تفسير سورة طه

أيسر التفاسير للجزائري
تفسير سورة سورة طه من كتاب أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير المعروف بـأيسر التفاسير للجزائري .
لمؤلفه أبو بكر الجزائري . المتوفي سنة 1439 هـ

سورة طه
مكية
وآياتها مائة وخمس وثلاثون آية

بسم الله الرحمن الرحيم

طه (١) مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (٢) إِلا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى (٣) تَنزِيلا مِّمَّنْ خَلَقَ الأرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (٤) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (٥) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (٦) وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (٧) اللهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأسْمَاء الْحُسْنَى (٨)
شرح الكلمات:
طه: أي يا رجل.
إلا تذكرة: أي يتذكر بالقرآن من يخشى عقاب الله عز وجل.
337
على العرش استوى: أي ارتفع عليه وعلا.
وما تحت الثرى: الثرى التراب الندي يريد ما هو أسفل الأرضين السبع.
وأخفى: أي من السر، وهو ما علمه الله وقدر وجوده وهو كائن ولكن لم يكن بعد.
الحسنى: الحسنى مؤنث الأحسن المفضل على الحسن.
معنى الآيات:
قوله تعالى ﴿طه﴾ ١ لفظ طه جائز أن يكون من الحروف المقطعة، وجائز أن يكون معناه يا رجل٢ ورجح الأمر ابن جرير لوجوده في لغة العرب طه بمعنى يا رجل وعلى هذا فمعنى الكلام يا رجل ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى رداً على النضر بن الحارث الذي قال إن محمداً شقي بهذا القرآن الذي أنزل عليه لما فيه من التكاليف فنفى الحق عزّ وجلّ ذلك وقال ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى إلاّ تذكرة لمن يخشى﴾ وإنما أنزلناه ليكون٣ تذكرة ذكرى يذكر بها من يخشى ربه فيقبل على طاعته متحملاً في سبيل ذلك كل ما قد يلاقي في طريقه من أذى قومه المشركين بالله الكافرين بكتابه والمكذبين لرسوله، وقوله: ﴿تنزيلاً٤ ممن خلق الأرض والسموات العلى﴾ أي هذا القرآن الذي مما أنزلناه لتشقى به ولكن تذكرة لمن يخشى نُزِّل تنزيلاً من الله الذي خلق الأرض والسموات العلى: ﴿الرحمن٥ على العرش استوى﴾ أي رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما الذي استوى على عرشه استواءً يليق به يدبر أمر مخلوقاته، الذي {له٦ ما في السموات وما في
١ نزلت (طه) تبل إسلام عمر رضي الله عنه لما روي: أنه دخل على بيت ختنه سعيد بن زيد فوجده يقرأها مع زوجه فاطمة بنت الخطاب أخت عمر رضي الله عنهم أجمعين فطلبها فلم يُعطها حتى اغتسل فلمّا قرأها لان قلبه ورق للإسلام.
٢ قيل: إن طه بمعنى: يا رجل لغة معروفة في عكل حتى إنك إذا ناديت المرء بيا رجل لم يجبك حتى تقول: طه وأنشد الطبري في هذا قول الشاعر:
دعوت بطه في القتال فلم يجب
فخفت عليه أن يكون مزيلاً
٣التذكرة: خطور المنسي بالذهن لأنّ التوحيد مستقر في الفطرة والإشراك مناف لها فسماع القرآن كقراءته يثير كامن التوحيد في فطرة الإنسان.
(تنزيلا) حال من القرآن، المراد منها التنويه بشأن القرآن والإعلان عن خطره.
(الرحمن) يجوز أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرحمن جل جلاله. ويجوز أن تكون مبتدأ واختير اسم الرحمن لأن المشركين ينكرون اسم الرحمن جهلاً منهم وعناداً.
٦ تقديم الجار والمجرور: مؤذن بالحصر، وهو كذلك، إذ ليس لأحد ملك السموات والأرض وما فيهما وما بينهما وما تحت الثرى سواه عزّ وجلّ.
338
الأرض وما بينهما وما تحت الثرى١} من الأرضين السبع. وقوله ﴿وإن تجهر بالقول﴾ أيها الرسول أو تُسِر ﴿فإنه يعلم السر وأخفى٢﴾ من السر؛ وهو ما قدره الله وهو واقع في وقته المحدد له فعلمه تعالى ولم يعلمه الإنسان بعد. وقوله: ﴿الله لا إله إلاّ هو﴾ أي الله المعبود بحق الذي لا معبود بحق سواه ﴿له الأسماء الحسنى﴾ التي لا تكون إلاّ له، ولا تكون لغيره من مخلوقاته. وهكذا عرّف تعالى عباده به ليعرفوه فيخافونه ويحبونه فيؤمنون به ويطيعونه فيكملون على ذلك ويسعدون فلله الحمد وله المنة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- إبطال نظرية أن التكاليف الشرعية شاقة ومرهقة للعبد.
٢- تقرير عقيدة الوحي وإثبات النبوة المحمدية،
٣- تقرير الصفات الإلهية كالاستواء ووجوب الإيمان بها بدون تأويل أو تعطيل أو تشبيه بر بل اثباتها على الوجه الذي يليق بصاحبها عزّ وجلّ.
٤- تقرير ربوبية الله لكل شيء.
٥- تقرير التوحيد وإثبات أسماء الله تعالى الحسنى وصفاته العلى.
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا
١ ما تحت الثرى: هو باطن الأرض كله.
٢ وجائز أن يكون أخفى السر: حديث النفس إذ هو أخفى من السر إذ السر ينطق به، وخاطر النفس لا ينطق به.
339
فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (١٦)
شرح الكلمات:
هل أتاك: قد أتاك فالاستفهام للتحقيق..
حديث موسى: أي خبره وموسى هو ابن عمران نبي بني إسرائيل
إذ رأى ناراً: أي حين رؤيته ناراً.
لأهله: زوجته بنت شعيب ومن معها من خادم أو ولد.
آنست ناراً: أي أبصرتها من بعد.
بقبس١: القبس عود في رأسه نار.
على النار هدى: أي ما يهديني الطريق وقد ضل الطريق إلى مصر.
فلما أتاها: أي النار وكانت في شجرة من العوسج ونحوه تتلألؤ نوراً لا ناراً.
نودي يا موسى: أي ناداه ربه قائلاً له يا موسى....!
المقدس طوى٢: طوى اسم للوادي المقدس المطهر.
اخترتك: من قومك لحمل رسالتي إلى فرعون وبني إسرائيل.
فاستمع لما يوحى: أي إليك وهو قوله تعالى: ﴿إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا﴾.
لذكري: أي لأجل أن تذكرني فيها.
أكاد أخفيها٣: أي أبالغ في اخفائها حتى لا يعلم وقت مجيئها أحد.
١ القبس والمقباس يقال: قبست منه ناراً أقبس قبساً فقبسنى أي: أعطاني منه قبساً بتحريك السين مفتوحة، واقتبست منه علماً لأن العلم نور، من مادة النار التي هي الضياء والإشراق.
٢ طوى بالكسر وبالضم أشهر وبه قراءة عامة القراء، وهو اسم للوادي وفي لفظه ما يشير إلى أنه مكان فيه ضيق كالثوب المطوي أو لأن موسى طواه سيراً.
٣ لما كانت الساعة مخفية الوقوع أثار قوله تعالى ﴿أكاد أخفيها﴾ تساؤلات كثيرة أقربها إلى الواقع ثلاثة. الأول: إخفاء الحديث عنها لأن الحديث عنها لا يزيد المعاندين من منكري البعث إلاّ عناداً. والثاني: أنّ كاد زائدة والتقدير: أنّ الساعة آتية أخفيها، والثالث: أن أخفيها بمعنى: أزيل خفاءها بأن أظهرها فتكون الهمزة للسلب نحو أعجم الكتاب: أزال عجمته وأشكى زيداً: إذا أزال شكواه.
340
بما تسعى: أي سعيها في الخير أو في الشر.
فتردى: أي تهلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في تقرير التوحيد ففي نهاية الآية السابقة (٨) كان قوله تعالى ﴿الله لا إله إلاّ هو له الأسماء الحسنى﴾ تقريراً للتوحيد وإثباتاً له وفي هذه الآية (٩) يقرره تعالى عن طريق الإخبار عن موسى، وأن أول ما أوحاه إليه من كلامه كان إخباره بأنه لا إله إلاّ هو أي لا معبود غيره وأمره بعبادته. فقال تعالى: ﴿وهل أتاك١﴾ أي يا نبينا ﴿حديث موسى٢ إذ رأى ناراً﴾، وكان في ليلة مظلمة شاتية وزنده الذي معه لم يقدح له ناراً ﴿فقال لأهله﴾ أي زوجته ومن معها وقد ضلوا طريقهم لظلمة الليل، ﴿امكثوا﴾ أي ابقوا هنا فقد آنست ناراً أي أبصرتها ﴿لعلي آتيكم منها بقبس﴾ فنوقد به ناراً تصطلون بها أي تستدفئون بها، ﴿أو أجد على النار هدى﴾ أي أجد حولها ما يهدينا طريقنا الذي ضللناه.
وقوله تعالى: ﴿فلما أتاها﴾ أي أتى النار ووصل إليها وكانت شجرة٣ تتلألؤ نوراً ﴿نودي يا موسى﴾ أي ناداه ربه تعالى قائلاً يا موسى ﴿إني٤ أنا ربك﴾ أي خالقك ورازقك ومدبر أمرك ﴿فاخلع نعليك إنك بالواد المقدس طوى﴾ وذلك من أجل أن يتبرك بملامسة الوادي المقدس بقدميه. وقوله تعالى ﴿وأنا أخترتك﴾ أي لحمل رسالتي إلى من أرسلك إليهم. ﴿فاستمع لما يوحى٥﴾ أي إليك وهو: ﴿إنني أنا الله لا إله إلاّ أنا﴾ أي أنا الله المعبود بحق ولا معبود بحق غيري وعليه فاعبدني وحدي، ﴿وأقم الصلاة لذكري٦﴾، أي لأجل أن تذكرني فيها وبسببها. فلذا من لم يصل لم يذكر الله تعالى وكان بذلك كافراً لربه تعالى. وقوله ﴿إن الساعة آتية٧﴾ أي ان الساعة التي يقوم فيها الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء
١ هذا الاستفهام أريد به التشويق لما يلقى لعظيم فائدته، وهل هنا بمعنى قد المفيدة للتحقيق هي كما في قوله: ﴿هل أتى على الإنسان حين من الدهر﴾ أي قد أتى.
٢ الحديث: الخبر، ويجمع على غير قياس: أحاديث، وقيل: واحده أحدوثة واستغنوا به عن جمع فعلاء لأن فعيل يجمع على فعلاء. كرحيم ورحماء وسعيد وسعداء وهو اسم للكلام الذي يحكى به أمر قد حدث في الخارج.
٣ قيل: هي شجرة عنّاب.
٤ قرأ حمزة وحده، وانَّا اخترناك بضمير العظمة.
٥ في هذه الآية إشارة إلى أن التعارف بين المتلاقين حسن فقد عرفه تعالى بنفسه في أوّل لقاء معه، روى أنه وقف على حجر واستند على حجر ووضع يمينه على شماله، وألقى ذقنه على صدره وهذه حالة الاستماع المطلوبة من صاحبها.
٦ استدل مالك على أن من نام عن صلاة أو نسيها فإنه يصليها مستدلا بقوله تعالى: ﴿وأقم الصلاة لذكري﴾ أي: لأول وقت ذكرك لها والسنة صريحة في هذا إذ قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها متى ذكرها فلا كفارة لها إلاّ ذاك"
٧ الساعة علم بالغلبة على ساعة البعث والحساب.
341
آتية لا محالة. من أجل مجازاة العبادّ على أعمالهم وسعيهم طوال أعمارهم من خير وشر، وقوله: ﴿أكاد أخفيها﴾ أي أبالغ في إخفائها حتى أكاد أخفيها عن نفسي. وذلك لحكمة أن يعمل الناس ما يعملون وهم لا يدرون متى يموتون ولا متى يبعثون فتكون أعمالهم بإراداتهم لا إكراه عليهم فيها فيكون الجزاء على أعمالهم عادلا، وقوله: ﴿فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها فتردى﴾ ينهى تعالى موسى أن يَقبل صدّ صادٍ من المنكرين للبعث متبعي الهوى عن الإيمان بالبعث والجزاء والتزود بالأعمال الصالحة لذلك اليوم العظيم الذي تجزى فيه كل نفس بما كسبت وهم لا يظلمون، فإن من لا يؤمن بها ولا يتزود لها يردى أي يهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة لمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
٢- تقرير التوحيد وإثباته، وأن الدعوة إلى لا إله إلاّ الله دعوة كافة الرسل.
٣- إثبات صفة الكلام لله تعالى.
٤- مشروعية التبرك بما جعله الله تعالى مباركاً، والتبرك التماس البركة حسب بيان الرسول وتعليمه.
٥- وجوب إقام الصلاة وبيان علة ذلك وهو ذكر الله تعالى.
٦- بيان الحكمة في إخفاء الساعة مع وجوب إتيانها وحتميته.
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأولىَ (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاء مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ
342
مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (٢٣) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤)
شرح الكلمات:
وما تلك بيمينك يا موسى: الاستفهام للتقرير ليرتب عليه المعجزة وهي انقلابها حية.
أتوكأ عليها: أي أعتمد عليها.
وأهش بها على غنمي: أخبط بها ورق الشجر فيتساقط فتأكله الغنم.
ولي فيها مآرب أخرى: أي حاجات أخرى كحمل الزاد بتعليقه فيها ثم حمله على عاتقه، وقتل الهوام.
حية تسعى: أي ثعبان عظيم، تمشي على بطنها بسرعة كالثعبان الصغير المسمى بالجان.
سيرتها الأولى: أي إلى حالتها الأولى قبل أن تنقلب حيّة.
إلى جناحك: أي إلى جنبك الأيسر تحت العضد إلى الإبط.
بيضاء من غير سوء: أي من غير برص تضيء كشعاع الشمس.
اذهب إلى فرعون: أي رسولاً إليه.
إنه طغى.: تجاوز الحد في الكفر حتى ادعى الألوهية.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم مع موسى وربه تعالى إذ سأله الرب تعالى وهو أعلم به وبما عنده قائلاً: ﴿وما تلك بيمينك يا موسى١؟﴾ يسأله ليقرر بأن ما بيده عصا من خشب يابسة، فإذا تحولت إلى حية تسعى علم أنها آية له أعطاه إياها ربه ذو القدرة الباهرة ليرسله إلى فرعون وملائه. وأجاب موسى ربه قائلاً: ﴿هي عصاي أتوكأ عليها وأهش٢ بها على غنمي﴾ يريد يخبّط بها الشجر اليابس فيتساقط الورق فتأكله الغنم ﴿ولي فيها مآرب٣﴾ أي حاجات
١ الجملة معطوفة على الجمل قبلها، وهي استفهامية أي: وما التي بيمينك؟ والمقصود تقرير الأمر حتى يقول موسى: هي عصاي.
٢ في هذه الآية دليل على جواز إجابة السائل بأكثر مما سأل عنه. وفي الحديث وقد سئل عن ماء البحر فقال: "هو الطهور ماؤه الحل ميتته" فزاد جملة: "الحل ميتته" وقوله للتي سألته قائلة: ألهذا حج؟ قال: نعم ولك أجر" فزاد "ولك أجر" وفي البخاري: باب من أجاب السائل بأكثر مما سأل.
٣ الواحد: مأربة مثلثة الراء.
343
﴿أخرى١﴾ كحمل الزاد والماء يعلقه بها ويضعه على عاتقه كعادة الرعاة وقد يقتل بها الهوام الضارة كالعقرب والحية. فقال له ربه عز وجل ﴿ألقها يا موسى فألقاها﴾ من يده ﴿فإذا هي حية تسعى٢﴾ أي ثعبان عظيم تمشي على بطنها كالثعبان الصغير المسمى بالجان فخاف موسى منها وولى هارباً فقال له الرب تعالى: ﴿خذها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى٣﴾ أي نعيدها عصا كما كانت قبل تحولها إلى حية وفعلا أخذها فإذا هي عصاه التي كانت بيمينه. ثم أمره تعالى بقوله: ﴿واضمم يدك﴾ أي اليمنى ﴿إلى جناحك٤﴾ الأيسر ﴿تحرج بيضاء من غير سوء﴾ أي برص وفعل فضم يده تحت عضده إلى إبطه تم استخرجها فإذا هي تتلألؤ كأنها فلقة قمر، أو كأنها الثلج بياضا أو أشد، وقوله تعالى ﴿آية أخرى﴾ أي آية لك دالة على رسالتك أخرى إذ الأولى هي انقلاب العصا إلى حية تسعى كأنها جان. وقوله تعالى: ﴿لنريك من آياتنا الكبرى﴾ أي حولنا لك العصا حية وجعلنا يدك تخرج بيضاء من أجل أن نريك من دلائل قدرتنا وعظيم سلطاننا. وقوله تعالى: ﴿إذهب إلى فرعون إنه طغى﴾ لما أراه من عجائب قدرته أمره أن يذهب إلى فرعون رسولاً إليه يأمره بعبادة الله وحده وأن يرسل معه بني إسرائيل ليخرج بهم إلى أرض المعاد بالشام وقوله ﴿إنه طغى﴾ أي تجاوز قدره، وتعدى حده كبشر إذ أصبح يدعي الربوبية والألوهية إذ فقال: ﴿أنا ربكم الأعلى﴾ وقال: ﴿ما علمت لكم من إله غيري﴾، فأي طغيان أكبر من هذا الطغيان.
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- تقرير نبغ الرسول محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذ مثل هذه الأخبار لا تصح إلاّ ممن يوحى إليه.
٢- استحباب تناول الأشياء غير المستقذرة باليمين.
٣ - مشروعية حمل العصا٥.
١ أطنب موسى في الجواب طلبا لمزيد الأنس بالوقوف بين يدي ربّه يناجيه ويوحي إليه.
٢ الحية: اسم لصنف من الحنش مسموم إذا عض بنابيه قتل المعضوض.
٣ السيرة في الأصل: هيئة السير ونقلت إلى العادة والطبيعة.
٤ الجناح: العضد وما تحته من الإبط فهو مع اليد كجناح الطائر.
٥ كان خطاء العرب يحملونها في أثناء الخطاب يشيرون بها، وكره هذا الشعوبيون من غير العرب وهم محجوجون بفعل الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وللّعصا فوائد كثيرة آخر فوائدها أنها تذكر بالسفر إلى الآخرة.
344
٤- سنة رعي الغنم للأنبياء.
٥- مشروعية التدريب على السلاح قبل استعماله في المعارك.
٦- آية موسى في انقلاب العصا حية وخروج اليد بيضاء كأنها الثلج أو شعاع شمس.
٧- بيان الطغيان: وهو ادعاء العبد ما ليس له كالألوهية ونحوها.
قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَل لِّي وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (٣٤) إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا (٣٥)
شرح الكلمات:
اشرح لي صدري: أي وسعه لي لأتحمل الرسالة.
ويسر لي أمري: أي سهله حتى أقوى على القيام به.
واحلل عقدة من لساني١: أي حبسة حتى أُفهم من أُخاطب.
اشدد به أزري: أي قوي به ظهري.
وأشركه في أمري: أي اجعله نبياً كما نبأتني٢.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في حديث موسى عليه السلام مع ربه سبحانه وتعالى إنه بعد أن أمر الله تعالى موسى بالذهاب إلى فرعون ليدعوه إلى عبادة الله وحده وإرسال بني إسرائيل مع موسى ليذهب به إلى أرض القدس قال موسى عليه السلام لربه تعالى ﴿اشرح لي صدري﴾ لأتحمل أعباء الرسالة ﴿ويسر لي أمري﴾ أي سهل مهمتي عليَّ وارزقني العون
١ أصل العقدة: موضع ربط بعض الخيط أو الحبل ببعض آخر وهي فُعلة كغرفة وشرفة أطلقت على عسر النطق بالكلام أو ببعض الحروف ويقال: حُبسة فشبه موسى حبسة لسانه بالعقدة في الحبل ونحوه.
٢ يقال: ما برّ أخ أخاه كما برّ موسى أخاه هارون إذ طلب له أشرف مطلب الرسالة والنبوة.
345
عليها فإنها صعبة شاقة. ﴿واحلل عقدة من لساني﴾ تلك العقدة التي نشأت بسبب الجمرة التي ألقاها في فمه بتدبير الله عزّ وجلّ حيث عزم فرعون على قتله لما وضعه في حجره يلاعبه فأخذ موسى بلحية فرعون ونتفها فغضب فقالت له آسية إنه لا يعقل لصغر سنه وقالت له تختبره بوضع جواهر في طبق وجمر في طست ونقدمهما له فإن أخذ الجواهر فهو عاقل ودونك افعل به ما شئت، وإن أخذ الجمر فهو غير عاقل فلا تحفل به ولا تغتم لفعله، وقدم لموسى الطبق والطست فمد يده إلى الطست بتدبير الله فأخذ جمرة فكانت سبب هذه العقدة فسأل موسى ربه أن يحلها من لسانه ليفصح إذا خاطب فرعون ويبين فيفُهم قوله، وبذلك يؤدي رسالته. هذا معنى قوله: ﴿واحلل عقدة من لسان يفقهوا قولي﴾ ١.
وقوله تعالى فيما أخبر عن موسى ﴿واجعل لي وزيراً٢ من أهلي هارون أخي﴾ أي طلب من الله تعالى أن يجعل له من أخيه هارون معيناً على تبليغ الرسالة وتحمل أعبائها. وقوله: ﴿اشدد به أزري٣﴾ أي قو به ظهري. وقوله: ﴿وأشركه في أمري﴾ وذلك بتنبئته وإرساله ليكون هارون نبياً رسولاً. وعلل موسى عليه الصلاة والسلام لطلبه هذا بقوله: ﴿كي نسبحك٤ كثيراً ونذكرك كثيراً﴾، وقوله ﴿إنك كنت بنا بصيرا﴾ أي أنك كنت ذا بصر بنا لا يخفى عليك شيء من أمرنا وهذا من موسى توسل إلى الله تعالى في قبول دعائه وما طلبه من ربه توسل إليه بعلمه تعالى به وبأخيه وبحالهما.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- وجوب اللجأ إلى الله تعالى في كل ما يهم العبد.
٢ مشروعية الأخذ بالأُهبة والاستعداد لما يعتزم العبد القيام به.
٣- فضيلة التسبيح والذكر، والتوسل بأسماء الله وصفاته.
١ اختلف في هل انحلّت تلك العقدة أو لم تنحل، والصحيح أنها انحلّت إجابة الله تعالى لدعوة موسى إذ قال: ﴿قد أجيبت دعوتكما﴾ وأما قول فرعون: ولا يكاد يبين فهو تكرار لما سبق ولأجل الانتقاص من كمال موسى عليه السلام.
٢ الوزير: المؤزار كالأكيل للمؤاكل، وفي حديث النسائي: "من ولي منكم عملاً فأراد الله به خيراً جعل له وزيراً صالحاً إن نسي ذكره وإن ذكر أعانه".
٣ الأزر: الظهر من موضع الحقوين، والأزر: القوة أيضاً وآزره أي: قواه، وقيل: الأزر العون، ومنه قول أبي طالب.
أليس أبونا هاشم شدّ أزره
وأوصى بنيه بالطعان وبالضرب
٤ في هذه الآية دليل على فضل التسبيح والذكر إذ لولا أن موسى علم حب الله تعالى لهما لما توسل بهما لقضاء حاجته.
346
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (٣٦) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (٤١)
شرح الكلمات:
قد أوتيت سؤلك١: أي مسؤولك من انشراح صدرك وتيسير أمرك وانحلال عقدة لسانك، وتنبئة أخيك.
ولقد مننا عليك مرة أخرى: أي أنعمنا عليك مع مرة أخرى قبل هذه.
مما يوحى: أي في شأنك وهو قوله: أن اقذفيه الخ.
في التابوت: أي الصندوق.
فاقذفيه في اليم: أي في نهر النيل.
ولتصنع على عيني٢: تربى بمرأى مني ومحبة وإرادة.
على من يكفله: ليكمل له رضاعه.
وقتلت نفسا: هو القبطي الذي قتلته بمصر وهو في بيت فرعون.
فنجيناك من الغم-: إذ استغفرتنا فغفرنا لك وأئتمروا بك ليقتلوك فنجيناك منهم.
وفتناك فتونا: أي اختبرناك اختبارا وابتليناك ابتلاء عظيما.
١ سؤل بمعنى مسؤول كخبز بمعنى مخبوز وأكل بمعنى مأكول.
٢ الصنع هنا: بمعنى التربية والتنمية.
347
جئت على قدر١: أي جئت للوقت الذي أردنا إرسالك إلى فرعون.
واصطنعتك لنفسي: أي أنعمت عليك بتلك النعم اجتباءً منا لك لتحمل رسالتنا.
معنى الآيات:
ما زال السياق في حديث موسى مع ربه تعالى فقد تقدم أن موسى عليه السلام سأل ربه أموراً لتكون عوناً له على حمل رسالته فأجابه تعالى بقوله: في هذه الآية (٣٦) ﴿قال قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾ أي قد أعطيت ما طلبت، ﴿ولقد مننا عليك مرة أخرى﴾ أي قبل هذه الطلبات وهي أنه لما أمر فرعون بذبح أبناء بني إسرائيل٢: ﴿إذ أوحينا٣ إلى أمك أن اقذفيه في التابوت﴾ أي في الصدوق٤ ﴿فاقذفيه في اليم﴾ أي نهر النيل ﴿فليلقه اليم بالساحل يأخذه عدو لي وعدو٥ له﴾ فهذه النجاة نعمة، ونعمة أخرى تضمنها قوله تعالى: ﴿وألقيت عليك محبة مني﴾ أي أضفيت عليك محبتي فأصبح من يراك يحبك، ونعمة أخرى وهي: من أجل أن تُربَّى وتغذى على مرأى مني وإرادة لي أرجعتك بتدبيري إلى أمك لترضعك وتقر عينها ولا تحزن على فراقك، وهو ما تضمنه قوله تعالى: ﴿إذ تمشي أختك٦﴾ فتقول: ﴿هل أدلكم على من يكفله﴾ لكم أي لإرضاعه وتربيته. ﴿فرجعناك إلى أمك كي تقرعينها ولا تحزن﴾، ونعمة أخرى وهي أعظم إنجاؤنا لك من الغم الكبير بعد قتلك النفس وائتمار آل فرعون على قتلك ﴿فنجيناك من الغم﴾ من القتل وغفرنا لك خطيئة القتل. وقوله تعالى: ﴿وفتناك فتوناً﴾ ٧ أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً وها هي ذي خلاصته في الأرقام التالية:
١- حمل أمك بك في السنة التي يقتل فيها أطفال بني إسرائيل.
٢- إلقاء أُمك بك في اليم.
٣- تحريم المراضع عليك حتى رجعت إلى أمك.
٤- أخذك بلحية فرعون وهمه بقتلك.
١ كما قال الشاعر:
نال الخلافة أو كانت له قدرا
كما أتى موسى ربه على قدر
٢ أوحى الله تعالى إلى أم موسى: ﴿أن اقذفيه..﴾ الآية.
٣ هذا إلهام لها أو منام إذ لم تكن نبيّة إجماعاً.
٤ الساحل: الشاطىء، وهو ساحل معهود وهو الذي يقصده آل فرعون للسباحة. واللام في (فليلقه) لام التكوين الإلهي.
٥ هذا العدو: فرعون عدو الله تعالى وعدو موسى وبني إسرائيل.
٦ أخت موسى تسمى مريم بنت عمران.
٧ الفتون: مصدر كالدخول والخروج وهو كالفتنة، وهي اضطراب حال المرء في مدة حياته.
348
٥- قتلك القبطي وائتمار آل فرعون بقتلك.
٦- إقامتك في مدين وما عانيت من آلام الغربة.
٧ - ضلالك الطريق بأهلك وما أصابك من الخوف والتعب.
هذه بعض ما يدخل تحت قوله تعالى: وفتناك فتوناً وقوله ﴿فلبثت سنين في أهل مدين١﴾ ترعى غنم شعيب عشراً من السنين ﴿ثم جئت﴾ من مدين إلى طور سينا ﴿على قدر﴾ منا مقدر ووعد محدد ما كنت تعلمه حتى لاقيته. واصطنعتك لنفسي أي خلقتك وربيتك وابتليتك واتيت بك على موعد قدَّرْته لك لأُحمِّلك عبء الرسالة إلى فرعون وبني إسرائيل: إلى فرعون لتدعوه إلى عبادتنا وإرسال بني إسرائيل معك إلى أرض المعاد. وإلى بني إسرائيل لهدايتهم وإصلاحهم وإعدادهم للإسعاد والإكمال في الدارين إن هم آمنوا واستقاموا.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- مظاهر لطف الله تعالى وحسن تدبيره في خلقه.
٢- مظاهر إكرام الله تعالى ولطفه بعبده ورسوله موسى عليه السلام.
٣- آية حب الله تعالى لموسى، وأثر ذلك في حب الناس له.
٤- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإخباره في كتابه بمثل هذه الأحداث في قصص موسى عليه السلام.
اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى (٤٥) قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ
١ مدين أحد أبناء إبراهيم عليه السلام، وأهل مدين: أي: البلاد التي سميت باسم ابن إبراهيم هم قوم شعيب، والبلاد على ساحل البحر الأحمر جنوب العقبة.
349
وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (٤٨)
شرح الكلمات:
بآياتي: أي بالمعجزات التي آتيتك كالعصا واليد وغيرها.
ولا تنيا في ذكري: أي لا تفترا ولا تقصرا في ذكري فإنه سر الحياة وعونكما على أداء رسالتكما.
إنه طغى: تجاوز قدره بادعائه الألوهية والربوبية.
قولا لينا: أي خالياً من الغلظة والعنف.
لعله يتذكر: أي فيما تقولان فيهتدي إلى معرفتنا فيخشانا فيؤمن ويسلم ويرسل معكما بني إسرائيل.
يفرط علينا: أي يعجل بعقوبتنا قبل أن ندعو، ونبين له.
أو أن يطغى: أي يزداد طغيانا وظلما.
أسمع وأرى: أي اسمع ما تقولانه وما يقال لكما، وأرى ما تعملان وما يعمل لكما.
فأرسل معنا بني إسرائيل: أي لنذهب بهم إلى أرض المعاد أرض أبيهم إبراهيم.
بآية: أي معجزة تدل على صدقنا في دعوتنا وأنا رسولاً ربك حقاً وصدقاً.
والسلام على من اتبع الهدى: أي النجاة من العذاب في الدارين لمن آمن واتقى، إذ الهدى إيمانٌ وتقوى.
من كذب وتولى: أي كذب بالحق ودعوته وأعرض عنهما فلم يقبلهما.
معنى الآيات
ما زال السياق الكريم في الحديث عن موسى مع ربه تبارك وتعالى فقد أخبره تعالى في
350
الآية السابقة أنه صنعه لنفسه، فأمره في هذه الآية بالذهاب مع أخيه هارون مزودين بآيات الله وهي حججه التي أعطاهما من العصا واليد البيضاء، ونهاهما عن التواني في ذكر الله بأن يضعفا في ذكر وعده ووعيده فيقصرا في الدعوة إليه تعالى فقال: ﴿اذهب أنت وأخوك بآياتي١ ولا تنيا في ذكرى٢﴾ وبين لهما إلى من يذهبا وعلة ذلك فقال: ﴿إذهبا إلى فرعون إنه طغى﴾ أي تجاوز قدره وتعدى حده من إنسان يعبد الله إلى إنسان كفار ادعى أنه رب وإله، وعلمهما اسلوب الدعوة فقال لهما: ﴿فقولا له قولاً ليناً﴾ أي خاليا من الغلظة والجفا وسوء الإلقاء وعلل لذلك فقال ﴿لعله يتذكر أو يخشى٣﴾ أي رجاء أن يتذكر، معاني كلامكما وما تدعوانه إليه فيراجع نفسه فيؤمن ويهتدي٤ أو يخشى العذاب إن بقى على كفره وظلمه فيسلم لكما بني إسرائيل ويرسلهم معكما، فأبدى موسى وأخو هارون تخوفاً فقال ما أخبر تعالى به عنهما في قوله: فقالا ﴿إنا نخاف أن يفرط علينا﴾ أي يعجل بعقوبتنا بالضرب أو القتل، ﴿أو أن يطغى٥﴾ أي يزداد طغياناً وظلماً. فطمأنهما ربهما عز وجل بأنه معهما بنصره وتأييده وهدايته إلى كل ما فيه عزهما فقال لهما: ﴿لا تخافا﴾ أي من فرعون وملائه: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾ اسمع ما تقولان لفرعون وما يقول لكما. وأرى ما تعملان من عمل وما يعمل فرعون وإني أنصركما عليه فأحق عملكما وأبطل عمله. فأتياه إذاً ولا تترددا فقولا أي لفرعون ﴿إنا رسولاً ربك﴾ أي إليك ﴿فأرسل معنا بني إسرائيل﴾ لنخرج بهما حيث أمر الله، ﴿ولا تعذبهم﴾ بقتل رجالهم واستحياء نسائهم واستعمالهم في أسوء الأعمال وأحطها، ﴿قد جئناك بآية من٦ ربك﴾ أي بحجة من ربك دالة على أنا رسولا ربك إليك وأنه يأمرك بالعدل والتوحيد
١ يروى أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: الآيات التسع. وهذا باعتبار ما يكون وإلاّ فما حصل هو آية العصا واليد لا غير.
٢ ولا تنيا؛ أي: ولا تضعفا. يقال: وني يني ونىً أي: ضعف في العمل. أي: لا تني أنت وأبلغ هارون أن لا يني.
٣ لعل: حرف ترج ولكن هي هنا بالنسبة إلى موسى وهارون معناه: لعل رجاءكما وطمعكما. فالتوقع فيها إنما هو راجع إلى جهة البشر.
٤ لقد تذكر فرعون وخشي وذلك ساعة غرقه ولم ينفعه ذلك إذ قال: آمنت أنه لا إله إلاّ الذي آمنت به بنو إسرائيل.
٥ قوله تعالى: ﴿قالا ربنا إنا نخاف﴾ الخ هذه بداية كلام موسى وهارون بعد أن انتهى كلام موسى مع ربه وحده. قبل أن يصل إلى مصر، ومعنى: يفرط يبادر بعقوبتهما ويعجلها، يقال: فرط منه أمر أي: بدر، وأفرط: أسرف وفرط: ترك وأضاع، وفي الآية دليل عدم المؤاخذة بالخوف مما من شأنه أن يخاف، ولكن لا يمنع من عبادة الله تعالى التي هي علّة الخلق والوجود.
٦ هي اليد والعصا.
351
وينهاك عن الظلم والكفر ومنع بني إسرائيل من الخروج إلى أرض المعاد معنا. ﴿والسلام على من اتبع الهدى﴾ أي واعلم يا فرعون أن الأمان والسلامة يحصلان لمن اتبع الهدى الذي جئناك به، فاتبع الهدى تسلم١، وإلاّ فأنت عرصة للمخاوف والهلاك والدمار وذلك لأنه ﴿قد أوحى إلينا﴾ أي أوحى إلينا ربنا، ﴿أن العذاب٢ على من كذب﴾ بالحق الذي جئناك به ﴿وتولى﴾ عنه فأعرض عنه ولم يقبله كبرياءً وعناداً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- عظم شأن الذكر بالقلب واللسان والجوارح أي بالطاعة فعلاً وتركاً.
٢- وجوب مراعاة الحكمة في دعوة الناس إلى ربهم.
٣- تقرير معية الله تعالى مع أوليائه وصالح عباده بنصرهم وتأييدهم.
٤- تقرير أن السلامة من عذاب الدنيا والآخرة هي من نصيب متبعي الهدى.
٥- شرعية إتيان الظالم وأمره ونهيه والصبر على أذاه.
٦- عدم المؤاخذة على الخوف حيث وجدت أسبابه.
قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (٥٥)
١ والسلام هنا ليس سلام تحية.
٢ قوله تعالى: ﴿إن العذاب على من كذّب وتولّى﴾ هذه أرجى أية للموحدين لأنهم لم يكذّبوا ولم يتولوا.
352
شرح الكلمات:
أعطى كل شيء خلقه: أي خلقه الذي هو عليه متميز به عن غيره.
ثم هدى: أي الحيوان منه إلى طلب مطعمه ومشربه ومسكنه ومنكحه.
قال فما بال القرون الأولى: أي قال فرعون لموسى ليصرفه عن دلائه بالحجج حتى لا يفتضح فما بال القرون الأولى كقوم نوح وعاد وثمود في عبادتهم الأوثان؟
قال علمها عند ربي: أي لم علم أعمالهم وجزائهم عليها عند ربي دعنا من هذا فإنه لا يعنينا.
في كتاب لا يضل ربي: أي أعمال تلك الأمم في كتاب محفوظ عند ربي وسيجزيهم بأعمالهم إن ربي لا يخطىء ولا ينسى فإن عذب أو أخر العذاب فإن ذلك لحكمة اقتضت منه ذلك.
مهاداً وسلك لكم فيها سبلاً: مهاداً، فراشا وسلك: سهل، وسبلاً طرقاً.
أزواجاً من نبات شتى: أزواجاً: أصنافاً: شتى: مختلفة الألوان والطعوم.
إن في ذلك لآيات: لدلائل واضحات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته.
لأولى النهى: أي أصحاب العقول لأن النُهية العقل وسمي نهية لأنه ينهى صاحبه عن ارتكاب القبائح كالشرك والمعاصي.
منها خلقناكم: أي من الأرض وفيها نعيدكم بعد الموت ومنها نخرجكم عند البعث يوم القيامة.
تارة أخرى: أي مرة أخرى إذ الأولى كانت خلقاً من طين الأرض وهذه إخراجاً من الأرض.
معنى الآيات:
السياق الكريم في الحوار الذي دار بين موسى عليه السلام وفرعون إذ وصل موسى وأخوه إلى فرعون وَدَعَوَاهُ إلى الله تعالى ليؤمن به ويعبده وبأسلوب هادىء لين كما أمرهما الله تعالى: فقالا له: {والسلام على من اتبع الهدى إنا قد أوحي علينا أن العذاب على من
353
كذب وتولى} ؟ ولم يقولا له لا سلام عليك، ولا أنت مكذب ومعذب، وهنا قال لهما فرعون ما أخبر به تعالى في قوله: ﴿قال فمن ربكما يا موسى؟﴾ أفرد اللعين موسى بالذكر لإدلائه عليه بنعمة التربية في بيته ولأنه الرسول الأول فأجابه موسى بما أخبر تعالى به بقوله: ﴿ربنا الذي أعطى١ كل شيء خلقه ثم هدى٢﴾ أي كل مخلوق خلقه الذي هو عليه متميز به من شكل ولون وصفة وذات ثم هدى الأحياء من مخلوقاته إلى طلب رزقها من طعام وشراب، وطلب بقائها بما سن لها وهداها إليه من طرق التناسل إبقاء لأنواعها. وهنا وقد أفحم موسى فرعون وقطع حجته بما ألهمه الله من علم وبيان قال فرعون صارفاً موسى عن المقصود خشية الفضيحة من الهزيمة أمام ملائه قال: ﴿فما٣ بال القرون الأولى﴾ أخبرنا عن قوم نوح وهود وصالح وقد كانوا يعبدون الأوثان. وعرف موسى أن اللعين يريد صرفه عن الحقيقة فقال له ما أخبر تعالى به في قوله: ﴿علمها عند ربي في كتاب٤، لا يضل ربي ولا ينسى٥﴾ فإن ما سألت عنه لا يعنينا فعلم حال تلك الأمم الخالية عند ربي في لوح محفوظ عنده وسيجزيها بعملها، وما عجل لها من العقوبة أو أخر إنما لحكمة يعلمها فإن ربي لا يخطىء ولا ينسى وسيجزى كلاً بكسبه. ثم أخذ موسى يصف ربه ويعرفهم به وهي فرصة سنحت فقال ﴿الذي جعل لكم الأرص مهداً﴾ أي فراشاً مبسوطة للحياة عليها ﴿وسلك لكم فيها سبلا﴾ أي سهل لكم للسير عليها طرقاً تمكنكم من الوصول إلى حاجاتكم فوقها، ﴿وأنزل من السماء ماء﴾ وهو المطر المكون للأنهار والمغذي الممد للآبار. هذا هو ربي وربكم فاعرفوه واعبدوه ولا تعبدوا معه سواه. وقوله تعالى: ﴿فأخرجنا٦ به أزواجاً من نبات شتى﴾ أي بالمطر أزواجاً أي أصنافاً من نباتٍ شتى أي مختلفة الألوان والطعوم والروائح والخصائص. كان هذا من قول الله
١ أعلمه عليه السلام بأنّ ربه تعالى يعرف بصفاته لا بذاته ولا باسم يعرف به ولم يقل له موسى: إنه الله، لأنّ الاسم العلم لا يهدي إلى معرفته تعالى كما تهدي إليه الصفات العُلى التي لا يقدر فرعون على جحدها وإنكارها.
٢ قال ابن عباس: أعطى كل زوج من جنسه ثمّ هداه إلى منكحه ومطعمه ومشربه ومسكنه. وقال مجاهد: أعطى كل شيء صورته ولم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان. قال الشاعر:
وله في كل شيء خلقه
وكذا الله ما شاء فعل
٣البال: الحال أي: ما حالها وما شأنها؟ فأعلمه موسى عليه السلام أن علمها عند الله أي: إن ما سألت عنه من علم الغيب الذي استأثر الله به درن سواه.
٤ في هذه الآية دليل على مشروعية كتابة العلوم وتدوينها، حتى لا تنسى فتضيع وفي الحديث مشاهد آخر ففي صحيح مسلم قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب على نفسه فهو موضوع عنده. إن رحمتي تغلب غضبي".
٥ الضلال: الخطأ في العلم شبّه بخطإ الطريق، والنسيان: عدم تذكر الأمر المعلوم في الذهن.
٦ في الكلام التفات من ضمير الغيبة إلى ضمير التكلم والخطاب تنويعاً للأسلوب وتحريكاً للضمير الجامد.
354
تعالى تتميماً لكلام موسى وتذكيراً لأهل مكة المتجاهلين لله وحقه في التوحيد. وقوله: ﴿كلوا وارعوا أنعامكم﴾ أي مما ذكرنا لكم من أزواج النبات. وارعوا إبلكم وأغنامكم وسائر بهائمكم واشكروا لنا هذا الإنعام بعبادتنا وترك عبادة غيرنا. وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك لآيات لأولي النهى﴾ أي إن في ذلك المذكور من إنزال المطر وإنبات النبات لتغذية الإنسان والحيوان لدلالات على قدرة الله وعلمه وحكمته ورحمته وانه بذلك مستحق للعبادة دون سواه إلاّ أن هذه الدلائل لا يعقلها إلاّ أصحاب العقول وذوو النهى فهم الذي يستدلون بها علم معرفة الله ووجوب عبادته وترك عبادة غيره. وقوله تعالى: ﴿منها﴾ أي من الأرض التي فيها حياة النبات والحيوان خلقناكم أي خلق أصلكم الأول وهو آدم، وفيها نعيدكم بالموت فتقبرون فيها، ﴿ومنها١ نخرجكم تارة أخرى٢﴾ أي مرة أخرى وذلك يوم القيامة إذ نبعثكم من قبوركم أحياء للحساب والجزاء بالنعيم المقيم أو العذاب المهين بحسب صفات نفوسكم فذو النفس الطاهرة ينعم وذو النفس الخبيثة من الشرك والمعاصي يعذب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تعين إجابة السائل ولتكن بالعلم الصحيح النافع.
٢- تقرير مبدأ من حسن٣ إسلام المرء تركه ما لا يعنيه.
٣- تنزه الرب تعالى عن الخطأ والنسيان.
٤- الاستدلال بالآيات الكونية على الخالق عز وجل وقدرته وألوهيته.
٥- احترام العقول وتقديرها لأنها تعقل٤ صاحبها دون الباطل والشر.
٦- تسمية العقل نهية لأنه ينهى صاحبه عن القبائح.
١ بمناسبة ذكر دلائل وجود الله وقدرته وعلمه وحكمته الموجبة لألوهيته دون سواه ذكّرهم بعقيدة البعث والجزاء مستدلاً عليها بقدرة الله تعالى وعلمه.
٢ تجمع التارة على تارات كالمرة على المرّات، والتارة: اسم جامد غير مشتق.
٣ هذا حديث الصحيح: "من حسن إسلام المرء تركه مالا يعنيه".
٤ تعقل: أي: تحجزه أو تصرفه عما يضرّ حالاً أو مآلاً.
355
وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنتَ مَكَانًا سُوًى (٥٨) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠)
شرح الكلمات:
أريناه آياتنا كلها: أي أبصرناه حججنا وأدلتنا على حقيقة ما أرسلنا به رسولينا موسى وهارون إليه كلها فرفضها وأبى أن يصدق بأنهما رسولين إليه من رب العالمين.
من أرضنا: أي أرض مصر التي فرعون ملك عليها.
بسحرك يا موسى: يشير إلى العصا واليد البيضاء.
مكانا سوى: أي مكان عدل بيننا وبينك ونَصَفٍ، صالحاً للمباراة حيث يكون ساحة كبرى مكشوفة مستوية يرى ما فيها كل ناظر إليها.
يوم الزينة: أي يوم عيد يتزينون فيه ويقعدون عن العمل.
وأن يحشر الناس ضحى: أي وأن يؤتى بالناس من كل أنحاء البلاد للنظر في المباراة.
فتولى فرعون: أي انصرف من مجلس الحوار بينه وبين موسى وهارون في كبرياء وإعراض.
فيجمع كيده: أي ذوى كيده وقوته من السحرة.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحوار بين موسى وهارون من جهة وفرعون وملائه من جهة
356
أخرى فقال تعالى: ﴿ولقد أريناه﴾ أي أرينا فرعون ﴿آياتنا كلها﴾ أي أدلتنا وحججنا١ على أن موسى وهارون رسولان من ﴿قبلنا﴾ أرسلناهما إليه، فكذب برسالتهما وأبى الاعتراف بهما، وقال ما أخبر تعالى به عنه: ﴿قال أجئتنا٢﴾ أي يا موسى ﴿لتخرجنا من أرضنا﴾ أي منازلنا وديارنا ومملكتنا ﴿بسحرك﴾ الذي انقلبت به عصاك حية تسعى، ﴿فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعداً﴾ نتقابل فيه، ﴿لاّ نخلفه نحن ولا أنت مكاناً سوى﴾ ٣ عدلاً بيننا وبينك يكون من الاعتدال والاتساع بحيث كل من ينظر إليه يرى ما يجرى فيه من المباراة بيننا وبينك. فأجاب موسى بما أخبر تعالى به عنه فقال: ﴿موعدكم يوم الزينة﴾ وهو يوم عيد للأقباط يتجملون فيه ويقعدون عن العمل، ﴿وأن يحشر الناس ضحى٤﴾ أي في يوم يجمع فيه الناس ضحى للتفرج في المباراة من كل أنحاء المملكة وهنا تولى فرعون بمعنى انصرف من مجلس المحاورة وكله كبر وعناد فجمع قواته من السحرة لإنفاذ كيده في موسى وهارون. وفي الآيات التالية تظهر الحقيقة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان كبر فرعون وصلفه وطغيانه.
٢- للسحر آثار وله مدارس يتعلم فيها ورجال يحذقونه ويعلمونه.
٣- مشروعية المبارزة والمباراة لإظهار الحق وإبطال الباطل.
٤- مشروعية اختيار المكان والزمان اللائق للقتال والمباراة ونحوهما.
قَالَ لَهُم مُّوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ
١ أي: الدالة على وجود الله تعالى ووجوب ألوهيته وعلى صحة نبوّة موسى وهارون.
٢ لما رأى الآيات وبهرته احتال في دفعها اللعين بدعواه أن موسى جاء ليخرج فرعون وقومه من بلادهم ليستقل بها دونهم، وهذا من الكذب السياسي الممقوت.
٣ قرأ حفص (سُوى) كطوى بضم السين، وقرأ نافع (سوى) بكسرها كطوى، والكسر أفصح. أي: وسطاً في المدينة لا يشق على من يأتيه.
٤ اختار موسى اليوم والساعة، وهي: الضحى لعلمه أنه سيغلب السحرة ويهزمون أمامه، فأحب أن يكون الوقت مناسباً الكثرة المتفرّجين ووضوح الرأي لهم في شباب النهار (الضحى).
357
وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مِّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (٦٤) قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦)
شرح الكلمات:
ويلكم: دعاء عليهم معناه: ألزمكم الله الويل وهو الهلاك.
فيسحتكم بعذاب: أي يهلككم بعذاب من عنده.
فتنازعوا أمرهم: أي في شأن موسى وهارون أي هل هما رسولان أو ساحران.
وأسروا النجوى: وهي قولهم: ان هذان لساحران يريدان الخ....
بطريقتكم المثلى: أي ويغلبا على طريقة قومكم وهما أشرافهم وساداتهم.
فأجمعوا كيدكم: أي أحكموا أمر كيدكم حتى لا تختلفوا فيه.
قد أفلح من استعلى: أي قد فاز من غلب.
إما أن تلقي: أي عصاك.
فخيل إليه أنها تسعى: أي فخيل إلى موسى أنها حية تسعى، لأنهم طلوها بالزئبق فلما ضربت الشمس عليها اضطربت واهتزت فخيل إلى موسى أنها تتحرك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الدائر بين موسى عليه السلام والسحرة الذين جمعهم فرعون
358
للمباراة فأخبر تعالى عن موسى أنه قال لهم مخوفا إياهم علهم يتوبون: ﴿ويلكم١ لا تفتروا على الله كذباً﴾ أي لا تتقولوا على الله فتنسبوا إليه ما هو كذب ﴿فيسحتكم٢ بعذاب﴾ أي يهلككم بعذاب إبادة واستئصال، ﴿وقد خاب من افترى﴾ أي خسر من كذب على الله أو على الناس. ولما سمعوا كلام موسى هذا اختلفوا فيما بينهم هل صاحب هذا الكلام ساحر أو هو كلام رسول من في السماء؟ وهو ما أخبر تعالى به عنهم في قوله:
﴿فتنازعوا٣ أمرهم بينهم﴾ وقوله ﴿وأسروا النجوى﴾ أي أخفوا ما تناجوا به بينهم وهو ما أخبر تعالى به في قوله: ﴿إن٤هذان لساحران﴾ أي موسى وهارون ﴿يريدان أن يخرجاكم من أرضكم﴾ أي دياركم المصرية، ﴿ويذهبا بطريقتكم المثلى٥﴾ أي باشرافكم وساداتكم من بني إسرائيل وغيرهم فيتابعوهما على ما جاءا به ويدينون بدينهما، وعليه فأجمعوا أمركم حتى لا تختلفوا فيما بينكم، ﴿ثم ائتوا صفا﴾ واحداً متراصاً، ﴿وقد أفلح اليوم من استعلى﴾ أي غلب، وهذا بعد أن اتفقوا على أسلوب المباراة قالوا بأمر فرعون: ﴿يا موسى إما أن تلقي﴾ عصاك، وإما أن نلقي نحن فنكون أول من ألقى. فقال لهم موسى: ﴿بل ألقوا﴾، فالقوا عندئذ ﴿فإذا حبالهم وعصيهم﴾ وكانت ألوفاً فغطت الساحة وهي تتحرك وتضطرب لأنها مطلية بالزئبق فلما سخنت بحر الشمس صارت تتحرك وتضطرب الأمر الذي خيل فيه لموسى أنها تسعى (باقي الحديث في الآيات بعد).
١ الويل: الهلاك وهو شبه مصدر، ونصبه إما على تقدير: ألزمهم الله أو على النداء أي: يا ويلهم. كقوله: {يا ويلنا من بعثنا).
٢ سحت وأسحت بمعنى، وأصله من استقصاء الشعر في إزالته قرأ أهل الكوفة: (فيُسحتكم) بضم الياء من أسحت، وقرا أهل الحجاز بفتح الياء من: سحت قال الشاعر:
وعض زمان يا ابن مروان لم يدع
من المال إلاّ مُسحتا أو مجلّفا
والشاهد في: مسحت من أسحت.
٣ التنازع: مشتق من جذب الدلو من البئر وجذب الثوب من الجسد والتنازع تفاعل إذ كل ذي رأي يريد نزع رأي صاحبه لرأيه لما يراه من الصواب.
٤ قراءة الجمهور بكسر إنّ وتشديد النون، وبلغ الخلاف في هذا الحرف أشدّه فبلغوا فيه إلى ستة تخريجات أمثلها: أن (إن) حرف جواب بمعنى نعم قال الشاعر:
ويقلن شيب علا
ك وقد كبرت فقلت إنّه
والشاهد في إنه جواب لما في البيت من كلام، والهاء في إنه هاء السكت، وشاهد آخر وهو: أنّ عبد الله بن الزبير قال لأعرابي استجداه فلم يعطه: إنّ وراكبها. لما قال الأعرابي: لعن الله ناقة حملتني إليك. فقوله: إن: أي: نعم وراكبها أي: ملعون كذلك.
٥ المثلى: مؤنث: الأمثل، من المثالية التي هي حسن الحال. أراد فرعون إثارة الحمية في قومه ليدافعوا عن عاداتهم وشرائعهم وأخلاقهم.
359
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- حرمة الكذب على الله تعالى، وإنه ذنب عظيم يسبب دمار الكاذب وخسرانه.
٢- من مكر الإنسان وخداعه١ أن يحول القضية الدينية البحتة إلى سياسة خوفاً من التأثير على النفوس فتؤمن وتهتدي إلى الحق.
٣- معية الله تعالى لموسى وهارون تجلت في تصرفات موسى إذ الإذن لهم بالإلقاء أولا من الحكمة وذلك أن الذي يبقى في نفوس المتفرجين والنظارة هو المشهد الأخير والكلمة الأخيرة التي تقال لاسيما في موقف كهذا.
قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى (٦٧) قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الاعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (٦٩) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠) قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلاقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلافٍ وَلاصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (٧١)
شرح الكلمات:
فأوجس في نفسه خيفة: أي أحس بالخوف في نفسه.
أنت الأعلى: أي الغالب المنتصر.
تلقف: أي تبتلع بسرعة ما صنع السحرة من تلك الحبال والعصي.
كيد ساحر: أي كيد ساحر لا بقاء له ولا ثبات.
١ المراد به الإنسان الذي لا يؤمن بالله ولقائه ولا يتحلى بالصبر والتقوى.
360
لا يفلح الساحر: أي لا يفوز بمطلوبة حيثما كان.
فألقي السحرة سجداً: أي ألقوا بأنفسهم ورؤوسهم على الأرض ساجدين.
إنه لكبيركم: أي لمعلمكم الذي علمكم السحر.
من خلاف: أي يد يمنى مع رجل يسرى.
في جذوع النخل: أي على أخشاب النخل.
أينا أشد عذاباً وأبقى: يعني نفسه- لعنه الله- ورب مرسى اشد عذاباً وأدومه على مخالفته وعصيانه.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحديث عن المباراة التي بين موسى عليه السلام وسحرة فرعون إنه لما ألقى السحرة حبالهم وعصيهم وتحركت واضطربت ومتلأت بها الساحة شعر موسى بخوف في نفسه فأوحى إليه ربه تعالى في نفس اللحظة: ﴿لا تخف إنك أنت الأعلى﴾ أي الغالب القاهر لهم.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (٦٧) فأوجس١ في نفسه خيفة موسى والثانية (٦٨) ﴿قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى﴾ وقوله تعالى: ﴿وألق ما في يمنيك٢ تلقف ما صنعوا﴾ أي تبتلع بسرعة وعلل لذلك فقال: ﴿إنما صنعوا كيد ساحر٣﴾ أي هو مكر وخدعة من ساحر ﴿ولا يفلح الساحر حيث أتى﴾ أي لا يفوز الساحر بما أراد ولا يظفر به أبداً لأنه مجرد تخيلات يريها غيره. وليس لها حقيقة ثابتة لا تتحول ولما شاهد السحرة ابتلاع العصا لكل حبالهم وعصيتهم عرفوا أن ما جاء به موسى ليس سحراً وإنما هو معجزة سماوية ألقوا بأنفسهم على الأرض ساجدين لله رب العالمين لما بهر نفوسهم من عظمة المعجزة وقالوا في وضوح ﴿آمنا برب هارون وموسى﴾. وهنا صاح فرعون مزمجراً مهدداً ليتلافى في نظره شر الهزيمة فقال
(أوجس) : أي أحس ووجد أي: خاف أن يفتتن الناس قبل أن يلقي العصا.
٢ لم يقل له: ألق العصا لأن فيها إكباراً لشأن العصا وأنها بحق قادرة على إبطال باطل السحرة.
٣ قرأ الجمهور: ﴿كيد ساحر﴾ وقرأ بعضهم: ﴿كيد سحر﴾ بكسر السين أي: كيد ذي سحر، وكيد: خبر مرفوع، والمبتدأ: ما الموصولية في قوله: ﴿إن ما صنعوا﴾ وصنعوا: صلتها، وكيد: الخبر. وقرىء بنصب كيد على أنّ ما كافة. وكيد معمول لصنعوا.
361
للسحرة ﴿آمنتم له قبل أن آذن لكم﴾ بذلك ﴿إنه لكبيركم١﴾ أي معلمكم العظيم ﴿الذي علمكم السحر﴾ فتواطأتم معه على الهزيمة. ﴿فلأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف﴾ تعذيباً وتنكيلاً فاقطع يمين أحدكم مع يسرى رجليه، أو العكس ﴿ولأصلبنكم٢ في جذوع النخل﴾ أي لأشدنكم على أخشاب النخل واترككم معلقين عبرة ونكالاً لغيركم ﴿ولتعلمن أينا أشد عذاباً وأبقى﴾ أي أدومه: رب موسى الذي آمنتم به أو أنا "فرعون عليه لعائن الله" هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- الشعور بالخوف والإحساس به عند معاينة أسبابه لا يقدح في الإيمان.
٢- تقرير أم ما يظهر السحرة من تحويل الشيء إلى آخر إنما هو مجرد تخييل لا حقيقة له.
٣- حرمة السحر لأنه تزوير وخداع.
٤- قوة تأثير المعجزة في نفس السحرة لما ظهر لهم من الفرق بين الآية والسحر.
٥- شجاعة المؤمن لا يرهبها خوف بقتل ولا بصلب.
قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ
١ أراد فرعون بقوله هذا التشبيه على الناس والتمويه حتى لا يتبعوا السحرة فيؤمنوا كإيمانهم لا أنّ موسى استاذهم في السحر وأنه أحذق منهم له وأعلم منهم به.
٢ حروف الجر تتناوب، والفاء هنا: (في جذع النخل) بمعنى: على. قال الشاعر:
هم صلبوا العبديّ في جذع نخلة
فلا عطست شيبان إلاّ بأجدعا
362
تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء مَن تَزَكَّى (٧٦)
شرح الكلمات:
لن نؤثرك: أي لن نفضلك ونختارك.
والذي فطرنا: أي خلقنا ولم نكن شيئا.
فاقض ما أنت قاض: أي اصنع ما قلت إنك تصنعه بنا.
والله خير وأبقى: أي خير منك ثواباً إذا أطيع وأبقى منك عذاباً إذا عصى.
مجرما: مجرما أي على نفسه مفسداً لها بآثار الشرك والكفر والمعاصي.
جزاء من تزكى: أي ثواب من تتطهر من آثار الشرك والمعاصي وذلك بالإيمان والعمل الصالح.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع فرعون والسحرة المؤمنين انه لما هددهم فرعون بالقتل والصلب على جذوع النخل لإيمانهم بالله وكفرهم به وهو الطاغوت قالوا له ما أخبر تعالى به عنهم في هذه الآية (٧٢) ﴿قالوا لن نؤثرك﴾ يا فرعون ﴿على ما جاءنا من البينات﴾ الدلائل والحجج القاطعة على أن رب١ موسى وهارون هو الرب الحق الذي تجب عبادته وطاعته فلن نختارك على الذي خلقنا فنؤمن بك ونكفر به لن يكون هذا أبداً واقض ما أنت عازم على قضائه علينا من القتل والصلب. ﴿إنما تقضى هذه الحياة الدنيا﴾ في هذه الحياة الدنيا لما لك من السلطان فيها أما الآخرة فسوف يقضى عليك فيها بالخلد في العذاب المهين.
وأكدوا إيمانهم في غير خوف ولا وجل فقالوا: ﴿إنا آمنا بربنا﴾ أي خالقنا ورازقنا ومدبر أمرنا ﴿ليغفر لنا خطايانا﴾ أي ذنوبنا، ﴿وما أكرهتنا عليه من السحر﴾ أي من تعلمه والعمل به، ونحن لا نريد ذلك ولا شك أن فرعون كان قد ألزمهم بتعلم السحر والعمل به من أجل محاربة موسى وهارون لما رأى من معجزة العصا واليد. وقولهم ﴿والله خير وأبقى﴾
١ روي أن آسيا امرأة فرعون لما بدأت المباراة قالت لهم: أخبروني عمّن يغلب فأخبرت أن موسى وهارون غلبا فقالت: آمنت بربّ موسى وهرون. فأمر فرعون بأعظم صخرة فإذا أصرّت على قولها قألقوها عليها فلما أتوها رفعت بصرها إلى السماء فرأت منزلها في الجنة بعد أن قالت ﴿ربّ ابن لي عندك بيتا في الجنة ونجني من فرعون وعمله ونجني من القوم الظالمين﴾ وخرجت روحها فألقيت عليها الصخرة وهي جسد لا روح فيها استجاب الله لها عليها السلام.
363
أي خير ثواباً وجزاء حسناً لمن آمن به وعمل صالحاً، وأبقى عذاباً لمن كفر به وبآمن بغيره وعصاه. هذا ما دلت عليه الآيتان (٧٢) و (٧٣).
أما الآية الثالثة (٧٤) وهي قوله تعالى: ﴿إنه من يأت ربه مجرماً١﴾ أي على نفسه بإفسادها بالشرك والمعاصي ﴿فإن له٢ جهنم لا يموت فيها٣﴾ فيستريح من العذاب فيها، ﴿ولا يحيى﴾ حياة يسعد فيها.
وقولهم ﴿ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات﴾ أي مؤمناً به كافراً بالطاغوت قد عمل بشرائعه فأدى الفرائض واجتنب المناهي ﴿فأولئك٤ هم﴾ جزاء إيمانهم وعملهم الصالح ﴿الدرجات العلى جنات عدن﴾ أي في جنات عدن ﴿تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ لا يموتون ولا يخرجون منها، ﴿وذلك جزاء من تزكى﴾ أي تتطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد تخليه عن الشرك والخطايا والذنوب. لا شك أن هذا العلم الذي عليه السحرة كان قد حصل لهم من طريق دعوة موسى وهارون إذ أقاموا بينهم زمناً طويلاً.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- لا يؤثر الكفر على الإيمان والباطل على الحق والخرافة على الدين الصحيح إلاّ أحمق جاهل.
٢- تقرير مبدأ أن عذاب الدنيا يتحمل ويصبر عليه بالنظر إلى عذاب الآخرة.
٣- الإكراه نوعان: ما كان بالضرب الذي لا يطاق يغفر لصاحبه وما كان لمجرد تهديد ومطالبة فإنه لا يغفر إلاّ بالتوبة الصادقة وإكراه السحرة كان من النوع الآخر.
٤- بيان جزاء كل من الكفر والمعاصي، والإيمان والعمل الصالح في الدار الآخرة.
١ المجرم: فاعل الجريمة، وهي المعصية، والفعل الخبيث، والمجرم في اصطلاح القرآن: الكافر غالباً.
٢ اللام في: له جهنم لام الاستحقاق أي: هو صائر إليها لا محالة.
٣ لا يموت فيها ولا يحيى، لأن عذابها متجدد فيها فلا هو ميّت لأنه يحس بالعذاب ولا هو حي لأنه في حالة الموت أهون منها، وهذا كقول عباس بن مرداس:
وقد كنت في الحرب ذا تُدْرَءٍ
فلم أُعط شيئاً ولم أمنع
٤ ﴿فأولئك..﴾ الآية أوتي باسم الإشارة إلى أنهم أحياء بهذا النعيم في جنات ويؤكده قوله ﴿ذلك جزاء من تزكى﴾.
364
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (٧٩) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (٨٢)
شرح الكلمات:
أن أسر بعبادي: أي سر ليلاً من أرض مصر.
طريقاً في البحر يبساً: طريقاً في وسط البحر يابساً لا ماء فيه.
لا تخاف دركاً: أي لا تخش أن يدركك فرعون، ولا تخشى غرقاً.
فغشيهم من اليم: أي فغطاهم من ماء البحر ما غطاهم حتى غرقوا فيه.
وأضل فرعون قومه: أي بدعائهم إلى الإيمان به والكفر بالله رب العالمين.
وما هدى: أي لم يهدهم كما وعدهم بقوله: ﴿وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد﴾.
جانب الطور الأيمن: أي لأجل إعطاء موسى التوراة التي فيها نظام حياتهم دينا ودنيا.
المن والسلوى: المن: شيء أبيض كالثلج، والسلوى طائر يقال له السماني١.
ولا تطغوا فيه: أي بالإسراف فيه، وعدم شكر الله تعالى عليه.
١ السُّمانى: بضم السين، وفتح النون ممدودة، والجمع سمانيات والواحدة سماناة كمناجاة: نوع من الطيور.
365
ثم اهتدى: أي بالاستقامة على الإيمان والتوحيد والعمل الصالح حتى الموت.
معنى الآيات:
إنه بعد الجدال الطويل والخصومة الشديدة التي دامت زمناً غير قصير وأبى فيها فرعون وقومه قبول الحق والإذعان له أوحى تعالى إلى موسى عليه السلام بما أخبر به في قوله عز وجل: ﴿ولقد أوحينا إلى موسى﴾ وبأي شيء أوحى إليه. بالسرى ببني إسرائيل وهو قوله تعالى ﴿ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي﴾ قوله ﴿فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا﴾ ١ أي اجعل لهم طريقاً في وسط البحر، وذلك حاصل بعد ضربه البحر بالعصي فانفلق البحر فرقتين والطريق وسطه يابساً لا ماء فيه حتى اجتاز بنو إسرائيل البحر، ولما تابعهم فرعون ودخل البحر بجنوده أطبق الله تعالى عليهم البحر فأغرقهم أجمعين، بعد أن نجى موسى وبني إسرائيل، وهو معنى قوله تعالى: ﴿فأتبعهم٢ فرعون بجنوده فغشيهم من اليم﴾ أي من ماء البحر ﴿ما غشيهم٣﴾ أي الشيء العظيم من مياه البحر. وقوله لموسى ﴿لا تخاف٤ دركاً ولا تخشى﴾ أي لا تخاف أن يدركك فرعون من ورائك ولا تخشى غرقا في البحر.
وقوله تعالى: ﴿وأضل فرعون قومه وما هدى٥﴾ إخبار منه تعالى أن فرعون أضل أتباعه حيث حرمهم من الإيمان بالحق وإتباع طريقه، ودعاهم إلى الكفر بالحق وتجنب طريقه فاتبعوه على ذلك فضلوا وما اهتدوا، وكان يزعم أنه ما يهديهم إلاّ سبيل الرشاد وكذب.
وقوله تعالى: ﴿يا بني إسرائيل قد أنجيناكم من عدوكم﴾ أي فرعون، ﴿وواعدناكم جانب الطور الأيمن﴾ أي مع نبينا موسى لإنزال التوراة لهدايتكم وحكمهم بشرائعها، وأنزلنا عليكم المن والسلوى غذاء لكم في التيه، ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ أي قلنا لكم: كلوا من طيبات ما رزقناكم من حلال الطعام والشراب، ﴿ولا تطغوا فيه﴾ بترك
١ اليبس: محرّك الياء والباء، وتسكن الباء أيضاً: وصف بمعنى اليابس وأصله مصدركالقدم، والعدم بفتح العين وضمها.
٢ قرىء: (فأتبعهم) وبالياء في بجنوده للمصاحبة فهي بمعنى مع أي مع جنوده.
٣ ما غشهم في هذا تهويل عظيم لما غشيهم من الماء الذي غمرهم وغطّاهم بحيث يستحيل النجاة معه.
٤ ﴿دركاً﴾ أي: لحاقاً بك وبمن معك من بني إسرائيل.
٥ ﴿وما هدى﴾ : توكيد لقوله: ﴿فأضل قومه﴾ لأن الهدى ضد الضلال فما دام قد أضلهم فإنه ما هداهم كقوله: ﴿أموات غير أحياء﴾ وكقول الشاعر:
إما ترينا حفاة لا نعال لنا
إنا كذلك ما نحفى وننتعل
وفي الآية: التهكم بفرعون إذ قال لهم: وما أهديكم إلاّ سبيل الرشاد.
366
الحلال إلى الحرام وبالأسراف في تناوله وبعدم شكر الله تعالى، وقوله تعالى: ﴿فيحل عليكم غضبي﴾ أي أن أنتم طغيتم فيه. ﴿ومن يحلل عليه غضبي﴾ أي ومن يجب عليه غضبي ﴿فقد هوى﴾ أي في قعر جهنم وهلك.
وقوله تعالى: ﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى١﴾ يعدهم تعالى بأن يغفر لمن تاب منهم ومن غيرهم فآمن وعمل صالحاً أي أدى الفرائض واجتنب المناهي ثم استمر على ذلك ملازماً له حتى مات.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية إذ مثل هذا القصص لا يقصه إلاّ بوحي إليه إذ لا سبيل إلى معرفته إلاّ من طريق الوحي الإلهي.
٢- آية انفلاق البحر ووجود طريق يابس فيه لبني إسرائيل حتى اجتازوه دالة على جود الله تعالى وقدرته وعلمه ورحمته وحكمته.
٣- تذكير اليهود المعاصرين للدعوة الإسلامية بإنعام الله تعالى على سلفهم لعلهم يشكرون فيتوبون فيسلمون.
٤- تحريم الإسراف والظلم، وكفر النعم.
٥- الغضب صفة لله تعالى كما يليق ذلك بجلاله وكماله لا كصفات المحدثين.
وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولاء عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ
١ ثم اهتدى بأن لزم طريق الهداية حتى مات على ذلك أما من تاب وعمل صالحاً ثم ضل بعد ذلك ومات على ضلالة، فلا يناله هذا الوعد ففي قوله: ﴿ثم اهتدى﴾ احتراس ممن يتوب ثم يعود فيموت على غير هداية.
367
الْعَهْدُ أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا (٨٩)
شرح الكلمات:
وما أعجلك: أي شيء جعلك تترك قومك وتأتي قبلهم.
هم على أثري: أي آتون بعدي وليسوا ببعيدين مني.
وعجلت إليك ربي لترضى: أي استعجلت المجىء إليك طلباً لرضاك عني.
قد فتنا قومك: أي ابتليناهم أي بعبادة العجل.
وأضلهم السامري: أي عن الهدى الذي هو الإسلام إلى الشرك وعبادة غير الرب تعالى.
غضبان أسفاً: أي شديد الغضب والحزن.
وعداً حسناً: أي بأن يعطيكم التوراة فيها نظام حياتكم وشريعة ربكم لتكملوا عليها وتسعدوا.
أفطال عليكم العهد: أي مدة الموعد وهي ثلاثون يوماً قبل أن يكملها الله تعالى أربعين يوما.
فأخلفتم موعدي: بترككم المجيء بعدي.
بملكنا١: أي بأمرنا وطاقنا، ولكن غلب علينا الهوى فلم نقدر على انجاز الوعد بالسير وراءك.
١ ميم ملكنا مثلثة تفتح وتضم وتكسر والمعنى واحد كما في التفسير أي: لم يكن ذلك بإرادتنا واختيارنا.
368
أوزاراً: أي أحمالاً من حلي نساء الأقباط وثيابهن.
فقذفناها: أي القيناها في الحفرة بأمر هارون عليه السلام.
ألقى السامري: السامري هو موسى بن ظفر من قبيلة سامرة١ الإسرائيلية، وما ألقاه هو التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل ألقاه أي قذفه على الحلي.
عجلاً جسداً: أي ذا جثة.
له خوار: الخوار صوت البقر.
فنسي: أي موسى ربه هنا وذهب يطلبه.
ألا يرجع إليهم قولاً: أنه لا يكلمهم إذا كلموه لعدم نطقه بغير الخوار.
معنى الآيات:
بعد أن نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون وملائه حيث اجتاز بهم موسى البحر وأغرق الله فرعون وجنوده أخبرهم موسى أن ربه تعالى قد أمره أن يأتيه ببني إسرائيل وهم في طريقهم إلى أرض المعاد إلى جبل الطور ليؤتيهم التوراة فيها شريعتهم ونظام حياتهم دنيا ودينا وأنه واعدهم جانب الطور الأيمن، واستعجل٢ موسى في المسير إلى الموعد فاستخلف أخاه هارون على بني إسرائيل ليسير بهم وراء موسى ببطء حتى يلحقوا به عند جبل الطور، وحدث أن بني إسرائيل فتنهم السامري بصنع العجل ودعوتهم إلى عبادته وترك المسير وراء موسى عليه السلام فقوله تعالى: ﴿وما أعجلك عن قومك يا موسى﴾ هو سؤال من الله تعالى لموسى ليخبره بما جرى لقومه بعده وهو لا يدري فلما قال تعالى لموسى: ﴿وما أعجلك﴾ عن المجيء وحدك دون بني إسرائيل مع ان الأمر أنك تأتي معهم أجاب موسى بقوله
١ نفى بعضهم أن تكون هناك قبيلة من بني إسرائيل تدعى السامرة وإنما السامرة أمة من سكان فلسطين في جهة نابلس قبل أن تكون فلسطين لبني إسرائيل، ثم امتزجوا ببني إسرائيل لما دخلوها واتبعوا معهم شريعة موسى، وبما أن السامري كان في مصر جائز أن يكون من قرية بمصر تسمى سامرة، والمراد من هذا أن السامري لم يكن من بني إسرائيل أصلاً ومحتداً ثم بمرور الأيام وجدت طائفة من بني إسرائيل تدعى السامرية، وهي عبارة عن طريقة ضالة تنتمي إلى شريعة التوراة وهي منحرفة فنشأت عن فتنة السامري الأولى كالطرق المنحرفة لدى المسلمين.
٢ لهذا الاستعجال لامه ربّه وعتب عليه في قوله: {وما أعجلك من قومك يا موسى) حتى تركتهم وجئتنا وحدك، وقد ترتب على هذا الاستعجال شر كبير باتخاذ بني إسرائيل عجلاً عبدوه دون الله تعالى، ولذا قيل: تأن ففي العجلة الندامة وفي التأني السلامة.
369
﴿هم أولاء على أثري١﴾ آتون بعدي، وعجلت المجئ إليك لترضى عني. هنا أخبره تعالى بما حدث لقومه فقال عز وجل: ﴿إنا قد فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري﴾ أي بصنع العجل لهم ودعوتهم إلى عبادته بحجة انه الرب تعالى وأن موسى لم يهتد إليه. ولما انتهت المناجاة وأعطى الله تعالى موسى الألواح التي فيه التوراة ﴿فرجع موسى إلى قومه غضبان أسفاً﴾ أي حزيناً إلى قومه فقال لهم بما أخبر تعالى عنه بقوله: ﴿قال يا قوم٢ ألم يعدكم ربكم وعداً حسناً﴾ فذكرهم بوعد الله تعالى لهم بإنجائهم من آل فرعون وإكرامهم بالملك والسيادة موبخاً لهم على خطيئتهم بتخلفهم عن السير وراءه وانشغالهم بعبادة العجل والخلافات الشديدة بينهم، وقوله ﴿أفطال عليكم٣ العهد﴾ أي لم يطل فالمدة هي ثلاثون يوماً فلم تكتمل حتى فتنتم وعبدتم غير الله تعالى، قوله ﴿أم أردتم أن٤ يحل عليكم غضب من ربكم﴾ أي بل أردتم بصنيعكم الفاسد أن يجب عليكم غضب من ربكم فحل بكم، ﴿فأخلفتم موعدي٥﴾ بعكوفكم على عبادة العجل وترككم السير على أثرى لحضور موعد الرب تعالى الذي واعدكم.
وقوله تعالى ﴿قالوا ما أخلفنا موعدك بملكنا﴾ هذا ما قاله قوم موسى كالمعتذرين به إليه فزعموا أنهم ما قدروا على عدم اخلاف الموعد لغلبة الهوى عليهم فلم يطيقوا السير وراءه مع وجود العجل وما ضللهم به السامري من أنه هو إلههم وأن موسى أخطأ الطريق إليه. هذا معنى قولهم: ﴿ما أخلفنا موعدك بملكنا﴾ أي بأمرنا وقدرتنا إذ كنا مغلوبين على أمرنا. وقولهم: ﴿ولكنا حملنا٦ أوزاراً من زينة القوم فقذفناها﴾ هذا بيان لوجه الفتنة وسببها وهي أنهم لما كانوا خارجين من مصر استعار نساؤهم حلياً من نساء القبط بدعوى عيد لهم،
١ أثري، وإثري: لغتان، والأثر: ما يتركه الماشي على الأرض من علامات قدم أو حافر أو خف، والمعنى: هم سائرون على مواضع أقدامي وقرىء (إثري) بكسر الهمزة والجمهور قرؤا بالفتح.
٢ هذا ابتداء كلام يحمل اللوم والعتاب والتأديب حيث جمع موسى بني إسرائيل وفيهم هارون وخاطبهم قائلاً: يا قوم.. الخ.
٣ الاستفهام تابع للاستفهام الأول: ألم يعدكم، وهو للتقرير والإنكار معاً.
٤ ﴿أم﴾ بمعنى: بل والاستفهام بعدها إنكاري أي: أنكر عليهم إرادتهم حلول غضب الله عليهم بسبب شركهم بعبادة العجل.
٥ المراد من موعده إياهم: هو ما عهد به إليهم بأن يلزموا طاعة هارون ويسيروا معه بدون تأخر حتى يلحقوا به في جبل الطور فأخلفوا ذلك فعصوا هارون وعكفوا على عبادة العجل وتركوا السير على إثره كما طلب منهم.
٦ الأوزار: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل والمراد بها: الحلي الذي استعاره نساؤهم من جاراتهن القبطيات بمصر بقصد الفرار به للنفع الخاص، وخافوا تلاشي الحلي فرأوا أن يصوغوه في قطع كبيرة يحفظ بها من الضياع.
370
وأصبحوا خارجين مع موسى في طريقهم إلى القدس، وتم إنجاؤهم وإغراق فرعون ولما نزلوا بالساحل استعجل موسى موعد ربه وتركهم تحت إمرة هارون أخيه على أن يواصلوا سيرهم وراء موسى إلى جبل الطور غير أن موسى الملقب بالسامري استغل الفرصة وقال لنساء بني إسرائيل هذا الحلى الذي عندكن لا يحل لَكُنَّ أخذه إذ هي ودائع كيف تستحلونها وحفر لهم حفرة وقال ألقوها فيها وأوقد فيها النار لتحترق ولا ينتفع بها بعد، هذا ما دل عليه قولهم ﴿ولكنا حملنا أوزاراً من زينة القوم﴾ أي قوم فرعون فقذفناها أي في الحفرة التي أمر بها السامري وقوله تعالى، ﴿فكذلك ألقى السامري١﴾ هو من جملة قول بني إسرائيل لموسى فكما ألقينا الحلي في الحفرة ألقى السامري ما معه من التراب الذي أخذه من تحت حافر فرس جبريل، فصنع السامري العجل فأخرجه لهم عجلاً جسداً٢ له خوار أي صوت فقال بعضهم لبعض هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب إلى موعده فنسي٣ وضل الطريق إليه فاعبدوه حتى يأتي موسى. قال تعالى موبخاً إياهم ﴿أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً﴾ إذا كلموه، ﴿ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً﴾ فكيف يعقلون أنه إله وهو لا يجيبهم إذا سألوه، ولا يُعطيهم إذا طلبوه، ولا ينصرهم إذا استنصروه ولكنه الجهل والضلال وإتباع الهوى. والعياذ بالته تعالى.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- ذم العجلة وبيان آثارها الضَّارة فاستعجال موسى الموعد وتركه قومه وراءه كان سبباً في أمر عظيم وهو عبادة العجل وما تترب عليها من آثار جسام.
٢- مشروعية طلب رضا الله تعالى ولكن بما يحب أن يتقرب به إليه.
٣- مشروعية الغضب لله تعالى والحزن على ترك عبادته بمخالفة أمره ونهيه.
٤- مشروعية استعارة الحلي للنساء والزينة، وحرمة جحدها وأخذها بالباطل.
٥- وجوب استعمال العقل واستخدام الفكر للتمييز بين الحق والباطل، والخير والشر.
١ أي: فمثل قذفنا الزينة في النار لصوغها قذف السامري، وقالوا هذا اعتذاراً منهم لموسى عليه السلام.
٢ الجسد: الجسم ذو الأعضاء وسواء كان حياً أو ميتا، والتعبير بأخرج الإشارة إلى أن السامري صنع العجل بحيلة مستورة خفية حتى أتمّه ثمّ أظهره أي: أخرجه ظاهراً لنا.
٣ إطلاق النسيان على الضلال والغفلة والترك شائع وسائغ في اللغة.
371
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (٩١) قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَلا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤)
شرح الكلمات:
فتنتم به: أي ابتليتم به أي بالعجل.
لن نبرح عليه عاكفين: أي لن نزال عاكفين على عبادته.
إذ رأيتهم ضلوا: أي بعبادة العجل واتخاذه إلهاً من دون الله تعالى.
لا تأخذ بلحيتي: حيث أخذ موسى من شدة غضبه بلحية أخيه وشعر رأسه يجره إليه يعذله ويلوم عليه.
ولم ترقب قولي: أي ولم تنتظر قولي فيما رأيته في ذلك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار الذي دار بين موسى وقومه بعد رجوعه إليهم من المناجاة فقوله تعالى: ﴿ولقد قال لهم هارون من قبل﴾ أي من قبل رجوع موسى قال لهم أثناء عبادتهم العجل يا قوم إن العجل ليس إلهكم ولا إله موسى وإنما هو فتنة فتنتم به ليرى الله تعالى صبركم على عبادته ولزوم طاعة رسوله، وليرى خلاف ذلك فيجزى كلاً بما يستحق وقال لهم: ﴿وإن ربكم الرحمن﴾ الذي شاهدتم آثار رحمته في حياتكم كلها فاذكروها
372
﴿فاتبعون﴾ في عبادة الله وحده وترك عبادة غيره ﴿وأطيعوا أمري١﴾ فإني خليفة موسى الرسول فيكم فأجاب القوم الضالون بما أخبر تعالى عنهم بقوله: ﴿قالوا لن نبرح عليه عاكفين﴾ أي لن نزول عن عبادته والعكوف حوله ﴿حتى يرجع إلينا موسى٢﴾ ولما سمع موسى من قومه ما سمع التفت إلى هارون قائلاً معاتباً عاذلاً لائماً ﴿يا هرون ما منعك٣ إذ رأيتهم ضلوا﴾ أي بعبادة العجل ﴿ألا تتبعني﴾ أي بمن معك من المسلمين وتترك المشركين، ﴿أفعصيت٤ أمري﴾، ومن شدة الوجد وقوة اللوم والعذل أخذ بشعر رأس أخيه بيمينه وأخذ بلحيته بيساره وجره إليه وهو يعاتبه ويلوم عليه فقال هارون: ﴿يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ إن لي عذراً في عدم متابعتك وهو إني خشيت إن أنا أتيتك ببعض قومك وهم المسلمون وتركت بعضاً آخر وهم عباد العجل ﴿أن تقول فرقت بين بني إسرائيل﴾ وذلك لا يرضيك. ﴿ولم ترقب قولي﴾ أي ولم تنظر قولي فيما رأيت قي ذلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- معصية الرسول تؤدي إلى فتنة العاص في دينه ودنياه.
٢- جواز العذل والعتاب للحبيب عند تقصيره فيما عهد به إليه.
٣- جواز الاعتذار لمن اتهم بالتقصير وان حقا.
٤- قد يخطىء المجتهد في اجتهاده وقد يصيب.
١ أي: لا أمر السامر أو: فاتبعوني في مسيري إلى موسى ودعوا العجل فعصوه.
٢ روي أنّه لما قالوا هذه المقالة اعتزلهم هارون في اثنى عشر ألفاً من الذين لم يعبدوا العجل فلما رجع موسى وسمع الصياح والجلبة وكانوا يرقصون حول العجل قال: هذا صوت الفتنة فلما رأى هارون أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله وقال: يا هارون... الآية.
٣ الاستفهام إنكاري إذ أنكر عليه عدم متابعته لما شاهد القوم يعبدون العجل إذ كان المفروض أن يتركهم ويلحق بموسى يخبره.
٤ أمره هو قوله له عند مغادرة بني إسرائيل إلى جبل الطور، ﴿اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ فلما أقام معهم ولم يبالغ في منعهم والإنكار عليهم نسبه إلى عصيانه ومخالفة أمره وهذا دليل على واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتغييره ومفارقة أهله، وأن المقيم بينهم لاسيما إذا كان راضياً حكمه كحكمهم، وفي هذه الآية دليل على بدعة الصوفية بدعة الرقص والتواجد، وأنها موروثة عن هؤلاء السامريين عَبَدة العجل والعياذ بالله تعالى.
373
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَن تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (٩٧) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (٩٨)
شرح الكلمات:
فما خطبك: أي ما شأنك وما هذا الأمر العظيم الذي صدر منك.
بصرت بما لم يبصروا به: أي علمت من طريق الإبصار والنظر ما لم يعلموا به لأنهم لم يروه.
قبضة من أثر الرسول: أي قبضت قبضة من تراب أثر حافر فرس الرسول جبريل عليه السلام.
فنبذتها: أي ألقيتها وطرحتها على الحلى المصنوع عجلاً.
سولت لي نفسي: أي زينت لي هذا العمل الذي هو صنع العجل.
أن تقول لا مساس: أي اذهب تائها في الأرض طول حياتك وأنت تقول لا مساس أي لا يمسني أحد ولا أمسه لما يحصل من الضرر العظيم لمن تمسه أو يمسك.
إلهك: أي العجل.
ظلت: أي ظللت طوال الوقت عاكفاً عليه.
في اليم نسفاً: أي في البحر ننسفه بعد إحراقه وجعله كالنشارة نسفاً.
إنما إلهكم الله: أي لا معبود لكم إلاّ الله الذي لا إله إلاّ هو.
374
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحوار بين موسى وقومه فبعد لومه أخاه وعذله له التفت إلى السامري المنافق إذ هو من عُبَّاد البقر وأظهر الإسلام في بني إسرائيل، ولما اتيحت له الفرصة عاد إلى عبادة البقر فصنع العجل وعبده ودعا إلى عبادته فقال له: في غضب ﴿فما خطبك يا سامري﴾ أي ما شأنك وما الذي دعاك إلى فعلك القبيح الشنيع هذا فقال السامري كالمعتذر ﴿بصرت بما لم يبصروا به﴾ أي علمت ما لم يعلمه قومك ﴿فقبضت قبضة من أثر﴾ حافر فرس ﴿الرسول١ فنبذتها﴾ في الحلي المصنوع عجلاً فخار كما تخور البقر. ﴿وكذلك سولت لي نفسي﴾ ذلك أي زينته لي وحسنته ففعلته، وهنا أجابه موسى عليه السلام بما أخبر تعالى به في قوله: ﴿قال فاذهب٢ فإن لك في الحياة أن تقول لا مساس٣﴾ أي لك مدة حياتك أن تقول لمن أراد أن يقربك لا مساس أي لا تمسني ولا أمسك لتتيه طول عمرك في البرية مع السباع والحيوان عقوبة لك على جر يمتك، ولا شك أن فراره من الناس وفرار الناس منه لا يكون مجرد أنه لا يرقب في ذلك، بل لعله قيل إنها الحمى فإذا مس أحد حُمَّا معاً أي أصابتهما الحمى معاً كأنه اسلاك كهربائية مكشوفة من مسها تكهرب منها. وقوله له: ﴿وإن لك موعداً لن تخلفه﴾، أي ذاك النفي والطرد عذاب الدنيا، وإن لك عذاباً آخر يوم القيامة في موعد لن تخلفه أبداً فهو آت وواقع لا محالة.
وقوله: أي موسى للسامري: ﴿وانظر إلى إلهك﴾ المزعوم ﴿الذي ظلت٤ عليه عاكفاً﴾ تعبده لا تفارقه، والله ﴿لنحرقنه ثمّ لننسفنه٥ في اليم نسفاً﴾ وفعلاً حرقه ثم جعله كالنشارة
١ الرسول هنا: جبريل عليه السلام قاله جمهور المفسرين، وقالوا: إن السامري فتنه الله تعالى فأراه جبريل راكباً فرساً فوطىء حافر الفرس مكاناً فإذا هو مخضرّ بالنبات، فعلم السامري أن أثر فرس جبريل إذا ألقي على جماد صار حياً، فقبض من تراب وطئه حافر الفرس واحتفظ به إلى اليوم، ولما صنع العجل ألقاه عليه فصار له خوار كالعجل الحيوان.
٢ نفاه موسى عن قومه، وأمر بني إسرائيل ألا يخالطوه ولا يقربوه ولا يكلموه عقوبة له. قال الشاعر:
تميم كرهط السامري وقوله
ألا لا تريد السامري مِساسا
هذه المسألة أصل في نفي أهل البدع والمعاصي وهجرانهم وألاّ يخالطوا وقد فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بالذين تخلفوا عن غزوة تبوك.
(لا مساس) : المساس مصدر ماسه يماسه ومساسا. ولا: نافية للجنس ومساس: اسمها مبني على الفتح.
٤ ظلت: أي: دمت وأقمت عليه عاكفاً أي: ملازماً وأصل ظلت: ظللت قال الشاعر:
خلا أنّ العتاق من المطايا
أحَسْن به فهن إليه شوس
فأحسن أصله: أحسسن حذفت إحدى السينين كما حذفت إحدى اللامين.
٥ النسف: نقض الشيء ليذهب به الريح، وهو: التذرية، والمنسف آلة ينسف بها الشيء، والنسافة: ما يسقط منه.
375
وذره في البحر تذرية حتى لا يعثر له على أثر، ثم قال لأولئك الذين عبدوا العجل المغرر بهم المضللين: ﴿إنما إلهكم﴾ الحق الذي تجب له العبادة والطاعة ﴿الله الذي لا إله إلاّ هو١ وسع كل شيء علماً﴾ أي وسع علمه كل شيء فهو عليم بكل شيء وقديرعلى كل شيء وما عداه فليس له ذلك وما لم يكن ذا قدرة على شيء وعلم بكل شيء فكيف يُعبد ويُطاع.. ؟!
هداية الآيات:
من هداية الآيات:
١- مشروعية الاستنطاق للمتهم والاستجواب له.
٢- ما سولت النفس لأحد ولا زينت له شيئا إلاّ تورط فيه إن هو عمل بما سولته له.
٣- قد يجمع الله تعالى للعبد ذي الذنب العظيم بين عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
٤- مشروعية هجران المبتدع ونفيه وطرده فلا يسمح لأحد بالاتصال به والقرب منه.
٥- كسر الأصنام والأوثان والصور وآلات اللهو والباطل الصارفة عن عباد الله تعالى.
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاء لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا (١٠١) يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا (١٠٤)
شرح الكلمات:
كذلك: أي كما قصصنا عليك هذه القصة قصة موسى وفرعون وموسى وبني إسرائيل نقص عليك من أبناء الرسل.
من لدنا ذكراً: أي قرآناً وهو القرآن الكريم.
١ لا العجل الذهبي الذي سولت نفس السامري الخبيثة صنعه.
376
من أعرض عنه: أي لم يؤمن به ولم يقرأه ولم يعمل به.
وزراً: أي حملاً ثقيلاً من الآثام.
يوم ينفخ في الصور: أي النفخة الثانية وهي نفخة البعث، والصور هو القرن.
زرقاً: أي عيونهم زرق ووجوههم سود آية أنهم أصحاب الجحيم.
يتخافتون بينهم: أي يخفضون أصواتهم يتسارون بينهم من شدة الهول.
أمثلهم طريقة: أي أعدلهم رأياً في ذلك، وهذا كله لعظم الموقف وشدة الهول والفزع.
معنى الآيات:
بعد نهاية الحديث بين موسى وفرعون، وبين موسى وبني إسرائيل قال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿كذلك نقص١ عليك﴾ أي قصصنا عليك ما قصصنا من نبأ موسى وفرعون وخبر موسى وبني إسرائيل نقص عليك ﴿من أنباء ما قد سبق﴾ أي أحداث الأمم السابقة ليكون ذلك آية نبوتك ووحينا إليك، وعبرة وذكرى للمؤمنين. وقوله تعالى: ﴿وقد آتيناك من لدنا ذكراً٢﴾ أي وتد أعطيناك تفضلا منا ذكرا وهو القرآن العظيم يذكر به العبد ربه ويهتدي به إلى سبيل النجاة والسعادة، وقوله ﴿من أعرض عنه﴾ أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ﴿فإنه يحمل يوم القيامة وزراً﴾ أي إثماً عظيماً لأنه لم يعمل صالحاً وكل عمله كان سيئاً لكفره وعدم إيمانه، ﴿خالدين فيه﴾ أي في ذلك الوزر في النار، وقوله ﴿وساء لهم يوم القيامة حملاً﴾ أي قبح ذلك الحمل حملاً يوم القيامة إذ صاحبه لا ينجو من العذاب بل يطرح معه في جهنم يخلد فيها وقوله ﴿يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين﴾ أي المكذبين بالدين الحق العاملين بالشرك والمعاصي ﴿يومئذ﴾ أي يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية ﴿زرقا﴾ ٣ أي الأعين مع اسوداد الوجوه وقوله: ﴿يتخافتون بينهم﴾ أي يتهامسون بينهم يسأل بعضهم بعضاً كم لبثتم في الدنيا وفي القبور فيقول البعض: ﴿إن لبثتم٤ إلاّ عشراً﴾ أي ما لبثتم إلاّ
١ الكاف من كذلك في محل نصب لأنها بمعنى مثل: نعت لمصدر محذوف تقديره: نقص عليك قصصا من أنباء ما قد سبق مثل ما قصصنا عليك هذا القصص.
٢ ويطلق الذكر على الشرف أيضاً، وعلى ما يذكر به الله تعالى من قول والمراد به هنا القرآن الكريم.
٣ الزّرَق: خلاف الكَحَل، والعرب تتشاءم بزرق العيون وتذمه وسبب هذه الزرقة هو شدة العطش.
٤ أي: في الدنيا أو في القبور.
377
عشر ليال، وقوله تعالى: ﴿نحن أعلم١ بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة﴾ أي أعد لهم رأياً ﴿إن لبثتم إلاّ يوماً﴾، وهذا التقال للزمن الطويل سببه هول القيامة وعظم ما يشاهدون فيها من ألوان الفزع والعذاب.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير نبوة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقص تعالى عليه أنباء ما قد سبق بعد قصه عليه أنباء موسى وفرعون بالحق، وإيتائه القرآن الكريم.
٢- كون القرآن ذكراً للذاكرين لما يحمل من الحجج والدلائل والبراهين.
٣- سوء حال المجرمين يوم القيامة، الذين أعرضوا عن القرآن الكريم.
٤- عظم أهوال يوم القيامة حتى يتقال معها المرء مدة الحياة الدنيا التي هي آلاف الأعوام.
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (١٠٦) لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الأصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (١١١) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا (١١٢)
١ ﴿نحن أعلم بما يقولون﴾ : جملة معترضة قول الأولين: ﴿إن لبثتم إلا عشرا﴾ نظروا فيه إلى أن تغير الأجسام يتم في عشرة أيام، والذي قال يوماً نظر إلى أن الأجسام ما تغيّرت إذ قد أعيدت كما كانت.
378
شرح الكلمات:
يسألونك عن الجبال: أي المشركون عن الجبال كيف تكون يوم القيامة.
فقل ينسفها ربي نسفاً: أي يفتتها ثم تذروها الرياح فتكون هباء منبثاً.
قاعا صفصفا: أي مستوياً.
عوجا ولا أمتا: أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً.
الداعي.: أي إلى المحشر يدعوهم إليه للعرض على الرب تعالى.
وخشعت الأصوات: أي سكنت فلا يسمع إلاّ الهمس وهو صوت الأقدام الخفي.
ورضي له قولا: بأن قال لا إله إلاّ الله من قلبه صادقاً.
ولا يحيطون به علما: الله تعالى ما بين أيدي الناس وما خلفهم، وهم لا يحيطون به علما.
وعنت الوجوه للحي القيوم: أي ذلت وخضعت للرب الحي الذي لا يموت.
من حمل ظلما: أي جاء يوم القيامة يحمل أوزار الظلم وهو الشرك.
ظلما ولا هضما: أي لا يخاف ظلما بأن يزاد في سيئاته ولا هضما بأن ينقص من حسناته.
معنى الآيات:
يقول تعالى لرسوله: ﴿ويسألونك﴾ أي المشركين من قومك المكذبين بالبعث والجزاء ﴿عن الجبال﴾ عن مصيرها يوم القيامة فقل١ له: ﴿ينسفها ربي نسفاً٢ فيذرها٣ قاعا صفصفاً لا ترى فيها عوجا ولا أمتاً﴾ ٤ أي أجبهم بأن الله تعالى يفتتها ثم ينسفها فتكون هباء منبثاً، فيترك أماكنها قاعاً صفصفاً أي أرضاً مستوية لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً أي لا انخفاضاً ولا ارتفاعاً. وقوله
١ قال القرطبي كل سؤال في القرآن أجيب بقل إلاّ هذا فبـ: فقل لأن المعنى إن سألوك فقل فتضمن الكلام معنى الشرط، وهو يقترن بالفاء دائماً.
٢ قال ابن الأعرابي وغيره يقلعها قلعاً من أصولها ثم يصيرها رملاً يسيل سيلاً ثم يصيرها كالصوف المنفوش تطيرها الرياح هكذا أو هكذا ثم كالهباء المنثور.
(فيذرها) : أي: يذر مواضعها قاعاً صفصفاً، القاع: الأرض الملساء لا نبات فيها، ولا بناء عليها وهي مستو، وجمع القاع: أقواع وقيعان.
٤ الأمت: المكان المرتفع كالنبك، وهو التل الصغير، والعوج: الوهدة وهي الانخفاض كالعوج في الشيء أي: ليس في الأرض انخفاض ولا ارتفاع بل هي مستوية.
379
﴿يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلاّ همساً﴾ أي يوم تقوم القيامة فيُنشرون يدعوهم الداعي هلموا إلى أرض المحشر فلا يميلون عن صوته يمنةً ولا يُسرة وهو معنى لا عوج له. وقوله تعالى: ﴿وخشعت الأصوات للرحمن﴾ أي ذلت وسكنت ﴿فلا تسمع إلاّ همساً﴾ وهو صوت خفي كأصوات خفاف الإبل إذا مشت وقوله تعالى: ﴿يومئذ لا تنفع الشفاعة عنده، إلاّ من أذن له الرحمن ورضى له قولاً﴾ أي يُخبر تعالى أنهم يوم جمعهم للمحشر لفصل القضاء لا تنفع شفاعة أحد أحداً إلاّ من أذن له الرحمن في الشفاعة، ورضى له قولاً أي وكان المشفوع فيه من أهل التوحيد أهل لا إله إلاّ الله وقوله ﴿يعلم مابين أيديهم وما خلفهم، ولا يحيطون به علماً﴾ أي يعلم ما بين أيدي أهل المحشر أي ما يسيحكم به عليهم من جنة أو نار، وما خلفهم مما تركوه من أعمال في الدنيا، وهم لا يحيطون به عز وجل علماً، فلذا سيكون الجزاء عادلاً رحيماً، وقوله: ﴿وعنت١ الوجوه للحي القيوم٢﴾ أي ذلت وخضعت كما يعنو بوجهه الأسير، والحي القيوم هو الله جل جلاله وقوله تعالى: ﴿وقد خاب﴾ أي خسر ﴿من حمل ظلماً﴾ ألا وهو الشرك والعياذ بالله وقوله تعالى: ﴿ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن﴾ والحال أنه مؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر والبعث الآخر٣ فهذا لا يخاف ظلماً بالزيادة في سيِّئاته، ولا هضما بنقص من حسناته، وهي عدالة الله تعالى تتجلى في موقف الحساب والجزاء.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان جهل المشركين في سؤالهم عن الجبال.
٢- تقرير مبدأ البعث الآخر.
٣- لا شفاعة لغير أهل التوحيد فلا يشفع مشرك، ولا يُشفع لمشرك.
٤- بيان خيبة المشركين وفوز الموحدين يوم القيامة.
١ ومنه قيل للأسير عانٍ، قال أمية بن الصلت:
مليك على عرش السماء مهيمن
لعزّته تعنو الوجوه وتسجد
٢ القيوم: أي: القائم بتدبير الخلق، والقائم على كل نفس بما كسبت.
٣ والقدر خيره وشرّه.
380
وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (١١٣) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا (١١٤) وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (١١٥)
شرح الكلمات:
وكذلك أنزلنا: أي مثل ذلك الإنزال أنزلنا قرآناً عربياً أي بلغة العرب ليفهموه.
وصرفنا فيه من الوعيد: أي من أنولع الوعيد، وفنون العذاب الدنيوي والأخروي.
أو يحدث لهم ذكرا: أي بهلاك الأمم السابقة فيتعظون فيتوبون ويسلمون.
فتعالى الله الملك الحق. أي عما يقول المفترون ويشرك المشركون.
ولا تعجل بالقرآن: أي بقرءاته.
من قبل أن يقضى إليك وحيه: أي من قبل أن يفرغ جبريل من قراءته عليك.
عهدنا إلى آدم: أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة.
فنسي: أي عهدنا وتركه.
ولم نجد له عزما: أي حزما وصبراً عما نهيناه عنه.
معنى الآيات:
يقول تعالى ﴿وكذلك١ أنزلناه قرآناً عربياً﴾ أي ومثل ما أنزلنا من تلك الآيات المشتملة
١ هذه الجملة معطوفة على جملة: كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق إذ الغرض واحد وهو التنويه بشأن القرآن وتقرير الوحي له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
381
على الوعد والوعيد أنزلنا القرآن بلغة العرب ليفهموه ويهتدوا به ﴿وصرفنا فيه١ من الوعيد﴾ أي بينا فيه من أنواع الوعيد وكررنا فنون العذاب الدنيوي والأخروى لعل قومك أيها الرسول يتقون ما كان سببا في إهلاك الأمم السابقة وهو الشرك والتكذيب والمعاصي ﴿أو يحدث لهم٢ ذكراً﴾ أي يوجد لهم ذكراً في أنفسهم فيتعظون فيتوبون من الشرك والتكذيب للرسول ويطيعون ربهم فيكملون ويسعدون هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١٣).
وأما الآية الثانية وهي قوله تعالى ﴿فتعالى الله الملك الحق﴾ فإن الله تعالى يخبر عن علوه عن سائر خلقه وملكه لهم وتصرفه فيهم وقهره لهم، وَمِن ثَمَّ فهو منزَّه عن الشريك والولد وعن كل نقص يصفه به المفترون الكذابون.
وقوله: ﴿ولا تعجل٣ بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه﴾ يُعلِّم تعالى رسوله كيفية تلقي القرآن عن جبريل عليه السلام فيرشده إلى أنه لا ينبغي أن يستعجل في قراءة الآيات ولا في إملائها على أصحابها ولا في الحكم بها حتى يفرغ جبريل من قراءتها كاملة عليه وبيان مراد الله تعالى منها في إنزالها عليه. وطلب إليه أن يسأله المزيد من العلم بقوله: ﴿وقل رب زدني علما﴾، وفيه إشعار بأنّه دائماً في حاجة إلى المزيد، ولذا فلا يستعجل ولكن يتريث ويتمهل، وهذا علماء أمته أحوج إليه منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فالاستعجال في الفُتيا وفي إصدار الحكم كثيراً ما يخطىء صاحبهما.
وقوله تعالى: ﴿ولقد٤ عهدنا إلى آدم من قبل فنسي٥ ولم نجد له عزما٦﴾ يقول تعالى مخبراً رسوله والمؤمنين ولقد وصينا آدم من قبل هذه الأمم التي أمرناها ونهيناها فلم يطع أكثرها وصيناه بأن لا يطيع عدوه إبليس وأن لا يأكل من الشجرة فترك وصيتنا ناسياً لها غير مبال بها
١ التصريف: التنويع والتفنين، والوعيد هنا للتهديد.
٢ لعله يحدث لهم ذكراً: فيه بيان أنهم قبل نزول القرآن وسماعه لم يكونوا يذكرون الله في توحيده ولا في وعده ووعيده ولا في شرعه وأحكامه.
٣ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان الني صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ من الوحي حرصاً منه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الحفظ وشفقة على القرآن مخافة النسيان فنهاه تعالى عن ذلك فأنزل: ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ وقال الحسن نزلت هذه الآية في رجل لطَم وجه امرأته فجاءت إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطلب القصاص فجعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لها القصاص فنزل: ﴿الرجال قوّامون على النساء﴾ وأبى الله ذلك. ولهذا قال له: ﴿وقل رب زدني علما﴾ وفي هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أن حرصه في حفظ القرآن محمود.
٤ قال ابن زيد: نسي ما عهد الله إليه في ذلك، ولو كان له عزم ما أطاع عدوه إبليس.
٥ العهد المنسي هو ما جاء في قوله تعالى: ﴿فقلنا يا آدم إنّ هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنّكما من الجنة﴾ من هذه االسورة.
٦ فسر العزم بالصبر والثبات أمام الإغراء.
382
وأطاع عدوه وأكل من الشجرة، ولم نجد له عزماً بل ضعف أمام الإغراء والتزيين فلم يحفظ العهد ولم يصبر على الطاعة، فكيف إذاً بغير آدم من سائر ذرياته فلذا ينبغي أن لا تأسى ولا تحزن على عدم إيمان قوعك بك واستجابتهم لدعوتك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- بيان الحكمة من إنزال القرآن باللسان العربي وتصريف الوعيد فيه.
٢- إثبات علو الله تعالى وقهره لعباده وملكه لهم وتنزهه عن الولد والشريك وكل نقص يصفه به المبطلون.
٣- استحباب التريث والتأني في قراءة القرآن وتفسيره وإصدار الحكم والفتيا منه.
٤- الترغيب في طلب العلم والمزيد من التحصيل العلمي وإشعار النفس بالجهل والحاجة إلى العلم.
٥- التسلية بنسيان آدم وضعف قلبه أمام الإغراء الشيطاني.
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (١٢٢)
383
شرح الكلمات:
وإذ قلنا للملائكة: أي اذكر قولنا للعظة والاعتبار.
إلاّ إبليس أبى: أي امتنع من السجود لكبر في نفسه إذ هو ليس من الملائكة وإنما هو أبو الجان كان مع الملائكة يعبد الله معهم.
عدو لك ولزوجك: أي حواء ومعنى عدو أنه لا يحب لكما الخير بل يريد لكما الشر.
فتشقى: أي بالعمل في الأرض إذ تزرع وتحصد وتطحن وتخبز حتى تتغذى.
لا تظمأ فيها ولا تضحى: أي لا تعطش ولا يصيبك حر شمس الضحى المؤلم في الأرض.
شجرة الخلد: أي التي يخلد من أكل منها.
وملك لا يبلى: أي لا يفنى ولا يبيد ولازم ذلك الخلود.
فبدت لهما سوءاتهما: أي ظهر لكل منهما قُبُلَ صاحبه ودُبُرَهُ فاستاءا لذلك.
وطفقا يخصفان: أي أخذا وجعلا يلزقان ورق الشجر عليهما ستراً لسوءاتهما.
فغوى: أي بالأكل من الشجرة المنهي عنها.
فاجتباه ربه فتاب عليه: أي اختاره لولايته فهداه للتوبة فتاب ليكون عبداً صالحاً.
معنى الآيات:
لما ذكر تعالى ضعف آدم عليه السلام حيث عهد الله إليه بعدم طاعة إبليس حتى لا يخرجه هو وزوجه من الجنة، وأن آدم نسي العهد فأكل من الشجرة ناسب ذكر قصة آدم بتمامها ليكون هو عظة للمتقين وهدى للمؤمنين فقال تعالى لرسوله محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر ﴿وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم﴾ وسجودهم عبادة لله تعالى وتحية لآدم لشرفه وعلمه. فامتثلت الملائكة أمر الله ﴿فسجدوا﴾ كلهم أجمعون ﴿إلاّ إبليس أبى﴾ أن يسجد لما داخله من الكبر ولأنه لم يكن من الملائكة بل كان من الجن إلاّ أنه كان يتعبد الله تعالى مع الملائكة في السماء. هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١١٦).
وقوله تعالى ﴿فقلنا يا آدم﴾ أي بعد أن تكبرّ إبليس عن السجود لآدم نصحنا آدم وقلنا له ﴿إن هذا﴾ أي إبليس ﴿عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى﴾ أي فلا تطيعانه
384
فإن١ طاعته تكون سبب إخراجكما من الجنة ومتى خرجتما منها شقيتما، ووجه الخطاب إلى آدم في قوله تعالى: فتشقى لأن المراد من الشقاء هنا العمل كالزرع والحصاد وغيرهما مما هو ضروري للعيش خارج الجنة والزوج هو المسئول عن إعاشة٢ زوجته فهو الذي يشقى دونها، وقوله تعالى لآدم ﴿إن لك ألا تجوع فيها﴾ أي في الجنة ﴿ولا تعرى﴾، ﴿وإنك لا تضمأ فيها﴾ أي لا تعطش ﴿ولا تضحى٣﴾ أي لا تتعرض لحر شمس ضحى كما هي في الأرض والخطاب وإن كان لآدم فحواء تابعة له بحكم رئاسة الزوج على زوجته، ومن الأدب خطاب الرجل دون امرأته إذ هي تابعة له وقوله تعالى: ﴿فوسوس إليه الشيطان﴾ أي ناداه من طريق الوسوسة. ﴿يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد٤ وملك لا يبلى﴾ فقبل منه ذلك آدم واستجاب لوسوسته فأكلت حواء أولاً ثم أكل آدم وهو قوله تعالى ﴿فأكلا منها﴾ فترتب على ذلك انكشاف سوءاتهما لهما بذهاب النور الساتر لهما بسبب المعصية لله تعالى وقوله تعالى ﴿فطفقا يخصفان عليهما﴾ من ورق الشجر أي فأخذا يشدان ورق الشجر على عوراتهما ستراً لهما لأن منظر العورة يسوء الآدمي ولذلك سميت العورة سوءة وهكذا عصى آدم ربه باستجابته لوسواس عدوه وأكله من الشجرة، فبذلك٥ غوى، إلا أن ربه تعالى اجتباه أي نبياً وقربه ولياً ﴿فتاب٦ عليه وهدى﴾ وهداه للعمل بطاعته ليكون من جملة أصفيائه وصالح عباده. والحمد لله ذي الإنعام والإفضال.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير النبوة المحمدية بذكر مثل هذا القصص الذي لا يعلم إلاّ بالوحي الإلهي.
١ هذا مبدأ: أنّ نفقة الزوجة على زوجها. وأن النفقة الواجبة محصورة في الطعام والشراب والكسوة والسكن.
٢ قال الحسن: المراد بالشقاء: شقاء الدنيا لا يرى ابن آدم فيها إلاّ ناصبا.
٣ يقال: ضحيت للشمس ضحاءً: برزت، وضحَيت بفتح الحاء مثله والمضارع أضحى، والأمر إضح، ومنه قول عمر في عرفة لرجل لازم الخيمة إضحَ لمن جئت له.
٤ روى أبو داود واحمد أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام ما يقطعها وهي شجرة الخلد".
٥ كان هذا قبل النبوة، ومن أذنب مرّة واحدة لا يقال له مذنب ولا غاو ولاسيما بعد التوبة.
٦ ثبت في الصحيح أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "حاجّ موسى آدم فقال له: أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم يا موسى أنت الذي اصطفاك برسالاته وبكلامه أتلومني على أمر كتبه الله عليّ قبل أن يخلقني قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فحجّ آدم موسى".
385
٢- تقرير عداوة إبليس لبني آدم.
٣- بيان أن الجنة لا نصب فيها ولا تعب، وإنما ذلك في الأرض.
٤- التحذير من أخطار الاستجابة لوسوسة إبليس فإنها تُرْدى صاحبها.
٥- ضعف المرأة وقلة عزمها فقد أكلت قبل آدم فسهلت عليه المعصية.
٦- كون المرأة تابعة للرجل وليس لها أن تستقل بحال من الأحوال.
٧- حرمة كشف العورات ووجوب سترها.
٨- إثبات نبوة آدم وتوبة الله عليه وقبولها منه وهدايته إلى العمل بمحابه وترك مكارهه.
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا (١٢٥) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى (١٢٦) وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (١٢٧)
شرح الكلمات:
قال اهبطا منها جميعاً: أي آدم وحواء من الجنة وإبليس سبق أن أبلس وهبط.
بعضكم لبعض عدو: أي آدم وحواء وذريتهما عدو لإبليس وذريته، وإبليس وذريته عدو لآدم وحواء وذريتهما.
فإما يأتينكم مني هدى: أي فإن يأتيكم مني هدى وهو كتاب ورسول.
فمن اتبع هداي: أي الذي أرسلت به رسولي وهو القرآن.
386
فلا يضل: أي في الدنيا.
ولا يشقى: في الآخرة.
ومن أعرض عن ذكري: أي عن القرآن فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه.
معيشة ضنكاً: أي ضيّقة تضيق بها نفسه ور يسعد بها ولو كانت واسعة.
أعمى: أي أعمى البصر لا يبصر.
وقد كنت بصيراً: أي ذا بصر في الدنيا وعند البعث.
قال كذلك: أي الأمر كذلك أتتك آياتنا فنسيتها فكما نسيتها تنسى في جهنم.
وكذلك نجزي من أسرف: أي وكذلك الجزاء الذي جازينا به من نسي آياتنا نجزي من أسرف في المعاصي ولم يقف عند حد، ولم يؤمن بآيات ربه سبحانه وتعالى.
أشد وأبقى: أي أشد من عذاب الدنيا وأدوم فلا ينقضي ولا ينتهي.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في قصة آدم إنه لما أكل آدم وحواء من الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وعاتبهما ربهما بقوله في آية غير هذه ﴿ألم أنهكما١ عن تلكم الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ وأنزل على آدم كلمة التوبة٢ فقالها مع زوجه فتاب الله عليهما لما تم كل ذلك قال ﴿اهبطا٣ منها﴾ أي من الجنة ﴿جميعاً﴾ إذ إبليس العدو قد اُبْلِس من قبل وطُرد من الجنة فهبطوا جميعاً. وقوله: ﴿فإمّا يأتينكم مني هدىً﴾ أي بيان عبادتي تحمله كتبي وتبينه رسلي، ﴿فمن اتبع هداي﴾ فآمن به وعمل بما فيه ﴿فلا يضل﴾ في حياته ﴿ولا يشقى٤﴾ في آخرته
١ هي قوله تعالى: ﴿قالا ربّنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين﴾ من سورة الأعراف وأخبر تعالى عنها في سورة البقرة في قوله تعالى: ﴿فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم﴾.
٢ الآية من سورة الأعراف.
٣ الخطاب لآدم وإبليس وحواء تابعة لزوجها بقرينة: ﴿بعضكم لبعض عدو﴾.
٤ قال ابن عباس رضي الله عنهما: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة وتلا هذه الآية.
387
﴿ومن أعرض عن ذكري﴾ أي فلم يؤمن به ولم يعمل بما فيه ﴿فإن له﴾ أي جزاءً منا له ﴿معيشة ضنكاً١﴾ أي ضيقة تضيق بها نفسه فلم يشعر بالغبطة والسعادة وإن اتسع رزقه كما يضيق عليه قبره ويشقى فيه طيلة حياة البرزخ، ويحشر يوم القيامة أعمى لا حجة له ولا بصر يبصر به. وقد يعجب لحاله ويسأل ربه ﴿لم حشرتني أعمى وقد كنت﴾ في الدنيا وفي البعث ﴿بصيرا﴾ فيجيبه ربه تعالى بقوله: ﴿كذلك﴾ أي الأمر كذلك كنت بصيراً وأصبحت أعمى لأنك ﴿أتتك آياتنا﴾ تحملها كتبنا وتبينها رسلنا ﴿فنسيتها﴾ أي تركتها ولم تلتفت إليها معرضاً عنها فاليوم تترك في جهنم منسياً كذلك وقوله تعالى في الآية الآخرة (١٢٧) ﴿وكذلك نجزي من أسرف﴾ في معاصينا فلم يقف عند حد ولم يؤمن بآيات ربه فنجعل له معيشة ضنكاً في حياته الدنيا وفي البرزخ ﴿ولعذاب الآخرة أشد﴾ ٢ من عذاب الدنيا ﴿وأبقى﴾ أي أدوم حيث لا ينقضي ولا ينتهي.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير عداوة الشيطان للإنسان.
٢- عِدَة الله تعالى لمن آمن بالقرآن وعمل بما فيه أن لا يضل في حياته ولا يشقى في آخرته.
٣- بيان جزاء من أعرض عن القرآن في الدنيا والآخرة.
٤- التنديد بالإسراف في الذنوب والمعاصي مع الكفر بآيات الله، وبيان جزاء ذلك.
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأوْلِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاء اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (١٣٠) وَلا
١ ﴿ضنكا﴾ أي: ضيّقا، يقال: منزل ضنك وعيش ضنك، يستوي في الواحد والجمع والمذكر والمؤنث قال عنترة.
إن يُلحقوا أكرر وإن يستلحموا
أشدد وإن يُلفوا بضنك أنزل
٢ أي: من المعيشة الضنك.
388
تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢)
شرح الكلمات:
أفلم يهد لهم: أي أفلم يُبَيَّنْ لهم.
من القرون: أي من أهل القرون.
لآيات لأولى النهى: أي أصحاب العقول الراجحة إذ النهية العقل.
ولولا كلمة سبقت: أي بتأخير العذاب عنهم.
لكان لزاماً: أي العذاب لازماً لا يتأخر عنهم بحال.
ما يقولون: من كلمات الكفر، ومن مطالبتهم بالآيات.
ومن آناء الليل: أي ساعات الليل واحدها إِنْيٌ أو إِنْوٌ.
لعلك ترضى: أي رجاء أن تثاب الثواب الحسن الذي ترضى به.
إلى ما متعنا به أزواجا منهم: أي رجالاً منهم١ من الكافرين.
زهرة الحياة الدنيا: أي زينة الحياة الدنيا وقيل فيها زهرة لأنها سرعان ما تذبل وتذوى.
لنفتنهم فيه: أي لنبتليهم في ذلك أيشكرون أم يكفرون.
والعاقبة للتقوى: العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى.
معنى الآيات:
بعد ذكر قصة آدم عليه السلام وما تضمنته من هداية الآيات قال تعالى ﴿أفلم يهد﴾ لأهل مكة المكذبين المشركين أي أَغَفَلوا فلم يهد لهم أي يتبين ﴿كم أهلكنا قبلهم من القرون﴾ أي إهلاكنا للعديد من أهل القرون الذين هم يمشون في مساكنهم ذاهبين جائين
١ أزواجاً: رجالاً ونساءً لأنّ الرجل زوج والمرأة زوج والتعبير بلفظ أزواج لأجل الدلالة على العائلات والبيوت أي: إلى ما متّعناهم به من مال وبنين.
389
كثمود وأصحاب مدين والمؤتفكات أهلكناهم بكفرهم ومعاصيهم فيؤمنوا ويوحدوا ويطيعوا فينجوا ويسعدوا. وقوله تعالى: ﴿إن في ذلك﴾ المذكور من الإهلاك للقرون الأولى ﴿لآيات﴾ أي دلائل واضحة على وجوب الإيمان بالله ورسوله وطاعتهما، ﴿لأولى النهى﴾ أي لأصحاب العقول أما الذين لا عقول لهم لأنهم عطلوها فلم يفكروا بها فلا يكون في ذلك آيات لهم. وقوله تعالى ﴿ولولا كلمة سبقت١ من ربك﴾ بأن لا تموت نفس حتى تستوفي أجلها، وأجل مسمن عند الله في كتاب المقادير لا يتبدل ولا يتغير لكان عذابهم لازماً لهم لما هم عليه من الكفر والشرك والعصيان. وعليه ﴿فاصبر﴾ يا رسولنا ﴿على ما يقولون﴾ من أنك ساحر وشاعر وكاذب وكاهن من كلمات الكفر، واستعن على ذلك بالصلاة ذات الذكر والتسبيح ﴿قبل طلوع الشمس﴾ وهو صلاة الصبح ﴿وقبل غروبها﴾ وهو صلاة العصر ﴿ومن آناء الليل﴾ أي ساعات الليل وهما صلاتا المغرب والعشاء، ﴿وأطراف النهار﴾ وهو صلاة الظهر لأنها تقع بين طرفي النهار أي نصفه الأول ونصفه الثاني٢ وذلك عند زوال الشمس، لعلك بذلك ترضى بثواب الله تعالى لك.
وقوله تعالى ﴿ولا تمدن عينيك﴾ أي لا تتطلع ناظراً ﴿إلى ما متعنا به أزواجاً منهم﴾ أشكالاً في عقائدهم وأخلاقهم وسلوكهم ﴿زهرة٣ الحياة الدنيا﴾ أي من زينة الحياة الدنيا ﴿لنفتنهم فيه﴾ أي لنختبرهم في ذلك الذي متعناهم به من زينة الحياة الدنيا وقوله تعالى: ﴿ورزق ربك﴾ أي ما لك عند الله من أجز ومثوبة خير وأبقي٤ خيراً في نوعه وأبقى في مدته، واختيار الباقي على الفاني مطلب العقلاء.
وقوله تعالى: ﴿وأمر أهلك٥ بالصلاة واصطبر عليها﴾ أي من أزواجك وبناتك وأتباعك
١ فيه تقديم وتأخير، الأصل: ولولا كلمة سبقت وأجل مسبق لكان لزاماً. أي لكان العذاب لازماً لهم.
٢ العتمة. واحد الأناء: أنيٌ وإنى وأنى.
٣ قال مجاهد: الأغنياء منهم، وبهذا يشمل النساء والرجال إذ كل منهما زوج فرجح هذا أنّ أزواجاً: مفعول به، ولا يتنافى هذا مع ما في التفسير لأن قولنا: أشكالاً في عقولهم وأخلاقهم وسلوكهم يعني: منطقاً الرجال الأزواج.
٤ ﴿زهرة﴾ منصوب على الحال من الموصول. والزهرة: واحدة الزهور وهو نور الشجر والمراد هنا: الزينة المعجبة المبهرة في النساء والبنين والأنعام والبساتين والجنان.
٥ الخطاب للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجميع أمّته تابعة له في ذلك فكلّ مؤمن يجب عليه أن يقيم الصلاة وأن يأمر أهله بذلك ويصبر. روي أنه لما نزلت هذه الآية كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "يذهب إلى بنته فاطمة كل صباح وقت الصلاة" وكان عمر رضي الله عنه يوقظ أهل داره لصلاة الليل ويصلي وهو يتمثل بالآية: وكان عروة بن الزبير إذا رأى شيئاً من أخبار السلاطين وأحوالهم بادر إلى منزله فدخله وهو يقرأ: ﴿ولا تمدّن عينك..﴾ الآية.
390
المؤمنين بالصلاة ففيها الملاذ وفيها الشفاء من آلام الحاجة والخصاصية واصطبر عليها واحمل نفسك على الصبر على إقامتها. وقوله ﴿لا نسألك رزقاً﴾ أي لا نكلفك مالاً تَعْطِيناه ولكن تكلف صلاة فأدها على أكمل وجوهها. ﴿نحن نرزقك﴾ أي رزقك علينا، ﴿والعاقبة للتقوى﴾ أي العاقبة الحميدة في الدنيا والآخرة لأهل التقوى من عبادنا وهم الذين يخشوننا فيؤدون ما أوجبنا عليهم ويجتنبون ما حرمنا عليهم رهبة منا ورغبة فينا. هؤلاء لهم أحسن العواقب ينتهون إليها نصر في الدنيا وسعادة في الآخرة.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- تقرير مبدأ العاقل من اعتبر بغيره.
٢- بيان فضيلة العقل وشرف صاحبه وانتفاعه به.
٣- وجوب الصبر على دعوة الله والاستعانة على ذلك بالصلاة.
٤- بيان أوقات الصلوات الخمس والحصول على رضى النفس بثوابها.
٥- وجوب عدم تعلق النفس بما عند أهل الكفر من مال ومتاع لأنهم ممتحنون به.
٦- وجوب الرضا بما قسم الله للعبد من رزق انتظاراً لرزق الآخرة الخالد الباقي.
٧- وجوب الأمر بالصلاة بين الأهل والأولاد والمسلمين والصبر على ذلك.
٨- فضل التقوى وكرامة أصحابها وفوزهم بحسن العاقبة في الدنيا والآخرة.
٩- إقام الصلاة بين أفراد الأسرة المسلمة ييسر الله تعالى به أسباب الرزق، وتوسعته عليهم.
وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (١٣٥)
391
شرح الكلمات:
لولا١: أي هَلاَّ فهي أداة تحضيض وحث على وقوع ما يذكر بعدها.
بآية من ربه: أي معجزة تدل على صدقه في نبوته ورسالته.
بينة ما في الصحف الأولى: أي المشتمل عليها القرآن العظيم من أنباء الأمم الماضية وهلاكهم بتكذيبهم لرسلهم.
من قبله: من قبل إرسالنا رسولنا محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإنزالنا كتابنا القرآن.
من قبل أن نذل ونخزى: أي من قبل أن يصيبنا الذل والخزي يوم القيامة في جهنم.
متربص: أي منتظر ما يؤول إليه الأمر.
فستعلمون: أي يوم القيامة.
الصراط السوي: أي الدين الصحيح وهو الإسلام.
ومن اهتدى: أي ممن ضل نحن أم أنتم.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع المشركين طلباً لهدايتهم فقال تعالى مخبراً عن أولئك المشركين الذين متع الله رجالاً منهم بزهرة الحياة الدنيا أنهم أصروا على الشرك والتكذيب ﴿وقالوا لولا٢ يأتينا بآية﴾ أي هلا يأتينا محمد بمعجزة كالتي أتى بها صالح وموسى وعيسى بن مريم تدل على صدقه في نبوته ورسالته إلينا. فقال تعالى راداً عليهم قولتهم الباطلة: ﴿أو لم تأتهم بَيّنة ما في٣ الصحف الأولى؟﴾ أيطالبون بالآيات وقد جاءتهم بينة ما في الصحف الأولى بواسطة القرآن الكريم فعرفوا ما حل بالأمم التي طالبت بالآيات ولما جاءتهم الآيات كذبوا بها فأهلكهم الله. بتكذيبهم٤ فما يؤمن هؤلاء المشركين المطالبين بالآيات أنها لو جاءتهم ما آمنوا بها فأهلكوا كما
١ لولا: أداة تحضيض وجملة: ﴿أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى﴾ حالية أي: قالوا ذلك، والحال أنها أتتهم بيّنة ما في الصحف الأولى، فالاستفهام إنكاري، والبينة: الحجة، والصحف. كتب الأنبياء السابقين كقوله تعالى: ﴿إنّ هذا لفي الصحف الأولى صحف إبراهيم وموسى﴾.
٢ أي: لولا يأتينا محمد بآية توجب العلم الضروري أو بآية ظاهرة كناقة صالح وعصا موسى أو هلاّ يأتينا بالآيات التي نقترحها كتحويل جبال مكة.
٣ هذه البيّنة هي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكتابه القرآن الكريم، محمد أميّ لا يقرأ ولا يكتب، وقد جاء بما لم يأت به غيره من العلوم والمعارف والقرآن الكريم حوى علوم الأولين وقصصهم، وكل علم نافع في الحياتين فأيّة آية أعظم من هذه الآية، كما قال تعالى: ﴿أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك كتاباً يتلى عليهم﴾ ؟!
٤ قال القرطبي: فما يؤمنهم إن أتتهم الآيات أن يكون حالهم كحال أولئك.
392
أهلك المكذبين من قبلهم.
وقوله تعالى في الآية الثانية (١٣٤) ﴿ولو أنا أهلكناهم١ بعذاب من قبله﴾ أي من قبل إرسالنا محمد وإنزالنا الكتاب عليه لقالوا للرب تعالى إذا وقفوا بين يديه: ﴿ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً فنتبع آياتك﴾ فيما تدعونا إليه من التوحيد والإيمان والعمل الصالح وذلك من قبل أن نذل هذا الذل ونخزى هذا الخزي في نار جهنم. فإن كان هذا قولهم لا محالة فلم لا يؤمنون ويتبعون آيات الله فيعملون بما جاء فيها من الهدى قبل حلول العذاب بهم؟ وفي الآية الأخيرة قال تعالى لرسوله بعد هذا الإرشاد الذي أرشدهم إليه ﴿قل كل متربص٢﴾ أي كل منا متربص أي منتظر ما يؤول إليه الأمر ﴿فتربصوا﴾، فسيعلمون في نهاية الأمر وعندما توقفون في عرصات القيامة ﴿من﴾ هم ﴿أصحاب الصراط السوي٣﴾ الذي لا اعوجاج فيه وهو الإسلام الدين الحق، ﴿ومن اهتدى﴾ إلى سبيل النجاة والسعادة ممن ضل ذلك فخسر وهلك.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
١- المطالبة بالآيات سنة متبعة للأمم والشعوب عندما تعرض عن الحق وتتنكر للعقل وهدايته.
٢- الذلة والخزي تصيب أهل النار يوم القيامة لما فرطوا فيه من الإيمان والعمل الصالح.
٣- في الآية إشادة إلى حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: "يحتج به على الله يوم القيامة ثلاثة: الهالك في الفترة، والمغلوب على عقله، والصبي الصغير، فيقول المغلوب على عقله لم تجعل لي عقلا انتفع به، ويقول الهالك في الفترة لم يأتني رسول ولا نبي ولو أتاني لك رسول أو نبي لكنت أطوع خلقك إليك، وقرأ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿لولا أرسلت إلينا رسولاً﴾ ويقول الصبي الصغير كنت صغيراً لا أعقل. قال فترفع لهم نار ويقال لهم: رِدُوها قال فَيَرِدُها من كان في علم الله أنه سعيد، ويتلكأ عنها من كان في علم الله أنه شقي فيقول إياي عصيتم فكيف برسلي لو أتتكم". رواه ابن جرير عند تفسير هذه الآية ﴿ربنا لولا أرسلت إلينا رسولاً﴾.
١ هذه الآية دليل على أن الإيمان بوحدانية الله تعالى مما يقتضيه العقل وتوجبه الفطرة لولا حجب الضلالات وإغواء الشياطين للناس.
٢ هذا جواب عن قولهم: ﴿لولا يأتينا بآية من ربّه﴾ وما بينهما اعتراض والتربّص: الانتظار.
٣ بمعنى المُسْتَوي وهو مأخوذ من التسوية.
393
Icon