تفسير سورة سورة الحج من كتاب جامع البيان في تفسير القرآن
.
لمؤلفه
الإيجي محيي الدين
.
المتوفي سنة 905 هـ
سورة الحج مكية، غير ست آيات وهي :﴿ هذان خصمان ﴾ إلى ﴿ صراط الحميد ﴾
ﰡ
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ ﴾ هي النفخة الأولى قبل قيام القيامة المسماة بنفخة الفزع، وهي من أشراط الساعة، أو المراد قيام القيامة، فإضافة المصدر إلى فاعله أي : شدة تحريكها للأشياء أو زلزال وأهوال هي فيها فمن إضافة المصدر إلى الظرف على الاتساع في إجرائه مجرى المفعول به، أي : الزموا التقوى، فإنه لا ينفعكم في هذا اليوم العظيم إلا التدرع بلباس التقوى،
﴿ يَوْمَ تَرَوْنَهَا ﴾ الزلزلة، ونصب يوم بقوله :﴿ تَذْهَلُ ﴾ الذهول الذهاب عن الأمر مع دهشة، ﴿ كُلُّ مُرْضِعَةٍ ﴾ : في حال إرضاعها، ﴿ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾ : لشدة ذلك اليوم والذهول، والوضع لبيان واقع إن كان المراد حين النفخة الأولى، وإلا فتصوير لهولها، ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ : كأنهم سكارى، ﴿ وَمَا هُم بِسُكَارَى ﴾ : في الواقع، أو كأنهم سكارى من الخمر، وما هم بسكارى منه، ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ فأدهش عقولهم أو فهم سكارى من الخوف،
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ ﴾ : في جداله، ﴿ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ ﴾ عار عن الخير مطلقا جادل قريش، وقالوا : محال إعادة الخلق بعدما صاروا ترابا، وقد نقل أن واحدا منهم قال : أخبرنا عن ربك من ذهب أو فضة أو نحاس فصعقته صاعقة فاختطفته،
﴿ كُتِبَ ﴾ : قضي وقُدّر، ﴿ عَلَيْهِ ﴾ على الشيطان، ﴿ أَنَّهُ ﴾ أي الشيطان، ﴿ مَن تَوَلاَّهُ ﴾ : تبعه، ﴿ فَأَنَّهُ ﴾ : الشيطان، ﴿ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ هذا من باب التهكم،
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم ﴾ أي : فانظروا في بدء خلقكم، لتعلموا أن من قدر على هذا قدر على ذلك ﴿ مِّن تُرَابٍ ﴾ : خلق آدم منه، ﴿ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ﴾ : ذريته من منيّ ﴿ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ﴾ فإن النطفة تصير دما غليظا، ﴿ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ ﴾ : قطعة من لحم قدر ما يمضغ، ﴿ مُّخَلَّقَةٍ ﴾ : تامة، ﴿ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ ﴾ : ساقطة، أو مسواة ومعيوبة، ﴿ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ﴾ : كمال قدرتنا على البدائع والحشو فرد منها، ﴿ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاء ﴾ أن نقره فلا نسقطه، ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ هو وقت الوضع، ﴿ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلا ﴾ نصب على الحال والمراد منه الجنس، ﴿ ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ﴾ كمال قوتكم المعطوف محذوف كما تقول : جاء زيد ثم عمر وثم وثم أي : ثم نريبكم لتبلغوا أو تقديره : لنبين لكم ثم لتبلغوا فكأن الأمر التدريجي من النطفة والعلقة والمضغة ليس إلا للتبيين، وأما تمكنه في الرحم، ثم إخراجه لمصلحتين التبيين والإيصال إلى كمال العقل، أو تقديره ثم فعلنا ما فعلنا لتبلغوا، ﴿ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى ﴾ : قبل الهرم، ﴿ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ﴾ : الهرم والخرف، ﴿ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ﴾، كحال طفولية فسبحان من يعيد كما بدأ، ﴿ وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً ﴾ : ميتة يابسة شرع في دليل آخر للبعث، ﴿ فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ ﴾ : تحركت بالنبات، ﴿ وَرَبَتْ ﴾ : انتفخت، ﴿ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ ﴾ : صنف، ﴿ بَهِيجٍ ﴾ : حسن رائق،
﴿ ذَلِكَ ﴾ : المذكور، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾، بسبب أنه الثابت الموجود فإنه هو الموجد قيل تقديره : ذلك هاد بأنه هو الحق، ﴿ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى ﴾ : لولا قدرته على إحياء الموتى، كيف يحيي النطفة والأرض، ﴿ وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ : فيقدر على مثل ذلك،
﴿ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ ﴾ وإلا فيكون ذلك سيما إخراج الطفل، والتبلغ عبثا لعبا لا طائل تحته – تعالى الله عن ذلك
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ﴾ الأولى بيان حال المقلدين، ولهذا قال :﴿ ويتبع كل شيطان مريد ﴾، وهذه الآية حال المقلدين، ولذلك يقول ليضل الناس، ﴿ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴾ : ليس له علم فطري ولا ما يستند إلى دليل عملي، ولا إلى وحي،
﴿ ثَانِيَ عِطْفِهِ ﴾ كناية عن الكبر أو عن الإعراض حال من فاعل يجادل، ﴿ لِيُضِلَّ ﴾ : الناس، ﴿ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ اللام لام العاقبة، ﴿ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ﴾ : مذلة كقتل وسبي، ﴿ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ ﴾ : المحرق،
﴿ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ ﴾ التفات أو تقديره يقال له ذلك، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ بل عادل ومن العدل تعذيب المسيء وإثابة المحسن، والظالم قد يترك عقاب المسيء للعصبية كما يترك إثابة المحسن قيل : لما أثبت له خزي الدنيا، وعذاب الحريق صار مظنة لأن يتوهم أنه ظلم عظيم، فعكس الأمر، وقال : لست بظلام كما زعمت وقد مر في سورتي آل عمران والأنفال.
﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ ﴾ : طرف من الدين لا على وسط منه كمن هو على طرف من العسكر إن أحس بظفر قرّ وإلا فرّ، ﴿ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ ﴾ : ما يحبه، ﴿ اطْمَأَنَّ بِهِ ﴾ : فاستقر على دينه، ﴿ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ ﴾ : ما يكره، ﴿ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ ﴾ : رجع عن دينه، ﴿ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ نزلت في ناس من الأعراب يسلمون فإن وجدوا عام غيث ونتجت فرسهم وما لهم وولدت امرأتهم رضوا به وإلا ارتدوا،
﴿ يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنفَعُهُ ﴾ : جماد لا يقدر على شيء، ﴿ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ ﴾ : عن المقصد،
﴿ يَدْعُو لَمَن ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ ﴾ : النفع والضر المنفيان قدرته عليهما والمثبت كونه بسبب من الضر المحقق، وبمعزلة عن النفع المترتب ﴿ لَبِئْسَ الْمَوْلَى ﴾ : الناصر، ﴿ وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ﴾ : الصاحب، أعلم أن يدعو الثاني إن كان تأكيدا ليدعوا الأول، فالموصول بصلته مبتدأ وفعل، لذم خبره، والجملة مستأنفة إخبار من الله، وإن كان بمعنى يقول، فالجملة مقول له، أي : يقول الكافر حين يرى ضر عبادته في الآخرة لمن ضره أقرب إلخ، وقيل : اللام في لمن زائدة وقرأ ابن مسعود بلا لام.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، ولما ذكر إضلال قوم وإهداء آخرين قال ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ ﴾ : لا يُسأل عما يفعل،
﴿ مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ ﴾، أي : نبيه، ﴿ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ ﴾ كما قال المشركون : ننتظر عليه الدوائر، ﴿ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاء ﴾ : يمد حبلا إلى سماء بيته، أي : سقفه، ﴿ ثُمَّ لِيَقْطَعْ ﴾ : يختنق، ﴿ فَلْيَنظُرْ ﴾ : يتأمل، ﴿ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ﴾، سماه كيدا لأنه منتهى ما يصل إليه يده، ﴿ مَا يَغِيظُ ﴾ : من نصر الله أو غيظه، وحاصله أن الله ناصر رسوله فمن يتوقع من غيظه خلاف ذلك فليجتهد في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعل الممتلئ غيظا، يعني ليس في يده إلا ما لا يذهب غيظه، وعن بعض معناه فليتوسل إلى بلوغ السماء، فإن النصر من السماء ثم ليقطع ذلك عنه، قيل : المراد بالنصر الرزق وحينئذ الضمير في ينصره لمن،
﴿ وَكَذَلِكَ ﴾ : مثل ذلك الإنزال، ﴿ أَنزَلْنَاهُ ﴾ : القرآن، ﴿ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يُرِيدُ ﴾ أي : ولأن الله يهدي به من يريد هدايته أنزلناه كذلك، فالجملة من التعليل والمعلل المحذوف عطف على ﴿ كذلك أنزلناه ﴾ ألخ،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ ﴾ : يقضي بينهم ويجازي كلا ما يليق به، ﴿ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ إن دخل على الخبر أيضا لمزيد التأكيد، ﴿ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ : فيعرف ما يليق بهم،
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ ﴾ : ينقاد، ﴿ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ ﴾، وقد ورد :﴿ الشمس والقمر حين يبغيان يقعان لله ساجدين ثم لا يطلعان حتى يؤذن لهما ﴾، وفي الحديث ( لا تتخذوا ظهور الدواب منابر فرب مركوب خير أو أكثر ذكرا لله من راكبه )، وبالجملة لا يستحيل سُنّي مسلم أن يكون للجمادات خشوع وتسبيح، ﴿ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ ﴾ : المسلمون، ﴿ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ﴾ : هم الكفار فإنهم غير منقادين لله فهو بحسب المعنى استثناء من ﴿ من في الأرض ﴾، ومن يُجوّز استعمال لفظ واحد في حالة واحدة على معنيين مختلفين فلا إشكال عنده فإنه يحمل السجود على معان، قيل : وكثير من الناس مبتدأ خبره مقدر، أي : مثاب بقرينة مقابلة، وقيل : حق عليه العذاب خبر لهما أي : وكثير حق عليه العذاب، ﴿ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء ﴾
﴿ هَذَانِ خَصْمَانِ ﴾ : فوجان مختصمان، ﴿ اخْتَصَمُوا ﴾ الجمع نظرا إلى المعنى، ﴿ فِي رَبِّهِمْ ﴾ : في أمره ودينه، نزلت في على وحمزة وعبيدة بن الحارث بارزوا مع عتبة وشيبة والوليد يوم بدر، قال علي : أنا أول من يجثوا بين يدي الرحمن للخصومة في القيامة أو في المسلمين واليهود، قالت اليهود : نحن أفضل، كتابنا ونبينا أسبق، فقال المسلمون : نحن أحق بالله آمنا بجميع كتبه ورسله وأنتم تعرفون كتابنا ورسولنا وكفرتم حسدا، أو المراد المؤمنون والكافرون كلهم من أي ملة كانوا، ﴿ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ ﴾ : كما يقطع الثياب بقدر القامة فيخيط، وهذا بيان فصل خصومة الكافر، ﴿ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ ﴾ : الماء الحار الذي لو سقطت نقطة على جبال الدنيا لأذابتها خبر ثان، أو حال من لهم
﴿ يُصْهَرُ ﴾ يذاب، ﴿ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ ﴾ : الأمعاء، ﴿ وَالْجُلُودُ ﴾ الجملة حال،
﴿ وَلَهُم مَّقَامِعُ ﴾ : سياط، ﴿ مِنْ حَدِيدٍ ﴾ لو ضرب جبل بمقمع منها لتفتت،
﴿ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا ﴾ : من النار، ﴿ مِنْ غَمٍّ ﴾ بدل من منها، ﴿ أُعِيدُوا فِيهَا ﴾ : حين خرجوا منها من غير مهلة وتراخ، وعن الحسن أن أيديهم وأرجلهم موثقة لكن يدفعهم لهبها فتردهم مقامعها، ﴿ وَذُوقُوا ﴾ أي : قيل لهم ذوقوا، ﴿ عَذَابَ الْحَرِيق ﴾ فيجمع لهم بين التعذيب الجسماني والإهانة.
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ﴾، هذا بيان فصل خصومة المؤمن، ﴿ يُحَلَّوْنَ ﴾، من حليته إذا جعلت له حليا، ﴿ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ ﴾، جمع سوار، ﴿ مِن ذَهَبٍ ﴾، بيان لأساور، ﴿ وَلُؤْلُؤًا ﴾ بالجر والنصب عطف على لفظ أساور ومحلها أو تقديره ويؤتون لؤلؤا، ﴿ وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ ﴾ : في مقابلة ثياب أهل النار،
﴿ وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ ﴾ : هدوا إلى مكان لا يسمعون فيه إلا الكلام الطيب وهو سلام الملائكة وتهنئتهم في مقابلة وذوقوا عذاب الحريق، ﴿ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ ﴾ : المحمود نفسه أو عاقبته وهو الجنة، وعن بعض الكلام الطيب القرآن، أو كلمة التوحيد في الدنيا، أو قولهم في الجنة : الحمد لله الذي صدقنا وعده، وصراط الحميد : الإسلام،
﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ : في ماضي الزمان، ﴿ و ﴾، ﴿ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : يوما فيوما، ﴿ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ ﴾ : لمناسكهم كلهم، ﴿ سَوَاء الْعَاكِفُ ﴾ : المقيم، ﴿ فِيهِ وَالْبَادِ ﴾ : الطارئ، من قرأ برفع سواء فهو خبر مقدم، والجملة ثاني مفعولي جعلناه إن جعلته للناس حالا وإن جعلت ثاني مفعوليه فهي حال، ومن قرأ بنصبه فثاني مفعوليه أو حال بمعنى مستويا والعاكف مرتفع به، ﴿ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ ﴾ : ميل عن القصد ومفعول يرد متروك ليتناول كل متناول، والباء للحال أو فيه تضمين معنى الهم، وقيل الباء زائدة، ﴿ بِظُلْمٍ ﴾ : بعمد حال أو بدل فالمراد بالإلحاد كل كبيرة أو الشرك، وعند بعض أن من عزم سيئة بمكة أذاقه الله العذاب الأليم، وإن لم يفعلها وهذا من خصوصيات مكة، ﴿ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾، جواب لمن وخبر إن مقدر أي : نذيقه من عذاب أليم وحذف لدلالة جواب الشرط عليه.
﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ ﴾ : واذكر زمان جعلنا له، ﴿ مَكَانَ الْبَيْتِ ﴾ : مباءة مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة وذكر مكان البيت لأن البيت ما كان حينئذ، ﴿ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾ أن مفسرة لبوأنا من حيث إنه تضمن معنى تعبدنا، أي : ابنه على اسمي وحدي، ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ : من الشرك، ﴿ لِلطَّائِفِينَ ﴾ : حوله، ﴿ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾، عبر عن الصلاة بأركانها أو المراد بالقائمين : المعتكفون لمشاهدة الكعبة، وبالركع السجود المصلون،
﴿ وَأَذِّن ﴾ : ناد، ﴿ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ﴾ : بدعوته والأمر به، نقل أنه قام على مقامه أو على الحجر، أو على الصفا أو على أبي قبيس، وقال : يا أيها الناس إن ربكم اتخذ بيتا فحجوه، فأجابه كل شيء من شجر وحجر ومن كتب الله له الحج إلى يوم القيامة، وهم في أصلاب آبائهم : لبيك اللهم لبيك، ﴿ يَأْتُوكَ رِجَالا ﴾ : مشاة جمع راجل، ﴿ وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ ﴾، أي : ركبانا حال معطوف على حال، ﴿ يَأْتِينَ ﴾، صفة لضامر، وجمعه باعتبار معناه، ﴿ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ : طريق بعيد،
﴿ لِيَشْهَدُوا ﴾ : يحضروا، ﴿ مَنَافِعَ ﴾ : دينية ودنيوية، ﴿ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ﴾ : عشر ذي الحجة، أو يوم النحر وثلاثة بعده ويعضد الثاني قوله :﴿ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾، فإن المراد التسمية عند ذبح الهدايا والضحايا، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا ﴾، الأمر للاستحباب أو للإباحة، فالجاهلية يحرمون أكلها، وعند الأكثرين لا يجوز الكل من الدم الواجب، ﴿ وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ : الشديد الفقر المتعفف أو الزمن أو الضرير،
﴿ ثُمَّ لْيَقْضُوا ﴾ : يزيلوا ﴿ تَفَثَهُمْ ﴾، وسخهم بقص الشوارب والأظفار ولبس الثياب وغيرها أو التفث المناسك، ﴿ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ ﴾ : أعمال حجة من وفى بنذره إذا خرج مما وجب عليه مطلقا أو ما نذر وأوجب على نفسه في الحج، ﴿ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴾ : طواف الإفاضة والعتيق القديم أو أعتق من تسلط الجبابرة عليه،
﴿ ذَلِكَ ﴾، أي : الأمر ذلك وهو وأمثاله يطلق للفصل بين كلامين، ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ ﴾ : بترك ما نهى الله أو بتعظيم بيته، والشهر الحرام، والبلد الحرام، والإحرام، ﴿ فَهُوَ ﴾ : التعظيم، ﴿ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ ﴾ : ثوابا، ﴿ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلاَّ مَا يُتْلَى ﴾ : آية تحريمه، ﴿ عَلَيْكُمْ ﴾، هي ﴿ حرمت عليكم الميتة ﴾ الآية في المائدة لا البحائر والسوائب، ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ ﴾ : الذي هو الأوثان بيان للرجس، وتمييز له كعندي عشرون من الدراهم، ﴿ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ : الكذب والبهتان ومنه شهادة الزور،
﴿ حُنَفَاء لِلَّهِ ﴾ : مخلصين له ﴿ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ ﴾، حالان من فاعل اجتنبوا، ﴿ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرّ ﴾ : سقط، ﴿ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ ﴾ : تسلبه، ﴿ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي ﴾ : تسقط، ﴿ بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ ﴾ : بعيد يعني : من أشرك فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك فهو كجيفة اختطفته الطير فتفرق قطعا في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة، و أو للتخيير أو للتنويع فإن من المشركين من لا خلاص له أصلا، ومنهم من يمكن خلاصه بالإيمان لكن على بعد،
﴿ ذَلِكَ ﴾ : الأمر ذلك، ﴿ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ ﴾ البدن : والهدي وتعظيمها استسمانها أو أعمال الحج، ﴿ فَإِنَّهَا ﴾ : تعظيمها، ﴿ مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ ﴾ أي : ناشئ من تقوى قلوبهم أو من أعمال ذوي تقوى القلوب،
﴿ لَكُمْ فِيهَا ﴾ : في الشعائر وهي البدن، ﴿ مَنَافِعُ ﴾ : درها وصوفها وظهرها، ﴿ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ﴾ : وقت النحر وإن سماها وجعلها هدايا أو الأجل المسمى تسمينها وجعلها هديا فما لم تسم بدنا ينتفع به، ﴿ ثُمَّ مَحِلُّهَا ﴾ : منحرها، ﴿ إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيق ﴾، أي عنده يعني الحرم مطلقا.
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ ﴾، لكل أهل دين، ﴿ جَعَلْنَا مَنسَكًا ﴾، بفتح السين مصدر، أي : ذبح المناسك وبكسرها موضع نسك يعني : إراقة الدماء مشروعة في جميع الملل، وعن بعض لم يجعل الله لأمه منسكا غير مكة، ﴿ لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ ﴾ أي : المقصود من المناسك خلوص العبادة له، ﴿ فَإِلَهُكُمْ ﴾ : أنتم ومن قبلكم، ﴿ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا ﴾ : انقادوا له لا ليغيره، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ ﴾ الخاشعين الراضين بقضائه،
﴿ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ ﴾ : في أوقاتها، ﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ : يتجدد إنفاقهم في جهات الخبر،
﴿ وَالْبُدْنَ ﴾ : جمع بدنة وهي الإبل أو البقر، وانتصابه على شريطة التفسير، ﴿ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّهِ ﴾ : أعلام دينه، ﴿ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ ﴾ : منافع الدارين، ﴿ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا ﴾ : عند نحرها يقول : بسم الله والله أكبر لا إله إلا الله اللهم منك ولك، ﴿ صَوَافَّ ﴾ : قائمات على ثلاثة قوائم معقولة يدها اليسرى أو رجلها اليسرى، ﴿ فَإِذَا وَجَبَتْ ﴾ : سقطت، ﴿ جُنُوبُهَا ﴾ : على الأرض أي : ماتت، ﴿ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ ﴾ : السائل من قنع قنوعا إذا سأل، أو فقيرا لا يسأل من القناعة، ﴿ وَالْمُعْتَرَّ ﴾ : الذي يتعرض للمسألة ولا يسأل أو السائل، ﴿ كَذَلِكَ ﴾ : مثل ما وصفنا من نحرها قياما، ﴿ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ ﴾ : مع عظمها، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ : لكي تشكروا إنعامنا،
﴿ لَن يَنَالَ اللَّهَ ﴾ : لن يصل إليه، ﴿ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ ﴾ أي : النية والإخلاص فإنها هي المتقبل منكم، ويجزي عليها نزلت في أن الكفرة إذا ذبحوها لآلهتهم وضعوا عليها من اللحوم ونضحوا عليها من دمائها، وعن بعض كانوا ينضحون بلحومها ودمائها، فقال بعض المسلمين : نحن أحق أن نضح البيت، ﴿ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ ﴾ : كررها تذكيرا لنعمة التسخير وتعليلا له بقوله ﴿ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ ﴾ : تعظموه ولا تثبتوا لغيره الكبرياء، ﴿ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ إلى كيفية التقرب إلى الله بها، ولتضمن تكبروا معنى تشكروا عدّاه بعلى، ﴿ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ ﴾ : الذين أحسنوا أعمالهم،
﴿ إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ ﴾ : يبالغ في مدافعة غائلة المشركين، ﴿ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ ﴾ : في أمانة الله، ﴿ كَفُورٍ ﴾ لنعمته، ومن تقرب بذبيحة إلى غير الله فهو خوان كفور.
﴿ أُذِنَ ﴾ : رخص في القتال، ﴿ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ ﴾ : يريدون القتال والمسلمون كانوا يتظلمون إلى رسول الله من أذى المشركين ويطلبون القتال قبل الأمر به قيل سماهم مقاتلين باعتبار المآل، ومن قرأ بصيغة المجهول فمعناه : يقاتلهم المشركون، ﴿ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ﴾ : بسبب أنهم مظلومون، هي أول آية نزلت في الجهاد حين هاجروا من مكة واستدل بهذه الآية على أن السورة مدنية، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ ﴾ عدة بالنصر وقيل معناه : إنه لقادر على نصرهم من غير قتال لكن صلاحهم في القتال،
﴿ الَّذِينَ أُخْرِجُوا ﴾، بدل من للذين، أو صفة،
﴿ مِن دِيَارِهِمْ ﴾ : مكة،
﴿ بِغَيْرِ حَقٍّ ﴾، موجب استحقوا الإخراج به،
﴿ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ : سوى التوحيد الذي هو موجب للتمكين والتعظيم فالاستثناء بدل من حق، وهذا من باب.
لا عيب فيهم غير أن سيوفهم | بهن فلول من قراع الكتائب |
وقيل منقطع،
﴿ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ﴾ : بالجهاد وإقامة الحدود،
﴿ لَّهُدِّمَتْ ﴾ : خربت،
﴿ صَوَامِعُ ﴾ : الرهبان،
﴿ وَبِيَعٌ ﴾ : كنائس النصارى،
﴿ وَصَلَوَاتٌ ﴾ : كنائس اليهود سميت بها لأنهم لا يصلون إلا فيها،
﴿ وَمَسَاجِدُ ﴾ : للمسلمين،
﴿ يُذْكَرُ فِيهَا ﴾، صفة لمساجد خصت بها تفضيلا، وقيل : صفة للأربع،
﴿ اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا ﴾، يعني : لولاه لهدم في زمن موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام مواضع عباداتهم باستيلاء الكفرة،
﴿ وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ ﴾ : من ينصر دينه ويعلي كلمته،
﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ : على خلقه،
﴿ عَزِيزٌ ﴾ : لا يغلبه غالب،
﴿ الَّذِينَ ﴾، بدل أو صفة لمن ينصره، ﴿ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ ﴾ : نصرناهم فيتمكنوا من البلدان، ﴿ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ ﴾ : مرجع الأمور إلى حكمه وفيه تأكيد لما وعد من النصرة، قيل معناه : تصير الأمور إليه بلا منازع فيبطل كل ملك سوى ملكه، وقيل له : عاقبة الأمور فيجزيهم،
﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ : رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٤٢:﴿ وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ ﴾ : رسلهم فأنت لست بأوحدي في التكذيب فلا تغتم.
﴿ وَكُذِّبَ مُوسَى ﴾ : مع ظهور معجزاته كذبه القبط لا قومه بنو إسرائيل، ﴿ فَأَمْلَيْتُ ﴾ : أمهلت، ﴿ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ ﴾ : إنكاري عليهم بتبديل منحتهم محنة وعمارتهم خرابا.
﴿ فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا ﴾ أي : أهلكنا كثيرا من القرى بإهلاك أهلها كأين منصوب بشريطة التفسير أو مرفوع، وأهلكناها خبره، والجملة بدل من فكيف كان نكير ولذلك جاء بالفاء، ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ : أهلها جملة حالية، ﴿ فَهِيَ خَاوِيَةٌ ﴾ : ساقطة، ﴿ عَلَى عُرُوشِهَا ﴾ على سقوفها أي : خرت سقوفها ثم سقطت حيطانها فوق السقوف، أو خالية مع سلامة عروشها، والجملة عطف على أهلكناها، ﴿ وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ ﴾ أي : وكم من بئر عامرة متروكة الاستقاء منها أهلكنا ملاكها، ﴿ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ ﴾ : رفيع أو مجصّص محكم أهلكنا أهلها وأخليناه عن ساكنيه،
﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ ﴾، حث على السفر والتفكير في نقم ما حل بالأمم الماضية المكذبة، ﴿ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ﴾ : ما يجب أن يعقل كالأيمان بالرسل، ﴿ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ﴾ : ما يجب أن يسمع كالتذكير، ﴿ فَإِنَّهَا ﴾ : ضمير القصة، ﴿ لا تَعْمَى الأَبْصَارُ ﴾ أي : ليس الخلل بمشاعرهم، ﴿ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾ أي : إنما العمى بقلوبهم أو لا يعتد بعمى الأبصار، فكأنه ليس بعمى، ولكن العمى عمى القلوب، وذكر الصدور للتأكيد، ونفي التجوز كأنه قال : ما نفيت العمى عن البصر وأثبت للقلب سهوا، وفلتة، بل تعمدت به إياه تعمدا،
﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ ﴾ : سخرية وتكذيبا لك، ﴿ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ﴾ : ينجزه ولو بعد حين كان كما نجوا يوم بدر، ﴿ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ ﴾ أي : مقدار ألف سنة عند عباده كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه، لأنه قادر لا يفوته شيء بالتأخير أو كيف يستعجلون بالعذاب، وإن يوما من أيام الآخرة التي هي أيام عذابهم كألف سنة من أيام الدنيا، أو إن يوما من الأيام الستة التي خلق الله الخلق فيها كألف سنة فالمدد الطوال عندكم قصار عنده، أو كيف يستعجلون، وإن يوما من العذاب بشدته كألف سنة !
﴿ وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا ﴾ : أمهلتهم كما أمهلتكم وإعرابه مثل ما مر، ﴿ وَهِيَ ظَالِمَةٌ ﴾ مثلكم، ﴿ ثُمَّ أَخَذْتُهَا ﴾ : بالعذاب، ﴿ وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴾ : فأجازيهم.
﴿ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ﴾ : ليس إلى من حسابكم شيء، أمركم على الله إن شاء عجل العذاب، وإن شاء أخر تاب عليكم وإن شاء أضل،
﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ﴾ : عما فرط عنهم، ﴿ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ ﴾ : هو الجنة،
﴿ وَالَّذِينَ سَعَوْا ﴾ : بالرد والإبطال، ﴿ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ ﴾ : مسابقين بزعمهم ظانين أنهم يسبقوننا فلا تقدر عليهم، أو سابقين لمن يسعى في تحقيق آياتنا وإثباتها،
﴿ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلا نَبِيٍّ ﴾ الرسول من يأتيه الملك بالوحي والنبي يطلق أيضا على من يأتيه بإلهام أو منام قيل هو من له شريعة مجددة، والنبي أعم أو هو من أنزل عليه كتابا والنبي أعم، ﴿ إِلاَّ إِذَا تَمَنَّى ﴾ : أحب شيئا واشتهاه من غير أمر الله، أو معنى تمنى قرأ وتلا، ﴿ أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ ﴾ : وجد إليه سبيلا أو ألقى في قراءته فأدخل في مقروئه ما ليس منه قد ذكر أكثر المفسرين –بل كلهم- قصة الغرانيق بروايات كلها مرسلة أو منقطعة إلا رواية واحدة عن ابن عباس فإنها متصلة، وقد أنكر كثير من العلماء هذه الحكاية وبالغوا في الإنكار وطعنوا في الرواة، وقال بعض : إنها من وضع الزنادقة وهي أنه عليه السلام تمنى أن يأتيه من ربه ما يقرب بينه وبين قومه رجاء أن يسلموا، فكان يوما في محضر قريش إذ أنزل عليه سورة ( والنجم ) فأخذ يقرأها، فلما بلغ ومناة الثالثة الأخرى ألقى الشيطان في قراءته فسبق لسانه : سهوا أو تكلم الشيطان فحسب أن القارئ رسول الله أو نام نومة فجرى على لسانه تلك الغرانيق العلى، وإن شفاعتهن لترتجى، فلما وصل قراءته إلى السجدة سجد فسجد من في النادي من المسلم والمشرك، وفرح المشركون فأتاه جبريل وقال : ماذا صنعت ؟ ! لقد تلوت ما لم آتك به عن الله فحزن حزنا وخاف خوفا فعزاه الله بتلك الآية يعني : ما أنت بأوحدي بهذا، بل مكنا الشيطان ليلقي في أمانيهم كما ألقى في أمانيك ابتلاء منا ليزيد المنافقون شكا وظلمة، والمؤمنون يقينا ونورا، ﴿ فَيَنسَخُ اللَّهُ ﴾ : يزيل ويبطل، ﴿ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ ﴾ : يثبتها بحيث لا تشتبه بكلام غيره، ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ : فيما يفعل،
﴿ لِيَجْعَلَ ﴾، أي : مكنا الشيطان منه ليجعل، ﴿ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً ﴾ : ضلالة، ﴿ لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ﴾ : شك ونفاق، ﴿ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ ﴾ : المشركين فإنهم لما سمعوا نسخ قول الشيطان ازدادوا غيظا وظنوا أنه ندم مما ألقى من عند نفسه، ﴿ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ ﴾ : المنافقين والمشركين، ﴿ لَفِي شِقَاقٍ ﴾ : خلاف وعناد، ﴿ بَعِيدٍ ﴾ : عن الحق شديد،
﴿ وَلِيَعْلَمَ ﴾، عطف على ليجعل، ﴿ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ﴾ : القرآن وهم المسلمون، ﴿ أَنَّهُ ﴾ : ما أوحينا إليك، ﴿ الْحَقُّ ﴾ : الصدق، ﴿ مِن رَّبِّكَ ﴾، حال أو خبر بعد خبر، ﴿ فَيُؤْمِنُوا بِهِ ﴾ : بالقرآن أو بالله، فإن العقلاء لما رأوا أنه أعرض عما تكلم به، ولم يعبأ ببيان خطأه ولم يبال بمزيد عداوتهم مع كثرة حرصه بألفتهم، عملوا أن الشيطان دخل في أمنيته فنسخه الله، وعصم نبيه، فزادوا يقينهم وثبتوا* دينهم، ﴿ فَتُخْبِتَ ﴾ : تخشع، ﴿ لَهُ ﴾ : لله، ﴿ قُلُوبُهُمْ ﴾ : واطمأن، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : في الدارين،
﴿ وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ ﴾ : شك، ﴿ مِّنْهُ ﴾ : من القرآن، أو مما ألقى الشيطان قائلين : ما باله ذكرها بخير ثم ارتد عنه، ﴿ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ ﴾ : القيامة أو الموت، ﴿ بَغْتَةً ﴾ : فجأة، ﴿ أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ ﴾ : كيوم بدر فإنه يوم لا خير للكفار فيه كما يقال : ريح عقيم، أو المراد يوم القيامة، فإنه يوم لا ليل له فكأنه قال : تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها فوضع الظاهر موضع المضمر للتهويل،
﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾ : لا منازع له بوجه، ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين المؤمنين والكافرين، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ : الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٥٦:﴿ الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ ﴾ : لا منازع له بوجه، ﴿ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ﴾ : بين المؤمنين والكافرين، ﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ : الفاء في خبر الثاني دون الأول تنبيه على أن عقابهم مسبب من أعمالهم بخلاف إثابة المسلمين فإنها فضل.
﴿ وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ : تركوا الأوطان في طريق طاعته ورضاه، ﴿ ثُمَّ قُتِلُوا ﴾ : فيها، ﴿ أَوْ مَاتُوا ﴾ : حتف أنفهم، ﴿ لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا ﴾ هم أحياء عند ربهم يرزقون، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ : فإنه يرزق من يشاء بغير حساب،
﴿ لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلا يَرْضَوْنَهُ ﴾ : لما فيه ما تشتهي أنفسهم، ﴿ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ ﴾ : بأحوال الفريقين، ﴿ حَلِيمٌ ﴾ : لا يعاجل بالعقوبة،
﴿ ذَلِكَ ﴾ : الأمر ذلك، ﴿ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ﴾ ولم يزد على مثله ابتداء الإضرار عقابا للازدواج فإن العقاب جزاء من عقب فعل، ﴿ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ ﴾ : بعقوبة أخرى، ﴿ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ ﴾، فإنه مظلوم، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ ﴾ : للمنتصر، ﴿ غَفُورٌ ﴾ : إن زاد في الجزاء، نزلت في رهط من المسلمين لقوا جمعا من المشركين في شهر محرم فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوا فأبوا فقاتلوا وبغوا فنصر الله المسلمين،
﴿ ذَلِكَ ﴾ : النصر، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾، بسبب قدرته على تغليب الأمور بعضها على بعض يداول بين المتعاندين كما يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الآخر، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ : فيجازيهم بما يسمع ويبصر،
﴿ ذَلِكَ ﴾ : القدرة التامة والعلم الكامل، ﴿ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ ﴾ : الثابتة إلهيته، ﴿ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ ﴾ وكل ما يدعون إلها دونه باطل الألوهية فلا إله سواه، ﴿ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴾ : لا شيء أعلى منه وأكبر شأنا فلا محالة يكون قديرا عليما،
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً ﴾ : برفع تصبح لأنه بعد استفهام بمعنى الخبر أي : قد رأيت فلا يكون له جواب والعدول إلى المضارع للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ ﴾ : واصل علمه أو لطفه إلى كل جليل ودقيق، ﴿ خَبِيرٌ ﴾ : بالتدبير،
﴿ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ ﴾ : في ذاته، ﴿ الْحَمِيدُ ﴾ : المستوجب للحمد.
﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ ﴾ : فتنتفعون به، ﴿ وَالْفُلْكَ ﴾ عطف على ما، ﴿ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ ﴾، حال، ﴿ وَيُمْسِكُ السَّمَاء ﴾ : من، ﴿ أَن تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ ﴾ : بمشيئته كما تقع يوم القيامة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لرءوف رَّحِيمٌ ﴾ حيث أثبت لهم المنافع، ودفع عنهم المضار،
﴿ وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ﴾ : بعد ما كنتم جمادا ترابا ونطفة، ﴿ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ﴾ : في الآخرة، ﴿ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُور ﴾ : جحود لنعم ربه،
﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا ﴾ أي : لكل أمة نبي جعلنا شريعة، ﴿ هُمْ نَاسِكُوهُ ﴾ : عاملوه، ﴿ فَلا يُنَازِعُنَّكَ ﴾ : سائر أرباب الملل، ﴿ فِي الأَمْرِ ﴾ : في أمر الدين أو المراد نهيه –عليه السلام- عن منازعتهم، أي : لا يلتفت إلى منازعتهم ولا تمكنهم من المنازعة، أو معناه : لكل قوم جعلنا وقدرنا طريقة هم فاعلوها البتة بحكم القدر فلا تتأثر منازعتهم فيك ولا يصرفنك عما أنت عليه من الحق ونحو ﴿ ولكل وجهة هو موليها ﴾ [ البقرة : ١٤٨ ]، قيل : نزلت فيمن جادل وقال : ما لكم تأكلون ما تقتلونه ولا تأكلون ما قتله الله ؟ ! ﴿ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ ﴾ : إلى عبادته، ﴿ إنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ ﴾ : طريق موصل إلى المقصود،
﴿ وَإِن جَادَلُوكَ ﴾ : مراء وعنادا، ﴿ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ : هو أعلم بما تفيضون فيه، وكفي به شهيدا بيني وبينكم،
﴿ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ هذا خطاب من الله لرسوله وللمجادلين، أو من تتمة ما يؤمر بأن يقول لهم أي قل : الله يفصل بينكم أيها الكافرون والمؤمنون فتعرفون حينئذ الحق من الباطل نحو :﴿ فلذلك فادع واستقم كما أمرت ﴾ إلى قوله ﴿ الله يجمع بيننا وإليه المصير ﴾ [ الشورى : ١٥ ]،
﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ ما في السماء والأرض، ﴿ فِي كِتَابٍ ﴾ هو اللوح المحفوظ، ﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ : إثباته في كتاب وحفظه، ﴿ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ : فلا يهمنك جدالهم لأنا قدرناه وهو بمرأى منا،
﴿ وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ ﴾ : ما لا برهان سماوي ولا دليل عقلي في عبادته، بل اختلقوه وآتفكوه وتلقوا عن ضُلاّل أسلافهم، ﴿ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ ﴾ : ليس لهم ناصر ينصرهم من نكال الله لأنهم وضعوا عبادة جماد موضع عبادة الله،
﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ﴾ : على أمتك، أو على المشركين، ﴿ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ ﴾ : ظاهرات الدلالة على العقائد الحقّة، ﴿ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنكَرَ ﴾ : الإنكار، ، أو العبوس والكراهة، ﴿ يَكَادُونَ يَسْطُونَ ﴾ : يبطشون، ﴿ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكُمُ ﴾ : بطشكم وقهركم عليهم، أو من القرآن الذي تكرهونه، ﴿ النَّارُ ﴾ كأنه قيل : ما هو ؟ قال : النار أي : هو النار، ﴿ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ استئناف، أو النار مبتدأ وهذه الجملة خبره ﴿ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾ : النار.
﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ ﴾ بين قصة مستغربة كالمثل السائر، ﴿ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ﴾ : للمثل، ﴿ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ ﴾ : تدعونهم أي : الأصنام، ﴿ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا ﴾ : لن يقدروا على خلقه مع صغره، ﴿ وَلَوِ اجْتَمَعُوا ﴾ : الأصنام، ﴿ لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ﴾، أي بل هم أعجز من أن يخلقوا، فإنهم لا يقدرون على استنفاذ ما اختطف هذا المخلوق الضعيف عنهم، ﴿ ضَعُفَ الطَّالِبُ ﴾ : الصنم أو الذباب أو العابد، ﴿ وَالْمَطْلُوبُ ﴾ : الذباب أو الصنم أو المعبود ووجه الإطلاق الطالب والمطلوب على كل ظاهر،
﴿ مَا قَدَرُوا اللَّهَ ﴾ : ما عظموه وما عرفوه، ﴿ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ : حق عظمته ومعرفته، حيث أشركوا به شيئا لا يقاوم أضعف مخلوقاته، ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ ﴾ : قادر على كل شيء، ﴿ عَزِيزٌ ﴾ : لا يغلبه غالب،
﴿ اللَّهُ يَصْطَفِي ﴾ : يختار، ﴿ مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلا وَمِنَ النَّاسِ ﴾ : يبلغون رسالاته إلى عباده لما قرر الوحدانية شرع يثبت أن في الملك والبشر رسلا، لا الملك بنات الله، ولا البشر غير مستحقين للرسالة، ﴿ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ : مدرك للجزئيات،
﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ : عالم بواقع الأشياء ومترقبها، ﴿ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾، لأنه خالقها ومالكها فالله أعلم حيث يجعل رسالته، ولا يسأل عما يفعل،
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا ﴾ أي : صلوا، ﴿ وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ ﴾ : أنواع العبادات، ﴿ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ ﴾ : ما هو أصلح كصلة الأرحام ومكارم الأخلاق، ﴿ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ أي : افعلوا كل ذلك راجين الفلاح من فضل الله لا متكلين على الأعمال واثقين عليها،
﴿ وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ ﴾ : في سبيله، ﴿ حَقَّ جِهَادِهِ ﴾ : أقيموا بمواجبه وشرائطه على وجه التمام قدر الوسع، وإضافة الجهاد إلى الله للملابسة، ﴿ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ﴾ : اختاركم يا أمة محمد لنصرة دينه، ﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾ : ما كلفكم ما لا تطيقون فلا عذر لكم في تركه وقد ورد ( بعثت بالحنيفية السمحة )، ﴿ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ﴾، أي : أعني بالدين ملة إبراهيم نحو : الحمد لله الحمد، أو مصدر لفعل دل عليه مضمون ما قبله بحذف مضاف، أي : وسع دينكم توسعة ملته وهو أبو نبينا ونبينا كالأب لأمته أو لأن أكثر العرب من ذريته فهو من باب التغليب، ﴿ هُوَ ﴾ : أي : الله، ﴿ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ أي : بهذا الاسم الأكرم، ﴿ مِن قَبْلُ ﴾ : في سائر الكتب، ﴿ وَفِي هَذَا ﴾ : القرآن، وفي الشواذ الله بدل هو، وفي النسائي :( ما دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثاء جهنم، قل رجل : يا رسول الله : وإن صام وصلى ؟ قال : نعم وإن صام وصلى، فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله )، وقيل الضمير لإبراهيم فإنه دعا بقوله :﴿ ومن ذريتنا أمة مسلمة لك ﴾ [ البقرة : ١٢٨ ]، وفي هذا معناه وفي القرآن بيان تسميته إياكم بهذا الاسم حيث حكى فيه مقالته، أو لما كان تسميتهم في القرآن بسبب تسميته من قبل كأنها منه، وفيه بعد ﴿ لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ ﴾ : يوم القيامة بأنه بلغكم رسالته ولعصمته تقبل شهادته لنفسه قيل : يشهد عليكم بطاعة من أطاع وعصيان من عصى، ﴿ وَتَكُونُوا شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ ﴾ : بأن الرسل بلغتهم، ﴿ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ : أي : إذا خصكم بتلك الكرامات فتقربوا إليه بأنواع الطاعات، ﴿ وَاعْتَصِمُوا ﴾ : وثقوا، ﴿ بِاللَّهِ ﴾ لا إلى سواه، ﴿ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى ﴾ هو، ﴿ وَنِعْمَ النَّصِيرُ ﴾ هو فإنه لا مولى ولا نصير على الحقيقة سواه.