تفسير سورة الحج

التفسير المظهري
تفسير سورة سورة الحج من كتاب التفسير المظهري .
لمؤلفه محمد ثناء الله المظهري . المتوفي سنة 1225 هـ

سورة الحجّ
ثمان وسبعون اية بعضها مدنيّه وأكثرها مكيّة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ اى عقابه بان تطيعوه إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ اى تحريكها الأشياء على الاسناد المجازى او تحركها فيها فاضيف إليها اضافة معنوية بتقدير في او اضافة المصدر الى الظرف على اجرائه مجرى المفعول به شَيْءٌ عَظِيمٌ اى هائل ان مع صلتها في مقام التعليل علل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة ليتصوروها بعقولهم ويعلموا انه لا يومنهم منها سوى التدرع بلباس التقوى اختلفوا في هذه الزلزلة فقال علقمة والشعبي هذا من اشراط الساعة تكون قبل قيام الساعة قال جلال الدين المحلى قبل طلوع الشمس من مغربها واختار هذا القول ابن العربي والقرطبي بقرينة قوله تعالى.
يَوْمَ تَرَوْنَها
اى الساعة او الزلزلة ظرف لقوله تَذْهَلُ
بسببها كُلُّ مُرْضِعَةٍ
اى امرأة ألقمت الرضيع ثديها يقال امرأة مرضع بلا هاء إذا أريد بها الصفة مثل حائض وحامل يعنى من شانها ان ترضع وإذا أريد به الفعل حالا يقال مرضعة عَمَّا أَرْضَعَتْ
ما موصولة او مصدرية يعنى تدهش من هول تلك الزلزلة فتذهل عمن ترضعها وتنزع ثديها من فيه او تذهل عن ارضاعها هذه الجملة خبر ثان لان والرابط ضمير ترونها او تعليل بعظم شانها وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها
اى تسقط جنينها من هول تلك الزلزلة عطف على تذهل قال الحسن تذهل المرضعة عن ولدها يعنى فطام وتضع الحامل ما في بطنها من غير تمام وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
قال الحسن ترى الناس سكارى من الخوف وَما هُمْ بِسُكارى
من الشراب قرأ حمزة والكسائي سكرى وما هم بسكرى قال البغوي هما لغتان لجمع السكران قال البيضاوي وقرأ سكرى كعطشى اجراء للسكر مجرى العلل أفرد الضمير في ترى الناس بعد جمعه في ترونها لان الساعة يراها الجميع واثر السكر انما
250
يراه كل واحد على غيره وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ
فارهقهم هوله بحيث طير عقولهم واذهب تميزهم استدراك لدفع توهم خفة الأمر الناشي عن نفى السكر قالوا هذه الآية تدل على ان هذه الزلزلة تكون في الدنيا لان بعد البعث لا يكون حبل ولارضاع ويرد عليه ان قوله تعالى يا ايها الناس اتقوا اما خطاب للناس عامة واما للموجودين عند نزول الآية خاصة وعلى كلا التقديرين كون زلزلة الساعة الّتي هى من شرائطها شديدة هائلة لا يصلح تعليلا للامر بالتقوى في حق المخاطبين لان شدتها وهولها لا تلحق الا بالموجودين عندها لا بجميع الناس ولا بالموجودين في زمن النبي ﷺ وقال ابن عباس رضى الله عنه زلزلة الساعة قيامها وذلك بعد نفخة البعث وقيام الناس من قبورهم واختاره الحليمي وغيره قالوا خرج هذه الآية مخرج المجاز والتمثيل لشدة الهول والفزع لا على الحقيقة نظيره قوله تعالى يوما يجعل الولدان شيبا ولا شيب فيه انما هو مجاز لشدة الهول واستدلوا على ذلك بما أخرجه احمد والترمذي وصححه عن عمران بن حصين قال كنا مع رسول الله ﷺ فنزلت يا ايها الناس اتقوا ربكم ان زلزلة الساعة شيء عظيم الى قوله عذاب الله شديد قال أتدرون اىّ يوم ذلك قالوا الله ورسوله اعلم قال يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار الحديث وقال البغوي روى عن عمران بن حصين وابى سعيد الخدري وغيرهما ان هاتين الآيتين نزلتا في غزوة بنى المصطلق ليلا فنادى رسول الله ﷺ فقرأ عليهم فلم ير اكثر باكيا من تلك الليلة فلما أصبحوا لم يحطوا السرج عن الدواب ولم يضربوا الخيام ولم يطبخوا قدرا والناس من بين باك او جالس حزين متفكر فقال رسول الله ﷺ أتدرون يوم ذلك قالوا الله ورسوله اعلم قال ذلك يوم يقول الله عزّ وجلّ لآدم قم فابعث بعث النار من ولدك فيقول آدم من كل كم كم فيقول الله عزّ وجلّ من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعين الى النار وواحد الى الجنة فكبر ذلك على المسلمين وبكوا وقالوا فمن ينجو كما يا رسول الله فقال رسول الله
251
صلى الله عليه وسلم بشروا وسدّدوا وقاربوا فان معكم خليقتين ما كانتا في قوم إلا كثرتاه يأجوج وماجوج ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال لارجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبروا وحمدوا الله ثم قال انى لارجو ان تكونوا ثلثى اهل الجنة وان اهل الجنة مائة وعشرين صفا ثمانون منها أمتي وما المسلمون في الكفار الا كالشامة في جنب البعير وكالرقمة في ذراع الدابة بل كالشرة السوداء في الثور الأبيض وكالشعرة البيضاء في الثور الأسود ثم قال تدخل من أمتي سبعون الفا الجنة بغير حساب فقال عمر سبعون الفا قال نعم ومع كل واحد سبعون الفا فقام عكاشة بن محصن فقال يا رسول الله ان يجعلنى الله منهم فقال ﷺ أنت منهم فقام رجل من الأنصار فقال ادع الله ان يجعلنى منهم فقال ﷺ سبقك بها عكاشة وأجاب اصحاب القول الاول ان هذا الحديث
لا يدل على ان الزلزلة تكون حين الأمر ببعث النار بل يكون ذلك اليوم والأمر متاخر عنها فكانه ﷺ لما اخبر عن الزلزلة الّتي كانت متقدمة عن النفخة الاولى ذكر ما يكون في ذلك اليوم من الأهوال العظام وهو قوله لآدم البث بعث النار فيكون ذلك في أثناء ذلك اليوم ولا يقتضى ان يكون ذلك متصلا بالنفخة الاولى قلت وهذا الجواب ضعيف لان حديث ابى سعيد الّذي أخرجه الشيخان في الصحيحين عنه عن النبي ﷺ ورد بلفظ يقول الله يا آدم فيقول لبيك وسعديك والخير في يديك قال اخرج بعث النار قال وما بعث النار قال من كل الف تسعمائة وتسعة وتسعون فعنده يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد قالوا يا رسول الله وأينا ذلك الواحد قال ابشروا فان منكم رجلا ومن يأجوج ومأجوج الف ثم قال والّذي نفسى بيده أرجو ان تكونوا ربع اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا ثلث اهل الجنة فكبرنا فقال أرجو ان تكونوا نصف اهل الجنة فكبرنا قال ما أنتم في الناس الا كالشعرة السوداء في جلد ثور ابيض او كشعرة بيضاء في جلد ثور اسود فان هذا
252
الحديث صريح في اقتران مشيب الصغير ووضع ذات حمل حملها بالأمر ببعث النار بل تقدم البعث على الزلزلة.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ اى في ذات الله وصفاته وأحكامه بِغَيْرِ عِلْمٍ نزلت في النضر بن الحارث كان كثير الجدال وكان يقول الملئكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين وكان ينكر البعث واحياء من صار ترابا كذا اخرج ابن ابى خاتم عن ابى مالك وَيَتَّبِعُ فى المجادلة او في عامة أحواله كُلَّ شَيْطانٍ اعترضه من الجن والانس مَرِيدٍ المرد النجرد العرى ومنه الأمرد لتجرده عن الشعر والمريد والمارد بمعنى العاري من الخير المستقر في الشر وفي القاموس مرد كنصر وكرم مرود او مرادة فهو مارد ومريد ومتمرد أقدم أو عتا او هو ان يبلغ الغاية الّتي تخرج بها من جملة ما عليه ذلك الصنف ومرده قطعه ومرّق عرضه وعلى الشيء مرن واستمر.
كُتِبَ اى قضى عَلَيْهِ اى على الشيطان أَنَّهُ اى الشان مَنْ تَوَلَّاهُ اى تبعه فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ ان المفتوحة مع جملتها خبر لمبتدأ محذوف والجملة بعد الفاء جزاء لمن ان كانت شرطية وجوابه ان كانت موصولة والمعنى ان من تبع الشيطان فالامر ان الشيطان يضل تابعه عن سواء السبيل فلم ب؟؟؟ بل عليه وَيَهْدِيهِ اى يريه طريق النار او يوصله إِلى عَذابِ السَّعِيرِ
بالحمل الى ما يوصله وقيل ضمير انه راجع الى الشيطان ومن موصولة او موصوفة مع صلتها او صيغتها خبر لان والضمير المنصوب في تولاه راجع الى التابع وألفا في فانه يضله للعطف على انه من تولاه والمعنى قضى على الشيطان انه نفس تولى تابعه او الّذي تولى تابعه اى أحبه او استولى عليه فقضى ان الشيطان يضله كذا قال الزجاج وجملة ومن الناس من يجادل في الله حال من فاعل اتقوا تقديره يا ايها الناس اتقوا ومنكم من يجادل ولم يتق ففيه التفات من الخطاب الى الغيبة او معترضة.
يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي فى شك مِنَ الْبَعْثِ اى من إمكانه وكونه مقدورا لنا فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ يعنى خلقنا جنسكم وهو شامل لمن يولد ومن يسقط لكونه مستعدا لان يصير إنسانا يعنى فانظروا في بدأ خلقكم فانه يزيل ريبكم
253
فانا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق أبيكم آدم منه او المعنى خلقناكم من الاغذية الّتي تنبت من التراب الّتي يتولد منها المنى ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ اى منى مشتق من النطف بمعنى الصب ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ قطعة من اللحم وهى في الأصل قدر ما يمضغ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ قال ابن عباس اى تامة الخلق وغير تامة الخلق وقال مجاهد مصورة وغير مصورة وقيل المخلقة الولد يأتي به المرأة لوقته غير مخلقة السقط فالمراد بغير المخلقة على هذه الأقوال السقط وقيل المخلقة المسواة الّتي لا نقص فيها ولا عيب وغير المخلقة ما فيه نقص وعيب كانّ الله عزّ وجلّ يخلق المضغ متفاوتة منها ما هو كامل الخلق أملس من العيوب ومنها ما هو على عكس ذلك فيتبع ذلك التفاوة تفاوة الناس في خلقتهم وصورهم وطولهم وقصرهم وكما لهم ونقصانهم فعلى هذا ليس المراد بغير المخلقة السقط فحينئذ لا حاجة الى ما قلنا ان السقط من جنس الإنسان من حيث الاستعداد لكن الصحيح هو الاول والمراد بغير المخلقة السقط قال البغوي روى علقمة عن ابن مسعود قال ان النطفة إذا استقرت في الرحم أخذها ملك بكفه فقال اى رب مخلقة او غير مخلقة فان قال غير مخلقة قذفها الرحم دما ولم يكن نسمة وان قال مخلقة قال الملك اذكر أم أنثى أشقى أم سعيد ما الاجل ما العمل ما الرزق فيقال له اذهب الى أم الكتاب فانك تجد فيها كل ذلك فيذهب فيجدها في أم الكتاب فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي على آخر صفته لِنُبَيِّنَ لَكُمْ تتعلق بخلقناكم مقيدا بما ذكر يعنى لنبين ونظهر لكم بهذا التدريج كمال قدرتنا وحكمتنا حتى تستدلوا به على البعث بان ما قبل التغير والفساد والتكون مرة في بدو الخلق يقبلها ثانيا عند الاعادة ومن قدر على تغييره وتصويره اولا قدر على ذلك ثانيا وحذف المفعول ايماء الى ان أفعاله هذه يتبين بها من قدرته وحكمته مالا يحيط به الذكر وقيل معناه لنبين لكم ما تأتونه وما تذرونه وما تحتاجون اليه في العبادة يعنى خلقناكم لاجل التكليف وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ حال بتقدير ونحن نقرأ وعطف على انا خلقناكم نعنى نثبت و
254
نسكن في الأرحام فلا تمجه ولا تسقطه ما نَشاءُ اى مدة نشاء ان نقر فيه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى معلوم عند الله تعالى وهو وقت الخروج من الرحم مولود ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ من بطون أمّهاتكم طِفْلًا اى أطفالا صغارا حال من الضمير المنصوب في نخرجكم أجريت عليه بتأويل كل واحد او الدلالة على الجنس او لانه في الأصل مصدر ثُمَّ لِتَبْلُغُوا متعلق بمحذوف تقديره ثم نربيكم لتبلغوا أَشُدَّكُمْ جمع شدة كالغم جمع نعمة يعنى ليبلغوا كل شدة وكمال قدر لكم في القوة والعقل وغير ذلك قالوا وبلوغ الأشد ما بين ثلثين الى أربعين سنة وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عند بلوغ الأشد او قبله جملة معترضة او حال او معطوفة على ما سبق وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ بالهرم والخرف لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً متعلق بيرد واللام للعاقبة يعنى حتى يعود الى الهيئة الاولى الّتي كانت في أوان الطفولية من سخافة العقل وقلة الفهم فينسى ما علمه وينكر ما عرفه قال عكرمة من قرأ القران لم يصير بهذه الحالة والآية استدلال ثان على إمكان البعث بما يعترى الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة والأحوال المتضادة فان من قدر على ذلك قدر على نظائره وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً اى ميتة يابسة من همدت النار إذا صارت رمادا فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت بالنبات وَرَبَتْ اى زادت وانتفخت قرأ ابو جعفر ربأت بالهمزة وكذلك في حم السجدة اى علت وارتفعت قال المبرد أراد اهتز وربا نباتها فحذف المضاف لان الاهتزاز في النبات اظهر وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ من زائدة اى أنبتت كل صنف بَهِيجٍ اى حسن في القاموس البهيجة السرور بهج ككرم فهو بهج وهو مبهاج وكخجل فرح فهو بهيج وبهج وكمنع افرح وسرّكا بهج والابتهاج السرور
وجملة ترى الأرض عطف على انا خلقناكم أورد جملة فعلية ليدل على حدوث هذه الصفة مرة بعد اخرى فهذه دليل ثالث كررها الله تعالى في كتابه لظهوره وكونه مشاهدا.
ذلِكَ اشارة الى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على احوال
متضادة ومن احياء الأرض بعد موتها وهو مبتدأ خبره بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ اى بسبب ان الله هو الثابت المتحقق في نفسه الواجب وجوده الّذي به يتحقق الأشياء لو لاه لاستحال خروج الممكن من مخدع العدم وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى منه النطفة والأرض الموات وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لان قدرته لذاته ونسبة ذاته الى الكل سواء فلما دلت المشاهدة على قدرته على احياء بعض الأموات لزم اقتداره على كلها وإن كان عظما رميما.
وَأَنَّ السَّاعَةَ يعنى ساعة القراض الدنيا آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فان التغير من مقدمات الانصرام وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الّذي لا يحتمل الخلف الجمل الثلث الاول منها لبيان العلة الفاعلية لخلق الإنسان في أطوار مختلفة وتحويله على احوال متضادة واحياء الأرض بعد موتها والجملتين الأخيرتين لبيان العلة الغائية اى ما هو بمنزلة العلة الغائية فان خلق الإنسان ونحوه لمعرفة الله سبحانه وحسن عبادته والا لكان إيجاده عبثا وخلق سائر الكائنات لتكون برهانا لمعرفة الديان ويترتب على وجوب المعرفة وجوب العبادة وعليه يترتب الجزاء إذ لولا البعث والجزاء لزم التسوية بين المسلمين والمنكرين المجرمين فيختل امر العدل قال الله تعالى افنجعل المسلمين كالمجرمين ما لكم كيف تحكمون أفلا تذكرون.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ضرورى وَلا هُدىً اى استدلال يهدى الى المعرفة وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ مظهر للحق منزل من الله تعالى على أحد من الناس فان اسباب العلم للانسان انما هو أحد هذه الأمور الثلاثة ثانِيَ عِطْفِهِ العطف الجانب والعطفان الجانبان يمينا وشمالا وهو الموضع الّذي يعطف الإنسان اى يلوى ويميله عند الاعراض قال مجاهد اى لاوى عنقه حاصل المعنى معرضا عما يدعى اليه من الحق تكبرا او تبخترا كذا قال ابن عطية وابن زيد وابن جريح.
لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ متعلق بيجادل قرأ ابن كثير وابو عمر بفتح الياء من المجرد والباقون بضم الياء من الافعال يعنى يجادل حتى يضل غيره لَهُ فِي
الدُّنْيا خِزْيٌ
وهو القتل والاسر فقتل نضر بن الحارث وعقبه بن ابى معيط يوم بدر صبر او قتل معهما سبعون واسر سبعون وقال جلال الدين المحلى نزلت الآية في ابى جهل فقتل يوم بدر وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ اى المحرق وهو النار.
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ التفات من الغيبة الى الخطاب او التقدير ويقال لهم يوم القيمة إذا عذبوا ذلك العذاب بسبب ما فعلته من الكفر والمعاصي وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ أورد صيغة المبالغة نظرا الى كثرة العبيد والجملة معطوفة على ما قدمت يداك ونفى الظلم كناية عن العدل كما ان عدم الحب في قوله تعالى لا يحب الله الجهر بالقول كناية عن البغض والعدل سبب لمجازاة الكفر والمعاصي بالتعذيب اخرج البخاري وابن ابى حاتم وابن مردوية عن ابن عباس قال كان الرجل يقدم المدينة فيسلم فان ولدت امرأته غلاما ونتجت خيله قال هذا دين صالح وان لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال هذا دين سوء فانزل الله تعالى.
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ قال المفسرون معناه على شك من حرف الشيء وهو طرفه فالشاك والمنافق كانه على طرف من الفريقين المؤمنين والكافرين قد يميل الى هؤلاء وقد يميل الى هؤلاء او هو كالذى على طرف الجيش فان احسّ الظفر قرّ والا فرّ واخرج ابن ابى حاتم وكذا قال البغوي انها نزلت في يوم من الاعراب كانوا يقدمون المدينة والمهاجرين من باديتهم فكان أحدهم إذا قدم المدينة فصح بها جسمه ونتجت بها فرسه مهر أحسنا وولدت أمرته غلاما وكثر ماله قال هذا دين حسن وقد أصبت فيه خيرا واطمأن اليه وهو المعنى قوله تعالى فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ اى بتعبد الله والإسلام وان صابه مرض وولدت امرأته جارية وأجهضت رهاكه وقل ماله قال ما أصبت منذ دخلت في هذا الدين الا شرا فينقلب عن دينه وهو المعنى لقوله تعالى وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ بلاء وشدة انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ اى ارتد عن دينه ورجع على عقبه الى الوجه الّذي كان عليه من الكفر واخرج ابن مردوية من طريق
عطية عن ابى سعيد قال اسلم رجل من اليهود فذهب بصره وماله وولده فتشام بالإسلام فاتى النبي ﷺ فقال أقلني فقال النبي ﷺ ان الإسلام لا يقال «١» فقال لم أصب من دينى هذا خيرا ذهب بصرى ومالى ومات ولدي فنزلت الاية فقال رسول الله ﷺ يا يهودى ان الإسلام يسبك الرجال كما يسبك النار خبث الحديد والذهب والفضة خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ يعنى هذا الّذي ارتد من الدين لاجل بلاء في الدنيا خسر الدنيا لفوات ماله وولده وما كان يؤمل ولذهاب عصمته وخسر الاخرة بالخلود في النار وحبط عمله ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ لا خسران مثله.
يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ ان لم يعبده وَما لا يَنْفَعُهُ ان عبده ذلِكَ الدعاء هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن الحق مستعار من ضل في التيه إذا ابعد عن الطريق المستقيم.
يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ اللام زائدة والمعنى يدعوا من ضره اى ضر عبادته هكذا قرأ ابن مسعود رضى الله عنه أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الموهوم الّذي يتوقعه الكافر بعبادته وهو الشفاعة والتوسل بها الى الله تعالى وهذا على عادة العرب فانهم يقولون لما لا يكون موجودا أصلا هذا شيء بعيد ونظيره قوله تعالى ذلك رجع بعيد اى لارجع أصلا ولما كان النفع من الصنم بعيدا بمعنى انه لا نفع فيه أصلا قيل ضره اقرب من نفعه لانه كائن لا محالة قيل يدعوا من تتمة الكلام السابق تكرير لقوله يدعوا في قوله يدعوا من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه تأكيد لفظى له وما بعده كلام مستأنف واللام في لمن ضره جواب لقسم محذوف والموصول مع صلته مبتدأ خبره لَبِئْسَ الْمَوْلى اى الناصر وقيل المعبود وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ اى الصاحب والمخالط يعنى الوثن والعرب يسمى الزوج عشيرا لأجل المخالطة والجملتان الزامتان مستانفتان على قراءة ابن مسعود وما في معناه وقيل اللام متعلقه ليدعوا من حيث انه بمعنى يزعم والزعم قول مع اعتقاد او يقال يدعو داخلة على الجملة الواقعة مقولا اجراء له محرى القول وعلى هذين التقديرين اللام جواب قسم محذوف ومن مع صلته
(١) من الا قالة اى لا ينبغى الإسلام ان يرجع عنه- مصحح سيد عفى عنه.
مبتدأ خبره لبئس المولى ولبئس العشير والمعنى يقول الكافر ذلك يوم القيمة حين يرى استضرار به وقيل تقدير الكلام يدعوا لمن ضره اقرب من نفعه يدعوا فحذف يدعوا الأخير احتزاء بالأول والمفعول ليدعوا الاول محذوف والموصول منصوب بيدعو الثاني واللام في لمن ضره جواب قسم محذوف وقيل اللام بمعنى ان.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ يعنى انه تعالى يريد اثابة المؤمن الصالح وعقاب المشرك ولا دافع لمراده ولا مانع لقضائه.
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ اى محمدا ﷺ الظن بمعنى الوهم يقتضى مفعولا واحدا وهو ان مع جملتها وإن كان الظن بمعناه فالجملة قائمة مقام المفعولين فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ هذا كلام فيه اختصار تقديره ان الله ناصر رسوله في الدنيا والاخرة فمن كان يظن خلاف ذلك ويتوقعه لاجل غيظه الرسول ﷺ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ اى بحبل إِلَى السَّماءِ اى سماء بيته يعنى ليشدد حبلا في سقف بيته ثُمَّ لْيَقْطَعْ اى ليختنق من قطع إذا اختنق فان المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه يعنى يستعض في ازالة غيظه وليفعل كل ما يفعل الممتلى غيظا حتى يموت وهذا امر للتعجيز يقال للحاسد ان لم ترض بهذا فاختنق ومت غيظا وقال ابن زيد المراد بالسماء السماء الدنيا والمعنى من كان يظن ان لن ينصر الله نبيه ويكيده في امره ليقطعه من أصله حتى يبلغ عنان السماء فيجتهد في دفع نصر الله إياه او ليمدد بحبل الى السماء الدنيا وليذهب السماء وليقطع الوحى الّذي يأتيه من السماء قال البغوي روى ان هذه الآية نزلت في اسد وغطفان دعاهم النبي صلى الله عليه الى الإسلام وكان بينهم وبين اليهود حلف فقالوا لا يمكننا ان نسلم لانا نخاف ان لا ينصر الله محمدا ولا يظهر امره فينقطع الحلف بيننا وبين اليهود فلا يميروننا ولا يؤووننا فنزلت هذه الآية وقال مجاهد النصر بمعنى الرزق
يقول العرب من نصرنى نصره الله يعنى من اعطا في أعطاه الله وقال ابو عبيدة يقول العرب ارض منصورة اى ممطورة مرزوقة بالمطر والضمير المنصوب في ينصره راجع الى الموصول والآية نزلت في من أساء الظن بالله وخاف ان لا يرزقه والمعنى من كان ليظن ان لن يرزقه الله فليمدد بحبل الى سماء بيته ثم ليختنق ويمت غيظا على عدم ترزيقه او ليمدد حبلا الى السماء الدنيا ثم ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانا وليأت من هناك رزقه قرأ ورش وابو عمرو ابن عامر ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بجزمها فَلْيَنْظُرْ فليتصور في نفسه بعد ارادة مد السبب وقطع المسافة او الاختناق هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ يعنى هل يدفع فعله ذلك غيظه او الّذي يغيظه من نصر الله سماه كيدا لانه منتهى سعيه والاستفهام للانكار وجملة من كان يظن الى آخرها تأكيد لقوله ان الله يفعل ما يريد يعنى كما ان غيظ الحاسد لا يدفع ما أراد الله تعالى من نصر رسوله والمؤمنين في الدنيا والاخرة لا يدفع أحد شيئا مما أراد الله تعالى.
وَكَذلِكَ اى انزالا مثل ذلك الانزال اى مثل انزالنا الآيات الدالة على إمكان البعث والتوحيد وصدق الرسول والوعد بنصره أَنْزَلْناهُ اى القران كله حال كونه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على صدق الرسول ﷺ وما جاء به فلا منافاة بين هذه الاية وبين قوله تعالى منه آيات محكمات هن أم الكتاب واخر متشابهات لاختفاء المراد منها مع ظهور اعجازها وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ الجملة في محل الجر بلام التعليل معطوفة على محذوف متعلق بقوله أنزلناه يعنى أنزلناه لمصالح ولان يهدى به او يثبت على الهدى من يريد الله هدايته او ثباته على الهداية وجاز ان يكون في محل النصب عطفا على الضمير المنصوب في أنزلناه يعنى وأنزلنا ان الله يهدى من يريد.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يعنى عبدة الأوثان إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بالحكومة بينهم واظهار المحق منهم من المبطل او بالجزاء فيجازى
كلّا ما يليق به ويدخل فريقا في الجنة وفريقا في السعير ادخلت كلمة ان على كل واحد من طرفى الجملة لمزيد التأكيد ثم أكده بقوله إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ عالم به بمراقب لاحواله فلا يجوز ان يجعل المسلمين كالمجرمين ولا بمنزلة المحقق من المبطل مع كمال علمه بظواهر احوال كل وبواطنها الم تر يعنى الم تعلم.
أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ من الملئكة وَمَنْ فِي الْأَرْضِ من الانس والجن يعنى المؤمنين منهم وكلمة من وان كان يعم المؤمن والكافر لكن خص منه الكافر بكلام مستقل وهو قوله تعالى وكثير حق عليهم العذاب فبقى المؤمنون مراد او انما فسرت هكذا لان كلمة من لذوى العقول ولما عطف عليه قوله وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ فان حقيقة العطف للمغائرة وحمل البيضاوي كلمة من على العموم وقال من يجوز ان تعم اولى العقل وغيرهم او على التغلب وقال اكثر المحققين ان من لا يعبر به عن غير الناطقين الا إذا جمع بينهم وبين غيرهم فعلى تقدير ارادة العموم قوله والشمس إلخ من قبيل عطف الخاص على العام أفردها بالذكر لشهرتها واستبعاد ذلك منها والمراد بالسجود عند المحدثين والعلماء المتقدمين الطاعة الاختيارية فان الجمادات وان كانت أمواتا عندنا لكن لها حيوة ما وهى مطيعة طاعة اختيارية لله تعالى قال الله تعالى قالتا اتينا طائعين وقال في وصف الحجارة وان منها لما يهبط من خشية الله وقال وان من شيء الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم وقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم ان الجبل ينادى الجبل يا فلان هل مرّ بك أحد يذكر الله رواه الطبراني من حديث ابن مسعود قال البغوي هذا مذهب حسن موافق لقول اهل السنة وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مبتدأ وَكَثِيرٌ نكرير للاول تأكيدا ومبالغة في الكثرة وخبره حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ لعدم انخراطهم في الساجدين فهذا لجملة مخصصة بكلمة من مخرجة للكافرين من ان يرادوا بها وقيل كلمة من في قوله تعالى من في الأرض بمعنى ما للعموم والمراد بالسجود كون الممكنات كلها متسخرة لقدرته غير آبية
عن تدبيره دالة بذواتها على عظمة تدبرها وقوله وكثير من الناس مبتدأ خبره محذوف دل عليه خبر قسيمه يعنى حق لهم الثواب او فاعل لفعل محذوف تقديره ويسجد له سجود طاعة اى بوضع الجبهة على الأرض كثير من الناس وعلى التقديرين قوله كثير من الناس جملة مستانفة وقوله كثير حق عليهم العذاب مستانفة اخرى ومن قال بجواز عموم المشترك يعنى استعمال لفظ واحد مشترك في المعنيين في كل واحد من مفهوميه معا واسناده باعتبار أحد المعنيين الى امر وباعتبار المعنى الآخر الى امر آخر قالوا قوله وكثير من الناس مفرد معطوف على ما سبق والمعنى يسجد له سجود التسخر جميع الكائنات وسجودا الطاعة كثير من الناس وكثير حق عليهم العذاب لاجل ابائهم عن سجود الطاعة جملة مستانفة وجاز ان يكون مفردا معطوفا على الساجدين بالمعنى الأعم موصوفا بقوله حق عليهم العذاب وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ مبتدأ فيه معنى الشرط وخبره المتضمن بمعنى الجزاء قوله فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يعنى من يهينه الله بالشقاوة لا يكرمه أحد بالسعادة هذه الحملة معطوفة على الاسمية السابقة او حال إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام والاهانة والسعادة والشقاوة مختصان بمشية الله تعالى.
هذانِ خَصْمانِ فوجان متخاصمان يعنى المؤمنون خصم والكافرون من الأنواع الخمسة خصم وهو يطلق على الواحد والجماعة اخْتَصَمُوا أورد صيغة الجمع حملا على المعنى فِي رَبِّهِمْ اى في دينه او في ذاته وصفاته وامره روى الشيخان في الصحيحين عن ابى ذر قال نزلت قوله تعالى هذان خصمان اختصموا في ربهم في حمزة وعبيدة وعلى بن ابى طالب رضى الله عنهم وعتبة وشيبة والوليد بن عتبه واخرج البخاري والحاكم عن على قال فينا نزلت هذه الآية وفي مبارزتنا يوم بدر واخرج الحاكم عنه بوجه آخر قال نزلت في الذين بارزوا يوم بدر على وحمزة وعبيدة وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة وروى البغوي عن قيس بن عباد عن على بن ابى طالب قال انا أول من يحثوا بين يدى الرحمة للخصومة يوم القيمة قال قيس وفيهم نزلت هذه الاية وقال قيس هم الذين بارزوا يوم بدر حمزة وعلى وعبيدة وشيبه بن ربيعه وعتبه بن ربيعه
262
والوليد بن عتبه قال محمد بن إسحاق خرج يعنى يوم بدر عتبه بن ربيعه بين أخيه شيبه بن ربيعه وابنه الوليد بن عتبة حتى إذا وصلوا الى الصف دعوا الى المبارزة فخرج إليهم فتية من الأنصار ثلثة عوف ومعاذ ومعوذ ابنا الحارث وأمهما عفراء وعبد الله بن رواحه فقالوا من أنتم فقالوا رهط من الأنصار حين انتسبوا اكفاء كرام ثم نادى مناديهم يا محمد اخرج إلينا اكفائنا من قومنا فقال رسول الله ﷺ قويا عبيدة بن الحارث يا حمزة بن عبد المطلب ويا على بن ابى طالب فلما دنوا قالوا من أنتم فذكروا قالوا نعم اكفاء كرام فبارز عبيدة وكان أسن القوم عتبة وبارز حمزة شيبة وبارز علىّ الوليد بن عتبة فاما حمزة فلم يمهل ان قتل شيبة وعلىّ الوليد واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتان كلاهما اثبت صاحبه فكرّ حمزة وعلىّ بأسيافهما على عتبة «١» فدفعا عليه واحتملا عبيدة الى أصحابه وقد قطعت رجله ومخها يسيل فلما أتوا بعبيدة الى رسول الله ﷺ قال الست شهيدا قال بلى فقال عبيدة لو كان ابو طالب حيا لعلم انا أحق بما قال منه حيث يقول شعر
كذبتم وبيت الله يبزى «٢» محمدا ولما نطاعن دونه ونناصل «٣»
ونسلمه حتى نصرع حوله نذهل عن أبنائنا والحلائل
واخرج ابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس وعبد بن حميد وابن المنذر وابن ابى حاتم عن قتادة ان الآية نزلت في المسلمين واهل الكتاب فقال اهل الكتاب نحن اولى بالله منكم واقدم منكم كتابا ونبينا قبل نبيكم وقال المؤمنون نحن أحق بالله آمنا بنبينا محمد ﷺ ونبيكم وبما انزل الله من كتاب وأنتم تعرفون نبينا وكتابنا وكفرتم به حسدا فهذا خصومتهم في ربهم وقال مجاهد وعطاء بن رباح الكلبي هم المؤمنون والكافرون من اىّ ملة كانوا وقال بعضهم جعل الأديان ستة في قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا الآية
(١) دفغا عليه اى اسرعا قتله ١٢.
(٢) على صيغة المجهول أراد لا يبزى حذف لا في جواب القسم وهى مراده اى لا يقهر ولا يغلب والبز بالزاء المعجمة الغلبة والقهر ١٢.
(٣) التناصل الترامي بالسهام ١٢. [.....]
263
فجعل خمسة للنار وواحد للجنة فقوله هذان خصمان ينصرف إليهم فالمومنون خصم وسائر الخمسة خصم لان الكفر ملة واحدة ومبنى هذين القولين عموم اللفظ وسياق القصة ولا شك ان العبرة لعموم اللفظ دون خصوص السبب وقال عكرمه هما الجنة والنار اختصما روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ تحاجت الجنة والنار فقالت النار او ثرت بالمتكبرين والمتبخترين وقالت الجنة فما لى لا يدخلنى الا ضعفاء الناس وسقطهم وعرّتهم «١» قال الله تعالى للجنة انما أنت رحمتى ارحم بك من أشاء من عبادى وقال للنار انما أنت عذابى أعذب بك من أشاء ولكل واحد منكما ملؤها فاما النار فلا تمتلى حتى يضع الله رجله تقول قط قط قط فهنالك تمتلى ويزوى «٢» بعضها الى بعض فلا يظلم الله من خلقه أحدا واما الجنة فان الله تعالى ينشأ لها خلقا فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل لخصومتهم وهو المعنى لقوله تعالى ان الله يفصل بينهم يوم القيمة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ اى قدرت لهم على مقادير حيثيتهم قال سعيد بن جبير ثياب من نحاس مذاب وليس من الآنية شيء إذا حمى أشد حرا منه وتسمى باسم الثياب لانها تحيط بأبدانهم كاحاطة الثياب وقال بعضهم يلبس اهل النار مقطعات من النار روى احمد بسند حسن عن جويرية قالت قال رسول الله ﷺ من لبس الحرير في الدنيا البسه الله يوم القيمة ثوبا من نار واخرج والبزار وابن ابى حاتم والبيهقي بسند صحيح عن انس قال قال رسول الله ﷺ أول من يكسى حلة من النار إبليس فيضعها على حاجبيه ويسجها من بعده وذريته من بعده وهو ينادى يا ثبوراه وهم ينادون يا ثبورهم حتى يقفوا على النار فيقال لهم لا تدعوا ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا واخرج ابو نعيم عن وهب بن منبه قال كسى اهل النار والعرى كان خيرا لهم واعطوا الحيوة والموت كان خيرا لهم واخرج عن ابى مالك الأشعري ان رسول الله ﷺ قال النائحة إذا لم تيت قبل موتها تقام يوم القيمة وعليها سربال من قطران
(١) عرّة جمع عرير وهو الفقير تتعرض للسوال من غير طلب ومنه المعتر ١٢.
(٢) اى تجتمع وتنصرف ١٢.
264
ودرع من جرب رواه ابن ماجه بلفظ ان النائحة إذا ماتت ولم تتب قطع لها ثيابا من قطران ودرعا من لهب النار يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ حال من الضمير في لهم او خبر ثان والحميم الماء الحار الّذي انتهى حرارته.
يُصْهَرُ بِهِ اى يذاب بذلك الحميم المنصب من فوقهم رؤسهم ما فِي بُطُونِهِمْ من الشحوم والاحشاء وَالْجُلُودُ ويصهربه الجلود يعنى يؤثّر حرارته في بواطنهم كما يوثر في ظواهرهم والجملة حال من الحميم او من ضميرهم اخرج الترمذي وحسنه عن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال ان الحميم ليصب على روسهم فينفذ الحميم حتى تخلص الى جوفه فيسيل ما في جوفه ثم يهراق من بين قدميه وهو الصهر ثم يعادكما كان.
وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ جمع مقمعة وحقيقتها ما يقمع به اى يكف بعنف قال الليث المقمعة شبه الجرز وهو بالفارسية گرز بالكاف الفارسي قال البغوي هو من قولهم قمعت راسه إذا ضربته ضربا عنيفا والجملة حال من الضمير المجرور في بطونهم اخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس في هذه الآية انه قال يضربون بها اى بالمقامع فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالثبور واخرج احمد وابو يعلى وابن ابى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ انه قال لو ان مقمعا من حديد وضع على الأرض فاجتمع الثقلان ما اقلوه من الأرض ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتعثت ثم عادكما كان.
كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها اى من النار من غم وكرب يلحقهم بانفاسهم بسبب النار بدل اشتمال من الضمير المجرور باعادة الجار أُعِيدُوا فِيها تقديره كلما أرادوا ان يخرجوا منها فخرجوا منها عيدوا فيها لان الاعادة لا يكون الا بعد الخروج والجملة الشرطية اعنى كلما أرادوا الى آخرها صفة لمقامع والرابط محذوف اى أعيدوا بها فيها واخرج ابن ابى حاتم عن الفضيل بن عياض في الآية انه قال والله ما طمعوا في الخروج لان الأرجل مقيدة موبقة ولكن يرفعهم لهها وتردهم مقامعها قلت لعل المراد بقوله أرادوا ان يخرجوا منها انهم يزعمون حين يرفعهم لهبها ان يقعوا خارج النار ولا يكون كذلك بل يردهم مقامعها و
اخرج البيهقي عن ابى صالح قال إذا القى الرجل في النار لم يكن له منتهى حتى يبلغ قعرها ثم تحيش به جهنم فترفعه الى أعلى جهلم وما على عظامه مضغة لحم فتضرب الملئكة بالمقامع فيهوى بهم الى قعرها فلا يزال كذلك وذكر البغوي ان في التفسير ان جهنم لتحيش بهم فتلقيهم الى أعلاها فيريدون الخروج منها فيضربهم الزبانية بمقامع الحديد منهون وفيها سبعون خريفا وَذُوقُوا هذه الجملة معطوفة على أعيدوا بتقدير وقبل لهم ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ اى النار المحرقة البالغة في الإحراق فعيل بمعنى الفاعل كالاليم بمعنى المولم والوجيع بمعنى الوجع قال الزجاج هؤلاء يعنى الذين مر ذكرهم في تلك الآيات أحد الخصمين وقال في الآخر.
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ غير الأسلوب فيه وأسند الإدخال الى الله تعالى وأكده بان احماد الحال المؤمنين وتعظيما لشانهم يُحَلَّوْنَ من حليت المرأة إذا ألبست الحلي حال من الموصول فِيها اى في الجنة مِنْ أَساوِرَ جمع اسورة وهو جمع سوار صفة لمفعول محذوف يعنى يحلون حليا كائنا من أساور مِنْ ذَهَبٍ بيان له وَلُؤْلُؤاً معطوف على أساور على قرأة نافع وعاصم بالنصب هاهنا وفي سورة فاطر حملا على محل أساور او بإضمار الناصب يعنى ويؤتون لؤلؤا والباقون بالجر حملا على لفظة أساور او عطفا على ذهب قال القرطبي قال المفسرون ليس أحد من اهل الجنة الا وفي يده ثلث اسورة سوار من ذهب وسوار من فضة وسوار من لؤلؤ قلت والالف المكتوب في الرسم بعد الواو يؤيد النصب وقال ابو عمرو اثبتوا الالف كما اثبتوا في قالوا وكانوا وقال الكسائي الف صورة الهمزة وترك أبو بكر وابو عمرو إذا خفف الهمزة الاولى من لؤلؤ واللؤلؤ في جميع القرآن وحمزة إذا وقف سهل الهمزتين على أصله وهشام يسهل الثانية في غير النصب على أصله والباقون يحققونهما اخرج الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي عن ابى سعيد الخدري ان النبي ﷺ تلا قوله تعالى جنت عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير فقال عليهم التيجان ان ادنى لؤلؤ منها ليضىء ما بين المشرق والمغرب واخرج الطبراني الأوسط والبيهقي بسند حسن عن ابى هريرة قال قال رسول الله
266
صلى الله عليه وسلم لو ان ادنى اهل الجنة حليه عدلت حليته بحلية اهل الدنيا جميعا لكان ما يحليه الله تعالى به في الآخرة أفضل من حلية اهل الدنيا جميعا واخرج ابو شيخ في العظمة عن كعب الأحبار قال ان الله تعالى ملكا يصوغ حلى اهل الجنة من يوم حلقه الى ان تقوم الساعة ولو ان حليا اخرج من حلى اهل الجنة لذهب بضوء الشمس واخرج الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة ان رسول الله ﷺ قال تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الضوء واخرج في الزهد من طريق عمران بن خالد عمن أدرك اصحاب النبي ﷺ انهم قالوا من ترك لبس الذهب وهو يقدر عليه البسه الله إياه في حظيره القدس ومن ترك الخمر وهو يقدر عليه سقاه الله إياه من حظير القدس واخرج النسائي والحاكم عن عقبة بن عامر رضى الله عنه ان رسول الله ﷺ كان يمنع اهل الحلية والحرير ويقول ان كنتم تحبون حلية الجنة وحريرها فلا تلبسوها في الدنيا وعن عمر قال قال رسول الله ﷺ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ حال من فاعل يحلون او عطف عليه وغيّر اسلوب الكلام للدلالة على ان الحرير لباسهم المعتاد او للمحافظة على رؤس الآي اخرج البزار وابو يعلى والطبراني من حديث جابر بسند صحيح عن ابى الخير مرثد بن عبد الله قال في الجنة شجرة تنبت السندس يكون ثياب اهل الجنة وروى النسائي والطيالسي والبزار والبيهقي بسند جيد عن ابن عمر قال قال رسول الله ﷺ تنشق عنها يعنى ثياب اهل الجنة ثمر الجنة مرتين واخرج ابن المبارك عن ابى هريرة قال ان دار المؤمن درة مجوفة فيها أربعين بيتا في وسطها شجرة تنبت الجلل فيذهب فياخذ بإصبعه سبعين حلة منظم باللؤلؤ والزبرجد والمرجان- فصل واخرج الشيخان عن حذيفة قال سمعت رسول الله ﷺ يقول لا تلبسوا الحرير ولا الديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافها فانها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة واخرج الشيخان عن عمر رضى الله عنه قال قال النبي ﷺ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة واخرج مثله من حديث انس والزبير واخرج النسائي والحاكم عن ابى هريرة ان النبي ﷺ قال من
267
لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة ومن شرب الخمر في الدنيا لم يشربه في الآخرة ومن شرب في آنية الذهب والفضة لم
يشرب بها في الآخرة واخرج الطيالسي بسند صحيح والنسائي وابن حبان والحاكم عن ابى سعيد الخدري قال قال رسول الله ﷺ من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة وان دخل الجنة لم يلبسه واخرج ابن ابى حاتم وابن ابى الدنيا عن ابى امامة عن رسول الله ﷺ قال ما منكم من أحد الا انطلق به الى طوبى فيفتح له أكمامها فياخذ من اى ذلك شاء ان شاء ابيض وان شاء احمر وان شاء اخضر وان شاء اصفر وان شاء اسود مثل شقاق النعمان وارق واحسن واخرج ايضا عن كعب قال لو ان ثوبا من ثياب الجنة لبس في الدنيا لصعق من ينظر اليه وما حملته أبصارهم واخرج الصابوني في المائتن عن عكرمة قال ان الرجل من اهل الجنة ليلبس الحلة فتكون من ساعته سبعون لونا واخرج مسلم عن ابى هريرة عن النبي ﷺ قال من يدخل الجنة فنعم فيها لا يباس ولابتلى ثيابه ولا يفنى شبابه.
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ حال بتقدير قد من الموصول المفعول ليدخل يعنى والحال انهم قد هدوا في الدنيا الى الطيب من القول يعنى شهادة ان لا اله الا الله والله اكبر والحمد لله كذا قال ابن عباس وقال السدى يعنى هدوا الى القرآن وقيل الماضي هاهنا بمعنى المستقبل يعنى ويهدون في الجنة الى الطيب من القول وهو قولهم الحمد لله الّذي صدقنا وعده وَهُدُوا اى قد هدوا في الدنيا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ اى الى دين الله وهو الإسلام والحميد هو الله المستحق للحمد لذاته او المعنى ويهدون الى صراط الجنة الّتي هى الحميد.
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ اى يمنعون الناس من ان يدخلوا في دين الإسلام لا يريد بالمضارع حالا ولا استقبالا وانما يريد استمرار الصدّ كقولهم فلان يعطى ويمنع ولذلك حسن عطفه على الماضي وقيل هو حال من فاعل كفروا وخبر ان محذوف دل عليه اخر الآية ان نذقه من عذاب اليم وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على سبيل الله او على اسم الله والمراد بالمسجد الحرام المسجد خاصة عند الشافعي وعند ابى حنيفة رحمه الله الحرم كله كما في قوله تعالى سبحان الّذي اسرى بعبده ليلا من المسجد
268
الحرام على ما قيل ان الاسراء من بيت أم هانى اطلق المسجد على الحرم كله لان الغرض الأصلي من عمران مكة اقام الصلاة قال الله تعالى حكاية لقول ابراهيم عليه السّلام رب انى أسكنت من ذريتى بواد غير ذى ذرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة وقد فسر الشافعي رحمه الله المسجد الحرام في قوله تعالى انما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا بالحرم حيث قال يمنع الكفار مطلقا عن دخول الحرم بهذه الآية وقد ذكرنا الكلام عليه في سورة التوبة ويؤيد ارادة الحرم قوله تعالى الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ قرأ ابن كثير بإثبات الياء في الحالين وورش وأبو بكر في الوصل فقط وقرأ حفص سواء بالنصب على انه مفعول ثان لجعلنا وللناس ظرف لغو او حال من الضمير المستكن في للناس وللناس مفعول ثان والعاكف مرفوع به وقرأ الباقون سواء بالرفع على ان العاكف مبتدأ وسواء خبره مقدم عليه او سواء مبتدأ من قبيل الصفة والعاكف فاعل له والجملة مفعول ثان لجعلناه وللناس حال من الهاء او ظرف لغو وجاز ان يكون للناس مفعولا ثانيا والجملة بيان لما سبق يعنى جعلناه للناس بحيث مستوفيه المقيم والبادي اى المسافر المنسوب الى البدو وقال في القاموس البدو والبادية والبداوة والبداة خلاف الحضر يعنى ليس أحدا حق بالمنزل فيه من غيره فمن سبق الى مكان منه لا يجوز لغيره ان يزعجه كذا قال ابن عباس وسعيد بن جبير وقتادة وابن زيد قالوهما سواء في البيوت والمنازل وقال عبد الرحمن بن سابط كان الحجاج إذا قدموا مكة لم يكن أحد من اهل مكة بأحق بمنزله منهم وكان عمر بن الخطاب رضى الله عنه ينهى الناس ان يغلقوا أبوابهم في الموسم كذا قال البغوي قلت روى اثر عمر عبد الرحمن بن عبد بن حميد عن نافع عن ابن عمر عنه وعن عمر بن الخطاب ان رجلا قال له عند المروة يا امير المؤمنين اقطع مكانا لى فاعقب «١» واعرض عنه وقال هو حرم الله سواء العاكف فيه والباد (ازالة الخفا) وقال عبد الرزاق عن معمر عن منصور عن مجاهد ان عمر قال يا اهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبوابا لينزل البادي حيث شاء وقال عبد الرزاق عن ابن جريح كان عطا ينهى عن الكراء في الحرم وأخبرني ان عمر نهى ان يبوب دور مكة
(١) هكذا في الأصل ولعله تصحيف والصواب فاعقب واعرض- ١٢ مصحح سيّد حسن عفى عنه.
269
لان الحاج في عرصاتها فكان أول من بوب داره سهيل بن عمرو واعتذر لذلك لعمر فان قيل صح عن عمر انه اشترى دارا بمكة للسجن باربعة آلاف درهم رواه البيهقي وكذا روى البيهقي عن ابن الزبير انه اشترى حجرة سورة وعن حكيم بن خرام انه باع دار الندوة وعن عمر انه اشترى الدور من أهلها حتى وسع المسجد وكذلك عن عثمان قال وكان الصحابة في رباط متوافرين ولم ينقل انكار ذلك قلت يحمل تلك الآثار على بيع بنائها فان البناء ملك للبانى لا محالة وانما المنهي بيع الأرض ومن هاهنا قال ابو حنيفة واحمد في أصح الروايتين عنه لا يجوز بيع رباع مكة ولا اجارة دورها فان ارض الحرم عتيق غير مملوك لاحد قال الله تعالى ثم محلها الى البيت العتيق ولا شك ان المراد بالبيت العتيق ارض الحرم كله لاختصاص ارض الحرم بذبح الهدايا والقول بان المعنى ثم محلها الى مكان يقرب منه البيت العتيق تكلف وتقديره بلا ضرورة وكذا قال مالك لكن مبنى قوله ان مكة فتحت عنوة وكل بلدة فتحت عنوة فهى وقف لا يجوز بيع اراضيها وقال الشافعي بيع دود مكة وإجارتها جائزة وهى مملوكة لاهلها وبه قال الحسن وطاؤس وعمرو بن دينار وجماعة والمراد بالمسجد الحرام في الآية نفسه ومعنى الآية جعلناه للناس قبلة لصلواتهم ومنسكا متعبدا بحيث مستوفيه العاكف والبادي في تعظيم الكعبة وفضل الصلاة في المسجد الحرام والطواف بالبيت قلنا سياق الآية يقتضى اختصاص تسوية العاكف والبادي بالمسجد الحرام مع ان المساجد كلها بهذه المثابة العاكف والبادي في جميع المساجد سواء يجب على كل أحد تعظيم كل مسجد وكل مسجد يستوى فيه ثواب الصلاة والطاعة لجميع الناس لا يختلف باختلاف الحضر والسفر قال البغوي قال مجاهد وجماعة مثل ما قال الشافعي قلت بل المروي عن مجاهد مثل قول ابى حنيفة رح روى الطحاوي من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد انه قال مكة مباح لا يحل بيع رباعها ولا اجارة بيوتها وروى عبد الرزاق من طريق ابراهيم بن مهاجر عن مجاهد عن ابن عمر لا يحل بيع بيوت مكة ولا إجارتها ومن الحجة لقولنا هذا ما رواه محمد في كتاب الآثار أخبرنا ابو حنيفة عن عبد الله بن ابى زياد عن ابى نجيح عن ابن عمر عن النبي
270
صلى الله عليه وسلم قال ان الله حرم مكة فحرام بيع رباعها وأكل ثمنها وكذا روى ابن الجوزي في التحقيق بسنده عن ابى حنيفة بذلك السند مرفوعا بلفظ مكة حرام وحرام رباعها حرام أحر بيوتها فان قيل قال الدار قطنى وهم فيه ابو حنيفة رح والصحيح انه موقوف دعوى الوهم على ابى حنيفة رح شهادة على النفي فلا يقبل وهو ثقة والرفع من الثقة مقبولة وروى محمد بذلك السند مرفوعا من أكل من أجور بيوت مكة شيئا فانما يأكل نارا ورواه الدار قطنى بسنده عن اسمعيل بن ابراهيم بن مهاجر عن أبيه عن عبد الله بن باباه عن عبد بن عمر قال قال رسول الله ﷺ مكة مباح لا يباع رباعها ولا يوجر بيوتها قلت اسمعيل بن ابراهيم ضعفه يحيى والنسائي وأبوه ابراهيم بن مهاجر ب ن جابر البجلي ضعفه البخاري وقال ابو حاتم منكر الحديث وقال ابن المديني والنسائي ليس بالقوى لكن قال سفيان واحمد ويحيى بن معين وابن مهدى لا بأس به وقال أبو بكر البيهقي الصحيح ان هذا الحديث موقوف وروى ابن الجوزي بسنده عن سعيد بن منصور قال حدثنا ابو معاوية عن الأعمش عن مجاهد قال قال رسول الله ﷺ ان مكة حرام حرمها الله عزّ وجلّ لا يحل بيع رباعها ولا اجر بيوتها وهذا مرسل والمرسل عندنا حجة احتج الخصم بقوله تعالى الذين اخرجوا من ديارهم وقوله ﷺ من دخل دار ابى سفيان فهو آمن قاله يوم فتح مكة وجه الاحتجاج ان الاضافة تدل على الملك قالوا ولو كانت الدور غير مملوكة لهم لما كانوا مظلومين في الإخراج عنها والجواب ان الاضافة للسكنى او للبناء يقال مسجد النبي ﷺ ومسجد بنى فلان وكون الإخراج ظلما لا يدل على انهم اخرجوا عن ديار مملوكة لهم لتحقق الظلم
بإخراجهم عن المسجد الحرام الّذي جعل الله للناس كلهم فيه سواء ومن اظلم ممن منع مساجد الله ان يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها وأقوى حججهم في الباب حديث اسامة بن زيد قال قلت يا رسول الله اين تنزل غذا في حجته فقال هل ترك عقيل منزلا قال نحن نازلون غدا إنشاء الله نجيف بنى كنانه ثم قال لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر متفق عليه وروى ابن الجوزي هذا الحديث قال
271
اسامة يا رسول الله أتنزل دارك بمكة قال وهل ترك عقيل من رباع او دور قال الزهري وكان عقيل ورث أبا طالب هو وطالب ولم يرثه جعفر ولا علىّ شيئا كانا مسلمين وكان عقيل وطالب كافرين يعنى حتى مات ابو طالب قال الحافظ وفي رواية محمد بن ابى حفصه قال في آخره ويقال ان الدار الّتي أشار إليها النبي ﷺ كانت دار هاشم بن عبد مناف ثم صارت لعبد المطلب ابنه فقسمها بين ولده حين عمّر ثم صار للنبى ﷺ حق أبيه عبد الله وفيها ولد النبي ﷺ وان النبي ﷺ لما هاجر استولى عقيل وطالب على الدار كلها باعتبار ما ورثاه من أبيهما لكونهما كانا لم يسلما وباعتبار ترك النبي ﷺ حقه منها بالهجرة وقتل طالب ببدر فباع عقيل الدار كلها وروى الفاكهاني ان عقيلا لم يبع الدار وقال ان الدار لم يزل بيد أولاد عقيل الى ان باعوا لمحمد بن يوسف أخي الحجاج بمأته الف دينار والجواب ان بيع عقيل الدار كافر الا يكون حجة على جواز البيع وتاويل الحديث عندى ان الدار لعلها كانت مشغولة بحوائج عقيل ان لم يبع وبحوائج المشترى ان باع فالنبى ﷺ لم يجدها خالية يسكن فيها ولذا قال وهل ترك لنا عقيل منزلا اى منزلا خاليا فحينئذ قول الراوي كان عقيل ورث أبا طالب وشبهه مبنى على زعمه وقوله ﷺ لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر لعله واقعة حال آخر فضم الراوي الحديثين زعما منه ان قوله ﷺ لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر هو الباعث على قوله ﷺ وهل ترك لنا عقيل منزلا فحينئذ قوله ﷺ لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر كلام مستانف فلا حجة في الحديث على كون رباع مكة مملوكة ولو سلمنا ان الحديث تدل على كون رباع مكة جائز البيع فنقول ان ما ذكرنا من الأحاديث الّتي تدل على حرمة بيعها نص في الحرمة يدل بالعبارة وهذا الحديث يدل على اباحة البيع بالاشارة فدلالة ما روينا اولى أقوى ثم لو سلمنا التعارض فعند التعارض يجب تقديم المحرم على المبيح ولذلك قال ابو حنيفة بالكراهة تحريما على أصله ولو كان حصة عبد الله للنبى صلى الله عليه وسلم
272
فلا يتصور ان يصل تلك الحصة الى عقيل الا بالاستيلاء كما هو مذهب ابى حنيفة ان الكافر يملك مال المسلم بالاستيلاء ولم يقل به الشافعي ولو ملك بالاستيلاء فلا معنى لقول رسول الله ﷺ في هذا الحديث لا يرث الكافر المؤمن ولا المؤمن الكافر ولو كانت كلها لابى طالب فلا يتصور كونها للنبى ﷺ ولو فرضنا كون ابى طالب مسلما لانه ﷺ لم يكن من ورثة ابى طالب فعلى كل من التقادير يجب صرف قوله ﷺ هل ترك لنا عقيل منزلا عن ظاهره فما ذكرت من التأويل اولى وكيف لا يكون التأويل ما ذكرت فانا لو سلمنا ان عليا وجعفر الم يرثا أبا طالب وانما ورثه عقيل فالنبى ﷺ كان له ان ينزل في على وجعفر عارية كما كان له ان ينزل في ملك عقيل عارية وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ اى في المسجد الحرام سواء كان المراد منه المسجد او الحرم كله على القولين بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ وقيل الحاد في محل النصب على المفعولية والباء زائدة كما قوله تعالى تنبت بالدهن وقول الأعمش ضمنت برزق عيالنا ارماحنا وبظلم ظرف لغو متعلق بيرد او ظرف مستقر صفة لالحاد او حال من فاعل يرد وقيل
مفعول يرد محذوف يتناول كل متناول تقديره من يرد قولا او فعلا فعلى هذا قوله بإلحاد بظلم حالان مترادفان او الثاني بدل من الاول باعادة الجار او صلة له اى يلحد بسبب الظلم اى بان ارتكب منهيا ولو شتم الخادم نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ جواب لمن روى البخاري في الصحيح عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ ابغض الناس الى الله ثلثة ملحد في الحرم ومبتغ في الإسلام سنة الجاهلية ومطلب دم امرأ بغير حق ليهريق دمه وروى الترمذي والحاكم وصححه والبيهقي في المدخل ورزين في كتابه عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ستة لعنتهم لعنهم الله وكل نبى مجاب الزائد في كتاب والمكذب بقدر الله والمتسلط بالجبروت فيعز بذلك من أذل الله ويذل بذلك من أعز الله والمستحل لحرم الله والمستحل من عترتى ما حرم الله والتارك لسنتى وروى الحاكم عن على مرفوعا نحوه وهذان الحديثان يشعر ان بان المراد بالمسجد الحرام
273
الحرم فان استحلال الحرم والإلحاد فيه حرام مسجدا كان او غيره والإلحاد في اللغة الميل والعدول عن قصد السبيل والمراد هاهنا على قول مجاهد وقتادة هو الشرك وعبادة غير الله وقال قوم هو كل شيء كان منهيا عنه من قول او فعل حتى شتم الخادم وقال عطاء هو دخول الحرم غير محرم او ارتكاب شيء من محظورات الحرم من قتل صيد او قطع شجر وقال ابن عباس هو ان تقتل فيه من لا يقتلك او تظلم فيه من لا يظلمك وهذا معنى قول الضحاك وعن مجاهد تضاعف السيئات بمكة كما تضاعف الحسنات وقال حبيب بن ابى ثابت احتكار الطعام بمكة وقال عبد الله بن مسعود في قوله من يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب اليم قالوا ان رجلا همّ بخطيئة لم يكتب عليه ما لم يعملها ولو ان رجلاهمّ بقتل رجل بمكة وهو بعدن او ببلد اخر اذاقه الله من عذاب اليم قال السدى الا ان يتوب وروى عن عبد الله بن عمر وانه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم فاذا أراد ان يعاتب اهله عاتبهم في الآخر فسئل عن ذلك فقال كنا نحدث ان من الإلحاد فيه ان يقول الرجل كلا والله وبلى والله.
وَاذكر إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ اى عينا وجعلنا له مَكانَ الْبَيْتِ مبوأ اى منزلا كذا قال الزجاج وقيل اللام زائدة ومكان ظرف والمعنى وإذ أنزلناه فيه قال في القاموس بواه منزلا وفيه أنزله والمبأة المنزل وانما ذكر مكان البيت لان الكعبة رفعت الى السماء من الطوفان ثم لما امر الله تعالى ابراهيم عليه السّلام ببناء البيت لم يدر اين يبنى فبعث الله ريحه خجوجا «١» فنكست له ما حول البيت عن الأساس كذا قال البغوي واخرج ابن جرير وابن ابى حاتم والبيهقي في الدلائل عن السدى بعث الله ريحا يقال لها ريح الخجوج لها جناحان ورأس في صورة حية فنكست لها ما حول الكعبة عن أساس البيت الاول وقال البغوي قال الكلبي بعث الله سبحانه بقدر البيت فقامت بحيال البيت وفيها راس يتكلم يا ابراهيم ابن على قدرى فبنى عليه أَنْ لا تُشْرِكْ ان مصدرية متعلق بفعل محذوف اى عهدنا الى ابراهيم ان لا تشرك او المعنى فعلنا ذلك لان
(١) خجوجا اى شديدة الروح وغير استواء ١٢.
لا تشرك او مفسرة لبوأنا لاجل تضمنه معنى تعبد إذ التبوية لاجل التعبد والتعبد تشتمل الأمر والنهى فهو بمعنى القول بِي اى بعبادتي شَيْئاً وَطَهِّرْ من الأوثان والاقذار بَيْتِيَ قرأ نافع وحفص وهشام بفتح الياء والباقون بإسكانها أضاف البيت الى نفسه تشريفا ولكونه مهبطا لتجليات مخصوصة به قال المجدد للالف الثاني رضى الله عنه ان الكعبة بيت الله مع كونها متجسدا مرئيا لها شبه بما لا كيف له لان جدرانها وتراب ارضه الى الثرى ليست قبلة الا ترى انه لوازيل عن ذلك المكان جدرانها وترابها ونقلت الى مكان آخر فالقبلة ذلك المكان لا المكان الّذي نقلت اليه جدرانها وترابها ولو بنى ذلك المكان بجدر ان اخر ونقل الى ذلك ونقل الى ذلك المكان تراب آخر فهو كذلك قبلة فعلم ان القبلة امر لا كيف لها وينهبط هناك تجليات غير متكيفة يدركها من يدركها لِلطَّائِفِينَ اى الذين يطوفون حوله وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ جمع راكع وساجد ذكرهما بغير العاطف فان المراد به المصلين ولان الركوع بلا سجود لم يعرف في الشرع عبادة وعبر عن الصلاة بأركانها للدلالة على ان كل واحد منها مستقل باقتضاء الطهارة وقالت الروافض ان الطهارة في الصلاة انما يشترط في السجود لموضع الجبهة لا غير.
وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ اى أعلمهم وناد فيهم بِالْحَجِّ الظاهر انه عطف على طهر ذكر البغوي واخرج ابن ابى حاتم عن ابن عباس نحوه ان ابراهيم عليه السّلام حين امر به قال وما يبلغ صوتى قال الله تعالى عليك الاذان وعلينا الإبلاغ فقام ابراهيم على المقام فارتفع المقام حتى صاركا طول الجبال فادخل إصبعيه في اذنيه واقبل بوجهه يمينا وشمالا وشرقا وقال يا ايها الناس ان ربكم قد بنى بيتا كتب عليكم الحج الى البيت فاجيبوا ربكم فاجابه كل من يحج من اصل الإماء وأرحام الأمهات لبيك اللهم لبيك قال ابن عباس فاول من اجابه اهل اليمن فهم اكثر الناس حجا وروى ان ابراهيم صعد أبا قبيس ونادى وقال ابن عباس عنى بالناس في هذه الآية اهل القبلة قال البغوي وزعم الحسن ان قوله تعالى واذن في الناس بالحج كلام مستانف والمخاطب النبي ﷺ امر ان يفعل ذلك في حجة الوداع
عن ابى هريرة قال خطبنا رسول الله ﷺ يا ايها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا رواه مسلم وروى احمد والنسائي والدارمي عن ابن عباس نحوه يَأْتُوكَ يعنى يأتون حاجين لندائك بالحج- مجزوم في جواب الأمر والمعنى ان توذن يأتوك رِجالًا اى مشاة على أرجلهم جمع راجل كقائم وقيام ونائم ونيام وهذا اخبار عن الواقع وليس فيه إيجاب الحج على من لم يجد الراحلة فليس فيه حجة لداؤد ولا لممالك وقد ذكرنا خلافهما في اشتراط الزاد والراحلة في مسئلة كون الحج فريضة وما يشترط للفرضية في سورة آل عمران في تفسير قوله تعالى ولله على الناس حج البيت من استطاع اليه سبيلا مسئلة الأفضل عند ابى حنيفة رحمه الله لمن يقدر على المشي ان بحج ماشيا لان الله سبحانه قدم ذكر الإتيان راجلا على الإتيان راكبا ولان المشقة في المشي أشد والخضوع والتواضع فيه اكثر لانه ﷺ أوجب على من نذر الحج ماشيا والهدى بفواته فعلم ان المشي في الحج طاعة وأدناها الندب وقال بعض العلماء الحج راكبا أفضل لان بالمشي في الحج يختل كثير من العبادات ولا رهبانية في الدين وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ اى وركبانا على كل ضامر اى بعير مهزول أتعبه بعد السفر فصار مهزولا اخرج ابن جرير عن مجاهد قال كانوا لا يركبون فانزل الله تعالى يأتوك رجالا وعلى كل ضامر فامرهم بالزاد ورخص لهم في الركوب والمتجر يَأْتِينَ صفة لضامر محمولة على معناه حيث أضيف اليه لفظ كل او صفة لكل والتأنيث حينئذ ايضا بالنظر الى المعنى يغنى يأتوك على كل ضامر يأتين الى مكة مركوبا لان يحج مِنْ كُلِّ فَجٍّ اى طريق عَمِيقٍ اى بعيد.
لِيَشْهَدُوا متعلق بأذّن او بيأتوك اى ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ دينية او دنيوية وتنكيرها لان المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة قال محمد بن على بن الحسين بن على الباقر عليهم السّلام وسعيد بن المسيب المراد بها العفو والمغفرة وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته امه متفق عليه وقال سعيد بن جبير المراد بها التجارة وهى رواية عن زيد عن ابن عباس حيث قال الأسواق
276
وقال مجاهد التجارة وما يرضى الله به من امر الدنيا والآخرة وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ كنى بالذكر عن الذبح والنحر لاشتراطه في حل الذبائح وتنبيها على انه المقصود مما يتقرب به الى الله فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ يعنى عشر ذى الحجة وهو قول اكثر المفسرين قيل لها معلومات للحرص على علمها بحسابها من أجل كون وقت الحج في آخرها وروى عن على رضى الله عنه انها يوم النحر وثلثة ايام بعده وفي رواية عطاء عن ابن عباس انها يوم عرفة والنحر وايام التشريق وقال مقاتل المعلومات التشريق عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ يعنى الهدايا والضحايا واجبة كانت او مستحبة لاطلاق النص علق الفعل بالمرزوق بينه بالبهيمة تحريضا على التقرب وتنبيها على مقتضى الذكر احتج الشافعي بهذه الآية على انه لا يجوز ذبح شيء من الهدايا غير دم الإحصار الا يوم النحر وثلثة ايام بعده قلنا هذا القيد خرجت مخرج العادة ونحن لا نقول بالمفهوم وفي تفسير الآية اختلاف كما ذكرنا والحجة لنا على عدم اشتراط يوم النحر وايام التشريق في هدى التطوع والنذر والكفارة ما صح انه ﷺ ساق عام الحديبية سبعين بدنة يريد العمرة وكان ذلك في ذى القعدة ولم يكن رسول الله ﷺ يريد المقام بمكة الى يوم النحر وهذا صريح في جواز نحر هدى التطوع في ذى القعدة وإذا ثبت كون النحر فيما عدا يوم النحر طاعة وكل طاعة مقصورة يكون واجبا بالنذر فثبت جواز نحر الهدى المنذور ايضا في غير ايام النحر وكذا دم جزاء الصيد والكفارات لا يختص عندنا بيوم النحر لان الكفارة لا يكون الا عبادة فاذا ثبت كونه عبادة جاز جعله كفارة وقد قال الله تعالى في جزاء الصيد هديا بالع الكعبة من غير تقييد بيوم النحر ولا يجوز قيد في كتاب الله إذ هو في معنى النسخ لكن دم القران والتمتع مختصان بيوم النحر وكذا دم الإحصار عند ابى حنيفة خلافا لابى يوسف ومحمد وقد مرت المسألتين في سورة البقر في تفسير قوله تعالى وأتموا الحج والعمرة لله فان أحصرتم فما استيسر من الهدى الى قوله فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى فَكُلُوا مِنْها امر استحباب وليس للوجوب اجماعا و
277
قال الشافعي امر بالاباحة وانما قال الله تعالى ذلك لان اهل الجاهلية كانوا لا يأكلون من لحوم هداياهم مسئلة اتفق العلماء على ان الهدى إذا كان تطوعا لا يجوز للمهدى ان يأكل منه لحديث طويل لجابر بن عبد الله في قصة الوداع وفيه وقدم على ببدن من اليمن وساق رسول الله ﷺ مائة بدنة فنحر منها رسول الله ﷺ ثلثا وستين بدنة بيده ثم اعطى عليا فنحر ما غبروا شر له في هديه ثم امر من كل بدنة ببضعة فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها وشربا من مرقها رواه مسلم وهذا الحديث دليل على استحباب الاكل من الهدى إذ لو لم يكن الاكل من هديه مستحبا لما امر ان يجعل من كل بدنة بضعة بل يكفيه لحم من واحدة- مسئلة واتفقوا على عدم جواز الاكل من جزاء الصيد ولعله لاجل ان جزاء الصيد بدل من الصيد قال الله تعالى فجزاء مثل ما قتل من النعم وقد ذكرنا بيان المماثلة من حيث الصورة او من حيث القيمة في تفسير سورة المائدة ولما كان الصيد عليه حراما كان بدله حراما مثله قال رسول الله ﷺ قاتل الله اليهود ان الله لما حرم عليهم الشحوم أجمعوه ثم باعوه وأكلوا عنه متفق عليه من حديث جابر وكذا لا يجوز الاكل من الدم المنذور عند الجمهور خلافا لمالك ح وكذا لا يجوز عند
الجمهور الاكل من الدماء الواجبة بالجنايات والواجب بإفساد الحج وفي رواية عن احمد واليه ذهب اسحق انه لا يأكل من جزاء الصيد والنذر ويأكل مما سوى ذلك كذا ذكر البخاري عن ابن عمر معلقا والحجة لتحريم الاكل من دماء النذر وكفارات الجنايات القياس على حرمة الاكل من جزاء الصيد وهى مجمع عليها والجامع انها دماء كفارات فلا بد من تسليمها بجميع اجزائها الى مستحقها لكن قياس المنذور على جزاء الصيد غير صحيح الا ان يقال ان لنذر يقتضى تسليم المنذور بجميع اجزائه- مسئلة واتفقوا على جواز الاكل من الأضاحي اما على قول ابى حنيفة فلانه دم نسك وقد صح قوله ﷺ في الضحى يأكلوا وأطعموا وادخروا متفق عليه من حديث سلمه ابن الأكوع واما عند الشافعي وغيره فلانه دم تطوع مسنون
278
وقد ذكرنا الإجماع على جواز الاكل من دماء التطوع- مسئلة واختلفوا في دم التمتع والقران فقال ابو حنيفة ومالك واحمد يجوز الاكل منه لانه دم نسك وقد ذكرنا حديث جابر انه ﷺ امر من كل بدنة ببضعه فجعلت في قدر فطبخت فاكلا من لحمها وشربا من مرقها واستدل ابن الجوزي لما روى عبد الرحمن بن ابى حاتم في سننه من حديث على قال أمرني رسول الله ﷺ بهدى التمتع ان أتصدق بلحومها سوى ما ناكل وهذا صريح في الدلالة وقال الشافعي لا يجوز الاكل من دم التمتع والقران ومن شيء من دماء الواجبة سواء أوجبه على نفسه بالنذر او وجب بسبب غير ذلك محتجا بحديث ناحية الخزاعي وكان صاحب بدن رسول الله ﷺ في غزوة الحديبية وحديث ابن عباس وحديث دويب بن حلمه وقد ذكرنا الأحاديث الثلاثة والجواب عنها في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى فمن تمتع بالعمرة الى الحج فما استيسر من الهدى قلت والظاهر ان الاية في جواز الاكل من الهدايا واجبة كانت الهدايا كالتمتع والقران او نافلة كما أشرنا اليه نظرا الى اطلاق اللفظ وخص منها المنذور بالإجماع او يقال الكلام في الحج والمنذور ليس من باب الحج في شيء واما جزاء الصيد ودماء الكفارات فانها وان كانت من باب الحج لكن الظاهر من حال المسلم الاجتناب من المحرمات فهى غير مرادة بهذه الآية إذ المأمور به الحج المبرور والله اعلم- وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ اى الّذي اشتد بوسه والبوس شدة الفقر الْفَقِيرَ بدل من الاول او عطف بيان له.
ثُمَّ لْيَقْضُوا قرأ ورش وابو عمرو ابن عامر وقنبل بكسر الام والباقون بإسكانها تَفَثَهُمْ اى يزيلوا وسخهم بحلق الراس وقص الشارب والأظفار ونتف الإبط والاستحداد عند الاحلال الاول وذلك قبل طواف الزيارة ويحل على المحرم بعد الحلق كل شيء الا النساء وتحل النساء بعد الطواف كذا قال المفسرون والقضاء في الأصل بمعنى الفعل والأداء يقال قضى دينه وقال الله تعالى وإذا فضيتم مناسككم وقضيهن سبع سموت ويستلزمه الفراغ منه كما أيد يقوله تعالى أيما الأجلين قضيت وفي ازالة الوسخ الفراغ منه وقال البغوي قال ابن عمرو ابن عباس قضاء التفث مناسك الحج
279
كلها يعنى أداء مناسك الحج وقال مجاهد هو يعنى التفث مناسك الحج وأخذ الشارب ونتف الإبط وحلق العانة وقلم الأظفار وقيل التفث رمى الجمار فالمعنى فعل هذه الأمور وأداها قال الزجاج لا نعرف التفث ومعناه الا من القرآن يعنى هذا اللفظ غير مستعمل في كلام العرب غالبا ولفظه ثم يوجب تأخير الحلق والطواف من الذبح فهو حجة لابى حنيفة رحمه الله حيث قال الترتيب بين الرمي ونحر القارن والحلق واجب وبه قال سعيد بن جبير وقتادة والحسن والنخعي فمن ترك الترتيب عمدا او خطأ يجب عليه الدم لحديث ابن عباس من قدّم شيئا من نسله او اخّره فليهرق رما رواه ابن ابى شيبة موقوفا والموقوف له حكم المرفوع لان القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى فان قيل في سنده ابراهيم بن مهاجر قال ابو حاتم منكر الحديث وقال ابن المديني والنسائي ليس بالقوى وقال ابن عدى يكتب حديثه في الضعفاء قلنا انه صدوق من كبار التابعين اخرج له مسلم متابعه وقال سفيان واحمد وابن مهدى لا بأس به ثم الحديث ليس منحصرا عليه بن أخرجه الطحاوي من غير طريقه ايضا قال ثنا وهيب عن أيوب عن سعيد بن جبير عنه مثله وقال احمد الترتيب واجب يجب عليه الدم بتركه عمدا لكن يسقط وجوب الترتيب بالجهل والنسيان كذا روى الأثرم عنه وكذا يشعر كلام البخاري وهو المختار عندى للفتوى وقال الشافعي وكثير من السلف الترتيب سنة وليس بواجب وقال مالك تقديم الحلق على الرمي والذبح لا يجوز وللشافعى قول مثله احتج الشافعي بحديث ابن عباس ان النبي ﷺ قيل له في الذبح والرمي والحلق والتقديم والتأخير فقال لا حرج متفق عليه وفي رواية للبخارى قال كان النبي ﷺ يسأل يوم النحر بمنى فيقول لا حرج فسأله رجل فقال حلقت قبل ان اذبح قال اذبح ولا حرج قال ميت بعد ما أمسيت فقال لا حرج وفي رواية للبخارى اتى رجل الى النبي ﷺ قال زرت قبل ان ارمى قال لا حرج قال ذبحت قبل ان ارمى قال لا حرج وروى الطبراني بلفظ ان رجلا قال يا رسول الله طفت بالبيت قبل ان ارمى قال ارم ولا حرج وقد ثبت بحديث على رضى الله عنه التصريح بالسؤال بالطواف قبل الذبح ايضا رواه احمد وجه الاحتجاج للشافعى انه لو كان الترتيب واجبا لامرهم النبي ﷺ باعادة ما قدم من المناسك لكون الوقت وقت أداء المناسك
280
يوم النحر أو أمرهم النبي ﷺ باراقة الدم ولو أمرهم بشيء من ذلك لنقل إلينا لاشتراك خلق كثير في الواقعة وحرص كل منهم على حفظ مناسك وتبليغها فلما لم ينقل علم انه لم يأمر ولما لم يأمر علم انه لم يجب لانه رفت الحاجة وترك تبليغ الواجب مع الحاجة محال فظهر انه ليس بواجب وما ليس بواجب لا بأس ترله عمدا قال ابو حنيفة رح من رواة هذه القصة ابن عباس رضى الله عنه وقد قال ابن عباس من قدّم شيئا من نسكه أو أخّره فليهرق لذلك دما وقول الراوي على خلاف روايته جرح في الحديث لدلالته على ان الراوي اطلع على الناسخ لكن هذا القول لا ينتهض دفعا لقول الشافعي إذ عنده قول الراوي على خلاف روايته ليس بجرح في الحديث بل على اصل ابى حنيفة ايضا لا ينتهض دفعا لان قول الراوي على خلاف روايته انما يكون جرحا إذا كان الموقوف في قوة المرفوع حتى يكون ننزلة الناسخ والأمر ليس كذلك قلت لكن
الجمع بين الأحاديث متى أمكن اولى من ترك العمل على بعضها فنحمل اثر ابن عباس وهو في حكم المرفوع وقد بلغ بالاعتصام درجة الحسن على ترك الترتيب عمدا وما احتج به الشافعي على الجهل والنسيان فقلنا الترتيب واجب لكن يسقط بالجهل والنسيان كالترتيب في الفوائت من الصلوات واجب عند ابى حنيفة ويسقط بالنسيان والإمساك في الصوم واجب ويسقط بالنسيان وتكبيرات التشريق واجبة تسقط بالنسيان. مسئلة الحلق من واجبات الإحرام ليس بركن عند ابى حنيفة رحمه الله وقال الشافعي رحمه الله وبعض العلماء انه ركن من اركان الحج وفي رواية ضعيفة عن الشافعي وهى رواية عن ابى يوسف وعن احمد وبه قال بعض المالكية انه ليس بنسك بل امر مباح وحجتنا وحجة الشافعي هذه الآية فانه امر بقضاء التفث والمراد به الحلق والأمر للوجوب فكان ركنا عنده قلنا ثبوته وان كان بالآية القطعية لكن دلالة الآية عليه انما هى بتأويل ظنى لاختلاف في تفسير الآية فلا يوجب القطع وايضا قال الشافعي الحلق تحلل من الإحرام والإحرام ركن للحج فكذا التحلل عنه كالسلام في الصلاة فانه ركن عند الشافعي قلنا كون الإحرام شرطا وركنا للحج لا يستلزم كون التحلل عنه كذلك وكون السلام ركنا ممنوع عندنا وايضا هذا قياس مع الفارق لان النبي صلى الله
281
عليه وسلم جعل السّلام انتهاء لتحريمة الصلاة حيث قال تحليلها التسليم فلو لم يوجد التسليم ويتأتى على التحريمة ما ينافيها بطلت التحريمة وقد كانت التحريمة شرطا للصلوة وركنا لها على اختلاف الأقوال فبطلت الصلاة ببطلان التحريمة واما إحرام الحج فلا يبطل.......
بالمحظورات كما يبطل إحرام الصلاة الا ترى ان الجماع قبل الوقوف بعرفة يوجب الفساد حتى يجب عليه القضاء ولا يوجب البطلان حتى يجب المضي في الفاسد- مسئله أول وقت الحلق الرمي من طلوع الفجر الثاني يوم النحر وعند الأكثر بعد نصف الليل من ليلة النحر لنا حديث عروة بن مضرس فيه قال رسول الله ﷺ من شهد معنا هذا الصلاة صلوة الفجر بمزدلفة وقد كان وقف بعرفة قبل ذلك ليلا او نهارا فقدتم حجه وقضى تفثه رواه اصحاب السنن الأربع والحاكم وقال صحيح على شرط كافة اهل الحديث ولم يحرجاه على أصلهما لان عروة بن مضرس لم يرو عنه الا الشعبي وقد وجدنا عروة ابن الزبير قد حدث عنه واختلفوا في اخر وقته فقال الشافعي وابو يوسف ومحمد واكثر العلماء لا آخر لوقته واختلفوا ايضا في ان الحرم هل هو شرط للحلق فقال ابو يوسف وزفر واكثر العلماء ليس بشرط وقال ابو حنيفة للحلق اعتبار ان أحدهما انه محل للاحرام وثانيهما انه نسك من مناسك الحج فباعتبار انه محلل لا آخر لوقته ولا يختص ايضا بمكان وباعتبار انه نسك يختص بيوم النحر وبالحرم لانه كونه عبادة لا يدرك بالرأى فيراعى خصوصياته الواردة من الشارع وهو الزمان والمكان واما كونه محللا فامر يدرك بالرأى لان المحلل انما يكون ما يكون جناية في غير او انه وهو كذلك فان وجد الحلق بعد وقته او في غير الحرم يكون محللا من إحرامه ولا يكون عبادة فيلزم الدم لترك نسك واجب واحتج ابو يوسف بان النبي ﷺ قال اذبح ولا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح وانه ﷺ حلق عام الحديبية بالحديبية وهى من الحل قلنا قوله ﷺ اذبح ولا حرج لمن قال حلقت قبل ان اذبح لبيان سقوط الترتيب لعلة الجهل والنسيان لا لتعميم الزمان لان يوم النحر كان موجودا عند السؤال لانه كان بعد الظهر يوم النحر وحلق النبي ﷺ بالحديبية لم يكن عند ابى حنيفة نسكا بل ليعرف استحكام الانصراف
282
حيث لا يجب الحلق على المحصر عند ابى حنيفة والجواب عندى ان المحصر معذور لا يقاس عليه غيره الا ترى ان الحلق قبل دخول وقته جائز للمحصر لا لغيره اجماعا فكذا الحلق في غير مكانه والحجة لنا في اشتراط الحرم للحلق قوله تعالى ثم محلها الى البيت العتيق وسيجئى تفسيره وقوله ليدخلن المسجد الحرام إنشاء الله آمنين محلقين روسكم ومقصرين حيث جعل الحلق والتقصير من خواص دخول المسجد والتوارث فان النبي ﷺ ومن بعده توارثوا على الحلق في الحج بمنى والعمرة عند مروة وهما من الحرم- مسئلة واختلفوا في القدر الواجب من الحلق والتقصير فقال مالك واحمد لا يتحلل ما لم يحلق او يقصر كل الراس وقال ابو حنيفة حلق ربع الراس او تقصيره يكفيه وقال الشافعي يكفيه ازالة شعرة او ثلث شعرات قال الشافعي هذه الآية لايجاب قضاء التفث وليس الواجب منه الاستقصاء اجماعا حيث يجوز التقصير وفي التقصير قضاء بعض التفث ولا شك ان قضاء بعض التفث يحصل بازالة شعرة او ثلث شعرات وقال ابو حنيفة لا يقال في العرب في من أزال شعرة او ثلثا انه حلق راسه او قضى تفثه فلا بد من قدر معتدبه شرعا وقد اقام ربع الراس في الوضوء مقام الكل حيث أوجب مسح ربع الراس وأوجب في سائر الأعضاء غسلها بتمامها كما ذكرنا تحقيقه في سورة المائدة في اية الوضوء فقلنا هاهنا بحلق ربع الراس وقال مالك واحمد لا نسلم ما قال ابو حنيفة من اقامة ربع الراس مقام الكل فان الفريضة في الوضوء عندهم مسح كل الرأس ولم يرو عن النبي ﷺ ولا عن أحد من الصحابة انه اقتصر على حلق بعض الراس او تقصيره مسئلة الحلق أفضل من التقصير اجماعا لحديث ابن عمران رسول الله ﷺ قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال اللهم ارحم المحلقين قالوا والمقصرين يا رسول الله قال والمقصرين وفي رواية قال في الرابعة والمقصرين وحديث ابى هريرة نحوه
والحديثان في الصحيحين وَلْيُوفُوا قرأ ابن ذكوان بكسر اللام والباقون بإسكانها وقرأ أبو بكر عن عاصم ليوفوا بتشديد الفاء من التفعيل والباقون بالتخفيف من الافعال
283
نُذُورَهُمْ قيل أراد به الخروج عما وجب عليه نذر اولم ينذر فان العرب يقول لمن خرج عن الواجب عليه وفي بنذره والجمهور على ان المراد بالنذر ما أوجب انسان على نفسه مما ليس بواجب عليه وهو على نوعين منجز كان يقول لله على ان أصلي ركعتين ومعلق بشرط ثم المعلق بالشرط ان كان الشرط مرضيا كان قال ان شفى الله مريضى او قدم غائبى فعلّى ان أصوم يسمى نذر ترد وان كان الشرط مكروها كانّ قال ان كلمت زيدا فعلى ان أحج يسمى نذر لجاج وإذ علمت ان النذر إيجاب ما ليس بواجب عليه فايجاب ما هو واجب من الله تعالى اخبار محض كمن قال لله على ان أصوم رمضان او أصلي الظهر فلا يترتب عليه شيء أصلا ولا يتغير وصف الواجب وقدره بتغير العبد فلو قال لله على ان أؤدّي زكوة كل مائتى درهم عشرة لا يلزمه الا خمسة كمن قال لله على ان أصلي الظهر ست ركعات وكذا لو قال لله على ان أصلي كل فريضة بوضوء جديد او بجماعة لان الله سبحانه اجزى الصلاة بغير هذه القيود فلو قلنا بعدم الاجزاء لعزم نسخ حكم من احكام الله تعالى ولو قلنا بإجزاء الصلاة بدونها فلا فائدة في القول بايجاب هذه الأمور إذ لا يمكن قضائها بمثلها لعدم استقلالها وقضائها بمثل غير معقول يتوقف على ثبوتها من الشرع ولم يثبت وهذا معنى قولهم يشترط للوجوب بالنذر كونه طاعة مقصورة مستقلة بنفسها وهذا بخلاف من نذر ان يحج ماشيا فان قضأ المشي باراقة الدم عرف من الشرع لكن ما ذكرنا يشكل فيمن نذر ان يؤدى زكوة كل مائتى درهم عشرة حيث يمكن إيجاب خمسة زائدة على الخمسة الّتي وجبت بايجاب الله تعالى من غير لزوم نسخ حكم من الاحكام والله اعلم ثم اعلم ان ما ليس بواجب فهو على ثلثة اقسام اما طاعة واما معصية واما امر مباح ليس فيه معنى الطاعة ولا العصيان فالقسم الاول اى النذر بالطاعة يجب الوفاء به اجماعا وهو المأمور به بهذه الآية فقيل هو ليس بفرض على اصل ابى حنيفة نثبوته بهذه الآية وهى عامة خص منها البعض فصارت ظنية الدلالة وقيل هو فرض على أصله لما انعقد عليه الإجماع فصار قطعيا في مقدار ما انعقد عليه الإجماع ثم النذر بالطاعة ان كان منجزا لا يجوز العدول عنه الى لكفارة اجماعا الا ان يكون بمالا يطيقه حيث قيل فيه كفارة يمين وان كان
284
مطقا بشرط فوجد الشرط فكذا عند ابى حنيفة ومالك واكثر العلماء لان المعلق بالشرط كالمنجر عنده فصار كانه قال عند وجود الشرط لله على كذا وروى عن ابى حنيفة انه رجع عنه قبل موته بسبعة ايام فقال إذا كان معلقا بالشرط فهو مخير بين فعله بعينه وبين كفارة يمين وهو قول محمد فاذا قال ان فعلت كذا فعلى حجة او صوم سنة ان شاء وفي بنذره وان شاء كفر فانكان فقيرا صار مخيرا بين صوم سنة وصوم ثلثلة ايام والاول ظاهر المذهب والتخيير عن ابى حنيفة في النوادر وجه الظاهر هذه الآية والأحاديث الواردة ووجه رواية النوادر ما في صحيح مسلم من حديث عقبة بن عامر عنه ﷺ قال كفارة النذر كفارة اليمين وهو يقتضى ان يسقط النذر بالكفارة مطلقا فيتعارض النصوص فيحمل مقتضى الإيفاء بعينه على المنجز ومقتضى سقوطه بالكفارة على المعلق ووجه الفرق ان المعلق منتف في الحال فالنذر فيه معدوم فيصير كاليمين في ان سبب الإيجاب وهو الجنث منتف حال التكلم فيلحق به بخلاف النذر المنجز لانه نذر ثابت في وقته فيعمل فيه حديث الإيفاء والمختار عند صاحب الهداية والمحققين من العلماء الحنفية ان المراد بالمعلق الّذي يتخير فيه الناذر نذر اللجاج فانه لا يريد وجود الشرط فلا يريد وجوب النذر بل جعله مانعا من فعل الشرط فان الإنسان لا يريد إيجاب العبادات دائما وانكانت مجلبة للثواب مخافة ان يثقل عليه فيتعرض للعقاب ولهذا صح عنه ﷺ انه نهى عن النذر وقال انه لا يأت بخير لا سيما إذا كان المنذور عبادة شاقة كالحج وصوم سنة واما نذر التردد فلا يجزيه الا فعل
عين المنذور به لانه إذا أراد وجود الشرط أراد وجود النذر فكان المعلق في معنى المنجز فيندرج في حكمه وهو وجوب الإيفاء وعدم جواز العدول عنه الى الكفارة فصار محمل ما يقتضى الإيفاء المنجز ونذر التردد ومحمل ما يقتضى اجزاء الكفار نذر اللجاج ومذهب احمد فيه هكذا التفصيل الّذي اختاره صاحب الهداية وهو اظهر اقوال الشافعي كذا في المنهاج وفي رواية عنها نذر اللجاج يوجب الكفارة لا غير وفي قول للشافعى فيه إيفاء لا غير مسئلة يشترط للوجوب بالنذر عند ابى حنيفة ان يكون من جنسه واجب بايجاب الله تعالى وفي المنهاج للشافعى ان الصحيح عند الشافعي انعقاد بكل طاعة وان لم
285
يكن من جنسه واجب بايجاب الله كعيادة المريض وتشييع الجنازة والسّلام قلت ويرد على قول ابى حنيفة ان الاعتكاف يجب بالنذر اجماعا وليس من جنسه واجب بايجاب الله وكون الصوم شرطا للاعتكاف ممنوع ولو سلمنا فكون بعض شرائطه من جنس ما وجب بايجاب الله سببا للزومه بالنذر يقتضى لزوم كل قربة مقصودة وغير مقصورة بالنذر إذ كل قربة مشروطة بالإسلام والإخلاص وهما فريضتان واجبتان بايجاب الله تعالى ولو كان وجوب الاعتكاف بالنذر تبعا لوجوب الصوم بالنذر فمع كونه قلب الموضوع لزم ان لا يجب الاعتكاف لو نذر ان يعتكف في رمضان والله اعلم- مسئلة وإذا فات الوقاء بنذر الطاعة يجب عليه القضاء عند الجمهور وهل يجب عليه كفارة يمين ايضا اولا فقال سفيان الثوري يجب عليه القضاء والكفارة جميعا وقال ابو حنيفة ان لم ينو اليمين وتكلم بصيغة النذر سواء نوى النذر اولا يجب عليه القضاء دون الكفارة وان نوى اليمين مع نفى النذر يجب عليه الكفارة دون القضاء وان نوى يمينا ولم يخطر بباله النذر أصلا او نوى نذر او يمينا يجب عليه القضاء والكفارة جميعا وقال ابو يوسف انه يمين في الاول حتى يجب عليه الكفارة فقط دون القضاء حيث نوى المجاز ونذر في الثاني فيجب عليه القضاء فقط دون الكفارة لترجح الحقيقة على المجاز عند ارادتهما وامتناع الجمع بين الحقيقة والمجاز وجه قول سفيان انه نذر بصيغة لا يحتاج الى النية ولا ينتفى بالنفي لكونه إنشاء كالنكاح والطلاق والرجعة والاعتاق قال رسول الله ﷺ ثلث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة أخرجه احمد وابو داود والترمذي وابن ماجه من حديث ابى هريرة وفي مصنف عبد الرزاق من حديث ابى ذر قال قال رسول الله ﷺ من طلق وهو لاعب فطلاقه جائز ومن أعتق وهو لاعب فعتقه جائز وردى ابن عدى في الكامل من حديث ابى هريرة مرفوعا قال ثلث ليس منهن لعب من تكلم بشيء منهن لاعبا فقد وجب عليه الطلاق والعتاق والنكاح اخرج عبد الرزاق عن عمر وعلى موقوفا انهما قالا ثلث لا لعب فيهن النكاح والطلاق والعتاق وفي رواية عنهما اربع وزاد والنذر ويمين بموجبه لان إيجاب ما ليس بواجب يستلزم تحريم ما ليس بحرام يمين حيث قال الله تعالى يا ايها النبي لم تحرم ما أحل الله لك الى قوله وقد فرض الله لكم تحلة ايمانكم فلا يحتاج كونه يمينا ايضا الى النية ولا ينتفى
286
بالنفي كشراء القريب عتق بموجبه لا يحتاج الى النية ولا ينتفى بالنفي ووجه قول ابى حنيفة ان تحريم ما ليس بحرام ليس بيمين على الإطلاق الا ترى ان الطلاق والعتاق والبيع ونحو ذلك يستلزم تحريم ما ليس بحرام وهى الزوجة والامة وليس شيء منها يمينا بل إذا كان التحريم قصد يا منويا باليمين كتحريم مارية او العسل ولا يكون التزاما فحينئذ يكون يمينا وقوله تعالى يا ايها النبي لم تحرم ما أحل الله لك انما هو في التحريم القصدى دون الالتزامي فما لم ينو يمينا يكون نذرا نواه اولم ينوه حملا على الحقيقة وإذا نوى اليمين ونفى النذر يكون يمينا فقط حملا على المجاز وإذا لم ينف النذر سواه نواه اولم ينوه ونوى اليمين يكون نذر الصيغته يمينا بموجبه والله اعلم (فصل) واما القسم الثاني وهو النذر بالمعصية فهو على نوعين منها ما لا ينفك شيء من افراد جنسه عنها كالنذر بالشرب والزنا ونحو ذلك فقال
ابو حنيفة إذا قصد به اليمين ينعقد للكفارة والا يلغو ضرورة انه لا فائدة في انعقاده وليس هو مراد بهذه الآية ومامورا بالإيفاء اجماعا فان الله لا يأمر بالفحشاء وبه قال مالك والشافعي وقال احمد ينعقد النذر لاجل الكفارة سواء نوى به اليمين اولا قال ابن همام وعليه مشى اكثر مشايخ الحنفية وبه قال الطحاوي انه لو أضاف النذر الى سائر المعاصي كقوله لله على ان اقتل فلانا كان يمينا ولزمته الكفارة بالحنث قلت وذلك لانه لما تعذر حمل اللفظ على معناه الحقيقي وجب حمله على المعنى المجازى وهو مقتضى قوله ﷺ لانذر في معصية وكفارته كفارة اليمين ومحمل الحديث عند ابى حنيفة إذا نوى به اليمين ومنها ما كان من جنسه طاعة خالصة عن العصيان كالنذر بصوم يوم العيد والصلاة عند طلوع الشمس وهذا القسم من النذر ينعقد عند ابى حنيفة رحمه الله وعليه ان يفطر ويقضى ولا كفارة عليه وان صام أجزأه وان نوى يمينا مع نفى النذر فعليه كفارة يمين والا فعليه القضاء والكفارة جميعا كما ذكرنا في النذر بالطاعة وقال احمد عليه ان يفطر ويقضى ويكفر وان صام لا يجزيه وعنه ان صام أجزأه وقال مالك والشافعي لا ينعقد هذا النذر كالنذر بالنوع الاول من المعصية المحضة إذ لا فرق بين معصية ومعصية وما نهى الله عنه لا يجب بايجاب العبد وجه الفرق لابى حنيفة انه نذر الصوم وهو مشروع بأصله وانما النهى فيه لغيره وهو ترك اجابة دعوة الله فينعقد نذره ويجب عليه
287
ان يفطر احترازا عن المعصية المجاورة ويقضى لاسقاط ما وجب عليه فان صام في يوم العيد يخرج عن العهدة لانه اداه كما التزمه وهذا الخلاف مبنى على خلافية اصولية وهى ان النهى عن الافعال الشرعيه توجب القبح لغيره ومشروعيته عند ابى حنيفة رحمه الله وعند الشافعي رح توجب القبح لعينه وعدم مشروعية وقال احمد انما ينعقد من حيث كونه طاعة لا من حيث كونه معصيته فيجب به الصوم كاملا ولا يتأدى ان صام يوم العيد وكثير اما يجب الفعل ليظهر اثره في القضاء مع حرمة الأداء نظيره صوم رمضان في حق الحائض يجب ليظهر اثره في القضاء مع ادائه في الوقت حرام ولا يتأدى عنها الفريضة ان أدت فصل واما القسم الثالث وهو النذر بامر مباح فيلغو ولا ينعقد عند ابى حنيفة رح الا ان ينوى به اليمين فيكفر ان لم يأت به وقال الشافعي لا يجب عليه إتيانه ولكنه ينعقد يمينا نواى ولم ينو فان حنث لزمه كفارة يمين على المرجح كذا في المنهاج والوجه ما ذكرنا انه إذا تعذر الحمل على الحقيقة وهو الإيجاب لعدم صلوته لكونه طاعة يحمل على المجاز لتعينه وهو تحريم المباح قلت وهذا الدليل لا ينتهض حجة الا عند من قال تحريم المباح يمين والله اعلم ولنذكر هاهنا من الأحاديث الشاهدة لما ذكرنا من الأقوال حتى يظهر الراجح منها من المرجوع عن عائشة ان رسول الله ﷺ قال من نذر ان يطيع الله فليطعه ومن نذر ان يعصيه فلا يعصه رواه البخاري وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قوله ﷺ انما النذر ما ابتغى به وجه الله رواه احمد في قصة الرجل الّذي نذر ان يقوم في الشمس ورواه البيهقي في قصة اخرى وروى نحوه ابو داود وهذه الأحاديث بعمومها تدل على ان النذر بالطاعة ينعقد سواء كان من جنسها واجب بايجاب الله اولا وعن عمران بن حصين قال قال رسول الله ﷺ لا وفاء لنذر في معصية ولا فيما نذر لا يملك العبد رواه مسلم وروى ابو داود عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا لا نذر لابن آدم فيما لا يملك ولاجل هذا الحديث قال ابن همام مسئلة لو قال أحد ان فعلت كذا فالف درهم من مالى صدقة ففعله وهو لا يملك إلا مائة مثلا الصحيح من مذهب ابى حنيفة انه لا يلزمه التصدق الا بما ملك لان فيما لم يملك لم يكن النذر مضافا الى الملك ولا الى سبب الملك- (مسئلة) ولو قال مالى صدقة في المساكين ولا مال له لا يلزمه
شيء.
(مسئلة) ولو قال لله على ان اهدى هذه الشاة الى بيت الله وأشار الى شاة مملوكة لغيره
288
لا يلزمه شيء وعن عقبة بن عامر عن رسول الله ﷺ قال كفارة النذر كفارة اليمين رواه مسلم ورواه الطبراني بلفظ النذر يمين وكفارته كفارة يمين وهذا الحديث لعمومه يدل عليه مسئلة من نذر نذرا فلم يف به اما لكونه معصيته ممنوعة شرعا او لكونه ممنوعا طبعا بان كان النذر مما لا يطيقه كصوم الابد او كان مما يطيقه لكن فات وقته ولا يمكن التدارك او لكونه مباح الترك ولعدم تسمية المنذور به بان قيل لله على نذر يجب عليه كفارة اليمين سواء نوى اليمين اولا وحمل ابو حنيفة هذا الحديث على ما نوى اليمين وعن ابن عباس ان رسول الله ﷺ قال من نذر نذر الم يسمه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا لا يطيقه فكفارته كفارة يمين ومن نذر نذرا اطاقه فليف به رواه ابو داود وابن ماجه ووقفه بعضهم على ابن عباس وهذا الحديث كالبيان لما سبق من الحديث وهذا الحديث يدل عليه- (مسئلة) من نذر نذر طاعة وهو مطلق به لا يجوز له العدول عنه الى الكفارة ولا يجزء عنه الكفارة وعن عمران بن حصين قوله ﷺ لا نذر في معصيته وكفارته كفارة يمين رواه النسائي والحاكم والبيهقي وهذا الحديث باطلاقه حجة لاحمد في انعقاد نذر المعصية ووجوب الكفارة ومداره على محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران بن حصين ومحمد ليس بالقوى وقد اختلف عليه فيه رواه ابن المبارك عن عبد الرزاق عن أبيه قال الحافظ وله طريق اخر اسناده صحيح الا انه معلول ورواه احمد واصحاب السنن والبيهقي من رواية الزهري عن ابى سلمه عن ابى هريرة وهو منقطع لم يسمع الزهري من ابى سلمه وقد رواه ابو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن حديث سليمان بن بلال عن موسى بن عقبة ومحمد بن عتيق عن الزهري عن سليمان بن أرقم عن يحيى بن كثير عن ابى سلمة عن عائشة قال النسائي سليمان بن أرقم متروك وقد خالفه غير واحد من اصحاب يحيى بن كثير فرووا عن يحيى بن كثير عن محمد بن الزبير الحنظلي عن أبيه عن عمران فرجع الى الرواية الاولى قال الحافظ وقد رواه عبد الرزاق عن معمر عن يحيى بن كثير عن رجل من بنى حنيفة وابى سلمة كلاهما عن النبي ﷺ مرسلا والحنفي هو محمد بن الزبير
289
قاله الحاكم وقال ان قوله من بنى حنيفة تصحيف انما هو من بنى حنظلة وله طريق آخر عن عائشة مرفوعا رواه الدار قطنى وابو داود والترمذي والنسائي من رواية غالب بن عبد الله الجوزي عن عطأ عن عائشة مرفوعا من جعل عليه نذرا في معصية فكفارته كفارة يمين وغالب متروك الحديث وللحديث طريق اخر رواه ابو داود عن كريب عن ابن عباس واسناده حسن فيه طلح بن يحيى وهو مختلف فيه قال النووي حديث لا نذر في معصية وكفارته كفارة يمين ضعيف باتفاق المحدثين وقال الحافظ قد صححه الطحاوي وابو على بن السكن فاين الاتفاق قلت وقد كتب السيوطي في الجامع الصغير على هذا الحديث علامة الصحة واحتج ابو حنيفة بقوله بعدم وجوب الكفارة في النذر بالمعصية بحديث عمران بن حصين قال سمعت رسول الله ﷺ يقول النذر نذر ان فمن كان نذر في طاعة فذلك لله وفيه الوفاء ومن كان نذر في معصية فذلك للشيطان ولا وفاء فيه وجه الاحتجاج ان وجوب الكفارة يعتمد على وجوب الوفاء فانه ليكفر الإثم فاذا لم يجب الوفاء لم يجب الكفارة وهذا احتجاج في مقابلة النص بالمعقول ومنقوض بانه من حلف بالله على إتيان المعصية وجب عليه الحنث والكفارة ليكفر هتك حرمة اسم الله تعالى هذه في هذا المقام فكذا هاهنا وعن ثابت بن الضحاك قال نذر رجل على عهد رسول الله ﷺ ان ينحر ابلا ببواته فاتى رسول الله ﷺ فاخبره فقال رسول الله ﷺ هل كان فيها وثن من أوثان الجاهلية تعبده
قالوا لا قال فهل كان فيها عيد من أعيادهم قالوا لا فقال رسول الله ﷺ أوف بنذرك فانه لا وفاء لنذر في معصية الله ولا فيما لا يملك ابن آدم رواه ابو داود بسند صحيح وعن عمر بن شعيب عن أبيه عن حده ان امرأة قالت يا رسول الله انى نذرت ان اضرب على راسك الدف قال او في بنذرك رواه ابو داود وزاد ارين قالت يا رسول الله ونذرت ان اذبح بمكان كذا وكذا مكان يذبح فيه اهل الجاهلية قال هل كان بذلك المكان وثن من أوثان الجاهلية يعبد قالت لا قال هل كان فيه عيد من أعيادهم قالت لا قال او في بنذرك قلت الأمر بالإيفاء هاهنا ليس للوجوب اجماعا جمعا بين هذه الأحاديث وقوله ﷺ انما النذر ما ابتغى به وجه الله ونظرا الى ان ما ليس بطاعة لا يصلح للوجوب ولا لكونه تحية بوجه الله تعالى فالامر هاهنا للاباحة وإذا كان ترك المعصية فيما كان النذر بالمعصية موجبا للتكفير نظرا الى المعنى فههنا اولى مسئلة من نذر بطاعة
290
مقيدة بقيود وأوصاف فان كانت تلك القيود والأوصاف مرغوبة عند الله موجبة للمزية وكثرة الثواب يجب الإيفاء مع تلك القيود والأوصاف وانكانت عما لا مزية له عند الله لا يلزمه الشرط وهل يجب الكفارة عند فقد تلك القيود والصفات فالخلاف فيه كالخلاف في ترك كل منذور مباح فمن نذر ان يصلى في السوق او في يوم السبت او نذر ان يصوم ولا يقعد ولا يتكلم ولا يستظل او نذر ان يتصدق بهذا الدرهم على هذا الفقير في هذا البلد وجب عليه الصوم والصلاة وجاز له ان يصلى في اى مكان اى وقت شاء وبصوم مع التكلم والقعود والاستظلال ويتصدق بدرهم اىّ درهم شاء على اى فقير في اى بلد لحديث ابن عباس قال بينا النبي ﷺ يخطب إذا هو برجل قائم فسئل عنه فقالوا ابو إسرائيل نذر ان يقوم فلا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم فقال النبي ﷺ مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه رواه البخاري وليس فيه الأمر بالكفارة ومن نذر ان يصوم ثلثة ايام متتابعات او نذر ان يصلى قائما يجب عليه ان يفى بنذره فان صام متفرقا او صلى قاعد الا يجزيه ويجب عليه الاعادة لان صلوة القاعد نصف صلوة القائم كذا قال رسول الله ﷺ رواه احمد والنسائي وابن ماجه بسند صحيح عن انس وابن ماجه عن عبد الله بن عمرو والطبراني عن ابن عمرو عن عبد الله بن السائب وعن المطلب بن ابى وديعة واحمد وابو داود عن عمران بن حصين نحوه ومسلم وابو داود والنسائي عن ابن عمر ونحوه والتتابع في الصيام مرغوب ولذا وجب في الكفارات مسئلة ولو نذر بالصلوة مطلقا يجب الصلاة قائما لان الأصل هو القيام ولو نذر بالصلوة قاعدا اجزأته قاعدا وقائما مسئلة ولو نذر بالصلوة على جنبه او مستلقيا يجب عليه الصلاة قاعدا او قائما لان الرقود في الصلاة لم يعرف في حالة الاختيار بخلاف القعود غير ان المريض الّذي لا يقدر على القعود لو نذر ان يصلى راقدا أجزأه ان يصلّى راقدا فان صح قبل أدائه لا يجزيه الا قائما مسئلة من نذر ان يصلى في المسجد الحرام حاز له ان يصلى في اى مكان شاء عند ابى حنيفة ومحمد رحمهما الله وقال زفر وبه قال ابو يوسف في إملائه انه من نذر ان يصلى في مسجد بيت المقدس فصلى في مسجد رسول الله ﷺ او في المسجد الحرام اجزأته ومن نذر ان يصلى في مسجد رسول الله ﷺ فان صلى في المسجد الحرام اجزأته وان صلى في غيره لم يجزه ومن نذر ان يصلى في المسجد الحرام لم يجزه ان صلى في غيره احتج ابو حنيفة بحديث جابر
291
بن عبد الله ان رجلا قال يوم الفتح يا رسول الله انى نذرت لله عزّ وجلّ ان فتح الله عليك ان أصلي في بيت المقدس ركعتين فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال صل هاهنا ثم أعاد عليه فقال شانك إذا رواه ابو داود والدارمي والطحاوي قال ابو
يوسف وزفر نحن نقول بهذا الحديث انه من نذر ان يصلى ببيت المقدس جاز له ان يصلى بالمسجد الحرام وقد كان رسول الله ﷺ يوم الفتح بالمسجد الحرام واما من نذر ان يصلى في المسجد الحرام فصلى في غير ذلك كيف يجوز وقد قال رسول الله ﷺ صلوة الرجل في بيته بصلوة وصلوته في مسجد القبائل بخمس وعشرين صلوة وصلوته في المسجد الّذي يجمع فيه بخمس مأته صلوة وصلوته في المسجد الأقصى بألف صلوة وصلوته في مسجدى بخمسين الف صلوة وصلوته في المسجد الحرام مأته الف صلوة رواه ابن ماجه من حديث انس وفي الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ صلوة في مسجدى خير من الف صلوة فيما سواه الا المسجد الحرام وروى الطحاوي عنه وعن سعد بن ابى وقاص وعن عائشة وعن ميمونة وعن ابى سعيد الخدري كلهم عن النبي ﷺ مثل حديث الصحيحين عن ابى هريرة وروى الطحاوي عن عطاء ابن الزبير قال قال رسول الله ﷺ صلوة في مسجدى هذا أفضل من الف صلوة فيما سواه من المساجد الا المسجد الحرام وصلوة في ذلك أفضل من مأته الف صلوة في هذا وعن عمر بن الخطاب موقوفا وعن جابر بن عبد الله مرفوعا مثله فاجاب ابو حنيفة ان هذه الأحاديث مختصة بالمكتوبات فان فضل المكتوبات في المساجد على الترتيب المذكور حق وليس ذلك في النوافل حيث قال رسول الله ﷺ أفضل صلوة المرء في بيته الا الصلاة المكتوبة رواه الشيخان في الصحيحين من حديث زيد بن ثابت وروى ابو داود والترمذي عن زيد بن ثابت قال قال رسول الله ﷺ صلوة المرأ في بيته أفضل عن صلوته في مسجدى هذا الا المكتوبة وذكر الطحاوي حديث عبد الله بن سعد مرفوعا لان أصلي في بيتي أحب الى من ان أصلي في المسجد مسئلة من قال إذا قدم غابئى او شفى مريضى فلله على صوم شهر يجب عليه صيام شهر بعد وجود الشرط فلو صام عنه قبل وجود الشرط لم يجز ويجب عليه الاعادة خلافا للشافعى رح لان الشرط عندنا مانع من انعقاد السبب والأداء قبل وجود السبب لا يجوز وعنده مانع من الحكم دون السبب فيجوز الأداء كما يجوز الزكوة بعد النصاب قبل الحول مسئلة لو أضاف الوجوب الى الوقت جاز تقديمه على ذلك الوقت عند ابى حنيفة وابى يوسف رحمهما الله خلافا لمحمد هو يقول الاضافة الى الوقت كالتعليق بالشرط وهما يقولان ليس كذلك بل هو إيجاب منجز مقيدا بقيد والقيود ملغاة كمن قال لله على ان أصلي في السوق
292
جاز أينما صلى فكذا من قال لله على ان أصوم رجب او أحج في السنة الثالثة من هذه السنة جاز له ان يصوم ويحج قبله او بعده وقال زفر ان كان الوقت الّذي أضاف اليه فاضلا شرعا فصام قبل ذلك الوقت في وقت اقل منه فضيلة لم يجزه بل يجب عليه الاعادة حتى يدرك فضيلة الوقت وان لم يكن كذلك أجزأه وهذا عندى اظهر فمن نذر بصوم يوم عرفة او يوم عاشوراء او تسع من ذى الحجة الى عرفة او شهر المحرم لا يجزيه ان صام قبل ذلك وكذا من نذر ان يصلى في جوف الليل لا يجزيه ان صلى في النهار قبله ولا بعده لان الحياة الى الليلة المقبلة غالب عادة قال رسول الله ﷺ صيام يوم عرفة احتسب على الله ان يكفر السنة الّتي قبله والسنة الّتي بعده وصيام عاشورا انى احتسب على الله ان يكفر السنة الّتي قبله رواه مسلم وابن حبان والترمذي وابن ماجه من حديث ابى قتادة وروى ابن ماجه من حديث ابى سعيد الخدري عن قتادة بن نعمان نحوه وفي الباب حديث زيد بن أرقم وسهل بن سعد وابن عمر رواه الطبراني وحديث عائشة رواه احمد وقال الحافظ وفيه عن انس وغيره وقال رسول الله ﷺ ما من ايام العمل الصالح فيها أحب الى الله من هذه الأيام يعنى ايام التشريق من ذى الحجة قالوا يا رسول الله ولا الجهاد في سبيل الله قال ولا الجهاد في سبيل الله الا رجل
خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء رواه ابو داود من حديث ابن عباس وقال رسول الله ﷺ ما من ايام أحب الى الله ان يتعبد له فيها من ايام العشر وان صيام يوم منها ليعدل سنة وليلة منها بليلة القدر رواه ابن ماجه من حديث ابى هريرة وهذا الحديث ضعيف وقال رسول الله ﷺ أفضل الصيام بعد شهر رمضان شهر الله المحرم وأفضل الصلاة بعد الفريضة صلوة الليل رواه مسلم واصحاب السنن الأربعة عن ابى هريرة والروياني في مسنده والطبراني عن جندب- مسئلة من نذر ان يحج ماشيا ذكر في المبسوط من مذهب ابى حنيفة انه مخير بين الركوب والمشي يعنى لا يجب عليه المشي وبه قال قوم وهذا القول مبنى على ما سبق انه من نذر بطاعة وشرط فيه ما ليس بطاعة لا يلزمه الشرط وفي القدورى واكثر المتون انه يمشى ولا يركب حتى يطوف طواف الزيارة واختلفوا في محل ابتداء المشي فقيل من الميقات لان شروع الحج من هناك والأصح انه من بيته لانه المراد عرفا الا ان ينوى خلاف ذلك فعليه مانوى قال صاحب الهداية هذا يعنى ما ذكر في القدورى اشارة الى وجوب المشي بالنذر قال الطحاوي وبه قال ابو حنيفة وابو يوسف ومحمد والحجة لاهل المقالة الاولى اما على من يقول الحج راكبا أفضل من الحج ماشيا فظاهر ان المنذور لا بد ان يكون عبادة وفي المشقى الاولى
293
واما على قول ابى حنيفة فالمشى مع القدرة وإن كان أفضل لكن من شرط المنذور عنده ان يكون من جنسه واجب بايجاب الله تعالى من الواجبات المقصودة وليس المشي كذلك ولهم من السنة حديث انس بن مالك ان النبي ﷺ رأى شيخا يهادى بين ابنيه قال ما بال هذا قالوا نذر ان يمشى قال ان الله غنى عن تعذيب هذا نفسه وامره ان يركب متفق عليه وفي رواية لمسلم عن ابى هريرة قال اركب ايها الشيخ فان الله غنى عنك وعن نذرك وحديث عقبة بن عامر الجهني قال نذرت أختي ان تمشى الى بيت الله فامرتنى ان استفتى بها النبي ﷺ فقال لتمش ولتركب متفق عليه والحجة لاهل المقالة الثانية ان المشي عبادة مقصورة واجبة في طواف الزيارة عند ابى حنيفة رح كما سنذكر فيجب بالنذر والجواب عن استدلالهم بالسنة ان النبي ﷺ انما امر بالركوب إذا رأى انه لا يطيق المشي كما هو صريح في حديث انس انه رأى شيخا يهادى بين ابنيه وكذا في قصة اخت عقبة مذكور في رواية ابى داود انها لا تطيق فثبت بهذين الحديثين انه جاز له الركوب إذا لم يطق المشي وذالا يدل على عدم الوجوب بل على جواز الركوب بعذر مسئلة فان ركب بعذر او بغير عذر لا يجب عليه إعادة الحج ماشيا اجماعا وكان مقتضى القياس على اصل ابى حنيفة ان لا يخرج عن عهدة منذر إذا ركب كما لو نذر بصيام ايام متتابعات وبالصلوة قائما لكنا تركنا القياس لثبوت الرخصة في الركوب بالنص فان قيل الأحاديث المذكورة انما توجب الرخصه لمن لا يطيق على المشي والمطيق على المشي ليس في معناه فلا بد ان لا يخرج المطيق على المشي من العهدة إذا ركب بغير عذر قلنا جوابه بوجهين أحدهما ان احكام الشرع عامة غالبا والغالب في الحج ان لا يطيق على المشي ولذلك قالت العلماء ان الزاد والراحلة في الحج من القدرة الممكنة دون الميسرة فقلنا بالرخصة يؤيد ما قلنا حديث عمران بن حصين قال ما خطبنا رسول الله ﷺ خطبة الا أمرنا بالصدقة ونهانا عن المثلة وقال ان من المثلة ان ينذر الرجل ان يحج ماشيا فمن نذر ان يحج ماشيا فليهد هديا وليركب رواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح الاسناد ولم يخرجاه ثانيهما ان ترك الواجب بعذر او بغير عذر شانهما في اقتضاء القضاء واحد فان كان عبادة مستقلة يقضى ما ترك وان كان جزاء او شرطا او وصفا للعبادة لا يتصور قضاؤه بمثل معقول لعدم استقلاله ويتصور قضاؤه بمثل غير معقول كسجدة السهو قضاء لواجبات الصلاة لكن القضاء بمثل غير معقول لا يدرك بالرأى بل يتوقف على الشرع فان ظهر له من الشرع مثل غير معقول تقضى بتلك
المثل ولا يعاد العبادة والإيعاد تلك العبادة ولما لم يدرك للتتابع في الصيام والقيام
294
فى الصلاة مثل غير معقول حكمنا باعادة الصوم والصلاة وإذا عرف للمشى مثل غير معقول وهو الهدى لم يحكم باعادة الحج بل بالهدى والفرق بين المعذور وغير المعذور لا يظهر الا في الإثم ونظير ترك الوقوف بمزدلفة بلا عذر لا يجوز وبعذر يجوز وعلى كلا التقديرين يجب عليه الهدى والله اعلم- مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج وترك المشي بعذر او بلا عذر يجب عليه بدنة وقال ابو حنيفة وصاحبيه لزم دم وأدناه شاة وإذا أراد بقوله لله على ان أحج ماشيا اليمين لزمه كفارة اليمين ايضا كذا ذكر الطحاوي وقول ابى حنيفة وصاحبيه وقيل لا يجب عليه الا كفارة يمين والحجة لوجوب الهدى بالركوب حديث عقبة بن عامر ان أخته نذرت ان يمشى الى البيت فامرها النبي ﷺ ان تركب وتهدى هديا رواه ابو داؤد وسنده حجة وبهذا يظهر ان ما في الصحيحين من حديث عقبة بن عامر فيه اختصار على ذكر بعض المروي والزيادة من الثقة مقبولة وهذا الحديث حجة لابى حنيفة في إيجاب مطلق الهدى ولو بشاة ولنا على تخصيص الهدى بالبدنة ما رواه ابو داؤد من حديث ابن عباس بلفظ ان اخت عقبة بن عامر نذرت ان تحج ماشية وانها لا تطيق ذلك فقال النبي ﷺ وان الله لغنى عن مشى أختك فلتركب ولتهد بدنة وما رواه الطحاوي من حديث عقبة بن عامر قال نذرت أختي ان تمشى الى الكعبة فقال ان الله لغنى عن مشيها مروها فلتركب ولتهد بدنة قلت وهذا حديث حسن لانه من رواية ابن ابى داؤد ثنا عيسى بن ابراهيم ثنا عبد العزيز بن مسلم ثنا مطر الوراق عن عكرمة عنه فان قيل عبد العزيز بن مسلم استجهل ومطرح الوراق قال ابن سعد فيه ضعف في الحديث قلنا قال الذهبي عبد العزيز معروف فلا يضر جهل من استجهل ومطر الوراق من رجال مسلم قال الذهبي ثقة وقال احمد وابن معين ضعيف في عطاء خاصة وهذا من رواية عكرمة قال ابن همام عمل ابو حنيفة بإطلاق الهدى من غير تعين بدنة لقوة رواتها قلنا قوة رواة الإطلاق ممنوع ولو سلمنا فالترجيح بالقوة انما يطلب عند التعارض ولا تعارض هاهنا بل مطلق ومقيد في حكم واحد في قضية واحدة فيحمل المطلق على المقيد البتة وما اخترت مروى عن على وغيره من الصحابة رضى الله عنهم والموقوف في الباب له حكم الرفع روى الشافعي إيراد عليه عن سعد بن ابى عروبة عن قتادة عن الحسن عن على في الرجل يحلف على المشي قال يمشى وان عجز ركب واهدى بدنة وروى عبد الرزاق بسند صحيح عن على فيمن نذر ان يمشى الى البيت قال يمشى فان أعيى ركب واهدى جزورا واخرج نحوه عن ابن عمرو ابن عباس وقتادة والحسن مسئلة من قال على المشي الى بيت الله او الكعبة
295
ولم يذكر حجا ولا عمرة فعليه ان يحج او يعتمر ماشيا استحسانا وفي القياس لا شيء عليه وجه الاستحسان تعورف النسك بهذا اللفظ ولو قال على المشي الى الحرم لا شى عليه عند ابى حنيفة لعدم العرف في التزام النسك به وعند صاحبيه يلزمه النسك احتياطا واتفقوا على انه لو قال الى الصفا او المروة او عرفة او مزدلفة او منى او مقام ابراهيم لا يجب شيء وكذا لو قال مكان المشي غيره كقوله الذهاب الى بيت الله او الخروج او السفر لا يجب شيء والمدار على تعارف إيجاب النسك بلفظ دون لفظ ولو نوى بقوله على المشي الى بيت الله المشي الى مسجد المدينة او مسجد بيت المقدس او مسجد اخر لم يلزمه شيء لصحة اطلاق بيت الله على كل مسجد مسئلة من نذر بطاعة لزمه ذلك الطاعة وما يتوقف عليه ذلك فمن نذر ان يصلى ركعتين بلا وضوء او بلا قرأة او نذر ان يصلى ركعة واحدة او ثلث ركعات لزمه الركعتان بالوضوء والقراءة وفي ثلث واربع ركعات وقال محمد لا يصح النذر لو نذر الركعتين بلا وضوء لان الصلاة بلا وضوء ليست بطاعة بخلاف الصلاة بغير قرأة فانها قد تكون طاعة كصلوة الأمي
وفي غير ذلك قوله كقولنا وقال زفر يلزمه الركعتان ان نذر ثلثا ولا يلزمه شيء فيما سوى ذلك لان الصلاة بلا وضوء او بلا قراءة او ركعة منفردة او مع شفع يقدمها ليست بقربة فلا يجوز به النذر قلنا الالتزام بالشيء يستلزم استلزام ما لا صحة له الا به والله اعلم مسئلة من نذر ان يحج ماشيا فحج راكبا بعذر او بلا عذر واهدى بدنة هل يجب عليه الكفارة أم لا قال ابو حنيفة لا يجب عليه الكفارة الا إذا نوى به اليمين والخلاف في هذه المسألة مثل الخلاف في فوات اصل المنذور وقد مر من قبل مسئلة من نذر ان يعتكف قال ابو حنيفة ومالك يجب عليه ان يصوم ويعتكف وقال الشافعي واحمد لا يجب عليه الصوم ومبنى الخلاف على اختلافهم في انه بل يشترط الصوم للاعتكاف أم لا فقال الشافعي واحمد لا يشترط ويصح الاعتكاف بغير صوم وبالليل واقله ساعة وقال مالك يشترط وهو رواية عن احمد ورواية الحسن عن ابى حنيفة وفي الأصل مذهب ابى حنيفة ان الصوم شرط لصحة الواجب من الاعتكاف دون التطوع منه وبه قال محمد والحجة على اشتراط الصوم للاعتكاف ما رواه الدار قطنى والبيهقي عن سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ ولا اعتكاف الا بصوم قال الدار قطنى تفرد به سويد عن سفيان وقال احمد سويد متروك الحديث وقال البخاري في حديثه نظر وقال يحيى ليس بشيء وسفيان قال يحيى لم يكن بالقوى وقال ابن حبان يروى عن الزهري المقلوبات قلت قال الذهبي صدوق
296
مشهور وقال بعضهم ليس به بأس الا في الزهري- اخرج له مسلم وذكر ابن همام قال في الكمال قال ابن حجر سألت عنه هشيما فاثنى عليه خيرا- فالحديث لم يصح لاجل سويد وسفيان إذ هو من رواية الزهري وهو في الزهري ضعيف وما رواه ابو داود عن عبد الرحمن بن إسحاق عن الزهري عن عروة عن عائشة قالت السنة على المعتكف ان لا يعود مريضا ولا يشهد جنازة ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا يخرج لحاجة الّا لما لا بد منها ولا اعتكاف الا بصوم ولا اعتكاف الا في مسجد جامع- فان قيل قال ابو داؤد غير عبد الرحمن ابن اسحق لا يقول فيه السنة فالحديث موقوف فقال الدار قطنى عبد الرحمن ضعيف- وأجيب بان الرفع زيادة وعبد الرحمن ثقة الا انه قدرى كذا قال ابو داود ووثقه ابن معين وقال احمد صالح الحديث واخرج له مسلم- قلت هذا الحديث لا يصلح للاحتجاج لان كلمة لا اعتكاف الظاهر انه ليس تحت قوله السنة على المعتكف ان لا يعود لتغير نسق الكلام واو سلمنا فكون الصوم سنة في الاعتكاف لانزاع فيه- انما الخلاف في كونه شرطا وهذا امر لا بد له من دليل وروى هذا الحديث ابن الجوزي في التحقيق من طريق الدار قطنى عن الزهري عن سعيد بن المسيب وعروة عن عائشة عن رسول الله ﷺ كان يعتكف العشر الا واخر من رمضان وان السنة للمعتكف ان لا يخرج الا لحاجة الإنسان ولا يتبع الجنازة ولا يعود مريضا ولا يمس امراة ولا يباشرها ولا اعتكاف الا في مسجد جماعة ويأمر من اعتكف ان يصوم واعترض عليه ابن الجزري بان فيه ابراهيم بن محسر قال ابن عدى له أحاديث مناكير وقال الدار قطنى يقال ان قوله ان السنة للمعتكف إلخ ليس من قول رسول الله ﷺ بل هو من كلام الزهري ومن أدرجه في الحديث فقدوهم ومن الحجة في الباب ما رواه ابو داود عن عبد الرحمن بن بديل عن عمرو بن دينار ان عمر جعل عليه ان يعتكف في الجاهلية ليلة او يوما عند الكعبة فسال النبي ﷺ فقال اعتكف وصم- وفي لفظ للنسائى امره ان يعتكف ويصوم- قال الدار قطنى تفرد به ابن بديل وهو ضعيف ورواه نافع عن ابن عمر ولم يذكر فيه الصوم وهو أصح وقال سمعت أبا بكر النيسابورى يقول هذا حديث منكر لان الثقات من اصحاب عمرو بن دينار لم يذكروه منهم ابن جريح وابن
عليينة وحماد بن سلمة وغيرهم وما قال ابن همام ان ابن بديل ثقة قال فيه ابن معين صالح وذكره ابن حبان في الثقات- قلت لم يذكر الذهبي في ترثيقه شيئا بل قال
297
فيه امّه ضعيف ثم لو ثبت الأمر بالصوم تحمله على ان عمر كان قد نذر بالاعتكاف والصوم جميعا وسال عنهما فبسقط ذكر الصوم من الراوي في رواية السؤال كما سقط ذكر الصوم عن الجواب في اكثر الطرق وأصحها- وما رواه الدار قطنى بسنده عن سعيد بن بشير عن عبد الله «١» بن عمر عن نافع عن ابن عمر ان عمر نذر ان يعتكف في الشرك ويصوم فسال رسول الله ﷺ بعد إسلامه فقال أوف بنذرك- قال قيل قال عبد الحق تفرد به سعيد بن بشير قال ابن الجوزي قال يحيى وابن نمير ليس بشيء قلنا قال الحافظ هو مختلف فيه وقال الذهبي سعيد بن بشير صاحب قتادة وثقة شعبة وقال البخاري يتكلم في حفظه وقيل كان قدريّا قلت ولا شك ان سعيد بن بشير ليس أضعف من ابن بديل- واحتج الشافعي واحمد بحديث ابن عباس ان النبي ﷺ قال ليس على المعتكف صيام الا ان يجعله على نفسه- رواه الحاكم وصححه ولم يطعن فيه ابن الجوزي واحتج البخاري بحديث ابن عمر ان عمر سال رسول الله ﷺ قال كنت نذرت في الجاهلية ان اعتكف ليلة في المسجد الحرام قال فاوف بنذرك- متفق عليه وجه الاستدلال ان الليل ليس وقتا للصوم واعترض عليه بين في رواية شعبة عن عبيد الله عند مسلم يوما بدل ليلة- فجمع ابن حبان وغيره بين الروايتين بانه ندر اعتكاف يوم وليلة فمن اطلق يوما أراد بليلتها ومن اطلق ليلة أراد بيومها- وأجيب بان رواية من روى يوما شاذ او نقول لما نذر اعتكاف يوم ولم يأمره النبي ﷺ بالصوم دل على ان الصوم ليس بشرط- ومن الحجة في الباب حديث عبد الله بن أنيس قال قلت يا رسول الله ان لى بادية أكون فيها وانا أصلي فيها بحمد الله فمرنى بليلة أنزلها الى هذا المسجد فقال انزل ليلة ثلاث وعشرين فقيل لابنه كيف كان أبوك يصنع قال كان يدخل المسجد أصلي العصر فلا يخرج منه لحاجة حتى يصلى الصبح فاذا صلى الصبح وجد دابته على باب المسجد فجلس عليها ولحق بباديته- رواه ابو داود وهذا صريح في جواز الاعتكاف ليلا- لا يقال لا نسميه اعتكافا لانا نقول لا مشاحة لنا في الاصطلاح بعد ما ثبت- ان اللبث في المسجد بنية التقرب طاعة والطاعة تجب بالنذر مسئلة من نذر ان يعتكف رمضان لزمه ولا يلغو اشتراط رمضان لما ثبت ان الطاعة في رمضان اكثر ثوابا من الطاعة في غيره قال رسول الله ﷺ من تقرب فيه اى
(١) كذا في الأصل وفي شرح معانى الدار للطحاوى عبد الله بن عمر إلخ ١٢- الفقير الدهلوي-
298
فى رمضان خصلة من الخير كان كمن ادى فريضة فيما سواه ومن ادى فريضة فيه كان كمن ادى سبعين فريضة فيما سواه- رواه البيهقي في شعب الايمان في حديث طويل عن سلمان الفارسي «١» فان أطلقه فعليه ان يعتكف في اى رمضان شاء وان علية لزمه فيه- كذا قال ابن همام لكن هذا لا يوافق ما مر ان كل شرط لا مزية فيه من حيت الطاعة لا يلزمه ولا مزية لرمضان على رمضان اخر فاولى ان يقال ان عيّن أول رمضان أدركه لزمه ذلك لان الاستعجال في الطاعة طاعة قال الله تعالى يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ- وان عين رمضان اخر فادى في أول رمضان أدركه ينبغى ان يجزيه بل الظاهر انه يلزمه الأداء في أول رمضان أدركه لان الحيوة الى رمضان ثان غير غالب الوقوع عادة (مسئلة) فان صام رمضان عينه للاعتكاف ولم يعتكف لزمه قضاؤه بصوم مقصود للنذر عند ابى حنيفة ومحمد وهو احدى الروايتين عن ابى يوسف وعن ابى يوسف انه لا يقضى أصلا وهو قول زفر لان الاعتكاف في رمضان أفضل من الاعتكاف في غيره فلا يتادى بالاعتكاف في غيره كمن نذر ان يصلى قائما او يصوم متتابعا فصلى قاعدا او صام متفرقا لا يجزيه فتعذر للقضاء فسقط قلنا كان عليه ان يعتكف في رمضان فلما فات ذلك بقي عليه مطلق الاعتكاف لامكان التدارك وسقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك- والحيوة الى رمضان اخر غير متيقن بل غير مظنون لطول الزمان- فصار المسألة كمن فاته صلوة الوقت او صوم رمضان وجب بنيه قضاء اصل الصلاة والصوم لامكان التدارك وسقط عنه فضل الوقت لعدم إمكان التدارك- بخلاف من صلّى قاعدا وكان قد نذر الصلاة قائما حيث يحكم بالاعادة لامكان التدارك- فان قيل لما فات الاعتكاف في رمضان كان ينبغى ان يحكم بوجوب قضائه في رمضان اخر وإذا لم يحكم بذلك لاحتمال للموت قبل ذلك وحكمتم بوجوب القضاء بعد رمضان بصوم مقصود فاذا اعتكف قضاء بعد رمضان بصوم مقصود ثم أدرك رمضان»
اخر ينبغى ان يحكم بوجوب الاعادة- كمن وجب عليه الحج ولم يحج وعجز عن الحج فاحج عنه غير ثم قدر على الحج بنفسه بطل حينئذ احجاج الغير ولزمه ان يحج بنفسه- قلنا قال ابو حنيفة ان اشتراط الصوم للاعتكاف ثبت بالنص كما ذكرنا فكان القياس ان لا يتادى الاعتكاف المنذور في رمضان أصلا لانه إذا وجب الاعتكاف بالنذر وجب الصوم مقصودا ايضا شرطا له والصوم المنذور مقصودا لا يتادى في رمضان لكون الوقت مشغولا بحق الله تعالى فلا يتأدى
(١) وفي الأصل سلمان القاري وهو تصحيف- الفقير الدهلوي-
(٢) وفي الأصل رمضانا آخر.
299
الاعتكاف ايضا- لكنا جوزنا الاعتكاف في رمضان ضرورة ادراك فضل الوقت- فاذا فات عنه فضل الوقت عاد الحكم الى الأصل ووجب الصوم للاعتكاف مقصودا- ثم إذا أدرك رمضان من قابل لا يسقط ما وجب مقصودا فلا يتادى ذلك الاعتكاف في رمضان اخر أصلا للزوم الصوم المقصود والله اعلم ولاجل ذلك لا يجوز عند ابى حنيفة وصاحبيه ان يقضى اعتكاف رمضان في رمضان اخر لكن لو لم يصم في رمضان ولم يعتكف جاز ان يعتكف في صيام القضاء وكان مقتضى القياس على ما ذكرنا ان لا يتادى بعد رمضان الا بصوم مقصود لفوات فضل الوقت والله اعلم وما ذكرنا من قول ابى حنيفة مبنى على اشتراط الصوم للاعتكاف عنده فمن لم يقل باشتراط الصوم جاز عنده ان يقضى بعد رمضان بلا صوم- او في رمضان اخر ان أدرك او في صيام القضاء او الكفارة او غير ذلك ثم إذا قضى بعد رمضان بلا صوم او بصوم ثم أدرك رمضان اخر لا تجب عليه الا عادة كمن فاته صلوة وقتية وهو واجد للماء فقضاه بعد الوقت بالتيمم ثم وجد الماء او صلى عاريا ثم وجد الثوب (مسئلة) من نذر بطاعة في حالة الكفر ثم اسلم قال مالك واحمد يجب عليه الوفاء لما مر من ان عمر بن الخطاب نذر في الجاهلية بالاعتكاف فسال رسول الله ﷺ فقال أوف بنذرك- وقال ابو حنيفة والشافعي لا يجب عليه الوفاء لان الكافر ليس أهلا للطاعة وطاعته معصية لعدم الإخلاص والنذر بالمعصية لا يجب الوفاء به- وإذا علمنا من ضرورات الدين ان الكافر ليس أهلا للعبادة نحمل حديث عمر طى ان إيفاء النذر وان لم يكن واجبا عليه لكنه لمّا رغب في الاعتكاف بعد الإسلام امره النبي ﷺ بذلك ابتداء لا قضاء لما كان واجبا عليه (مسئلة) من نذر بطاعة ثم ارتد (والعياذ بالله منه) ثم اسلم لا يلزمه موجب النذر عند ابى حنيفة رحمه الله لان نفس النذر بالقربة قربة فيبطل بالردة كسائر القرب فلا يترتب عليه موجبه (مسئلة) من نذر صوم الابد فضعف عن الصوم لاشتغاله بالمعيشة له ان يفطر ويعلم لكل يوم نصف صاع من بر كذا في الفتاوى الكبرى وكذا قال ابن همام وقال فان لم يقدر
300
على الإطعام لعسرته يستغفر الله ويستقيله- والفتوى على انه من نذر بصوم الابد ان شاء صام وان شاء كفر كذا في فتاوى الحجة- وكذا الخلاف فيمن نذر اى نذر يشق عليه ولم يطق- والحجة على اجزاء الكفارة قوله ﷺ من نذر نذر الا يطيقه فكفارته كفارة يمين وقد مر فيما سبق من حديث ابن عباس- (مسئلة) من نذر عشر حجج او مائة حجة اختلف فيه هل يلزمه كلها فيلزمه الإيصاء بها او يلزمه قدر ما عاش ففى الخلاصة نص على لزوم الكل وذكر غيره عن ابى يوسف ومحمد الثاني واختاره السرخسي- ولو قال عشر حجج في هذه السنة لزمه عشر في عشر سنين على رواية اختارها السرخسي ولزمه الكل في الحال على رواية الخلاصة- فان أحج عنه عشرة رجال أجزأه ان مات قبل ادراك السنين وان بقي حيّا فكلّما أدرك وقت الحج من كل سنة يجب عليه ان يحج بنفسه ويبطل حينئذ احجاج غيره عنه لانه قدر بنفسه فظهر عدم صحة احجاجهم فان لم يطق ان يحج كل سنة فالخلاف في اجزاء الكفارة ما سبق والله اعلم (مسئلة) من قال انا أحج لا حج عليه لانه وعد وليس بنذر لكن يندب الوفاء بالوعد مسئلة ان قال ان ما فانى الله من مرضى فعلى ان أحج لزمه حج غير حجة الإسلام فاذا حج ولم ينو شيئا وقع عن حجة الإسلام ثم إذا حج في السنة الثانية ولا نية له فقيل هى تطوع ولا بد للمنذور من تعيين النية- مسئلة من قال على حجة ان شاء فلان لزمه ان شاء فلان ولا يقتصر مشيته على مجلس بلوغه الخبر- بخلاف تعليق الطلاق بمشيته لان الطلاق يقبل التمليك والتمليك يستدعى جوابا في المجلس وهذا شرط محض (مسئلة) من نذر ان يتصدق بجميع ماله لزمه التصدق بجميع ما يجب فيه الزكوة استحسانا لان إيجاب العبد معتبر بايجاب الله تعالى- فيصرف إيجابه الى إيجاب ما أوجب الشرع فيه الصدقة من المال- ولان الظاهر التزام الصدقة من فاضل ماله وهو مال الزكوة بخلاف الوصية فانها تقع
في حالة الاستغناء- ومن نذر ان يتصدق بملكه لزمه ان يتصدق بالجميع عند ابى حنيفة وصاحبيه كذا في الهداية- وقال احمد وزفر والشافعي يجب التصدق بالجميع في الصورتين- وقال مالك يلزمه في الصورتين ان يتصدق بثلث ما يملكه لحديث ابى لبابه انه قال
301
النبي ﷺ ان من توبتى ان اهجر دار قومى الّتي أصبت فيها الذنب وان انخلع من مالى كله صدقة فقال رسول الله ﷺ يجزى عنك الثلث- رواه رزين- قلنا هذا الحديث لا دلالة له على انه كان نذر يتصدق جميع ماله بل أراد الصدقة فاشار اليه النبي ﷺ ان يتصدق بالثلث كيلا يفوت حقوق الناس الّتي عليه الا ترى ان النبي ﷺ لم يذكر الثلث في حديث كعب بن مالك رواه الشيخان في الصحيحين انه قال قلت يا رسول الله ان من توبتى ان انخلع من مالى صدقة الى الله والى رسوله- فقال رسول الله ﷺ امسك بعض مالك فهو خير لك قال قلت فانى امسك سهمى الّذي بخيبر مسئلة لو قال مالى صدقة في المساكين لا يدخل ماله ديون على الناس مسئلة من نذر ان يتصدق بجميع ما هو ملكه في الحال وما يملكه في الاستقبال يمسك نفقة نفسه وزوجته ومن وجب عليه نفقته كما ان من نذر بصوم الابد لا يجب عليه الفدية بدلا من صوم رمضان لانه مشغول بحق الغير- فمن شق عليه ذلك كفّر على ما ذكرنا فيمن شق عليه المنذور (مسئلة) من قال لله علىّ ان اذبح شاة او بقرة او بعيرا او قال ان شفى مريضى فعلىّ ان اذبح يجب عليه ذلك حالا في التنجيز وعند وجود الشرط في التعليق وجاز له ان يذبح حيث شاء ويتصدق بلحمه على الفقراء وفي نوادر ابن سماعة لا شيء عليه ان قال لله علىّ ان اذبح ولم يقل صدقة- قلنا انه التزم بمال من جنسه واجب الا ان يقصد نفس الذبح- ولو قال لله علىّ هدى يجب عليه ما يجزى في الاضحية من الضأن والمعز او الإبل او البقر الا ان ينوى بعيرا او بقرة فليزمه ذلك وان لا يذبح الا في الحرم- فان كان في ايام النحر فالسنة ان يذبح بمنى والا ففى مكة- وجاز له ان يذبح حيث شاء من ارض الحرم- ولو قال علىّ ان اهدى جزورا تعيّن الإبل والحرم- ولو قال علىّ جزورا ولم يذكر الهدى جاز في غير الحرم- ولو قال بدنة ولم يذكر الهدى فعن ابى يوسف انه يتعين الحرم لان اسم البدن لا يذكر في مشهور الاستعمال الا في معنى المهداة ولو صرح بالهدى يتعين بالحرم فكذا البدنة- وعند ابى حنيفة في البدنة لا يشترط الحرم الا ان يزيد فيقول بدنة من شعائر الله- فاذا ذبح الهدى في الحرم يتصدق بلحمه على مساكين الحرم وان تصدق على غيرهم جاز ايضا وهل يجوز التصدق
302
بالقيمة في الحرم في نذر الهدى- ففى رواية ابى سليمان يجوز ان يهدى قيمتها اعتبار بالزكاة- وفي رواية ابى حفص لا يجوز لان في اسم الهدى زيادة على مجرد اسم الشاة وهو الذبح فالقرية فيه يتعلق بالذبح- ثم التصدق بعد ذلك تبع بخلاف الزكوة فان القربة فيه التصدق بالشاة وهو ثابت في القيمة- (مسئلة) من نذر شاة واهدى مكانها جزورا فقد احسن- وليس هذا من القيمة لثبوت الاراقة في البدل الأعلى كالاصل- ولو قال الله علىّ ان اهدى شاتين فاهدى شاة تساوى اربع شياه في القيمة لم يجزه الا من شاة واحدة مسئلة لو قال لله علىّ ان اهدى هذه الشاة لزمته فان سرقت او ماتت لا يلزم غيرها- وكذا لو قال لله علىّ ان أتصدق بهذه الدراهم فهلكت قبل ان يتصدق بها لم يلزمه شيء غيرها ولو لم تهلك وتصدق بمثلها جاز- ولو نذر ان يتصدق بخبز كذا فتصدق بقيمته جاز مسئلة ولو قال لله علىّ ان اهدى ثوبا فاعطاه لحجبة البيت جاز ان كانوا فقراء والا فلا- ولو جعل الثوب لباسا للبيت لم يجزه (مسئلة) قوله هذه الشاة هدى الى البيت او الى مكة او الى الكعبة فوجب والى الحرم او الى المسجد الحرام غير موجب عنده وموجب عندهما والى الصفا غير موجب اتفاقا- فان قيل مجرد ذكر الهدى موجب فزيادة ذكر الحرم او الصفاء
لا يرفع الوجوب بعد الثبوت قلنا إذا ذكر الهدى مطلقا يعتبر هناك ذكر البيت او مكة مقدرا فيوجب وإذا نص على المسجد او الحرم تعذر الإضمار فلا يوجب مسئلة لو قال ثوبى هذا ستر للبيت او اضرب به حطيم البيت يلزمه استحسانا لانه يراد بهذا اللفظ هدية عرفا مسئلة من قال ان اشتريت هذه الشاة (وأشار الى شاة مملوكة لغيره) فعلىّ ان اهدى الى الكعبة قال الشافعي لا يلزمه الوفاء لان التعليق عنده يمنع الحكم دون السبب عن الانعقاد- فعند انعقاد السبب الشاة مملوكة لغيره فيلغو النذر بها لقوله ﷺ لا نذر فيما لا يملكه ابن آدم- وعند ابى حنيفة يلزم لان التعليق عنده يمنغ السبب عن الانعقاد وانما ينعقد بعد وجود الشرط يعنى بعد الشراء فلا يلغوا (مسئلة) من قال لله علىّ ان اذبح نفسى او ولدي او عبدى يلزمه شاة استحسانا عند
303
ابى حنيفة رحمه الله ولو كان له أولاد لزمه زمان مكان كل واحد شاة وعند محمد يلزمه الشاة في الولد دون العبد والنفس وعند ابى يوسف لا يلزمه شيء في واحد منها وهو القياس لانه نذر بالمعصية- وجه الاستحسان ان الله سبحانه أوجب شاة بدلا من اسمعيل عليه السلام حين وجب على ابراهيم ذبحه- ولمّا كان قتل النفس او الولد حقيقة مهجورا شرعا لكونه معصية جعلنا إيجابه على نفسه مجازا عن إيجاب بدله عليه- كذا روى عن محمد بن المنتشر انه قال ان رجلا نذر ان ينحر نفسه ان نجاه الله من عدوه فسأل ابن عباس فقال سل مسروقا فساله فقال له لا تنحر نفسك فانّك ان كنت مومنا قتلت نفسا مومنة وان كنت كافرا تعجلت الى النار فاشتر كيشا فاذبحه للمساكين فان اسحق خير منك فدى بكبش- فاخبر ابن عباس فقال هكذا كنت أردت ان أفتيك رواه ابن رزين مسئلة من قال كل منفعة تصل الى من مالك فعلىّ ان أتصدق بها لزمه ان يتصدق بكل ما ملكه- لا بما اباحه له كطعام اذن ان يأكله مسئلة لو قال ان فعلت كذا فكل ما أكلت فعلىّ ان أتصدق فعليه عند وجود الشرط بكل لقمة درهم لان كل لقمة أكلة ولو قال كلما شربت فانما يلزمه بكل نفس لا بكل مصة (مسئلة) من قال لله علىّ ان أصوم اليوم الّذي يقدم فيه زيد شكر الله وأراد به اليمين فقدم فلان في يوم رمضان- كان عليه كفارة يمين ولا قضاء عليه لانه لم يوجد شرط البر وهو الصوم بنية الشكر- ولو قدم قبل ان ينوى الصوم فنوى به الشكر لا عن رمضان برّ بالنية وأجزأه عن رمضان ولا قضاء عليه- وان لم يرد به اليمين لا شى عليه لان رمضان مشغول بحق الله تعالى فلا يجب فيه صوم النذر مسئلة إذا نذر المريض صوم شهر ومات قبل الصحة لا شيء عليه مسئلة من نذر صوم هذا اليوم او يوم كذا من شهر او سنة لزمه ما تكرر في الشهر والسنة مسئلة ولو نذر صوم يوم الاثنين والخميس فصام ذلك مرة كفاه الا ان ينوى الابد مسئلة النذر إذا جرى على لسانه بغير قصد لزمه الوفاء لانه إنشاء قال رسول الله ﷺ ثلاث جدهن جد وهزلهن جد وقد مرّ مسئلة من قال الله علىّ صوم هذه السنة قيل لزمه ان يصوم اثنى عشر شهرا من وقت النذر- وفي فتاوى قاضى خان والخلاصة ان السنة مبداها المحرم وآخرها ذو الحجة فاذا أشار الى السنة الّتي هو فيها لزمه
304
صوم ما بقي من السنة الى اخر ذى الحجة ويلغو في حق ما مضى كما يلغو قوله لله علىّ ان أصوم أمس- وكذا من قال لله علىّ صوم هذا الشهر لزمه صوم ما بقي من الشهر الّذي هو فيه مسئلة من قال لله علىّ صوم أمس اليوم او اليوم أمس لزمه صوم اليوم ولا يلزمه قضاء أمس مسئلة من نذر صوم السنة يجب عليه ان يفطر الأيام المنهية- وكذا المرأة تفطر ايام حيضها وتقضى «١» - وقال زفر لاقضاء عليه وعليها- فان صامها «٢» اثم وسقط عنه القضاء مسئلة من قالت لله علىّ ان أصوم ايام حيضتى لا يصح النذر ولا يجب عليها القضاء لانها اضافت الى وقت غير صالح للصوم كمن قال علىّ ان أصوم ليلة كذا وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) قال البغوي قال ابن عباس والزبير ومجاهد وقتادة سمى عتيقا لان الله تعالى اعتقه
من أيدي الجبابرة الى تخريبه فلم يظهر عليه جبار قط- اخرج الترمذي وحسّنه عن ابن الزبير قال قال رسول الله ﷺ انما سمى البيت العتيق لانه لم يظهر عليه جبار لكن يردّ هذا القول حديث ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة- متفق عليه- وحديث ابن عباس عن النبي ﷺ قال كانى به اسود افحج يقلعها حجرا حجرا- رواه البخاري وحديث عبد الله بن عمرو قال قال رسول الله ﷺ اتركوا الحبشة ما تركوكم فانه لا يستخرج كنز الكعبة الا ذو السويقتين من الحبشة رواه ابو داود والحاكم وصححه- فان هذه الأحاديث تدل على تسلط جبار عليه في المستقبل- وذلك ينافى كونه عتيقا بهذا المعنى- وقيل سمى عتيقا لان الله اعتقه من الغرق فانه رفع ايام الطوفان- وقال ابن زيد والحسن سمى عتيقا لانه قديم وهو اوّل بيت وضع للنّاس يقال دينار عتيق اى قديم وقيل العتيق بمعنى الكريم يقال عتاق الخيل لكرامها- وعتق الرقيق خروجه من ذلّ العبودية الى كرم الحرية- والمختار عندى قول سفيان بن عيينة انه سمى عتيقا لانه غير مملوك لبشر ولم يملك قط بل لم يملك ما حوله من الحرم سواء العاكف فيه والباد- اعلم ان الطواف بالبيت عبادة معقولة مقصودة كالصلوة- منها ما هو فريضة ركن للحج والعمرة ومنها ما هو واجب كطواف القدوم والصدر على ما نذكر فيه من الاختلاف
(١) وكذا يقضيان الأيام المنهية إذا أفطرا ١٢ الفقير الدهلوي.
(٢) الاولى فان صاماها لذا. الفقير الدهلوي.
305
وما سوى ذلك تطوع غير موقت بوقت- قال رسول الله ﷺ يا بنى عبد مناف من ولى منكم في امور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بالبيت وصلى أيّة ساعة شاء من ليل او نهار رواه الشافعي واحمد واصحاب السنن وابن خزيمة وابن حبان والدار قطنى والحاكم من حديث ابى الزبير عن عبد الله بن باباه عن جبير بن مطعم وصححه الترمذي ورواه الدار قطنى من وجهين آخرين عن نافع بن جبير عن أبيه ومن طريقين آخرين عن جابر وهو معلول ورواه الدار قطنى ايضا عن ابن عباس ورواه ابو نعيم في تاريخ أصبهان والخطيب في التلخيص من طريق عامر بن عبيدة عن ابى الزبير عن على بن عبد الله بن عباس عن أبيه وهو معلول ورواه ابن عدى من طريق سعيد بن راشد عن عطاء عن ابى هريرة (مسئلة) وطواف التطوع يكون واجبا بالنذر كالصلوة- والمراد بهذه الاية طواف الزيارة في الحج اجماعا وهو ركن من اركان الحج اجماعا- وليس «١» شيء من الاطوفة ركنا من الحج سوى طواف الزيارة مسئلة واما طواف القدوم فهو سنة عند ابى حنيفة والشافعي واحمد- وعند مالك واجب وبه قال ابو الثور من الشافعية يجب الدم بتركه ولا يفوت بفواته الحج اجماعا- عن عروة بن الزبير قال قد حج النبي ﷺ فاخبرتنى عائشة ان النبي ﷺ أول شيء بدأبه حين قدم مكة انه توضأ ثم طاف بالبيت ثم لم يكن عمرة ثم حج أبو بكر فكان أول شيء بدأ به الطواف بالبيت ثم لم تكن عمرة ثم عمر ثم عثمان مثل ذلك- متفق عليه وعن ابن عمر قال كان رسول الله ﷺ إذا طاق في الحج والعمرة أول ما يقدم اسبعى ثلاثة أطوف ومشى اربعة ثم سجد سجدتين ثم يطوف بين الصفا والمروة متفق عليه- احتج مالك بحديث عروة بن الزبير على ان النبي ﷺ كان مفردا بالحج لقوله ثم لم يكن عمرة وعلى وجوب طواف القدوم- بالحديثين المذكورين لانه ﷺ أول ما قدم طاف طواف القدوم- وقد صح عنه ﷺ انه قال خذوا عنى مناسككم فصار واجبا- وبأن السعى بين الصفا والمروة جائز بعد طواف القدوم اجماعا مع ان السعى بين الصفا والمروة واجب اجماعا- وتقدم الطواف على السعى شرط الجواز السعى اجماعا والواجب لا يتبع التطوع- ولهذا لا يجوز لملكى ان يسعى بين الصفا والمروة الا بعد طواف الزيارة- إذ ليس عليه طواف القدوم ولا يجوز له السعى بعد طواف ناف فان قلت قد دل كثير من الأحاديث الصحيحة ان النبي ﷺ كان قارنا لحديث
(١) فى الأصل ل؟؟؟ إلخ الفقير الدهلوي.
306
انس قال سمعت رسول الله ﷺ يلبى بالحج والعمرة يقول لبيك عمرة وحجّا متفق عليه وحديث عمران بن حصين انه ﷺ جمع بين حجته وعمرته- وحديث ابن عمر قال تمتع رسول الله ﷺ في حجة الوداع بالعمرة الى الحج وهدى فساق معه الهدى الحديث- متفق عليه وبهذا الحديث ونحوه قال احمد بن حنبل انه ﷺ كان متمتعا- قلنا المراد بالتمتع في هذا الحديث هو القران- فان التمتع بالعمرة الى الحج يشتمل لغة من اتى بهما جميعا في عام واحد في أشهر الحج سواء اتى بهما بإحرام واحد او بإحرامين كما أريد بقوله تعالى فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ- واطلاق التمتع على ما يقابل القران اصطلاح جديد للفقهاء- وما ذكرنا من الحديثين وغيرهما صريحة في انه ﷺ اهل بهما جميعا- ثم اختلف الناس انه ﷺ حين دخل المكة هل طاف طوافا واحدا- أم طاف طوافين أحدهما للقدوم وثانيهما للعمرة- فالجمهور على انه ﷺ انه أطاف حين قدومه طوافا واحدا وقال ابو حنيفة طاف طوافين احتج الجمهور بما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباس قال قدم النبي ﷺ مكة وطاف وسعى بين الصفا والمروة ولم يقرب الكعبة لطوافه بها حتى رجع من عرفة وحديث ابن عمر انه أراد الحج عام نزل الحجاج بابن الزبير فقيل ان الناس كائن بينهم وانا لخاف ان يصدون- فقال لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ اذن اصنع كما صنع رسول الله ﷺ انى أشهدكم انى قد أوجبت عمرة- ثم خرج حتى إذا كان بظاهر البيداء فقال ما شأن الحج والعمرة الا واحدا أشهدكم انى أوجبت حجا مع عمرتى واهدى هديا اشتراه بقديد- فلم ينحر ولم يحل من شيء يحرم منه ولم يحلق ولم يقصر حتى كان يوم النحر فنحر وحلق وراى انه قد قضى الحج والعمرة بطوافه الاول قال ابن عمرو كذلك فعل رسول الله ﷺ متفق عليه وفي رواية قال الراوي في اخر الحديث كان يقول ابن عمر من جمع بين الحج والعمرة كفاه طواف واحد لم يحل حتى يحل منهما جميعا- وفي رواية لمسام حتى إذا جاء البيت فطاف سبعا وسعى بين الصفا والمروة سبعا لم يزد عليه وراى انه مجزى عنه-
307
واحتجت الحنفية بحديث علىّ انه جمع بين الحج والعمرة فطاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين وقال هكذا رايت رسول الله ﷺ فعل- رواه الدار قطنى والنسائي بطرق ورواه محمد في كتاب الآثار عن ابى حنيفة بسنده عن على موقوفا انه قال إذا أهللت بالحج والعمرة فطف لهما طوافين واسبع لهما سعيين بين الصفا والمروة- وروى الطحاوي بسنده عن على وابن مسعود قال القارن يطوف طوافين ويسعى سعيين قال الحافظ ما روى عن علىّ وابن مسعود طرقه ضعيفة مرفوعا- لكن روى الطحاوي وغيره موقوفا عن علىّ وابن مسعود بأسانيد لا بأس بها إذا اجتمعت- قلت هذا الحديث لو ثبت لا يدل على انه ﷺ طاف حين قدومه بمكة قبل رواحه الى منى طوافين طوافا للعمرة وطوافا للقدوم بل معنى هذا الحديث انه ﷺ طاف لعمرته وسعى لها وذلك قبل رواحه الى منى وطاف للحج يوم النحر وسعى له- وكذا معنى حديث عمران بن حصين ان النبي ﷺ طاف طوافين وسعى سعين رواه الدار قطنى ولم يرو عنه ﷺ في شيء من الأحاديث الصحيحة ولا الضعيفة انه طاف للقدوم بعد طواف حمرته الا ما في مسند ابى حنيفة عن الضبي بن معبد قال أقبلت من الجزيرة حاجّا قارنا فمررت بسليمان بن ربيعة وزيد بن صوحان فسمعانى أقول لبيك بحجة وعمرة معا فقال أحدهما هذا اضلّ من بعيره وقال الاخر هذا أضل من كذا وكذا- فمضيت حتى قضيت نسكى ومررت بامير المؤمنين عمر فساقه الى ان قال فيه- قال يعنى عمر له فصنعت ماذا قال مضيت فطفت طوافا لعمرتى وسعيت لعمرتى ثم عدت ففعلت مثل ذلك
لحجى ثم بقيت حراما ما أقمنا اصنع كما يصنع الحاج حتى قضيت اخر نسكى- قال هديت لسنة نبيك صلى الله عليه وسلم- ومسند الامام ابى حنيفة بين جامعه وبين الامام رجال لا يعرف حالهم فاحاديث المسند لا يصلح ان يعارض ما في صحيح البخاري من حديث ابن عباس انه لم يقرب بطوافه بها حتى رجع من عرفة والله اعلم ولما ثبت ان النبي ﷺ كان قارنا ولم يطف حين قدومه سوى طواف العمرة- ظهر ان طواف القدوم ليس ركنا من اركان الحج ولا واجبا مستقلّا برأسه بل هو سنة مثل ركعتى تحية المسجد يتادى في ضمن واجب او سنة اخر- الا ترى انه من اتى المسجد وصلى فريضة او سنة موكدة
308
حين دخول المسجد اجزأته عن تحية المسجد فالنبى ﷺ لما قدم مكة وطاف للعمرة اجزأته عن طواف القدوم- (مسئلة) واما طواف الصدر فهو ايضا ليس بركن اجماعا بل هو واجب عند ابى حنيفة واحمد وهى رواية عن الشافعي لكن عند ابى حنيفة رحمه الله هو من واجبات الحج- فمن طاف للوداع ثم اتفق له المقام بمكة ثم خرج بعد زمان لا يجب عليه الا عادة- وقال محمد هو واجب برأسه على من يريد ان يخرج من مكة مسافرا ففى الصورة المذكورة يجب عليه إعادة الطواف عنده وسنة عند مالك وهو أحد قولى الشافعي ويسقط بعذر الحيض والإحصار اجماعا- لنا حديث ابن عباس قال كان الناس ينصرفون في كل وجه فقال النبي صلى الله عليه لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت رواه احمد ورواه الدار قطنى بلفظ كان الناس ينفرون من منى الى وجوههم فامرهم رسول الله ﷺ ان يكون اخر عهدهم بالبيت ورخص الحائض ورواه مسلم بلفظ لا ينفر أحدكم حتى يكون اخر عهده بالبيت- وفي المتفق عليه بلفظ امر الناس ان يكون اخر عهدهم بالبيت الا انه خفف عن الحائض وحديث ابن عمر قال من حج البيت فليكن اخر عهده بالبيت الطواف الا الحيض رخص لهنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم- رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح وحديث عبد الله بن أوس قال سمعت النبي ﷺ يقول من حج هذا البيت او اعتمر فليكن اخر عهده بالبيت- رواه الترمذي احتج ابو حنيفة بهذا الحديث انه من واجبات الحج لقوله ﷺ من حج البيت إلخ حيث جعل الطواف من واجبات الحج- قلت فعلى هذا يلزم ان يكون من واجبات العمرة ايضا ولم يقل به أحد- ولاحمد عموم قوله ﷺ لا ينفر أحد حتى يكون اخر عهده بالبيت ولا يلزم على اصل ابى حنيفة حمل المطلق على المقيد لكون التقييد داخلا على السبب كما في قوله ﷺ أدوا عن كل حر وعبد وقوله عليه السلام أدوا عن كل حر وعيد من المسلمين- بل يقال النفور مطلقا سبب للطواف والنفور عن الحج ايضا سبب ولا منافاة بينهما والله اعلم فصل وللطواف بالبيت شرائط واركان وواجبات وسنن وآداب اما الشرائط
309
فمنها النية فانها شرط لكل عبادة مقصودة بالنصوص والإجماع لكن يكفى لطواف الزيارة نية مطلق الطواف ولا يشترط تعين نية الفرض- فان قيل طواف الزيارة ركن من اركان الحج كالوقوف بعرفة وليست النية شرطا للوقوف حتى من وقف بعرفة نائما او مغى عليه او وقف على جبال ولم يعرف اىّ منها العرفة يجزيه- قال عروة بن مضرس جئت يا رسول الله من جبل طيء أكللت مطيتى وأتعبت نفسى والله ما تركت من جبل الا وقفت عليه فهل لى من حج فقال رسول الله ﷺ من أدرك معنا لهذه الصلاة يعنى صلوة الصبح بجمع واتى عرفات قبل ذلك ليلا او نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه- رواه ابو داود وغيره فما وجه الفرق بين الطواف والوقوف- ثم ان كانت شرطا فما وجه قولكم يكفيه نية مطلق الطواف ولا يشترط نية تعين الفرض مع ان تعين النية شرط لكل فريضة وقتها ظرف لها وليس بمعيار كالصلوة- قلنا تحقيق المقام ان النية بجميع المناسك قد اقترن بالإحرام في ضمن نية الحج- فما لم يعترض نية أخرى منافية لنية النسك يعتبر ذلك النية السابقة موجودة عند كل ركن ولا
يشترط تجديدها كما في افعال الصلاة- الا انه ما كان من المناسك عبادة مستقلة كالطواف وركعتى الطواف ويشترط تجديد مطلق النية عند شروعه لان الصلاة والطواف لكل منهما جهتان عبادة في نفسه وجزء عبادة- فمن حيث انه عبادة في نفسه لا بد فيه من اقتران النية باول جزء من اجزائه- ومن حيث انه جزء عبادة يكفيه النية السابقة المقترنة للاحرام- فعملنا بالشبهين وقلنا لا بد فيه مطلق النية عند الشروع لانه عبادة ولا يشترط تعيين النية لانه جزء من عبادة- وما ليس بعبادة الا من حيث كونه جزء للحج كالوقوف بعرفة والسعى بين الصفا والمروة فقلنا انه لا يشترط اقتران النية به بل يكفيه اقتران النية بالإحرام (مسئلة) من طاف حاملا غيره فان كان الحامل حلالا والمحمول محرما ونوى طواف المحمول ونوى المحمول طوافه او كان على العكس ونوى الحامل طواف نفسه أجزأه اجماعا- وان كان محرمين فان قصد للمحمول ففط فله وان طاف لنفسه فلنفسه
310
وان طاف لهما فللحامل فقط عند الشافعي وعند ابى حنيفة ان طاف لنفسه أولهما ونوى المحمول طواف نفسه يتادى طوافهما لوجود النية منهما ولا منافاة بينهما (مسئلة) ومنها الطهارة عن الحدث الأكبر والأصغر- ومنها طهارة البدن والثوب والمكان عن الأحداث- ومنها ستر العورة عند الجمهور لما مر من حديث عائشة قالت أول شيء بدا به حين قدم النبي ﷺ انه توضاء ثم طاف مع قوله ﷺ خذوا عنى مناسككم وفي الصحيحين عن عائشة قالت قدمت مكة وانا حائض- الى قوله ﷺ افعلي كما يفعل الحاج غير ان لا تطوفى بالبيت حتى تطهرى وفي رواية لمسلم حتى تغتسلى وعن عائشة قالت حاضت صفية ليلة النفر وفيه قال النبي ﷺ أطافت يوم النحر قيل نعم قال فانفرى- متفق عليه وفي الصحيحين عن ابى هريرة ان أبا بكر الصديق بعثه في الحجة الّتي امّره عليها رسول الله ﷺ قبل حجة الوداع يوم النحر في رهط يؤذّن في الناس ان لا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان- ولقوله تعالى طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الاية فانه امر بتطهير المكان عبارة وبتطهير الثوب والبدن دلالة بالطريق الاولى وكذا بالتطهير عن الأحداث بالطريق الاولى إذا الاخباث أخف من الأحداث شرعا حيث يجوز الصلاة مع النجاسة عند الضرورة بخلاف الحدث- قال ابن عباس قال الله تعالى لنبيه طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
فالطواف قيل قبل الصلاة وقد قال رسول الله ﷺ الطواف بمنزلة الصلاة الا ان الله قد احلّ فيه النطق فمن نطق فلا ينطق الا بخير- رواه الحاكم في المستدرك وصححه والطبراني والبيهقي وروى ابو نعيم في الحلية المرفوع فقط وروى الترمذي والحاكم والدار قطنى وابن خزيمة وابن حبان والبيهقي وصححه ابن السكن قوله ﷺ الطواف بالبيت صلوة الا ان الله أباح فيه الكلام- وعند ابى حنيفة رحمه الله الطهارة عن الاخباث سنة وستر العورة والطهارة عن الأحداث واجب يا ثم بتركه ويجب بدنة ان طاف الفرض جنبا او عريانا ودم مطلقا- ان طاف للفرض محدثا او غيره جنبا او عريانا- وصدقة بنصف صاع من بر على مسكين ان طاف غير الفرض محدثا- وليس شيء من ذلك شرطا عنده لان ثابت بالكتاب مطلق الطواف والزيادة على الكتاب في حكم النسخ عنده ولا يجوز
311
نسخ الكتاب بأحاديث الآحاد فقال بالوجوب عملا بالأحاديث ولم يقل بالاشتراط لئلا يلزم نسخ الكتاب (مسئلة) ومن شرائط طواف الزيارة الوقت لا يتادى قبله ويقضى بعده اجماعا فان اخّر عن الوقت بتقصيره يجب عليه الدم عند ابى حنيفة رحمه الله خلافا للجمهور- وان اخّر بعذر كالاحصار والحيض ونحوهما لا يجب الدم- ووقته من طلوع الفجر يوم النصر عند ابى حنيفة رحمه الله وعند الائمة الثلاثة بعد نصف الليل من ليلة النحر لحديث عائشة قالت أرسل رسول الله ﷺ ليلة النحر فرمت الجمرة قبل الفجر ثم مضت فافاضت- رواه الدار قطنى والحديث ضعيف لان في سنده ضحاك بن عثمان ليّنه القطان ومعارض بحديث ابن عباس ان رسول الله ﷺ قدّم ضعفة
اهله وقال لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس- رواه الترمذي وقال هذا الحديث صحيح وأخرجه ابو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن الغربي وهو حديث حسن وأخرجه الترمذي والطحاوي وله طرق اخر عند ابى داود والنسائي والطحاوي وابن حبان يقوى بعضها بعضا وايضا الافاضة معطوفة في حديث عائشة على الرمي بكلمة ثم والفاء فلا يدل تقدم الافاضة على طلوع الفجر- واخر وقته عند ابى حنيفة الى غروب الشمس من ثانى ايام التشريق وقيل وقته يوم النحر خاصة- وقد ذكرنا في سورة البراءة في تفسير قوله تعالى وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «١» إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ ان عند الجمهور هو يوم النحر رواه ابو داود والحاكم وصححه من حديث ابن عمر مرفوعا وهو المروي عن على عليه السلام- وروى بن جريج عن مجاهد يوم الحج الأكبر ايام منى كلها وكان الثوري يقول يوم الحج الأكبر ايام منى كلها مثل يوم صفين ويوم الجمل ويوم بعاث يراد به الحين من الزمان- (مسئلة) ومن شرائط الطواف الترتيب عند مالك والشافعي واحمد وبه قال محمد وهو ان يبتدى الطواف من الحجر الأسود يقوم مستقبلا بحيث يكون جميع الحجر عن يمينه فيطوف جاعلا للبيت عن يساره فلو طاف جاعلا للبيت عن يمينه لا يجوز ولو بدأ بغير الحجر لم يحتسب فاذا انتهى اليه ابتدأ منه- وقال ابو حنيفة الترتيب ليس بشرط
(١) وفي الأصل وأذان من الله الى الناس إلخ- الفقير الدهلوي.
312
فعند اكثر الحنفية سنة يكره تركه والصحيح انه واجب عند ابى حنيفة رحمه الله يلزم بتركه دم لمواظبة النبي ﷺ على ذلك وقوله خذوا عنى مناسككم- ولم يقل بالاشتراط لئلا يلزم الزيادة على الكتاب- (مسئلة) ويشترط ان يطوف في المسجد لا حول المسجد اجماعا للنقل المستفيض المتواتر كذلك قالوا من طاف حول المسجد لا يقال له انه طاف بالبيت بل يقال انه طاف بالمسجد فكان هذا القصر قصرا بدلالة العرف (فصل) وركن الطواف سبعة أشواط فان قيل الأمر لا يقتضى التكرار قلنا كما لا يقتضى التكرار لا ينفيه وقد نقل إلينا بالنقل المستفيض عدد الطواف كعدد الركعات (مسئلة) من طاف اربعة أشواط وترك ثلاثة أجزأه عند ابى حنيفة ويلزمه الدم في طواف الزيارة والصدقة في غيره لان للاكثر حكم الكل ويجبر النقصان بالدم والصدقة ولا يجز به عند غيره كما لا يجزى من ترك ركعة من الظهر- فان عدد الأشواط كعدد الركعات والله اعلم- (مسئلة) الحطيم قطعة من البيت يجب الطواف وراءه لحديث عائشة قالت سالت النبي ﷺ عن الجدر آمن البيت هو قال نعم قلت فما لهم لم يدخلوه في البيت قال ان قومك قصرت لهم النفقة قلت فما شأن بابه مرتفعا قال فعل ذلك قومك يدخلها من شاء واو يمنع من شاءوا- لولا ان قومك حديث عهدهم بالجاهلية فاخاف ان ينكر قلوبهم ان ادخل الجدر في البيت وان الصق بابه بالأرض متفق عليه وروى الترمذي والنسائي عنها قالت كنت احبّ ان أصلي في البيت فاخذ رسول الله ﷺ بيدي فادخلنى الحجر وقال صلّى فيه فانما هو قطعة من البيت الحديث- وروى ابو داؤد نحوه واختار المحفقون ان بعض الحطيم من البيت وهو ستة ادرع وشيء لما روى مسلم عن عائشة قوله ﷺ لولا قومك حديث عهد بالشرك لهدمت الكعبة وألزقتها بالأرض وجعلت لها بابين بابا شرقيّا وبابا غربيّا ورددتّ
313
فيها ستة اذرع من الحجر- وفي رواية لمسلم علمى لاريبك ما تركوا مه فاراها قريبا من سبعة اذرع- وروى البخاري بسنده عن جرير بن حازم قال قال يزيد بن رومان شهدتّ ابن الزبير حين هدمه وبناه وادخل فيه الحجر وقد رايت أساس ابراهيم حجارة كاسنمة الإبل فاشار الى مكان. قال جرير فخرزت من الحجر ستة اذرع او نحوها- وروى عن مجاهد ان ابن الزبير زاد فيه ستة اذرع مما يلى الحجر- وفي رواية سنة اذرع وشبر- (مسئلة) من طاف داخل الحطيم يجزيه عند ابى حنيفة ويلزمه دم لان كونه من البيت ثبت بحديث الآحاد فلا يجوز به الزيادة على الكتاب- وقال الجمهور لا يجزيه لان الزيادة على الكتاب بخبر الآحاد عندهم جائز- قلت ليس هذا زيادة على الكتاب لان الله تعالى امر بالطواف بالبيت العتيق واللام للعهد- والمراد البيت الّذي بناه ابراهيم كما يقتضيه سياق الاية من قوله تعالى وإذ بوّأنا لابراهيم مكان البيت- وإذا ثبت بدليل ظنى ان الحطيم قطعة من البيت فمن طاف داخل الحطيم وقع الشك في كونه مجزيا وقد وجب عليه طواف البيت قطعا فلا يخرج من العهدة بالشك- او يقال البيت الّذي بناه ابراهيم مجمل في حق المقدار التحق الحديث به بيانا (مسئلة) جاز الطواف للزيارة راكبا بعذر اجماعا- واما بغير عذر فالمشى في الطواف واجب عند ابى حنيفة- فمن طاف راكبا بلا عذر يجب عليه ان يعيد مادام بمكة فان لم يعد يجب عليه الدم- وقال الجمهور المشي سنة وليس بواجب لحديث ابن عباس ان رسول الله ﷺ طاف بالبيت وهو على بعيره كلما اتى الركن أشار اليه بشيء في يده وكبر- متفق عليه وحديث جابر طاف النبي ﷺ بالبيت وبالصفا والمروة ليراه الناس وليشرف وليسئلوه رواه مسلم وفي حديث عائشة طاف النبي ﷺ في حجة الوداع حول الكعبة على بعيره يستلم الركن كراهة ان يضرب عنه الناس قالت الحنفية كان ذلك لاجل المرض لما روى ابو داؤد عن ابن عباس انه صلى الله عليه وسلم
314
قدم مكة وهو يشتكى فطاف على دابته كلّما اتى الركن استلم الركن بمحجنه فلمّا فرغ من طوافه أناخ فصلى ركعتين- وأجيب بان مجرد الاحتمال لا يكفى وما رواه ابو داود ضعيف
لانه من رواية يزيد بن ابى زياد وهو ليس بالقوى لا يحتج بحديثه وقد أنكره الشافعي وقال لا اعلمه اشتكى في هذه الحبة قلت ولو كان قدوم النبي ﷺ بمكة مشنكيا لكان شكواه مانعا من المشي في طواف القدوم ايضا- وقد صح عنه ﷺ من حديث جابر وغيره انه ﷺ طاف طواف القدوم فرمل ثلاثا ومشى أربعا- وصح عنه ﷺ انه سعى بين الصفا والمروة وكان يدور إزاره من شدة السعى- فثبت انه ﷺ انما طاف للزيارة راكبا لبيان الجواز وتعليم الناس مناسكهم واما طواف النافلة فيجوز عند الجمهور بلا كراهة ولعله مكروه على اصل ابى حنيفة- لنا انه ﷺ لما فتح ملة وطاف عند قدومه طاف على راحلته كما ذكرنا رواية البخاري في سورة الفتح- (مسئلة) والموالاة ليس بشرط في الطواف اجماعا بل هو سنة- روى سعيد بن منصور عن ابن عمر انه طاف بالبيت فاقيمت الصلاة فصلى مع القوم ثم قام فبنى على ما مضى من صوافه- وكذا روى عبد الرزاق عن عبد الرحمان بن ابى بكر وروى سعيد بن منصور عن عطاء انه كان يقول في الرجل يطوف بعض طوافه تم يحضر الجنازة فيخرج فيصلى عليها ثم يرجع فيقضى ما بقي من طوافه- وقال نافع طول القيام في الطواف بدعة وروى عن الحسن انه قال من أقيمت عليه الصلاة وهو في الطواف فقطعه انه يستانفه (مسئلة) ويكره قطع طواف فريضة وان أقيمت الصلاة المكتوبة- الا ترى الى حديث أم سلمة انها طافت للصدر والنبي ﷺ يصلى الصبح (مسئلة) يقطع الطواف النافلة لو أقيمت للفريضة او خاف فوت صلوة الجنازة او نحوها لا لعبادة نافلة والاولى ان يقطع على الوتر لما ذكرنا من اثر عبد الرحمان بن ابى بكر (مسئلة) يجب بعد كل أسبوع ركعتان عند ابى حنيفة وهو رواية عن مالك وأحد قولى الشافعي فيلزم بتركه دم- وقد ذكرنا المسألة وما يتعلق بها
315
فى تفسير قوله تعالى وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى في سورة البقرة- (فصل) وآداب الطواف انه إذا راى البيت كبر وهلل ودعا روى الطبراني ان الدعاء مستجاب عند رؤية الكعبة- ثم استقبل الحجر وكبر وهلل وقبّله لشفتيه ان عط قدر غير مؤذ- روى البخاري عن ابن عمر انه ﷺ كان يستلمه ويقبّله وروى الشافعي مرفوعا وضع شفتيه عليه طويلا- وعند ابن ماجة وضع عليه شفتيه يبكى طويلا- وعند الحاكم قبّله وسجد «١» عليه- وان عط لم يقدر يمس شيئا وقبله لما موّ انه ﷺ طاف على بعيره يستلم الركن بمحجنه وان عط عجز استقبله عن سعيد بن المسيب عن عمر انه ﷺ قال له انك رجل قوى لا تزاحم على الحجر فتؤذى الضعيف ان وجدت خلوة فاستلمه والا فاستقبله وكبر وهلل- رواه احمد- (مسئلة) وإذا اتى الركن اليماني استلم عند الجمهور وعند ابى حنيفة استلام الركن اليماني مستحب ليس بسنة وفي الصحيحين عن ابن عمر رايت رسول الله ﷺ يستلمهما يعنى الحجر الأسود والركن اليماني- وروى الدار قطنى مرفوعا كان يقبّل الركن اليماني ويضع عليه خده- وروى ابن ماجة عن ابى هريرة مرفوعا وكّل يعنى بالركن اليماني سبعون ملكا فمن قال اللهمّ انى أسئلك العفو والعافية في الدنيا والاخرة ربّنا اتنا في الدّنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النّار قالوا أمين (مسئلة) ويرمل في الثلاثة الاول من أشواط طواف القدوم مضطبعا «٢» وهو سنة من الحجر الى الحجر صح عنه ﷺ انه رمل من الحجر الى الحجر ثلاثا ومشى أربعا وكلما مرّ بالحجر والركن فعل كما فعل أول مرة وختم الطواف باستلام الحجر- كذا صح عنه ﷺ ثم يصلى شفعا عند المقام ويقرا قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ والإخلاص ثم يرجع فيستلم الحجر ويكبّر ويهلّل- روى
(١) عن ابن عباس قال رايت عمر بن الخطاب قبّل الحجر وسجد عليه ثم قال رايت رسول الله ﷺ فعل هذا- منه رح.
(٢) والاضطباع ان يدخل جانب ردائه الايمن تحت إبطه الايمن ويلقيه على كتفه اليسرى فتكون كتفه اليمنى مكشوفة- الفقير الدهلوي-
316
مسلم في حديث جابر انه ﷺ جعل المقام بينه وبين البيت وصلى ركعتين قرأ فيهما قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ وقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ثم رجع الى الركن الأسود فاستلمه
ذلك
خبر مبتدا محذوف او مبتدا خبره محذوف- او فاعل لفعل محذوف او منصوب بفعل محذوف يعني الأمر ذلك او ذلك ثابت واجب الامتثال او وجب ذلك او عرفت ذلك او احفظ ذلك- وذلك اشارة الى ما سبق من الاحكام وهو وأمثاله يطلق المفصل بين كلامين.
وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ يعنى معاصى الله ومنهى عنه وتعظيمها ان يشق عليه اقترابها- فان المؤمن يرى خطيئته صدرت منه كمثل حبل على رأسه يخاف ان يقع عليه- وان المنافق يرى خطيئته كمثل ذباب على انفه فعل بيده هكذا فطارت كذا وقع في الحديث- وقال اللبث حرمات الله مالا يحل انتهاكها يعنى أوامر الله ونواهيه- وقال الزجاج الحرمة ما وحب القيام به وحرم التفريط فيه وذهب قوم الى ان معنى حرمات الله المناسك- وقال ابن زيد الحرمات هاهنا البلد الحرام والبيت الحرام والشهر الحرام فَهُوَ يعنى تعظيم الحرمات خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ثوابا وأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ تحريمه حيث قال حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ الاية يعنى فلم تحرمون منها البحيرة والسائبة والوصيلة والحامى- وهذه جملة معترضة فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ اى الرجس الّذي هو الأوثان سماه رجسا اى قذرا لان العقول والطباع السليمة يتنفر عنها كما يتنفر المرء عن القاذورات- فهو غاية المبالغة في النهى عن تعظيمها والتنفير عن عبادتها- وقيل هو بمعنى الرجز وهو العذاب سماه رجسا لانه سبب للتعذيب وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) يعنى الكذب مشتق من الزّور بفتح الزاء بمعنى الانحراف كما ان الافك من الافك بمعنى الصرف- فان الكذب منحرف مصروف عن الواقع- والمراد هاهنا قولهم الملائكة بنات الله والأوثان شفعاؤنا عند الله وقولهم في تلبيتهم لبّيك لا شريك لك الا شريكا تملكه وما ملكه- واللفظ عام يعم جميع انواع الكذب في الحكايات والمعاملات
روى احمد وابو داود وابن ماجة والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن خريم بن فاتك؟؟؟
الأسدي قال صلّى رسول الله ﷺ صلوة الصبح فلما انصرف قام قائدا فقال عدلت شهادة الزور بالاشراك بالله ثلاث مرات- ثم قرأ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ. قال قتادة كانوا في الشرك يحجون ويمنعون البنات والأمهات والأخوات وكانوا ليسمون أنفسهم حنفاء والحليف عند العرب من كان على دين ابراهيم عليه السّلام فنزلت هذه الاية يعنى اجتنبوا الشرك وقول الزور حتى تكونوا على دين ابراهيم.
حُنَفاءَ لِلَّهِ اى مخلصين له الدين من الحنف محركة وهو الاستقامة كذا في القاموس والاستقامة على الحق هو الإخلاص لله والاعراض عما سواه غَيْرَ مُشْرِكِينَ به في العبادة ولا في اثبات وجوب الوجود والالوهية- يعنى من أشرك لا يكون حنيفا ولا على ابراهيم فانه لم يك من المشركين- قوله تعالى فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مع ما عطف عليه معلوف على قوله وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ متفرع عليه وهو خير لفظا لكنه امر معنى فان معناه عظموا حرمات واجتنبوا الأوثان لان عبادة الأوثان من أعظم المحرمات وأشدها فعلا- والقول بما كان المشركون يقولونها ندبا أعظمها وأشدها قولا وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ غيره فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ يعنى ان عبادة الله تعالى كمال ورفعة لا رفعة فوقه- فيوفوق كل شيء كمن هو مستو على السماء فهو فوق كل شيء في الحس ولا يعد له غيره في الارتفاع- ثم إذا عبد مع الله غيره من الممكنات فكانّما سقط من السماء الى الحضيض- إذ لا مذلّة فوق من اذلّ نفسه حتى عبد حمكنا مثله بل دونه من الحجارة وأمثالها فَتَخْطَفُهُ قرا نافع بفتح الخاء وشديد الطاء من التفعيل للمبالغة والباقون بإسكان الخاء وتخفيف الظاء من المجرد الطَّيْرُ استعارة بالكناية أراد بالطير الاهوية المردية فانها تخطفه اى تسلبه وتوزع أفكاره أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ استعارة مثله أراد بالريح الشيطان فانه يهوى ويطرح به فِي مَكانٍ من الضلالة سَحِيقٍ (٢١)
بعيد من الحق يعنى من أشرك استولى عليه النفس او الشيطان وكلمة او لمنع الخلو دون الجمع- وقال البيضاوي او للتنويع فان من المشركين من لا خلاص له أصلا فكانما اختطفه الطير فلم يبق من جسده شيء- ومنهم من يمكن خلاصه بالتوبة كمن أوقعه الريح في مكان بعيد يمكن ان يأتى من هناك الى مأواه- والظاهر انه من التشبيهات المركبة والمعنى انه من يشرك بالله فهو كمن سقط من السماء فانه لا يملك لنفسه حيلة ويهلك لا محالة اما باستلاب الطيران واما بسقوطه في مكان سحيق- قال الحسن شبه اعمال الكفار بهذا الحال في انها تذهب وتبطل فلا يقدرون على شيء منها وعن البراء بن عازب في حديث طويل ذكرنا بعضه في سورة الأعراف في تفسير قوله تعالى لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ قوله ﷺ في ذكر موت العبد الكافران الملائكة يصعدون بروحه حتى ينتهى بها الى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ثم قرا رسول الله ﷺ لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ الاية فيقول الله اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى فيطرح روحه طرحا ثم قرا رسول الله ﷺ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ الاية.
ذلِكَ تفسيره مثل ما سبق وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ قال ابن عباس شعائر الله البدن والهدى وأصلها من الاشعار وهو اعلامها ليعرف انها هدى وتعظيمها استسمانها- وقد صح انه ﷺ اهدى مائة بدنة- وروى ابو داود ان عمر رضى الله عنه اهدى نجيبة طلبت منه بثلاث مائة دينار فَإِنَّها اى تعظيمها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) اى من افعال ذوى تقوى القلوب فحذف هذه المضافات- وذكر القلوب لانها منشأ التقوى والفجور والآمرة بهما.
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ يعنى لكم في تلك الشعائر اى البدن والهدى منافع يعنى جاز لكم الانتفاع بها بركوبها والحمل عليها وشرب لبنها غير مضربها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى وقت معلوم يعنى الى ان تنحروها كذا قال عطاء بن رباح وبه قال مالك والشافعي واحمد وإسحاق انه جاز ركوب الهدى والحمل عليها وشرب لبنها غير
319
مضربها. ويؤيده حديث ابى هريرة ان رسول الله ﷺ راى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها فقال انها بدنة قال اركبها قال انها بدنة قال اركبها ويلك في الثانية او الثالثة متفق عليه وحديث انس نحوه رواه البخاري وحديث ابن عمر رأى رجلا يسوق بدنة فقال اركبها وما أنت مستنّ سنة أهدى من سنة محمد ﷺ رواه الطحاوي وقال ابو حنيفة لا يجوز ركوبها ولا الحمل عليها ولا شرب لبنها الا لضرورة لانه لمّا جعلها كلها لله تعالى فلا ينبغى ان يصرف منها شيئا لمنفعة نفسه وهذا المعنى يقتضى المنع مطلقا سواء كان به ضرورة اولا- ويؤيده قوله تعالى وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ولا شك ان الركوب والحمل ينافى التعظيم والاستسمان لكن لما ثبت بالأحاديث جواز الركوب قلنا بالجواز في حالة الضرورة حملا للاحاديث المذكورة على تلك الحالة كيلا يلزم ترك العمل بالسنة ويدل على اشتراط الضرورة ما روى الطحاوي بسندين عن حميد الطويل عن انس ان رسول الله ﷺ راى رجلا يسوق بدنة وقد جهد قال اركبها قال يا رسول الله انها بدنة قال اركبها وفي رواية قال اركبها وان كانت- وروى ايضا عن ابن عمر انه كان يقول في الرجل إذا ساق بدنة فاعيى ركبها وما أنتم بمستن سنة هى اهدى من سنة محمّد ﷺ وروى مسلم عن ابى الزبير قال سمعت جابر بن عبد الله يسئل عن ركوب البدن قال سمعت النبي ﷺ يقول اركبها بالمعروف إذا الجأت إليها حتى تجد ظهرا- والمراد بالمنافع في الاية عندنا دفع الضرورة عند الإلجاء وقال مجاهد وقتادة والضحاك معنى الاية لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى اى الى ان تسميها وتوجبها «١» هديا فاذا فعل ذلك لم يكن شيء من منافعها ثُمَّ مَحِلُّها اى موضع حلول أجلها يعنى منحرها وقيل معناه وقت نحرها وحلول أجلها ومحلها معطوف على منافعها وكلمة ثم يحتمل التراخي في الوقت فان وقت الانتفاع قبل وقت النحر- او التراخي في الرتبة لان المراد بالمنافع النافع الدنيوية ونحرها
(١) الاولى تسموها وتوجبوها إلخ الفقير الدهلوي [.....]
320
للثواب وهو من المنافع الاخروية يعنى لكم فيها منافع دنيوية ثم لكم فيها محلها يعنى نحرها وهو مما ينتفع به في الاخرة إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) حال من محلها وهو فاعل للظرف المستقر بواسطة حرف العطف يعنى لكم محلها كائنا الى البيت العتيق- وجاز ان يكون محلها مبتدأ محذوف الخبر والظرف حال منه على طريقة ضربى زيدا قائما يعنى محلها كائن منتهيا الى البيت العتيق- وجاز ان يكون محلّها مبتدا والظرف خبره والجملة معطوفة على جملة سابقة- والمراد بالبيت العتيق الحرم كله إذ هو في حكم البيت في كونه عتيقا غير مملوك لاحد وهو حريم البيت ويقال في العرف بلغت البلد إذا بلغت فناءه وجاز ان يكون التقدير ثمّ محلّها الحرم من أقصى أطرافه الى البيت العتيق وهذه الاية حجة على جواز النحر في اىّ موضع شاء من الحرم- وقال مالك لا ينحر الحاج الّا بمنى ولا المعتمر الا بمروة لان النبي ﷺ فعل هكذا- قلنا نحر النبي ﷺ في الحج بمنى لا ينفى جواز النحر في غيره إذا ثبت بالكتاب والسنة وقال رسول الله ﷺ منى كلها منحر وكل فجاج مكة طريق ومنحر وكل عرفة وكل المزدلفة موقف- رواه ابو داود وابن ماجة من حديث جابر- وقيل شعائر الله اعلام دينه ولا شك ان تعظيمها من افعال اهل التقوى- وعلى هذا التأويل قوله تعالى لَكُمْ فِيها مَنافِعُ متصل بقوله تعالى وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ولَكُمْ فِيها اى في الانعام منافع دنيوية تنتفعون بها الى أجل مسمّى وهو الموت ثم محلها منتهية «١» الى البيت الّذي يرفع اليه الأعمال او يكون فيه ثوابها- وقليل شعائر الله فرائض الحج ومشاهد مكة لكم فيها منافع دنيوية بالتجارة في الأسواق الى أجل مسمّى الى وقت المراجعة والخروج من مكة ومنافع اخروية بالأجر والثواب في قضاء المناسك الى أجل مسمى اى الى انقضاء ايام الحج ثم محلها اى محل الناس فيها من إحرامهم منتهى الى البيت العتيق ان يطوفوا فيه طواف الزيادة يوم النحر-.
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ اى جماعة مؤمنة سلفت منكم جَعَلْنا مَنْسَكاً قرأ حمزة والكسائي بكسر السين هاهنا وفي اخر السورة يعنى موضع نسك اى
(١) هكذا في الأصل ولعل الصواب سنة فتامل- الفقير الدهلوي
متعبد والباقون بفتح السين بمعنى الموضع او المصدر اى اراقة الدعاء وذبح القرايين او قربانا يتقربون به الى الله لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ دون غيره ويجعلوا نسيلهم لوجهه علّل الجعل به تنبيها على ان المقصود من جعل المناسك تذكّر المعبود وفيه دليل على كون الذكر شرطا للذبح عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ عند نحرها وذبحها سماها بهيمة لانها لا تتكلم وقيدها بالانعام لان من البهائم ما ليس من الانعام كالخيل والبغال والحمير ولا يجوز ذبح شيء منها في القرابين الا الانعام بل الاهلية منها اجماعا- وهذه الجملة معترضة لتحريض امة محمّد ﷺ على التاسّى بمن سبق فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ يعنى سموا على الذبائح اسم الله وحده إذ لا اله لكم غيره جملة معللة يعنى جعلنا لكل امة متعبدا ليذكروا الله وحده لان اله كلهم واحد وان كانوا امما شتى فَلَهُ دون غيره أَسْلِمُوا انقادوا واطبعوا يعنى أخلصوا التقرب او الذكر ولا تشوبوه بالاشراك وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) عطف على قوله وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ ان كان خطابا لنبينا ﷺ والا فعلى وَإِذْ بَوَّأْنا يعنى اذكر وقت تبويتنا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ- الخبيت الشيء الحقير يعنى من خشع وعدّ نفسه حقيرا يقال اخبت إذا خشع وتواضع كذا في القاموس ومن هاهنا قال ابن عباس وقتادة معناه المتواضعين وقال الأخفش الخاشعين وقيل الخبت المكان المطمئن من الأرض ومن هاهنا قال مجاهد المطمئنين الى الله وقال النخعي المخلصين فان الاطمئنان هو الإخلاص- وقال الكلبي هم الرقيقة قلوبهم- وقال عمرو بن أوس هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا.
الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هيبة منه لاشراق أشعة جلاله عليها وعرفان عظمته وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من المصائب وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ فى أوقاتها وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) عطف على صلة اللام الموصول يعنى بشر الذين يقيمون الصّلوة وينفقون مما رزقنهم.
وَالْبُدْنَ جمع بدنة كخشب وخشبة قال الجزري في النهاية البدنة يقع على الجمل والناقة والبقرة وهى
322
بالإبل أشبه وسميت بدنة لعظمها وسمنها- وقال في القاموس البدنة محركة من الإبل والبقر وبه قال ابو حنيفة رحمه الله وقال عطاء والسدى البدن الإبل والبقر واما الغنم لا يسمى بدنة- وقال الشافعي هو من الإبل خاصة قال البيضاوي انما سميت بها الإبل لعظم بدنها ماخوذة من بدن بدانة وقال البغوي سميت بدنة لعظمها وضخامها يريد الإبل العظام الضخام الأجسام يقال بدن الرجل بدنا وبدانة إذا ضخم- واما إذا اسنّ واسترخى يقال بدّن تبدينا واحتج القائلون بانها من الإبل خاصة بحديث جابر قال نحرنا مع رسول الله ﷺ عام الحديبية البقر عن سبعة والبدنة عن سبعة- رواه الترمذي وقال هذا حديث صحيح- قلنا روى مسلم عن جابر بلفظ قدمنا مكة فقال لنا رسول الله ﷺ من لم يكن معه هدى فليحلل وأمرنا ان نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منافى بدنة قوله والبدن مفعول أول منصوب بفعل مضمر يفسره جَعَلْناها لَكُمْ مفعول ثان مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ اى كائنا من اعلام دينه الّتي شرعها الله- حال من المفعول الاول قيل سميت شعائر لانها تشعر اى يطعن بحديدة في سنامها ليعلم انها هدى لَكُمْ فِيها خَيْرٌ منافع دينية ودنيوية فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها روى الحاكم في المستدرك عن بن عباس موقوفا انه قال ان كانت بدنة فليقمها ثم ليقل الله اكبر الله اكبر الله اكبر اللهم منك ولك ثم ليسم الله ثم لينحر- وروى ابو داود وابن ماجة والحاكم في المستدرك عن جابر مرفوعا انه ﷺ كان يقول إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ على «١» ملة ابراهيم حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ... إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا من المسلمين اللهم منك ولك بسم الله والله اكبر صَوافَّ اى مصفوفة قال في القاموس فواعل بمعنى مفاعل اى قياما على ثلاثة قوائم قد صفت رجليها واحدى يديها
(١) قوله على ملة ابراهيم ثابت في الحديث الصحيح ولكن ليس من القران الحكيم وقوله الآتي وانا من المسلمين صحيح ثابت في دعائه ﷺ ولكنه في القران المجيد وانا أول المسلمين- وهذا التنبيه لدفع الالتباس فتنبه- الفقير الدهلوي.
323
يدها اليسرى معقولة فينحرها كذلك- روى البخاري عن ابن عمر انه اتى على رجل قد أناخ بدنة ينحرها فقال ابعثها قياما مقيدة سنة محمد صلى الله عليه وسلم- واخرج عبد بن حميد وابن ابى الدنيا في الأضاحي وابن المنذر وابن ابى حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في سننه عن ابى ظبيان قال سالت ابن عباس عن قوله فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ قال إذا أردت ان تنحر البدنة فاقمها على ثلاث قوائم معقولة ثم قل بسم الله والله اكبر اللهم منك ولك- وعلق البخاري قول ابن عباس صَوافَّ اى قياما وذكره سفيان بن عيينة في تفسيره عن عبيد الله بن يزيد وأخرجه سعيد بن منصور وقال مجاهد (الصوافّ) إذا عقلت رجله اليسرى وقامت على ثلاث قوائم وقرأ ابن مسعود صوافن وهو ان يعقل منها يد وينحر على ثلاث قوائم- وقرأ أبيّ والحسن ومجاهد صوافى بالياء اى خوالص لوجه الله- فَإِذا وَجَبَتْ اى سقطت على الأرض جُنُوبُها اى ماتت فَكُلُوا مِنْها امر اباحة وقد مر مسئلة جواز الاكل من الهدايا فيما سبق- الجملة الشرطية معطوفة على فاذكروا يعنى فاذكروا اسم الله عليها فكلوا منها إذا وجبت جنوبها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ قال عكرمة وابراهيم وقتادة القانع الجالس في بيته المتعفف يقنع بما يعطى ولا يسئل والمعتر الّذي يسئل- وروى العوفى عن ابن عباس القانع الّذي لا يتعرض ولا يسئل والمعتر الّذي يريك نفسه ويتعرض ولا يسئل- فعلى هذين التأويلين يكون القانع من القناعة يقال قنع قناعة إذا رضى بما قسم له- وقال سعيد بن جبير والحسن والكلبي القانع الّذي يسئل والمعتر الّذي يتعرض ولا يسئل فيكون القانع من قنع يقنع قنوعا إذا سأل- وقرأ الحسن والمعترى وهو مثل المعتر يقال عرّه واعترّه وعراه واعتراه إذا أتاه يطلب معروفه اما سوالا واما تعرضا- وقال ابن زيد القانع المسكين والمعتر الّذي ليس بمسكين ولا يكون له ذبيحة يجيء الى القوم فيتعرض لهم لاجل لحمهم كَذلِكَ اى تسخيرا مثل تسخير وصفناه من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ مع عظمها وقوتها منقادة
324
وتجنسونها؟؟؟ صافة قوائمها ثم تطعنون في لبّاتها لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) إنعامنا عليكم بالتقرب والإخلاص- اخرج ابن ابى حاتم وابن جرير وابن المنذر عن ابن جريج قال كان اهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها فقال اصحاب النبي ﷺ فنحن أحق ان ننضح فانزل الله تعالى.
لَنْ يَنالَ اللَّهَ الاية- واخرج ابن المنذر وابن مردوية عن ابن عباس قال كان المشركون إذا ذبحوا استقبلوا الكعبة بالدماء فينتضحون بها نحو الكعبة- فاراد المسلمون ان يفعلوا ذلك فانزل الله تعالى لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها قال مقاتل اى لن يرفع الله لحومها ولا دماؤها وَلكِنْ يَنالُهُ قرأ يعقوب لن تنال وتناله بالتاء المثناة من فوق فيهما والباقون بالياء المثناة من تحت اى ولكن يرفع الله التَّقْوى مِنْكُمْ يعنى الأعمال الصالحة المترتبة على التقوى والإخلاص المراد بها وجه الله كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرره تذكيرا للنعمة وتعليلا له بقوله لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ لتعرفوا عظمته باقتداره على مالا يقدر غيره فتوحدوه بالكبرياء شكرا عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم الى معالم دينه ومناسك حجه والى طريق تسخيرها وكيفية التقرب بها- وما مصدرية او موصولة وعلى متعلقة بتكبر والتضمنه معنى الشكر- وقيل المراد التكبير عند الاحلال والذبح على انعام هداكم الله الى تسخيرها وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧) قال ابن عباس يعنى الموحدين عطف على بشّر المخبتين.
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ «١» عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ ابن كثير وابو عمرو يدفع بفتح الياء والفاء واسكان الدال والمفعول محذوف- اى يدفع غائلة المشركين عن المؤمنين ويمنعهم من المؤمنين والباقون يدافع من المفاعلة اى يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ اى يبغض كُلَّ خَوَّانٍ في امانة الله كَفُورٍ (٣٨) لنعمته قال ابن عباس خانوا الله يعنى كفار
(١) وقوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ تمهيد للاذن بالقتال- يعنى لمّا كان دفع الكفار با المؤمنين سنة مستمرّة من الله تعالى اذن بالقتال وهذا يتضمن الوعد بالنصر حتى يحصل الدفع ١٢ منه رح.
مكة فجعلوا معه شريكا وكفروا نعمته- وقال الزجاج من تقرب الى الأصنام بذبيحته وذكر عليه اسم غير الله فهو خوّان كفور- ولهذه الجملة في مقام التعليل للدفع اخرج احمد والترمذي والسدى والحاكم وصححه عن ابن عباس قال لما اخرج النبي ﷺ من مكة قال أبو بكر اخرجوا نبيهم ليهلكنّ فانزل الله تعالى.
أُذِنَ قرأ نافع وعاصم وابو عمرو على البناء للمفعول والباقون على البناء للفاعل اى اذن الله ورخّص في القتال لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ قرأ نافع وابن عامر وحفص بفتح التاء على البناء للمفعول يعنى للمؤمنين الذين يقاتلهم المشركون والباقون بكسر التاء على البناء للفاعل يعنى للمؤمنين الذين اذن لهم في الجهاد وان يقاتلوا الكفار- قال البغوي قال المفسرون كان مشركوا مكة يؤذون اصحاب رسول الله ﷺ فلا يزالون يجيئون بين مضروب ومشجوج ويشكون ذلك الى رسول الله ﷺ فيقول لهم اصبروا فانى لم اومر بالقتال فنزلت هذه الاية بالمدينة- واخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد والترمذي وحسنه والنسائي وابن ماجة والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن ابى حاتم وابن حبان والحاكم وصححه وابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس انها أول اية نزلت في القتال بعد ما نهى عنه في نيف وسبعين اية- وأخرجه ابن ابى حاتم عن عروة بن الزبير- وأخرجه عبد الرزاق وابن المنذر عن الزهري وقال البغوي قال مجاهد نزلت هذه الاية في قوم بأعيانهم خرجوا مهاجرين من مكة الى المدينة فكانوا يمنعون فاذن الله لهم في قتال الكفار والذين يمنعونهم من الهجرة بِأَنَّهُمْ اى أذنوا في القتال بسبب انهم ظُلِمُوا اى اعتدوا عليهم «١» بالإيذاء
(١) وعن محمد بن سيرين قال اشرف عليهم عثمان من القصر وقال ايتوني برجل تالى كتاب الله فاتوه بصعصعة بن صوحان- فتكلم بكلام فقال أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ- فقال له عثمان كذبت ليس لك ولا لاضحاك ولكنها لى ولاصحابى ١٢ ازالة الخفاء منه رح.
326
ومن هاهنا لا يجوز قتل نساء اهل الحرب بالإجماع الا ان يكون ذوات رأى او مال تعنّ الكفار باموالهنّ على قتال المسلمين- ولا يجوز قتل الشيخ الفاني ولا الرهبان ولا العميان ولا الزمنى خلافا لاحد قولى الشافعي الا ان يكون لهم رأى وتدبير فيجوز قتلهم اتفاقا- ولا يجوز عند ابى حنيفة رحمه الله قتل المرتدة بل تحبس ابدا حتى تموت او تتوب وقال مالك والشافعي واحمد الرجل والمرأة في حكم الردة سواء لنا حديث عبد الله بن عمر قال نهى رسول الله ﷺ عن قتل النساء والصبيان- متفق عليه وحديث رباح بن الربيع قال كنا مع رسول الله ﷺ في غزوة فراى الناس مجتمعين على شيء فبعث رجلا فقال انظروا على ما اجتمع هؤلاء فجاء فقال على امراة قتيل فقال ما كانت هذه تقاتل وعلى المقدمة خالد بن الوليد فبعث رجلا فقال قل لخالد لا تقتل امراة ولا عسيفا «١» - رواه ابو داود وعن انس ان رسول الله ﷺ قال انطلقوا بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله لا تقتلوا شيخا فانيا ولا طفلا صغيرا ولا امراة الحديث- رواه ابو داود والمرأة في تلك الأحاديث مطلقة تحت النفي تعم الكافرة الاصلية والمرتدة وعلل في النص عدم قتلها بعدم حرابها- قالت الحنفية الأصل في الاجزية ان تتاخر الى دار الجزاء وهى الدار الاخرة- واما دار الدنيا فهى دار التكليف والابتلاء قال الله تعالى لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ- فكل ما شرع جزاء في هذه الدار انما هو لمصالح تعود إلينا في هذه الدار كالقصاص وحد الشرب والقذف والزنى والسرقة فانها شرعت لحفظ النفوس والاعراض والعقول والأنساب والأموال- فالقتل بالردة لا يجب الا لدفع شر حرابه لا جزاء على كفره لان جزاء الكفر أعظم من ذلك عند الله فيختص القتل بمن يتاتى منه الحراب وهو الرجل- ولو كان جزاء للكفر لما نهى رسول الله ﷺ عن قتل نساء اهل الحرب ولو كان جزاء للكفر لزم تطهيره بالقتل كما في القصاص والحدود
(١) العسيف الأجير وقيل هو الشيخ الفاني- وقيل العبد- ١٢ نهاية جزرى منه رح.
327
احتجوا على وجوب قتل المرتدة بعموم قوله ﷺ من بدل دينه فاقتلوه- رواه البخاري من حديث ابن عباس وفي الباب عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده في معجم «١» الكبير للطبرانى وعن عائشة في الأوسط وأجاب الحنفية بانا خصصنا النساء عن عموم كلمة من لما ذكرنا من أحاديث النهى عن قتل النساء بعد ان عمومه مخصص بمن بدل دينه من الكفر الى الإسلام او من اليهودية الى النصرانية قلت لكن حديث ابن عباس رواه الحاكم وصححه بلفظ من بدل دينه من المسلمين فاقتلوه- قال الحافظ هو من طريق حفص بن عمر العدني وهو مختلف فيه واحتجوا ايضا بحديث جابر ان امراة يقال لها أم مروان ارتدت فامر النبي ﷺ ان يعرض عليها الإسلام فان تابت والا قتلت- رواه الدار قطنى من طريقين ولا في أحدهما فابت ان تسلم فقتلت- قال الحافظ اسنادا هما ضعيفان قال ابن همام الاول مضعف بعمر بن رواحة والثاني بعبد الله بن أذينة قال ابن حبان لا يجوز الاحتجاج به وروى حديث اخر عن عائشة ارتدت امراة يوم أحد فامر النبي ﷺ ان تستتاب والا قتلت وفي سنده محمد بن عبد الملك قالوا فيه يضع الحديث- ثم هذه الأحاديث معارضة بأحاديث اخر مثلها منها ما أخرجه الدار قطنى عن ابن عباس قال قال رسول الله ﷺ لا تقتل المرأة إذا ارتدت- وفيه عبد الله بن عليس الجزري قال الدار قطنى كذاب يضع الحديث وعن ابى هريرة اخرج ابن عدى في الكامل ان امراة على عهد رسول الله ﷺ ارتدت فلم يقتلها وضعفه بحفص بن سليمان واخرج الطبراني في معجمه عن معاذ بن جبل ان رسول الله ﷺ حين بعثه الى اليمن قال أيما رجل ارتد عن الإسلام فادعه فان تاب فاقبل منه وان لم يتب فاضرب عنقه وأيما امراة ارتدت عن الإسلام فادعها فان تابت فاقبل منها وان أبت فاستتبها- وروى ابو يوسف عن ابى حنيفة عن عاصم بن ابى النجود عن ابى رزين عن ابن عباس لا تقتل النساء إذا هن ارتددن عن الإسلام ولكن
(١) هكذا في الأصل ولعل الاولى المعجم- الفقير الدهلوي.
328
ولكن يحبسن ويدعين الى الإسلام ويجبرن عليه- وفي بلاغات محمد عن ابن عباس نحوه وروى عبد الرزاق اثر عمر انّ امراة تنصرت فامر ان تباع في ارض ذات مؤنة عليها ولاتباع في اهل ديتها فبيعت في دومة الجندل وروى الدار قطنى اثر علىّ المرأة تستتاب ولا تقتل وضعّف بجلاس (مسئلة) لو امر الامام بقتل بعض من نساء اهل الحرب مرتدة كانت او غيرها لمصلحة فلا بأس به وقد ذكرنا في تفسير سورة الفتح ان رسول الله ﷺ عهد الى امرائه من المسلمين يوم الفتح حين أمرهم ان يدخلوا مكة ان لا تقتلوا أحدا الا من قاتلهم الا نفرا سماهم فامرهم بقتلهم وان وجدوا تحت أستار الكعبة وذكرنا هناك أسماءهم منهم نساء منهن قينتان لعبد الله بن خطل قرنة وقرينة فقتلت قرينة وأسلمت قرنة وكانتا مرتدتين ومنهن سارة مولاة عمر بن هاشم وهند امراة ابى سفيان كانتا كافرتين اصليتين اسلمتا يوم الفتح والله اعلم وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) وعدلهم بالنصر كما وعد بدفع أذى الكفار عنهم.
الَّذِينَ «١» أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ الّتي كانت لهم بمكة الموصول مجرور بدل من الموصول في أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ او منصوب بتقديرا عنى او امدح او مرفوع بتقدير المبتدا اى هم الذين اخرجوا «٢» وعلى جميع التقادير المال واحد بِغَيْرِ حَقٍّ استحقوا به الجلاء إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ان مع صلته في محل الجر بدل من الحق استثناء منه واطلاق الحق عليه مبنىّ على زعمهم الباطل- والفرض منه التنبيه على وضوح ظلمهم وكونهم على الباطل حيث زعموا ما هو بديهىّ البطلان وهو استحقاق الإخراج بالتوحيد حقّا وهذا نظير قوله فلان لا خير فيه الا انه يسئ بمن يحسن اليه يعنى انه يزعم الاساءة
(١) وعن عثمان بن عفان قال فينا نزلت هذه الاية الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ ثم مكّنّا في الأرض فاقمنا الصلاة واتينا الزكوة وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر فهى لى ولاصحابى ١٢ ازالة الخفا منه رح
(٢) الى المدينة يعنى محمدا ﷺ وأصحابه كذا قال ابن عباس- ازالة الخفاء منه رح.
329
الى من احسن اليه خيرا فكيف يكون فيه خير فهو بمنزلة الدعوى مع البرهان ونظيره قوله تعالى وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا ونظيره قول الشاعر
وبلدة ليس بها أنيس... الا اليعافير والا العيس
وقيل هذا استثناء منقطع بمعنى لكنهم اخرجوا بسبب قولهم ربّنا الله وهذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق- وجاز ان يكون استثناء من كلام محذوف تقديره ما اخرجوا الشيء الا بان قالوا ربّنا الله وهذا القول حق فالاخراج به إخراج بغير حق فهو في مقام التعليل لما سبق وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ «١» النَّاسَ بَعْضَهُمْ بدل من الناس بِبَعْضٍ اى ببعضهم بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين- قرأ نافع لولا دفاع الله بكسر الدال والف بعد الفاء بمعنى المدافعة للمبالغة والباقون بفتح الدال واسكان الفاء من غير الف لَهُدِّمَتْ قرأ نافع وابن كثير بتخفيف الدال والباقون بتشديدها صَوامِعُ ادغم حمزة والكسائي وابو عمرو وابن ذكوان تاء هدمت في الصاد ولم يدغم غيرهم «٢» قال مجاهد والضحاك يعنى صوامع الرهبان وقال قتادة صوامع الصابئين وَبِيَعٌ جمع بيعة وهى كنيسة النصارى وَصَلَواتٌ وهى كيائس اليهود يسمونها بالعبرانية صلوة وَمَساجِدُ المسلمين من امة محمّد ﷺ ومعنى الاية لولا دفع الله الناس لهدمت في كل شريعة نبي مكان عبادتهم فهدمت في زمن موسى الكنائس وفي زمن عيسى البيع والصوامع وفي زمن محمد ﷺ المساجد يُذْكَرُ فِيهَا اى في المساجد او في جميع الاربعة اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صفة لمصدر محذوف اى ذكرا كثيرا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ اى ينصر دينه جواب قسم محذوف والجملة معترضة للوعد- إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على نصرهم عَزِيزٌ (٤٠) لا يمكن ممانعته تأكيد للوعد
(١) عن ثابت بن عرفجة الحضري قال حدثنى سبعة وعشرون من اصحاب على وعبد الله ان عليّا قال انما نزلت هذه الاية لَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ الاية قال لولا دفع الله باصحاب محمد من التابعين لهدّمت صوامع ١٢ منه رح.
(٢) وفي الأصل غيره.
.
330
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ ان هاهنا بمعنى إذا بدليل ما سبق من الوعد بالدفع والنصر فهو اخبار ووعد بالتمكين فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وصف للذين اخرجوا وهو ثناء قبل بلاء وهو برهان على صحة امر الخلفاء الراشدين إذ لم يحصل المكنة في الأرض لغيرهم من المهاجرين- واما معاوية رضى الله عنه فلم يكن من الذين اخرجوا- وقيل الموصول بدل ممن ينصره والمعنى لينصرن الله من يكون هذا صفته ولا شك ان الله تعالى نصر الخلفاء الراشدين وأنجز وعده- حتى سلّطهم على صناديد العرب وأكاسرة العجم وقياصرتهم وأورث المسلمين على عهدهم ارض الكفار وديارهم وأموالهم وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١) فان مرجعها الى حكمه وفيه تأكيد لما وعده.
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ يا محمد يعنى كفار مكة فَقَدْ كَذَّبَتْ تعليل لجزاء محذوف لشرط مذكور تقديره فان كذبوك فلا تحزن لانه ليس بامر مبدع فقد كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ جملة معترضة لتسلية النبي ﷺ وَكُذِّبَ مُوسى غيّر فيه النظم وبنى للمفعول لان قومه بنى إسرائيل لم يكذبوه وانما كذبه القبط ولان تكذيبه كان اشنع لكون آياته أعظم واشيع فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ اى أمهلتهم وأخرت عقوبتهم عطف على كذبت ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ بالعذاب عاقبة أمرهم فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) اثبت الياء ورش في الوصل حيث وقعت والباقون حذفوها- يعنى كيف كان إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة والحيوة هلاكا والعمارة خرابا استفهام للتعجيب او التهويل او التقرير اى هو واقع موقعه.
فَكَأَيِّنْ فكم مِنْ قَرْيَةٍ كلمة كاين مرفوع بالابتداء او منصوب بإضمار فعل يفسره أَهْلَكْناها قرأ ابو عمرو ويعقوب أهلكتها بتاء مضمومة على صيغة المتكلم المتوحد والباقون بنون مفتوحة والف بعدها على التعظيم- يعنى أهلكنا أهلها حذف المضاف
331
وأقيم المضاف اليه مقامه وكذا في قوله وَهِيَ يعنى وأهلها ظالِمَةٌ اى واضعة للعبادة في غير موضعها كافرة بالله مؤمنة بالطواغيت فَهِيَ اى حيطانها خاوِيَةٌ اى ساقطة عَلى عُرُوشِها اى سقوفها يعنى تهدمت عمرانها فسقطت السقوف اولا ثم وقعت عليها الجدران فالظرف لغو متعلق بخاوية- او المعنى خاوية اى خالية على عروشها يعنى كائنة على عروشها اى مع بقاء عروشها وسلامتها وعلى هذا التأويل الظرف المستقر اما منصوب على الحال او مرفوع خبر بعد خبر اى هى خالية وهى معطلة على عروشها بان سقطت وبقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها- والجملة معطوفة على أهلكناها لا على وهى ظالمة فانها حال والإهلاك ليس خال خوائها- وعلى تقدير نصب كايّن لا محل لهذه الجملة من الاعراب وَبِئْرٍ كانت في القرى أهلكنا اهل تلك الآبار فصارت كبئر «١» مُعَطَّلَةٍ متروكة لا تسقى عطف على قرية اى وكم من بئر معطلة وَكم من قَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أهلكنا أهلها يعنى كم من قرية ساقطة عمر ان بعضها بعد خرابها ومرفوعة مشيدة عمران بعضها أهلكنا أهلها- قال قتادة والضحاك ومقاتل معنى مشيد رفيع طويل من قولهم شاد بناه إذا رفعه- وقال سعيد بن جبير وعطاء ومجاهد اى مجصص من الشّيد وهو الجص- وجملة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ بدل من قوله فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ ومن ثم عطف بالفاء- قال البغوي قيل ان البئر المعطلة والقصر المشيد باليمن اما القصر فعلى قلة جبل والبئر في صفحه ولكل واحد منهما قوم في نعمة فكفروا فاهلكهم الله وبقي القصر والبئر خاليين وروى ابو روق عن الضحاك انه كان هذه البئر بحضر موت في بلدة يقال لها حاصورا وذلك ان اربعة آلاف نفر ممن أمن بصالح عليه السلام نجوا من العذاب فاتوا بحضر موت ومعهم صالح فلمّا حضروه مات صالح عليه السّلام فسمى حضر موت لان صالحا لما حضره مات فبنوا حاصورا وقعدوا على هذه البئر وامّروا عليهم رجلا فاقاموا
(١) وفي الأصل فصارت معطلة إلخ وانما زدنا لفظة كبئر لان معطلة مجرورة لا تصلح ان تقع خيرا لصارت وتغيير الاعراب غير جائز فلا بد من تقدير والله اعلم الفقير الدهلوي
332
دهرا وتناسلوا حتى كثروا- ثم ان اخلافهم عبدوا الأصنام وكفروا فارسل الله إليهم نبيّا يقال له حنظلة بن صفوان وكان حمالا فيهم فقتلوه في السوق فاهلكهم الله وعطلت بئرهم وخربت قصورهم.
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ عطف على محذوف تقديره الم يخرجوا من بيوتهم فلم يسيروا في الأرض فَتَكُونَ منصوب بتقدير ان معطوف على مصدر مدلول تضمنا لقوله أَفَلَمْ يَسِيرُوا- يعنى الم يحصل منهم خروجهم من بيوتهم وسير في الأرض لان تكون لَهُمْ قُلُوبٌ وتكون اما تامة ولهم حال من فاعله- واما بمعنى تصير والظرف خبره وبعده اسمه يَعْقِلُونَ بِها صفة لقلوب والمفعول محذوف والمعنى يعقلون بها ما يجب تعقله من التوحيد بما حصل لهم من الاستبصار والاستدلال أَوْ آذانٌ عطف على قلوب يَسْمَعُونَ بِها الاستفهام للانكار والإنكار راجع الى كون قلوبهم عاقلة بعد السير وآذانهم سامعة للحق وفيه حثّ على التعقل والاستماع فَإِنَّها الضمير للقصة او مبهم يفسره الابصار في قوله تعالى لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وفي تعمى ضمير راجع الى الابصار المقدم رتبة او الظاهر أقيم مقامه- والفاء للتعليل اى تعليل استعقاب السير كون قلوبهم عاقلة وآذانهم سامعة- يعنى ليست أبصارهم عامية حتى لا يروا مشاهد الآثار الأمم الخالية بعد السير ولمّا كان حال الكفار من عدم الاعتبار بعد ظهور الآيات ومشاهدة الآثار شاهدا على ونهم عميانا وموجبا لانكار السامع لابصارهم أكد هذه الجملة بانّ وضمير القصة او الضمير المبهم المفسر بما بعده انزالا للسامع منزلة المنكر لنفى العمى- ثم قال استدراكا لدفع توهم نفى العمى عنهم مطلقا وازاحة لشبهة حارت عقول العقلاء في انهم يرون آيات التوحيد ولا يعتقدون به ويسمعون براهين التحقيق ولا يصغون إليها وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦) ذكر الصدور للتأكيد ونفى احتمال التجوّز كما في قوله تعالى طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ وفيه تنبيه على ان العمى الحقيقي ليس المتعارف الّذي يخص البصر- قال قتادة البصر الظاهر بلغة ومتعة وبصر القلب هو البصر النافع قال رسول الله ﷺ شر العمى عمى القلب رواه البيهقي
فى الدلائل وابن عساكر عن عقبة بن عامر الجهني وابو نصر السنجري في الإبانة عن ابى الدرداء ورواه الشافعي عن ابن مسعود موقوفا- وذكر في الاية عمى القلب وأراد سلب المشاعر كلها عن قلوبهم كانّه قال ولكن تعمى وتصم القلوب الّتي في الصدور- قال البيضاوي قيل لما نزلت وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى قال ابن أم مكتوم يا رسول الله انا في الدنيا أعمى أفأكون في الاخرة أعمى فنزلت هذه الاية- قلت وهذا ما اخرج ابن ابى حاتم عن قتادة قوله ذكر لنا انها نزلت في عبد الله بن زائدة يعنى ابن أم مكتوم.
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعد به هذه الاية في مقام الاستشهاد على عمى قلوبهم فان استعجال العذاب دليل على العمى قال البغوي نزلت في النضر بن الحارث حيث قال إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ... وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الخلف في خبره فيصيبهم ما أوعدهم به البتة ولو بعد حين لكونه صبورا لا يعجل بالعقوبة وانجر الله الوعد يوم بدر والجملة حال او معترضة وكذا قوله وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ حال او معترضة كانّه قال لم تستعجلونه وهو لا يجوز فواته وهذه الاية تدل على انه كما لا يجوز الخلف في وعده لا يجوز التخلف في وعيده ايضا- وذالا ينافى المغفرة فان آيات الوعيد مخصوصة بالنصوص والإجماع بمن لا يتداركه المغفرة وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي يعدّون بالياء التحتانية هاهنا لقوله ويستعجلونك- وقرأ الباقون بالتاء الفوقانية لانه أعم لانه خطاب للمستعجلين والمؤمنين جميعا- قال ابن عباس في رواية عطاء معنى الاية ان يوما عنده تعالى والف سنة في الامهال سواء- لانه قادر متى شاء أخذهم لا يفوته شيء بالتأخير فيستوى في قدرته وقوع ما يستعجلون به من العذاب وتأخيره وقيل معناه ان يوما من ايام العذاب الّذي استعجلوه في الثقل والاستطالة والشدة كالف سنة مما تعدون فكيف يستعجلونه- وهذا كما يقال ايام الهموم طوال وايام السرور قصار- وقيل انه
بيان لتناهى صبره يعنى ان الله لا يخلف وعده لكنه قد يؤخر العذاب الى يوم هو عند ربك كالف سنة- قال مجاهد وعكرمة يعنى يوما من ايام الاخرة والدليل علمه ما روى عن ابى سعيد الخدري رضى الله عنه قال قال رسول الله ﷺ ابشروا يا معشر صعاليك المهاجرين بالنور التام يوم القيامة تدخلون الجنة قبل اغنياء؟؟؟
الناس بنصف يوم وانّ يوما عند ربك كالف سنة- رواه احمد والترمذي وحسنه وعن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بخمس مائة عام ونصف يوم رواه الترمذي.
وَكَأَيِّنْ اى وكم مِنْ قَرْيَةٍ اى من اهل قرية حذف المضاف وأقيم المضاف اليه مقامه في الاعراب وإرجاع الضمائر والاحكام مبالغة في التعميم- وأورد هذه الجملة معطوفة بالواو على قوله يَسْتَعْجِلُونَكَ... وَلَنْ يُخْلِفَ لانه في مقام الاستشهاد لعدم التخلف وبيان ان المتوعد به واقع لا محالة- والتأخير مبنى على عادة الله سبحانه فان كثير من القرى أَمْلَيْتُ اى أمهلت لَها كما امهلتكم وَهِيَ ظالِمَةٌ مثلكم حال من القرية ثُمَّ أَخَذْتُها بالعذاب وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) يعنى الى حكمى مرجع الجميع-.
قُلْ يا محمّد لكفار مكة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ يعنى لست بقادر على إتيان العذاب مُبِينٌ (٤٩) أوضح لكم ما أنذركم به ولمّا كان الخطاب مع المشركين المستعجلين بالعذاب وانما كان ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة في غيظهم اقتصر على ذكر الانذار- ويمكن ان يقال ان الانذار مقدم على الابشار وعام للفريقين والابشار يخص بمن أطاعه بعد ما أطاعه ولذلك اقتصر عليه روى الشيخان في الصحيحين عن ابى موسى الأشعري قال قال رسول الله ﷺ انما مثلى ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل اتى قوما فقال يا قوم انى رايت الجيش بعيني وانّى انا النذير العريان فالنجا النجا فاطاعه طائفة من قومه فادلجوا «١» وانطلقوا على
(١) الدلجة هو سير الليل يقال ادبح بالتخفيف إذا سار من أول الليل وادّلج بالتشديد إذا سار آخره- ١٢ نهاية منه رح.
مهلهم فنجوا- وكذبت طائفة منهم فاصبحوا مكانهم فصبحهم الجيش فاهلكهم واجتاحهم «١» - فذلك مثل من أطاعني فاتبع ما جئت به ومثل من عصانى وكذّب ما جئت به من الحق.
فَالَّذِينَ آمَنُوا بما جئت به وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ على حسب ما امرتهم لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لما سلف منهم قال رسول الله ﷺ ان الإسلام يهدم ما كان قبله- رواه مسلم عن عمرو بن العاص وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) اى الجنة.
وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالرد والابطال مُعاجِزِينَ حال من فاعل سعوا قرأ ابن كثير وابو عمرو معجّزين بالتشديد من التفعيل هاهنا وفي سورة سبا اى مثبطين الناس عن الايمان ينسبونهم الى العجز والباقون بالألف من المفاعلة اى معاندين مشاقين قال قتادة معنى معجزين ظانّين مقدرين انهم يعجزوننا بزعمهم ان لا بعث ولا نشر ولا جنة ولا نار او معنى يعجزوننا اى يفوتوننا فلا نقدر عليهم- وقيل معنى معاجزين مغالبين يريدون ان يظهروا عجزنا عن ادراكهم- قلت يمكن ان يكون معناه معاجزين الرسول فانه يمنعهم عن دخول النار وهم يقتحمون فيها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) روى الشيخان في الصحيحين عن ابى هريرة قال قال رسول الله ﷺ مثلى كمثل رجل استوقد نارا فلمّا أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب الّتي تقع في النار يقعن فيها وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها فانا أخذ بحجزكم عن النار وأنتم تقتحمون فيها- واللفظ للبخارى ولمسلم نحوه قال البغوي قال ابن عباس ومحمد بن كعب القرظي وغيرهما من المفسرين انه لما راى رسول الله ﷺ تولّى قومه عنه وشق عليه ما راى من مباعدتهم عما جاء به من الله عزّ وجلّ تمنى في نفسه ان يأتيه من الله ما يقارب بينه وبين قومه لحرصه على ايمانهم فكان يوما في مجلس لقريش فانزل الله سورة النجم فقراها رسول الله صلى الله عليه وسلم
(١) احتاجهم اى من الجائحة وهى الآفة الّتي تهلك ١٢ منه رح.
حتّى بلغ قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى - القى الشيطان على لسانه لما كان يحدث به في نفسه ويتمنى تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن لترتجى- فلمّا سمعت قريش ذلك فرحوا به ومضى رسول الله ﷺ في قراءته فقرأ السورة كلها وسجد في اخر السورة فسجد المسلمون بسجوده وسجد جميع من في المسجد من المشركين فلم يبق في المسجد مؤمن ولا كافر الا سجد الا الوليد بن المغيرة وسعيد بن العاص فانهما أخذا حفنة من البطحاء ورفعاها الى جبهتهما وسجدا عليه لانهما كانا شيخين كبيرين فلم يستطيعا السجود وتفرقت قريش وقد سرهم ما سمعوا من ذكر الهتهم يقولون قد ذكر محمد الهتنا بأحسن الذكر وقالوا قد عرفنا ان الله يحيى ويميت ويخلق ويرزق ولكن الهتنا هذه تشفع لنا عنده فاذا جعل لها محمد نصيبا فنحن معه- فلما امسى رسول الله ﷺ أتاه جبرئيل فقال يا محمد ماذا صنعت لقد تلوت على الناس مالم آتك به عن الله عزّ وجلّ فحزن رسول الله ﷺ حزنا شديدا وخاف من الله خوفا كثيرا فانزل الله تعالى.
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ الاية يعزيه وكان به رحيما- وسمع من كان بحبشة من اصحاب رسول الله ﷺ وبلغهم سجود قريش وقيل أسلمت قريش واهل مكة فرجع أكثرهم الى عشائرهم وقالوا هم أحب إلينا حتى إذا دنوا من مكة بلغهم ان الّذي كانوا تحدثوا به من اسلام اهل مكة كان باطلا فلم يدخل أحد الا بجوار او مستخفيا مِنْ رَسُولٍ من زائدة للتعميم قال البغوي الرسول هو الّذي يأتيه جبرئيل عيانا وَلا نَبِيٍّ هو الّذي يكون نبوته إلهاما او مناعا وقيل الرسول من بعثه الله بشريعة مجددة يدعو الناس إليها والنبي يعمه ومن بعثه لتقرير شرع سابق كانبياء بنى إسرائيل الذين كانوا بين موسى وعيسى فكل رسول نبى وليس كل نبى رسولا- عن ابى ذر قال قلت يا رسول الله اىّ الأنبياء كان اوّل قال آدم قلت يا رسول الله ونبى كان قال نعم نبى مكلّم قلت يا رسول الله كم المرسلون قال ثلاثمائة وبضعة عشر جمّا غفيرا- وفي رواية عن ابى امامة
337
قال أبو ذر قلت يا رسول الله كم وفاء عدة الأنبياء قال مائة الف واربعة وعشرون الفا الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جمّا غفيرا رواه احمد وابن راهويه في مسنديهما وابن حبان في صحيحه والحاكم في المستدرك صحّح رواية ابى امامة إِلَّا إِذا تَمَنَّى قال بعض المفسرين معناه إذا أحب شيئا واشتهاه وحدث به نفسه مالم يؤمر به- استثناء مفزغ من رسول ونبى على الحال تقديره ما أرسلنا من رّسول ولا نبىّ في حال من الأحوال الا مقدرا في شأنه انه إذا تمنى أَلْقَى الشَّيْطانُ اى وسوس اليه ووجد اليه سبيلا والقى في مراده- وما من نبى الا إذا تمنى ان يؤمن قومه ولم يتمن ذلك نبىّ الا القى الشيطان فِي أُمْنِيَّتِهِ عليه ما يرضى قومه وقال البيضاوي إذا زور نفسه ما يهويه القى الشيطان فيما يشتهيه ما يوجب اشتغاله بالدنيا فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ اى يبطله ويذهبه بعصمته عن الركون ويرشده الى ما يزيحه ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ الداعية الى الاستغراق في امر الاخرة وقال اكثر المفسرين معنى قوله الا إذا تمنى اى قرا كتاب الله القى الشيطان في امنيّة اى في قراءته قال الشاعر في عثمان رضى الله عنه حين قتل شعر
تمنى كتاب الله اوّل ليلة وآخرها لاقى حمام المقادر
فان قيل كيف يجوز الغلط في التلاوة على النبي ﷺ وكان معصوما من الغلط في اصل الدين وقال الله تعالى لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ يعنى إبليس- ومن هاهنا قال البيضاوي هو يعنى ما ذكر في شأن نزول الاية وإلقاء الشيطان في قراءة سورة النجم مردود عند المحققين- لكن قال الشيخ جلال الدين السيوطي هذه القصة رواها البزار وابن مردوية والطبراني بسند صحيح عن ابن عباس- قلت يعنى عن سعيد بن جبير عنه قلت قال البزار لا يروى متصلا الا بهذا الاسناد تفرد بوصله امية بن خالد وهو ثقة مشهور وقد اخرج ابن ابى حاتم وابن جرير وابن المنذر بسند صحيح عن سعيد بن جبير مرسلا قال قرأ رسول الله ﷺ بمكة والنجم فلمّا بلغ أفرأيتم اللّات والعزّى ومنوة الثّالثة
338
الاخرى القى الشيطان على لسانه تلك الغرانيق العلى ان شفاعتهن لترتجى فقال المشركون ما ذكر الهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا فنزلت وما أرسلنا من قبلك الاية وأخرجه النحاس عن ابن عباس متصلا بسند فيه الواقدي وأخرجه ابن مردوية من طريق الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس وابن جرير من طريق العوفى عن ابن عباس وأورد ابن إسحاق في السيرة عن محمد بن كعب وموسى بن عقبة في المغازي عن ابن شهاب وابن جرير عن محمّد بن كعب ومحمّد بن قيس وابن ابى حاتم عن السدىّ كلهم بمعنى واحد وكلها اما ضعيفة او منقطعة سوى طريق سعيد بن جبير الاول الّذي ذكره البزار وابن مردوية والطبراني- وقال الحافظ ابن حجر لكن كثرة الطرق تدل على ان للقصة أصلا مع ان لها طريقين صحيحين مرسلين رجالهما على شرط الصحيحين أحدهما ما أخرجه الطبراني من طريق يونس بن يزيد عن ابن شهاب الزهري حدثنى أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام
- وثانيهما ما أخرجه ايضا من طريق المقيم بن سليمان وحماد بن سلمة عن داود عن ابى هند عن ابى العالية- قلنا اختلف العلماء في الجواب عن الاشكال فقال بعضهم ان الرسول لم يقرأه ولا سمع منه أصحابه ولكن الشيطان القى ذلك بين قراءته في اسماع المشركين فظن المشركون ان الرسول ﷺ قرأه- وقال قتادة أغفى النبي ﷺ إغفاء فجرى على لسانه بإلقاء الشيطان على سبيل السهو والنسيان فلم يلبث حتى نبهه الله عليه «١» - قيل ان شيطانا يقال له ابيض عمل هذا العمل وكان ذلك
(١) قال القاضي عياض في الشفاء لم يخرجه أحد من العلماء اهل الصحة ولا رواه ثقة سليم متصل وانما اولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون المؤلقون بكل غريب المتلفقون من الصحف كل صحيح وسقيم- وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي حيث قال لقد تلى الناس ببعض اهل الأهواء والتفسير وتعلق بذلك الملحدون مع ضعف نقلبة واضطراب رواياته وانقطاع أسانيده واختلاف كلماته- فقائل يقول انه في الصلاة واخر يقول قالها في نادى قومه حين أنزلت عليه سورة النجم واخر يقول بل حدث نفسه فسهى واخر يقول قالها وقد أصابته سنة واخر يقول ان الشيطان قالها على لسانه وان النبي ﷺ لما عرضها على جبرئيل قال ما هكذا قرأتك واخر يقول بل أعلمهم الشيطان ان النبي ﷺ قراها فلما بلغ النبي ﷺ قال والله ما هكذا نزلت الى غير ذلك من اختلاف الرواة وممن حكيت هذه الحكاية من المفسرين والتابعين لم يسندها أحد منهم ولا رفعها الى صاحب.... واكثر الطرق عنهم ضعيفة واهية- والمرفوع فيه في حديث سعيد عن ابى بشر عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فيما احسب الشك في الحديث ان النبي ﷺ كان بمكة- قال أبو بكر البزار هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي ﷺ بإسناد متصل يجوز ذكره الا هذا- ولم يسنده عن سعيد الا امية بن خالد وغيره مرسلة عن سعيد بن جبير- وانما يعرف عن الكلبي عن ابى صالح عن ابن عباس- وقد بين ذلك أبو بكر انه لا يعرف من طريق يجوز ذكرة الا هذا وفيه من الضعف ما فيه عليه مع وقوع الشك فيه وأحاديث الكلبي مما لا يجوز الرواية عنه ولا ذكره لقوة ضعفه وكذبه منه رح.
قال الخفاجي في سليم الرياض ص ٨٦- ٤٧٠ اى الى صحابى من اصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم قالها وقيل المعنى لم يعزها لصاحب لها قد قالها انتهى (الفقير الدهلوي). [.....]
339
فتنة ومحنة والله يمتحن عباده بما يشاء- فان قيل كلا التقدير ان سواء قرأ الشيطان وحسب الناس ان النبي ﷺ قرأه او جرى على لسانه في حالة اغفائه يخل بالوثوق بالقرآن- قلنا قد تكفل الله تعالى الوثوق بقوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ اى يبطله ويذهبه ويظهر على الناس انه من إلقاء الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ المنزلة اى يثبتها ويحفظها من لحوق الزيادة من الشيطان- فان قيل هذه الاية حينئذ ايضا يحتمله قلنا إذا ضمت هذه الاية بالبرهان العقلي المستدعى صحة رسالة الرسل وعصمتهم عن الخطاء والزلل في اصول الدين يفيد يقينا في قوة البداهة ان هذه الاية وكلما أثبته الله وأحكمه من الآيات والشرائع والاحكام انما أثبته وأحكمه الله لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ- قال الله تعالى فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ... وَاللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال الناس واستعداداتهم فيفعل بكل ما يستحقه من الهداية او الإضلال حَكِيمٌ (٥٢) فيما
340
يفعله لا يسع لاحد الاعتراض عليه- او عليم بما اوحى الى نبيه وبقصد الشيطان حكيم لا يدعه حتى يكشفه ويزيله.
لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ عليه بتمكين الشيطان منه فِتْنَةً اى محنة وبلاء لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شك ونفاق وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ اى المشركين وَإِنَّ الظَّالِمِينَ يعنى اهل النفاق والشرك وضع الظاهر موضع ضميرهم قضاء عليهم بالظلم لَفِي شِقاقٍ خلاف عن الحق او عن الرسول والمؤمنين بَعِيدٍ (٥٣) قال البغوي لما نزلت هذه الاية قالت قريش ندم محمد على ما ذكر من منزلة الهتنا عند الله فغيّر ذلك وكان الحرفان الذان القى الشيطان في امنيّته ﷺ قد وقع في فم كل مشرك فازدادوا شرّا الى ما كانوا عليه وشدة على من اسلم.
وَلِيَعْلَمَ عطف على ليجعل واللام متعلق بمقدر يعنى فعلنا تمكين الشيطان على الإلقاء ونسخ ما يلقى الشيطان لامرين لنجعل ما يلقى الشيطان الى آخره وليعلم- وجاز ان يكون اللام متعلقا بقوله أَلْقَى الشَّيْطانُ وحينئذ يكون اللام في ليجعل وليعلم للعاقبة كما في قوله تعالى فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً... الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بالله وأحكامه وقال السدى اى التصديق بنسخ الله أَنَّهُ اى الّذي أحكمه الله من آيات القرآن هو الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ النازل من عنده او انّه اى تمكين الشيطان حق لانه جرت به عادة الله في جنس الإنسان من لدن آدم عليه السّلام فَيُؤْمِنُوا بِهِ اى بالقرآن ويعتقدوا انه من الله او بالله تعالى وعطف يؤمنوا على يعلم بالفاء دليل على ان مجرد العلم ليس بايمان بل هو امر وهبى مترتب على العلم غالبا بجرى العادة فَتُخْبِتَ اى تخشع لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد والخشية وتطمئن عنده وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فيما أشكل عليهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) اى اعتقاد صحيح وطريق قويم وهو الإسلام.
وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ اى شك مِنْهُ اى ناشية من القرآن او الرسول او الذين أمنوا او مما القى الشيطان في امنيّته ما باله ذكرها بخير
ثم ارتد عنه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ اى وقت الموت بَغْتَةً اى اتيانا فجاءة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) قال عكرمة والضحاك عذاب يوم لا ليلة له وهو يوم القيامة وقيل المراد بالساعة يوم القيامة وبيوم عقيم يوم بدر إذ لم يكن للكافرين في ذلك اليوم خير والعقيم في اللغة المنع ومنه الريح العقيم- وجاز ان يكون المراد بالساعة وبيوم عقيم واحدا وهو يوم القيامة فيكون الثاني وضع الظاهر موضع المضمر للتهويل.
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم تزول مريتهم لِلَّهِ وحده ظرف مستقر يَحْكُمُ الله بَيْنَهُمْ بالمجازاة جملة مستأنفة او في محل النصب على الحال والضمير يعم المؤمنين والكافرين لتفصيله بقوله فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) إدخال الفاء في خبر الثاني دون الاوّل تنبيه على ان اثابة المؤمنين بالجنات تفضل من الله تعالى وعقاب الكافرين مسبب بأعمالهم ولذلك قال لهم عذاب ولم يقل هم في عذاب- قال رسول الله ﷺ لن ينجى أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى الله برحمة منه وفضل- رواه الشيخان في الصحيحين ورويا فيهما عن عائشة قالت قال رسول الله ﷺ سددوا وقاربوا وابشروا فانه لا يدخل الجنة أحدا عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا انا الا ان يتغمدنى بمغفرة ورحمة- ولمسلم من حديث جابر نحوه وقد ورد نحوه من حديث ابى سعيد عند احمد وابن ابى موسى وشريك بن طارق واسامة بن شريك والسد بن كون عند الطبراني واما قوله تعالى ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فمحمول على ان للجنة منازل تنال بالأعمال واما اصل دخولها والخلود فيها فبفضل الله المتعال اخرج هناد في الزهد عن ابن مسعود قال تجوزون الصراط بعفو الله وتدخلون الجنة برحمة الله وتقسمون المنازل بأعمالكم- واخرج ابو نعيم عن عون بن عبد الله مثله.
وَالَّذِينَ هاجَرُوا فارقوا الأوطان والعشائر فِي سَبِيلِ اللَّهِ فى طلب مرضاته ثُمَّ قُتِلُوا فى الجهاد قرأ ابن عامر قتّلوا بالتشديد من التفعيل للتكثير والمبالغة والباقون بالتخفيف أَوْ ماتُوا حتف أنوفهم لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ اى والله ليرزقنهم الله في الجنة رِزْقاً حَسَناً اى نعيمها الّتي لا تنقطع فلا مثل لها وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) فانه يرزق بغير حساب.
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ اى الجنة فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ما لا عين رأت ولا اذن سمعت ولا خطر ببال البشر وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بأحوالهم واحوال معانديهم حَلِيمٌ (٥٩) لا يعاجل في العقوبة.
ذلِكَ اى الأمر ذلك او ذلك حق او تحقق ذلك او عرفت ذلك الّذي قصصنا عليك وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ اى جازى الظالم بمثل ما ظلم به عليه اطلق لفظ العقاب الّذي هو الجزاء على ابتداء الظلم للازدواج او للمشاكلة ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ بالمعاودة على الظلم لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ لا محالة إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) للمنتصر حيث اتبع هواه في الانتقام واعرض عما ندب الله اليه بقوله ولمن صبر وغفر ان ذلك لمن عزم الأمور- وفيه تعريض بالحث على المغفرة فانه تعالى مع كمال قدرته وعلو شأنه لما كان يعفو ويغفر فغيره بذلك اولى وتنبيه على انه قادر على العقوبة إذ لا يوصف بالعفو الا القادر على العقوبة- قال البغوي قال الحسن قوله تعالى وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ معناه قاتل المشركين كما قاتلوه ثم بغى عليه اى ظلم بإخراجه من منزله وقيل نزلت الآية في قوم من المشركين أتوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فكره المسلمون قتالهم وسألوهم ان يكفوا من القتال من أجل الشهر الحرام فابى المشركون وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت المسلمون فنصروا عليهم- قلت فعلى هذا قوله إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ عن المؤمنين غَفُورٌ لهم في قتالهم في الشهر الحرام واخرج ابن ابى حاتم عن مقاتل نحوه.
ذلِكَ النصر بِأَنَّ اللَّهَ قادر على كل شيء وقد جرى عادته
على المداولة بين الأشياء المتعاندة ومن ذلك انه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يعنى يزيد في أحد الملوين ما ينقص من الاخر او يحصل ظلمة الليل مكان ضوء النهار بمغيب الشمس وعكس ذاك بطلوعها وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع اقوال المعاقب والمعاقب او سميع دعاء المؤمنين فيجيبهم بَصِيرٌ (٦١) يرى افعالهما فلا يهملهما.
ذلِكَ الاتصاف بكمال العلم والقدرة والسمع والبصر بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت في نفسه الواجب لذاته وحده لان وجوب وجوده ووحدته يقتضيان ان يكون مبدأ لكل ما يوجد سواه عالم بذاته وبما عداه متصف بجميع صفات الكمال- إذ من ثبت ألوهيته لا يمكن الا ان يكون قادرا عالما سميعا بصيرا وَأَنَّ ما يَدْعُونَ قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وأبو بكر هنا وفي لقمان في الموضعين بالتاء الفوقانية خطابا للمشركين والباقون بالياء التحتانية اى ما يدعونه اى المشركون مِنْ دُونِهِ الها هُوَ الْباطِلُ اى المعدوم الممتنع وجوده في حد ذاته او باطل الالوهية وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ المتعالي من ان يكون له شريك الْكَبِيرُ (٦٢) العظيم الّذي ليس كمثله شيء.
أَلَمْ تَرَ اى الم تبصر او الم تعلم والاستفهام للانكار يعنى تعلم وتبصر أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً يعنى أصبحت مخضرة بالنبات أورد لفظ المضارع للماضى لاستحضار صورة ما مضى وللدلالة على بقاء اثر المطر زمانا بعد زمان- والجملة دليل اخر على كمال علمه وقدرته إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه او لطفه الى كل ما دقّ وجلّ خَبِيرٌ (٦٣) بالتدابير الظاهرة والباطنة وبأحوال عباده وما احتاجوا اليه من الأرزاق.
لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ خلقا وملكا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ في ذاته عن كل شيء الْحَمِيدُ (٦٤) المستوجب للحمد بصفاته وأفعاله او المحمود في ذاته وان لم يوجد حامد غيره.
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ اى جعلها مذلّلة لكم معدة لمنافعكم-
وَالْفُلْكَ بالنصب عطف على ما او على اسم انّ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ طال منها او استيناف وقيل معناه سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الدواب لتركبوها في البر وسخر لكم الفلك لتركبوه في البحر وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى من ان تقع على الأرض ومن هذا يظهر ان الأجسام الفلكية مثل الأجسام الارضية في الميل الى ما تحته وانما أمسكها الله تعالى بقدرته- وقال البيضاوي أمسكها بان خلقها على صور متداعية الى الاستمساك إِلَّا بِإِذْنِهِ استثناء من مضمون قوله يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ يعنى لا تقع على الأرض في حال من الأحوال الا متلبسا باذنه اى بمشيئة قال البيضاوي وذلك يوم القيامة- قلت ولم نعلم وقوع السماء على الأرض يوم القيامة بل الانشقاق والانفطار وكونه كالمهل ووردة كالدهان وطيّه كطىّ السجل- فالاولى ان يقال الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا وذلك لا يقتضى وجود المستثنى- فمعنى الاية لا يقع السماء على الأرض بغير اذنه ولا يقتضى ذلك الاذن بالوقوع في وقت من الأوقات ولا لا «١» وقوعها والله اعلم إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) حيث جعل لهم اسباب الاستدلال وفتح عليهم أبواب المنافع ودفع عنهم انواع المصائب.
وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بنفخ الأرواح في أجسادكم بعد ان كنتم جمادا عناصر ونطفا وعلقا ومضغا وأجسادا لا روح فيها ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء اجالكم بنزع الأرواح من أجسادكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ فى الاخرة باعادة الأجسام ونفخ الأرواح فيها إِنَّ الْإِنْسانَ المشرك لَكَفُورٌ (٦٦) لجحود للنعم بعد ظهورها لا يعرف نعمة الإنشاء المبدئ للوجود ولا الافناء المقرب الى الموعود ولا الاحياء الموصل الى المقصود او المعنى كفور بربّه مع قيام البراهين القاطعة على وجوده ووحدته وصفاته الكاملة.
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا لم يذكر هاهنا بالواو للعطف كما ذكر فيما سبق لان هناك وقعت الاية مع ما يناسبها من الاى الواردة في النسائك فعطفت على أخواتها
(١) وفي الأصل ولا وقوعها- الفقير الدهلوي.
وهذه وقعت مع التباعد عن معناها فلم يعطف مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ قال ابن عباس يعنى شريعة عاملون بها وروى انه قال عيدا وقال مجاهد وقتادة قربان يذبحون فيه وقيل موضع عبادة وقيل مألفا يألفونه والمنسك في كلام العرب الموضع المعتاد لعمل خيرا وشر ومنه مناسك الحج لتردد الناس الى أماكن الحج- وفي القاموس النساء العبادة وأرنا مناسكنا متعبداتنا ونفس النسك وموضع يذبح فيه والنسيكة اى الذبيحة والنسك المكان المألوف والمنسك المقعد فَلا يُنازِعُنَّكَ سائر ارباب الملل فِي الْأَمْرِ اى في امر الدين او النسائك لانهم اما جهال او اهل عناد ولو لم يعاند اهل العلم منهم فلا سبيل لهم الى منازعتك لان امر دينك اظهر من ان يقبل النزاع- قال البغوي نزلت في بديل بن ورقا وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس قالوا لاصحاب محمّد ﷺ مالكم تأكلون مما تقتلون بايديكم ولا تأكلون مما قتله الله- قال الزجاج معنى قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ لا تنازعهم أنت كما يقال لا يخاصمنّك فلان اى لا تخاصمه وهذا جائز فيما يكون بين اثنين فلا يجوز لا يضربنك زيد تريد لا تضربه وجاز لا يضاربنك زيد بمعنى لا تضربه وذلك لان المنازعة والمخاصمة لاتتم الا باثنين فاذا ترك أحدهما ذهبت المخاصمة وَادْعُ الناس إِلى رَبِّكَ الى توحيده وعبادته قلت بل الى ذاته والوصول اليه بلا كيف إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) طريق سوى الى الحق ومدارج القرب.
وَإِنْ جادَلُوكَ بعد ظهور الحق ولزوم الحجة فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) من المجادلة الباطلة وغيرها فمجازيكم عليها الجملة الشرطية معطوفة على قوله فلا ينازعنّك- وفي هذه الجملة وعيد مع رفق وكان ذلك قبل الأمر بالقتال.
اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ اى يقضى بين المؤمنين منكم والكافرين فيظهر الحق من الباطل بإثابة المؤمنين وعقاب الكافرين يوم القيامة كما فصل بينهم في الدنيا بالحجج والآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) من امر الدين الاختلاف ذهاب كل واحد من الخصمين الى خلاف ما ذهب اليه الاخر.
أَلَمْ تَعْلَمْ استفهام تقرير أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا يخفى عليه شيء إِنَّ ذلِكَ كله فِي كِتابٍ يعنى اللوح المحفوظ الّذي كتب الله فيه قبل خلق السموات والأرض ما كان وما يكون فلا يهمنك أمرهم مع علمنا به وحفظنا له إِنَّ ذلِكَ اى الإحاطة به او إثباته في اللوح او المحكم بينكم عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) لان علمه مقتضى ذاته ونسبة المعلومات كلها الى علمه سواء.
وَيَعْبُدُونَ عطف على مضمون ما سبق من الآيات الدالة على وحدانيته تعالى وكمال قدرته يعنى أتعلمون تلك الدلائل الواضحة والبراهين القاطعة في التوحيد والالوهية وهم مع ذلك يعبدون مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ الله بِهِ سُلْطاناً اى حجة تدل على جواز عبادته وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ حصل لهم من ضرورة العقل او استدلاله او بالنقل الصحيح المفيد للعلم من المخبر الصادق الّذي دل على صدقه برهان او المتواتر المنتهى الى احدى الحواس الخمس وَما لِلظَّالِمِينَ اى المشركين الذين ارتكبوا مثل هذا الظلم مِنْ نَصِيرٍ (٧١) يمنعهم من عذاب الله.
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ الشرط مع الجزاء معطوف على يعبدون آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات اتيانا من الله تعالى او واضحات الدلالة على العقائد الحقة والاحكام الالهية تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ اى الإنكار يعنى يظهر في وجوههم اثار الإنكار من العبوس والغيظ وضع المظهر موضع الضمير للدلالة على ان الباعث على الإنكار انما هو شدة كفرهم لا غير ذلك- او المراد بالمنكر ما يقصدونه بالمؤمنين من الشر يَكادُونَ حال من الذين كفروا يَسْطُونَ اى يبطشون او يبسطون إليهم أيديهم بالسوء وأصله من سطا الفرس يسطو إذا قام على رجليه رافعا يديه اما مرحا اى أشرا واما نزوا على الأنثى- وفي القاموس سطا عليه وبه سطوا وسطوة صال او قهر بالبطش بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يعنى بمحمد ﷺ وأصحابه قُلْ لهم يا محمد أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ
لكم واكره إليكم مِنْ ذلِكُمُ اى من هذا القرآن او من غيظكم على التالين ومن سطوكم عليهم او مما أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم النَّارُ اى هو النار كانّه جواب سائل ما هو ويجوز ان يكون مبتدا خبره وَعَدَهَا اللَّهُ اى وعدها «١» الله الَّذِينَ كَفَرُوا بان مصيرهم إليها وعلى الاول هذه جملة مستأنفة وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) النار.
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ اى بين لكم حال مستغرب او قصة عجيبة فَاسْتَمِعُوا لَهُ اى للمثل استماع تدبر وتفكر- وقيل معنى الاية جعل لى مثل يعنى جعل الكفار لله سبحانه مثلا مماثلا في استحقاق العبادة وهى الأصنام فاستمعوا حالها ثم احكموا هل يجوز به التمثيل له تعالى ثم بين ذلك فقال إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ قرآ يعقوب بالياء التحتانية والضمير راجع الى الكفار والباقون بالتاء على الخطاب للكفار والراجع الى الموصول محذوف يعنى انّ الّذين تدعونها ايها الكفار الهة كائنة مِنْ دُونِ اللَّهِ وهى الأصنام لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً اى لا يقدرون على خلق ذباب واحد مع صغره وقلته وخسته- لان لن بما فيها من تأكيد النفي دالّة على منافاة ما بين المنفي والمنفي عنه والذباب مشتق من الذب لانه يذب وجمعه اذبة للقلة ذبّان للكثرة كغراب وأغربة وغربان وَلَوِ اجْتَمَعُوا اى الأصنام لَهُ اى لخلق الذباب وهو بجوابه المقدر في موضع الحال جىء بها للمبالغة اى لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متقاونين عليه فكيف إذا كانوا منفردين قالوا وحينئذ للحال- وقيل للعطف على معطوف محذوف تقديره مستو حالهم في عدم القدرة على الخلق لو لم يجتمعوا لخلقه ولو اجتمعوا له اى لا يقدرون عليه في شيء من الأحوال وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ كانوا يطلون الأصنام بالزعفران ويضعون
(١) تكرار محض ولعل منشأة توهم عدم الضمير الراجع الى النار في هذه الاية ولذلك لم يكتبه المفسر العلام رحمه الله تعالى في نسخته الّتي بايدينا فقال وعد الله اى وعدها الله فالبيان عين المبين- الفقير الدهلوي.
بين يديها الطعام وكانت الذباب تقع عليه وتسلب منه فقال الله سبحانه ان يسلب الذباب شيئا منهم لا يقدرون على استنقاذه ولا يقوون على مقاومته فضلا من ان يخلقوه- جهّل الله سبحانه الكفار غاية التجهيل حيث أشركوا بالله القادر على الممكنات كلها المتفرد بايجاد الموجودات بأسرها أعجز الأشياء الّذي لا يقدر على خلق اقل الاحياء وأذلها ولو اجتمعوا له بل لا يقوى على مقاومة هذا الأقل الأذل- ويعجز عن دفعه عن نفسها واستنقاذ ما يتخطفه منها ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) قال ابن عباس الطالب الذباب يطلب ما يسلب من الطيب عن الصنم والمطلوب الصنم يطلب الذباب منه السلب ولا شك ان الطالب ضعيف والمطلوب أضعف منه- وقيل على العكس الطالب طالب الاستنقاذ تقديرا والمطلوب الذباب وقال الضحاك الطالب عابد الصنم والمطلوب الصنم.
ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ اى ما عظّموه حق تعظيمه وما عرفوه حق معرفته وما وصفوه حق توصيفه حيث أشركوا به ما لا يمتنع من الذباب ولا ينتصف منه إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ (٧٤) لا يغلبه شيء والهتهم عجزة عن أقلّها مقهورة من اذلّها.
اللَّهُ يَصْطَفِي اى يختار مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسطون بينه وبين الأنبياء بالوحى وبين الناس بقبض الأرواح وإيصال الأرزاق وغير ذلك- قال البغوي هم جبرئيل وميكائيل واسرافيل وعزرائيل وغيرهم وَمِنَ النَّاسِ اى ويختار من الناس رسلا يدعون سائرهم الى الحق ويبلّغونهم ما نزل عليهم من الله تعالى اوّلهم آدم وآخرهم محمّد صلى الله عليهم وسلم- قال البغوي نزلت حين قال المشركون أنزل عليه الذّكر من بيننا- فاخبر ان الاختيار الى الله تعالى يختار من يشاء من خلقه وقال البيضاوي لمّا قرّر وحدانيته ونفى ان يشاركه غيره في الالوهية وصفاتها بين ان له عبادا مصطفين للرسالة يتوسل بإجابتهم والاقتداء به
الى عبادته سبحانه وهو أعلى المراتب ومنتهى الدرجات لمن عداه من الموجودات تقريرا للنبوة وتزييفا لقولهم ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى والملائكة بنات الله ونحو ذلك إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) مدرك للاشياء كلها.
يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ قال ابن عباس يعنى ما قدموا وما خلفوا- وقال الحسن ما عملوا وما هم عاملون بعد- وقيل الضمير راجع الى الرسل اى يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ اى الرسل اى ما قبل خلقهم وما خلفهم اى ما هو كائن بعد فنائهم وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) اى اليه مرجع الأمور كلها لانه مالكها بالذات لا يسئل عما يفعل من الاصطفاء وغيره وهم يسئلون.
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا اى صلوا عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لانهما ركنان لها لا زمان لا تنفك عنهما بخلاف غيرهما من الأركان فان القراءة تسقط عن الأخرس والقيام عمن لا يستطيعه- واما الركوع والسجود فلا يسقطان ابدا عند ابى حنيفة رحمه الله حيث قال من لم يقدر على الإيماء برأسه للركوع والسجود يتاخر عنه الصلاة ولا يتادى بالإيماء بالحاجب او القلب وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بكل ما يصلح كونه عبادة له تعالى وَافْعَلُوا الْخَيْرَ قال ابن عباس هو صلة الرحم ومكارم الأخلاق والظاهر انه يعم الافعال كلها يعنى اختاروا ما هو خير وأصلح فيما تأتون به وما تذرونه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) الجملة في محل النصب على الحال اى افعلوا هذه كلها وأنتم راجون الفلاح غير متيقنين له ولا واثقين بأعمالكم- قال رسول الله ﷺ اوحى الى نبى من أنبياء بنى إسرائيل قل لاهل طاعتى من أمتك لا يتكلوا على أعمالهم فانى لا اناصب عبد الحساب «١» يوم القيامة أشاء ان أعذبه الا عذبته وقل لاهل معصيتى من أمتك لا يلقوا بايديهم فانى اغفر الذنوب العظيمة ولا أبالي رواه ابو نعيم عن على عليه السّلام واخرج البزار عن انس عن النبي صلى الله عليه وسلم
(١) وفي الأصل عند الحساب-
350
يخرج لابن آدم ثلاثة دواوين ديوان فيه العمل الصالح وديوان فيه ذنوبه وديوان فيه النعم من الله تعالى يقول الله لاصغر نعمه في ديوان النعم خذى منك من العمل الصّالح فتستوعب العمل الصّالح فيقول وعزتك استوعبت ويبقى الذنوب وقد ذهب العمل الصالح كله- فاذا أراد الله ان يرحم عبدا قال يا عبدى قد ضاعفت لك حسناتك وتجاوزت عن سيئاتك ووهبت لك نعمتى- (مسئلة) اختلف اهل العلم في سجود التلاوة عند هذه الاية فقال ابو حنيفة ومالك وسفيان الثوري وغيرهم انه لا سجود هاهنا لان المراد بالسجود هاهنا السجود الصلاتى بدليل كونه مقرونا بالركوع والمعهود في مثله من القرآن ما هو ركن الصلاة بالاستقراء نحو اسجدي واركعى مع الرّكعين- وقال ابن المبارك والشافعي واحمد وإسحاق وغيرهم لا بد هاهنا ان يسجد للتلاوة لحديث عقبة بن عامر قال قلت يا رسول الله أفضّلت سورة الحج بان فيها سجدتين قال نعم ومن لم يسجدهما فلا يقرأهما- رواه احمد وابو داود والترمذي (واللفظ له) والدار قطنى والبيهقي والحاكم وفيه ابن لهيعة وهو ضعيف قال الترمذي اسناده ليس بالقوى وقال ابن الجوزي قال ابن وهب ابن لهيعة صدوق يعنى انما ضعفه لاجل حفظه وقال الحاكم عبد الله بن لهيعة أحد الائمة وانما نقم اختلاطه في اخر عمره وقد تفرد به وروى ابو داود في المراسيل عنه ﷺ قال فضلت سورة الحج بسجدتين قال وقد أسند هذا ولا يصح وحديث عمرو بن العاص ان النبي ﷺ اقرأه خمس عشرة اية سجدة في القران منها ثلاث في المفصل وفي الحج سجدتان- رواه ابو داود وابن ماجة والدار قطنى والحاكم وحسنه المنذرى والنووي وضعفه عبد الحق وابن القطان وفيه عبد الله بن منين الكلالى وهو مجهول والراوي عنه الحارث بن سعيد الثقفي المصري وهو لا يعرف ايضا- وقال ابن ماكولا ليس له غير هذا الحديث وأكّد الحاكم حديث عقبة بن عامر بان الرواية صحت فيه من قول عمر وابنه وابن مسعود
351
وابن عباس وابى الدرداء وابى موسى وعمار ثم ساقها موقوفة عليهم وأكده البيهقي بما رواه في المعرفة من طريق خالد بن معدان مرسلا وقال البغوي وهو قول عمر وعلى وابن مسعود وابن عمر- قلت الموقوف في الباب له حكم المرفوع وقد ذكرنا مسائل سجود التلاوة في سورة الانشقاق.
وَجاهِدُوا الجهد بالضم الوسع والطاقة وبالفتح المشقة وقيل المبالغة والغاية وقيل هما لغتان في الوسع والطاقة واما في المشقة والغاية فالفتح لا غير والجهاد والمجاهدة مفاعلة منه- ولما كان بناؤه للاشتراك بين اثنين استعمل في المحاربة مع الأعداء فان فيه تحمل المشقة من الجانبين واستفراغ ما في الوسع والطاقة من قول او فعل والمبالغة فيه الى غاية فِي اللَّهِ اى في سبيله وإعلاء دينه وقضاء أحكامه وقيل معناه لله حَقَّ جِهادِهِ «١» منصوب على المصدرية ومعناه جهادا فيه حقّا خالصا- اى حق ذلك الجهاد حقا وخلص خلوصا لوجهه الكريم- فعكس وأضيف الحق الى الجهاد مبالغة كقولك هو حق عالم وأضيف الجهاد الى الضمير اتساعا- او لانه مختص بالله من حيث انه مفعول لوجه الله- ومن اجله قال ابن عباس هو استفراغ الطاقة فيه وان لا يخافوا في الله لومة لائم فهو حق الجهاد- وقال الضحاك ومقاتل اعملوا لله حق عمله واعبدوه حق عبادته وقال اكثر المفسرين حق الجهاد ان يكون نيته خالصة لله عزّ وجلّ وقال السدى ان يطاع فلا يعصى- وقال عبد الله بن المبارك هو مجاهدة النفس والهوى وهو الجهاد الأكبر وهو حق الجهاد قال البغوي وقد روى ان رسول الله ﷺ لما رجع من غزوة تبوك قال رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر- قال البغوي أراد بالجهاد الأصغر الجهاد مع الكفار
(١) عن عبد الرحمن بن عوف قال قال لى عمر السنا كنا نقرا فيما نقرا وجاهدوا في الله حقّ جهاده في اخر الزّمان كما جاهدتم في اوّله- قلت بلى فمتى هذا يا امير المؤمنين- قال إذا كانت بنو امية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء- ١٢ ازالة الخفا- منه رحمه الله-
352
بالجهاد الأكبر الجهاد مع النفس واخرج البيهقي في الزهد عن جابر رضى الله عنه قال قدم على رسول الله ﷺ قوم غزاة فقال قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر- قيل وما الجهاد الأكبر قال مجاهدة العبد لهواه قال البيهقي هذا اسناد فيه ضعف- قلت ليس المراد بالجهاد في هذه الاية المحاربة مع الكفار خاصة لانه يأبى عنه سياق الآية لان في نسق الاية ارتقاء من الأخص الى الأعم في كل عطف حيث ذكر الصلاة اولا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا لكونها أهم العبادات ثم عطف عليه واعبدوا ربّكم وهو يشتمل العبادات كلها الصّلوة وغيرها ثم قال وافعلوا الخير وهو يشتمل أداء حقوق الله تعالى كلها من العبادات والعقوبات وغيرها ومحاربة الكفار وأداء حقوق الناس ومكارم الأخلاق وغير ذلك وإتيان السنن والمستحيات كلها- ثم قال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فلا وجه لحمله على محاربة الكفار خاصة بل المراد منه الإخلاص في الأقوال والأعمال والأحوال كلها ويحصل ذلك بالجهاد مع النفس ومخالفة الهوى- فان الإخلاص انما يحصل بصفاء القلب وفناء النفس- وهما بالجهاد مع النفس الامارة بالسوء ومخالفة الهوى مع اقتباس أنوار النبوة وذلك في اصطلاح القوم يعبّر بالسلوك والجذب- وذلك الإخلاص هو المعنى من اقوال أوائل المفسرين المذكورة فان الصوفي إذا صار من المخلصين بعد فناء النفس وصفاء القلب لا يخاف في الله لومة لائم ويعبد الله حق عبادته بلا رياء وسمعة ينية خالصة لله عزّ وجلّ ويطيع الله ولا يعصيه ولا شك ان ذلك هو الجهاد الأكبر- واما الجهاد الأصغر يعنى المحاربة مع الكفار فهو صورة الجهاد ولا يعتدبه ولا بشيء من العبادات ما لم يكن خالصا لوجه الله- قال رسول الله ﷺ انما الأعمال بالنيات وانما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته الى الله ورسوله فهجرته الى الله ورسوله ومن كانت هجرته الى دنيا يصيبها «١» او امراة ينكحها فهجرته الى ما
(١) وفي الأصل الى الدنيا ليصبها إلخ الفقير الدهلوي.
353
هاجر اليه- متفق عليه من حديث عمر بن الخطاب وقال رسول الله ﷺ قال الله تعالى انا اغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه معى غيرى فانا منه برىء هو للذى عمله- رواه مسلم- (فائدة) قوله ﷺ قد متم خير مقدم من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر يفيد ان الجهاد الأكبر يعنى المجاهدة مع النفس انما يتاتى للمريد بمصاحبة الشيخ الكامل المكمل- فانهم لما قدموا على النبي ﷺ بعد المحاربة مع الكفار اكتسبوا ببركة صحبته وانعكاس أشعة أنواره صفاء في القلب وفناء في النفس- وقوله رجعنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر الضمير للمتكلم مع الغير والمراد منه اسناد الرجوع الى من معه من الصحابة فانهم كانوا في حالة الجهاد مشغولين بمحاربة الكفار وان كانوا مع النبي ﷺ في مصاحبته لكن كان غالب هممهم مدافعة الكفار ثم إذا صاروا في المدينة مقيمين مع النبي ﷺ لم يكن حينئذ همهم الا الاقتباس لانواره- والاقتفاء بمعالم اثاره وأخذ العلوم الظاهرة والباطنة من جنابه صلى الله عليه وسلم- هُوَ اجْتَباكُمْ اى اختاركم من بين الخلائق لمصاحبة نبيه وحبيبه ﷺ قال رسول الله ﷺ ان الله اختارني واختار لى أصحابا واختار لى منهم اصهارا وأنصارا «١» وعن واثلة بن اسقع قال سمعت رسول الله ﷺ يقول انّ الله اصطفى كنانة من ولد إسماعيل واصطفى قريشا من كنانة واصطفى من قريش بنى هاشم واصطفاني من بنى هاشم- رواه مسلم وفي رواية للترمذى ان الله اصطفى من ولد ابراهيم إسماعيل واصطفى من ولد إسماعيل بنى كنانة وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ اى ضيق وتكليف يشتد القيام به عليكم قيل معناه ان المؤمن لا يبتلى بشيء من الذنوب الا جعل الله له منه
(١) هكذا بياض في الأصل.
354
مخرجا بعضها بالتوبة وبعضها برد المظالم والقصاص وبعضها بانواع الكفارات فليس في دين الإسلام ما لا يجد العبد سبيلا الى الخلاص من العقاب وكان فيما سبق من الأمم من الذنوب مالا توبة لها- وقيل معناه ليس عليكم من ضيق في اوقات فروضكم مثل هلال شهر رمضان والفطر ووقت الحج إذا التبس عليكم وسع ذلك عليكم حتى تتيقنوا- وقال مقاتل يعنى الرخص عند الضرورات كقصر الصلاة في السفر والتيمم والإفطار في السفر والمرض وأكل الميتة عند الضرورة والصلاة قاعدا او مستلقيا عند العجز وهو قول الكلبي وذلك معنى قوله ﷺ إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم- وروى عن ابن عباس انه قال الحرج ما كان على بنى إسرائيل من الاصار الّتي كانت عليهم وضعها الله عزّ وجلّ عن هذه الامة- قلت ويمكن ان يقال معنى قوله تعالى ما جَعَلَ الله «١» عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ انه تعالى رفع عنكم كلفة التكاليف الشرعية حتى صارت التكاليف الشرعية ارغب إليكم من المرغوبات الطبعية- وذلك من لوازم الاجتباء قال رسول الله ﷺ جعلت قرة عينى في الصلاة- رواه احمد والنسائي والحاكم وصححه والبيهقي عن انس مِلَّةَ أَبِيكُمْ منصوب على الإغراء اى عليكم ملة أبيكم او على الاختصاص اى اعنى بالدّين ملة أبيكم- او على المصدر بفعل دل عليه مضمون ما قبلها بحذف المضاف اى وسع دينكم توسعة ملة أبيكم إِبْراهِيمَ عطف بيان والظاهر انه خطاب للمؤمنين من قريش إذ السورة مكية ثم الناس تبع لهم قال رسول الله ﷺ الناس تبع لقريش في هذا الشأن مسلمهم تبع لمسلمهم وكافرهم تبع لكافرهم- متفق عليه من حديث ابى هريرة وفي رواية لمسلم عن جابر انه ﷺ قال الناس تبع لقريش في الخير والشر- وقيل خطاب للعرب وكانوا من نسل ابراهيم وقيل خطاب لجميع المسلمين وابراهيم كان أبا
(١) هكذا في الأصل وليس في الاية المفسرة لفظ الجلالة فتامل والفقير الدهلوي.
355
لرسول الله ﷺ وهو كالاب لامته فانه سبب لحياتهم الابدية ووجودهم على الوجه المعتد به في الاخرة ولاجل ذلك قال الله تعالى وأزواجه امّهاتهم- وقال النبي ﷺ انما انا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم فاذا اتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه رواه احمد وابو داود والنسائي وابن ماجة وابن حبان عن ابى هريرة ولمّا كان ملة ابراهيم ودينه مرغوبا لاهل مكة مؤمنهم وكافرهم- وكانت الكافرون منهم يزعمون انهم على دين ابراهيم عليه السّلام نبّه الله سبحانه على ان ملة محمد ﷺ هو ملة ابراهيم لا غير انّ اولى النّاس بإبراهيم للّذين اتّبعوه وهذا النّبىّ والّذين أمنوا هُوَ يعنى الله سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ نزول «١» القران في الكتب المتقدمة وَفِي هذا القرآن سماكم مسلمين وقال ابن زيد هو يعنى ابراهيم سماكم المسلمين من قبل هذا الوقت في أيامه حيث قال رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ يعنى اهل مكة- وتسميتهم مسلمين في القرآن وان لم يكن من ابراهيم لكن كان بسبب تسميته من قبل- وقيل تقدير الكلام وفي هذا القرآن بيان تسميته إياكم مسلمين هذه الجملة بيان لقوله تعالى هُوَ اجْتَباكُمْ فان الهداية الى الإسلام الحقيقي والتسمية بالمسلمين مبنىّ على الاجتباء لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بمضمون هو سمّاكم المسلمين اى اعطاكم الإسلام وجعلكم مسلمين ليكون الرّسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ يوم القيامة ان قد بلّغكم قلت وجاز ان يكون متعلقا بقوله ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا مع ما عطف عليه وَتَكُونُوا أنتم شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ انّ رسلهم قد بلّغتهم اخرج ابن جرير وابن المنذر عن جابر بن عبد الله عن النبي
(١) الاولى ان يقال في التفسير (اى من قبل نزول إلخ) لان فيما اختاره المفسر العلام رحمه الله تعالى يلزم جر قبل وهو مبنى على الضم- الفقير الدهلوي.
356
صلى الله عليه وسلم قال انا وأمتي يوم القيامة على كئوم «١» مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد الا ودّ انه منا وما من نبى الا كذّبه قومه ونحن نشهد انه قد بلّغ رسالة ربه- واخرج ابن المبارك في الزهد انبأنا رشد بن سعد حدثنى ابن العم عن ابى حبلة بسنده قال أول من يدعى يوم القيامة اسرافيل فيقول الله هل بلّغت عهدى فيقول لعم قد بلّغته جبرئيل فيدعى جبرئيل فيقال هل بلّغك اسرافيل عهدى فيقول لعم فيخلى اسرافيل فيقول لجبرئيل ما صنعت في عهدى فيقول يا رب بلّغت الرسل- فيدعى الرسل فيقال للرسل هل بلّغكم جبرئيل عهدى فيقولون نعم فيقال لهم ما صنعتم في عهدى فيقولون بلّغنا الأمم- فيدعى الأمم فيقال لهم هل بلّغكم الرسل فمكذّب ومصدّق فيقول الرسل لنا عليهم شهداء فيقول من- فيقولون امة محمد ﷺ فيدعى امة محمد فيقال لهم أتشهدون ان الرسل قد بلّغت الأمم فيقولون نعم- فيقول الأمم يا ربنا كيف يشهد علينا من لم يدركنا- فيقول الله تعالى كيف تشهدون عليهم ولم تدركوهم فيقولون يا ربنا أرسلت إلينا رسولا وأنزلت علينا كتابا وقصصت علينا فيه ان قد بلّغوا- فذلك قوله وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً- وقد ذكرنا ما رواه البخاري وغيره عن ابى سعيد الخدري في سورة البقرة في تفسير قوله تعالى وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً.
فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ داوموا عليها وَآتُوا الزَّكاةَ يعنى فتقربوا الى الله بانواع الطاعات لما خصّكم بهذا الفضل والشرف واعتصموا بالله يعنى ثقوابه في جميع أموركم ولا تستعينوا في شيء الا منه وقال الحسن معناه تمسكوا بدين الله وروى عن ابن عباس سلوا ربكم يعصمكم
(١) جمع كومة اى المكان المرتفع- ١٢ منه رح.
357
من كل ما يكره- وقيل معناه ادعوه ليثبتكم على دينه- وقيل الاعتصام بالله هو التمسك بالكتاب والسنة قال رسول الله ﷺ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنة رسوله- رواه مالك في الموطإ مرسلا وعن عصيف بن الحارث اليماني قال قال رسول الله ﷺ ما أحدث قوم بدعة الا رفع مثلها من السنة فتمسك سنة خير من احداث بدعة- رواه احمد هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم وحافظكم ومتولى أموركم هذه الجملة في مقام التعليل للاعتصام فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٨) الفاء للسببية يعنى إذا ثبت ان الله موليكم ونصيركم فنعم المولى موليكم ونعم النصير نصيركم إذ لا مثل له في الولاية والنصر بل لا مولى ولا نصير سواه في الحقيقة والله اعلم- تم تفسير سورة الحج من تفسير المظهرى ثامن ذى الحجة من السنة الثالثة بعد المائتين والف- ويتلوه ان شاء الله تعالى سورة المؤمنين وصلّى الله تعالى على خير خلقه سيّدنا محمّد واله وأصحابه أجمعين ١٥/ ذى الحجّة سنة ١٢٠٣ هـ «١»
(١) هكذا في الأصل مكتوب بالحمرة لعل العلامة رحمه الله- رقمه بعد تكبئل الفهرس ابو محمّد عفا الله عنه
358
فهرس تفسير سورة المؤمنين من التفسير المظهرى
المطالب الصحيفة ما ورد في ان الجنة قالت قد أفلح المؤمنون ٣٦١ ما ورد في الخشوع في الصّلوة وجعل بصره موضع سجوده وترك الالتفات ونحو ذلك ٣٦٢ في متعة النساء ٣٦٥ حديث اوّل ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصّلوة وفيه فان انتقص من فريضة يكمل بالتطوع ثم الزكوة مثل ذلك الحديث ٣٦٥ حديث في انّ لكل انسان منزلا في الجنة ومنزلا في النار فمن دخل النار ورث اهل الجنة منزله ٣٦٦ المطالب الصحيفة حديث من فرّ من ميراث وارثه قطع الله ميراثه من الجنة ٣٦٦ حديث ان خلق أحدكم يجمع في بطن امه أربعين يوما نطفة الحديث ٣٦٩ حديث ان الله انزل من الجنة خمسة انهار سيحون وجيحون الحديث ٣٧٤ حديث كل نسب وصهر ينقطع الانسى وصهرى ٤٠٣ تحقيق الميزان وما ورد فيه ٤٠٣ فصل في كيفية الوزن ٤٠٤ حديث ان لاهل النار خمس دعوات الحديث ٤٠٨ تمّت.
359
Icon