِنْ نَبَعِ الْمَاءِ مِنَ الْحَجَرِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ قَالَ سُبْحانَ رَبِّي عَلَى الْخَبَرِ تَعَجَّبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ اقْتِرَاحَاتِهِمْ عَلَيْهِ، وَنَزَّهَ رَبَّهُ عَمَّا جَوَّزُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِتْيَانِ وَالِانْتِقَالِ وَذَلِكَ فِي حَقِّ اللَّهِ مُسْتَحِيلٌ هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً مِثْلَهُمْ رَسُولًا، وَالرُّسُلُ لَا تَأْتِي إِلَّا بِمَا يُظْهِرُهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْآيَاتِ وَلَيْسَ أَمْرُهَا إِلَيْهِمْ إِنَّمَا ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً
الظَّاهِرُ أَنَّ قوله: وَما مَنَعَ النَّاسَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ السَّبَبِ الضَّعِيفِ الَّذِي مَنَعَهُمْ مِنَ الْإِيمَانِ، إِذْ ظَهَرَ لَهُمُ الْمُعْجِزُ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ أَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ رَسُولًا إِلَى الْخَلْقِ وَاحِدًا مِنْهُمْ وَلَمْ يَكُنْ مَلَكًا، وَبَعْدَ أَنْ ظَهَرَ الْمُعْجِزُ فَيَجِبُ الْإِقْرَارُ وَالِاعْتِرَافُ بِرِسَالَتِهِ فَقَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ تَحَكُّمٌ فَاسِدٌ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَطِيَّةَ أَنَّ قَوْلَهُ وَما مَنَعَ النَّاسَ هُوَ مِنْ قَوْلِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى مَعْنَى التَّوْبِيخِ وَالتَّلَهُّفِ مِنَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ كَأَنَّهُ يَقُولُ مُتَعَجِّبًا مِنْهُمْ مَا شاء الله كان ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا هَذِهِ الْعِلَّةُ النَّزِرَةُ وَالِاسْتِبْعَادُ الَّذِي لَا يُسْنَدُ إِلَى حُجَّةٍ، وَبَعْثَةُ الْبَشَرِ رُسُلًا غَيْرُ بِدْعٍ وَلَا غَرِيبَ فِيهَا يَقَعُ الْإِفْهَامُ وَالتَّمَكُّنُ مِنَ النَّظَرِ كَمَا لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَسْكُنُونَهَا مُطْمَئِنِّينَ لَكَانَ الرَّسُولُ إِلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ لِيَقَعَ الْإِفْهَامُ، وَأَمَّا الْبَشَرُ فَلَوْ بُعِثَ إِلَيْهِمْ مَلَكٌ لَنَفَرَتْ طَبَائِعُهُمْ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَلَمْ تَحْتَمِلْهُ أَبْصَارُهُمْ وَلَا تَجَلَّدَتْ لَهُ قُلُوبُهُمْ، وَإِنَّمَا اللَّهُ أَجْرَى أَحْوَالَهُمْ عَلَى مُعْتَادِهَا انتهى.
وأَنْ يُؤْمِنُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ وأَنْ قالُوا: فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وإِذْ ظَرْفٌ الْعَامِلُ فِيهِ مَنَعَ والناس كَفَّارُ قُرَيْشٍ الْقَائِلُونَ تِلْكَ المقالات السابقة والْهُدى هُوَ الْقُرْآنُ وَمَنْ جَاءَ بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ مُجَرَّدَ الْقَوْلِ بَلْ قَوْلُهُمُ النَّاشِئُ عَنِ اعْتِقَادٍ وَالْهَمْزَةُ فِي أَبَعَثَ للإنكار ورَسُولًا ظَاهِرُهُ أَنَّهُ نَعْتٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَسُولًا مَفْعُولَ بعث، وبَشَراً حَالٌ مُتَقَدِّمَةٌ عَلَيْهِ أَيْ أَبَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا فِي حَالِ كَوْنِهِ بَشَراً، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ فِي قَوْلِهِ مَلَكاً رَسُولًا أَيْ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ رَسُولًا فِي حَالِ كَوْنِهِ مَلَكاً. وَقَوْلُهُ يَمْشُونَ يَتَصَرَّفُونَ فِيهَا بِالْمَشْيِ وَلَيْسَ لَهُمْ صُعُودٌ إِلَى السَّمَاءِ فَيَسْمَعُوا مِنْ أَهْلِهَا وَيَعْلَمُونَ مَا يَجِبُ عِلْمُهُ، بَلْ هُمْ مُقِيمُونَ فِي الْأَرْضِ يَلْزَمُهُمْ مَا يَلْزَمُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ عِبَادَاتٍ مَخْصُوصَةٍ وَأَحْكَامٍ لَا يُدْرَكُ تَفْصِيلُهَا بِالْعَقْلِ، لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنْ جِنْسِهِمْ مَنْ يُعَلِّمُهُمْ ذَلِكَ وَيُلْقِيهِ إِلَيْهِمْ.
وَلَمَّا دَعَاهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْإِيمَانِ وَتَحَدَّى عَلَى صِدْقِ نَبُّوتِهِ بِالْمُعْجِزِ الْمُوَافِقِ لداعوه، أَمَرَهُ تَعَالَى أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِأَنَّهُ تَعَالَى هُوَ الشَّهِيدُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ عَلَى تَبْلِيغِهِ وَمَا قَامَ بِهِ مِنْ أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَعَدَمِ قَبُولِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَمَا اقْتَرَحُوا عَلَيْهِ مِنَ الْآيَاتِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ، وَأَرْدَفَ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ وَمَنْ يُوَفِّقْهُ وَيَلْطُفْ بِهِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي لِأَنَّهُ لَا يَلْطُفُ إِلَّا بِمَنْ عَرَفَ أَنَّ اللُّطْفَ يَنْفَعُ فِيهِ وَمَنْ يُضْلِلْ وَمَنْ يَخْذُلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ أَنْصَارًا انْتَهَى. وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ وَمَنْ مَفْعُولٌ بِيَهْدِ وَبِيُضْلِلْ، وَحُمِلَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ فَهُوَ الْمُهْتَدِي فَأُفْرِدَ مُلَاحَظَةً لِسَبِيلِ الْهُدَى وَهِيَ وَاحِدَةٌ فَنَاسَبَ التَّوْحِيدُ التَّوْحِيدَ، وَحُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ لَا عَلَى اللَّفْظِ مُلَاحَظَةً لِسَبِيلِ الضَّلَالِ فَإِنَّهَا مُتَشَعِّبَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ فَنَاسَبَ التَّشْعِيبُ وَالتَّعْدِيدُ الْجَمْعَ، وَهَذَا مِنَ الْمَوَاضِعِ الَّتِي جَاءَ فِيهَا الْحَمْلُ عَلَى الْمَعْنَى ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْحَمْلُ عَلَى اللَّفْظِ وَهِيَ قَلِيلَةٌ فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عَلى وُجُوهِهِمْ حَقِيقَةً كَمَا قَالَ تَعَالَى يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «١» الَّذِينَ يُحْشُرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ. وَفِي هَذَا
حَدِيثٌ قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَمْشِي الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: «أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ فِي الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِرًا أَنْ يُمْشِيَهُ فِي الْآخِرَةِ عَلَى وَجْهِهِ».
قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا. وَقِيلَ: عَلى وُجُوهِهِمْ مَجَازٌ يُقَالُ لِلْمُنْصَرِفِ عَنْ أَمْرٍ خَائِبًا مَهْمُومًا انْصَرَفَ عَلَى وَجْهِهِ، وَيُقَالُ لِلْبَعِيرِ كَأَنَّمَا يَمْشِي عَلَى وَجْهِهِ. وَقِيلَ: هُوَ مُجَازٌ عَنْ سَحْبِهِمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ عَلَى سُرْعَةٍ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ قَدِمَ الْقَوْمُ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِذَا أَسْرَعُوا.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا هُوَ حَقِيقَةٌ وَذَلِكَ عِنْدَ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، ثُمَّ يَرُدُّ اللَّهُ إِلَيْهِمْ أَبْصَارَهُمْ وَسَمْعَهُمْ وَنُطْقَهُمْ فَيَرَوْنَ النَّارَ وَيَسْمَعُونَ زَفِيرَهَا وَيَنْطِقُونَ بِمَا حَكَى اللَّهُ عَنْهُمْ. وَقِيلَ: هِيَ اسْتِعَارَاتٌ إِمَّا لِأَنَّهُمْ مِنَ الْحَيْرَةِ وَالذُّهُولِ يُشْبِهُونَ أَصْحَابَ هَذِهِ
كُلَّما خَبَتْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلَّمَا فَرَغَتْ مِنْ إِحْرَاقِهِمْ فَيَسْكُنُ اللَّهِيبُ الْقَائِمُ عَلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يُعَادُونَ ثُمَّ يَثُورُ فَتِلْكَ زِيَادَةُ السَّعِيرِ، فَالزِّيَادَةُ فِي حَيِّزِهِمْ، وَأَمَّا جَهَنَّمُ فَعَلَى حَالِهَا مِنَ الشِّدَّةِ لَا يُصِيبُهَا فُتُورٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ خَبَتْ مَجَازًا عَنْ سُكُونِ لَهَبِهَا مِقْدَارَ مَا تَكُونُ إِعَادَتُهُمْ كَأَنَّهُمْ لَمَّا كَذَّبُوا بِالْإِعَادَةِ بَعْدَ الْإِفْنَاءِ جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُمْ أَنْ سَلَّطَ النَّارَ عَلَى أَجْزَائِهِمْ تَأْكُلُهَا وَتُفْنِيهَا ثُمَّ يُعِيدُهَا، لَا يَزَالُونَ عَلَى الْإِفْنَاءِ وَالْإِعَادَةِ لِيَزِيدَ ذَلِكَ فِي تَحْسِيرِهِمْ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ وَلِأَنَّهُ أَدْخَلُ فِي الِانْتِقَامِ مِنَ الْجَاحِدِ، وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ذلِكَ جَزاؤُهُمْ وَالْإِشَارَةُ بِذَلِكَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ حَشْرِهِمْ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ وَصَيْرُورَتِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ وَالْعَذَابِ فِيهَا، وَالْآيَاتُ تَعُمُّ الْقُرْآنَ وَالْحُجَجَ الَّتِي جَاءَ بِهَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَّ عَلَى إِنْكَارِ الْبَعْثِ إِذْ هُوَ طَعْنٌ فِي الْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ وَهَذَا مَعَ اعْتِرَافِهِمْ بِأَنَّهُ تعالى منشىء الْعَالَمِ وَمُخْتَرِعُهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ يُنْكِرُونَ الْإِعَادَةَ فَصَارَ ذَلِكَ تَعْجِيزًا لِقُدْرَتِهِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فِي هَذِهِ السُّورَةِ فَأَغْنَى عَنْ إِعَادَتِهِ، وَلَمَّا أَنْكَرُوا الْبَعْثَ نَبَّهَهُمْ تَعَالَى عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ وَبَاهِرِ حِكْمَتِهِ فَقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا وَهُوَ اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ وَتَوْبِيخٍ لَهُمْ عَلَى مَا كَانُوا يَسْتَبْعِدُونَهُ مِنَ الْإِعَادَةِ، وَاحْتِجَاجٌ عَلَيْهِمْ بِأَنَّهُمْ قدر أو أقدرة اللَّهِ عَلَى خَلْقِ هَذِهِ الْأَجْرَامِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي بَعْضُ مَا تَحْوِيهِ الْبَشَرُ، فَكَيْفَ يُقِرُّونَ بِخَلْقِ هَذَا الْمَخْلُوقِ الْعَظِيمِ ثُمَّ يُنْكِرُونَ إِعَادَةَ بعض مما حله وَذَلِكَ مِمَّا لَا يُحِيلُهُ الْعَقْلُ بَلْ هُوَ مِمَّا يُجَوِّزُهُ، ثُمَّ أَخْبَرَ الصَّادِقُ بِوُقُوعِهِ فَوَجَبَ قَبُولُهُ وَالرُّؤْيَةُ
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً.
مُنَاسَبَةُ قَوْلِهِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ الْآيَةِ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ قَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا. فَطَلَبُوا إِجْرَاءَ الْأَنْهَارِ وَالْعُيُونِ فِي بَلَدِهِمْ لِتَكْثُرَ أَقْوَاتُهُمْ وَتَتَّسِعَ عَلَيْهِمْ، فَبَيَّنَ تَعَالَى أَنَّهُمْ لَوْ مَلَكُوا خَزَائِنَ رَحْمَةِ اللَّهِ لَبَقَوْا عَلَى بُخْلِهِمْ وَشُحِّهِمْ، وَلَمَا قَدِمُوا عَلَى إِيصَالِ النَّفْعِ لِأَحَدٍ، وَعَلَى هَذَا فَلَا فَائِدَةَ فِي إِسْعَافِهِمْ بِمَا طَلَبُوا هَذَا مَا قِيلَ فِي ارْتِبَاطِ هَذِهِ الْآيَةِ. وَقَالَهُ الْعَسْكَرِيُّ: وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمُنَاسِبَ هُوَ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَدْ مَنَحَهُ اللَّهُ مَا لَمْ يَمْنَحْهُ لِأَحَدٍ مِنَ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ إِلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَهُوَ أَحْرَصُ النَّاسِ عَلَى إِيصَالِ الْخَيْرِ وَإِنْقَاذِهِمْ مِنَ الضَّلَالِ يُثَابِرُ عَلَى ذَلِكَ وَيُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى اللَّهِ، وَيَعْرِضُ ذَلِكَ عَلَى الْقَبَائِلِ وَأَحْيَاءِ الْعَرَبِ سَمْحًا بِذَلِكَ لَا يَطْلُبُ مِنْهُمْ أَجْرًا، وَهَؤُلَاءِ أَقْرِبَاؤُهُ لَا يَكَادُ يُجِيبُ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَّا الْوَاحِدَ بَعْدَ الْوَاحِدِ قَدْ لَجُّوا فِي عِنَادِهِ وَبَغْضَائِهِ، فَلَا يَصِلُ مِنْهُمْ إِلَيْهِ إِلَّا الْأَذَى، فَنَبَّهَ تَعَالَى بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى سَمَاحَتِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَبَذْلِهِ مَا آتَاهُ اللَّهُ، وَعَلَى امْتِنَاعِ هَؤُلَاءِ أَنْ يَصِلَ مِنْهُمْ شَيْءٌ مِنَ الْخَيْرِ إِلَيْهِ فَقَالَ: لَوْ مَلَكُوا التصرف في خَزائِنَ
(٢) سورة الروم: ٣٠/ ٢٧.
كَقَوْلِهِ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً «١» أَوْ مَنْفِيًّا بِلَمْ أَوْ إِنْ وَهُنَا فِي قَوْلِهِ قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ وَلِيَهَا الِاسْمُ فَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِهِ، فَذَهَبَ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ وَأَبُو الْبَقَاءِ وَغَيْرُهُمْ إِلَى أَنَّهُ مَرْفُوعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الْفِعْلُ بَعْدَهُ، وَلَمَّا حُذِفَ ذَلِكَ الْفِعْلُ وَهُوَ تَمْلِكُ انْفَصَلَ الضَّمِيرُ وَهُوَ الْفَاعِلُ بِتَمْلِكُ كَقَوْلِهِ:
وَإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا التَّقْدِيرُ وَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ فَحُذِفَ لَمْ يَحْمِلْ وَانْفَصَلَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَكِنُّ فِي يَحْمِلُ فَصَارَ هُوَ، وَهُنَا انْفَصَلَ الضَّمِيرُ الْمُتَّصِلُ الْبَارِزُ وَهُوَ الْوَاوُ فَصَارَ أَنْتُمْ، وَهَذَا التَّخْرِيجُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَوْ يَلِيهَا الْفِعْلُ ظَاهِرًا وَمُضْمَرًا فِي فَصِيحِ الْكَلَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بِمَذْهَبِ الْبَصْرِيِّينَ.
قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: لَا تَلِي لو إلّا الفعل ظاهر أو لَا يَلِيهَا مُضْمَرًا إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ أَوْ نَادِرِ كَلَامٍ مِثْلَ: مَا جَاءَ فِي الْمَثَلِ مِنْ قَوْلِهِمْ:
لو ذات سوار لطمتني وَقَالَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الصَّائِغِ: الْبَصْرِيُّونَ يُصَرِّحُونَ بِامْتِنَاعِ لَوْ زَيْدٌ قَامَ لَأَكْرَمْتُهُ عَلَى الْفَصِيحِ، وَيُجِيزُونَهُ شَاذًّا كَقَوْلِهِمْ:
لَوْ ذَاتُ سُوَارٍ لَطَمَتْنِي وَهُوَ عِنْدُهُمْ عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ «٢» فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ انْتَهَى. وَخَرَّجَ ذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ فَضَالٍ الْمُجَاشَعِيُّ عَلَى إِضْمَارِ كَانَ، وَالتَّقْدِيرُ قُلْ لَوْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ فَظَاهَرُ هَذَا التَّخْرِيجِ أَنَّهُ حُذِفَ كُنْتُمْ بِرُمَّتِهِ وَبَقِيَ أَنْتُمْ تَوْكِيدًا لِذَلِكَ الضَّمِيرِ الْمَحْذُوفِ مَعَ الْفِعْلِ، وَذَهَبَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ الصَّائِغُ إِلَى حَذْفِ كَانَ فَانْفَصَلَ اسْمُهَا الَّذِي كَانَ مُتَّصِلًا بِهَا، والتقدير قُلْ لَوْ
(٢) سورة التوبة: ٩/ ٦.
وَالْكَلَامُ عَلَى إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ إِذاً لَأَذَقْناكَ «١» وخَشْيَةَ مَفْعُولٌ مِنْ أَجْلِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْإِنْفاقِ عَلَى مَشْهُورِ مَدْلُولِهِ فَيَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ خَشْيَةَ عَاقِبَةِ الْإِنْفاقِ وَهُوَ النَّفَادُ. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنْفَقَ وَأَمْلَقَ وَأَعْدَمَ وَأَصْرَمَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَكُونُ الْمَعْنَى خَشْيَةَ الِافْتِقَارِ. والقتور الممسك البخيل والْإِنْسانُ هُنَا لِلْجِنْسِ.
وَلَمَّا حَكَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ قُرَيْشٍ مَا حَكَى مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي اقْتِرَاحِهِمْ وَعِنَادِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَلَّاهُ تَعَالَى بِمَا جَرَى لِمُوسَى مَعَ فِرْعَوْنَ وَمَعَ قَوْمِهِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «٢» إِذْ قَالَتْ قُرَيْشٌ أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ «٣» وَقَالَتْ أَوْ نَرى رَبَّنا «٤» وَسَكَّنَ قَلَبَهُ وَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ عَاقِبَتَهُمْ لِلدَّمَارِ وَالْهَلَاكِ كما جرى لفرعون إِذْ أَهْلَكَهُ اللَّهُ وَمَنْ معه. وتِسْعَ آياتٍ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ: هِيَ الْيَدُ الْبَيْضَاءُ، وَالْعَصَا، وَالطُّوفَانُ، وَالْجَرَادُ، وَالْقُمَّلُ، وَالضَّفَادِعُ، وَالدَّمُ هَذِهِ سَبْعٌ بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا الثِّنْتَانِ فَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ لسانه كان به عقد فَحَلَّهَا اللَّهُ، وَالْبَحْرُ الَّذِي فُلِقَ لَهُ. وَعَنْهُ أَيْضًا الْبَحْرُ وَالْجَبَلُ الَّذِي نُتِقَ عَلَيْهِمْ. وَعَنْهُ أَيْضًا السُّنُونَ وَنَقْصٌ مِنَ الثَّمَرَاتِ وَقَالَهُ مجاهد والشعبي وعكرمة وقتادة. وَقَالَ الْحَسَنُ: السُّنُونَ وَنَقْصُ الثَّمَرَاتِ آيَةٌ وَاحِدَةٌ، وَعَنِ الحسن ووهب الْبَحْرُ وَالْمَوْتُ أُرْسِلَ عَلَيْهِمْ. وَعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ الْحَجَرُ وَالْبَحْرُ. وَعَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ: الْبَحْرُ وَالسُّنُونَ.
وَقِيلَ: تِسْعَ آياتٍ هِيَ مِنَ الْكِتَابِ، وَذَلِكَ أَنْ يَهُودِيًّا قَالَ لِصَاحِبِهِ: تَعَالَ حَتَّى نَسْأَلَ هَذَا النَّبِيَّ فَقَالَ الْآخَرُ لَا تَقُلْ إِنَّهُ نَبِيٌّ فَإِنَّهُ لَوْ سَمِعَ كَلَامَكَ صَارَتْ لَهُ أَرْبَعَةُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَاهُ وَسَأَلَاهُ عَنْ تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَقَالَ: لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلَا تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلَا تَسْخَرُوا، وَلَا تَقْذِفُوا الْمُحْصَنَاتِ، وَلَا تَفِرُّوا مِنَ الزَّحْفِ، وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةَ يَهُودُ أَنْ لَا تَعْتَدُوا فِي السَّبْتِ، قَالَ: فَقَبَّلَا يَدَهُ وَقَالَا: نَشْهَدُ أَنَّكَ نَبِيٌّ فَقَالَ: مَا مَنَعَكُمَا أَنْ تُسْلِمَا؟ قَالَا: إِنَّ دَاوُدَ دَعَا اللَّهَ أَنْ لَا يَزَالَ فِي ذُرِّيَّتِهِ نَبِيٌّ وَإِنَّا نَخَافُ إِنْ أَسْلَمْنَا تَقْتُلُنَا الْيَهُودُ.
قَالَ أَبُو عِيسَى:
هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَنُو إِسْرَائِيلَ مُعَاصِرُوهُ، وَفَسَلْ مَعْمُولٌ لقول
(٢) سورة النساء: ٤/ ١٥٣.
(٣) سورة الإسراء: ١٧/ ٩٢.
(٤) سورة الفرقان: ٢٥/ ٢١.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: سَلْهُمْ عَنْ إِيمَانِهِمْ وَعَنْ حَالِ دِينِهِمْ، أَوْ سَلْهُمْ أَنْ يُعَاضِدُوكَ وَتَكُونَ قُلُوبُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ مَعَكَ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
قِرَاءَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَسَأَلَ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلَى لَفْظِ الْمَاضِي بِغَيْرِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ.
وَقِيلَ: فَسَلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ وأصحابه عَنِ الْآيَاتِ لِتَزْدَادَ يَقِينًا وَطُمَأْنِينَةَ قَلْبٍ، لِأَنَّ الدَّلَالَةَ إِذَا تَظَافَرَتْ كَانَ ذَلِكَ أَقْوَى وَأَثْبَتَ كَقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «١» انْتَهَى. وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا أَعْلَمَهُ بِهِ مِنْ غَيْبِ الْقِصَّةِ. وَلَمَّا كَانَ مُتَعَلِّقُ السُّؤَالِ مَحْذُوفًا احْتَمَلَ هَذِهِ التَّقْدِيرَاتِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالسُّؤَالِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ هُوَ حَقِيقَةٌ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ السُّؤَالُ عِبَارَةً عَنْ تَطَلُّبِ أَخْبَارِهِمْ وَالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِهِمْ وَمَا فِي كُتُبِهِمْ. نحو قوله وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا «٢» جُعِلَ النَّظَرُ وَالتَّطَلُّبُ مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالسُّؤَالِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَسَنُ: سُؤَالُكَ إِيَّاهُمْ نَظَرُكَ فِي الْقُرْآنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ إِذْ مَعْمُولَةٌ لَآتَيْنَا أَيْ آتَيْنا حِينَ جَاءَ أَتَاهُمْ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: بم نعلق إِذْ جاءَهُمْ؟ قُلْتُ: أَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فَبِالْقَوْلِ الْمَحْذُوفِ أَيْ فَقُلْنَا لَهُ سَلْهُمْ حِينَ جَاءَهُمْ، وَإِمَّا عَلَى الْآخَرِ فَبِآتَيْنَا أَوْ بِإِضْمَارِ اذْكُرْ أَوْ يُخْبِرُونَكَ انْتَهَى. وَلَا يَتَأَتَّى تَعَلُّقُهُ بِاذْكُرْ وَلَا بِيُخْبِرُونَكَ لِأَنَّهُ ظَرْفٌ مَاضٍ. وَقِرَاءَةُ فَسَأَلَ مَرْوِيَّةٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَلَامٌ مَحْذُوفٌ وَتَقْدِيرُهُ فَسَأَلَ مُوسَى فِرْعَوْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَيْ طَلَبَهُمْ لِيُنْجِيَهُمْ مِنَ الْعَذَابِ انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ فَسَلْ يَكُونُ التَّقْدِيرُ فَقُلْنَا لَهُ سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أَيْ سَلْ فِرْعَوْنَ إِطْلَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ: فَسَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ اعْتِرَاضٌ فِي الْكَلَامِ وَالتَّقْدِيرُ، وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ إِذْ جَاءَ بَنِي إِسْرائِيلَ فَسَلْهُمْ وَلَيْسَ الْمَطْلُوبُ مِنْ سُؤَالِ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَسْتَفِيدَ هَذَا الْعِلْمَ مِنْهُمْ، بَلِ الْمَقْصُودُ أَنْ يَظْهَرَ لِعَامَّةِ الْيَهُودِ صِدْقُ مَا ذَكَرَهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَيَكُونُ هَذَا السُّؤَالُ سُؤَالَ اسْتِشْهَادٍ انْتَهَى. وَعَلَى قِرَاءَةِ فَسَأَلَ مَاضِيًا وَقَدَّرَهُ فَسَأَلَ فِرْعَوْنُ بَنِي إِسْرائِيلَ يَكُونُ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لَسَأَلَ مَحْذُوفًا، وَالثَّانِي هُوَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْإِعْمَالِ لِأَنَّهُ تَوَارَدَ عَلَى فِرْعَوْنَ سَأَلَ وَفَقَالَ فَأُعْمِلَ، الثَّانِي عَلَى مَا هُوَ أَرْجَحُ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَهُ مَسْحُوراً اسْمُ مَفْعُولٍ أَيْ قَدْ سَحَرْتَ بِكَلَامِكَ هَذَا مُخْتَلٌّ وما
(٢) سورة الزخرف: ٤٣/ ٤٥.
وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَالْكِسَائِيُّ عَلِمْتُ بِضَمِّ التَّاءِ
أَخْبَرَ مُوسَى عَنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَسْحُورٍ كَمَا وَصَفَهُ فِرْعَوْنُ، بَلْ هُوَ يَعْلَمُ أَنَّ مَا أَنْزَلَ هؤُلاءِ الْآيَاتِ إِلَّا اللَّهُ.
وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: مَا عَلِمَ عَدُوُّ اللَّهِ قَطُّ وَإِنَّمَا عَلِمَ مُوسَى
، وَهَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ رَوَاهُ كُلْثُومٌ الْمُرَادِيُّ وَهُوَ مَجْهُولٌ، وَكَيْفَ يَصِحُّ هَذَا الْقَوْلُ وَقِرَاءَةُ الْجَمَاعَةِ بِالْفَتْحِ عَلَى خِطَابِ فرعون.
وما أَنْزَلَ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عُلِّقَ عَنْهَا عَلِمْتَ. وَمَعْنَى بَصائِرَ دَلَالَاتٌ عَلَى وَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ وَصِدْقِ رَسُولِهِ وَالْإِشَارَةُ بِهَؤُلَاءِ إِلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ. وَانْتَصَبَ بَصائِرَ عَلَى الْحَالِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَطِيَّةَ وَالْحَوْفِيِّ وَأَبِي الْبَقَاءِ، وَقَالَا: حَالٌ مِنْ هؤُلاءِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إِلَّا عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ وَالْأَخْفَشِ لِأَنَّهُمَا يُجِيزَانِ مَا ضَرَبَ هِنْدًا هَذَا إِلَّا زَيْدٌ ضَاحِكَةً. وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فَإِنْ وَرَدَ مَا ظَاهِرُهُ ذَلِكَ أُوِّلَ عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ التَّقْدِيرُ ضَرَبَهَا ضَاحِكَةً، وَكَذَلِكَ يُقَدِّرُونَ هُنَا أَنْزَلَهَا بَصائِرَ وَعِنْدَ هَؤُلَاءِ لَا يَعْمَلَ مَا قَبْلَ إِلَّا فِيمَا بَعْدَهَا إِلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَثْنًى مِنْهُ أَوْ تَابِعًا لَهُ.
وَقَابَلَ مُوسَى ظَنَّهُ بِظَنِّ فِرْعَوْنَ فَقَالَ: وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً وَشَتَّانَ مَا بَيْنَ الظَّنَّيْنِ ظَنُّ فِرْعَوْنَ ظَنٌّ بَاطِلٌ، وَظَنُّ مُوسَى ظَنُّ صِدْقٍ، وَلِذَلِكَ آلَ أَمْرُ فرعون إلى الهلاك
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ هُوَ مَرْدُودٌ عَلَى قَوْلِهِ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ «٢» الْآيَةَ وَهَكَذَا طَرِيقَةُ كَلَامِ الْعَرَبِ وَأُسْلُوبُهَا تَأْخُذُ فِي شَيْءٍ وَتَسْتَطْرِدُ مِنْهُ إِلَى شَيْءٍ آخَرَ ثُمَّ إِلَى آخَرَ ثُمَّ تَعُودُ إِلَى مَا ذَكَرَتْهُ أَوَّلًا، وَأَبْعَدَ مَنْ ذَهَبَ إِلَى أَنَّ الضَّمِيرَ فِي أَنْزَلْناهُ عَائِدٌ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَجَعَلَ مُنْزَلًا كَمَا قَالَ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «٣» أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْآيَاتِ التِّسْعِ، وَذُكِرَ عَلَى الْمَعْنَى أَوْ عَائِدٌ عَلَى الْوَعْدِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهُ. وَقَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أَيْ بِالتَّوْحِيدِ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ. وَقَالَ الزَّهْرَاوِيُّ:
بِالْوَاجِبِ الَّذِي هُوَ الْمَصْلَحَةُ وَالسَّدَادُ لِلنَّاسِ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أَيْ بِالْحَقِّ فِي أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ وَأَخْبَارِهِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَمَا أَنْزَلْنَا الْقُرْآنَ إِلَّا بِالْحِكْمَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِإِنْزَالِهِ وَمَا نَزَلَ إِلَّا مُلْتَبِسًا بِالْحَقِّ وَالْحِكْمَةِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْهِدَايَةِ إِلَى كُلِّ خَيْرٍ، وَمَا أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ إِلَّا بِالْحَقِّ
(٢) سورة الإسراء: ١٧/ ٨٨.
(٣) سورة الحديد: ٥٧/ ٢٢.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: فَرَقْناهُ بِتَخْفِيفِ الرَّاءِ أَيْ بَيَّنَّا حَلَالَهُ وَحَرَامَهُ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَنِ الْحَسَنِ فَرَّقْنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: أَحْكَمْنَاهُ وَفَصَّلْنَاهُ كَقَوْلِهِ فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «١».
وَقَرَأَ أُبَيٌّ وَعَبْدُ اللَّهِ وعليّ وابن عباس وأبو رجاء وقتادة والشعبي وحميد وعمرو بن قائد وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ وَعَمْرُو بن ذر وعكرمة وَالْحَسَنُ بِخِلَافٍ عَنْهُ بِشَدِّ الرَّاءِ
أَيْ أَنْزَلْناهُ نَجْمًا بَعْدَ نَجْمٍ. وَفَصَّلْنَاهُ فِي النُّجُومِ. وَقَالَ بَعْضُ مَنِ اخْتَارَ ذَلِكَ: لَمْ يَنْزِلْ فِي يَوْمٍ وَلَا يَوْمَيْنِ وَلَا شَهْرٍ وَلَا شَهْرَيْنِ وَلَا سَنَةٍ وَلَا سَنَتَيْنِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كَانَ بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ عِشْرُونَ سَنَةً، هَكَذَا قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً. وَقِيلَ: فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ، وَهَذَا الِاخْتِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الِاخْتِلَافِ فِي سِنِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَعَنِ الْحَسَنِ نَزَلَ فِي ثَمَانِيَةَ عَشَرَ سَنَةً. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا قول مُخْتَلٌّ لَا يَصِحُّ عَنِ الْحَسَنِ.
وَقِيلَ مَعْنَى: فَرَقْناهُ بِالتَّشْدِيدِ فَرَّقْنَا آيَاتِهِ بَيْنَ أَمْرٍ وَنَهْيٍ، وَحِكَمٍ وَأَحْكَامٍ، وَمَوَاعِظَ وَأَمْثَالٍ، وَقِصَصٍ وَأَخْبَارٍ مُغَيَّبَاتٍ أَتَتْ وَتَأْتِي. وَانْتَصَبَ قُرْآناً عَلَى إِضْمَارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ فَرَقْناهُ أَيْ وَفَرَّقَنَا قُرْآناً فَرَقْناهُ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاشْتِغَالِ وَحَسُنَ النَّصْبُ، وَرَجَّحَهُ عَلَى الرَّفْعِ كَوْنُهُ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ وَهِيَ قَوْلُهُ وَما أَرْسَلْناكَ. وَلَا بُدَّ مِنْ تَقْدِيرِ صِفَةٍ لِقَوْلِهِ وَقُرْآناً حَتَّى يَصِحَّ كَوْنُهُ كَانَ يَجُوزُ فِيهِ الِابْتِدَاءُ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ لَا مُسَوِّغَ لَهَا فِي الظَّاهِرِ لِلِابْتِدَاءِ بِهَا، وَالتَّقْدِيرُ وَقُرْآناً أَيَّ قُرْآنٍ أَيْ عَظِيمًا جَلِيلًا، وَعَلَى أَنَّهُ مَنْصُوبٌ بِإِضْمَارِ فِعْلِ يُفَسِّرُهُ الظَّاهِرُ بَعْدَهُ خَرَّجَهُ الْحَوْفِيُّ وَالزَّمَخْشَرِيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ وَهُوَ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ:
هُوَ مَنْصُوبٌ بِأَرْسَلْنَاكَ أي ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً كَمَا تَقُولُ رَحْمَةً لِأَنَّ الْقُرْآنَ رَحْمَةٌ وَهَذَا إِعْرَابٌ مُتَكَلَّفٌ وَأَكْثَرُ تَكَلُّفًا مِنْهُ قَوْلُ ابْنُ عَطِيَّةَ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الْكَافِ فِي أَرْسَلْناكَ مِنْ حَيْثُ كَانَ إِرْسَالُ هَذَا وَإِنْزَالُ هَذَا الْمَعْنَى واحد.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وابن جُرَيْجٍ: عَلى مُكْثٍ عَلَى تَرَسُّلٍ فِي التِّلَاوَةِ. وَقِيلَ:
عَلى مُكْثٍ أَيْ تَطَاوُلٍ فِي الْمُدَّةِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: عَلى مُكْثٍ بَدَلٌ مِنْ عَلَى النَّاسِ وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلى مُكْثٍ هُوَ مِنْ صِفَةِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ الْقَارِئُ، أَوْ صِفَاتُ الْمَقْرُوءِ فِي الْمَعْنَى وَلَيْسَ مِنْ صِفَاتِ النَّاسِ فَيَكُونُ بَدَلًا مِنْهُمْ. وَقِيلَ يَتَعَلَّقُ عَلى مُكْثٍ بِقَوْلِهِ فَرَقْناهُ وَيُقَالُ مُكْثٌ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِهَا وَكَسْرِهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَأَجْمَعَ الْقُرَّاءُ عَلَى ضَمِّ الْمِيمِ مِنْ مُكْثٍ. وَقَالَ الْحَوْفِيُّ: وَالْمُكْثُ بِالضَّمِّ والفتح لغتان، وقد قرىء بِهِمَا وَفِيهِ لُغَةٌ أُخْرَى كَسْرُ الْمِيمِ.
وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا عَلَى حَسَبِ الْحَوَادِثِ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ. قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا يَتَضَمَّنُ الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَالِاحْتِقَارَ لَهُمْ وَالِازْدِرَاءَ بِهِمْ وَعَدَمَ الِاكْتِرَاثِ بِهِمْ وَبِإِيمَانِهِمْ وَبِامْتِنَاعِهِمْ مِنْهُ، وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدْخُلُوا فِي الْإِيمَانِ وَلَمْ يُصَدِّقُوا بِالْقُرْآنِ وَهُمْ أَهْلُ جَاهِلِيَّةٍ وَشِرْكٍ، فَإِنَّ خَيْرًا مِنْهُمْ وَأَفْضَلَ هُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِي قرؤوا الْكِتَابَ وَعَلِمُوا مَا الْوَحْيُ وَمَا الشَّرَائِعُ، قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ وَثَبَتَ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ النَّبِيُّ الْعَرَبِيُّ الْمَوْعُودُ فِي كُتُبِهِمْ، فَإِذَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا اللَّهَ تَعْظِيمًا لِوَعْدِهِ وَلِإِنْجَازِهِ مَا وَعَدَ فِي الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ وَبَشَّرَ بِهِ مِنْ بَعْثَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْوَعْدِ فِي قَوْلِهِ إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا.
وإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقَوْلِهِ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا أَيْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ فَقَدْ آمَنَ بِهِ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْكُمْ، وَأَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِقُلْ عَلَى سَبِيلِ التَّسْلِيَةِ كَأَنَّهُ قِيلَ قُلْ عَنْ إِيمَانِ الْجَاهِلِيَّةِ بِإِيمَانِ الْعُلَمَاءِ انْتَهَى مِنْ كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيُّ، وَفِيهِ بَعْضُ تَلْخِيصٍ. وَقَالَ غَيْرُهُ: قُلْ آمِنُوا الْآيَةَ تَحْقِيرٌ لِلْكَفَّارِ، وَفِي ضِمْنِهِ ضَرْبٌ مِنَ التَّوَعُّدِ وَالْمَعْنَى أَنَّكُمْ لَسْتُمْ بِحُجَّةٍ فَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَآمَنْتُمْ أَمْ كَفَرْتُمْ وَإِنَّمَا ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِكُمْ، وَإِنَّمَا الْحُجَّةُ أَهْلُ الْعِلْمِ انْتَهَى. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قُلْ آمِنُوا بِهِ عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ هُمْ مُؤْمِنُوَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقِيلَ: وَرَقَةُ بن نوفل، وزيد بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمَا، فَإِنَّهُمَا كَانَا مِمَّنْ أُوتِيَ الْعِلْمَ وَاطَّلَعَا عَلَى
وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ هُوَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي مِنْ قَبْلِهِ عائد على القرآن كَمَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: بِهِ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا قَبْلَهُ وَمَا بَعْدَهُ. وقيل الضمير إن فِي بِهِ وَفِي مِنْ قَبْلِهِ عَائِدَانِ عَلَى الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَاسْتَأْنَفَ ذِكْرَ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ وَالظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي يُتْلى عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ. وَقِيلَ: هُوَ عَائِدٌ عَلَى التَّوْرَاةِ وَمَا فِيهَا مِنْ تَصْدِيقِ الْقُرْآنِ وَمَعْرِفَةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَالْخُرُورُ هُوَ السُّقُوطُ بِسُرْعَةٍ، وَمِنْهُ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ «١» وَانْتَصَبَ سُجَّداً عَلَى الْحَالِ، وَالسُّجُودُ وَهُوَ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ هُوَ غَايَةُ الْخُرُورِ وَنِهَايَةُ الْخُضُوعِ، وَأَوَّلُ مَا يَلْقَى الْأَرْضَ حَالَةَ السُّجُودِ الذَّقَنُ، أَوْ عَبَّرَ عَنِ الْوُجُوهِ بِالْأَذْقَانِ كَمَا يُعَبَّرُ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ بِبَعْضِ مَا يُلَاقِيهِ. وَقَالَ الشَّاعِرُ:
فخرو الأذقان الْوُجُوهِ تَنُوشُهُمْ | سِبَاعٌ مِنَ الطَّيْرِ الْعَوَادِي وَتَنْتِفُ |
الْمَعْنَى لِلْوُجُوهِ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: حَرْفُ الِاسْتِعْلَاءِ ظَاهِرُ الْمَعْنَى إِذَا قُلْتَ خَرَّ عَلَى وَجْهِهِ وَعَلَى ذَقْنِهِ فَمَا مَعْنَى اللَّامِ فِي خَرَّ لِذَقْنِهِ؟ قَالَ:
فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ وَلِلْفَمِ قُلْتُ: مَعْنَاهُ جَعَلَ ذَقْنَهُ وَوَجْهَهُ لِلْخُرُورِ، وَاخْتَصَّهُ بِهِ لِأَنَّ اللَّامَ لِلِاخْتِصَاصِ انْتَهَى.
وَقِيلَ: اللَّامُ بِمَعْنَى عَلَى وسُبْحانَ رَبِّنا نَزَّهُوا اللَّهَ عَمَّا نَسَبَتْهُ إِلَيْهِ كَفَارُ قُرَيْشٍ وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ لَا يُرْسِلُ الْبَشَرَ رُسُلًا وَأَنَّهُ لَا يُعِيدُهُمْ لِلْجَزَاءِ، وَإِنْ هُنَا الْمُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ الْمَعْنَى إِنَّ مَا وَعَدَ بِهِ مِنْ إِرْسَالِ مُحَمَّدٍ عِلْيَهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِنْزَالِ الْقُرْآنِ عَلَيْهِ قَدْ فَعَلَهُ وَأَنْجَزَهُ، وَنُكِّرَ الْخُرُورُ لِاخْتِلَافِ حَالَيِ السُّجُودِ وَالْبُكَاءِ، وَجَاءَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْحَالَةِ الْأَوْلَى بِالِاسْمِ وَعَنِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ بِالْفِعْلِ لِأَنَّ الْفِعْلَ مُشْعِرٌ بِالتَّجَدُّدِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْبُكَاءَ ناشىء عَنِ التَّفَكُّرِ فَهُمْ دَائِمًا في
وَيَزِيدُهُمْ أَيْ مَا تُلِيَ عَلَيْهِمْ خُشُوعاً أَيْ تَوَاضُعًا. وَقَالَ عَبْدُ الْأَعْلَى التَّيْمِيُّ:
مَنْ أُوتِيَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَا يُبْكِيهِ خَلِيقٌ أَنْ لَا يَكُونَ أوتي علما ينفعه لأن تَعَالَى نَعَتَ الْعُلَمَاءَ فَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الْآيَةَ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيَتَوَجَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعْنًى آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا مُخَلِّصًا لِلْوَعِيدِ دُونَ التَّحْقِيرِ، الْمَعْنَى فَسَتَرَوْنَ مَا تُجَازَوْنَ بِهِ، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُمُ الْمَثَلَ عَلَى جِهَةِ التَّقْرِيعِ بِمَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْ إِنَّ النَّاسَ لَمْ يَكُونُوا كَمَا أَنْتُمْ فِي الْكُفْرِ بَلْ كَانَ الَّذِينَ أُوتُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ وَالْكُتُبَ الْمُنَزَّلَةَ فِي الْجُمْلَةِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ مَا نَزَلَ عَلَيْهِمْ خَشَعُوا وَآمَنُوا انْتَهَى. وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى طَرَفٍ مِنْ هَذَا.
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَهَجَّدَ الرسول صلى الله عليه وَسَلَّمَ ذَاتَ لَيْلَةٍ بِمَكَّةَ فَجَعَلَ يَقُولُ فِي سُجُودِهِ: «يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ». فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: كَانَ مُحَمَّدٌ يَدْعُو إِلَهًا وَاحِدًا فَهُوَ الْآنُ يَدْعُو إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ اللَّهُ وَالرَّحْمَنُ، مَا الرَّحْمَنُ إِلَّا رَحْمَنُ الْيَمَامَةِ يَعَنُونَ مُسَيْلِمَةَ فَنَزَلَتْ قَالَهُ فِي التَّحْرِيرِ. وَنَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ نَحْوًا مِنْهُ عَنْ مَكْحُولٍ. وَقَالَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعَهُ الْمُشْرِكُونَ يَدْعُو يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ، فَقَالُوا: كَانَ يَدْعُو إِلَهًا وَاحِدًا وَهُوَ يَدْعُو إِلَهَيْنِ فَنَزَلَتْ.
وَقَالَ مَيْمُونُ بْنُ مِهْرَانَ: كَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَكْتُبُ: بِاسْمِكَ اللَّهُمَّ حَتَّى نَزَلَتْ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَكَتَبَهَا فَقَالَ مُشْرِكُو الْعَرَبِ: هَذَا الرَّحِيمُ نَعْرِفُهُ، فَمَا الرَّحْمَنُ؟ فَنَزَلَتْ:
وَقَالَ الضَّحَّاكُ: قَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ لِلرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّكَ لَتُقِلُّ ذِكْرَ الرَّحْمَنِ وَقَدْ أَكْثَرَ اللَّهُ فِي التَّوْرَاةِ هَذَا الِاسْمَ، فَنَزَلَتْ لَمَّا لَجُّوا فِي إِنْكَارِ الْقُرْآنِ أَنْ يَكُونَ اللَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَعَجَزُوا عَنْ مُعَارَضَتِهِ، وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَدْ جَاءَهُمْ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ وَالرَّفْضِ لِآلِهَتِهِمْ عَدَلُوا إِلَى رَمْيِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِأَنَّ مَا نَهَاهُمْ عَنْهُ رَجَعَ هُوَ إِلَيْهِ، فَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ قُلِ ادْعُوا اللَّهَ الْآيَةَ.
وَالظَّاهِرُ مِنْ أَسْبَابِ النُّزُولِ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا
قَوْلُهُ يَا رَحْمَنُ يَا رَحِيمُ أَوْ يَا اللَّهُ يَا رَحْمَنُ مِنَ الدُّعَاءِ
بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَالْمَعْنَى: إِنْ دَعَوْتُمُ اللَّهَ فَهُوَ اسْمُهُ وَإِنْ دَعَوْتُمُ الرَّحْمَنَ فَهُوَ صِفَتُهُ. قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَالدُّعَاءُ بِمَعْنَى التَّسْمِيَةِ لَا بِمَعْنَى النِّدَاءِ وَهُوَ يَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولَيْنِ، تَقُولُ: دَعْوَتُهُ زَيْدًا ثُمَّ تَتْرُكُ أَحَدَهُمَا
دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍو وَلَمْ أَكُنْ | أخاها ولم أرضع لها بِلِبَانِ |
وَكَذَا قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ هُمَا اسْمَانِ لِمُسَمًّى وَاحِدٍ، فَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِاللَّهِ فَهُوَ ذَاكَ، وَإِنْ دَعَوْتُمُوهُ بِالرَّحْمَنِ فَهُوَ ذَاكَ وَأَيُّ هُنَا شَرْطِيَّةٌ. وَالتَّنْوِينُ قِيلَ عوض من المضاف وما زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ.
وَقِيلَ: مَا شَرْطٌ وَدَخَلَ شَرْطٌ عَلَى شَرْطٍ. وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ. أَيًّا مِنْ تَدْعُوا فَاحْتَمَلَ أَنْ تَكُونَ مِنْ زَائِدَةً عَلَى مَذْهَبِ الْكِسَائِيِّ إِذْ قَدِ ادَّعَى زِيَادَتَهَا فِي قَوْلِهِ:
يَا شَاةُ مِنْ قَنْصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ واحتمل أن يكون جمع بَيْنَ أَدَاتَيْ شَرْطٍ عَلَى وَجْهِ الشُّذُوذِ كَمَا جَمَعَ بَيْنَ حَرْفَيْ جَرٍّ نَحْوَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
فَأَصْبَحْنَ لَا يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظِ. وَالضَّمِيرُ فِي فَلَهُ عَائِدٌ عَلَى مُسَمَّى الِاسْمَيْنِ وَهُوَ وَاحِدٌ، أَيْ فَلِمُسَمَّاهُمَا الْأَسْماءُ الْحُسْنى، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى قَوْلِهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فِي الْأَعْرَافِ.
وَقَوْلُهُ: فَلَهُ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ. قِيلَ: وَمَنْ وَقَفَ عَلَى أَيًّا جَعَلَ مَعْنَاهُ أَيَّ اللَّفْظَيْنِ دَعَوْتُمُوهُ بِهِ جَازَ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ فَقَالَ مَا تَدْعُوهُ فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَهَذَا لَا يَصِحُّ لِأَنَّ مَا لَا تُطْلَقُ عَلَى آحَادِ أُولِي الْعِلْمِ، وَلِأَنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي عُمُومًا وَلَا يَصِحُّ هُنَا، وَالصَّلَاةُ هُنَا الدُّعَاءُ قَالَهُ ابْنُ عباس وعائشة وَجَمَاعَةٌ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: هِيَ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ بِقِرَاءَةِ الصَّلَاةِ، وَلَا يُلْبِسُ تَقْدِيرُ هَذَا الْمُضَافِ لِأَنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ الْجَهْرَ وَالْمُخَافَتَةَ مُعْتَقِبَانِ عَلَى الصَّوْتِ لَا غَيْرُ، وَالصَّلَاةُ أَفْعَالٌ وَأَذْكَارٌ
وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ أَيْ بَيْنَ الْجَهْرِ وَالْمُخَافَتَةِ سَبِيلًا وَسَطًا وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى بَيْنَ ذلِكَ فِي قَوْلِهِ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «١». وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا وَالْحَسَنُ: لَا تُحَسِّنُ عَلَانِيَتَهَا وَتُسِيءُ سِرِّيَّتَهَا. وَعَنْ عَائِشَةَ: الصَّلَاةُ يُرَادُ بِهَا هُنَا التَّشَهُّدُ. وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: كَانَ الْأَعْرَابُ يَجْهَرُونَ بِتَشَهُّدِهِمْ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي ذَلِكَ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يُسِرُّ قراءته وعمر يَجْهَرُ بِهَا. فَقِيلَ لَهُمَا فِي ذَلِكَ فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: إِنَّمَا أُنَاجِي رَبِّي وَهُوَ يَعْلَمُ حَاجَتِي. وَقَالَ عُمَرُ: أَنَا أَطْرُدُ الشَّيْطَانَ وَأُوقِظُ الْوَسَنَانَ، فَلَمَّا نَزَلَتْ قِيلَ لِأَبِي بَكْرٍ ارْفَعْ أَنْتَ قَلِيلًا. وَقِيلَ لِعُمَرَ:
اخْفِضْ أَنْتَ قَلِيلًا. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا: الْمَعْنَى وَلا تَجْهَرْ بِصَلَاةِ النَّهَارِ وَلا تُخافِتْ بِصَلَاةِ اللَّيْلِ. وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ وَالتَّوْرَاةِ مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ أَحْيَانًا فَيَرْفَعُ النَّاسُ مَعَهُ، وَيَخْفِضُ أَحْيَانًا فَيَسْكُتُ النَّاسُ خَلْفَهُ انْتَهَى. كَمَا يَفْعَلُ أَهْلُ زَمَانِنَا مِنْ رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْحِينِ وَطَرَائِقِ النَّغَمِ الْمُتَّخَذَةِ لِلْغِنَاءِ.
وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى أَنَّهُ وَاحِدٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ أَسْمَاؤُهُ أَمَرَ تَعَالَى أَنْ يَحْمَدَهُ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِ مِمَّا آتَاهُ مِنْ شَرَفِ الرِّسَالَةِ وَالِاصْطِفَاءِ، وَوَصَفَ نَفْسَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فَيُعْتَقَدُ فِيهِ تَكَثُّرُ بِالنَّوْعِ، وَكَانَ ذَلِكَ رَدًّا عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْأَصْنَامَ وَجَعَلُوهَا شُرَكَاءَ لِلَّهِ، وَالْعَرَبِ الَّذِينَ عَبَدُوا الْمَلَائِكَةَ وَاعْتَقَدُوا أَنَّهُمْ بَنَاتُ اللَّهِ. وَنَفَى أَوَّلًا الْوَلَدَ خُصُوصًا ثُمَّ نَفَى الشَّرِيكَ فِي مُلْكِهِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يُنْسَبَ إِلَيْهِ وَلَدٌ فَيَشْرُكُهُ أَوْ غَيْرُهُ، وَلَمَّا نَفَى الْوَلَدَ وَنَفَى الشَّرِيكَ نَفَى الْوَلِيَّ وَهُوَ النَّاصِرُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَلَدًا أَوْ شَرِيكًا أَوْ غَيْرَ شَرِيكٍ. وَلَمَّا كَانَ اتِّخَاذُ الْوَلِيِّ قَدْ يَكُونُ لِلِانْتِصَارِ وَالِاعْتِزَازِ بِهِ وَالِاحْتِمَاءِ مِنَ الذُّلِّ وَقَدْ يَكُونُ لِلتَّفَضُّلِ وَالرَّحْمَةِ لِمَنْ وَالَى مِنْ صَالِحِي عِبَادِهِ كَانَ النَّفْيُ لِمَنْ يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْ أَجْلِ الْمَذَلَّةِ، إِذْ كَانَ مَوْرِدُ الْوِلَايَةِ يَحْتَمِلُ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ فَنَفَى الْجِهَةَ الَّتِي لِأَجْلِ النَّقْصِ بِخِلَافِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ فَإِنَّهُمَا نُفِيَا عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَجَاءَ الْوَصْفُ الْأَوَّلُ بِقَوْلِهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَالْمَعْنَى أَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يُسَمِّ وَلَمْ يَعُدَّ أَحَدًا وَلَدًا وَلَمْ يَنْفِهِ بِجِهَةِ التَّوَالُدِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ في بداية الْعُقُولِ، فَلَا يَتَعَرَّضُ لِنَفْيِهِ بِالْمَنْقُولِ وَلِذَلِكَ جَاءَ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا ولدا.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ لَاقَ وَصْفُهُ بِنَفْيِ الْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ وَالذُّلِّ بِكَلِمَةِ التَّحْمِيدِ؟ قُلْتُ: لِأَنَّ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ هُوَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى إِيلَاءِ كُلِّ نِعْمَةٍ فَهُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ جِنْسَ الْحَمْدِ، وَالَّذِي تَقَرَّرَ أَنَّ النَّفْيَ تَسَلُّطٌ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى عَلَى الْقَيْدِ أَيْ لَا ذُلَّ يُوجَدُ فِي حَقِّهِ فَيَكُونُ لَهُ وَلِيٌّ يَنْتَصِرُ بِهِ مِنْهُ، فَالذُّلُّ وَالْوَلِيُّ الَّذِي يَكُونُ اتِّخَاذُهُ بِسَبَبِهِ مُنْتَفِيَانِ.
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً التَّكْبِيرُ أَبْلَغُ لَفْظَةٍ لِلْعَرَبِ فِي مَعْنَى التَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ، وَأُكِّدَ بِالْمَصْدَرِ تَحْقِيقًا لَهُ وَإِبْلَاغًا فِي مَعْنَاهُ، وَابْتُدِئَتْ هَذِهِ السُّورَةُ بِتَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى وَاخْتُتِمَتْ بِهِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَفْصَحَ الْغُلَامُ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَلَّمَهُ هَذِهِ الْآيَةَ وقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ «١» إِلَى آخِرِهَا
والله أعلم.