١٧- سورة الإسراء.
وتسمى سورة " بني إسرائيل "، وسورة " سبحان ". ولم يحك خلاف في كونها مكية. نعم، استثنى بعضهم منها١ :﴿ ويسألونك عن الروح ﴾، وآية٢ :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾ إلى قوله تعالى :﴿ إن الباطل كان زهوقا ﴾، وآية٣ :﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن ﴾ الآية، وقوله٤ :﴿ وما جعلنا الرؤيا... ﴾ الآية، وقوله٥ :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾، لما ذكروه في أسباب نزولها. ويأتي البحث في ذلك إن شاء الله تعالى، وآياتها مائة وإحدى عشرة.
٢ [١٧ / الإسراء / ٧٣]..
٣ [١٧ / الإسراء / ٨٨]..
٤ [١٧ / الإسراء / ٦٠]..
٥ [١٧ / الإسراء / ١٠٧]..
ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ.
يمجد تعالى نفسه بقوله سُبْحانَ وينزه ذاته العلية عما لا يليق بجلاله، ويعظم شأنه لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه فلا إله غيره. وقوله تعالى الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي سيّره منه ليلا. و (أسرى) بمعنى (سرى) يقال: أسراه وأسرى به وسرى به. فهمزة (أسرى) ليست للتعدية. ولذا عدي بالباء.
وفرق بعضهم بين أسرى وسرى بالمبالغة في (أسرى) لإفادة السرعة في السير ولذا أوثر على (سرى).
والإسراء سير الليل كله، كأسرى، فقوله تعالى لَيْلًا للتأكيد أو للتجريد عن بعض القيود. مثل: أسعفت مرامه. مع أن الإسعاف قضاء الحاجة. أو للتنبيه على أنه المقصود بالذكر. وقد استظهره الناصر في (الانتصاف) قال: ونظيره في إفراد أحد ما دل عليه اللفظ المتقدم مضمونا لغيره، قوله تعالى: لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ، إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ [النحل: ٥١]. فالاسم الحامل للتثنية دال عليها وعلى الجنسية، وكذلك المفرد. فأريد التنبيه على أن أحد المعنيين، وهو التثنية، مراد مقصود، وكذلك أريد الإيقاظ، لأن الوحدانية هي المقصودة في قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ ولو اقتصر على قوله إِنَّما هُوَ إِلهٌ لأوهم أن المهم إثبات الإلهية له. والغرض من الكلام ليس إلا إثبات الوحدانية.
وقيل سرّ قوله لَيْلًا إفادة تقليل الوقت الذي كان الإسراء والرجوع فيه. أي أنه كان في بعض الليل أخذا من تنكيره. فقد نقل عن سيبويه أن الليل والنهار إذا
والعبد، لغة، الإنسان مطلقا والمملوك والعبودية الذل والخضوع والرق والطاعة، كالعبادة والعبودة.
قال ابن القيّم في (طريق الهجرتين) : أكمل الخلق أكملهم عبودية.
وأعظمهم شهودا. لفقره وضرورته وحاجته إلى ربه، وعدم استغنائه عنه طرفة عين.
ولهذا كان من
دعائه صلى الله عليه وسلم: أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين ولا إلى أحد من خلقك.
ثم قال: ولهذا كان أقرب الخلق إلى الله وسيلة، وأعظمهم عنده جاها، وأرفعهم عنده منزلة لتكميله مقام العبودية والفقر. وكان
يقول: أيها الناس! ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي. إنّما أنا عبد.
وكان
يقول «١» : لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح بن مريم. إنما أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله.
وذكره سبحانه بسمة العبودية في أشرف مقاماته: مقام الإسراء، ومقام الدعوة، ومقام التحدي.
فقال: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا وقال: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن: ١٩]. وقال وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا [البقرة: ٢٣].
وفي حديث الشفاعة: أنّ المسيح يقول لهم: اذهبوا إلى محمد، عبد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. فنال ذلك بكمال عبوديته لله، وبكمال مغفرة الله له.
انتهى.
وقوله تعالى مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ يعني مسجد مكة المكرمة. سمي حراما، كبلده، لكونه لا يحل انتهاكه بقتال فيه، ولا بصيد صيده، ولا بقطع شجره ولا كلئه. وقوله سبحانه إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى هو مسجد بيت المقدس، وكان يعرف
وقيل في خصائص (الأقصا) : إنه متعبد الأنبياء السابقين، ومسرى خاتم النبيين، ومعراجه إلى السماوات العلى والمشهد الأسمى. بيت نوّه الله به في الآيات المفصلة، وتليت فيه الكتب الأربعة المنزلة. لأجله أمسك الله الشمس على يوشع أن تغرب ليتيسر فتحه على من وعدوا به ويقرب. وهو قبلة الصلاة في الملتين، وفي صدر الإسلام بعد الهجرتين. وهو أولى القبلتين وثاني المسجدين وثالث الحرمين.
لا تشدّ الرحال «١» بعد المسجدين إلا إليه، ولا تعقد الخناصر بعد الموطنين إلا عليه.
انتهى. ومن فضائله ما
رواه الإمام أحمد «٢» والنسائي والحاكم صححه، عن ابن عمرو قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن سليمان لما بنى بيت المقدس سأل ربه ثلاثا. فأعطاه اثنتين وأنا أرجو أن يكون أعطاه الثالثة.
سأله حكما يصادف حكمه فأعطاه إياه.
وسأله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأعطاه إياه.
وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد- يعني ببيت المقدس- خرج من خطيئته كيوم ولدته أمه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: ونحن نرجو أن يكون الله أعطاه ذلك.
وروي أن ابن عمر كان إذا دخله لا يشرب من مائه. تجريدا لقصد الصلاة.
وقال الشيرازيّ في (عرائس البيان) كان بداية المعراج الذهاب إلى الأقصى.
لأن هناك الآيات الكبرى من أنوار تجليه تعالى لأرواح الأنبياء وأشباحهم. وهناك
وأخرجه مسلم في: الحج، حديث رقم ٤١٥.
(٢) أخرجه الإمام أحمد في مسنده ٢/ ١٧٦ والحديث ٦٦٤٤.
وأخرجه النسائي في: المساجد، ٦- باب فضل المسجد الأقصى والصلاة فيه.
والالتفات في: بارَكْنا لتعظيم ما ذكر، لأن فعل العظيم يكون عظيما.
لا سيما إذا عبّر عنه بصيغة التعظيم. والنكتة العامة تنشيط السامعين.
وقوله تعالى: لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إشارة إلى حكمة الإسراء. أي لكي نري محمدا ﷺ من آياتنا العظيمة التي من جملتها ذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدة بيت المقدس وتمثل الأنبياء له ووقوفه على مقاماتهم العلية.
قيل: أراد تعالى أن يريه ﷺ من الآيات الحسية بعد ما أراه الآيات العقلية. لأن الآيات الحسية أكبر في قطع الشبهة ودفع الوساوس من العقلية. إذ لا يشك أحد فيما كان سبيل معرفته الحس والعيان. وقد تعترض الشبهة والوساوس في العقليات. لأنه لا يشك أحد في نفسه أنه هو. فشاء عزّ وجلّ أن يري رسوله آيات حسية فتدفع المنصفين إلى قبولها والإيمان بها والإقرار له بالرسالة. إذ ليس ذلك عمل سحر ولا افتراء ولا أساطير الأولين، كذا يستفاد من (التأويلات) لأبي منصور.
وما أحسن ما قاله ابن إسحاق: كان في مسراه ﷺ وما ذكر منه بلاء وتمحيص وأمر من أمر الله في قدرته وسلطانه. فيه عبرة لأولي الألباب، وهدى ورحمة وثباتا لمن آمن بالله وصدق. وكان من أمر الله سبحانه وتعالى على يقين. فأسرى به سبحانه وتعالى كيف شاء ليريه من آياته ما أراد. حتى عاين ما عاين من أمره وسلطانه العظيم، وقدرته التي يصنع بها ما يريد. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي السميع لأقوال عباده وأفعالهم فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
تنبيهات:
الأول: دلت هذه الآية على ثبوت الإسراء، وهو سير النبيّ ﷺ إلى بيت المقدس ليلا. وأما العروج إلى السماوات وإلى ما فوق العرش فهذه الآية لا تدل عليه ومنهم من يستدل عليه بأول سورة النجم. والكلام عليه ثمة.
الثانية: ذهب الأكثرون إلى أن الإسراء كان بعد المبعث، وأنه قبل هجرة بسنة.
قاله الزهري وابن سعد وغيرهما. وبه جزم النوويّ، وبالغ ابن حزم فنقل الإجماع فيه.
وقال: كان في رجب سنة اثنتي عشرة من النبوة.
الثالث: في (زاد المعاد) لابن القيم: كان الإسراء مرة واحدة وقيل: مرتين، مرة يقظة ومرة مناما. وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين حديث شريك وقوله (ثم استيقظت) وبين سائر الروايات. ومنهم من قال: بل كان هذا مرتين: مرة قبل الوحي لقوله
في حديث شريك (وذلك قبل أن يوحى إليه)
ومرة بعد الوحي كما دلت عليه سائر الأحاديث. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات: مرة قبل الوحي ومرتين بعده. وكل هذا خبط وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب النقل، الذين إذا رأوا في القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات، جعلوه مرة أخرى. فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذي عليه أئمة النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين زعموا أنه كان مرارا! كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه في كل مرة تفرض عليه الصلوات خمسين ثم يتردد بين ربه وبين موسى حتى تصير خمسا، ثم يقول أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي. ثم يعيدها في المرة الثانية إلى خمسين ثم يحطها عشرا عشرا؟!.
الرابع: قال القاضي عياض، عليه الرحمة، في (الشفا) : اختلف السلف والعلماء هل كان إسراء بروحه أو جسده على ثلاث مقالات: فذهبت طائفة إلى أنه إسراء بالروح، وأنه رؤيا منام. مع اتفاقهم أن رؤيا الأنبياء حق ووحي. وإلى هذا ذهب معاوية. وحكي عن الحسن (والمشهور عنه خلافه) وإليه أشار محمد بن إسحاق.
وحجتهم قوله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ [الإسراء: ٦٠] وما حكوا عن عائشة: ما فقدت جسد رسول الله ﷺ وقوله (بينا أنا نائم). وقول أنس: (وهو نائم في المسجد الحرام) وذكر القصة. ثم
قال في آخرها: (فاستيقظ وأنا بالمسجد الحرام).
وذهب معظم السلف والمسلمين إلى أنه إسراء بالجسد وفي اليقظة. وهذا هو الحق، وهذا قول ابن عباس وجابر وأنس وحذيفة وعمر وأبي هريرة ومالك بن صعصعة وأبي حبة البدريّ وابن مسعود والضحاك وسعيد بن جبير وقتادة وابن المسيّب وابن شهاب وابن زيد والحسن وإبراهيم ومسروق ومجاهد وعكرمة وابن جريج. وهو دليل
وقالت طائفة: كان الإسراء بالجسد يقظة إلى بيت المقدس. وإلى السماء بالروح: واحتجوا بقوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ... فجعل المسجد الأقصى غاية الإسراء الذي وقع التعجب فيه بعظيم القدرة والتمدح بتشريف النبيّ وإظهار الكرامة له بالإسراء إليه. قال هؤلاء: ولو كان الإسراء بجسده إلى زائد على المسجد الأقصى لذكره، فيكون أبلغ في المدح.
ثم اختلفت هاتان الفرقتان: هل صلى ببيت المقدس أم لا؟ ففي حديث أنس وغيره صلاته فيه. وأنكر ذلك حذيفة وقال: والله! ما زالا عن ظهر البراق حتى رجعا.
ثم قال القاضي عياض: والحق في هذا والصحيح، إن شاء الله، أنه إسراء بالجسد والروح في القصة كلها. وعليه تدل الآية وصحيح الأخبار والاعتبار. ولا يعدل عن الظاهر والحقيقة إلى التأويل، إلا عند الاستحالة، وليس في الإسراء بجسده وحال يقظته استحالة. إذ لو كان مناما لقال (بروح عبده) ولم يقل (بعبده) وقوله:
ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم: ١٧]، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة. ولما استبعده الكفار ولا كذبوه. ولا ارتد به ضعفاء من أسلم وافتتنوا به. إذ مثل هذا من المنامات لا ينكر. بل لم يكن ذلك منهم إلا وقد علموا أن خبره إنما كان عن جسمه وحال يقظته، إلى ما ذكر في الحديث، من ذكر صلاته بالأنبياء ببيت المقدس في رواية أنس (أو في السماء) على ما روى غيره، وذكر مجيء جبريل له بالبراق وخبر المعراج واستفتاح السماء فيقال: ومن معك؟ فيقول: محمد. ولقائه الأنبياء فيها وخبرهم معه وترحيبهم به وشأنه في فرض الصلاة ومراجعته مع موسى في ذلك.
وفي بعض هذه الأخبار: فأخذ، يعني جبريل. بيدي، فعرج بي إلى السماء إلى قوله: ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. وأنه وصل إلى سدرة المنتهى، وأنه دخل الجنة ورأى فيها ما ذكره. قال ابن عباس: هي رؤيا عين رآها النبيّ صلى الله عليه وسلم، لا رؤيا منام.
وعن الحسن فيه بينا أنا نائم في الحجر جاءني جبريل فهمزني بعقبه فقمت فجلست فلم أر شيئا فعدت لمضجعي. ذكر ذلك ثلاثا، فقال في الثالثة: فأخذ بعضدي فجرني إلى باب المسجد، فإذا بدابة. وذكر خبر البراق.
وعن أبي بكر (من رواية شداد بن أوس عنه) أنه قال للنبيّ ﷺ ليلة أسري به:
طلبتك يا رسول الله البارحة في مكانك فلم أجدك. فأجابه: أن جبريل حمله إلى المسجد الأقصى.
وعن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: صليت ليلة أسري بي في مقدم المسجد ثم دخلت الصخرة-
وهذه التصريحات ظاهرة غير مستحيلة. فتحمل على ظاهرها.
وعن أبي ذرّ رضي الله عنه. عن النبي صلى الله عليه وسلم: فرج سقف بيتي وأنا بمكة، فنزل جبريل ثم أخذ بيدي فعرج بي.
وعن أنس: أتيت فانطلقوا بي إلى زمزم.
وعن أبي هريرة: لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي. فسألتني عن أشياء لم أثبتها، فكربت كربا ما كربت مثله قط، فرفعه الله لي أنظر إليه. ونحوه عن جابر.
وقد روى عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث الإسراء عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: ثم رجعت إلى خديجة وما تحولت عن جانبها.
ثم قال القاضي عياض (في إبطال حجج من قال إنها نوم) احتجوا بقوله:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا فسماها (رؤيا). قلنا: قوله: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ يرده لأنه لا يقال في النوم (أسرى).
وقوله فِتْنَةً لِلنَّاسِ يؤيد أنها رؤيا عين وإسراء شخص. إذ ليس في الحلم فتنة ولا يكذب به أحد. لأن كل أحد يرى مثل ذلك في منامه من الكون في ساعة واحدة في أقطار متباينة. على أن المفسرين قد اختلفوا في هذه الآية. فذهب بعضهم إلى أنها نزلت في قصة الحديبية وما وقع في نفوس الناس من ذلك. وقيل غير هذا.
وأما قولهم: إنه قد سمّاها في الحديث مناما، وقوله
في حديث آخر: بين النائم واليقظان.
وقوله أيضا: وهو نائم. وقوله: ثم استيقظت- فلا حجة فيه. إذ يحتمل أن أول وصول الملك إليه كان وهو نائم. أو أول حلمه والإسراء به وهو نائم. وليس في
(ثم استيقظت وأنا في المسجد الحرام)
فلعل قوله (استيقظت) بمعنى أصبحت. أو استيقظ من نوم آخر بعد وصوله بيته. ويدل عليه أن مسراه لم يكن طول ليلة. وإنما كان في بعضه. وقد يكون
قوله: (استيقظت وأنا في المسجد الحرام)
لما كان غمره من عجائب ما طالع من ملكوت السماوات والأرض، وخامر بطنه من مشاهدة الملإ الأعلى، وما رأى من آيات ربه الكبرى. فلم يستفق ويرجع إلى حال البشرية إلا وهو بالمسجد الحرام.
ووجه ثالث أن يكون نومه واستيقاظه حقيقة على مقتضى لفظه. ولكنه أسرى بجسده وقلبه حاضر، ورؤيا الأنبياء حق. تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم.
وقد مال بعض أصحاب الإشارات إلى نحو من هذا. قال: تغميض عينيه لئلا يشغله شيء من المحسوسات عن الله، ولا يصح هذا أن يكون في وقت صلاته بالأنبياء، ولعله كانت له في هذا الإسراء حالات.
ووجه رابع، وهو أن يعبر بالنوم هاهنا عن هيئة النائم من الاضطجاع. ويقويه قوله في رواية عبد بن حميد عن همام: (بينا أنا نائم وربما قال مضطجع) وفي رواية هدبة عنه (بينا أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجع). وقوله في الرواية الأخرى (بين النائم واليقظان) فيكون سمى هيئته بالنوم لما كانت هيئة النائم غالبا. وذهب بعضهم إلى أن هذه الزيادات من النوم وذكر شق البطن ودنوّ الرب، الواقعة في هذا الحديث، إنما هي من رواية شريك عن أنس. فهي منكرة من روايته. انتهى كلام عياض. وبقيت له بقية من شاء فليراجعها.
الخامس: جملة الأقوال في الإسراء والمعراج. على ما حكاه ابن القيم في (زاد المعاد)، ستة: بروحه وجسده وهو الذي صححوه. وقيل: كان ذلك مناما. وقيل بل يقال أسري به ولا يقال يقظة ولا مناما. وقيل كان الإسراء إلى بيت المقدس يقظة وإلى السماء مناما، وقيل: كان الإسراء مرتين، مرة يقظة ومرة مناما. وقيل بل أسري به ثلاث مرات. وكان ذلك بعد البعث بالاتفاق. وأما ما وقع في حديث شريك أن ذلك قبل أن يوحى إليه، فقيل هو غلط وقيل: الوحي هنا مقيد وليس بالوحي المطلق الذي هو مبدأ النبوة. والمراد قبل أن يوحى إليه في شأن الإسراء، فأسري به فجأة من غير تقدم إعلام. وقد قدمنا أن عائشة ومعاوية والحسن، نقل الأكثرون عنهم أنها رؤيا منام، وكذا حكى ابن جرير عن حذيفة إلا أن ابن القيم نبه على دقيقة غريبة. قال رحمه الله: نقل ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا: إنما كان الإسراء بروحه
ومع هذا فلها إشراف على البدن، وإشراق وتعلق به. بحيث يرد السلام على من سلم عليه. وبهذا التعلق رأى موسى قائما يصلي في قبره، ورآه في السماء السادسة، ومعلوم أنه لم يعرج بموسى من قبره ثم رد إليه، وإنما ذلك مقام روحه واستقرارها، وقبره مقام بدنه واستقراره إلى يوم معاد الأرواح إلى أجسادها. فرآه يصلي في قبره ورآه في السماء السادسة. كما أنه ﷺ في أرفع مكان في الرفيق الأعلى مستقرا هناك وبدنه في ضريحه غير مفقود. وإذا سلم عليه المسلم، ردّ الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام ولم يفارق الملأ الأعلى. ومن كثف إدراكه وغلظت طباعه عن إدراك هذا، فلينظر إلى الشمس في علوّ محلها وتعلقها وتأثيرها في الأرض، وحياة النبات والحيوان بها. هذا، وشأن الروح فوق هذا. فلها شأن وللأبدان شأن. وهذه النار تكون في محلها، وحرارتها تؤثر في الجسم البعيد عنها. مع أن الارتباط والتعلق الذي بين الروح والبدن أقوى وأكمل من ذلك وأتم. فشأن الروح أعلى من ذلك وألطف.
فقل للعيون الرّمد إياك أن تري | سنا الشّمس فاستغشي ظلام اللّياليا |
وتعقب العلامة القنوي له: بأنه نوع مراقبة وانسلاخ، والذي ذهب إليه الصوفية ساقط. لأنه فوقه بكثير. بل غيره كما تبين قبل. وبالجملة، فالذي فهمه الأكثرون من قول عائشة ومعاوية وحذيفة والحسن أن ذلك رؤيا منام. وما ذكره ابن القيّم من أنه إسراء بالروح- فيحتمله اللفظ المأثور عنهم.
ونظيره قول بعضهم: إن ذلك كان أمرا إعجازيا. والحقيقة أنه كشف روحانيّ.
وقد قرروا في عدم استحالة كونه يقظة بالروح والجسم أن خالق العالم قادر على كل الممكنات. وحصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحد في جسده ﷺ ممكن. فوجب كونه تعالى قادرا عليه. وغاية ما في الباب أنه خلاف العادة.
والمعجزات كلها كذلك. وفي (العقائد النسفية وحواشيها) : الخرق والالتئام على السموات جائز. لأن الأجسام كلها متماثلة في تركبها من الجواهر الفردة، فيصح على كلّ ما يصح على الآخر. فالأجسام العنصرية قابلة للخرق والالتئام. وكذا الأجسام الفلكية. والله تعالى قادرا على الممكنات كلها. فيكون قادرا على الخرق في السموات، لأنه ممكن فيها. وفي الرازيّ براهين أخر. فانظرها.
جاء في كتاب (إظهار الحق) أن بعض أهل الكتاب مارى في المعراج، فبكّت بأن صعود الجسم العنصريّ إلى الأفلاك صرّحت به التوراة الموجودة لديهم في (أخنوخ). وأنه نقل حيّا إلى السماء لئلا يرى الموت. كما في الفصل الخامس من سفر التكوين. وصرّحت في صعود (إليا) في الفصل الثاني من سفر الملوك. وفي إنجيل مرقس في الفصل السادس عشر التصريح برفع المسيح عليه السلام إلى السماء. انتهى.
أقول: أخنوخ هو إدريس عليه السلام المنوّه به في قوله تعالى: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [مريم: ٥٧]، وإيليا نبيّ أرسل إلى آحاب أحد ملوك اليهود الكفرة، الذين شهروا عبادة بعل وغيره من الأصنام بالسامرة. وتسمى الآن: سبسطيّة: من قسم الأرض المقدسة زعموا أنه ظهرت على يد إيليا خوارق باهرة. وأنه قتل سدنة بعل وهدم مذبحه. إلى أن ارتفع في مركبة نارية وخيل نارية نحو السماء. جانب نهر الأردن في بطاح أريحا. شاهده خليفته اليشاع النبيّ بعده. كذا في تاريخ الكتاب المقدس، و (إيليا) هو إلياس، و (اليشاع) هو اليسع المذكوران في القرآن المجيد
السادس: قيل: إن المسجد الأقصى في زمن الإسراء كان خرابا. بشهادة التاريخ. وذلك لأن سليمان عليه السلام بناه على مكان الصخرة. ثم خرب وألقيت على الصخرة زبالة البلد عنادا لليهود. وبقي كذلك حتى فتح أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه القدس. نظر (تاريخ أبي الفداء) وغيره. فكيف أطلق عليه اسم المسجد؟ وأجيب: بأن المسجد في حال هدمه يسمى مسجدا. باعتبار ما كان عليه وما وضع له. كما أطلق المسجد على حرم مكة. وهو لم يكن يومئذ مسجدا. وإنما كان بيتا للأصنام.
لكن إبراهيم وإسماعيل، لما بنيا الكعبة للعبادة الصحيحة، كما بنى سليمان هيكله هذا لها، سمي مسجدا بهذا الاعتبار. أو يقال: إنه أطلق عليهما اسم المسجد للإشارة إلى ما يؤول إليه أمرهما. وهو كونهما مسجدين للمسلمين.
السابع: في التفاضل بين ليلة القدر وليلة الإسراء. سئل الإمام تقي الدين أحمد ابن تيمية رضي الله عنه، عن رجل قال: ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، وقال آخر:
بل ليلة القدر أفضل. فأيهما المصيب؟
فأجاب: أما القائل بأن ليلة الإسراء أفضل من ليلة القدر، إن أراد به أن تكون الليلة التي أسري فيها بالنبيّ ﷺ ونظائرها من كل عام أفضل لأمة محمد ﷺ من ليلة القدر، بحيث يكون قيامها والدعاء فيها أفضل منه في ليلة القدر. فهذا باطل لم يقله أحد من المسلمين، وهو معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام. هذا إذا كانت ليلة الإسراء يعرف عينها. فكيف ولم يقم دليل معلوم لا على شهرها ولا عشرها ولا على عينها؟ بل النقول في ذلك منقطعة مختلفة، ليس فيها ما يقطع به، ولا شرع للمسلمين تخصيص الليلة، التي يظن أنها ليلة الإسراء، بقيام ولا غيره. بخلاف ليلة القدر فإنه
قد ثبت في الصحيحين «١» عن النبيّ ﷺ أنه قال: من قام ليلة القدر إيمانا
إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ | إلخ، حديث رقم ٣٣، عن أبي هريرة. |
وفي الصحيحين «١» عنه: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان. وقد أخبر سبحانه أنها خير من ألف شهر فإنه نزل فيها القرآن.
وإن أراد أن الليلة المعينة التي أسري فيها بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، وحصل له فيها ما لم يحصل له في غيرها، من غير أن يشرع تخصيصها بقيام ولا عبادة، فهذا صحيح.
وليس إذا أعطى الله نبيه ﷺ فضيلة في مكان أو زمان، يجب أن يكون ذلك الزمان والمكان أفضل من جميع الأمكنة والأزمنة، هذا إذا قدّر أنه قام دليل على أن إنعام الله تعالى على نبيه ليلة الإسراء كان أعظم من إنعامه عليه بإنزال القرآن ليلة القدر، وغير ذلك من النعم التي أنعم عليه. والكلام في مثل هذا يحتاج إلى علم بحقائق الأمر ومقادير النعم التي لا تعرف إلا بوحي. ولا يجوز لأحد أن يتكلم فيها بلا علم.
ولا يعرف عن أحد من المسلمين أنه نقل لليلة الإسراء فضيلة على غيرها. لا سيما على ليلة القدر. ولا كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يقصدون تخصيص ليلة الإسراء بأمر من الأمور ولا يذكرونها. ولهذا لا يعرف أي ليلة كانت. وإن كان الإسراء من أعظم فضائله ﷺ ومع هذا فلم يشرع تخصيص ذلك الزمان ولا ذلك المكان بعبادة شرعية. بل غار حراء الذي ابتدئ فيه بنزول الوحي، وكان يتحراه قبل النبوة، لم يقصده هو ولا أحد من أصحابه بعد النبوة، مدة مقامه بمكة. ولا خص اليوم الذي أنزل فيه الوحي بعبادة ولا غيرها. ولا خص المكان الذي ابتدئ فيه الوحي ولا الزمان بشيء. ومن خصّ الأمكنة والأزمنة من عنده بعبادات لأجل هذا وأمثاله، كان من جنس أهل الكتاب الذين جعلوا زمان أحوال المسيح مراسم وعبادات. كيوم الميلاد ويوم التعميد وغير ذلك من أحواله. وقد رأى عمر بن الخطاب جماعة يتبادرون مكانا يصلّون فيه. فقال: ما هذا؟ قالوا: مكان صلى فيه رسول الله ﷺ فقال أتريدون أن تتخذوا آثار أنبيائكم مساجد؟ إنما هلك من كان قبلكم بهذا. فمن أدركته فيه الصلاة فليصل، وإلا فليمض. وقد قال بعض الناس: إن ليلة الإسراء في حق النبيّ ﷺ أفضل من ليلة القدر. وليلة القدر بالنسبة إلى الأمة أفضل من ليلة الإسراء.
فهذه الليلة في حق الأمة أفضل لهم. وليلة الإسراء في حق رسول الله ﷺ أفضل له.
انتهى نقله الشمس ابن القيم (في زاد المعاد).
وأخرجه مسلم في: الصيام، حديث رقم ٢١٩.
رآه بفؤاده وصحّ عن عائشة وابن مسعود إنكار ذلك وقالا: إن قوله تعالى: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى [النجم: ١٣- ١٤]، إنما هو جبريل.
وصح عن أبي ذر أنه سأله: هل رأيت ربك؟ قال: نور أنّى أراه
. أي حال بيني وبين رؤيته النور.
كما
قال في لفظ آخر: رأيت نورا.
وقد حكى عثمان بن سعيد الدارميّ اتفاق الصحابة على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية، قدس الله روحه: وليس قول ابن عباس أنه رآه مناقضا لهذا. ولا قوله رآه بفؤاده.
وقد صح عنه أنه قال: رأيت ربي تبارك وتعالى
. ولكن لم يكن هذا في الإسراء ولكن كان في المدينة لما احتبس عنهم في صلاة الصبح. ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة في منامه.
وعلى هذا بنى الإمام أحمد رحمه الله وقال: نعم، رآه حقا. فإن رؤيا الأنبياء حق ولا بدّ. ولكن لم يقل أحمد إنه رآه بعيني رأسه. ومن حكى عنه ذلك فقد وهم عليه.
ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده. فحكيت عنه روايتان وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعيني رأسه. وهذه نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك. وأما قول ابن عباس: رآه بفؤاده مرتين. فإن كان استناده إلى قوله تعالى: ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى [النجم: ١١]، ثم قال: وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى [النجم: ١٣]، والظاهر أنه مستنده، فقد صح عنه ﷺ أن هذا المرئي جبريل. رآه مرتين في صورته التي خلق عليها. وقول ابن عباس هذا. هو مستند الإمام أحمد في قوله: رآه بفؤاده.
والله أعلم.
التاسع: قال الجاحظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه (التنوير في مولد السراج المنير) - بعد ذكره حديث الإسراء من طريق أنس- وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب وعليّ وابن مسعود وأبي ذرّ ومالك بن صعصعة وأبي هريرة وأبي سعيد وابن عباس وشداد بن أوس وأبيّ بن كعب وعبد الرحمن بن قرط وأبي حبّة وأبي ليلى الأنصاريين وعبد الله بن عمرو وجابر وحذيفة وبريدة وأبي أيوب وأبي أمامة وسمرة بن جندب وأبي الحمراء وصهيب الروميّ وأم هانئ وعائشة وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم، أجمعين، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره، على ما وقع في المسانيد. وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة. فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون. وأعرض عنه الزنادقة والملحدون.
انتهى.
وقد بقي ممن رواه من الصحابة. غير من تقدم- سهل بن سعد وعبد الله بن حوالة الأزدي وعبد الله بن أسعد بن زرارة وأبو الدرداء وعبد الله بن عمر. وأما من رواه من التابعين مرسلا فكثير. منهم الحسن بن الحسين عليهما السلام وكعب ومحمد بن الحنفية وعروة وسفيان الثوري والوليد بن مسلم وعبد الرحمن بن أبي ليلى وآخرون. كما يعلم من مراجعة (الدرّ المنثور) للحافظ السيوطيّ.
وأما طرقه في الصحيحين. فقال الحافظ ابن حجر في (الفتح) : إنها تدور على أنس بن مالك مع اختلاف أصحابه عنه. فرواه قتادة عنه عن مالك بن صعصعة. وليس في أحاديث المعراج أصحّ منه. ورواه الزهريّ عنه عن أبي ذر. ورواه شريك بن أبي نمر وثابت البنانيّ عنه عن النبيّ ﷺ بلا واسطة. وفي سياق كل منهم عنه ما ليس عند الآخر. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٣]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا، ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ، إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً.
قال ابن كثير: لما ذكر تعالى أنه أسرى بعبده محمد ﷺ عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه. فإنه تعالى كثيرا ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما السلام، وبين ذكر التوراة والقرآن. وقال الرازيّ لما ذكر الله تعالى في الآية الأولى إكرامه محمدا ﷺ بأن أسرى به، ذكر في هذه الآية أنه أكرم موسى عليه الصلاة والسلام قبله بالكتاب الذي آتاه. وقال الشهاب في (العناية) : عقبت آية الإسراء بهذه، استطرادا بجامع أن موسى عليه الصلاة والسلام أعطي التوراة بمسيره إلى الطور وهو بمنزلة معراجه. لأنه صح ثمة التكليم، وشرّف باسم الكليم مدمجا فيه تفاوت ما
وضمير (وجعلناه) للكتاب أو لموسى و (لبني إسرائيل) متعلق ب (هدى) أو ب (جعلناه)، وهي تعليلية.
وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا أي وليا ومعبودا تكلون إليه أموركم. لأنه تعالى أنزل على كل نبيّ أرسله، أن يعبده وحده لا شريك له، وقد قرئ: (ألا يتخذوا) بالياء على الغيبة على حذف لام التعليل. والتقدير: جعلناه هدى لئلا يتّخذوا وقرئ بالتاء على الخطاب، وفيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن (أن) بمعنى أي. وهي مفسرة لما تضمنه الكتاب من الأمر والنهي.
الثاني: أن (أن) زائدة، أي قلنا: لا تتخذوا.
الثالث: أن (لا) زائدة، زائدة والتقدير: مخافة أن تتخذوا. والوكيل والموكول إليه. أي المفوض إليه الأمور. وهو الرب. ف (فعيل) بمعنى مفعول. و (دون) بمعنى غير. و (من) زائدة. أو تبعيضية. وقوله: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص أو النداء. وفيه تهييج وتنبيه على المنة. والإنعام عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق بحملهم مع نوح في السفينة. وإيماء إلى علة النهي. كأنه قيل: لا تشركوا به فإنه المنعم عليكم والمنجي لكم من الشدائد. وأنهم ضعفاء محتاجون إلى لطفه.
وفي التعبير ب (الذرية) الغالب إطلاقها على الأطفال والنساء، مناسبة تامة لما ذكر.
وذكر حملهم في السفينة، للإشارة إلى أنه لم يكن لهم حينئذ وكيل يتكلون عليه سواه. وقوله: عَبْداً شَكُوراً أي لمعرفته بنعم الله واستعمالها على الوجه الذي ينبغي. وفيه إيماء بأن إنجاءه ومن معه كان ببركة شكره، وحث للذرية على الاقتداء به. وقيل: إنه استطراد. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٥]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥)
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ أي كتاب اللوح المحفوظ، أي حكمنا
قال السمين: في تعدية (قضينا) ب (إلى) تضمينه معنى أنفذنا. أي أنفذنا إليهم بالقضاء المحتوم. ومتعلق القضاء محذوف. أي بفسادهم. وقوله: لَتُفْسِدُنَّ جواب قسم محذوف مؤكد لمعنى القضاء، أو جواب لقوله: وَقَضَيْنا لأنه ضمن معنى القسم. ومنه قولهم (قضاء الله لأفعلن كذا) فيجرون القضاء والقدر مجرى القسم، فيتلقيان بما يتلقى به القسم. و (مرتين) أي إفسادتين. منصوب على أنه مصدر (لتفسدن) من غير لفظه. وعدل عنه، لأن تثنية المصدر وجمعه ليس بمطرد: وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً أي ولتستكبرن وتتعظمنّ عن طاعة الله تعالى، أو لتظلمن الناس فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أي موعود أولى المرتين، أي وما وعدوا به في المرة الأولى، يعني وعد المؤاخذة على أولى المفسدتين: بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أي ذوي قوة وبطش في الحرب، شديد فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ ترددوا خلال أماكنكم ومحالكم للقتل والسبي والنهب وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا أي مقضيّا لا صارف له.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦ الى ٨]
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ أي بعد هذه المؤاخذة الشديدة، رددنا، عند توبتكم، لكم الغلبة التي كانت لكم في الأصل، عليهم: وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً أي قوما ورهطا. جمع (نفر) أو اسم جمع له. وأصله من ينفر مع الرجل من قومه. وقوله تعالى: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها بمثابة التعليل لما قبله. أي فعلنا ذلك لتعلموا أنكم إن أحسنتم توبتكم وأعمالكم، أحسنتم لأنفسكم، بإبقاء الغلبة لها والإمداد بالأموال والبنين وتكثير النفير وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها أي فإساءتكم ضارة لها بغلبة الأعداء وسلب الأموال والبنين والنفير
قال الشهاب: عديت المساءة إلى الوجوه، وإن كانت عليهم، لأن آثار الأعراض النفسانية إنما تظهر في الوجه. كنضارة الوجه وإشراقه بالفرح. وكلوحه وسواده بالخوف والحزن. فالوجه، بمعنى الذات مجاز مرسل، أو استعارة تبعية. وقيل:
الوجوه بمعنى الرؤساء. وهو تكلف. واختير هذا على (ليسوؤكم) مع أنه أخصر وأظهر، إشارة إلى أنه جمع عليهم ألم النفس والبدن، المدلول بقوله: وَلِيُتَبِّرُوا.
انتهى.
وقوله تعالى: وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ أي الأقصى كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا أي يدمروا ما عَلَوْا تَتْبِيراً أي عظيما فظيعا، والتتبير: التدمير. وكل شيء كسرته وفتّته فقد تبرته. ثم أشار إلى أن فعله تعالى ليخلصوا توبتهم وأعمالهم بقوله:
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي إذ أخلصتم للإنابة، وأحسنتم الأعمال، وأقمتم الكتاب وما نزل إليكم، لأنكم علمتم من سنته تعالى أنه لا ينزل بلاء إلا بذنب ولا يرفعه إلا بتوبة، ولذا قال: وَإِنْ عُدْتُمْ أي بعد هذه التوبة والإنابة إلى الاستكبار عُدْنا أي إلى تسليط الأعداء وسلب الأموال والأولاد في الدنيا.
وَجَعَلْنا أي يوم القيامة جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي محبسا وسجنا يحصرهم في العذاب والحرمان عن الثواب.
قال الشهاب: إن كان- (حصيرا) - اسما للمكان فهو جامد لا يلزم تذكيره وتأنيثه. وإن كان بمعنى حاصرا أي محيطا بهم، وفعيل بمعنى فاعل، يلزم مطابقته.
فإما لأنه على النسب. كلابن وتامر. أو لحمه على (فعيل) بمعنى (مفعول). أو لأن تأنيث جهنم غير حقيقيّ أو لتأويلها بمذكر. انتهى.
وقيل: حصيرا، أي بساطا كما يبسط الحصير. مثل قوله تعالى: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ [الأعراف: ٤١]، فهو تشبيه بليغ. والحصير بهذا المعنى بمعنى محصور لحصر بعض طاقاته على بعض. كما قاله الراغب.
تنبيه:
روي أن بني إسرائيل كان الأمر مستتبا لهم في فلسطين إلى موت سليمان عليه
وثانيهما: دعي مملكة إسرائيل وهي المؤلفة من بقية الأسباط العشرة. وكان أول ملك على مملكة إسرائيل رجل يقال له يربعام. خاف من رجوع رعاياه إلى طاعة ابن سليمان إذا صعدوا إلى أورشليم في الأعياد الاحتفالية ليعبدوا الله في الهيكل ويقربوا ذبائحهم هناك. فأقام في مملكته عجلين من ذهب. وأمر رعيته بعبادتهما.
ورتب لهم أعيادا احتفالية وكهنة وقامت حروب هائلة بين ملوك هاتين الطائفتين.
وكان يتخللهما من الملوك من ينزع عبادة الأوثان. إلا أنه لا يلبث الحال حين يأتي ملك آخر فيعيد الوثنية. واستمرت مملكة إسرائيل نحوا من مائتين وخمسين سنة.
وفي نهاية أمرهم عظمت خطيئاتهم فسلط عليهم ملك أشّور ففتح السامرة- بلدهم- وسباهم إلى أشّور وانقرضت مملكة العشرة الأسباط ولم يسمع ذكرهم بعد. ثم أرسل ملك أشّور قوما من بلده وأسكنهم مدن السامرة ليعمروها مع من بقي من أهلها. وأرسل معهم كاهنا من اليهود ليقيم لمن بقي طقوسهم. فعادوا إلى شركهم وعبادة الأوثان مع الله تعالى. وأما مملكة يهوذا فبقيت بعد انقراض مملكة إسرائيل ما ينيف على عشرين سنة، وفي أواخر أيامها قام فيها ملك شرير. فزحف إليه ملك بابل نبوخذ ناصر (بختنصر) فسبى قسما من شعبه، وكان السبي الأول.
ثم قام، بعد ذلك الملك الشرير، ابنه. فسار على طريقة أبيه. فعاد إليه ملك بابل المذكور واستأسره هو وآله ورؤساءه وقسما من الشعب. وسلب الهيكل. وكان هذا السبي الثاني بعد ثماني سنين من الأول.
ثم قام فيهم ملك أشرّ ممن تقدم- وهو آخر ملوكهم- وفي أيامه حاصر ملك بابل المذكور أيضا بيت المقدس، وأسره إلى بابل، وأحرق المدينة والهيكل، وسبى كل شعب يهوذا، ما عدا مساكين الأرض، إلى بابل. وهذا هو السبي الثالث والأخير.
وهكذا انقرضت هذه المملكة وكانت إقامتهم في بابل سبعين سنة. ثم أطلقوا من الأسر فعادوا إلى بيت المقدس. وجددوا عمارتها وقيام الهيكل. وبقيت اليهود تحت تسلط ملوك فارس إلى أن ظهر الإسكندر الكبير. وغلبت اليونان الفرس وجاء
منها مملكة سورية ومصر. وكانت بينهما حروب متصلة. والإسرائيليون، لما كانوا بينهم، كانوا تارة تحت تملك مصر وأخرى تحت تسلط سورية. واتفق في خلال ذلك أن رفض كثير من اليهود الديانة اليهودية، وتمسكوا بديانة اليونانيين.
ثم استولى الرومانيين على فلسطين. وجرت حروب هائلة بينهم وبين اليهود، أفضى الأمر إلى تسلط الرومانيين عليهم. وتملكوا بيت المقدس. وهدم تيطس، أحد ملوكهم، الهيكل إلى أساسه. وأحرق كتب اليهود وتشتت أمرهم، ولم يبق لهم ملك ولا رئاسة بعده وزعموا أن ذلك بعد رفع المسيح بنحو أربعين سنة، وزعموا أن الهيكل تراجع للعمارة ورمم، إلى أن سارت هيلانة، أم قسطنطين إلى القدس وبنت كنيسة على القبر، الذي يزعم النصارى أنه قبر المسيح. وخربت الهيكل وأمرت أن تلقي فيه قمامات البلد وزبالته فصار موضع الصخرة مزبلة. وبقي كذلك حتى قدم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وفتح القدس. فأمر بتنظيفه وبنى في قبلته مسجدا، إلى أن ملك الوليد بن عبد الملك، فجدد بناءه على أساسه القديم وبنى قبة الصخرة.
وتفصيل هذه الماجريات معروفة في كتب التاريخ. ونحن لم نورد ما أوردناه على أنه تفسير للآية. لأنها بإيجازها غنية عنه، وفي تفسيرنا لألفاظها كفاية في فهمها، إلا أن أكثر المفسرين تطرفوا لبعض ما جريات اليهود هنا، فنقحنا منها أحسن ما حرره المؤرخون المتأخرون، إيضاحا لأفاعيلهم التي أشارت إليها الآيات الكريمة.
وقد قدمنا في سورة يوسف أنه ليس في القرآن شيء من التاريخ من حيث هو قصص وأخبار. وإنما هي الآيات في العبر تجلت في سياق الوقائع. ولذلك لم تذكر قصة بتفاصيلها. وإنما يذكر موضع العبرة فيها. كما قال تعالى: لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [يوسف: ١١١].
ثم بيّن تعالى مزية التنزيل الكريم التي فاق بها سائر ما أنزل، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩)
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي للحالة التي هي أقوم الحالات وأسدّها أو للملة، أو للطريقة.
وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي يبشر المخلصين في إيمانهم، وهم الذين يعملون الصالحات كلها، ويجتنبون السيئات أن لهم في الدنيا والآخرة ثوابا وافرا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠ الى ١١]
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي بالبعث والجزاء على الأعمال أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً أي في الآخرة، وهو عذاب النار.
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي مثل دعائه بالخير وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا قال أبو السعود: الآية بيان لحال المهديّ إثر بيان حال الهادي. وإظهار لما بينهما من التباين. والمراد بالإنسان الجنس، أسند إليه حال بعض أفراده. أو حكى عنه حاله في بعض أحيانه. فالمعنى، على الأول: أن القرآن يدعو الإنسان إلى الخير الذي لا خير فوقه من الأجر الكبير. ويحذره من الشر الذي لا شر وراءه من العذاب الأليم، وهو- أي بعض منه وهو الكافر- يدعو لنفسه بما هو الشر من العذاب المذكور، إما بلسانه حقيقة كدأب من قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال: ٣٢]، ومن قال:
فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الأعراف: ٧٠]، إلى غير ذلك مما حكى عنهم- وإما بأعمالهم السيئة المفضية إليه، الموجبة له مجازا. كما هو ديدن كلهم.
وقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يعني بالإنسان من أسند إليه الدعاء المذكور من أفراده. عجولا يسارع إلى طلب ما يخطر بباله، متعاميا عن ضرره. أو مبالغا في العجلة يستعجل العذاب وهو آتيه لا محالة. ففيه نوع تهكم به. وعلى تقدير حمل الدعاء على أعمالهم، تحمل العجولية على اللج والتمادي في استيجاب العذاب بتلك الأعمال.
وعلى الثاني: أن القرآن يدعو الإنسان إلى ما هو خير. وهو في بعض أحيانه، كما عند الغضب، يدعه ويدعو الله تعالى لنفسه وأهله وماله بما هو شر. وكان
ثم أشار تعالى إلى بعض وجوه الهداية في القرآن، بالإرشاد إلى مسلك الاستدلال بالآيات والدلائل الآفاقية، التي كل منها برهان نيّر لا ريب فيه. ومنهاج بيّن لا يضل من ينتحيه، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٢]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي جعلناهما، بهيئاتهما وتعاقبهما واختلافهما في الطول والقصر، علامتين تدلان على أن لهما خالقا حكيما: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي بجعلها مظلمة وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي مضيئة لتمييز الأشياء المحسوسة.
والإضافة فيهما إما بيانية، أي الآية التي هي الليل والآية التي هي النهار. وإما حقيقية.
وآية الليل والنهار نيّراهما. والمراد بمحو القمر خلقه مطموس النور في نفسه. أو نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا إلى المحاق. وبجعل الشمس مبصرة إبداعها مضيئة بالذات. ذات أشعة تبصر بها الأشياء، فالإسناد في (مبصرة) مجازي إلى السبب العاديّ، أو تجوز بعلاقة السبب. وقوله تعالى: لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ متعلق ب (جعلنا) أي لتطلبوا في النهار رزقا منه سبحانه بالانتشار للمعاش والصناعات والأعمال والأسفار. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي الحساب المتعلق بما في ضمن السنين من الأشهر والليالي والأيام، أو الحساب الجاري في المعاملات، كالبيوع والإجارات. وفي العبادات، أي لتعرف مضيّ الآجال المضروبة لذلك. إذ لو لاه لما علم أحد حسبان الأوقات ولتعطلت الأمور.
قال السيوطيّ في (الإكليل) : هذه الآية أصل في علم المواقيت والهيئة والتاريخ. وفي الآية لف ونشر غير مرتب. انتهى.
وقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أي مما تفتقرون إليه في دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي بيناه في القرآن بيانا بليغا لا التباس معه. كقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل: ٨٩]، فظهر كونه هاديا للتي هي أقوم ظهورا بيّنا.
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي ألزمناه عمله الصادر منه باختياره خيرا وشرّا، بحيث لا يفارقه أبدا. بل يلزمه لزوم الطوق في العنق، لا ينفكّ عنه بحال.
قال الطبريّ: المعنى: وكل إنسان ألزمناه ما قضي أنه عامله، وهو صائر إليه من شقاء أو سعادة بعمله، في عنقه لا يفارقه. وإنما قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ مثل لما كانت العرب تتفاءل به أو تتشاءم من سوانح الطير وبوارحها.
وذلك أن العرب كانوا إذا أرادوا الإقدام على عمل من الأعمال وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خير أو إلى شر، اعتبروا أحوال الطير: وهو أنه يطير بنفسه أو يحتاج إلى إزعاجه. وإذا طار فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجوّ، إلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر والسعادة والنحوسة، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر، تسمية للشيء باسم لازمه.
قال الطبريّ: فأعلمهم جل ثناؤه أن كل إنسان منهم قد ألزمه ربه طائره في عنقه، نحسا كان ذلك الذي ألزمه من الطائر وشقاء يورده سعيرا أو كان سعدا يورده جنان عدن. وإنما أضيف إلى العنق ولم يضف إلى اليد أو غيرها من أعضاء الجسد، قيل لأن العنق هو موضع السمات وموضع القلائد والأطوقة وغير ذلك مما يزين أو يشين، فجرى كلام العرب بنسبة الأشياء اللازمة ببني آدم وغيرهم من ذلك، إلى أعناقهم. وكثر استعمالهم ذلك حتى أضافوا الأشياء اللازمة سائر الأبدان إلى الأعناق.
كما أضافوا جنايات أعضاء الأبدان إلى اليد، فقالوا: ذلك بما كسبت يداه. وإن كان الذي جرّ عليه لسانه أو فرجه. فكذلك. قوله: أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وحاصله- كما قاله الرزيّ- أن قوله: فِي عُنُقِهِ كناية عن اللزوم. كما يقال: (جعلت هذا في عنقك) أي قلدتك هذا العمل وألزمتك الاحتفاظ به. ويقال: (قلدتك كذا وطوقتك كذا) أي صرفته إليك وألزمته إياك. ومنه (قلده السلطان كذا) أي صارت الولاية،
قال القاشانيّ: كِتاباً هيكلا مصورا يصوّر أعماله يَلْقاهُ مَنْشُوراً لظهور تلك الهيئات فيه بالفعل مفصلة، لا مطويا كما كان عند كونها فيه بالقوة. يقال له:
اقْرَأْ كِتابَكَ أي اقرأه قراءة المأمور الممتثل لأمر آمر مطاع يأمره بالقراءة. أو تأمره القوى الملكوتية. سواء كان قارئا أو غير قارئ. لأن الأعمال هناك ممثّلة بهيئاتها وصورها، يعرفها كل أحد. لا على سبيل الكتابة بالحروف فلا يعرفها الأمىّ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً لأن نفسه تشاهد ما فعلته لازما إياها، نصب عينها، مفصلا لا يمكنها الإنكار.
وقوله تعالى: مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ قال أبو السعود: فذلكة لما تقدم من بيان كون القرآن هاديا لأقوم الطرائق، ولزوم الأعمال لأصحابها. أي من اهتدى بهدايته، وعمل بما فيه تضاعيفه من الأحكام، وانتهى عما نهاه عنه، فإنما تعود منفعة اهتدائه إلى نفسه، لا تتخطاه إلى غيره ممن لا يهتدي وَمَنْ ضَلَّ أي عن الطريقة التي يهديه إليها: فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي وبال ضلاله عليها، لا على من عداه ممن لم يباشره. فقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى مؤكد لما قبله للاهتمام به.
قال أبو السعود: أي لا تحمل نفسه حاملة للوزر، وزر نفس أخرى، حتى يمكن تخلص النفس الثانية عن وزرها. ويختل ما بين العامل وعمله من التلازم. بل إنما تحمل كل منهما وزرها. وهذا تحقيق لمعنى قوله عزّ وجلّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وأما ما يدل عليه قوله تعالى: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها، وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها [النساء: ٨٥]، وقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل: ٢٥]، من حمل الغير وزر الغير، وانتفاعه بحسنته، وتضرره بسيئته، فهو في الحقيقة انتفاع بحسنة نفسه، وتضرر بسيئته. فإن جزاء الحسنة والسيئة اللتين يعملهما العامل لازم له. وإنما الذي يصل إلى من يشفع، جزاء شفاعته، لا جزاء أصل الحسنة والسيئة. وكذلك جزاء الضلال مقصور على الضالين. وما يحمله المضلون، إنما هو جزاء الإضلال لا جزاء الضلال.
وقوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا بيان للعناية الربانية، إثر بيان اختصاص آثار الهداية والضلال بأصحابها، وعدم حرمان المهتدي من ثمرات هدايته، وعدم مؤاخذة النفس بجناية غيرها. أي: وما صح وما استقام منا، بل استحال في سنّتنا المبنية على الحكم البالغة، أن نعذّب قوما حتى نبعث إليهم رسولا يهديهم إلى الحق، ويردعهم عن الضلال، لإقامة الحجة وقطعا للعذر. والعذاب أعمّ من الدنيويّ والأخرويّ، لقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [طه: ١٣٤] وقال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ، قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ [الملك: ٨- ٩]، وكذا قوله: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً، حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر: ٧١]، وقال تعالى:
وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ، أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ، فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ [فاطر: ٣٧]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى لا يعذب قوما عذاب استئصال، ولا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسل. قال قتادة: إن الله تعالى لا يعذب أحدا حتى يتقدم إليه بخبر أو بيّنة. ولا يعذب أحدا إلا بذنبه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٦]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
بيان لوقوع التعذيب بعد الرسالة. وأنه إنما كان للتمرد على الرسل والتنكب عن منهجهم. وقد تدل الآية على أن التعذيب المتقدم مراد به الهلاك الدنيويّ لانحصارها فيه. والمعنى: إذا أردنا أن نعذب قوما عذاب استئصال أَمَرْنا مُتْرَفِيها
يعني متنعميها، بالطاعة على لسان الرسول المبعوث إليهم فَفَسَقُوا فِيها
بمخالفة أمره تعالى والخروج عن طاعته فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
فوجب عليها، بمعصيتهم وفسقهم وطغيانهم، وعيد الله الذي أوعد من كفر به وخالف رسله، من الهلاك بعد
أي فخربناها تخريبا لا يكتنه كنهه ولا يوصف. وأهلكنا من كان فيها من أهلها إهلاكا هائلا. كما جرى لبيت المقدس، لما انحرف اليهود عن شرعتهم، على ما قدمنا بيانه، وإنما خص المترفين، وهم الجبارون والملوك والرؤساء، بالذكر مع توجه الأمر إلى الكل، لأنهم الأصل في الخطاب والباقي تبع لهم. ولأن توجه الأمر إليهم آكد. وإنما حذف مفعول أَمَرْنا
لظهور أن المراد به الحق والخير. لا سيما بعد ذكر هداية القرآن لما يهدي إليه. وفي إيثار (القرية) على أهلها زيادة تهويل وتفظيع، إشارة إلى التنكيل بهم بهدم صروحهم ودورهم، وطمس أثرهم، وهو أوجع للقلب وأنكى للعدوّ. ولذلك أتى إثره بالمصدر المؤكد فقال: تَدْمِيراً
أي كليّا بحيث لم يبق لهم زرع أو ضرع.
قال القاشانيّ: إن لكل شيء في الدنيا زوالا. وزواله بحصول استعداد يقتضي ذلك. وكما أن زوال البدن بزوال الاعتدال، وحصول انحراف يبعده عن بقائه وثباته، فكذلك هلاك المدينة وزوالها بحدوث انحراف فيها من الجادة المستقيمة التي هي صراط الله وهي الشريعة الحافظة للنظام. فإذا جاء وقت إهلاك قرية، فلا بد من استحقاقها للإهلاك. وذلك بالفسق والخروج عن طاعة الله. فلما تعلقت إرادته بإهلاكها، تقدمه أولا بالضرورة فسق مترفيها من أصحاب الترف والتنعم بطرا وأشرا بنعمة الله، واستعمالا لها فيما لا ينبغي. وذلك بأمر من الله وقدر منه، لشقاوة كانت تلزم استعداداتهم. وحينئذ وجب إهلاكهم. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٧]
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ أي وكثيرا ما أهلكنا من الأمم الكافرة من بعد زمن نوح، كعاد وثمود وفرعون. ممن قصّت أنباؤهم في القرآن العظيم ومن لم تقص. والْقُرُونِ جمع قرن يطلق على الزمن المعين وعلى أهله المقترنين فيه، وعلى كل أمة هلكت فلم يبق منها أحد. وخص نُوحٍ ولم يقل (من بعد آدم) لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب. ففيه تهديد وإنذار للمشركين.
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي لا يخفى عليه شيء منها. فيدرك سرها وعلنها وسيجازي عليها.
والآية تدل- كما قال الزمخشريّ: على أن الذنوب هي أسباب الهلكة، وذلك لأنه لما عقب إهلاكهم بعلمه بالذنوب علما أتمّ، دل على أنه جازاهم بها.
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً، وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً.
أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، ولها يعمل ويسعى، وإياها يبتغي. لا يوقن بمعاد ولا يرجو ثوابا ولا عقابا من ربه على عمله، عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد.
أي ما نشاؤه من بسط الدنيا عليه أو تقتيرها لمن أراد الله أن يفعل به ذلك. أو من إهلاكه بما يشاء تعالى من عقوباته المعجلة. ثم يصلي جهنم في الآخرة مذموما على قلة شكره لمولاه، وسوء صنيعه فيما سلف له. مدحورا مطرودا من الرحمة، مبعدا مقصيّا في النار. ومن أراد الآخرة وإياها طلب، ولها عمل عملها الذي هو طاعة الله وما يرضيه عنه، فأولئك كان عملهم مشكورا بحسن الجزاء.
تنبيه:
قال القفال رحمه الله: هذه الآية داخلة في معنى قوله: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ فالآية الأولى تشير إلى من جعل طائر نفسه شؤما. والثانية لمن جعله يمنا وخيرا. وفي قوله تعالى: وَسَعى لَها سَعْيَها أي ما يحق ويليق بها من الأعمال الصالحة، تبيين لقوله: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ بأن إرادتها هو بالسعي والنصب في مغالبة الباطل وإعلاء شأن الحق مع التلبس بالإيمان الصحيح. بفعل المأمور واجتناب المنهيّ عنه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٠ الى ٢٢]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
كُلًّا نُمِدُّ أي كل واحد من الفريقين. وقوله: هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ بدل من
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٤]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)
وَقَضى رَبُّكَ أي أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: وبأن تحسنوا بالوالدين إحسانا. قال القاشاني: قرن سبحانه وتعالى إحسان الوالدين بالتوحيد وتخصيصه بالعبادة، لكونهما مناسبين للحضرة الربوبية، لتربيتها إياك عاجزا صغيرا ضعيفا لا قدرة لك ولا حراك بك. وهما أول مظهر ظهر فيه آثار صفات الله تعالى من الإيجاد والربوبية. والرحمة والرأفة بالنسبة إليك. ومع ذلك فإنهما محتاجان إلى قضاء حقوقهما، والله غنيّ عن ذلك. فأهم الواجبات بعد التوحيد، إذا، إكرامهما والقيام بحقوقهما ما أمكن إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً في هذا من المبالغة في إكرام الوالدين وبرهما ما لا يخفى. وإِمَّا هي (إن) الشرطية زيدت عليها (ما) تأكيدا لها.
وأَحَدُهُما فاعل (يبلغن) وكِلاهُما عطف عليه. ومعنى عِنْدَكَ هو أن يكبرا ويعجزا، وكانا كلّا على ولدهما، ولا كافل لهما غيره، فهما عنده في بيته وكنفه. وذلك أشق عليه وأشد احتمالا وصبرا. وربما تولى منهما ما كانا يتوليان منه،
وقوله: وَلا تَنْهَرْهُما أي تزجرهم عما لا يعجبك، بغلظة وَقُلْ لَهُما بدل التأفيف والنهر قَوْلًا كَرِيماً أي حسنا كما يقتضيه حسن الأدب معهما. ومعنى قوله: وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ
تذلّل لهما وتواضع. وفيه استعارة مكنية وتخييلية. فشبه الذل بطائر تشبيها مضمرا، وأثبت له الجناح تخييلا، والخفض ترشيحا. و (خفضه) ما يفعله إذا ضم أفراخه للتربية. أو استعارة تصريحية في المفرد وهو الجناح، والخفض ترشيح. و (الجناح) الجانب كما يقال (جناحا العسكر) وخفضه مجاز. كما يقال (ليّن الجانب) و (منخفض الجانب) وإضافة الجناح إلى الذل للبيان. لأن صفة مبيّنة. أي جناحك الذليل. وفيه مبالغة لأنه وصف بالمصدر.
فكأنه جعل الجناح عين الذل. أو التركيب استعارة تمثيلية. فيكون مثلا لغاية التواضع. وسر ذكر الجناح وخفضه، تصوير الذل كأنه مشاهد محسوس. ومِنَ من قوله تعالى: مِنَ الرَّحْمَةِ ابتدائية على سبيل التعليل. أي من فرط رحمتك لهما، وعطفك عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم، إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس. وافتقار المرء إلى من كان مفتقرا له، غاية في الضراعة والمسكنة. فيرحمه أشد رحمة. كما قال الخفاجيّ:
يا من أتى يسأل عن فاقتي | ما حال من يسأل من سائله؟ |
ما ذلة السلطان إلا إذا | أصبح محتاجا إلى عامله |
قال الزمخشري: أي لا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها، وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية. واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. والكاف للتعليل. أي لأجل تربيتهما لي.
قال الطيبيّ: الكاف لتأكيد الوجود. كأنه قيل: رب ارحمهما رحمة محققة مكشوفة لا ريب فيها كقوله: مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات: ٢٣]، وهو وجه حسن.
استحب بعض السلف أن يدعو المرء لوالديه في أواخر التشهد قبيل السلام، لأنه وقت فاضل. وقد جمعت من الأدعية المأثورة للوالدين المتوفيين أو أحدهما، جملة ضممتها لكتابي (الأوراد المأثورة). لا أزال أدعو لهما بما في السحر أو بين أذان الفجر وإقامة صلاته، لما أرى من مزية هذا الوقت على غيره. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٥ الى ٢٧]
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي ضمائركم من قصد البر إلى الوالدين والعقوق إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي قاصدين للصلاح والبرّ دون العقوق فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ أي التوابين الرجاعين إليه تعالى بالندم عما فرط منهم، والاستقامة على المأمور غَفُوراً أي لهم ما اكتسبوا. ولا يخفى ما في صدر الآية من الوعد لمن أضمر البرّ. والوعيد لمن أضمر الكراهة والاستثقال والعقوق.
قيل: الآية استئناف يقتضيه مقام التأكيد والتشديد. كأنه قيل: كيف يقوم بحقهما وقد تبدر بوادر؟ قفيل: إذا بنيتم الأمر على الأساس، وكان المستمر ذلك، ثم اتفقت بادرة من غير قصد إلى المساءة، فلطف الله يحجز دون عذابه. ويجوز- كما قال الزمخشريّ- أن يكون هذا عامّا لكل من فرطت منه جناية ثم تاب منها.
ويندرج تحته الجاني على أبويه، التائب من جنايته، لوروده على أثره. ثم وصّى تعالى بغير الوالدين من الأقارب، بعد الوصية بهما، بقوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ أي من صلته وحسن المعاشرة والبرّ له بالاتفاق عليه.
قال المهايميّ: لم يقل (القريب) لأن المطلق ينصرف إلى الكامل. والإضافة، لما كانت لأدنى الملابسة، صدق (ذو القربى) على كل من له قرابة ما.
وَالْمِسْكِينَ أي الفقير من الأباعد. وفي الأقارب مع الصدقة صلة الرحم. وَابْنَ السَّبِيلِ أي المسافر المنقطع به. أي أعنه وقوّه على قطع سفره. ويدخل فيه ما يعطاه من حمولة أو معونة أو ضيافة. فإن ذلك كله من حقه وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي بوجه من الوجوه، بالإنفاق في محرم أو مكروه، أو على من لا يستحق، فتحسبه
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أمثالهم في كفران نعمة المال بصرفه فيما لا ينبغي. وهذا غاية المذمة لأن لا شرّ من الشيطان. أو هم إخوانهم أتباعهم في المصادقة والإطاعة. كما يطيع الصديق صديقه والتابع متبوعه، أو هم قرناؤهم في النار على سبيل الوعيد. والجملة تعليل المنهي عنه عن التبذير، ببيان أنه يجعل صاحبه مقرونا معهم. وقوله: وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً من تتمة التعليل. قال أبو السعود: أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى، أي مبالغا في كفران نعمته تعالى. لأن شأنه أن يصرف جميع ما أعطاه الله تعالى من القوى، إلى غير ما خلقت له من أنواع المعاصي. والإفساد في الأرض، وإضلال الناس، وحملهم على الكفر بالله وكفران نعمه الفائضة عليهم، وصرفها إلى غير ما أمر الله تعالى به. وتخصيص هذا الوصف بالذكر. من بين سائر أوصافه القبيحة، للإيذان بأن التبذير، الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها، من باب الكفران، المقابل للشكر الذي هو عبارة عن صرفها إلى ما خلقت هي له. والتعرض لوصف الربوبية للإشعار بكمل عتوّه. فإن كفران نعمة الربّ، مع كون الربوبية من أقوى الدواعي إلى شكرها، غاية الكفران ونهاية الضلال والطغيان. انتهى.
وقد استدل بالآية من منع إعطاء المال كله في سبيل الخير، ومن منع الصدقة بكل ماله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٨]
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي وإن أن أعرضت عن ذوي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الردّ، لانتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فتعطيه، فلا تؤيسهم وقل لهم قولا لينا سهلا، وعدهم وعدا جميلا. قال في (الكشف) :(ابتغاء) أقيم مقام فقدانه. وفيه لطف. فكأن ذلك الإعراض لأجل السعي لهم. وهو من وضع المسبب موضع السبب. فإن الفقد سبب للابتغاء.
وظاهر، أن القول الميسور يشمل الكل. وذهب المهايميّ إلى أن الآية في منعهم خوفا من أن يصرفوه فيما لا ينبغي. قال: أي وإن تحقق إعراضك عمن تريد الإحسان إليهم، طلب رحمة من ربك في المنع عنهم لئلا يقعوا في التبذير، بصرف المعطي إلى شرب الخمر أو الزنى، لما عرفت من عاداتهم، فقل لهم في الدفع قولا سهلا عليهم، إحسانا إليهم بدل العطاء. انتهى.
ولم أره لغيره. والنظم الكريم يحتمله.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٢٩]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩)
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسك يدك عن النفقة والعطية لمن له حق ممن تقدم، بمنزلة المشدودة يده إلى عنقه، الذي لا يقدر على الأخذ بها والإعطاء وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي بالتبذير والسرف. قال ابن كثير: أي لا تسرف في الإنفاق فتعطي غير طاقتك وتخرج أكثر من دخلك فَتَقْعُدَ أي فتبقى مَلُوماً يلومك الفقراء والقرابة مَحْسُوراً أي نادما، من (الحسرة) أو منقطعا بك لا شيء عندك من (حسرة السفر) إذا بلغ منه الجهد وأثر فيه.
وفي النهيين استعارتان تمثيليتان شبه في الأولى فعل الشحيح في منعه، بمن يده مغلولة لعنقه، بحيث لا يقدر على مدّها.
وفي الثانية، شبه السرف ببسط الكف بحيث لا تحفظ شيئا. وهو ظاهر.
وجعل ابن كثير قوله تعالى: فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً من باب اللف والنشر المرتب.
قال: أي فتقعد، إن بخلت، ملوما يلومك الناس ويذمونك. ويستغنون عنك كما قال زهير في المعلقة:
ومن كان ذا مال فيبخل بماله | على قومه يستغن عنه ويذمم |
وهي الدابة التي عجزت عن السير، فوقفت ضعفا وعجزا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٠]
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يوسعه ويضيقه، حسب مشيئته
قال المهايميّ: ولما وجب إيتاء ذي القربى والمسكين وابن السبيل، لحفظ أرواحهم، فالأولاد بحفظ الأرواح أولى، لذلك قال تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣١]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ نهي لهم عما كانوا يفعلونه في الجاهلية من قتلهم أولادهم. وهو وأدهم بناتهم. أي دفنهن في الحياة.
كانوا يئدونهن خشية الفاقة وهي الإملاق والفقر، بالإنفاق عليهم إذا كبروا. فنهاهم الله وضمن لهم أرزاقهم بقوله: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ أي نحن المختصون بإعطاء رزقهم في الصغر والكبر، وقوله تعالى: وَإِيَّاكُمْ أي الآن بإغنائكم. وقوله تعالى: إِنَّ قَتْلَهُمْ أي للإملاق الحاضر والخشية في المستقبل كانَ خِطْأً كَبِيراً أي لإفضائه إلى تخريب العالم. وأي خطء أكبر من ذلك.
تنبيه:
دل قوله تعالى: خَشْيَةَ إِمْلاقٍ على أن ذلك هو الحامل لهم على الوأد، لا خوف العار كما زعموا. قال المبرّد في (الكامل) : كانت العرب في الجاهلية تئد البنات. ولم يكن هذا في جميعها. إنما كان في تميم بن مرّ، وقيس، وأسد، وهذيل، وبكر بن وائل.
ثم قال: ودل على ما من أجله قتلوا البنات فقال: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ وقال: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ [الممتحنة: ١٢]، فهذا خبر بيّن أنّ ذلك للحاجة. وقد روى بعضهم أنهم إنما فعلوا ذلك أنفة. وذكر أبو عبيدة معمر بن المثنّى أن تميما منعت النعمان الإتاوة. فوجه إليهم أخاه الريان بن المنذر، فاستاق النعم وسبى الذراري. فوفدت إليه بنو تميم. فلما رآها أحب البقيا. فأناب القوم وسألوه النساء. فقال النعمان: كل امرأة اختارت أباها ردت إليه، وإن اختارت صاحبها تركت عليه. فكلهن اختار أباها إلا ابنة القيس بن عاصم فإنها اختارت صاحبها عمرو ابن المشمرج. فنذر قيس ألا تولد له ابنة إلا قتلها. فهذا شيء يعتلّ به من وأد، ويقول: فعلناه أنفة، وقد أكذب ذلك بما أنزل الله تعالى في القرآن.
وقال ابن عباس رحمه الله (في تأويل هذه الآية) : وكانوا لا يورّثون ولا
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٢]
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢)
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي فعلة قبيحة متناهية في القبح. توجب النفرة عن صاحبه، والتفرقة بين الناس وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريقه. فإنه غصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاف أمر الأنساب، وهيجان الفتن غصبا من غير سبب. والسبب ممكن. وهو الصهر الذي شرعه الله، وقال المهايميّ: ساءَ سَبِيلًا لقضاء الشهرة التي خلقت لطلب النسل، بتضييعه. ثم ذكر ما هو أعظم في التنفير، والتفرقة فقال تعالى مجده:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٣]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣)
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي قتلها وهي نفس الإنسان إِلَّا بِالْحَقِّ أي إلا بسبب الحق، فيتعلق ب لا تَقْتُلُوا أو حال من فاعل (لا تقتلوا) أو من مفعوله.
وجوز تعلقه ب (حرّم) أي حرّم قتلها إلا بالحق. وحقها أن لا تقتل إلا بكفر بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان، أو قودا بنفس وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً أي ومن قتل بغير حق، مما تقدم، فقد جعلنا لوليّه، الذي بينه وبينه قرابة توجب المطالبة بدمه سُلْطاناً أي تسلطا على القاتل في الاقتصاص منه. أو حجة يثب بها عليه، وحينئذ فلا يسرف في القتل. أي فلا يقتل غير القاتل، ولا اثنين والقاتل واحد، كعادة الجاهلية. كان إذا قتل منهم واحد قتلوا به جماعة. وقوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً تعليل للنهي. والضمير للوليّ. يعني: حسبه أن الله قد نصره بأن أوجب له القصاص، فلا يستزد على ذلك.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٤]
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٣٥]
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ أي أتموه إذا كلتم لغيركم ولا تبخسوه وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ أي بالميزان السوي بلا اعوجاج ولا خديعة ذلِكَ خَيْرٌ أي لكم في معاشكم لانتظام أموركم بالعدل، وإيفاء الحقوق أربابها وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي عاقبة ومآلا إذ ليس معه مظلمة يطالب بها يوم القيامة. ثم أمر تعالى برعاية القسطاس المعنويّ.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تتبعه في قول أو فعل، تسنده إلى سمع أو بصر أو عقل. من (قفا أثره) إذا تبعه.
قال الزمخشري: والمراد النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، وأن يعمل بما لا يعلم. ويدخل فيه النهي عن التقليد دخولا ظاهرا، لأنه اتباع لما لا يعلم صحته من فساده، انتهى.
ولا يخفى ما يندرج تحت هذه الآية من أنواع كثيرة. كمذاهب الجاهلية في الإلهيات والتحريم والتحليل. وكشهادة الزور والقذف ورمي المحصنات الغافلات والكذب وما شاكلها إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا أي كان
قال المهايمي: قدم السمع لأن أكثر ما ينسب الناس أقوالهم إليه. وأخر الفؤاد، لأن منتهى الحواس. ولم يذكر بقيتها لأنه لا يخالفها قول أو فعل.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي مختالا. أي مشية المعجب المتكبر. إذ لا يفيدك قوة ولا علوّا. كما قال سبحانه: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تجعل فيها خرقا بدوسك لها، وشدة وطأتك: وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لن تحاذيها بتطاولك ومدّ قامتك، كما يفعله المختال تكلفا، وفي هذا تهكم بالمختال، وإيذان بأن ذلك مفاخرة مع الأرض وبعض أجزائها.
قال الناصر: وفي هذا التهكم والتقريع لمن يعتاد هذه المشية، كفاية في الانزجار عنها. ولقد حفظ الله عوامّ زماننا عن هذه المشية. وتورط فيها قراؤنا وفقهاؤنا. بينا أحدهم قد عرف مسألتين أو أجلس بين يديه طالبين، أو شدّ طرفا من رئاسة الدنيا، إذا هو يتبختر في مشيه، ويترجع ولا يرى أنه يطاول الجبال، ولكن يحك بيافوخه عنان السماء، كأنهم يمرون عليها وهم عنها معرضون. وماذا يفيده أن يقرأ القرآن أو يقرأ عليه، وقلبه عن تدبره على مراحل، والله ولي التوفيق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
كُلُّ ذلِكَ أي المنهيّ عنه من قوله: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إلى هذه الغاية: كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً قال المهايمي: أما الشرك فلإخلاله بالكمال المطلق الذي لا يتصور مع الشرك. وأما عبادة الغير فلما فيها من تعظيمه المخصوص بذي الكمال المطلق فهو في معنى الشرك، وأما العقوق فلأنه كفران نعمة الأبوين في التربية، أحوج ما يكون المرء إليها. ومنع الحقوق بالبخل تفريط، والتبذير والبسط إفراط. وهما مذمومان، والذميم مكروه. والقتل يمنع الحكمة من بلوغها إلى كمالها... والزنى وإتلاف مال اليتيم في معناه. ونقض العهد مخلّ بنظام العالم.
وكذا اقتفاء ما لا يعلم. والتكبر من خواص الحق. وعادة الملوك كراهة أن يأخذ أحد من خواصه شيئا: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي مما يحكم العقل بصحته، وتصلح النفس بأسوته.
قال أبو السعود: وقد رتب عليه ما هو عائدة الإشراك أوّلا حيث قيل: فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا ورتب عليه هاهنا نتيجة في العقبى فقيل: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي بالجهل العظيم مَدْحُوراً أي مبعدا مطرودا من الرحمة. وفي إيراد الإلقاء، مبنيا للمفعول، جري على سنن الكبرياء، وازدراء بالمشرك وجعل له، من قبيل خشبة يأخذها آخذ بكفه، فيطرحها في التنور. انتهى. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٠]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً، إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً.
خطاب للذين قالوا من مشركي العرب (الملائكة بنات الله) والهمزة للإنكار.
قال الزمخشريّ: والمعنى: أفخصكم ربكم، على وجه الخلوص والصفاء، بأفضل الأولاد وهم الذكور، ولم يجعل فيهم نصيبا لنفسه، واتخذ أدونهم، وهن البنات، وأنتم لا ترضونهن لأنفسكم، بل تئدونهن وتقتلونهن. فهذا خلاف الحكمة وما عليه معقولكم وعادتكم. فإن العبيد لا يؤثرون بأجود الأشياء، وأصفاها من الشوب، ويكون أردؤها وأدونها للسادات. وقوله تعالى: إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أي بإضافة الأولاد إليه، وهي خاصة المحدثات. ثم بإيثاركم أنفسكم عليه، حيث تجعلون له ما تكرهون.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤١ الى ٤٢]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ أي كررنا للناس البيان بوجوه كثيرة، وبينا فيه من كل مثل لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا ويعتبروا ويطمئنوا إلى ما يحتج به عليهم وَما يَزِيدُهُمْ أي التصريف المذكور إِلَّا نُفُوراً أي عن الحق وبعدا عنه، الذي يقربه وجوه البيان. وقوله تعالى: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا
وحاصله: أن السبيل بمعنى الوسيلة الموصلة إليه. وفيه إشارة إلى قياس اقترانيّ تقريره هكذا: ولو كان كما زعمتم معه آلهة لتقربوا إليه. وكل من كان كذلك ليس إلها، فهم ليسوا بآلهة. وقيل: معنى لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا أي لطلبوا إليه سبيلا بالمغالبة والممانعة، كما هو ديدن الملوك بعضهم مع بعض، على طريقة قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢] وهذا الوجه قدمه الزمخشري على الأول. وقال أبو السعود: إنه الأظهر الأنسب لقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٣ الى ٤٤]
سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
سُبْحانَهُ فإنه صريح في أن المراد بيان أنه يلزم مما يقولونه محذور عظيم، من حيث لا يحتسبون. وأما ابتغاء السبيل إليه تعالى بالتقرب، فليس مما يختص بهذا التقرير، ولا هو مما يلزمهم من حيث لا يشعرون. بل هو أمر يعتقدونه رأسا.
انتهى. ومعنى سُبْحانَهُ أي تنزه عن الولد والشريك تنزها حقيقا به وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً أي تعاظم عن ذلك تعاظما كبيرا. فإن مثل هذه الفرية والبهتان، مما يتنزه عنه مقامه الأسمى.
قال الشهاب: وذكّر العلوّ، بعد عنوانه ب (ذي العرش). في أعلى مراتب البلاغة. وقوله تعالى: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ، إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي تنزّه الله، وتقدسه وتجلّه السموات والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يصفه به المشركون.
وتشهد جميعها له بالوحدانية في إلهيته وربوبيته، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ
[مريم:
٩٠- ٩١]، وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي لأنها بخلاف لغاتكم.
قال ابن كثير: وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات، على أشهر القولين. ثم استدل بما صح من تسبيح الطعام، والحصا، ممّا خرج في الصحيحين والمسانيد، مما هو مشهور. واختاره الراغب في (مفرداته) وقال: إنه تسبيح على الحقيقة بدلالة قوله: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ودلالة قوله: وَمَنْ فِيهِنَّ بعد ذكر السموات والأرض لا يصح أن يكون تقديره (يسبح له من في السموات ويسجد له من في الأرض) لأن هذا من نفقهه، ولأنه محال أن يكون ذلك تقديره،. ثم يعطف عليه بقوله: وَمَنْ فِيهِنَّ والأشياء كلها تسبح له وتسجد بعضها بالتسخير وبعضها بالاختيار. والآية تدل على أن المذكورات تسبح باختيار، لما ذكر من الدلالة. انتهى.
وذهب كثيرون إلى أن التسبيح المذكور مجازيّ، على طريقة الاستعارة التمثيلية أو التبعية. ك (نطقت الحال). فإنه استعير فيه للتسبيح للدلالة على وجود فاعل قادر حكيم واجب الوجود منزه عن الولد والشريك، كما يدل الأثر على مؤثره.
فجعلت تلك الدلالة الحالية كأنه تنزيه له عما يخالفه.
وفي كل شيء له آية... تدل على أنه الواحد
قالوا: والخطاب في قوله تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ للمشركين. أي لإخلالكم بالنظر الصحيح الذي به يفهم تسبيحهم. وقد بالغ في رد القول الأول واختيار الثاني، الإمام ابن حزم في كتابه (الملل والنحل) ولا بأس بإيراده، لما فيه من الغرائب.
قال رحمه الله في الرد على من قال: (إنّ في البهائم رسلا) : إنما يخاطب الله تعالى بالحجة من يعقلها. قال الله تعالى: يا أُولِي الْأَلْبابِ [البقرة: ١٧٩]، وقد علمنا بضرورة الحس أن الله تعالى إنما خص بالنطق- الذي هو التصرف في العلوم ومعرفة الأشياء على ما هي عليه، والتصرف في الصناعات على اختلافها- الإنسان خاصة. وأضفنا إليهم، بالخبر الصادق، الجن والملائكة. ثم قال رحمه الله وقد قاد السخف بعضهم إلى أن جعل للجمادات تمييزا لمثل قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا
ونحوه من الآيات. ولا حجة لهم فيه. لأن القرآن واجب أن يحمل على ظاهره، كذلك كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم. ومن خالف ذلك كان عاصيا لله عزّ وجلّ، مبدلا لكلماته، ما لم يأت نص في أحدهما، أو إجماع متيقن، أو ضرورة حسّ على خلاف ظاهره، فيوقف عند ذلك. ويكون من حمله على ظاهره حينئذ ناسبا الكذب إلى الله عزّ وجلّ، أو كاذبا عليه وعلى نبيّه عليه السلام، نعوذ بالله من كلا الوجهين.
وإذ قد بينا قبل بالبراهين الضرورية أن الحيوان (غير الإنسان والجن والملائكة) لا نطق له. نعني أنه لا تصرف له في العلوم والصناعات. وكان هذا القول مشاهدا بالحس معلوما بالضرورة، لا ينكره إلا وقح مكابر لحسّه، وبينّا أن كل ما كان بخلاف التمييز المعهود عندنا، فإنه ليس تمييزا. وكان هذا أيضا يعلم بالضرورة والعيان والمشاهدة- فوجب أنه بخلاف ما يسمى في الشريعة واللغة نطقا وقولا وتسبيحا وسجودا. فقد وجب أنها أسماء مشتركة اتفقت ألفاظها. وأما معانيها فمختلفة، لا يحل لأحد أن يحملها على غير هذا. لأنه إن فعل كان مخبرا أن الله تعالى قال ما يبطله العيان والعقل الذي به عرفنا الله تعالى، ولو لاه ما عرفناه.
فاللفظ مشترك والمعنى هو ما قام الدليل عليه، بيان ذلك: أن التسبيح عندنا إنما هو قول (سبحان الله وبحمده) وبالضرورة نعلم أن الحجارة والخشب والهوامّ والشحرات والألوان لا تقول (سبحان الله بالسين والباء والحاء والألف والنون واللام والهاء) هذا ما لا يشك فيه من له مسكة عقل. فإذ لا شك في هذا، فباليقين علمنا أن التسبيح الذي ذكره الله تعالى هو حق وهو معنى غير تسبيحنا نحن بلا شك. فإذ لا شك في هذا فإن التسبيح في أصل اللغة هو تنزيه الله تعالى عن السوء. فإذ قد صح هذا، فإن كل شيء في العالم بلا شك منزّه لله تعالى عن السوء الذي هو صفة الحدوث. وفي العالم شيء إلا وهو دالّ (بما فيه من دلائل الصنعة واقتضائه صانعا لا يشبهه) على أن الله تعالى منزه عن كل سوء ونقص وهذا هو الذي لا يفهمه ولا يفقهه كثير من الناس كما قال تعالى: وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ فهذا هو تسبيح كل شيء بحمد الله تعالى بلا شك. وهذا المعنى حق لا ينكره موحد. فإن كان قولنا هذا متفقا على صحته. وكانت الضرورة توجب أنه ليس هو التسبيح المعهود عندنا، فقد ثبت قولنا وانتفى قول من خالفنا بظنه.
وأيضا فإن الله تعالى يقول: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ والكافر الدهريّ شيء لا يشك في أنه شيء وهو لا يسبح بحمد الله تعالى
فصح بما ذكرنا أن لفظة (التسبيح) هي من الأسماء المشتركة، وهي التي تقع على نوعين فصاعدا. انتهى كلامه.
ومحصله نفي أن يكون للجمادات تسبيح وتمييز بالمعنى الموجود في الإنسان. وهو حق لا شبهة فيه ولا يسوغ لأحد إنكاره. إلا أنه لا ينفي أن يكون له تسبيح وفيه تمييز يناسبه. فيرجع الخلاف لفظيا. وقد وافق العلم الحديث الآن- كما قاله بعض الفضلاء- على أن في الجماد أثرا من الحياة. وأن فيه جميع الصفات الجوهرية التي تميز الأحياء. وأن ما فيه في الجواهر الفردة ودقائق المادة ليست ميتة، بل هي عناصر حية متحركة لها صورة من صور الحياة الدنيا المشاهدة في جميع أنواع المادة مثل الجذب والدفع. والتأثر بالمؤثرات الخارجية، وتغير قوة التوازن، وتجمع الدقائق على أشكال منتظمة، طبقا لتراكيب محدودة. وإفراز مركبات كيماوية مختلفة. وبالجملة فما يقوله العلم الجديد عن مشابهة الأجسام غير الحية للأجسام الحية يطابق تصورات الأقدمين والشعراء في ذلك. انتهى.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي حيث لم يعاجلهم بالعقوبة. مع كفرهم وقصورهم في النظر. ولو تابوا لغفر لهم ما كان منهم.
ثم مثل تعالى حالة المشركين مع التنزيل الكريم، حينما يقرؤه عليهم الرسول، صلوات الله عليه، يدعوهم إلى العمل بما فيه من التوحيد، ورفض الشرك وغير ذلك من ضلالهم، بمن طمس على بصيرته وبصره وسمعه، بقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٥]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥)
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي على هؤلاء المشركين جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أي لا يصدقون بالبعث ولا يقرّون بالثواب والعقاب، جزاء على الأعمال حِجاباً مَسْتُوراً أي من الجهل وعمى القلب. فيحجب قلوبهم عن أن يفهموا ما تقرؤه عليهم فينتفعوا به، عقوبة منّا لهم على كفرهم.
كما أن (فاعلا) يرد بمعنى (مفعول) كماء دافق.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٤٦]
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)
وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية كثيرة، جمع (كنان) أَنْ يَفْقَهُوهُ أي كراهة أن يفقهوه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي صمما يمنعهم من استماعه. وذلك ما يتغشاها من خذلان الله تعالى إياها، عن فهم ما يتلى عليهم والإنصات له.
قال أبو السعود: هذه تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشئون النبيّ ﷺ وفرط نبوّ قلوبهم عن فهم القرآن الكريم، ومجّ أسماعهم له، جيء بها بيانا لعدم فقههم لتسبيح لسان المقال، إثر بيان عدم فقههم لتسبيح لسان الحال. وإيذانا بأن هذا التسبيح من الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه، إلا لمانع قويّ يعتري المشاعر فيبطلها. تنبيها على أن حالهم هذا أقبح من حالهم السابق.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ أي غير مشفوع بذكره ذكره شيء من آلهتهم وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً أي هربا من استماع التوحيد. قال القاشانيّ:
لتشتّت أهوائهم، وتفرق همهم في عبادة متعبداتهم، من أصنام الجسمانيات والشهوات. فلا يناسب بواطنهم معنى الوحدة لتألفها بالكثرة واحتجابها بها. ثم أخبر تعالى عما يتناجى به المشركون، رؤساء قريش، بقوله متوعدا لهم:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٧ الى ٤٨]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي بسببه أو لأجله من الهزء والاستخفاف واللغو إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي
أو المعنى فلا يستطيعون سبيلا إلى طعن يمكن أن يقبله أحد، بل يخبطون بما لا يرتاب في بطلانه أحد. كالمتحير في أمره لا يدري ماذا يصنع.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً وهو ما بلي وتفتّت أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً، قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً، أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي يعظم في نفوسكم عن قبول الحياة ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه. فإنه يحييكم ولا يعجزه بعثكم.
فكيف، إذا كنتم عظاما مرفوتة وقد كانت موصوفة بالحياة قبل، والشيء أقبل لما عهد فيه مما لم يعهد فَسَيَقُولُونَ أي بعد لزوم الحجة عليهم مَنْ يُعِيدُنا، قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها برفع وخفض، تعجبا واستهزاء وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ أي ما ذكرته من الإعادة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً، يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ أي يوم يبعثكم فتنبعثون. قال القاضي: استعار لهما الدعاء والاستجابة. للتنبيه على سرعتهما وتيسر أمرهما. وإن المقصود منهما الإحضار للمحاسبة والجزاء. انتهى.
وقيل: إنهما حقيقة كما في آية: يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ [ق:
٤١]، وفي قوله: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ وجوه للمعربين. ككونه بدلا من (قريبا) على أنه ظرف. أو منصوب ب (يكون) أو بمقدر ك (اذكر) أو (تبعثون) وقوله تعالى:
بِحَمْدِهِ أي وله الحمد على ما أحضركم للجزاء وتحقق وعده الصدق وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي تستقصرون مدة لبثكم في القبور والمضاجع لذهولكم عن ذلك الزمان. أو في الحياة الأولى، لاستقصاركم إياها، بالنسبة إلى الحياة الآخرة.
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤)
وَقُلْ لِعِبادِي أي الذين آمنوا معك. إرادة تقريب أصحابهم إلى الصواب، كأمر البعث يَقُولُوا في النصيحة، الكلمة الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي فلا يخاشنوا أحدا ولا يغلطوا بالقول إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويهيج الشر والمراء:
لتقع بينهم المضارّة إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً وقوله تعالى: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ خطاب لهؤلاء المشركين من قريش. أي إن يشأ يرحمكم فيتوب عليكم برحمته وتنيبوا إليه. وإن يشأ يعذبكم بأن يخذلكم عن الإيمان، فتموتوا على الشرك فيعذبكم عليه يوم القيامة.
وقوله تعالى: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي موكولا إليك أمرهم. تقسرهم على الإيمان. وإنما أرسلناك مبشرا ونذيرا، تبلغهم رسالاتنا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٥]
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي فلا يخفى عليه شيء فيهما. فهو أعلم بهؤلاء ضرورة. وفيه إشارة إلى رحمته تعالى ببعثة الرسل. لحاجة الخلق إليها.
وإلى مشيئته فيمن يصطفي لرسالته، ويختار لنبوّته. ويعلمه أهلا لها. وقوله تعالى:
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أي لاقتضاء علمه وحكمته ذلك. فإنه أعلم بمن في السموات والأرض وأحوالهم. فآتى موسى التوراة وكلمه. وعيسى الإنجيل وداود الزبور. فضلهم بما آتاهم على غيرهم. وقد آتى محمدا القرآن ففضله به على الأنبياء كافة. وقوله تعالى: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي يشتمل على الحكمة وفصل الخطاب، ففضلناه به. قيل: الآية ردّ عليهم إذ استبعدوا أن يكون ﷺ نبيا، دون من يعدّونه عظيما بينهم في الغنى والجاه، وذكر من في السموات لإبطال قولهم:
لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ [الفرقان: ٢١] وذكر من في الأرض لرد قولهم: لَوْلا
[الزخرف: ٣١]، وتخصيص داود بالذكر، إشارة لتفضيل النبيّ ﷺ كما دل عليه ما كتب فيه من أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء: ١٠٥] ففيه تلميح إلى ما وقع فيه من وصفه بما ذكر فيه. وإيثار الزبور على الملك بيان لحيثية شرفه، وأن بما أوحي إليه من الكتاب والعلم، لا بالملك والمال، كذا قالوا. والظاهر أنه للإشارة إلى أن داود عليه السلام لم يكن في نشأته الأولى ممن يظن أنه يبلغ ما بلغ في الحكمة والملك. وقد اختصه الله بهما وميزه الله على أهل عصره. وإذ كان ذلك اختصاصا ربانيّا، فلا غرابة أن يختص سبحانه من العرب، من علم أنه أرجحهم عقلا، وأكملهم فضلا، لختم نبوته، وهداية بريته، بمنهاجه وشرعته. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٧]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا، أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً.
أي قل لهؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله من خلقه، ادعوا من زعمتموهم أربابا وآلهة من دونه، عند ضر ينزل بكم، وانظروا هل يقدرون على دفع ذلك عنكم أو تحويله عنكم إلى غيركم، فتدعونهم آلهة؟ أي فإنهم لا يقدرون على ذلك ولا يملكونه، وإنما يملكه ويقدر عليه خالقكم وخالقهم.
روى الطبريّ عن ابن عباس أن الآية عني بها قوم مشركون، كانوا يعبدون المسيح وعزيرا والملائكة. فأخبرهم الله تعالى أن هؤلاء عبيده يرجون رحمته ويخافون عذابه. ويتقربون إليه بالأعمال. ونظير هذه الآية في النهي عن أن يشرك به تعالى الملائكة والأنبياء، قوله سبحانه: ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: ٧٩- ٨٠]، وفي قوله تعالى:
فبالرجاء تكثر الطاعات وبالخوف تقل السيئات. وقوله تعالى: مَحْذُوراً أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من حلوله. عياذا بالله منه. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٨]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً، كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً.
إخبار بأنه حتم وقضى أنه ما من قرية يتمرد أهلها على نبيّهم، إلا ويبيدهم، أو ينزل بهم من العذاب شديدة. وذلك لذنوبهم وخطيئاتهم وعدم استجابتهم لنبيهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود: ١٠١]، وقال تعالى:
فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً [الطلاق: ٩]. وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ [الطلاق: ٨] الآيات. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي التي يقترحها قريش: إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي إلا تكذيب الأولين الذين هم أمثالهم. كعاد وثمود. وأنها لو أرسلت لكذبوا بها تكذيب أولئك. فاستوجبوا الاستئصال. على ما مضت به السنّة الإلهية.
وقد قضينا أن لا نستأصلهم، لأن منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن. ثم ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ أي أعطينا قوم صالح الناقة بسؤالهم مُبْصِرَةً أي بينة، تبصر الغير برهانها فَظَلَمُوا بِها أي فكفروا بها وظلموا أنفسهم بسبب عقرها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي وما نرسل الآيات المقترحة إلا تخويفا للناس، ليعلموا السنّة الإلهية مع العاتين، فيتذكروا ويتوبوا.
روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النبيّ ﷺ أن يجعل لهم
ورواه النسائي.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٠]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي علما، فلا يخفى عليه شيء من كفرهم وتكذيبهم. ومنه ما جرى منهم، إثر الرؤيا والإخبار بالشجرة، من الجحود والهزء واللغو. كما قال سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ قال الأكثرون:
يعني ما رآه النبيّ ﷺ ليلة الإسراء من الآيات. فلما ذكرها النبيّ ﷺ للناس، أنكر بعضهم ذلك وكذّبوا. وجعل الله ذلك ثباتا ويقينا للمخلصين. فكانت فتنة، أي اختبارا وامتحانا، وتمسك بهذا من جعل الإسراء مناما، لكون الرؤيا مخصوصة بالمنام. وأجيب بأن قوله تعالى: إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ يرده. لأن رؤيا المنام لا يفتتن بها أحد ولا يكذّب. وجاء في اللغة (الرؤيا بمعنى الرؤية مطلقا) وهو معنى حقيقيّ لها.
وقيل: إنها حقيقة في رؤيا المنام ورؤيا اليقظة ليلا. وقد ذكر السهيلي أنه ورد في كلام العرب بهذا المعنى. وأنه كالقربى والقربة. وقيل: إنه مجاز، إما مشاكلة لتسميتهم له رؤيا، أو جار على زعمهم. أو على التشبيه بها لما فيها من خرق العادة.
أو لوقوعها ليلا. أو لسرعتها. أفاده الشهاب.
وروى الطبري عن الحسن في الآية هذه قال: أسري به ﷺ عشاء إلى بيت المقدس فصلى فيه وأراه الله ما أراه من الآيات. ثم أصبح بمكة فأخبرهم أنه أسرى به إلى بيت المقدس. فقالوا له: يا محمد! ما شأنك؟ أمسيت فيه ثم أصبحت فينا تخبرنا أنك أتيت بيت المقدس؟ فعجبوا من ذلك حتى ارتد بعضهم عن الإسلام.
وقال قوم: الآية في رؤياه ﷺ التي رأى أنه يدخل مكة.
فروى البريّ عن ابن عباس. قال: يقال: إن رسول الله ﷺ أري أنه دخل مكة هو وأصحابه. وهو يومئذ بالمدينة. فعجل رسول الله ﷺ السير إلى مكة. قبل الأجل: فرده المشركون. فقالت
وذلك عام الحديبية. ثم دخل مكة في العام المقبل. وأنزل الله عزّ وجلّ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ
ولا يقال: إن السورة مكية وقصة الحديبية بعد الهجرة، لاحتمال أنه رأى تلك الرؤيا بمكة، وتزلت عليه هذه الآية. ولكنه ذكرها عام الحديبية. لأنه كان إذ ذاك بمكة. فعلم أن دخوله بعد خروجه منها. كذا قيل.
وذهب بعضهم إلى أن كثيرا من السور المكية ضم إليها آيات مدنية، كما في (الإتقان) والطبّري رجح الأول وفاقا للأكثر. وقد قدمنا مرارا أن السلف قد يريدون بقولهم: (نزلت الآية في كذا). أن لفظ الآية مما يشمل ذلك. لا أنه كان سببا لنزوله حقيقة. وعليه. فلا إشكال.
وقوله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عطف على الرؤيا، والأكثرون على أنها شجرة الزقوم المذكورة في سورة الصافات في قوله تعالى: أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ، إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ، إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ، طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ [الصافات: ٦٢- ٦٥] الآيات، وفتنتهم فيها ما رواه الطبريّ عن ابن عباس وقتادة أن أبا جهل قال: زعم صاحبكم هذا- يعني النبي صلوات الله عليه أن في النار شجرة، والنار تأكل الشجر! فكذبوا بذلك. وفي رواية أن أبا جهل قال: أيخوفني بشجر الزقوم؟ ثم دعا بتمر وزبد وجعل يأكل ويقول: تزقموا، فما نعلم الزقوم غير هذا. والمراد بلعنها في القرآن، لعن طاعمها فيه، على أنه مجاز في الإسناد. أو الملعون بمعنى المؤذي لأنها تغلي في البطون كغلي الحميم. فهو إما مجاز مرسل أو استعارة. وقوله تعالى: وَنُخَوِّفُهُمْ أي بذلك وبنظائره من الآيات فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي تماديا فيما هم فيه من الضلال والكفر.
قال المهايميّ: أي فلو أرسلنا إليهم الآيات المقترحة. لقالوا إنه أجلّ من أحاط بأبواب السحر. فلا فائدة في إرسالها سوى تعجيل العذاب الدنيويّ. لكنه ينافي إظهار دينه على الدين كله. ثم أشار تعالى إلى أن هذا الطغيان من اتباع الشيطان.
وأنه وحزبه، لعتوهم وتمردهم عن الحق، في النار، بقوله سبحانه.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٢]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢)
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٣ الى ٦٥]
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
قالَ اذْهَبْ أي امض لشأنك الذي اخترته فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً أي جزاء مكملا وَاسْتَفْزِزْ أي استخفف وأزعج مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي أن تستفزه فتخدعه بِصَوْتِكَ أي بدعائك إلى الفساد. وعبّر عن الدعاء بالصوت تحقيرا له حتى كأنه لا معنى له: وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي صح عليهم. من الجلبة (بفتحات) وهي الصياح. و (الخيل) الخيالة أي ركبان الخيل مجازا. وأصل معنى الخيل الأفراس. (والرّجل) اسم جمع للراجل وهو خلاف الفارس والمراد الأعوان والأتباع مطلقا.
قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى استفزاز إبليس بصوته وإجلابه بخيله ورجله؟ قلت: هو كلام ورد مورد التمثيل، مثلت حاله في تسلطه على من يغويه، بمغوار- بكسر الميم، الكثير الغارة وهي الحرب والنهب- أوقع على قوم فصوت بهم صوتا يستفزهم من أماكنهم، ويقلقهم عن مراكزهم. وأجلب عليهم بجنده من خيالة حتى استأصلهم- أي فالكلام استعارة تمثيلية مركبة. استعير فيه المجموع والهيئة للمجموع والهيئة. ووجهه ما ذكره من استئصالهم وإهلاكهم، أو غلبته وتسخيره لهم. وجوز أن يكون التجوز في المفردات تجوزا بصوته عن دعائه إلى الشر بالوسوسة. وبخيله ورجله عن كل راكب وماش من أهل العبث والفساد بإغوائه.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ أي بحمله إياهم على إنفاقها في المعاصي وجمعها من حرام والتصرف فيها تحريما وتحليلا بما لا يرضى وَالْأَوْلادِ أي بالتفاخر فيهم
وقد أشار القاشانيّ إلى أن الآية تشير إلى انقسام الناس مع الشيطان على أصناف. وعبارته: تمكن الشيطان من إغواء العباد على أقسام. لأن الاستعدادات متفاوتة. فمن كان ضعيف الاستعداد استفزه. أي استخفه بصوته، يكفيه وسوسة وهمس بل هاجس ولمة. ومن كان قويّ الاستعداد، فإن أخلص استعداده عن شوائب الصفات النفسانية، أو أخلصه الله تعالى عن شوائب الغيرية، فليس له إلى إغوائه سبيل كما قال: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وإلا فإن كان منغمسا في الشواغل الحسية، غارزا رأسه في الأمور الدنيوية، شاركه في أمواله وأولاده، بأن يحرّضه على إشراكهم بالله في المحبة. بحبهم كحب الله. ويسوّل له التمتع بهم، والتكاثر والتفاخر بوجودهم. ويمنيه الأمانيّ الكاذبة ويزين عليه الآمال الفارغة. وإن لم ينغمس، فإن كان عالما بصيرا بتسويلاته، أجلب عليه بخيله ورجله. أي مكر به بأنواع الحيل. وكاده بصنوف الفتن. وأفتى له في تحصيل أنواع الحطام والملاذ بأنها من جملة مصالح المعاش. وغره بالعلم وحمله على الإعجاب. وأمثال ذلك حتى يصير ممن أضله الله على علم. وإن لم يكن عالما بل عابدا متنسكا، أغواه بالوعد والتمنية. وغره بالطاعة والتزكية أيسر ما يكون. انتهى.
ثم بين تعالى بعضا من آيات وحدانيته وألوهيته بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٦]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ أي يسيّر لكم السفن في البحر لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي من رزقه. والآية صريحة في ركوب البحر للتجارة إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حيث سهل لكم أسباب ذلك.
قال أبو السعود: وهذا تذكير لبعض النعم التي هي من دلائل التوحيد، وتمهيد
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٦٧]
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧)
وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي خوف الغرق: ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعونه وتعبدونه، إلّا إياه وحده. فإنكم لا تذكرون سواه. فطرة فطر الله الخلق عليها.
وهذه الآية مما يستدل بها على الرجوع إلى الفطرة الصحيحة. وقد استدل لكثير من الأصول بها، كما يعلم ذلك من كلام الأئمة في مسائل شتى. كمسألة وجود الخالق وعلوّه، والمعاد وغيرها. وقوله تعالى: فَلَمَّا نَجَّاكُمْ أي من الغرق:
إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن التوحيد: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي بأنعم الله. والجملة كالتعليل للإعراض. قال الشهاب: وفيه لطف. حيث أعرض عن خطابهم بخصوصهم. وذكر أن جنس الإنسان مجبول على هذا. فلما أعرضوا أعرض الله عنهم. ثم خوفهم تعالى بقدرته العظيمة، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٨ الى ٦٩]
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي يغوّره بكم أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي ريحا ترمي بالحصباء يرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق: ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي من يتوكل بصرف ذلك عنكم أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي يقوّي دواعيكم لركوب البحر تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته، فتكسر السفينة وسط البحر فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي مطالبا بما فعلنا. مثل من يطالب على مغرق سوانا. وهذا كقوله: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس: ١٥].
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ أي بالنطق والتمييز والعقل والمعرفة والصورة والتسلط على ما في الأرض والتمتع به وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي يسرنا لهم أسباب المعاش والمعاد بالسير في طلبها فيهما، وتحصيلها: وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أي فنون المستلذات التي لم يرزقها غيرهم من المخلوقات وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا أي عظيما فحق عليهم أن يشكروا هذه النعم، بأن يعبدوا المتفضل بها وحده ويقيموا شرائعه وحدوده.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: (على كثير) أن ثمة من لم يفضل البشر عليه. قيل وهم الذوات المقدسة من الملأ الأعلى. أعني الملائكة.
قال القاشانيّ: وأما أفضلية بعض الناس، كالأنبياء على الملائكة المقربين، فليست من جهة كونهم بني آدم. بل من جهة السر المودع فيهم المشار إليه بقوله:
إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [البقرة: ٣٠]، وهو ما أعد لذلك البعض من المعرفة الإلهية التامة. وحينئذ ليس هو بهذا الاعتبار من بني آدم كما قيل:
وإني وإن كنت ابن آدم صورة | فلي فيه معنى شاهد بأبوّتي |
قال القاشانيّ: على أن تكون (من) للبيان والمبالغة في تعظيمه، بوصف المفضل عليهم بالكثرة وتنكير الوصف وتقديمه على الموصوف. أي كثير وأي كثير، وهو جميع مخلوقاتنا. لدلالة (من) على العموم. ولا يخفى أنه لا يلزم من تفضيل جنس على جنس آخر تفضيل كل فرد منه على كل فرد من الآخر. والمسألة معروفة في كتب الكلام.
وقوله تعالى:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بمن ائتموا به من نبيّ أو مقدّم في الدين أو كتاب أو دين. فيقال: يا أتباع فلان! يا أهل دين كذا وكتاب كذا وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير! ويا أصحاب كتاب الشر! قالوا: وفيه شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النبيّ صلى الله عليه وسلم.
وقال القاشانيّ: أي نحضر كل طائفة من الأمم مع شاهدهم الذي يحضرهم ويتوجهون إليه ويعرفونه، سواء كان صورة نبيّ آمنوا به، أو إمام اقتدوا به، أو دين أو كتاب، أو ما شئت. على أن تكون (الباء) بمعنى (مع). أو ننسبهم إلى إمامهم وندعوهم باسمه، لكونه هو الغالب عليهم وعلى أمرهم، المستعلي محبتهم إياه على سائر محباتهم.
ورجح ابن كثير، رحمه الله، القول بأن الإمام هو كتاب الأعمال، لقوله تعالى:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس: ١٢]، وقال تعالى: وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف: ٤٩] الآية، وقال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ، إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية: ٢٨- ٢٩]، وما رجحه رحمه الله هو الصواب. لأن القرآن يفسر بعضه بعضا، وأول ما ينبغي الاهتمام به في معاني الآيات، هو الرجوع إلى نظائرها. وقوله تعالى: فَمَنْ أُوتِيَ أي من هؤلاء المدعوين كِتابَهُ أي كتاب أعماله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فرحا وابتهاجا بما فيه من العمل الصالح وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي لا ينقصون من أجورهم قدر فتيل، وهو ما في شق النواة، أو ما تفتله بين إصبعيك، أو هو أدنى شيء، فإن الفتيل مثل في القلة، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم: ٦٠].
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في هذه الحياة الدنيا أعمى عن الاهتداء إلى الحق، فهو في الآخرة أعمى لا يرى طريق النجاة، وأضل سبيلا منه في الدنيا. لأن له في هذه الحياة آلات وأدوات وأسبابا
لطيفة:
قال الناصر: يحتمل أن تكون هذه الآية قسيمة الأولى. أي فمن أوتي كتابه بيمينه فهو الذي يبصره ويقرؤه. ومن كان في الدنيا أعمى غير مبصر في نفسه، ولا ناظر في معاده، فهو في الآخرة كذلك، غير مبصر في كتابه، بل أعمى عنه أو أشد عمى مما كان في الدنيا، على اختلاف التأويلين. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٤]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤)
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا. وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إخبار عن تأييده تعالى رسوله، صلوات الله عليه وسلامه، وتثبيته وعصمته وتولي أمره وحفظه. فإن المشركين، لكثرة تفننهم في ضروب الأذى وشدة تعنتهم وقوة شكيمتهم، كادوا أن يفتنوه.
ولكن عناية الله وحفظه، هو الذي ثبت قدمه في مثل مقامه في الدعوة إلى الله الذي لا يثبت فيه أحد غيره. وقد روي أن ثقيفا قالوا لا نؤمن حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا ننحني في الصلاة، ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وإن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها. فإن خشيت أن يسمع العرب: (لم أعطيتهم ما لم تعطنا) فقل: الله أمرني بذلك.
وروي أن قريشا قالوا: لا ندعك يا محمد أن تستلم الحجر الأسود حتى تمس آلهتنا. وقالوا أيضا: نؤمن بك إن تمس آلهتنا.
قال الإمام الطبريّ: يجوز أن تكون الفتنة فما ذكر. وأن تكون غير ذلك. ولا بيان في الكتاب ولا في خبر يقطع العذر أي ذلك كان. فالأصوب الإيمان بظاهره حتى يأتي ما يجب التسليم له، ببيان ما عني بذلك منه.
لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ أي غير ما أوحينا إليك وهو قولهم: قل الله أمرني بذلك وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ما أرادوا لاتخذوك خليلا، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم، وراض بشركهم. ثم قال: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ أي تميل إليهم شَيْئاً قَلِيلًا وقوله شَيْئاً عبارة عن المصدر، أو ركونا قليلا.
وعن قتادة: لما نزلت هذه الآية. قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: (اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين)
. ثم توعده في ذلك أشد التوعد، فقال:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٥]
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. و (الضعف) عبارة عن أن يضم إلى الشيء مثله، ودل على إضمار العذاب، وصف العذاب بالضعف في كثير من الآيات. كقوله تعالى: رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ [ص: ٦١]، وقال: لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ [الأعراف: ٣٨].
والسبب في تضعيف العذاب أن أقسام نعم الله على الأنبياء أكثر. فكانت ذنوبهم أعظم. فكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر. ونظيره قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب: ٣٠].
تنبيهات:
الأول: قال القفال رحمه الله (بعد ذكره ما روي في سبب نزولها مما قدمناه) :
ويمكن أيضا تأويلها من غير تقييد بسبب يضاعف نزولها فيه، لأن من المعلوم أن المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر رسول الله ﷺ بأقصى ما يقدرون عليه. فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك فأنزل الله تعالى: قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ [الكافرون: ١- ٢]، وقوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: ٩]، وعرضوا عليه الأموال الكثيرة والنساء الجميلة ليترك ادعاء النبوة. فأنزل
وعلى هذا الطريق، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات، إلى شيء من تلك الروايات.
والله أعلم.
الثاني: قال القاضي: معنى قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ الآية، إنك كنت على صدد الركون إليهم، لقوة خداعهم وشدة احتيالهم. لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. وهو صريح في أنه عليه الصلاة والسلام ما همّ بإجابتهم، مع قوة الداعي إليها. ودليل على أن العصمة بتوفيق الله وحفظه.
الثالث: قال الزمخشريّ: في ذكر الكيدودة وتقليلها، مع إتباعها الوعيد الشديد بالعذاب المضاعف في الدارين، دليل بيّن على أن القبيح يعظم قبحه بمقدار عظم شأن فاعله وارتفاع منزلته. وفيه دليل على أن أدنى مداهنة للغواة، مضادة لله وخروج عن ولايته، وسبب موجب لغضبه ونكاله. فعلى المؤمن، إذا تلا هذه الآية أن يجثو عندها ويتدبرها فهي جديرة بالتدبر. وبأن يستشعر الناظر فيها الخشية وازدياد التصلب في دين الله.
الرابع: جاء في (حواشي جامع البيان) ما مثاله بالحرف: من الفوائد الجليلة في هذه الآية. أنه لا يجوز إبقاء مواضع الشرك، بعد القدرة على هدمها وإبطالها، يوما.
فإنها شعائر الكفر والشرك. وهي أعظم المنكرات فلا يجوز الإقرار عليها مع القدرة البتة. وهكذا حكم المشاهد التي بنيت على القبور التي اتخذت أوثانا وطواغيت، تعبد من دون الله. والأحجار التي تقصد للتعظيم والتبرك والنذور والتقبيل، لا يجوز إبقاء شيء منها على وجه الأرض، مع القدرة على إزالته. وكثير منها بمنزلة اللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى، وأعظم شرك عندها وبها. فإن اللات- على ما نقله ابن خزيمة عن مجاهد- رجل كان يلتّ لهم السويق فمات. فعكفوا على قبره يعبدونه ويعظمونه. ولم يقولوا إن اللات خلقت السموات والأرض، بل كان شركهم باللات والعزّى ومناة الثالثة الأخرى كشرك أهل الشرك من أرباب المشاهد بعينه، من النذور لها ولشرك بها والتمسح بها وتقبيلها واستلامها. وما طلبوا من رسول الله ﷺ إلا
بل كثير منهم، إذا توجهت عليه يمين من جهة خصمه، حلف بالله فاجرا، فإذا قيل له بعد ذلك: احلف بشيخك. أو بمعتقدك الوليّ الفلاني تلكأ وأبى واعترف بالحق.
وهذا من أبين الأدلة الدالة على أن شركهم قد بلغ فوق شرك من قال: (ثالث ثلاثة) فيا علماء الدين! ويا ملوك المسلمين! أيّ رزء للإسلام أشد من الكفر؟ وأيّ بلاء لهذا الدين أضرّ عليه من عبادة غير الله؟ وأيّ مصيبة يصاب بها المسلمون تعدل هذه؟ وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكار هذا الشرك البيّن واجبا؟ فاللهم! انصر من نصر الحق واهدنا إلى سواء السبيل. انتهى.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
وَإِنْ كادُوا أي أهل مكة لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ أي ليزعجونك بمعاداتهم من مكة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ أي ولو خرجت لا يبقون بعد خروجك إِلَّا قَلِيلًا أي زمانا قليلا سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم. ونصبت نصب المصدر المؤكد. أي سنّ الله ذلك سنة وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تغييرا. ولا يخفى أن المراد بعدم لبثهم، إهلاكهم. سواء كان بالاستئصال، أو لا. قال ابن كثير:
وكذلك وقع. فإنه ﷺ لم يكن بين هجرته من بين أظهرهم، بعد ما اشتد أذاهم له، إلا سنة ونصف، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد. فأمكنه منهم، وسلطه عليهم، وأظفره بهم. فقتل أشرافهم وسبى سراتهم. ولهذا قال تعالى: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم. يخرج الرسول من بين أظهرهم ويأتيهم العذاب. ولولا أنه ﷺ رسول الرحمة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به. كما قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال: ٣٣].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٨]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً لما ذكر تعالى، قبل، كيد المشركين وكيدودتهم استفزازه من الأرض، أمره بأن يستعين بإقامة الصلوات والإقبال على عبادته تعالى، والابتهال إليه على دفع كيدهم ومكرهم، وتأييده عليهم. ونظيره قوله تعالى: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ، فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر: ٩٧- ٩٨]، وقوله: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: ١٣٠]، وقوله: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة: ٤٥]، هذا من حيث نظم الآية مع ما قبلها. وأما معناها، فقوله: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ أي لزوالها. قال ابن تيمية: الدلوك الزوال عند أكثر السلف وهو الصواب. واللام للتأقيت. أي بيان الوقت بمعنى (بعد) وتكون بمعنى (عند) أيضا. وقيل: للتعليل. لأن دخول الوقت سبب لوجوب الصلاة. وأما غَسَقِ اللَّيْلِ فهو اجتماع الليل وظلمته. وأما قُرْآنَ الْفَجْرِ فهو صلاة الصبح. سميت قرآنا لأنه ركنها. كما سميت ركوعا وسجودا. فهو من تسمية الكل باسم جزئه المهمّ. فيدل على وجوب القراءة فيها صريحا، وفي غيرها بدلالة النص والقياس. ومعنى مَشْهُوداً يشهده ملائكة الليل والنهار. ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء فهو في آخر ديوان الليل وأول ديوان النهار. أو يشهده الكثير من المصلين في العادة! ومن حقه أن يكون مشهودا بالجماعة الكثيرة. والأكثرون على أن قوله تعالى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ منصوب بالعطف على (الصلاة) أي: وأقم صلاة الفجر. وجوّز بعض النحاة نصبه على الإغراء. أي: وعليك قرآن الفجر أو الزم.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية جامعة للصلوات الخمس ومواقيتها، فدلوك الشمس يتناول الظهر والعصر تناولا واحدا. وغسق الليل يتناول المغرب والعشاء تناولا واحدا. وقرآن الفجر هي صلاة مفردة لا تجمع ولا تقصر. قيل: هذا يقتضي أن يكون الدلوك مشتركا بين الظهر والعصر. والغسق مشتركا بين المغرب والعشاء. فيدل على جواز
وقال العلامة أبو السعود: ليس المراد إقامتها فيما بين الوقتين على وجه الاستمرار، بل إقامة كل صلاة في وقتها الذي عين لها ببيان جبريل عليه السلام. كما أن أعداد ركعات كل صلاة موكولة إلى بيانه عليه السلام. ولعل الاكتفاء ببيان المبدأ والمنتهى في أوقات الصلوات من غير فصل بينها، لما أن الإنسان فيما بين هذه الأوقات على اليقظة. فبعضها متصل ببعض، بخلاف أول وقت العشاء والفجر فإنه باشتغاله فيما بينهما بالنوم، ينقطع أحدهما عن الآخر. ولذلك فصل وقت الفجر عن سائر الأوقات. انتهى.
والظاهر أن مستند من جوز الجمع في الحضر مطلقا هذه الآية مع أثر ابن عباس.
جاء في (رحمة الأمة) ما مثاله: وعن ابن سيرين أنه يجوز الجمع من غير خوف ولا مرض لحاجة. ما لم يتخذه عادة. واختار ابن المنذر وجماعة جواز الجمع في الحضر من غير خوف ولا مطر ولا مرض. انتهى.
وقد روى الشيخان «١» وغيرهما عن ابن عباس قال: صلى النبيّ ﷺ بالمدينة سبعا وثمانيا: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.
ومن رواية لمسلم: صلى الظهر والعصر جميعا، والمغرب والعشاء جميعا، من غير خوف ولا سفر. وكثير من الرواة حملوا ذلك على ليلة مطيرة. والمسألة شهيرة.
الثاني: قلنا إن هذه الآية إحدى الآيات التي جمعت الصلوات الخمس، ومنها قوله تعالى: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ [هود: ١١٤]، فالطرف الأول صلاة الفجر فإن صلاة الفجر في النهار. فإن الصائم يصوم النهار. وهو يصوم من طلوع الفجر. والوتر تصلى بالليل
وقد قال النبيّ ﷺ «٢» : صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا
(٢) أخرجه البخاريّ في: التهجد، ١٠- باب كيف كان صلاة النبيّ صلى الله عليه وسلم، حديث رقم ٣١٤.
وأخرجه مسلم في: صلاة المسافرين وقصرها، حديث رقم ١٤٧. [.....]
. وإذا قيل: نصف النهار فالمراد به النهار المبتدئ من طلوع الشمس. فهذا في هذا الموضوع، ولفظ (النهار) يراد به من طلوع الفجر، ويراد به من طلوع الشمس. لكن قوله: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ أريد به من طلوع الفجر بلا ريب، لأن ما بعد طلوع الشمس ليس على المسلمين فيه صلاة واجبة، بل ولا مستحبة. بل الصلاة في أول الطلوع منهيّ عنها حتى ترتفع الشمس. وهل تستحب الصلاة لوقت الضحى أو لا تستحب إلا لأمر عارض؟ فيه نزاع ليس هذا موضعه. فعلم أنه أراد بالطرف الأول من طلوع الفجر. وأما الطرف الثاني فمن الزوال إلى الغروب.
فجعل الصلاة في هذا الوقت صلاة في الطرف الثاني وأشرك بينهما فيه. ثم قال:
وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ فأجمل الغرب والعشاء في (زلف من الليل). وهو ساعات من الليل. فالمواقيت هنا ثلاثة.
وقال تعالى: لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ، مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ [النور: ٥٨]، فذكر الفجر وذكر الظهر وذكر صلاة العشاء. فمن الظهيرة إلى ما بعد صلاة العشاء وقتان للصلاة. وقد ذكر الأول من هذا الوقت والآخر من هذا الوقت. وقد دل على المواقيت في آيات أخر كقوله تعالى: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ، وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم: ١٧- ١٨]، فتبين أن له التسبيح والحمد في السموات والأرض، حين المساء وحين الصباح وعشيّا وحين الإظهار. فالمساء يتناول المغرب والعشاء، والصباح يتناول الفجر، والعشيّ يتناول العصر، والإظهار يتناول الظهر.
وقال تعالى: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها، وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى [طه: ١٣٠]، وفي الآية الأخرى: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ حق: [٣٩- ٤٠]، فقبل طلوع الشمس هي صلاة الفجر. وقبل غروبها هي العصر، وبذلك فسّرها النبيّ صلى الله عليه وسلم
في الحديث «١»
المتفق على صحته عن جرير بن عبد الله قال كنا جلوسا عند رسول الله ﷺ إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال: (إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر. فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل
وأخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ٢١١.
وقوله تعالى: وَمِنَ اللَّيْلِ وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ مطلق في آناء الليل، يتناول المغرب والعشاء. أفاد ذلك تقيّ الدين ابن تيمية في فتواه في (المواقيت الكبرى).
الثالث: هذه الآية من الآيات التي أمر تعالى فيها بإقامة الصلاة لوقتها. قال ابن تيمية. عليه الرحمة، في فتواه المتقدمة: وقت الصلاة وقتان. وقت الرفاهية والاختيار. ووقت الحاجة والعذر. فالوقت في حال الرفاهية خمسة أوقات كما
في صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو، عن النبيّ ﷺ أنه قال «١» :(وقت الظهر ما لم يصر ظل كل شيء مثله. ووقت العصر ما لم تصفرّ الشمس. ووقت المغرب ما لم يغب نور الشفق. ووقت العشاء إلى نصف الليل. ووقت الفجر ما لم تطلع الشمس) وقد روي هذا الحديث من حديث أبي هريرة في السنن
. ولم يرو عن النبيّ ﷺ في المواقيت حديث من قوله إلا هذا. وسائر ما روي فعل منه، والأحاديث الصحيحة المتأخرة من فعله توافق هذا الحديث. ولهذا ما في هذا الحديث من المواقيت هو الصحيح عند الفقهاء العارفين بالحديث. والنزاع بين العلماء في آخر وقت الظهر، وأول وقت العصر وآخره، وآخر وقت المغرب. وآخر وقت العشاء وآخر وقت الفجر.
فالجماهير من السلف والخلف من فقهاء الحديث وأهل الحجاز وقت الظهر عندهم من الزوال إلى أن يصير ظل كل شيء مثله. سوى الفيء الذي زالت عليه الشمس، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد وأبي يوسف ومحمد. وقال أبو حنيفة: إلى أن يصير ظلّ كل شيء مثليه، ثم يدخل وقت العصر عند الجمهور، وعند أبي حنيفة إنما يدخل إذا صار ظل كل شيء مثليه، ونقل عنه، أن ما بين المثل إلى المثلين ليس وقتا لا للظهر ولا للعصر. وعلى قول الجمهور، فهل آخر هذا أول هذا أو بينهما قدر أربع ركعات مشترك؟ فيه نزاع. فالجمهور على الأول، والثاني منقول عن مالك. وإذا صار ظل كل شيء مثليه، خرج وقت العصر في إحدى الروايتين عن أحمد. وهو منقول عن مالك والشافعي مع خلاف في مذهبهما. والصحيح أن وقتها ممتد بلا كراهة إلى اصفرار الشمس. وهو الرواية الثانية عن أحمد. كما نطق به حديث عبد الله بن عمرو، مما عمل به النبيّ ﷺ بالمدينة، بعد عمله بمكة. وهذا قول أبي
وأما أوقات الحاجة والعذر فهي ثلاثة: من الزوال إلى الغروب. ومن الغروب إلى الفجر ومن الفجر إلى طلوع الشمس. فالأول وقت الظهر والعصر عند العذر. واتسع فيها وفيهما من وجهين: أحدهما تقديم العصر إلى وقت الظهر، كما قدمها النبيّ ﷺ يوم عرفة. وكما كان يقدمها في سفرة تبوك. إذا ارتحل بعد أن تزيغ الشمس.
وتقديم العشاء إلى المغرب في المطر. فهذا جمع تقديم. والثاني جمع تأخير، العصر فيها إلى الغروب.
لقوله ﷺ في الحديث الصحيح «١» : من أدرك ركعة من الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر. ومن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر
. مع
قوله ﷺ في الحديث الصحيح: (وقت العصر ما لم تصفرّ الشمس)
وأنه لم يؤخر الصلاة قط إلى الاصفرار. ويوم الخندق كان التأخير إلى بعد الغروب. وهو منسوخ في أشهر قولي العلماء بقوله تعالى: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى [البقرة: ٢٣٨]، وهذا مذهب مالك والشافعيّ، وأحمد في أشهر الروايتين عنه وقيل: يخير حال القتال في التأخير والصلاة في الوقت بحسب الإمكان. وهو الرواية الأخرى عنه. وقيل: بل يؤخرها. وهو قول أبي حنيفة أيضا
ففي الحديث الصحيح «٢» عنه ﷺ أنه قال: (تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك الصلاة المنافق. يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان، قام فنقر أربعا، لا يذكر الله فيها إلا قليلا)
. فوصف صلاة المنافق بالتأخير إلى حين الغروب والنقر.
فدل على المنع من هذا وهذا. فلما قال ﷺ هذا وهذا، علم أن الوقت وقتان. فمن أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك مطلقا. وليس له أن يؤخر إلى ذلك الوقت مع إمكان الصلاة قبله. بخلاف من لا يمكنه الصلاة قبل ذلك.
(٢) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ١٩٥ عن أنس.
تصلي الظهر والعصر. وإذا طهرت قبل طلوع الفجر، صلت المغرب والعشاء. ولم يعرف عن صحابيّ خلاف ذلك. وبذلك أخذ الجمهور كمالك والشافعي وأحمد.
وهذا مما يدل على أنه كان الصحابة ترى أن الليل عند العذر مشترك بين المغرب والعشاء إلى الفجر. والنصف الثاني عند العذر مشترك بين الظهر والعصر من الزوال إلى الغروب. كما دل على ذلك السنة والقرآن- يعني الآية المذكورة وأمثالها مما سقناه قبل- والذين ينازعون الجمهور في الوقت المشترك، ويقولون ليس لكل منهما إلا وقت يخصها، يقولون: الفرض إنما ثبت بالقرآن. والقرآن أوجب مطلق الذكر في قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى، وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: ١٤]، فلا موجب لخصوص التكبير عندهم. بل مطلق الذكر. وإن كان النبيّ ﷺ لم يصلّ قط إلا بتكبير. ولا أحد من خلفائه ولا أحد من أئمة المسلمين ولا آحادهم المعروفين يعرف أنه صلى إلا بتكبير. ومع هذا فيجوزونه بمطلق الذكر. لأن القرآن مطلق في الذكر. فيقال لهم: القرآن مطلق في آناء الليل وفي غسق الليل. ومطلق في الطرف الأول وفي الطرف الثاني، فدل على جواز الصلاة في هذا وهذا لو قدّر أن النبي ﷺ داوم على التفريق فكيف إذا ثبت عنه أنه جمع بينهما في الوقت غير مرة؟ وكذلك يقولون: قوله تعالى: ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا [الحج: ٧٧]، مطلق. فهو الفرض.
والطمأنينة إنما جاء بها خبر واحد. فيفيد الوجوب دون الفرضية. وكذلك يقولون في الفاتحة: إن القرآن مطلق في إيجاب قراءة ما تيسر منه، مع أن النبيّ ﷺ والمسلمين من بعده لم يصلّوا إلا بالفاتحة. ومع
قوله: (لا صلاة إلا بأم القرآن) «١».
و (إن كل صلاة لم يقرأ فيها بأمّ القرآن فهي خداج. فهي خداج. فهي خداج) «٢».
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ٣٤ و ٣٥ و ٣٦.
(٢) أخرجه مسلم في: الصلاة، حديث ٤٠ و ٤١ عن أبي هريرة.
(الوقت ما بين هذين)
وقوله «٢»
(ما بين هذين وقت)
دلالته على وجوب الصلاة في هذا الوقت دون دلالة
قوله: (لا صلاة إلّا بأمّ الكتاب)
وقوله (من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم الكتاب فهي خداج)
وكذلك
قوله «٣» ﷺ في الحديث الصحيح: (سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها. فصلوا الصلاة لوقتها. ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة)
. ولهذا احتج أحمد على وجوب فعلها في الوقت عند الرفاهية
بقوله: ﷺ (فصلوا الصلاة لوقتها)
وهو الوقت الذي بيّنه لهم. والأمراء لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل. ولا صلاة الليل إلى النهار. وإنّما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر والعصر إلى آخر النهار. ودل هذا على أن من فعل هذا لم يقاتل. لأنهم سألوه عن الأمراء، أنقاتلهم؟ قال: (لا. ما صلوا) وهذه كانت صلاتهم.
ودل على أن هذه الصلاة لا تجوز بحال، وتفويت يوم الخندق منسوخ. وأما الجمع بينهما في الوقت المشترك فهو ثابت السنة في مواضع متعددة. وبعضها مما أجمع عليه المسلمون، والآثار المشهورة عن الصحابة تبيّن أن الوقت المشترك وقت في حال العذر. كقول عمر بن الخطاب (الجمع بين الصلاتين، من غير عذر، من الكبائر) فدل على أن الجمع بينهما للعذر جائز. وقال عبد الرحمن بن عوف وابن عباس وأبو هريرة: (فيمن طهرت في آخر النهار) : إنها تصلي الظهر والعصر. (وفيمن طهرت في آخر الليل) : إنها تصلي المغرب والعشاء. وهو قول الثلاثة: مالك والشافعيّ وأحمد، وأما التفويت فلا يجوز بحال، فمن جوز التفويت في بعض الصور، فقوله ضعيف، وإن جوز الجمع. وأما من أوجب التفويت ومنع الجمع، فقد جمع في قوله بين أصلين ضعيفين: بين إباحة ما حرمه الله ورسوله، وتحريمه ما شرعه الله ورسوله. فإنه قد ثبت أن الجمع خير من التفويت. فهذا الأصل ينظم كثيرا من المواقيت. وتفويت العصر إلى حين الاصفرار، وتفويت العشاء إلى النصف الثاني أيضا، لا يجوز إلا لضرورة، والجمع بين الصلاتين خير من الصلاة في هذا الوقت، بل
(٢) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث ١٧٧ عن بريدة.
(٣) أخرجه مسلم في: المساجد ومواضع الصلاة، حديث رقم ٢٣٩ عن أبي ذرّ.
وقد نص على ذلك الفقهاء من أصحاب أحمد وغيره. وقالوا: لا يجوز تأخيرها إلى الاصفرار. بل إذا لم يجد الماء إلا فيه، فإنه يصلي بالتيمم قبل الاصفرار، ولا يصليها حين الاصفرار بالوضوء. انتهى كلامه عليه الرحمة.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٩]
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ أمر له بصلاة الليل، إثر أمره بالصلوات الخمس وفي مِنَ وجهان: أحدهما أنها متعلقة ب (تهجد) أي تهجد بالقرآن بعض الليل.
والثاني أنها متعلقة بمحذوف عطف عليه (فتهجد) أي قم من الليل أي في بعضه فتهجد بالقرآن. والتهجد ترك الهجود وهو النوم، و (تفعّل) يأتي للسلب ك (تأثّم وتحرّج) بمعنى ترك الإثم والحرج. قال الأزهري: المعروف في كلام العرب أن الهاجد النائم. وأما المتهجد فهو القائم إلى الصلاة من النوم. وكأنه قيل له (متهجد) لإلقائه الهجود عن نفسه كما يقال للعابد (متحنث) لإلقائه الحنث عن نفسه.
انتهى.
ونقل عن ابن فارس: أن معناه صلّ ليلا. وكذا عن ابن الأعرابيّ قال: هجد الرجل وتهجد، إذا صلى بالليل. والمعروف الأول. والضمير في (به) للقرآن من حيث هو، لا بقيد إضافته إلى الفجر أو للبعض المفهوم من (من) والباء بمعنى (في) أي تهجد في ذلك البعض. وقوله تعالى: نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس.
قال الزمخشريّ: وضع (نافلة) موضع (تهجدا) لأن التهجد عبادة زائدة. فكان التهجد والنافلة يجمعهما معنى واحد. والمعنى أن التهجد زيد لك على الصلوات المفروضة، فريضة عليك خاصة دون غيرك. لأنه تطوع لهم. انتهى.
قال أبو السعود: ولعله هو الوجه في تأخير ذكرها عن ذكر صلاة الفجر، مع تقدم وقتها على وقتها.
وقوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي يحمده القائم فيه وكل من رآه وعرفه. وهو مطلق في كل ما يجلب الحمد من أنواع الكرامات. والمشهور أنه
تنبيه:
قال ابن جرير ذهب آخرون إلى أن ذلك المقام المحمود، الذي وعد الله نبيه ﷺ أن يبعثه إياه، هو أن يجلسه معه على عرشه، رواه ليث عن مجاهد. وقد شنع الواحديّ على القائل به، مع أنه رواه عن ابن مسعود أيضا وعبارته- على ما نقلها الرازيّ- وهذا قول رذل موحش فظيع، ونص الكتاب ينادي بفساد هذا التفسير ويدل عليه وجوه:
الأول: أن البعث ضد الإجلاس، يقال بعثت النازل والقاعد فانبعث ويقال:
بعث الله الميت، أي أقامه من قبره. فتفسير البعث بالإجلاس تفسير للضد بالضد وهو فاسد.
الثاني: أنه تعالى قال: مَقاماً مَحْمُوداً ولم يقل مقعدا. والمقام موضع القيام لا موضع القعود.
الثالث: لو كان تعالى جالسا على العرش، بحيث يجلس عنده محمد عليه الصلاة والسلام لكان محدودا متناهيا. ومن كان كذلك فهو محدث.
الرابع: يقال: إن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزاز، لأن هؤلاء الجهال والحمقى يقولون (في كل أهل الجنة) : إنّهم يزورون الله تعالى وإنهم يجلسون معه وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكل المؤمنين، لم يكن لتخصيص محمد ﷺ بها مزيد شرف ورتبة.
الخامس: أنه إذا قيل: السلطان بعث فلانا، فهم منه أنه أرسله إلى قوم لإصلاح مهماتهم. ولا يفهم منه أنه أجلسه مع نفسه. فثبت أن هذا القول كلام رذل سقط، لا يميل إليه إلا إنسان قليل العقل عديم الدين. انتهى كلام الواحديّ.
وأولى القولين بالصواب، ما صح به الخبر عن رسول الله ﷺ أنه مقام الشفاعة- ثم قال- وهذا وإن كان هو الصحيح في القول، في تأويل المقام المحمود، لما ذكرنا من الرواية عن رسول الله ﷺ وأصحابه والتابعين. فإن ما قاله مجاهد من أن الله يقعد محمدا ﷺ على عرشه، قوله غير مدفوع صحته. لا من جهة خبر ولا نظر. وذلك لأنه لا خبر عن رسول الله ﷺ ولا عن أحد من أصحابه، ولا عن التابعين، بإحالة ذلك.
فأما من جهة النظر فإن جميع من ينتحل الإسلام إنما اختلفوا في معنى ذلك على أوجه ثلاثة: فقالت فرقة منهم: الله عزّ وجلّ بائن من خلقه، كان قبل خلقه الأشياء، ثم خلق الأشياء فلم يماسّها، وهو كما لم يزل، غير أن الأشياء التي خلقها، إذا لم يكن هو لها مماسّا، وجب أن يكون لها مباينا. إذ لا فعّال للأشياء إلا وهو مماس للأجسام أو مباين لها، قالوا: فإذ كان ذلك كذلك، وكان الله عزّ وجلّ فاعل الأشياء، ولم يجز في قولهم إنه يوصف بأنه مماس للأشياء، وجب بزعمهم أنه لها مباين- فعلى مذهب هؤلاء سواء أقعد محمدا ﷺ على عرشه أو على الأرض (إذ كان من قولهم إن بينونته من عرشه وبينونته من أرضه بمعنى واحد. في أنه بائن منهما كليهما غير مماس لواحد منهما) وقالت فرقة أخرى: كان الله تعالى ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه، ثم خلق الأشياء فأقامها بقدرته وهو كما لم يزل قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه. فعلى قول هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا ﷺ على عرشه أو على أرضه (إذ كان سواء على قولهم. عرشه وأرضه، في أنه لا مماس ولا مباين لهذا، كما أنه لا مماس ولا مباين لهذه).
وقالت فرقة أخرى: كان الله عزّ ذكره قبل خلقه الأشياء لا شيء يماسه ولا شيء يباينه ثم أحدث الأشياء وخلقها، فخلق لنفسه عرشا استوى عليه جالسا وصار له مماسّا، كما أنه قد كان قبل خلقه الأشياء لا شيء يرزقه رزقا ولا شيء يحرمه ذلك. ثم خلق الأشياء فرزق هذا وحرم هذا وأعطى هذا ومنع هذا. قالوا: فكذلك كان قبل خلقه الأشياء، لا شيء يماسه ولا يباينه. وخلق الأشياء فماسّ العرش بجلوسه عليه دون سائر خلقه فهو مماسّ ما شاء من خلقه ومباين ما شاء منه. فعلى مذهب هؤلاء أيضا سواء أقعد محمدا على عرشه أو أقعده على منبر من نور، إذ كان من قولهم: أن جلوس الرب على عرشه ليس بجلوس يشغل جميع العرش ولا في إقعاد محمد صلى الله عليه وسلم
وأقول: لك أن تجيب أيضا عن إيرادات الواحديّ الخمسة، التي أفسد بها قول مجاهد. أما جواب إيراده الأول، فإن مجاهدا لم يفسر مادة البعث وحدها بالإجلاس.
وإنما فسر بعثه المقام المحمود بما ذكر.
وعن الثاني: بأن المقام هو المنزلة والقدرة والرفعة، معروف ذلك في اللغة.
وعن الثالث: بدفع اللازم المذكور، لأنه كما اتفق على أن له ذاتا لا تماثلها الذوات فكذلك كل ما يوصف به مما ورد في الكتاب والآثار، فإنه لا يماثل الصفات.
ولا يجوز قياس الخالق على المخلوق.
وعن الرابع: بأنه مكابرة. إذ كل أحد يعرف- في الشاهد- لو أن ملكا استدعى جماعة للحضور لديه، ورفع أفضلهم على عرشه، أن المرفوع ذو مقام يفوق به الكل.
وعن الخامس: بأنه من واد آخر غير ما نحن فيه، إذ لا بعث لإصلاح المهمات
حديث الشفاعة في أحمد... إلى أحمد المصطفى نسنده
وأما حديث بإقعاده... على العرش أيضا فلا نجحده
أمرّوا الحديث على وجهه... ولا تدخلوا فيه ما يفسده
وقال الذهبيّ في كتابه المنوه به، في ترجمة (محمد بن مصعب) العابد شيخ بغداد ما مثاله: وقال المروذيّ سمعت أبا عبد الله الخفاف. سمعت ابن مصعب وتلا عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: نعم يقعده على العرش- ذكر الإمام أحمد محمد بن مصعب فقال: قد كتبت عنه. وأيّ رجل هو! قال الذهبيّ: فأما قضية قعود نبينا على العرش، فلم يثبت في ذلك نص، بل في الباب الحديث واه. وما فسر به مجاهد الآية، كما ذكرناه. فقد أنكره بعض أهل الكلام. فقام المروذيّ وقعد بالغ في الانتصار لذلك وجمع فيه كتابا وطرق قول مجاهد، من رواية ليث بن أبي سليم، وعطاء بن السائب، وأبي يحيى القتات وجابر بن يزيد. وممن أفتى في ذلك العصر، بأن هذا الأثر يسلّم ولا يعارض. أبو داود السجستانيّ صاحب السنن وإبراهيم الحربيّ وخلق. بحيث إن ابن الإمام أحمد قال عقيب قول مجاهد: أنا منكر على كل من رد هذا الحديث. وهو عندي رجل سوء متهم. سمعته من جماعة. وما رأيت محدثا ينكره. وعندنا إنما تنكره الجهمية. وقد حدثنا هارون بن معروف. ثنا محمد بن فضيل عن ليث، عن مجاهد في قوله: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال:
يقعده على العرش. فحدثت به أبي رحمه الله فقال لم يقدّر لي أن أسمعه من ابن فضيل: بحيث إن المروذيّ روى حكاية بنزول، عن إبراهيم بن عرفة. وسمعت ابن عمير يقول: سمعت أحمد بن حنبل يقول: هذا قد تلقته العلماء بالقبول. وقال المروذيّ: قال أبو داود السجستانيّ: ثنا ابن أبي صفوان الثقفي. ثنا يحيى بن أبي كثير. ثنا سلم بن جعفر، وكان ثقة، ثنا الجريريّ ثنا سيف السدوسي عن عبد الله ابن سلام، قال: إذا كان يوم القيامة جيء بنبيكم ﷺ حتى يجلس بين يدي الله عزّ وجلّ على كرسيه. الحديث. وقد رواه ابن جرير في تفسيره. (أعني قول مجاهد) وكذلك أخرجه النقاش في تفسيره. وكذلك رد شيخ الشافعية ابن سريج على من أنكره. بحيث إن الإمام أبا بكر الخلّال قال في كتاب (السنة) من جمعه: أخبرني الحسن بن صالح العطار. عن محمد بن علي السراج. قال: رأيت النبيّ ﷺ في النوم
(فيما نقله عنه القاضي أبو يعلى الفراء) : لو أن حالفا حلاف بالطلاق ثلاثا إن الله يقعد محمدا ﷺ على العرش. واستفتاني، لقلت له: صدقت وبررت.
قال الذهبيّ: فأبصر، حفظك الله من الهوى، كيف آل الغلوّ بهذا المحدث إلى وجوب الأخذ بأثر منكر. واليوم يردّون الأحاديث الصريحة في العلوّ. بل يحاول بعض الطغام أن يرد. قوله تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه: ٥]. انتهى.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي مدخلا حسنا مرضيّا بلا آفة وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ أي مخرجا حسنا مرضيّا من غير آفة الميل إلى النفس، ولا الضلال بعد الهدى. ووَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي عزّا ناصرا للإسلام على الكفر، مظهرا له عليه.
وقد رأى المهايمي ارتباط الآية بما قبلها في معناها حيث قال: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي أي في هذه العبادات فإنها لا توصلك إلى المقام المحمود، إلا إذا صدق دخولك فيها وخروجك عنها، ولا يتم إلا بإمداد الله بعد استمدادك منه. وقولك:
رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ أي بمشاهدتك في هذه العبادات، وتخليتي عن الرياء والعجب، وتصفيتي بإخلاص العمل، وإخلاص طلب الأجر، ورؤية المنة لله، ورؤية التقصير فيها. وَأَخْرِجْنِي عنها مُخْرَجَ صِدْقٍ فلا تستعملني فيما يحبطها عليّ، ولا تردني على نفسي. وإذا غلبني الشيطان أو النفس أو الخلق، أو وردت عليّ شبهة، فاجعل لي من لدنك، لا من عند فكري، سُلْطاناً أي حجة نَصِيراً ينصرني على ما ذكر. ليبقي عليّ عبادتي فيوصلني إلى المقام المحمود. انتهى واللفظ الكريم محتمل لذلك. ويظهر لنا أنه إشارة للهجرة كما ستراه.
وَقُلْ أي استبشارا بقرب الظفر والنصر، وترهيبا للمشركين جاءَ الْحَقُّ
تنبيه:
سياق هذه الآيات مع سباقها أعني قوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ يدل على أن نزولها في أوقات الاهتمام للهجرة إلى المدينة، ومبارحة مكة، وأنه تعالى أمر نبيّه بأن يبتهل إليه في تيسير إدخاله لمهاجره على ما يرضيه، وإخراجه من بلده كذلك. وأن يجعل له حماية من لدنه، تعز جانبه وتعصمه ممن يرومه بسوء.
وأسلوب التنزيل العزيز في مثل هذا الدعاء، هو إرادة الخبر بحصول المدعوّ، ومشيئة الله بوقوعه عن قرب. ولذلك عقبه بقوله: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إعلاما بأن الأمر تم، والفرج جاء، ودحر الباطل ورجع إلى أصله، وهو العدم.
روى الحافظ أبو يعلى عن جابر رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله ﷺ مكة. وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، تعبد من دون الله. فأمر بها رسول الله ﷺ فأكبّت على وجوهها. وقال: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً ورواه الشيخان وغيرهما عن ابن مسعود، بنحوه.
قال في (الإكليل) فيه استحباب تلاوة هذه الآية عند إزالة المنكر.
ثم بيّن تعالى خسار المشركين، بإعراضهم عما يشفي أمراضهم المعنوية، وهو القرآن الكريم، ونجاح المؤمنين بالاستشفاء بهداه ورحمته، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٢]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي وننزل عليك من القرآن ما يستشفى به من الجهل والضلالة. ورحمة ببيان الحقائق وإقامة البراهين للمؤمنين به، دون الكافرين. لأن المؤمنين يعملون بما فيه من فرائض الله وشرائعه. فيدخلهم الجنة وينجيهم من العذاب. فهو لهم رحمة ونعمة. ولا يزيد الظالمين، بكفرهم وشركهم، إلا خسارا. أي إهلاكا. لأنهم كلما جاءهم أمر من الله أو نهي، كفروا به، فزادهم خسارا إلى ما كانوا فيه قبل، ورجسا إلى رجسهم.
قال الشهاب: (الشفاء) استعارة تصريحية أو تخييلية. بتشبيه الكفر بالمرض.
و (من) بيانية. قدمت على المبيّن وهو (ما) اعتناء.
ذهب بعضهم إلى أن القرآن مما يستشفى به من الأمراض الحسّية لهذه الآية.
بحمل قوله شِفاءٌ على معنيين من باب عموم المجاز. أو حمل المشترك على معنييه، وممن قرر ذلك الرازيّ. وعبارته: اعلم أن القرآن شفاء من الأمراض الروحانية.
وشفاء أيضا من الأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية فظاهر.
وذلك لأن الأمراض الروحانية نوعان: الاعتقادات الباطلة. والأخلاق المذمومة. أما الاعتقادات الباطلة، فأشدها فساد الاعتقادات في الإلهيات والنبوّات والمعاد والقضاء والقدر. والقرآن مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه المطالب، وإبطال المذاهب الباطلة فيها. لا جرم كان شفاء من هذا النوع من المرض الروحاني وأما الأخلاق المذمومة، فالقرآن مشتمل على تفصيلها وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة الكاملة، والأعمال المحمودة. فكان القرآن شفاء من هذا النوع من المرض. فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الروحانية.
وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. ولما اعترف الجمهور من الفلاسفة وأصحاب الطلسمات بأن لقراءة الرقي المجهولة والعزائم التي لا يفهم منها شيء آثارا عظيمة في تحصيل المنافع ودفع المفاسد- فلأن تكون قراءة هذا القرآن العظيم، المشتمل على ذكر جلال الله وكبريائه، وتعظيم الملائكة المقربين، وتحقير المردة والشياطين سببا لحصول النفع في الدين والدنيا- كان أولى. ويتأكد ما ذكرنا
بحديث: (من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه الله تعالى)
وأما كونه رحمة للمؤمنين، فاعلم أنا بينا أن الأرواح البشرية مرضية بسبب العقائد الباطلة والأخلاق الفاسدة. والقرآن منه ما يفيد الخلاص من شبهات الضالين وتمويهات والمبطلين، وهو الشفاء. ومنه مما يفيد تعليم كيفية اكتساب العلوم العالية والأخلاق الفاضلة، التي بها يصل الإنسان إلى جوار رب العالمين، والاختلاط بزمرة الملائكة المقربين، وهو الرحمة. ولما كانت إزالة المرض مقدمة على السعي في تكميل موجبات الصحة، لا جرم بدأ الله تعالى، في هذه الآية، بذكر الشفاء ثم أتبعه بذكر الرحمة. انتهى.
وقال الإمام ابن القيم في (زاد المعاد) في بحث الأدوية والأغذية المفردة، التي جاءت على لسانه ﷺ في حرف القاف: (قرآن) : قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. والصحيح أن (من) هاهنا لبيان الجنس، لا للتبعيض.
ثم قال في (حرف الكاف) : ورخص جماعة من السلف في كتابة بعض القرآن وشربه، وجعل ذلك من الشفاء الذي جعل الله فيه. ثم ذكر ما كان يكتبه شيخ الإسلام ابن تيمية للرعاف. فانظره.
وذكر، قبل، في فاتحة الكتاب، من سرّ كونها شفاء، حقائق بديعة. وكذا في بحث الرقي. وذكر أيضا أن من الأدوية التي تشفي من الأمراض، ما لم يهتد إليها عقول أكابر الأطباء، ولم تصل إليها علومهم وتجاربهم وأقيستهم، من الأدوية القلبية والروحانية وقوة القلب واعتماده على الله والتوكل عليه والالتجاء إليه، والانطراح والانكسار بين يديه، والتذلل له والصدقة والصلاة والدعاء والتوبة والاستغفار، والإحسان إلى الخلق وإغاثة الملهوف والتفريج عن المكروب. فإن هذه الأدوية قد جربتها الأمم على اختلاف أديانها ومللها. فوجدوا لها من التأثير في الشفاء ما لم يصل إليه علم أعلم الأطباء، ولا تجربته ولا قياسه وقد جرّبنا نحن وغيرنا من هذا أمورا كثيرة. ورأيناها تفعل ما لا تفعل الأدوية الحسيّة وهذا جار على قانون الحكمة الإلهية، ليس خارجا عنها. ولكن الأسباب متنوّعة، فإن القلب متى اتصل برب العالمين، وخالق الداء والدواء، ومدبّر الطبيعة ومصرّفها على ما يشاء، كانت له أدوية أخرى غير الأدوية التي يعاينها القلب البعيد منه، المعرض عنه. وقد علم أن الأرواح متى قويت وقويت النفس والطبيعة، تعاونا على دفع الداء وقهره. فكيف ينكر لمن قويت طبيعته ونفسه، وفرحت بقربها من بارئها وأنسها به وحبّها له وتنعمها بذكره، وانصراف قواها كلها إليه، وجمعها عليه، واستعانتها به، وتوكلها عليه- أن يكون ذلك لها من أكبر الأدوية، ويوجب لها هذه القوة دفع الألم بالكلية. ولا ينكر هذا إلا أجهل الناس وأعظمهم حجابا وأكثفهم نفسا، وأبعدهم عن الله وعن حقيقة الإنسانية.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٣]
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً إشارة إلى السبب في وقوع هؤلاء الضالين في أودية الضلال. وهو حب الدنيا وإيثارها على الأخرى، وكفران نعمه تعالى. بالإعراض عن شكرها، والجزع واليأس من الفرج عند مسّ شر قضى عليه. وكل ذلك مما ينافي عقد الإيمان. فإن المؤمن ينظر بعين البصيرة، ويشاهده قدرة الله تعالى في كلتا الحالتين. ويتيقن في الحالة الأولى أن الشكر رباط النعم. وفي الثانية أن الصبر دفاع النقم. فيشكر ويصبر. ويعلم أن المنعم يقدر فلم يعرض عند النعمة بطرا وأشرا. ولم يغفل عن المنعم ولم يجزع عند النقمة جزعا وضجرا.
فالآية وصف للجنس باعتبار بعض أفراده ممن هو على هذه الصفة. كقوله تعالى: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ، وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ، إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [هود: ٩- ١١].
قال الزمخشريّ: وَنَأى بِجانِبِهِ تأكيد للإعراض. لأن الإعراض عن الشيء أن يولّيه عرض وجهه. والنأي بالجانب: أن يلوي عنه عطفه ويوليه ظهره. أو أراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٤]
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي على مذهبه وطريقته وخليقته وملكته الغالبة عليه، الحاصلة له من استعداد حقيقته، التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة. من
فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أسدّ مذهبا وطريقة، من العاملين: عامل الخير بمقتضى سجية القلب الفاضلة، وعامل الشر بمقتضى طبيعة النفس، فيجازيهما بحسب أعمالهما.
وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٥]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قال القاشاني: أي الذي يحيا به بدن الإنسان ويدبره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي ليس من عالم الخلق حتى يمكن تعريفه للظاهريين البدنيين، الذين يتجاوز إدراكهم الحس والمحسوس، بالتشبيه ببعض ما شعروا به، والتوصيف. بل من عالم الأمر، أي الإبداع الذي هو عالم الذوات المجردة عن الهيولى، والجواهر المقدسة عن الشكل واللون والجهة والأين، فلا يمكنكم إدراكه أيها المحجوبون بالكون، لقصور إدراككم وعلمكم عنه وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا هو علم المحسوسات. وذلك شيء نزر حقير بالنسبة إلى علم الله والراسخين في العلم- هذا ما قاله القاشانيّ- وحاصل الجواب عليه: أن الروح موجود محدث بأمره تعالى بلا مادة، وتولد من أصل كأعضاء الجسد، حتى يمكن تعريفه ببعض مبادئه، بل هو من عالم الأمر لا من عالم الخلق. فيكون الاقتصار في الجواب على قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي كما اقتصر موسى في جواب قول فرعون وَما رَبُّ الْعالَمِينَ [الشعراء: ٢٣]، على قوله رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الشعراء: ٢٤]، إعلاما بأن إدراكه بالكنه على ما هو عليه، لا يعلمه إلا الله تعالى. وأنه شيء بمفارقته يموت الإنسان. وبملازمته له يبقى. كما أومأ إليه قوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي علما قليلا تستعيدونه من طرق الحواس. وهو هذا القدر الإجماليّ.
قال الشهاب: والسؤال- على هذا- عن حقيقتها. والجواب إجماليّ بأنها من المبدعات من غير مادة. ولذا قيل: إنه من الأسلوب الحكيم. كما في قوله:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ [البقرة: ١٨٩]، إشارة إلى أن حقيقتها لا تعلم، وإنما يعلم منها هذا المقدار. فالمراد ب (الأمر) على هذا التفسير (قول كن) ولذا قالوا لمثله:
عالم الأمر. انتهى.
سواء كان الكائن من عالم الأمر أو من عالم الخلق. بل إنه من الإبداعيات الكائنة بمحض الأمر التكوينيّ من غير تحصل من مادة. وحكى، عليه الرحمة، قولا آخر وهو: أن الأمر بمعنى الشأن. قال: والإضافة للاختصاص العلميّ لا الإيجادي، لاشتراك الكل فيه. وفيها من تشريف المضاف ما لا يخفى. كما في الإضافة الثانية من تشريف المضاف إليه. أي هو من جنس ما استأثر الله بعلمه من الأسرار الخفية التي لا يكاد يحوم حولها عقول البشر. وعليه، ف (من) بيانية أو تبعيضية. ويكون نهيا لهم عن السؤال عنها، وتركا للبيان. وهذا رأي كثيرين. أمسكوا عن الخوض فيها، وقالوا: إنها شيء استأثر الله بعلمه ولم يطلع أحدا من خلقه. فلا يجوز البحث عنها بأكثر من أنها شيء موجود، بل غلا بعضهم وقال: إن الإفاضة في بحث الروح بدعة في الدين. إذا لم يبينه الله لرسوله بأكثر مما في الآية. فالاشتغال بالتفتيش عنه غلوّ فيما لم يرد به قرآن ولم يقم عليه برهان، وما كان كذلك فهو عناد.
وأجاب الخائضون في بحثها، بأن الآية لا يدل معناها على ذكر دلالة قطعية، ولا دلالة فيها على المنع من الخوض فيها، ولا على أنه ﷺ لم يكن يعلمها. وغاية الأمر أنه أمر بترك الجواب عنها تفصيلا. إما لأن الإمساك عن ذلك كان عند اليهود السائلين عنها، من دلائل نبوّته صلى الله عليه وسلم، أو لأن سؤالهم كان تعنتا. فإنها تطلق على معان: منها الراحة وبرد النسيم. وعلى جبريل والقرآن وعيسى عليه السلام والحياة والقلب والرحمة وغير ذلك. فأضمروا على أنه إذا أجاب بأحد هذه الأمور، قالوا: لم نرده، وإنما أردنا كذا.
ثم الأقاويل فيها من الحكماء والعلماء الأقدمين مختلفة. ولا يتم الجواب في محل الخلاف. فأتى بالجواب مجملا على وجه يصدق على كلّ من ذلك مرموزا، ليعلمه العلماء بالله. واقتضت المصلحة العامة منع الكلام فيه لغيرهم. لأن الأفهام لا تحتمله. خصوصا على طريقة الحكماء. إذ من غلب على طبعه الجمود لا يقبله ولا يصدق به في صفة الباري. فكيف يصدق به في حق الروح الإنسانيّ. بل قال بعض المدققين: إن في الآية والجواب ببيان حقيقتها، وأنها من إبداعاته الكائنة بتكوينه، من غير سبق مادة- وهو ما ذكرناه أولا- وفي الجواب بذلك ما فيه الكفاية لذوي البصائر والدراية. ومقنع لمن كان له في النزاع، إذا فصل، مطمع. وقد استحسن بعضهم هذا الجواب وقال مذيلا له: فيكون قوله: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي على أن
ثم إن الذين خاضوا في البحث عنها، أثرت عنهم أقوال شتى. وقد أفردت لذلك تآليف قديمة وحديثة، والذي يهمنا معرفته ما عول عليه الأئمة المدققون، الذين نقبوا عن أقوال المتقدمين، ونقدوها بمحك الكتاب والسنة، فنبذوا ما يخالفهما وتمسكوا بما يوافقهما.
فمنهم الإمام ابن حزم. قال رحمه الله في كتابه (الملل والنحل) بعد سرد مذاهب شتى: وذهب سائر أهل الإسلام والملل المقرّة بالمعاد، إلى أن النفس جسم طويل عريض عميق ذات مكان. عاقلة مميزة مصرّفة للجسد. قال: وبهذا نقول.
والنفس والروح اسمان لمسمى واحد، ومعناهما واحد. ثم قال: وأما من ذهب إلى أن النفس ليست جسما، فقول يبطل بالقرآن والسنة وإجماع الأمة. فأما القرآن، فإن الله عز وجل قال: هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ [يونس: ٣٠]، وقال تعالى:
الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، لا ظُلْمَ الْيَوْمَ [غافر: ١٧]، وقال تعالى:
كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور: ٢١]، فصح أن النفس هي الفعالة الكاسبة المجيبة المخطئة. وقال تعالى: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: ٥٣]، وقال تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ [غافر: ٤٦]. وقال تعالى: وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ، بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ [البقرة: ١٥٤]، وقال تعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً، بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [آل عمران: ١٦٩- ١٧٠] فصح أن الأنفس، منها ما يعرض على النار قبل يوم القيامة، فيعذب. ومنها ما يرزق
فصحّ أن الأنفس منقولة من مكان إلى مكان. ولا شك في أن العرض لا يلقى العذاب ولا يحس، فليست عرضا. وصح أنها تنتقل في الأماكن قائمة بنفسها، وهذه صفة الجسم لا صفة الجوهر عند القائل به، فصح، ضرورة، أنها جسم.
وأما
من السنن فقول رسول الله ﷺ «١»
(إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر في الجنة)
وقوله ﷺ «٢»
، إنه (رأى نسم بني آدم عند سماء الدنيا عن يمين آدم ويساره)
فصح أن الأنفس مرئيّة في أماكنها،
وقوله عليه السلام «٣»
(إن نفس المؤمن إذا قبضت، عرج بها إلى السماء وفعل بها كذا. ونفس الكافر إذا قبضت فعل بها كذا)
فصح أنها معذبة ومنعمة ومنقولة في الأماكن، وهذه صفة الأجسام ضرورة.
وأما من الإجماع، فلا اختلاف بين أحد من أهل الإسلام في أن أنفس العباد منقولة بعد خروجها من الأجساد، إلى نعيم أو إلى صنوف ضيق وعذاب. وهذه صفة الأجسام.
ثم قال: ومعنى قول الله تعالى: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي.
إنما هو لأنّ الجسد مخلوق من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم عظما ثم لحما ثم أمشاجا. وليس الروح كذلك. وإنما قال الله تعالى آمرا له بالكون (كن فكان). فصح أن النفس والروح والنسمة أسماء مترادفة لمعنى واحد، وقد يقع الروح أيضا على غير هذا. فجبريل عليه السلام الروح الأمين. والقرآن روح من عند الله.
وقال ابن حزم أيضا، قبل ذلك، في بحث عذاب القبر: والذي نقول به في مستقر الأرواح، هو ما قاله الله تعالى ونبيه ﷺ لا نتعداه، فهو البرهان الواضح وهو أن الله تعالى قال: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ، قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ [الأعراف: ١٧٢]، وقال تعالى:
(٢) أخرجه البخاري في: الصلاة، ١- باب كيف فرضت الصلاة في الإسراء، حديث ٢٣٥، عن أبي ذر.
(٣) أخرجه ابن ماجة في: الزهد، ٣١- باب ذكر الموت والاستعداد له، حديث ٤٢٦٢، عن أبي هريرة.
أخبر عليه السلام «١»
(إن الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف)
- وهي العاقلة، الحساسة- وأخذ عز وجل عهدها وشهادتها- وهي مخلوقة مصورة عاقلة، قبل أن يأمر الملائكة بالسجود لآدم، على جميعهم السلام. وقبل أن يدخلها في الأجساد. والأجساد يومئذ تراب وماء. ثم أقرّها تعالى حيث شاء. لأن الله تعالى ذكر ذلك بلفظة (ثمّ) التي توجب التعقيب والمهلة. ثم أقرها عز وجل حيث شاء. وهو البرزخ الذي ترجع إليه عند الموت. لا تزال يبعث منها الجملة، بعد الجملة. فينفخها في الأجساد المتولدة من المنيّ، المنحدر من أصلاب الرجال وأرحام النساء. كما قال تعالى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى [القيامة: ٣٧- ٣٨]، وقال عز وجل:
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً [المؤمنون: ١٢- ١٤]، الآية وكذلك
أخبر رسول الله ﷺ «٢»
أنه (يجمع خلق ابن آدم في بطن أمه أربعين يوما نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل الملك فينفخ فيه الروح)
فيبلوهم الله عز وجل في الدنيا كما شاء. ثم يتوفاها فترجع إلى البرزخ الذي رآها فيه رسول الله ﷺ ليلة أسري به عند سماء الدنيا: أرواح أهل السعادة عن يمين آدم عليه الصلاة والسلام، وأرواح أهل الشقاوة عن يساره عليه السلام. وذلك عند منقطع العناصر، وتعجل أرواح الأنبياء عليهم السلام وأرواح الشهداء إلى الجنة.
وقد ذكر محمد بن نصر المروزيّ عن إسحاق بن راهويه، أنه ذكر هذا القول الذي قلنا بعينه، وقال: على هذا أجمع أهل العلم.
ثم قال ابن حزم: ولا تزال الأرواح هنالك، حتى يتم عدد الأرواح كلها بنفخها في أجسادها ثم برجوعها إلى البرزخ المذكور. فتقوم الساعة، ويعيد عز وجل الأرواح ثانية إلى الأجساد. وهي الحياة الثانية. ويحاسب الخلق: فريق في الجنة وفريق في السعير، مخلدين أبدا. انتهى.
وأخرجه مسلم في: البرّ والصلة والآداب، حديث رقم ١٥٩، عن أبي هريرة. [.....]
(٢) أخرجه البخاريّ في: بدء الخلق، ٦- باب ذكر الملائكة، حديث ١٥١٤، عن عبد الله بن مسعود.
فصل
ومنهم شيخ الإسلام تقي الدين ابن تيمية، عليه الرحمة، قال في: (تفسير سورة الإخلاص) بعد أن ذكر نزاع المتكلمين المتفلسفة في الملائكة. هل هي متحيزة أم لا؟ وكذلك نزاعهم في روح الإنسان التي تفارقه بالموت، على قول الجمهور الذين يقولون: هي عين قائمة بنفسها ليست عرضا من أعراض البدن كالحياة وغيرها. ولا جزءا من أجزاء البدن كالهواء الخارج منه. فإن كثيرا من المتكلمين زعموا أنها عرض قائم بالبدن، أو جزء من أجزاء البدن. لكن هذا مخالف للكتاب والسنة وإجماع السلف والخلف. ولقول جماهير العقلاء من جميع الأمم.
ومخالف للأدلة، وهذا مما استطال به الفلاسفة على كثير من أهل الكلام.
قال القاضي أبو بكر: أكثر المتكلمين على أن الروح عرض من الأعراض.
وبهذا نقول: إذا لم يعن بالروح النفس، فإنه قال: الروح الكائن في الجسد ضربان:
أحدهما الحياة القائمة به والآخر النفس. والنفس ريح ينبثّ به، والمراد بالنفس، ما يخرج بنفس التنفس من أجزاء الهواء المتحلل من المسامّ. وهذا قول الإسفرائينيّ وغيره. وقال ابن فورك: هو ما يجري في تجاويف الأعضاء. وأبو المعالي خالف هؤلاء وأحسن في مخالفتهم فقال: إن الروح أجسام لطيفة مشابكة للأجسام المحسوسة.
أجرى الله العادة بحياة الأجساد ما استمرت مشابكتها لها. فإذا فارقتها تعقب الموت الحياة في استمرار العادة. ومذهب الصحابة والتابعين لهم بإحسان وسائر سلف الأمة وأئمة السنة، وأن الروح عين قائمة بنفسها. تفارق البدن وتنعم، وتعذب. ليست هي البدن، ولا جزءا من أجزاءه كالنفس المذكور.
ثم الذين قالوا: إنها عين، تنازعوا: هل هي جسم متحيز؟ على قولين:
كتنازعهم في الملائكة. فالمتكلمون منهم يقولون: جسم. والمتفلسفة يقولون:
جوهر عقليّ ليس بجسم. وأصل تسميتهم المجردات والمفارقات، هو مأخوذ من نفس الإنسان. فإنها لما كانت تفارق بدنه بالموت، وتتجرد عنه، سموها مفارقة مجردة. ثم أثبتوا ما أثبتوه من العقول والنفوس وسموها. مفارقات ومجردات.
لمفارقتها المادة التي هي عندهم الجسم. وهذه المفارقات عندهم ما لا يكون جسما ولا قائما بجسم. لكن النفس متعلقة بالجسم تعلق التدبير. والعقل لا تعلق له بالأجسام أصلا. ولا ريب أن جماهير العقلاء على إثبات الفرق بين البدن والروح التي تفارق.
ثم قال عليه الرحمة: وما يقوله هؤلاء المتفلسفة في النفس الناطقة، من أنها لا يشار إليها ولا توصف بحركة ولا سكون ولا صعود ولا نزول، وليس داخل العالم ولا خارجه- هو كلام باطل عند جماهير العقلاء. ولا سيما من يقول منهم، كابن سينا وأمثاله: إنها لا تعرف شيئا من الأمور الجزئية. وإنما تعرف الأمور الكلية. فإن هذا مكابرة ظاهرة. فإنها تعرف بدنها وتعرف كل ما تراه بالبدن وتشمه وتسمعه وتذوقه وتقصده وتأمر به وتحبه وتكرهه، إلى غير ذلك مما تتصرف فيه بعلمها وعملها.
فكيف يقال: إنها لا تعرف الأمور المعينة وإنما تعرف أمورا كلية!؟ وكذلك قولهم:
إن تعلقها بالبدن ليس إلا مجرد تعلق التدبير والتصريف كتدبير الملك لمملكته- من أفسد الكلام. فإن الملك يدبر أمر مملكته، فيأمر وينهى. ولكن لا يصرفهم هو بمشيئته وقدرته، إن لم يتحركوا هم بإرادتهم وقدرتهم.
والملك لا يلتذ بلذة أحدهم ولا يتألم بتألمه، وليس كذلك الروح والبدن. بل قد جعل الله بينهما من الاتحاد والائتلاف ما لا يعرف له نظير يقاس به. ولكن دخول الروح فيه ليس هو مماثلا لدخول شيء من الأجسام المشهودة. فليس دخولها فيه كدخول الماء ونحوه من المائعات في الأوعية. فإن هذه إنما تلاقي السطح الداخل في الأوعية لا بطونها ولا ظهورها وإنما يلاقي الأوعية منها أطرافها دون أوساطها.
وليس كذلك الروح والبدن. بل الروح متعلقة بجميع أجزاء البدن باطنه وظاهره.
وكذلك دخولها فيها ليس كدخول الطعام والشراب في بدن الآكل. فإن ذلك له مجار معروفة، وهو مستحيل إلى غير ذلك من صفاته. ولا جريانها في البدن كجريان الدم.
فإن الدم يكون في بعض البدن دون بعض. ففي الجملة كل ما يذكر من النظائر لا يكون كل شيء منه متعلقا بالآخر. بخلاف الروح والبدن. لكن هي مع هذا في البدن قد ولجت فيه. وتخرج منه وقت الموت. وتسلّ منه شيئا فشيئا. فتخرج من البدن شيئا فشيئا. لا تفارقه كما يفارق الملك مدينته التي يدبّرها. والناس لما لم يشهدوا
فصل
وكتب بعض المنقبين عن مباحث المدققين العصريين في الروح ما مثاله: إن نظرية الروحيين التي يستدلون عليها في أوربا بالحسّ في هذه الأيام، هي أن للإنسان روحا هبطت عليه من الملأ الأعلى. لا يصل العقل إلى إدراك كنهها. وإنها متصلة بهذا الجسد الطينيّ، بواسطة هيكل لطيف شفاف على شكل الجسد تماما. ولكنه ليس من طبيعته ولا محكوما بقوانينه. وإنه كغلاف للسرّ الإلهي المسمى روحا.
ولعل في هذا ما يشبه قول الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه عن الروح (هي صورة كالجسد) ويقولون: إن الروح وغلافها هذا يخرجان من الجسد عند حصول الموت للشخص، إلى عالم غير هذا العالم. ولكنهما لا ينفصلان عنه كل الانفصال، بل أرواح الموتى منتشرة حولنا في كل جهة. ولكنا لا نراها بأعيننا، لعدم استعداد أعيننا لذلك. كما أنها ليست مستعدة لرؤية أشعة (رونتجن) مع أنها موجودة كما تدل عليه الآية التي صنعها له. وقد دخلت تطبيقاتها في علم الطب وأفادت العلم الطبيعيّ فائدة كبرى. ولكن يوجد أشخاص فيهم استعداد خاص به يرون الأرواح رائحة غادية، وعن أيمانهم وعن شمائلهم، رؤية حقيقية. انتهى. ملخصا.
تنبيه:
جميع ما قدمناه، بناء على أن المراد بالروح في الآية روح الإنسان.
قال ابن القيم في كتاب (الروح) : وفي ذلك خلاف بين السلف والخلف.
وأكثر السلف، بل كلهم، على أن الروح المسؤول عنها في الآية ليست أرواح بني آدم. بل هو الروح الذي أخبر الله عنه في كتابه، أنه يقوم يوم القيامة مع الملائكة،
وقد ثبت في الصحيح «١» عن عبد الله قال: بينا أنا أمشي مع رسول الله ﷺ في حرّة المدينة، وهو متكئ على عسيب، فمررنا على نفر من اليهود. فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح؟ وقال بعضهم: لا تسألوه عسى أن يخبر فيه بشيء تكرهونه. وقال بعضهم: نسأله. فقام رجل فقال: يا أبا القاسم! ما الروح؟ فسكت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فعلمت أنه يوحى إليه. فقمت. فلما تجلى عنه قال:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الآية،
ومعلوم أنهم إنما سألوه عن أمر لا يعرف إلا بالوحي.
وذلك هو الروح الذي عند الله لا يعلمها الناس. وأما أرواح بني آدم فليست من الغيب. وقد تكلم فيها طوائف الناس من أهل الملل وغيرهم. فلم يكن الجواب عنها من أعلام النبوة. فإن قيل: فقد روى أبو الشيخ عن السدّيّ عن أبي مالك، عن ابن عباس قال: بعثت قريش عقبة بن أبي معيط وعبد الله بن أمية بن المغيرة إلى يهود المدينة يسألونهم عن النبي صلى الله عليه وسلم. فقالوا: إنه قد خرج فينا رجل يزعم أنه نبيّ. وليس على ديننا. ولا على دينكم. قالوا: فمن تبعه؟ قالوا: سفلتنا والضعفاء والعبيد ومن لا خير فيه. وأما أشراف قومه فلم يتبعوه. فقالوا: إنه قد أظلّ زمان نبيّ يخرج، وهو على ما تصفون من أمر هذا الرجل، فأتوه فاسألوه عن ثلاث خصال فأمركم بهن. فإن أخبركم بهن فهو نبيّ صادق. وإن لم يخبركم بهن فهو كذّاب. سلوه عن الروح التي نفخ الله تعالى في آدم. فإن قال لكم: هي من الله، فقولوا: كيف يعذب الله في النار شيئا هو منه. ؟ فسأل جبريل عنها فأنزل الله الآية. يقول: هو خلق من خلق الله ليس هو من الله.
قيل: مثل هذا الإسناد لا يحتج به. فإنه من تفسير السديّ عن أبي مالك. وفيه أشياء منكرة. وسياق هذه القصة في السؤال، من الصحاح والمسانيد، كلها تخالف سياق السديّ.
وقد رواها الأعمش والمغيرة عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال: مر النبيّ ﷺ على ملأ من اليهود. وأنا أمشي معه. فسألوه عن الروح، قال فسكت.
فظننت أنه يوحى إليه. فنزلت وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ يعني اليهود قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي | الآية. وكذلك هي في قراءة عبد الله. فقالوا كذلك نجد مثله في التوراة أن الروح من أمر الله عز وجل. رواه جرير بن عبد الحميد وغيره عن المغيرة. |
. فهذا يدل على ضعف حديث السدّي، وأن السؤال كان بمكة، فإن هذا الحديث وحديث ابن مسعود صريح أن السؤال كان بالمدينة مباشرة من اليهود. ولو كان قد تقدم السؤال والجواب بمكة، لم يسكت النبي صلى الله عليه وسلم، ولبادر إلى جوابهم بما تقدم من إعلام الله له، وما أنزل الله عليه. وقد اضطربت الروايات عن ابن عباس في تفسير هذه الآية أعظم اضطراب. فإما أن تكون من قبل الرواة، أو تكون أقواله قد اضطربت فيها. ثم ساق ابن القيم الروايات عنه مسندة، ثم قال: والروح في القرآن على عدة أوجه:
أحدها: الوحي، كقوله تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢]، وقوله: يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: ١٥]، وسمى الوحي روحا لما يحصل به من حياة القلوب والأرواح.
الثاني: القوة والثبات والنصرة التي يؤيد بها من شاء من عباده المؤمنين، كما قال: أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة: ٢٢].
الثالث: جبريل كقوله تعالى: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ [الشعراء: ١٩٣- ١٩٤]، وقال تعالى: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة: ٩٧]، وهو روح القدس، قال تعالى: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ [النحل: ١٠٢].
الرابع: الروح التي سأل عنها اليهود فأجيبوا بأنها من أمر الله. وقد قيل إنها الروح المذكورة في قوله تعالى: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ [النبأ: ٣٨]، وإنها الروح المذكورة في قوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ [القدر: ٤].
الخامس: المسيح عيسى ابن مريم. قال تعالى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء: ١٧١]، أما أرواح بني آدم فلم تقع تسميتها بالقرآن إلا بالنفس، قال تعالى: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ [الفجر: ٢٧]، وقال: وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة: ٢]، وقال: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ [يوسف: ٥٣]، وقال: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ [الأنعام: ٩٣]، وقال:
وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها، فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها [الشمس: ٧- ٨]، وقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥].
قال ابن كثير: رواية عبد الله في الصحيح المتقدمة، تقتضي فيما يظهر ببادئ الرأي، أن هذه الآية مدينة. وأنها إنما أنزلت حين سأله اليهود عن ذلك المدينة. مع أن السورة كلها مكية. وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية. كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك. أو إنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه، وهي هذه الآية وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ انتهى.
وقد روى ابن جرير عن قتادة: أن الروح في الآية هو جبريل عليه السلام.
وحكاه عن ابن عباس.
أقول: الذي أراه متعينا في الآية، لسابقها ولا حقها، أن المراد بالروح الوحي بالقرآن، وهو قريب من قول قتادة. ووجه تعينه أن هذه الآية في سياق ذكر القرآن وتنزيله والمنّة بكونه شفاء ورحمة، وقد سمى تعالى الوحي بالقرآن روحا: قال تعالى: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: ٥٢] وقال تعالى:
يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ [غافر: ١٥] فكانوا إذا سمعوا الروح، وصدعوا بالإيمان به، يتعنتون في السؤال عنه، استبعادا لأن يكون من لدنه سبحانه، ولأن يكون بشر مثله مبعوثا بأمره تعالى أن يبين لهم أنه وحي أوحاه الله، وأنه روح من لدنه، وإلقاء من أمره. ونظير هذه الآية قوله تعالى: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي [يونس: ٥٣] وقوله تعالى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ، عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ، الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: ١- ٣]، أي بعضهم ينكره وبعضهم يتردد في صحته.
وذلك لأنهم قوم جاهليون، لا عهد لهم بالعلوم والمعارف، فضلا عن الوحي وخصائص النبوة، للأمّية والجهالة الفاشيتين فيهم. كما أشير إليه بقوله تعالى: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أي مما تناله مشاعركم وتصل إليه فطنكم. وما هو في جنب معلومات لا تحصى، إلا كالقطرة من البحر والذرة من الكثيب. والقاعدة أن القرآن متجاوب الأطراف، يفسر بعضه بعضا.
وجميع ما ذكره المتقدمون، غير ما ذكرناه، جري مع ما يحتمله نظم الآية الكريمة. وكذا رواية ابن مسعود أنه أجيب بها اليهود، لأنها لما كان لها وجوه من المعاني، ومنها ما سألوا عنه، ألقموا بها، والله سبحانه وتعالى أعلم.
ثم أشار تعالى إلى نعمته فيما أوحاه من هذا التنزيل والهداية به، بقوله سبحانه:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦)
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي من القرآن الذي هو شفاء ورحمة للمؤمنين: وإنما عبر عنه بالموصول، تفخيما لشأنه. ووصفا له بما هو في حيز الصلة، وإعلاما بأنه ليس من قبيل كلام المخلوق ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي من يتوكل علينا برده.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٧]
إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي ولكن رحمة من ربك تركته غير مشاء الذهاب به بل تولت حفظه.
قال الزمخشريّ: وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، بعد المنة العظيمة في تنزيله وتحفيظه. فعلى كل ذي علم أن لا يغفل عن هاتين المنّتين والقيام بشكرهما. وهما منة الله عليه بحفظه العلم ورسوخه في صدره، ومنته عليه في بقاء المحفوظ: إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي تفضله بالإيحاء والتعليم الربانيّ، والاصطفاء للرسالة، ثم أمره تعالى أن يخاطب أولئك المشركين الذين لم يفقهوا قدر التنزيل، وأنه وحي ربانيّ، بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٨]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ أي اتفقت عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي معينا. وفي تقاصر قوى هؤلاء جميعهم عن ذلك، مع طول الزمن، دليل قاطع على أنه ليس ما اعتيد صدوره عن البشر، بل هو كلام عالم الغيب والشهادة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٨٩]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا أي رددنا وكررنا وبينّا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي
فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا.
ولما تبين إعجاز القرآن، وأنه الآية الكبرى، ولزمتهم الحجة وغلبوا، أخذوا يتعللون باقتراح الآيات، فعل المبهوت المحجوج المتعثر في أذيال الحيرة، فيما حكاه تعالى عنهم بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أي تشقق لنا من أرض مكة عيونا أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي بستان منهما فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً وإنما قدموا في عنتهم هذا المقترح، لأنهم كانوا يردون بلاد الشام والعراق، ويرون ما فيها من البساتين والأنهار.
قال ابن جرير فيما رواه، إنهم قالوا للنبيّ صلى الله عليه وسلم: لقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلادا. ولا أقل مالا. ولا أشد عيشا منا. فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به، فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا وليبسط لنا بلادنا.
وليفجر فيها أنهارا كأنهار الشام والعراق. ثم زادوا في الاقتراح فقالوا: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا بالعذاب أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أي كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي ذهب: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي وحده حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أي كتابا من السّماء، فيه تصديقك قُلْ سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها له. والمراد به التعجب من اقتراحاتهم هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي كسائر الرسل. وكانوا لا يأتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، حسبما يلائم حال قومهم. ولم يمكن أمر الآيات إليهم، ولا لهم أن يتحكموا على الله بشيء منها.
لا يخفى ما في اقتراح هذه الآيات من الجهل الكبير بسنة الله في خلقه، وبحكمته وجلاله. وبيان ذلك- كما في كتاب (لسان الصدق) - أن ما اقترحه قريش فيها (منه) ما أرادوا به مصلحتهم دون مصلحة العباد مما يخالف حكمة الله تعالى المقتضية لإخلاء بعض البقاع من العيون النابعة والأنهار الجارية والجنان الناضرة دون بعض. وإرساء الجبال الشم في موضع دون آخر، لمصالح يعلمها هو جلت عظمته. ولا يعلمها الخلق. فليس مقترحهم هذا من العجز في شيء. مع أن مثله لا تثبت به النبوة. فإننا نعلم أن أناسا قد استنبطوا العيون وغرسوا الجنان من النخيل والأعناب ونحتوا الجبال ولم يكونوا بذلك أنبياء (ومنه) ما يناقض إرادة الله سبحانه وهو قولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً فإن إنزال السماء قطعا مقتض لهلاك العالم بحذافيره. والله يريد إبقاءه إلى أجل معلوم (ومنه) ما هو مستحيل في نفسه غير ممكن وقوعه أصلا وهو قولهم: أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا فإن الإتيان بالله والملائكة حتى يشاهدهم المشركون أو غيرهم مما لا يمكن أن يكون. فلا يجوز طلبه، وليس من أنواع المعجز (ومنه) ما لا يصلح للأنبياء، ولو حصل لم يكن معجزا وهو قولهم: أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ فإن هذا غير صالح للأنبياء. وليس بمعجز، لحصول مثله عند أشباه فرعون (ومنه) ما وعدوا بعدم إيمانهم به لو حصل، وأردفوه بما لا يجوز وهو قولهم: أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ فيه- على ما ذكر في الرواية- من الله العظيم إلى فلان وفلان وفلان، لقوم من قريش بأسمائهم. أما بعد. فإن محمدا رسولي فآمنوا به.
والصعود في السماء لا مرية فيه، لأنهم قالوا: وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ فلو كان، لكان عبثا. وإنزال كتاب عليهم على المعنى المذكور يستلزم جعلهم أنبياء، لأن ذلك وحي مثل التوراة والإنجيل. والوحي مختص بالأنبياء، والكفار عنه معزولون. فلم يكن شيء مما اقترحوه في الآيات معجزا. وإنما هي أمور مستحيلة في نفسها، أو لأمر آخر. اقترحوها تكبرا وتعنتا وجهلا. على أنهم بعد تلك الأقوال كلها قال قائل منهم:
وأيم الله! لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. وقد قال تعالى: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [الأنعام: ١١١]، فكان الأولى في جوابهم عما اقترحوه، هو ما أجاب به ﷺ من قوله تعالى: قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي تنزه ربي عن فعل ما اقترحتموه من المحال وما يناقض حكمته. وما أنا إلا بشر رسول. عليّ أن أبلغكم رسالات ربي
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٤]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أي الذين حكى تعنتهم أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلَّا أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي إلّا تعجبهم من بعثة إنسان رسولا. بمعنى إنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. كما قال تعالى: أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ [يونس: ٢] والآيات في ذلك كثيرة. ثم نبه تعالى على لطفه ورحمته بعباده، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ويمكنهم مخاطبته ومكالمته. حتى لو كانت الأرض مستقرا لملائكته، لكانت رسلهم منهم، جريا على قضية الحكمة.
فقال سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٥]
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ أي على أقدامهم كما يمشي الإنس مُطْمَئِنِّينَ أي ساكنين في الأرض قارّين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم، ليعلمهم الخير ويهديهم المراشد. ولما كنتم أنتم بشرا، بعثنا فيكم رسلا منكم. كما قال تعالى: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة: ١٥١].
تنبيه:
في الآية إشارة إلى حاجة من يستقر في الأرض إلى الرسالة. وقد قضت رحمة الباري تعالى وعنايته بذلك، فمنّ على الخلق بالرسل وأتم حاجتهم بخاتم أنبيائه فأنقذهم من الحيرة، وخلصهم من التخبط، وأخرجهم من الظلمات إلى النور.
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦)
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي على أني بلغت ما أرسلت به إليكم، وإنكم كذبتم وعاندتم. وقرر الرازيّ أن المعنيّ بالشهادة هو الشهادة على رسالته عليه الصلاة والسلام بإعجاز القرآن. أي كفى بما أكرمني به تعالى من هذا المعجز، شاهدا على صدقي. ومن شهد تعالى على صدقه فهو صادق. فقولكم، معشر المشركين، بعد هذا، يجب أن يكون الرسول ملكا، تحكم فاسد.
وناقشه أبو السعود بأن ما قرره لا يساعده قوله تعالى بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وما بعده من التعليل. ثم قال أبو السعود. وإنما لم يقل بيننا تحقيقا للمفارقة، وإبانة للمباينة.
وقوله تعالى: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي عالما بأحوالهم. فهو مجازيهم. وهذا تسلية لرسول الله ﷺ ووعيد للكفرة.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٧]
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ أي إلى الحق بما جاء من قبله إلى الهدى فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ أي يخلق فيه الضلال بسوء اختياره، كهؤلاء المعاندين فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أي أنصارا يهدونهم ويحفظونهم من قهره، وإنما أوثر ضمير الجماعة في (لهم) حملا على معنى (من) وأوثر في ما قبله الإفراد، حملا على اللفظ. وسر الاختلاف في المتقابلين الإشارة إلى وحدة طريق الحق، وقلة سالكيه، وتعدد سبل الضلال وكثرة الضّلّال وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها كقوله يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر: ٤٨] وقال القاشانيّ: أي ناكسي الرؤوس لانجذابهم إلى الجهة السفلية! وعلى وجوداتهم وذواتهم التي كانوا عليها في الدنيا. كقوله (كما تعيشون تموتون وكما تموتون تبعثون) إذ (الوجه) يعبر به عن الذات الموجودة مع جميع عوارضها ولوازمها. أي على الحالة الأولى من غير زيادة ونقصان. وقوله تعالى عُمْياً وَبُكْماً
أي كما كانوا في الدنيا لا يستبصرون ولا ينطقون بالحق، ويتصامّون عن استماعه- فهم في الآخرة كذلك لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى [الإسراء: ٧٢]- كذا في (الكشاف) مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها، بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً أي توقدا. بأن نبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة.
قال الزمخشريّ: كأنهم لما كذبوا بالإعادة بعد الإفناء، جعل الله جزاءهم أن سلط النار على أجزائهم تأكلها وتفنيها. ثم يعيدها. لا يزالون على الإفناء والإعادة ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم البعث. ولأنه أدخل في الانتقام من الجاحد.
وقد دل على ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٨]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أي لمحيون خلقا جديدا، بإعادة الروح فينا، إذا تلف لحمنا وبقينا عظاما.
بل رقت عظامنا فصارت رفاتا. ثم احتج تعالى عليهم، ونبههم على قدرته على ذلك بقوله:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ٩٩]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩)
أَوَلَمْ يَرَوْا أي يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي يوم القيامة. ينشئهم نشأة أخرى ويعيدهم كما بدأهم. والمعنى: قد علموا بدليل العقل أن من قدر على خلق السموات والأرض، فهو قادر على خلق أمثالهم من الإنس. لأنهم ليسوا بأشد خلقا منهن. كما قال: أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ ولا الإعادة أصعب عليه من الإبداء. بل هي أهون.
قال الشهاب: ولا حاجة إلى جعل (مثل) هنا كناية عنهم. كقوله: (مثلك لا
١٠٤]، فَأَبَى الظَّالِمُونَ أي بعد قيام الحجة عليهم ووضوح الدليل: إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وتماديا في باطلهم وضلالهم.
لطيفة:
قال الشهاب: هذه الجملة- جملة وجعل إلخ- معطوفة على جملة أَوَلَمْ يَرَوْا لأنها وإن كانت إنشائية، فهي مؤولة بخبرية- كما في (شرح الكشاف) إذ معناها: قد علموا بدلالة العقل أنه قادر على البعث والإعادة وَجَعَلَ لَهُمْ أي لإعادتهم أَجَلًا وهو يوم القيامة يعني أنهم علموا إمكانها وإخبار الصادق بها وضربه لها أجلا. فيجب التصديق به. أو جعل لهم أجلا، وهو الموت والانسلاخ عن الحياة. ولا يخفى على عاقل أنه لم يخلق عبثا. فلا بد أن يجزى بما عمله في هذا الدار. فلا معنى للإنكار. فظهر ارتباط المتعاطفين، لفظا ومعنى ولا رَيْبَ فِيهِ ظاهر على الثاني. وعلى الأول معناه: لا ينبغي إنكاره لمن تدبر. وقيل إنها معطوفة على قوله: يَخْلُقَ. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٠]
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي رزقه وسائر نعمه على خلقه: إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ أي لبخلتم بها مخافة نفادها بالإنفاق. مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبدا. لأن هذا من طباعكم وسجاياكم. ولهذا قال سبحانه وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا.
تنبيهات:
الأول: هذه الآية بلغت بالمشركين، من الوصف بالشح، الغاية التي لا يبلغها الوهم، كما قاله الزمخشريّ.
الثاني: ما اقتضاه آخر الآية من بخل كل أحد فأما بالنسبة إلى الجواد الحقيقي سبحانه لأن المرء إما ممسك أو منفق. والثاني لا يكون إلا لغرض للعاقل، إما دنيويّ
عدّنا في زماننا... عن حديث المكارم
من كفى الناس شرّه... فهو في جود حاتم
أفاده الشهاب.
وقال ابن كثير: إن الله تعالى يصف الإنسان من حيث هو. إلا من وفّقه الله وهداه، فإن البخل والجزع والهلع صفة له. كما قال تعالى إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ [المعارج: ١٩- ٢٢] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز.
الثالث: ذكر هذه الآية إثر ما قبلها، لتقرير انفراده تعالى بملك خزائن الرحمة، وسعة كرمه وجوده وإحسانه. كما انفرد بتلك القدرة الباهرة من خلق السموات والأرض، كي تنجلي لهم قدرته العظمى، وسعة خزائنه الملأى. فيصلوا بذلك إلى اليقين بصحة ما ادعاه الرسول صلى الله عليه وسلم، وحقية ما يدعوهم إليه.
وذكر هذا المعنى في أسلوب بيان ما فطر عليه الإنسان، تذكيرا له بنقصه وضعفه، وإشفاقه وحرصه. ليعلم أنه غير مخلوق سدى، يخلّى بينه وبين ما تتقاضاه به نفسه وهواه. والمعنى: أفلا تعتبرون بسعة رحمته وعميم فضله، مما يبرهن على وحدانيته في ألوهيته، ولا ترون ما أنتم عليه من أنكم لو ملكتم ما لا نفاد له من خزائنه، لضننتم بها. مما يدلكم على أنه هو مالك الملك، وأنكم مسخّرون لأمره.
وهذه الآية كقوله تعالى أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله، لما أعطوا أحدا شيئا ولا مقدار نقير.
وقد جاء في الصحيحين «١» :(يد الله ملأى لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار. أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه).
وقوله تعالى:
وأخرجه مسلم في: الزكاة، حديث رقم ٣٦ و ٣٧.
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على صحة ما أرسله الله به. وقد مضى الكلام عليها في سورة الأعراف في قوله تعالى فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ.. الآية، فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أي عنها: فإنهم يعلمونها، مما لديهم من التوراة. فيظهر للمشركين صدقك، ويزداد المؤمن بك طمأنينة قلب. لأن الأدلة إذا تظاهرت، كان ذلك أقوى وأثبت إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فذهب إلى فرعون وأظهر آياته، ودعاه للإيمان به تعالى ولإرسال بني إسرائيل معه. فقال له فرعون ما قال. وقوله مَسْحُوراً بمعنى سحرت فخولط عقلك. أو بمعنى ساحر، على النسب أو حقيقة. وهو يناسب قلب العصا ثعبانا.
وعلى الأول هو كقوله إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ [الشعراء: ٢٧].
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : آية ١٠٢]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢)
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ أي يا فرعون ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ أي الآيات التسع إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي بيّنات مكشوفات لا سحر ولا تخيّل. ولكنك معاند مكابر. ونحوه وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا [النمل: ١٤]، (والبصائر) جمع بصيرة بمعنى مبصرة أي بيّنة. أو المراد الحجج، بجعلها كأنها بصائر العقول. وتكون بمعنى عبرة وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي هالكا.
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٣ الى ١٠٤]
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
فَأَرادَ أي فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي يفزعهم ويزعجهم بما يحملهم على خفة الهرب فرقا منه. أو ينفيهم عن ظهر الأرض بالقتل والاستئصال.
والضمير لموسى وقومه. و (الأرض) أرض مصر. أو الأرض التي أذن لهم بالمسير
قال ابن كثير: في هذا بشارة للنبيّ صلى الله عليه وسلم. بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة. وكذلك وقع فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها [الإسراء: ٧٦]. ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة، على أشهر القولين، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلما وكرما. كما أورث الله القوم، الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل، مشارق الأرض ومغاربها وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم كما قال كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ [الشعراء: ٥٩] وقال هاهنا وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ وقوله تعالى: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي قيام الساعة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جمعا مختلطين أنتم وعدوّكم. ثم يحكم بينكم ويميز بين سعدائكم وأشقيائكم. ثم نزه سبحانه ساحة القرآن أن يكون مفترى. وبيّن اشتماله على ما يلائم الفطر ويطابق الواقع، بقوله سبحانه:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٦]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي بالحقيقة أنزلناه كتابا من لدنّا فأين تذهبون؟ كما قال تعالى لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ [النساء: ١٦٦]، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي متلبسا بالحق الذي هو ثبات نظام العالم على أكمل الوجوه. وهو ما اشتمل عليه من العقائد والأحكام ومحاسن الأخلاق وكل ما خالف الباطل. كقوله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ [فصلت: ٤٢]، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي نزلناه مفرقا منجما.
وقرئ بالتشديد. والقراءتان بمعنى لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على مهل وتؤدة وتثبت، فإنه أيسر للحفظ وأعون في الفهم وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي من لدنّا على حسب الأحوال والمصالح.
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً.
قال الزمخشريّ: أمر بالإعراض عنهم واحتقارهم والازدراء بشأنهم، وأن لا يكترث بهم وبإيمانهم وبامتناعهم عنه. وإنهم إن لم يدخلوا في الإيمان ولم يصدقوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك، فإن خيرا منهم وأفضل، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب وعلموا ما الوحي وما الشرائع، قد آمنوا به وصدقوه. وثبت عندهم أنه النبيّ العربيّ الموعود في كتبهم. فإذا تلي عليهم خرّوا سجدا وسبحوا الله تعظيما لأمره، ولإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد ﷺ وإنزال القرآن عليه.
وهو المراد بالوعد في قوله إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا.
فإن قلت إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ تعليل لماذا؟ قلت: يجوز أن يكون تعليلا لقوله آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا، وأن يكون تعليلا ل (قل) على سبيل التسلية لرسول الله ﷺ وتطييب نفسه. كأنه قيل: تسلّ عن إيمان الجهلة بإيمان العلماء. وعلى الأول: إن لم تؤمنوا به لقد آمن به من هو خير منكم. فإن قلت: ما معنى الخرور للذقن؟ قلت: السقوط على الوجه. وإنما ذكر الذقن، وهو مجتمع اللحيين، لأن الساجد أول ما يلقى به الأرض من وجهه، الذقن. فإن قلت: حرف الاستعلاء ظاهر المعنى، إذا قلت خرّ على وجهه وعلى ذقنه، فما معنى اللام في (خرّ لذقنه ولوجهه) قال:
فخر صريعا لليدين وللفم؟
قلت: معناه جعل ذقنه ووجهه للخرور. واختصه به. لأن اللام للاختصاص.
فإن قلت: لم كرر يخرون للأذقان؟ قلت: لاختلاف الحالين، وهما خرورهم في حال كونهم ساجدين، وخرورهم في حال كونهم باكين. انتهى.
تنبيه:
دل نعت هؤلاء ومدحهم بخرورهم باكين، على استحباب البكاء والتخشع.
وقد عدّ الإمام الغزاليّ في (الإحياء) من آداب ظاهر التلاوة البكاء. قال: البكاء مستحب مع القراءة.
قال رسول الله ﷺ «١»
(اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا)
وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا قرأتم سجدة سبحان، فلا تعجلوا بالسجود حتى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم، فليبك قلبه. وإنما طريق تكلف البكاء أن يحضر قلبه الحزن. فمن الحزن ينشأ البكاء، ووجه إحضار الحزن، أن يتأمل ما فيه من التهديد والوعيد والمواثيق والعهود. ثم يتأمل تقصيره في أوامره وزواجره فيحزن لا محالة ويبكي. فإن لم يحضره حزن وبكاء، كما يحضر أرباب القلوب الصافية، فليبك على فقد الحزن والبكاء. فإن ذلك أعظم المصائب. انتهى.
وذكر السيوطيّ في (الإكليل) أن الشافعيّ استدل بقوله تعالى وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا الآية، على استحباب هذا الذكر في سجود التلاوة. وقوله تعالى:
القول في تأويل قوله تعالى: [سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ ردّ لما أنكره المشركون من تسمية الرحمن، وإذن بتسميته بذلك. أي سموه بهذا الاسم أو بهذا. و (أو) للتخيير. أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى أي أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم فهو حسن. وقد وضع موضعه قوله فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل عليه. إذ حسن جميع أسمائه يستدعي حسن ذينك الاسمين. فأقيم فيه دليل الجواب مقامه، وهو أبلغ.
ومعنى كونها أحسن الأسماء، أنها مستقلة بمعاني الحمد والتقديس والتعظيم. وهذه الآية كآية وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها [الأعراف: ١٨٠]، وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءة صلاتك. بتقدير مضاف، أو تسمية القراءة صلاة، لكونها من أهم أركانها. كما تسمى الصلاة ركعة وَلا تُخافِتْ بِها أي تسرّ وتخفي
قال أبو السعود: والتعبير عن ذلك بالسبيل، باعتبار أنه أمر يتوجه إليه المتوجهون، ويؤمه المقتدرون، ويوصلهم إلى المطلوب.
روى الشيخان «١»
أن رسول الله ﷺ كان يرفع صوته بقراءته.
فإذا سمعها المشركون لغو وسبوا. فأمر بأن يتوسط في صوته، كيلا يسمع المشركون، وليبلغ من خلفه قراءته.
ثم بيّن سبحانه استحقاقه للحمد لاختصاصه بنعوت الكمال وصفات الجلال، بقوله تعالى: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أي لم يكن علة لموجود من جنسه، لضرورة كون المعلول محتاجا إليه، ممكنا بالذات، معدوما بالحقيقة.
فكيف يكون من جنس الموجود حقّا، الواجب بذاته من جميع الوجوه؟ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ أي من يساويه في قوة القهر والمملكة من الشريك في الملك.
وإلا لكانا مشتركين في وجوب الوجود والحقيقة. فامتياز كل واحد منهما عن الآخر، لا بدّ وأن يكون بأمر غير الحقيقة الواجبة. فلزم تركبهما، فكانا كلاهما ممكنين لا واجبين. وأيضا فإن لم يستقلا بالتأثير، لم يكن أحدهما إلها. وإن استقل أحدهما دون الآخر فذلك هو الإله دونه، فلا شريك له. وإن استقلا جميعا، لزم اجتماع المؤثرين المستقلين على معلول واحد، إن فعلا معا. وإلا لزم إلهية أحدهما دون الآخر، رضي بفعله أو لم يرض. أفاده القاشانيّ.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ أي ناصر من الذل ومانع له منه، لاعتزازه به. أو لم يوال أحدا من أجل مذلة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه عن أن يلحقه شيء من هذه النقائص تعظيما جليلا.
تمّ ما علقناه على هذه السورة الكريمة، ضحوة السبت في ٢٦ شوال سنة ١٣٢٣ في سدّة جامع السنانية بدمشق الشام. يسر الله لنا بعونه الإتمام، والحمد لله وحده.
تم الجزء السادس، ويليه، إن شاء الله تعالى، الجزء السابع، وفيه تفسير:
(١٨- سورة الكهف، و ١٩- سورة مريم، و ٢٠- سورة طه، و ٢١- سورة الأنبياء، و ٢٢- سورة المؤمنون، ٢٣- سورة النور، ٢٤- سورة الفرقان، و ٢٥- سورة الشعراء، و ٢٦- سورة النمل).
وأخرجه مسلم في: الصلاة، حديث رقم ١٤٥.
من كتاب تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل
[المجلد السابع]
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة الكهفويقال لها سورة أصحاب الكهف. قال المهايميّ: سميت بها لاشتمالها على قصة أصحابه الجامعة فوائد الإيمان بالله، من الأمن الكليّ عن الأعداء، والإغناء الكليّ عن الأشياء، والكرامات العجيبة، وهذا من أعظم مقاصد القرآن. وهي مكية، وقيل إلا أولها إلى قوله: جُرُزاً [الكهف: ١- ٨]، وقوله: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ...
[الكهف: ٢٨] الآية، وإِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا [الكهف: ١٠٧- ١١٠]، إلى آخر السورة.
واختار الداني أنها مكية كلها. وآيها مائة وعشرة، وقد روي في فضلها أحاديث كثيرة، ساقها الحافظ ابن كثير وغيره.