ﰡ
(مكية إلا قوله هذان خصمان إلى صراط الحميد حروفها خمسة آلاف ومائة وخمسة وسبعون كلمها ألف ومائتان وإحدى وتسعون آياتها ثمان وسبعون)
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢٢]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤)يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩)
ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨) هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩)
يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢)
سُكارى
في الحرفين على تأويل الجماعة: حمزة وعلي وخلف وَنُقِرُّ ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ بالنصب فيهما: المفضل وربأت بالهمزة حيث كان. يزيد ليضن بفتح الياء: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب خاسر الدنيا اسم فاعل منصوبا على الحالية. روح وزيد ثم ليقطع ثم ليقضوا بكسر اللام فيهما: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن عامر وورش وافق القواس في لْيَقْضُوا وزاد ابن عامر وَلْيُوفُوا وَلْيَطَّوَّفُوا وقرأ الأعشى وَلْيُوفُوا بالتشديد، وقرأ أبو بكر وحماد وَلْيُوفُوا بالتشديد وسكون اللام. الباقون بالتخفيف والسكون هذان بتشديد النون: ابن كثير.
الوقوف:
رَبَّكُمْ ج على تقدير فإن عَظِيمٌ هـ شَدِيدٌ
هـ مَرِيدٍ هـ لا لأن ما بعده صفة السَّعِيرِ هـ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ ط لأن التقدير ونحن نقر ومن قرأ بالنصب لم يقف أَشُدَّكُمْ ج لانقطاع النظم في اتحاد المعنى شَيْئاً ط بَهِيجٍ هـ قَدِيرٌ هـ لا للعطف فِيها لا الْقُبُورِ هـ مُنِيرٍ هـ لا لأن ما بعده حال عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ط الْحَرِيقِ هـ لِلْعَبِيدِ هـ حَرْفٍ ج للشرط مع الفاء بِهِ لا للعطف مع الفاء مع الاستقلال عَلى وَجْهِهِ ق إلا لمن قرأ خاسر الدنيا ط وَالْآخِرَةَ ط الْمُبِينُ هـ من ينفعه ط الْبَعِيدُ هـ مِنْ نَفْعِهِ ط الْعَشِيرُ هـ الْأَنْهارُ ط ما يُرِيدُ هـ ما يَغِيظُ هـ بَيِّناتٍ ط مَنْ يُرِيدُ هـ يَوْمَ الْقِيامَةِ ط شَهِيدٌ هـ مِنَ النَّاسِ ط وقيل: يوصل ويوقف على الْعَذابُ ط مُكْرِمٍ ط ما يَشاءُ هـ فِي رَبِّهِمْ ز لعطف الجملتين المتفقتين مع أن ما بعده ابتداء بيان حال الفريقين أحدهما فَالَّذِينَ كَفَرُوا والثاني إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ مِنْ نارٍ ج هـ الْحَمِيمُ ج هـ لأن ما بعده يصلح استئنافا وحالا أو وصفا على أن
التفسير:
إنه قد أنجز الكلام من خاتمة السورة المتقدمة إلى حديث الإعادة وما قبلها أو بعدها كوراثة المؤمنين الأرض وما معها كطي السماء، فلا جرم بدأ الله سبحانه في هذه السورة بذكر القيامة وأهوالها حثا على التقوى التي هي خير زاد إلى المعاد ويدخل في التقوى فعل الواجبات وترك المنكرات، ولا يكاد يدخل فيها النوافل لأن المكلف لا يخاف بتركها العذاب وإنما يرجو بفعلها الثواب. ويمكن أن يقال: إن ترك النوافل قد يفضي إلى إخلال بالواجب فلهذا لا يكاد المتقي يتركها.
يروى أن هاتين الآيتين نزلتا ليلا في غزوة بني المصطلق فنادى رسول الله ﷺ فاجتمع الناس حوله فقرأهما عليهم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة، فلما أصبحوا لم يحطوا السروج عن الدواب ولم يضربوا الخيام وقت النزول، ولم يطبخوا قدرا وكانوا من بين حزين وباك ومتفكر
وهذه الزلزلة وهي المذكورة في قوله إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها [الزلزلة: ١] ومعناها شدة التحريك، وتضعيف الحروف دليل على تضعيف المعنى كأنه ضوعف زلل الأشياء عن مقارها ومراكزها. والإضافة إضافة المصدر إلى الفاعل على المجاز الحكمي العائد إلى الإسناد في قولك «زلزلت الساعة الأرض» أو إلى المفعول فيه على الاتساع فلا مجاز في الحكم لأن المراد حينئذ هو أن فاعلها الله في القيامة قاله الحسن. وعن الشعبي هي طلوع الشمس من مغربها فتكون الإضافة بمعنى اللام كقولك «أشراط الساعة» قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن المعدوم شيء لأن الله تعالى سمى زلزلة الساعة شيئا مع أنها معدومة. أجابت الأشاعرة بأن المراد هو أنها إذا وجدت كانت شيئا عظيما. وانتصب يَوْمَ تَرَوْنَها
أي الزلزلة بقوله تَذْهَلُ
أي تغفل عن دهشة كُلُّ مُرْضِعَةٍ
وهي التي ترضع بالفعل مباشرة للإرضاع وإنما يقال لها المرضع من غيرها إذا أريد معنى أعم وهو أنه من شأنها الإرضاع بالقوة أو بالفعل كحائض وطالق. وفي هذا تصوير لهول الزلزلة كأنه بلغ مبلغا لو ألقمت المرضعة الرضيع ثديها نزعته عن فيه لما يلحقها من الخوف. و «ما» في عَمَّا أَرْضَعَتْ
مصدرية أو موصولة أي عن إرضاعها أو عن الذي أرضعته وهو الطفل. عن الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها لغير فطام وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام. وإنما قال كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
دون كل حامل ليكون نصا في موضع الجنين فإن الحمل بالفتح هو ما كان في بطن أو على رأس شجرة، والثاني خارج بدليل العقل فبقي الأول. قال القفال: ذهول المرضعة ووضع ذات الحمل حملها يحتمل أن يكون على جهة التمثيل كقوله يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً [المزمل: ١٧] وَتَرَى النَّاسَ
أثبت السكر أولا على وجه التشبيه فإن الخوف مدهش كالمسكر، ونفاه ثانيا على التحقيق إذ لم يشربوا خمرا وهذه أمارة كل مجاز.
روى أبو سعيد الخدري أن رسول الله ﷺ قال: «يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك وسعديك. فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار. قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون، فحينئذ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد. فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم فقالوا: يا رسول الله أينا ذلك الرجل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود.» «١»
واختلفوا في أن شدة ذلك اليوم تحصل لكل واحد أو لأهل النار خاصة فقيل: إن الفزع الأكبر يعم وغيره يختص بأهل النار وإن أهل الجنة يحشرون وهم آمنون.
وقيل: تحصل للكل ولا اعتراض لأحد على الله.
ثم أراد أن يحتج على منكري البعث فقدم لذلك مقدمة تشمل أهل الجدال كلهم فقال وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ نظيره وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ [البقرة: ٨] وقد مر إعرابه في أول البقرة. ومعنى فِي اللَّهِ في شأن الله وفيما يجوز عليه وما لا يجوز من الصفات والأفعال ويفهم من قوله بِغَيْرِ عِلْمٍ أن المعارف كلها ليست ضرورية وأن المذموم من الجدال هو هذا القسم، وأما الجدال الصادر عن العلم والتحقيق فمحمود مأمور به في قوله وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل: ١٢٥] والشيطان المريد العاتي سمي بذلك لخلوه عن كل خير وقد مر في قوله مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ [التوبة: ١٠١] والمراد إبليس وجنوده أو رؤساء الكفار الذين يدعون أشياعهم إلى الكفر. عن ابن عباس نزلت في النضر بن الحرث وكان مجادلا يقول الملائكة بنات الله والقرآن أساطير الأولين والله غير قادر على إحياء من بلي وصار ترابا. ومعنى كُتِبَ عَلَيْهِ قضي على ذلك الشيطان أو علم من حاله وظهر وتبين، والأول يليق بأصول الأشاعرة، والثاني بأصول الاعتزال. وقيل: المراد كتب على من يتبع الشيطان، ولا يخلو عن تعسف أنه من تولى الشيطان أي جعله وليا له أضله عن طريق الجنة
فيقول سبحانه: انطلق إلى الكتاب فاستنسخ منه هذه النطفة فينطلق الملك فينسخها فلا يزال معه حتى يأتي اخر صفتها. وقوله لِنُبَيِّنَ لَكُمْ غاية لقوله خَلَقْناكُمْ أي إنما نقلناكم من حال إلى حال ومن طور إلى طور لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا وحكمتنا. وفي ورود الفعل غير معدي إلى المبين إشعار بأن ذلك المبين مما لا يكتنه كنهه ولا يحيط به الوصف، وقيل: أراد إن كنتم في ريب من البعث فإنا نخبركم أنا خلقناكم من كذا وكذا لنبيّن لكم ما يزيل ريبكم في أمر بعثكم، فإن القادر على هذه الأشياء كيف يعجز عن الإعادة؟ ولما بين كيفية خلق الإنسان بالتدريج إلى أن تتكامل أعضاؤه أراد أن يبين أن من الأبدان ما تمجه الأرحام، ومنها ما تنطوي هي عليه إلى كمال النضج والتربية، فأسقط القسم الأول اكتفاء بالثاني فاستأنف قائلا وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن نقره من ذلك إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو كمال ستة أشهر إلى أربع سنين غايتها عرفت بالاستقراء ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ أي كل واحد منكم طفلا، أو الغرض الدلالة على الجنس فاكتفي بالواحد، ثُمَّ نربيكم شيئا بعد شىء
إحداهما أن نبين قدرتنا، والثانية أن نقر في الأرحام من نقر حتى تولدوا وتنسلوا وتبلغوا حد التكليف. والأشد كمال القوة والتمييز كأنه شدة في غير شيء واحد فلذلك بني على لفظ الجمع قوله وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ وقد مر في «النحل» شبيهه فليرجع إليه.
ثم أكد أمر البعث بالاستدلال من حال النبات أيضا فقال وَتَرَى أي تشاهد أيها المستحق للخطا الْأَرْضَ حال كونها هامِدَةً ميتة يابسة لا نبات بها، والتركيب يدل على ذهاب ما به قوام الشيء ورواؤه من ذلك. همدت النار همودا طفئت وذهبت بكليتها وهمد الثوب همودا بلي فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تحركت ولا يكاد يستعمل الاهتزاز إلا في حركة تصدر عن سرور ونشاط وَرَبَتْ انتفخت وزادت كما مر في قوله زَبَداً رابِياً [الرعد: ١٧] وذلك في «الرعد» والمراد كمال تهيؤ الأرض لظهور النبات منها. ومن قرأ بالهمزة فمعناه ارتفعت من قولهم «ربأ القوم» إذا كان لهم طليعة فوق شرف. ثم أشار إلى كمال حاله في الظهور بقوله وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ أي بعضا من كل صنف. بَهِيجٍ والبهجة النضارة وحسن الحال ولهذا قال المبرد: هو الشيء المشرق الجميل. وإسناد الإنبات إلى الأرض مجاز لأن المنبت بالحقيقة هو الله ذلِكَ الذي ذكرنا من خلق بني آدم وإحياء الأرض مع ما في تضاعيف ذلك من عجائب الصنع وغرائب الإبداع حاصل (ب) أمور خمسة: الأول بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الثابت الذي لا يزول ملكه وملكه لا حق في الحقيقة إلا هو فما سواه يكون مستندا إلى خلقه وتكوينه لا محالة. الثاني أنه من شأنه إحياء الموتى. الثالث أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وهذا كالبيان لما تقدمه فإن القادر على كل شيء ممكن قادر لا محالة على إحياء الموتى لأنه من جملة الممكنات وبيان إمكانه ظاهر.
فإن كل ما جاز على شيء في وقت ما جاز عليه في سائر الأوقات إذ لو امتنع فإما لغيره فالأصل عدمه، وإما لذاته وهذا يقتضي أن لا يتصف به أولا فإن ما بالذات لا يزول بالغير.
الرابع والخامس قوله وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ قال في الكشاف: معناه أنه حكيم لا يخلف ميعاده، وقد وعد الساعة والبعث فلا بد أن يفي بما وعد. قلت: إن هذا التفسير غير واف فلقائل أن يقول: فحاصل الآيات يرجع إلى قولنا إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ بالتدريج وأحيينا الأرض بسبب أنا وعدنا الساعة ووعدنا صادق. وهذا كلام غير منتظم في الظاهر كما ترى، ولو صح هذا لاستغنى عن التطويل بأن يقال مثلا: لا تشكوا في أمر البعث فإنه كائن لا محالة. والذي يسنح لي في تفسيره أنه سبحانه أزال الشك في أمر البعث بقوله إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فمزيل
قوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ عن ابن عباس أنه أبو جهل. وقيل: هو النضر أيضا وكرر للتأكيد كما كرر سائر الأقاصيص، وقال أبو مسلم: الأول في المقلدين فإنهم قد يجادلون تصويبا لتقليدهم. وهذا في المقلدين المتبوعين بدليل قوله لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قال العلماء: أراد بالعلم العلم الضروري وبالهدي النظري من العلم لأنه يهدي إلى المعرفة وبالكتاب المنير العلم السمعي المتعلق بالوحي. قال بعض أهل اللغة: العطف المنكب.
وقال الجوهري: عطفا الرجل جانباه من لدن رأسه إلى وركه ويقال: «فلان ثنى عطفه عني» أي أعرض. وقيل: هو عبارة عن الكبر والخيلاء كلي الجيد. قال جار الله: لما أدى جداله إلى الضلال جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى معرضا له فتركه وأعرض عنه بالباطل جعل كالخارج بالجدال، وفسر الخزي هاهنا بما أصابه يوم بدر. ذلِكَ الذي مني به شيء من خزي الدنيا وعذاب الآخرة بما قدمت يداه وباقي مباحث الآية قد سلف في آخر «آل عمران». ثم أخبر عن شقاق أهل النفاق بقوله وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ أي على طرف من الدين لا في وسطه فهذا مثل لكونه مضطربا في أمر الدين غير ثابت القدم كالذي يكون على طرف العسكر ينهزم بأدنى سبب، وباقي الآية تفصيل لهذا الإجمال. قال الكلبي: نزلت في أعاريب قدموا المدينة فكان أحدهم إذا صح بدنه ونتجت فرسه مهرا سريا وولدت امرأته غلاما وكثر ماله وماشيته قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلا خيرا واطمأن به وقر. وإن كان الأمر بخلافه قال: ما أصبت إلا شرا وانقلب عن دينه الذي أظهره بلسانه وفر. وهذا قول ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن ومجاهد وقتادة. وقيل: نزلت في المؤلفة قلوبهم منهم الأقرع بن حابس والعباس بن مرداس.
وعن أبي سعيد الخدري أن
والفتنة هاهنا مخصوصة بالابتلاء بالشرور والآلام لوقوعها في مقابلة الخير وهذا على الاستعمال الغالب وإلا فالخير أيضا قد يكون سببا للابتلاء كقوله وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: ٣٥] ثم حكى حاله في الدارين بقوله خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ أما خسران الدنيا بعد أن أصابه ما أصاب ففقدان العزة والكرامة والغنيمة وأهلية الشهادة والإمامة والقضاء، وكون عرضه وماله ودمه مصونة، وأما الآخرة فحرمان الثواب وحصول العقاب أبد الآباد، ولا خسران أبين من هذا نعوذ بالله منه. وفي قوله يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية. دلالة على أن المذكورة قبلها إنما نزلت في أهل النفاق من المشركين لا من اليهود فإنهم لا يعبدون الأصنام نعم اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله. قوله يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ الآية. فيه بحث لفظي وبحث معنوي. أما الأول فهو أن يَدْعُوا بمعنى «يقول» والجملة بعده محكية، و «من» موصولة أو موصوفة وعلى التقديرين هو مع تمامه مبتدأ ما بعده وهو لَبِئْسَ الْمَوْلى خبره واللام الثانية في الخبر لتأكيد اللام الأولى، وهذا حسن بخلاف قوله «أم الحليس لعجوز» فإنه أدخل لام الابتداء في الخبر على سبيل الاستقلال ويجوز أن يكون يَدْعُوا تكرارا للأول وما بعده جملة مستأنفة على الوجه المذكور. وفي حرف عبد الله لَمَنْ ضَرُّهُ بغير لام ووجهه ظاهر، وعلى هذا يكون قوله لَبِئْسَ الْمَوْلى جملة مستقلة. والمولى الناصر، والعشير المعاشر أي الصاحب. وأما البحث المعنوي. فهو أنه نفى الضرر والنفع عن الأصنام أولا ثم أثبتهما لها ثانيا حين قال ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ فما وجه ذلك؟ والجواب أن المقصود في الآية الثانية رؤساؤهم الذين كانوا يفزعون إليهم في الشدائد مستصوبين آراءهم، لأن وصف المولى والعشير لا يليق إلا بالرؤساء. سلمنا أنه أراد في الموضعين الأصنام إلا أنه أثبت الضر لها مجازا لأنها سبب الضلال الذي هو سبب عذاب النار نظيره رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ [إبراهيم: ٣٦] وأثبت لها النفع بناء على معتقدهم أنها شفعاؤهم عند الله. والمراد يقول:
هذا الكافر بدعاء وصراخ حين يرى استضراره بالأصنام ولا يرى أثر الشفاعة لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ ذلك، أو أراد يدعو من دون الله ما لا يضره وما لا ينفعه، ثم قال: لمن ضره بكونه معبودا أقرب من نفعه بكونه شفيعا لبئس المولى.
ثم لما بين حال المنافقين والمشركين أتبعها حال المؤمنين الذين معبودهم قادر على إيصال كل المنافع فقال إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الآية. قالت الأشاعرة: في قوله إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ
ومنهم من قال: مع ذلك أن القطع هو قطع المسافة أي فليصعد على الحبل إلى السماء، والغرض تصوير مشقة من غير فائدة، أو القطع قطع الوحي أو النصر أي فليصعد وليقطع الوحي أن ينزل عليه أو النصر أن يأتيه. الوجه الثاني أن الضمير عائد إلى «من» والنصر الرزق. قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصره الله أي من يعطيني أعطاه الله. ووجه النظم من كان يظن أن لن يرزقه الله في الدنيا والآخرة فلهذا الظن يعدل عن التمسك بدين محمد وينقلب على وجهه كما مر فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق أو غير ذلك مما عددنا، فإن الله لا يقلبه مرزوقا. وحين بين الأحوال وضرب الأمثال أشار إلى هذا المذكور بلفظ البعيد إما للتعظيم وإما لأن كل ما دخل في حيز الذكر وحصل في حيز كان فهو في حكم البعيد فقال وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ أي ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ حرف التعليل وكذا معلله محذوف للعلم به أي ولأن الله يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ أنزله كذلك مبينا. قالت الأشاعرة: المراد بالهداية إما وضع الأدلة أو خلق المعرفة والأول غير جائز، لأن الله تعالى فعل ذلك في حق كل المكلفين، ولأن قوله يَهْدِي مَنْ
يدل على أن الهداية غير واجبة عليه بل هي معلقة بمشيئته، ووضع الأدلة واجب فتعين أن المراد خلق المعرفة. أجاب القاضي عبد الجبار بأنه أراد تكليف من يريد لأن التكليف لا يخلو من وصف ما كلف به ومن بيانه، أو أراد يهدي إلى الجنة، والإثابة من يريد ممن آمن وعمل صالحا، أو يهدي به الذين يعلم منهم الإيمان أو يثبت الذين آمنوا ويزيدهم هدى، وإلى هذين الوجهين أشار الحسن بقوله أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من قبل لا من لم يقبل. واعترض بأن الله سبحانه وتعالى ذكر هذا الكلام بعد بيان الأدلة والجواب عن الشبهات فلا يجوز حمله على محض التكليف، وأما الوجوه الأخر فخلاف الظاهر مع أن ما ذكرتموه واجب عندكم على الله وقوله مَنْ يُرِيدُ ينافي الوجوب.
ثم أراد أن يميز بين المهدي من الفرق وبين الضال منهم فقال إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا الآية قال مقاتل: الأديان ستة: واحد لله تعالى وهو الإسلام وخمسة للشيطان قلت: فالمؤمنون واليهود والنصارى تشترك في القول بالإله والنبي وتفترق بالاعتراف بعموم نبوة محمد ﷺ وبعدم الاعتراف به، والصابئون قد تجعل من جنس النصارى وقد تجعل من غيرهم، والمجوس قولهم في البابين مضطرب لأن الإله عندهم اثنان ونبيهم ليس بنبي في الحقيقة وإنما هو متنبىء، والمشركون لا نبي لهم ولا كتاب. قال أهل البرهان: قدم النصارى على الصابئين في أوائل البقرة لأنهم أهل كتاب وعكس هاهنا لأن الصابئين مقدمة عليهم بالزمان، وفي المائدة يحتمل الأمران أي والصابئون كذلك أو هم والنصارى إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ أي يقضي بين المؤمنين وغيرهم وتكرير إن في الخبر لزيادة التأكيد والفصل مطلق يحتمل الفصل في الأحوال وفي المواطن أيضا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ فلا يجري في قضائه ظلم ولا حيف أَلَمْ تَرَ أي تعلم بإخبار الله والمراد أن هذه الأجسام غير ممتنعة عما يريد الله إحداثه فيها من أنواع تصرفاته وتدبيراته وهذا بين، قال العلماء: قوله وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ ليس بمعطوف على ما قبله من المفردات لأن السجود بالمعنى المذكور يتناول كل الناس ولا يختص ببعضهم لدليل العقل، ولأن قوله وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يتناول الثقلين جميعا والعطف يوهم التخصيص بالبعض. ولا يمكن أن يكون السجود بالنسبة إلى كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة وبالنسبة إلى غيرهم بمعنى نفوذ مشيئة الله فيها لأن اللفظ المشترك لا يصح استعماله في مفهوميه معا، فهو إذن مرفوع بفعل مضمر يدل عليه المذكور أي ويسجد له كثير من الناس بمعنى وضع الجبهة أيضا. وهو مبتدأ محذوف الخبر وهو مثاب لأن الخبر دليل عليه وهو قوله حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ أو هو مبتدأ وخبر أي وكثير من المكلفين من الناس الذين هم الناس على الحقيقة فكأنه أخرج الذين وجب عليهم العذاب
فقال علي رضي الله عنه: أنا أول من يجثو للخصومة بين يدي الله تعالى يوم القيامة.
وعن عكرمة هما الجنة والنار. قالت النار:
خلقني الله لعقوبته. وقالت الجنة: خلقني الله لرحمته، فقص الله من خبرهما على محمد ﷺ والأقرب هو الأول. وقوله فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل الخصومة المعني بقوله إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ وقوله قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ فيه أنه تعالى يقدر لهم نيرانا على مقادير جثثهم تشتمل عليهم كما تقطع الثياب الملبوسة، أو المراد أن تلك النيران مظاهرة عليهم كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض. وعن سعيد بن جبير أن قوله مِنْ نارٍ أي من نحاس أذيب بالنار كقوله سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ [إبراهيم: ٥٠] والحميم الماء الحار. عن ابن عباس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا لأذابتها. ومعنى يُصْهَرُ يذاب صهرت الشيء فانصهر أي أذبته فذاب فهو صهير أي يذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [محمد: ١٥] لأن تأثير الشيء من الظاهر في الباطن أبلغ من تأثيره في الباطن. قال في الكشاف: المقامع السياط وقال الجوهري: المقمعة واحدة المقامع مِنْ حَدِيدٍ كالمحجن يضرب على رأس الفيل.
وفي الحديث «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها» «١»
والإعادة لا تكون إلا بعد الخروج ففي الآية إضمار أي كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ فخرجوا أُعِيدُوا فِيها أو المراد بالإرادة المداناة والمشارفة كقوله يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ
التأويل:
إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ هلاك الاستعداد الفطري شَيْءٌ عَظِيمٌ تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ
هي مواد الأشياء فإن لكل شيء مادة ملكوتية ترضع رضيعها من الملك وتربيه وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ
وهي الهيوليات حَمْلَها
وهو الصور الكمالية التي خلقت الهيوليات لأجلها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى
الغفلة والعصيان وحب الدنيا والجاه والرياسة وغيرها وَما هُمْ بِسُكارى
العشق والمحبة والمعرفة فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ أي كنتم ترابا ميتا فبعثنا التراب بأن خلقنا منه آدم، ثم أمتنا منه النطفة، ثم بعثناها بأن جعلناها علقة ثم مضغة ثم خلقا آخر لنبين لكم أمر البعث والنشور وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ أمهات العدم ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وهو وقت إيجاده بحسب تعلق الإرادة به، وفيه دليل على أنه لا يبعد أن يكون الفاعل كاملا في فاعليته ولكن لا تتعلق إرادته بالمقدور فيبقى في حيز العدم إلى حين تعلق الإرادة به، ومنه يظهر حدوث العالم ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا من أطفال المكونات خارجا من رحم العدم مستعدا للتربية والكمال. وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى عن الشهوات فيحيا بحصول الكمالات وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إلى أسفل سافلين الطبيعة وَتَرَى أرض القالب هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا ماء حياة المعرفة والعلم اهْتَزَّتْ ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ في الإلهية وَأَنَّهُ يُحْيِ القلوب الميتة وَأَنَّ السَّاعَةَ قيامة العشق والخدمة للطالبين الصادقين آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ القلوب المحبوسة في قبور الصدور عَذابَ الْحَرِيقِ بنار الشهوات لكنه لا يحس بها في الدنيا لأنه نائم بنوم الغفلة فإذا مات انتبه مَنْ كانَ يَظُنُّ فيه أن العبد يجب أن يكون حسن الظن بالله ثُمَّ لْيَقْطَعْ مادة تقديري في الأزل ونزول أحكامي في القدر فَلْيَنْظُرْ هَلْ ينقطع أم لا هذانِ خَصْمانِ يعني النفس الكافرة والروح المؤمنة قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ بتقطيع خياط القضاء على قدرهم وهي ثياب نسجت من سدى مخالفات الشرع ولحمة موافقات الطبع. يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ حميم الشهوات النفسانية. وفي لفظ الفوق دلالة على أنهم مغلوبون تحتها، وفيه أن الخيالات الفاسدة
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٣ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧)
لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢)
لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
وَلُؤْلُؤاً بهمزتين منصوبا: نافع وحفص. مثله ولكن بتخفيف الأولى واوا ساكنة: أبوبكر وحماد وزيد وكذلك في سورة فاطر. وقرأ سهل ويعقوب والمفضل هاهنا بالهمزة والنصب. وفي «فاطر» بالهمز والخفض. الباقون بالهمز والخفض في السورتين سَواءً بالنصب: حفص وروح وزيد. الآخرون بالرفع. والبادي بالياء في الحالين: سهل ويعقوب وابن كثير وافق أبو عمرو وأبو جعفر ونافع غير قالون في الوصل. بَوَّأْنا مثل أَنْشَأْنا بَيْتِيَ بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وحفص وهشام. فَتَخْطَفُهُ بتشديد الطاء:
أبو جعفر ونافع الرياح يزيد طريق المفضل وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ بالنصب على تقدير النون: عباس مَنْسَكاً ونحوه بكسر السين: حمزة وعلي وخلف لن تنال الله بتاء التأنيث: يعقوب ولكن تناله بالتأنيث أيضا زيد يُدافِعُ من الدفع: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب الباقون يُدافِعُ من المدافعة أُذِنَ مبنيا للمفعول: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم يُقاتَلُونَ مبنيا للمفعول أيضا: أبو جعفر ونافع وابن عامر وحفص الآخرون مبنيا للفاعل فيهما. دفاع بألف: أبو جعفر ونافع وسهل ويعقوب لَهُدِّمَتْ مخففا: ابن كثير وأبو جعفر ونافع وقرأ ابن عامر وأبو عمرو وسهل وحمزة وعلي وخلف مشددا مدغما الباقون مشددا.
الوقوف:
وَلُؤْلُؤاً ط مِنَ الْقَوْلِ ج للعطف مع تكرار وَهُدُوا الْحَمِيدِ هـ وَالْبادِ هـ ط أَلِيمٍ هـ السُّجُودِ هـ عَمِيقٍ هـ لا لتعلق اللام الْأَنْعامِ ج للابتداء بالأمر مع الفاء الْفَقِيرَ هـ للعطف مع العدول الْعَتِيقِ هـ ذلِكَ ق قد قيل: لأن المراد ذلك على ما ذكر أو الأمر والشأن ذلك ثم يبتدأ بالشرط عِنْدَ رَبِّهِ ط الزُّورِ هـ لا مُشْرِكِينَ بِهِ ط سَحِيقٍ هـ ذلِكَ ق الْقُلُوبِ هـ الْعَتِيقِ هـ الْأَنْعامِ ط أَسْلِمُوا ط الْمُخْبِتِينَ هـ لا لاتصال الوصف الصَّلاةِ هـ يُنْفِقُونَ ج هـ خَيْرٌ ق والوصل أحسن للفاء صَوافَّ ج للشرط مع الفاء وَالْمُعْتَرَّ ط تَشْكُرُونَ هـ مِنْكُمْ ط هَداكُمْ ط الْمُحْسِنِينَ هـ آمَنُوا ط كَفُورٍ هـ ظُلِمُوا ط لَقَدِيرٌ هـ لا بناء على أن الَّذِينَ بدل من الضمير في نَصْرِهِمْ رَبُّنَا اللَّهُ ط كَثِيراً هـ يَنْصُرُهُ ط عَزِيزٌ هـ الْمُنْكَرِ ط الْأُمُورِ هـ.
التفسير:
لما ذكر حال أحد الخصمين في الآخرة أراد أن يذكر حال الآخر وهو
هو كشف الغطاء عن الحقائق الروحانية والمعارف الربانية، ثم كرر وعيد أهل الكفر ومن داناهم فقال إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ إنما حسن عطف المستقبل على الماضي لأنه أراد به الاستمرار وأنه من شأنهم الصد وكأنه قيل: كفروا واستمروا على الصد. وقال أبو علي الفارسي. كفروا في الماضي وهم الآن يصدون.
عن ابن عباس أنها نزلت في أبي سفيان بن حرب وأصحابه حين صدوا رسول الله ﷺ ومن معه عام الحديبية عن أن يحجوا ويعتمروا وينحروا الهدي.
ومن قرأ سَواءً بالنصب فعلى أنه مفعول ثان لجعلنا أي جعلناه مستويا الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ ومن قرأ بالرفع فعلى أن الْعاكِفُ مبتدأ وسَواءً خبر مقدم والجملة مفعول ثان ويجوز أن يكون لِلنَّاسِ مفعولا ثانيا أي جعلناه متعبدا لكل من وقع عليه اسم الناس، وقوله سَواءً إلى آخره الجملة بيان لذلك الجعل أي لا فرق بين الحاضر المقيم به وبين الطارئ من البدو، واختلفوا في أن المكي والآفاقي يستويان في أي شيء. فعن ابن عباس في بعض الروايات أنهما يستويان في سكنى مكة والنزول بها للآية بناء على أن المراد بالمسجد الحرام مكة، ولما
روي أنه ﷺ قال «مكة مباحة سبق إليها»
وإلى هذا ذهب أبو حنيفة وهو قول قتادة وسعيد بن جبير أيضا، ولأجل ذلك زعموا أن كراء دور مكة حرام. والأكثرون على أنهما مستويان في العبادة في المسجد ليس للمقيم أن يمنع البادي وبالعكس ومنه
قوله ﷺ «يا بني عبد مناف من ولي منكم من أمور الناس شيئا فلا يمنعن أحدا طاف بهذا البيت أو صلى أية ساعة شاء من ليل أو نهار» «١»
وعلى هذا فلا منع من بيع دور مكة وإجارتها وهو مذهب الشافعي وقد جرت المناظرة بينه وبين إسحق الحنظلي وكان إسحق لا يرخص في كراء دور مكة فاحتج الشافعي بقوله تعالى الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ [الحج: ٤٠] بأن عمر اشترى دار السجن فسكت إسحق
وقال مقاتل: نزلت في عبد الله بن حنظلة حيث قتل الأنصاري وهرب إلى مكة كافرا، فأمر النبي ﷺ بقتله يوم الفتح وهو العذاب الأليم.
وعن مجاهد أنه الاحتكار.
وقيل: المنع من عمارته. وعن عطاء: هو قول الرجل في المبايعة «لا والله» وبلى والله. ومثله ما روي عن عبد الله بن عمر أنه كان له فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحل فقيل له في ذلك فقال: كنا نحدث أن من الإلحاد فيه أن يقول الرجل «لا والله» و «بلى والله». والأولى التعميم. وفيه أن الواجب على من كان فيه أن يضبط نفسه ويسلك طريق السداد والعدل في مهامه ومقاصده، وهذا وإن كان واجبا في كل مكان إلا أن وجوبه هناك أوكد فللمكان خاصية كما للزمان ولهذا قال مجاهد: تضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات. عن ابن مسعود: أن القصد إلى الذنب يكتب هناك ذنبا وإن لم يخرج إلى الفعل. وعنه لو أن رجلا يهم بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله تعالى عذابا أليما. واعلم أن خبر إن محذوف لدلالة جواب الشرط عليه كأنه قيل: إن الذين كفروا ويصدون نذيقهم من عذاب أليم ومن يرد في الحرم بإلحاد فهو كذلك، وحين انجر الكلام إلى ذكر المسجد الحرام أتبعه ذكر الكعبة وبعض ما يتعلق به من المناسك فقال وَإِذْ بَوَّأْنا أي وأذكر حين جعلنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ مباءة أي مرجعا يرجع إليه للعمارة والعبادة،
ويروى أن موضع البيت كان مطموسا فبعث الله تعالى ريحا كنست ما حوله حتى ظهر أسه القديم فبنى إبراهيم عليه
وقد مر قصة ذلك في «البقرة». وقيل: بعث غمامة على قدر البيت الحرام في العرض والطول وفيها رأس يتكلم وله لسان وعينان فقال: يا إبراهيم ابن على قدري فأخذ في البناء وذهبت السحابة. وأن في أَنْ لا تُشْرِكْ هي المفسرة وذلك أن المقصود من التوبة هو العبادة فكأنه قيل: تعبدنا لإبراهيم قلنا له: لا تشرك وطهر وقد مر مثله في «البقرة». وإنما قال هاهنا وَالْقائِمِينَ لأن العاكف ذكر مرة في قوله سَواءً الْعاكِفُ والقائم إما بمعنى القيام في الصلاة بدليل قوله وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ أو بمعنى المقيم
يروى أنه صعد أبا قبيس فقال: أيها الناس حجوا بيت ربكم،
قال مجاهد: فما حج إنسان ولا يحج إلى القيامة إلا وقد سمع ذلك النداء من في أصلاب الرجال وأرحام النساء، فمن أجاب مرة حج مرة ومن أجاب أكثر فأكثر. ولعل الفائدة في قوله يَأْتُوكَ هي هذه لأن الإتيان إلى مكة بسبب ندائه إتيان إليه. وأيضا هو أول من حج وغيره يقتدي به وكأنه يأتيه. وعن الحسن وهو اختيار أكثر العلماء المعتزلة أن الخطاب للنبي ﷺ وأنه معطوف على «أذكر» مقدرا، ثم إنه عام لجميع الناس أو خاص بمن حج معه في حجة الوداع قولان. وقيل: إنه ابتداء فرض الحج والرجال المشاة واحده راجل.
وقوله وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ حال آخر كأنه قيل رجالا وركبانا. والضامر البعير المهزول لطول السفر. ويَأْتِينَ صفة ل كُلِّ ضامِرٍ لأنه في معنى الجمع. والفج الطريق الواسع وقد مر في السورة المتقدمة. والعميق البعيد ومثله معيق وبه قرأ ابن مسعود. وفي تقديم المشاة تشريف لهم.
روى سعيد بن جبير بإسناده عن النبي ﷺ «إن الحاج الراكب له بكل خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة وللماشي سبعمائة من حسنات الحرم. قيل: يا رسول الله وما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة»
قال جار الله: نكر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات وقد كنى عن النحر والذبح بذكر اسم الله تعالى لأن المسلمين لا ينفكون عن التسمية إذا نحروا أو ذبحوا، وفيه تنبيه على أن التسمية من الأغراض الأصلية المعتبرة خلاف ما كان يفعله المشركون من الذبح للنصب. وفي قوله عَلى ما رَزَقَهُمْ إشارة إلى أن نفس القربان وتيسير ذلك العمل من نعم الله تعالى ولو قيل «لينحروا في أيام معلومات بهيمة الأنعام» لم يكن شيء من هذه الفوائد. والأيام المعلومات عند أكثر العلماء عشر ذي الحجة الأول آخرها يوم النحر لأنها معلومة عند الناس لحرصهم على أعمال الحج فيها. ثم للمنافع أوقات من العشر معروفة كيوم عرفة والمعشر الحرام، كذلك للذبح وقت بعينه وهو يوم النحر وهذا قول مجاهد وعطاء وقتادة والحسن ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس واختيار الشافعي وأبي حنيفة.
وعن ابن عباس في رواية أخرى أنها يوم النحر وثلاثة أيام بعدها وهو اختيار أبي مسلم وقول أبي يوسف ومحمد. وعلى الأول يكون قوله فِي أَيَّامٍ متعلقا بكلا الفعلين أعني لِيَشْهَدُوا وَيَذْكُرُوا وعلى الثاني يختص تعلقه بالثاني. ومعنى بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ بهيمة من الأنعام لأن البهيمة تشمل كل ذات أربع في البر والبحر فبينت بالأنعام وهي الإبل والبقر والضأن والمعز، وقد مر في أول المائدة قال مقاتل: إذا ذبحت فقل «بسم الله والله
روي عن هشام بن عروة عن أبيه عن ناجية الخزاعي قال: قلت: يا رسول الله كيف أصنع بما عطب من البدن؟ قال: أنحرها ثم أغمس نعلها في دمها ثم خل بين الناس وبينها يأكلونها.
وقال أيضا ﷺ في مثله: لا تأكل منها أنت ولا أحد من أهل رفقتك.
قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ لا يبعد أن يكون معطوفا على لِيَشْهَدُوا فإن هذه الأعمال كلها غايات للإتيان إلا أن إسكان هذه اللامات في بعض القراآت يدل على أنها لام الأمر وعلى هذا تكون هذه الأوامر الغائبة معطوفة على الأمرين الحاضرين قبلها والله أعلم. قال أبو عبيدة: لم يجيء في الشعر ما يحتج به في معنى التفث. وقال الزجاج: إن أهل اللغة لا يعرفون التفث إلا من التفسير. وقال القفال: قال نفطويه: سألت أعرابيا فصيحا ما معنى قوله ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ؟ فقال: ما أفسر القرآن ولكنا نقول للرجل: ما أتفثك وما أدرنك! ثم زعم القفال أن هذا أولى من قول الزجاج لأن المثبت أولى من النافي. وقال المبرد: أصل التفث في كلام العرب كل قاذورة تلحق الإنسان فيجب عليه نقضها. وأجمع أهل التفسير على أن المراد هاهنا إزالة الأوساخ والزوائد كقص الشارب والأظفار ونتف الإبط وحلق العانة. فتقدير الآية ثم ليقضوا إزالة تفثهم وليوفوا نذورهم أي الأعمال التي أوجبها الحج بالشروع فيه، أو أعمال البر التي أوجبوها على أنفسهم بالنذر فإن الرجل إذا حج أو اعتمر فقد يوجب على نفسه من الهدي وغيره ما لولا إيجابه لم يكن الحج يقتضيه. وَلْيَطَّوَّفُوا هو طواف الإفاضة والزيارة
١٩٨] وقيل: هو طواف الوداع والصدر. سمي بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ لأنه أول بيت وضع للناس عن الحسن،
وقال قتادة: لأنه أعتق من تسلط الجبابرة عليه وهو قول ابن عباس وابن الزبير ورووه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن ابن عيينة لأنه لم يملك قط. وعن مجاهد لأنه أعتق من الغرق أيام الطوفان. وقيل: معناه البيت الكريم من قولهم «عتاق الخيل والطير». والحرمة ما لا يحل هتكه وجميع التكاليف بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها، ويحتمل أن يراد هاهنا ما يتعلق بالحج، عن زيد بن أسلم أن الحرمات خمس: الكعبة الحرام والمسجد الحرام والبلد الحرام والشهر الحرام والمحرم حتى يحل. وتعظيمها العلم بوجوبها والقيام بحقوقها. وقوله فَهُوَ خَيْرٌ أي فالتعظيم له خير من التهاون بذلك. وقوله عِنْدَ رَبِّهِ إشارة إلى أن ثوابه مدخر لأجله.
قوله وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ قد مر في أول «المائدة» مثله أي إلا ما يتلى عليكم آية تحريمه وهي حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [المائدة: ٣] أو قوله غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ [المائدة: ١] أو قوله وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام: ١٢١] وحين حث على تعظيم الحرمات أتبعه الأمر بما هو أعظم أنواعها وأقدم أصنافها قائلا فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ وبينه بقوله مِنَ الْأَوْثانِ أي الرجس الذي هو الأوثان كقولك «عندي عشرون من الدراهم». والرجس العمل القبيح في الغاية وقد مر في آخر المائدة في تفسير قوله رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ [الآية: ٩٠] والزور من الزور الميل والإضافة كقولهم «رجل صدق» جمع بين القول الزور وبين الشرك لأن عبادة الأوثان هي رأس الزور وملاكه.
قال الأصم: وصف الأوثان بأنها رجس لأن عادتهم في القرابين أن يتعمدوا سقوط الدماء عليها، والأقرب أنها وصفت بذلك لأن عبادتها فعلة متمادية في القبح والسماجة.
وللمفسرين في قول الزور وجوه منها: أنه قولهم هذا حلال وهذا حرام. ومنها أنه شهادة الزور رفعوا هذا التفسير إلى النبي صلى الله عليه وسلم. ومنها أنه الكذب والبهتان. ومنها أنه قول أهل الجاهلية في الطواف «لبيك لا شريك لك إلا شريك هو لك تملكه وما ملك.» وقوله حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ حالان مؤكدان والمراد الإخلاص في التوحيد كقوله حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [النحل: ١٢٠] وفائدة الحالين هي فائدة التولي والتبري وإنما أخر نفي الإشراك وإن كان مقدما في الرتبة إذ التخلية والتبرئة مقدمة على التحلية والتولية ليرتب عليه قوله وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ الآية. قال جار الله: إن كان تشبيها مركبا فمعناه من أشرك بالله فقد أهلك نفسه غاية الإهلاك وذلك بأن صور حاله بصورة من خر من السماء فاختطفته أي استلبته الطير فتفرق مزعا أي قطعا من اللحم في حواصلها، أو بحال من خر فعصفت به
روى أبو هريرة أنه ﷺ مر برجل يسوق بدنة وهو في جهد فقال صلى الله عليه وسلم: اركبها فقال: يا رسول الله إنها هدي. فقال: اركبها ويلك.
وعن جابر أنه ﷺ قال: اركبوا الهدي بالمعروف حتى تجدوا ظهرا.
وهذا هو الذي اختاره الشافعي. وعن أبي حنيفة أنه لا يجوز الانتفاع بها لأنه لا يجوز إجارتها ولو كان مالكا لمنافعها لملك عقد الإجارة عليها. وضعف بأن أم الولد لا يمكنه بيعها ويمكنه الانتفاع بها. وممن ذهب إلى هذا القول من فسر الأجل المسمى بوقت تسميتها هديا، والمراد أن لكم أن تنتفعوا بهذه الأنعام إلى أن تسموها أضحية وهديا فإذا فعلتم ذلك فليس لكم أن تنتفعوا بها. وقد ينسب هذا القول إلى ابن عباس
ومنهم من فسر الشعائر بالمناسك كلها وفسر الأجل المسمى بأوان انقطاع التكليف، وزيفه جار الله بأن محلها إلى البيت يأباه، ثم بين أن القرابين في الشرائع القديمة وإن اختلفت أمكنتها وأوقاتها فقال وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً موضعا أو وقتا يذبح فيه النسائك الذبائح كسر السين سماع وفتحها قياس. ويجوز أن يكون مصدرا بمعنى النسك والمراد شرعنا لكل أمة من الأمم السالفة من زمن إبراهيم إلى من قبله وبعده أن ينسكوا له أي يذبحوا لوجهه على جهة التقرب وجعل الغاية في ذلك هي أن يذكر اسمه على نحرها، ثم بين العلة في تخصيص اسمه بذلك قائلا فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لأن تفرده بالإلهية يقتضي أن لا يذكر على الذبائح إلا اسمه. ويجوز أن يتعلق هذا الكلام بأول الآية، والمعنى إنما اختلفت التكاليف باختلاف الأزمنة والأشخاص لاختلاف المصالح لا لتعدد الإله. ثم ذكر أن تفرده بالإلهية يقتضي اختصاصه بالطاعة قائلا فَلَهُ أَسْلِمُوا أي خصوه بالانقياد الكلي والامتثال لأوامره ونواهيه خالصا لوجهه من غير شائبة إشراك. ثم أمر نبيه عليه السلام بتبشير المخبتين وفسرهم بقوله الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ والتركيب يدور على التواضع والخشوع ومنه الخبت للمطمئن من الأرض. وعن عمرو بن أوس: هم الذين لا يظلمون وإذا ظلموا لم ينتصروا. قال الكلبي: هم المجتهدون في العبادة. ثم عطف على المخبتين قوله وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ أي من المكاره في ذات الله كالأمراض والمحن، فأما الذي يصيبهم من قبل الظلمة فقد قال العلماء: إنه لا يجب الصبر عليه ولكن لو أمكن الدفع وجب دفعه ولو بالقتال. ثم خص من أنواع التكاليف التي تشق على النفس وتكرهها نوعين هما أشرف العبادات البدنية والمالية أعني الصلاة والزكاة وقوله وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ عطف على الْمُقِيمِي الصَّلاةِ من حيث المعنى كأنه قيل: والذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون. ثم عاد إلى تعظيم شأن الضحايا مرة أخرى وخص منها العظام الجسام بقوله وَالْبُدْنَ جَعَلْناها هي بضم الدال وسكونها جمع بدنة وهي الإبل خاصة لعظم بدنها إلا أن الشارع ألحق البقرة بها حكما. قال أبو حنيفة ومحمد: لو قال: عليّ بدنة يجوز له نحرها في غير مكة. وقال أبو يوسف: لا يجوز إلا بمكة بناء على أن البدنة مختصة بناقة أو بقرة تذبح هناك. واتفقوا فيما إذا نذر هديا أنه يجب ذبحه بمكة، وفيما إذا أنذر جزورا أنه يذبحه
وجب أن تكون التقوى فعلا له وإلا كان بمنزلة الأجسام. وأيضا إنه قد شرط التقوى في قبول العمل وصاحب الكبيرة غير متق فوجب أن لا يقبل عمله. والجواب أنه لا يلزم من عدم انتفاعه ببعض ما ليس من أفعاله أن لا ينتفع بكل ما ليس من أفعاله. وأيضا إن صاحب الكبائر اتقى الشرك فيصدق عليه أنه متق وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ إلى أنفسهم بتوفير الثواب عليها. والإحسان بالحقيقة أن تعبد الله كأنك تراه، وفيه ترغيب لما شرط من رعاية الإخلاص في القرابين وغيرها. وحين فرغ من تعداد بعض مناسك الحج ومنافعها وكان الكلام قد انجر إلى ذكر الكفار وصدهم عن المسجد الحرام أتبعه بيان ما يزيل ذلك الصد ويمكن من الحج وزيارة البيت فقال إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ومن قرأ يُدافِعُ فمعناه يبالغ في الدفع عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا فعل المغالب والمدفوع هو بأس المشركين وما كانوا يخونون الله ورسوله فيه يدل عليه تعليله
وقيل: نزلت في قوم خرجوا مهاجرين فاعترضهم مشركو مكة فأذن لهم في مقاتلتهم. وفي قوله إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ ثم في قوله وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ عدة كاملة بإعلاء هذا الدين وإظهار ذويه على أهل الأديان كلهم كما تقول لغيرك إن أطعتني فأنا قادر على مجازاتك. لا تريد مجرد إثبات القدرة بل تريد أنك ستفعل ذلك. ثم وصف ذلك الظلم بأن وصف الموعودين بالنصر بقوله الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ ومحل أَنْ يَقُولُوا جر على الإبدال من حَقٍّ أي بغير موجب سوى التوحيد الذي يوجب الإقرار والتمكين لا الإخراج والإزعاج نظيره هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ [المائدة: ٥٩] وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ قد مر في أواخر البقرة. وللمفسرين فيه عبارات قال الكلبي: يدفع بالنبيين عن المؤمنين وبالمجاهدين عن القاعدين. وعن ابن عباس: يدفع بالمحسن عن المسيء
وعن ابن عمر أن النبي ﷺ قال: «إن الله يدفع بالمسلم الصالح عن مائة من أهل بيته ومن جيرانه ثم تلا هذه الآية»
وقال الضحاك: يدفع بدين الإسلام وأهله عن أهل الذمة.
وقال مجاهد: يدفع عن الحقوق بالشهود وعن النفوس بالقصاص. أما الصوامع والبيع والصلوات فعن الحسن أنها كلها أسماء المساجد، فقد يتخذ المسلم لنفسه صومعة لأجل العبادة. قال الجوهري: الأصمع الصغير الأذن ويقال أتانا بثريدة مصمعه، إذا دققت وحدد رأسها. وصومعة النصارى «فوعلة» من هذا لأنها دقيقة الرأس، وقد تطلق البيعة على المسجد للتشبيه وكذا الصلوات. وسميت كنيسة اليهود صلاة لأنها يصلى فيها، ويحتمل أن يراد مكان الصلوات أو يراد الصلاة الشرعية نفسها. وصح إيقاع الهدم عليها نظرا إلى قرائنها كقوله: متقلدا سيفا ورمحا. وإن كان الرمح لا يتقلد. هذا كله توجيه تفسير الحسن. والأكثرون على أنها متعبدات مختلفة، فعن أبي العالية أن الصوامع للنصارى والبيع لليهود والصلوات للصابئين والمساجد للمسلمين. وفي تخصيصها بقوله يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً تشريف لها
وقال ﷺ «نحن الآخرون السابقون» «١»
وتفسير الآية على قول الأكثرين لولا دفع الله لهدم في شرع كل نبي المكان المعهود لهم في العبادة، فهدم في زمن موسى الكنائس، وفي زمن عيسى الصوامع والبيع، وفي زمن محمد ﷺ المساجد. وعلى هذا الوجه إنما رفع عنهم حين كانوا على الحق قبل التحريف والنسخ، ويحتمل أن يراد لولا ذلك لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان في زمن أمة محمد ﷺ من المسلمين وأهل الكتاب الذين في ذمتهم، وهدموا المتعبدات بأسرها. وعلى هذا الوجه إنما دفع عن سائر أهل الأديان لأن متعبداتهم يجري فيها ذكر الله في الجملة ليست بمنزلة بيوت الأصنام. ثم عزم على نفسه نصرة من ينصر دينه وأولياؤه وأكد ذلك بقوله إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ومعنى القوة والعزة أنه لا يمتنع شيء من نفاذ أمره فيه مع أنه لا يتأثر عن شيء أصلا. ونصرة الله العبد تقويته على أعدائه ووضع الدلائل على ما يفيده في الدارين ونفث روح القدس بأمره داعية الخير والصلاح في روعه. ثم أتبع قوله الذين أخرجوا قوله. الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ وقيل: هو بدل من قوله مَنْ يَنْصُرُهُ وهو إخبار منه عز وجل عما ستكون عليه سيرة المهاجرين إذا مكنهم في الأرض وبسط لهم الدنيا. وعن عثمان: هذا والله ثناء قبل بلاء، أراد أن الله تعالى قد أثنى عليهم قبل أن يحدثوا في شأن الدين وإعلائه ما أحدثوا. قيل: إنه مخصوص من المهاجرين بالخلفاء الراشدين لأنه تعالى لم يعط التمكين ونفاذ الأمر مع السيرة العادلة غيرهم. وعن الحسن أنهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى هذا فتمكينهم هو إبقاؤهم إلى أوان التكليف، وقد يشمل الأطفال أيضا إذا ماتوا قبل البلوغ لقوله الله أعلم بما كانوا عاملين. ثم ختم الآية بقوله وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ أي مرجعها ومصيرها إلى حكمه وتقديره وقد أراد تمكين أهل هذا الدين في كل حين فيقع لا محالة.
التأويل:
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ القلب سواء فيه من سبق إليه مدة طويلة والذي يصل إليه في الحال لأفضل إلا بسبق مقامات القلب ومنازله وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ الروح مكان بيت القلب وَطَهِّرْ بَيْتِيَ عن غيري وهو كل ما فيه حظ النفس دون
وفي قول النبي ﷺ «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه»
فَاجْتَنِبُوا مقتضيات الهوى وكونوا صادقين في الطلب لا مزورين مائلين إلى الحق غير طالبين معه غيره، وخر من سماء القلب فاستلبه طير الشياطين أو تهوي به ريح الهوى والخذلان إلى أسفل سافلين البعد والحرمان. لكم في شواهد آثار صنع الإرشاد منافع وهي لذة العبور على المقامات ولذة البسط ولذة الأنس إلى أجل مسمى وهو حد الكمال، ثم انتهاء السلوك إلى حضرة القديم. ولكل سالك جعلنا مقصدا وطريقا، منهم من يطلب الله من طريق المعاملات، ومنهم من يطلبه من طريق المجاهدات، ومنهم من يطلبه بطريق المعارف، ومنهم من يطلبه به. فَلَهُ أَسْلِمُوا أي أخلصوا والإخلاص تصفية الأعمال من الآفات، ثم الأخلاق من الكدورات، ثم الأحوال من الالتفات، ثم الأنفاس من الأغيار وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ عنى المستقيمين على هذه الطريقة. وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ الوجل عند الذكر على حسب تجلي الحق للقلب. وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ من غير تمني ترحة ولا روم فرحة وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ الحافظين مع الله أسرارهم لا يطلبون إطلاع الخلق على أحوالهم وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ يبذلون الموجود في طلب المقصود والوجود بشهود المعبود وَالْبُدْنَ يعني بدن الأبدان الجسام جعلنا قربانها عند كعبة القلب بذبحها عن شهواتها من شعائر أهل الصدق في الطلب، فإذا ماتت عن طبيعتها فانتفعوا بها أنتم وغيركم من الطالبين والقانعين بما أفضتم عليه، والمعترين المتعطشين الذين لا يروون ريا من ماء حياة المعرفة
شربت الحب كأسا بعد كأس | فما نفد الشراب وما رويت |
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٦٤]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١)
وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١)
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
نكيري بإثبات الياء حيث كان في الحالين: يعقوب. وافق ورش وسهل وعباس في الوصل. أهلكتها على التوحيد: أبو عمرو وسهل ويعقوب الآخرون أَهْلَكْناها وبير بالياء: أبو عمرو غير شجاع وأوقية ويزيد والأعشى وورش وربيعة وابن فليح وحمزة في الوقف. يعدون على الغيبة: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف معجزين بالتشديد: حيث كان: ابن كثير وأبو عمرو. ثم قتلوا بالتشديد ابن عامر وَأَنَّ ما يَدْعُونَ بياء الغيبة وكذلك في سورة لقمان: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعلي وخلف وحفص.
الوقوف:
وَثَمُودُ هـ ولُوطٍ هـ مَدْيَنَ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى أَخَذْتُهُمْ ج لابتداء التهديد مع فاء التعقيب نَكِيرِ هـ مَشِيدٍ هـ يَسْمَعُونَ بِها هـ للابتداء بأن مع الفاء الصُّدُورِ هـ وَعْدَهُ ط تَعُدُّونَ هـ أَخَذْتُها ط الْمَصِيرُ هـ مُبِينٌ هـ ج للابتداء مع الفاء كَرِيمٌ هـ الْجَحِيمِ هـ أُمْنِيَّتِهِ ج لانقطاع النظم مع اتحاد المعنى آياتِهِ ط حَكِيمٌ هـ لا لتعلق اللام قُلُوبِهِمْ ط بَعِيدٍ هـ لا قُلُوبُهُمْ ط مُسْتَقِيمٍ هـ عَقِيمٍ هـ لِلَّهِ ط بَيْنَهُمْ ط النَّعِيمِ هـ مُهِينٌ هـ حَسَناً ط الرَّازِقِينَ هـ يَرْضَوْنَهُ ط حَلِيمٌ هـ ذلِكَ ج لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ ط غَفُورٌ هـ بَصِيرٌ هـ الْكَبِيرُ هـ ماءً ز لنوع عدول مع العطف مُخْضَرَّةً ط خَبِيرٌ هـ وَما فِي الْأَرْضِ ط الْحَمِيدُ هـ.
التفسير:
إنه سبحانه بعد ضمان النصر لنبيه ﷺ والدفع عن أمته ذكر ما فيه تسليته وهو أنه ليس بأوحدي في التكذيب له والقصص معلومة مما سلف. قال جار الله: إنما لم يقل «وقوم موسى» لأن موسى كذبه غير بني إسرائيل وهم القبط، أو المراد وكذب موسى أيضا مع وضوح آياته وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ والنكير بمعنى الإنكار عبر به عن الهلاك
[الصافات: ١٣٧، ١٣٨] والمراد بالسماع سماع تدبر وانتفاع وإلا كان كلا سماع كما أن المراد بالإبصار إبصار الاعتبار ولهذا قال فَإِنَّها أي إن القصة لا تَعْمَى الْأَبْصارُ أي أبصارهم وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وفي هذا التصور زيادة التمكين والتقرير لغرابة نسبة العمى إلى القلب، وجوز في الكشاف أن يكون الضمير في فَإِنَّها ضميرا مبهما يفسره الأبصار وفاعل تَعْمَى ضمير عائد إلى الضمير الأول المبهم.
والمعنى على الوجهين أن أبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها وإنما العمى بقلوبهم، أو لا تعتدوا بعمى الأبصار وإن فرض لأنه ليس بعمى بالإضافة إلى عمى القلوب. وزعم بعضهم أن في الآية إبطالا لقول من جعل محل الكفر الدماغ وليس بقوي فقد يتشاركان في ذلك، أو يكون سلطانه في القلب والدماغ كالآلة.
عن النبي ﷺ أنه سئل عن الأنبياء فقال: مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة وثلاثة عشر جما غفيرا.
قال عامة المفسرين في سبب نزول الآية: أنه ﷺ لما شق عليه إعراض قومه عنه تمنى في نفسه أن لا ينزل عليه شيء ينفرهم عنه لحرصه على إيمانهم. وكان ذات يوم جالسا في ناد من أنديتهم وقد نزل عليه سورة وَالنَّجْمِ إِذا هَوى [النجم: ١] فأخذ يقرؤها عليهم حتى بلغ قوله أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى [النجم: ١٩- ٢٠] وكان ذلك التمني في نفسه فجرى على لسانه «تلك الغرانيق العلى منها الشفاعة ترتجى» فلما سمعت قريش ذلك فرحوا ومضى رسول الله ﷺ في قراءته حتى ختم السورة، فلما سجد في آخرها سجد معه جميع من في النادي من المسلمين والمشركين، فتفرقت قريش مسرورين وقالوا: قد ذكر محمد آلهتنا بأحسن الذكر فأتاه جبرائيل وقال: ما صنعت تلوت على الناس ما لم آتك به عن الله، فحزن رسول الله ﷺ وخاف خوفا شديدا فأنزل الله تعالى هذه الآية.
واعترض المحققون على هذه الرواية بالقرآن والسنة وبالمعقول. أما القرآن فكقوله وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة: ٤٤- ٤٦] وقوله وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [النجم: ٣] وقوله وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ [الإسراء: ٧٤] نفى القرب من الركون فكيف به؟ وأما السنة فهي ما روي عن ابن خزيمة أنه سئل عن هذه القصة فقال: هذا وضع من الزنادقة، وقد صنف فيه كتابا وقال الإمام أبوبكر أحمد بن الحسين البيهقي: هذه القصة غير ثابتة من جهة النقل، ثم أخذ يتكلم أن رواة هذه القصة مطعون فيهم.
وقد روى البخاري في صحيحه أنه ﷺ قرأ سورة النجم وسجد فيها المسلمون والمشركون الإنس والجن وليس فيه حديث الغرانيق.
وأما المعقول فهو أن النبي ﷺ بعث لنفي الأوثان فكيف يثبتها؟ وأيضا إنه بمكة لم يتمكن من القراءة والصلاة عند الكعبة ولا سيما في محفل غاص. وأيضا إن معاداتهم إياه كانت أكثر من أن يغتروا بهذا القدر فيخروا سجدا قبل أن يقفوا على حقيقة الأمر. وأيضا منع الشيطان من أصله أولى من تمكنه من الإلقاء ثم نسخه. وأيضا لوجوزنا ذلك لارتفع الأمان من الشرع، ولناقض قوله بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ [المائدة: ٦٧] وحال الزيادة في الوحي كحال النقصان منه. إذا عرفت هذا فللأئمة في تأويل الآية قولان: الأول أن التمني بمعنى القراءة كما سلف في البقرة في قوله وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ [الآية:
قلت: الإنصاف أنه غير ضعيف ولا يفضي إلى ارتفاع الوثوق لقوله سبحانه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ وقيل: إن المتكلم به شيطان الإنس وهم الكفرة كانوا يقربون منه في حال صلاته ويسمعون قراءته ويلقون فيها في أثناء وقفاته. وقيل: إن المتكلم به الرسول قاله سهوا كما
روي عن قتادة ومقاتل أنه ﷺ كان يصلي عند المقام فنعس وجرى على لسانه هاتان الكلمتان،
ولا ريب أنه يكون بإلقاء الشيطان. وضعف باستلزامه زوال الأمان عن الشرع وقد عرفت جوابه، وبأن مثل هذا الكلام المطابق لفواصل السورة يستبعد وقوعها في النعاس. وزعم قوم أن الشيطان أجبره على ذلك ورد بنحو قوله تعالى إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا [النحل: ٩٩] وذهب جماعة إلى أنه قال ذلك اختيارا. ثم إنها باطلة أم لا فيه وجهان: أما الأول ففيه طريقان: أحدهما
قول ابن عباس في رواية أن «شيطانا» يقال له الأبيض أتاه على صورة جبريل وألقاها إليه فقرأها فلما سمع المشركون ذلك أعجبهم فجاء جبريل واستعرضه فقرأها، فلما بلغ إلى تلك الكلمة أنكر عليه جبريل فقال: إنه أتاني آت على صورتك فألقاها على لساني.
وثانيهما أنه لشدة حرصه على إيمان القوم أدخل هذه الكلمة من تلقاء نفسه ثم رجع عنها. والطريقان منحرفان عند المحققين، لأن الأول يقتضي أن النبي لا يفرق بين الملك المعصوم والشيطان الخبيث. والثاني أنه يؤدي إلى كونه خائنا في الوحي. وأما الوجه الثاني فتصحيحه أنه أراد بالغرانيق الملائكة، وقد كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة فلما توهم المشركون أنه يريد آلهتهم نسخ الله تلاوته. أو هو في تقدير الاستفهام بمعنى الإنكار، أو المراد بالإثبات هاهنا النفي كقوله يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء: ١٧٦] قال الجوهري: الغرنيق بضم الغين وفتح النون من طير الماء طويل العنق، وإذا وصف به الرجال فواحدهم غرنيق وغرنوق بكسر الغين وفتح النون، وغرنوق وغرانق بالضم وهو الشاب السيد والجمع غرانق بالفتح والغرانيق. القول الثاني أن التمني هو تمني القلب ومعنى الآية ما من نبي إلا وهو بحيث إذا تمنى أمرا من الأمور وسوس الشيطان إليه بالباطل ويدعوه إلى ما لا ينبغي، ثم إن الله تعالى ينسخ ذلك ويبطله ويهديه إلى ما هو
وقيل: كان يتفكر في تأويل المجمل فيلقي الشيطان إلى جملته ما هو غير مراد، وكان رد الله سبحانه إلى المعنى المراد بإنزال المحكمات. وقيل: معناه إذا أراد فعلا يتقرب به إلى الله حال الشيطان بينه وبين مقصوده والله تعالى يثبته على ذلك نظيره إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [الأعراف: ٢٠١] وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ [الأعراف: ٢٠٠] واعترض على هذا القول بأن تمني القلب كيف يكون فتنة للذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون، وللقاسية قلوبهم وهم المشركون؟ وأجيب بأنه إذا قوي التمني اشتغل الخاطر به فحصل السهو في الأفعال الظاهرة بسببه فيصير ذلك فتنة لمن ضعفت عقيدته في النبي. والحاصل أن الرسل لا ينفكون عن السهو وإن كانوا معصومين عن العمد فعليهم أن لا يتبعوا إلا ما يقطعون به لصدوره عن علم وذلك هو المحكم. وذهب أبو مسلم إلى أن حاصل الآية هو أن كل نبي من جنس البشر الذين هم بصدد الخطأ والنسيان من قبل وساوس الشيطان. ووجه النظم بين هذه الآية والتي قبلها أنه أمر بأن يقول إني لكم نذير لكني من البشر لا من الملائكة ولم يرسل الله قبلي ملكا بل أرسل رجالا يوسوس الشيطان إليهم، وعلى هذا فالملائكة لعدم إمكان استيلاء الشيطان عليهم أعظم درجة من الأنبياء وأقوى حالا منهم. وقال صاحب الكشاف: المعنى أن الرسل والأنبياء من قبلك كانت هجيراهم كذلك إذا تمنوا مثل ما تمنيت وهو أن لا ينزل ما ينفر أمته ولا يوافق هواهم، مكن الله الشيطان ليلقي في أمانيهم مثل ما ألقي في أمنيتك حتى سبق لسانك. فقلت «تلك الغرانيق» إلخ. وسبب التمكين إرادة امتحان من حولهم والله سبحانه له أن يمتحن عباده بما شاء من صنوف المحن وأنواع الفتن ليضاعف ثواب الثابتين ويزيد في عقاب المذبذبين. فهذه جملة أقوال المفسرين في الآية.
وأما قوله فَيَنْسَخُ اللَّهُ فالمراد إزالة تأثير ما يلقي الشيطان وهو النسخ اللغوي لا النسخ الشرعي المستعمل في الأحكام وقوله ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ فالمراد بالآيات هي آيات القرآن أي يجعلها بحيث لا يختلط بها شيء من كلام غيره فتكون ثابتة في مظانها، أو يجعلها بحيث لا يتطرق إليها تأويل فاسد معمول به عند الأمة. ويحتمل أن يكون المراد بأحكام الآيات الإرشاد إلى أدلة الأحكام الشرعية. وقوله وَإِنَّ الظَّالِمِينَ أراد المنافقين والمشركين المذكورين إلا أنه وضع الظاهر موضع الضمير قضاء عليهم بالظلم والشقاق
سلمنا أنه للعطف على تَأْتِيَهُمُ إلا أن اللام في الَّذِينَ كَفَرُوا للجنس فيقع على الذين ما انتهى شكهم إلى يوم القيامة ويحتمل أن يراد بالساعة وقت موت كل واحد وبعذاب يوم عقيم القيامة.
ثم بين أنه لا مالك يوم تأتي الساعة إلا الله وأنه يحكم بين الناس فيميز بين أهل الجنة وأهل النار. ثم أفرد المهاجرين بالذكر تخصيصا لهم بمزيد التشريف.
يروى أن طوائف من أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: يا نبي الله، هؤلاء الذين قتلوا قد عملنا ما أعطاهم الله من الخير ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ فأنزل الله عز وجل وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا
قال بعض المفسرين هم الذين هاجروا من مكة إلى المدينة. وقال بعضهم: هم الذين خرجوا من الأوطان في سرية أو عسكر. ولا يبعد حمل
وقال الأصم: العلم والفهم كقول شعيب وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً [هود: ٨٨] وضعف الوجهان بأنهما ممتنعان بعد القتل أو الموت. قال العلماء: وإنما تظهر هذه الفضيلة للمهاجرين في مزيد الدرجات وإلا فلا بد من شرط اجتناب الكبائر كما في حق غيرهم.
وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لأن رزق غيره ينتهي إليه وغيره لا يقدر على مثل رزقه، ولأن رزقه لا يختلط بالمن والأذى ولا بغرض من الأغراض الفاسدة، ولأنه يرزق ويعطي ما به يتم الانتفاع بالرزق من القوى والحواس وغير ذلك من الشرائط الوجودية والعدمية. قالت المعتزلة: في الآية دلالة على أن غير الله يقدر على الفعل وهو الرزق. ويمكن أن يجاب بأنه مجاز أو على سبيل الفرض والتقدير. وليس في الآية دليل ظاهر على أن المهاجر المقتول والمهاجر الميت على فراشه هل يستويان في الأجر أم لا بل المعلوم منها هو الجمع بينهما في الوعد. وقد يستدل على التسوية بما
روي عن أنس أن رسول الله ﷺ قال «المقتول في سبيل الله والمتوفي في سبيل الله بغير قتل هما في الأجر شريكان»
فإن لفظ الشركة مشعر بالتسوية.
وحين بين رزقهم شرع في ذكر مسكنهم. قيل: في المدخل الذي يرضونه خيمة من درة بيضاء لا فصم فيها ولا وصم، لها سبعون ألف مصراع. وقال أبو القاسم القشيري: هو أن يدخلهم الجنة من غير مكروه تقدم. وقال ابن عباس: يرون في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فيرضونه ولا يبغون عنها حولا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بدرجات العاملين ومراتب استحقاقهم حَلِيمٌ عن تفريط المفرط منهم فيمهله حتى يتوب فيدخل الجنة. ثم بين أنه مع إكرامه لهم في الآخرة لا يدع نصرهم في الدنيا قبل أن يقتلوا أو يموتوا فقال ذلِكَ قال الزجاج: أي الأمر ما قصصنا عليكم من إنجاز الوعد للمهاجرين خاصة إذا قتلوا أو ماتوا. عن مقاتل: أن قوما من المشركين لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرم فقالوا: إن أصحاب محمد يكرهون القتال في الشهر الحرام فاحملوا عليهم، فناشدهم المسلمون أن يكفوا عن قتالهم لحرمة الشهر فأبوا وقاتلوهم فذلك بغيهم عليهم وثبت لهم المسلمون فنصروا، فوقع في أنفس المسلمين شيء من القتال في الشهر الحرام فنزل وَمَنْ عاقَبَ أي قاتل بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ أي كما ابتدئ بقتاله سمى الابتداء باسم الجزاء للطباق وللملابسة من حيث إن ذلك سبب وهذا مسبب عنه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي ثم كان المجازي مبغيا عليه أي مظلوما. ومعنى «ثم» تفاوت الرتبة لأن كونه مبدوأ بالقتال معه نوع ظلم كما قيل «البادي أظلم» وهو موجب لنصرته ظاهرا إلا أن كونه في نفس
من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه. وفي ختم الآية بذكر العفو والمغفرة وجوه منها: أن المندوب للمجني عليه هو أن يعفو عن الجاني كقوله فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى: ٤٠] وكأنه قال: أنا ضامن لنصرته إن ترك الانتقام وطلب إكثار ما هو أولى به فإني عفوّ غفور. ومنها أنه ضمن النصر على الباغي ولوح بذكر هاتين الصفتين بما هو أولى بالمجني عليه وهو العفو والصفح. ومنها أنه دل بذكرهما على أنه قادر على العقوبة لأن العفو عند المقدرة. ثم بين أن ذلك النصر بسبب أنه قادر ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وذلك أن زيادة أحدهما تستلزم نقصان الآخر، أو أراد تحصيل أحد العرضين الظلام والضياء في مكان الآخر وقد مر في أوائل آل عمران. وفيه أن خالق الليل والنهار ومصرف الأدوار والأكوار لا يخفى عليه شيء من الزمانيات خيرا أو شرا إنصافا أو بغيا وأكد هذا المعنى بقوله أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ يسمع أقوال الخلائق ويبصر أفعالهم.
ثم بين أن كمال القدرة والعلم هو يقتضي وجوب الوجود فقال ذلِكَ أي الوصف بخلق الملوين وبالإحاطة بما يجري فيهما بسبب أن الحقية منحصرة في ذاته وأن وجود غيره ولا سيما الأوثان موسوم بالبطلان فلا نقص كالإمكان. ويعلم مما ذكر أنه لا شيء أعلى منه شانا وأكبر سلطانا. وإنما قال هاهنا مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ بزيادة هو وفي «لقمان» مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ [الآية: ٣٠] لأن هذا وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين ولهذا أيضا زيدت اللام في قوله وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ بخلاف ما في «لقمان» وأيضا يمكن أن يقال: تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات بخلاف «لقمان» فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك بنحو ما ذكر هاهنا. ثم ذكر أنواعا أخر من دلائل قدرته ونعمته فقال أَلَمْ تَرَ قيل: هي رؤية البصر لأن نزول الماء من جهة السماء أو اخضرار النبات من المبصرات. وقيل: بمعنى العلم لأن الرؤية إذا لم يقترن بها العلم لم يعتد بها. وفي قوله فَتُصْبِحُ دون أن يقول فأصبحت مناسبا ل أَنْزَلَ إشارة إلى بقاء أثر المطر زمانا طويلا وإن كان ابتداء الإصباح عقيب النزول نظيره قول القائل: «أنعم فلان عليّ عام كذا فأروح وأغدو شاكرا له». ولو قال: «فرحت وغدوت» لم يقع ذلك الموقع. وإنما لم ينصب فَتُصْبِحُ جوابا للاستفهام لإيهام عكس ما هو المقصود لأنه يوهم نفي الاخضرار كما لو قلت لصاحبك: ألم تراني أنعمت عليك فتشكر. إن نصبته أوهمت أنك ناف لشكره شاك تفريطه فيه، وإن رفعته فأنت مثبت لشكره بطريق الاستمرار ولا يبعد أن تكون هذه الآية إشارة إلى
لطيف في أفعاله خبير بأعمال خلقه، وقال مقاتل: لطيف باستخراج النبت خبير بكيفية خلقه. وقال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط وقد مر مثل هذه في أواسط «الأنعام». ثم بين أن كل ما في السموات والأرض ملكه وملكه لا يمتنع شيء منها من تصرفاته، وهو غني عن كل ذلك وإنما خلقها لحاجة المكلفين إليها ومن جملتها المطر والنبات خلقها رحمة للحيوانات وإنعاما عليها. وإذا كان إنعامه خاليا عن غرض عائد إليه كان مستحقا للحمد بل هو حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون.
التأويل:
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ قالب أَهْلَكْناها بضيق الصدر وسوء الخلق واستيلاء الغفلة. وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ هي القلب الفارغ عن أعمال القوى الروحانية في طلب المعارف والحقائق وَقَصْرٍ مَشِيدٍ وهو الرأس الخالي عن نتائج الفكر الصافي والحواس السليمة أَفَلَمْ يَسِيرُوا في أرض البشرية عابرين على منازل السالكين إلى أن يصلوا إلى مقام القلب فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها الرحمن بذاته أَوْ آذانٌ قلوب يَسْمَعُونَ بِها أقواله أو أبصار بصائر يبصرون بها أفعاله. وإذا صح وصف القلب بالسمع والبصر صح وصفه بسائر وجوه الإدراكات، فقد يدرك نسيم الإقبال بمشام السر
كقوله «إني لأجد نفس الرحمن من جانب اليمن» «١»
وكقول يعقوب إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ [يوسف: ٩٤] وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ليس خلفه في وعيد المؤمنين بخلف في الحقيقة لأنه تصديق
قوله «سبقت رحمتي غضبي» «٢»
وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ قيل: لأنه موجد الزمان وليس عنده صباح ولا مساء فوجود الزمان وعدمه وكثرته وقلته سواء عنده والاستعجال وضده إنما يتصور في المتزمنات قلت: ففيه أن الكل بإرادته وإن ما أراد الله فأسبابه متهيئة يحصل في يوم بإرادته ما لا يحصل في ألف سنة بحسب فرضنا وتقديرنا ومن هنا قيل: جذبة من جذبات الرحمن توازي عمل الثقلين أَمْلَيْتُ لَها فيه أنه تعالى يمهل ولكنه لا يهمل لَهُمْ مَغْفِرَةٌ أي ستر فمنهم من يستر زلته، ومنهم من يستر عليه أعماله الصالحة صيانة له عن الملاحظة، ومنهم من يستر عليه حاله لئلا يصيبه من الشهوة فتنة كما قيل:
لا تنكرن جحدي هواك فإنما | ذاك الجحود عليك ستر مسبل |
(٢) رواه البخاري في كتاب التوحيد باب ١٥، ٢٢، ٢٨. مسلم في كتاب التوبة حديث ١٤- ١٦.
الترمذي في كتاب الدعوات باب ٩٩. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١٣. أحمد في مسنده (٢/ ٢٤٢، ٢٥٨).
قال ﷺ «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» «١»
وَمَنْ عاقَبَ بالمجاهدة نفسه بِمِثْلِ ما عاقبت النفس بالمخالفة قلبه ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ أي غلبت النفس على القلب باستيلاء صفاتها لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ باستئصال النفس وتمحيق صفاتها إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ لما سلف غَفُورٌ لما بقي في نفوس الطالبين من الأنانية. يُولِجُ ليل السر في نهار التجلي وبالعكس، أو يولج ليل القبض في نهار البسط، أو ليل الهيبة في نهار الأنس أَنْزَلَ مِنَ سماء القلب ماء الحكمة فَتُصْبِحُ أرض البشرية مُخْضَرَّةً بالشريعة وأرض القلوب والأرواح والأسرار بالعلوم والكشوف والأنوار والله أعلم بالصواب.
[سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٥ الى ٧٨]
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦) لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
ما لم ينزل من الإنزال ابن كثير وأبو عمرو وسهل. والآخرون بالتشديد يصطون بالصاد مثل بَصْطَةً [الآية: ٢٤٧] في البقرة الذين يدعون بياء الغيبة:
سهل ويعقوب.
الوقوف:
بِأَمْرِهِ ط بِإِذْنِهِ ط رَحِيمٌ هـ أَحْياكُمْ ز لأن «ثم» لترتيب الأخبار يُحْيِيكُمْ هـ ط لَكَفُورٌ هـ إِلى رَبِّكَ ط مُسْتَقِيمٍ هـ تَعْمَلُونَ هـ تَخْتَلِفُونَ هـ وَالْأَرْضِ ط فِي كِتابٍ ط يَسِيرٌ هـ عِلْمٌ ط نَصِيرٍ هـ الْمُنْكَرَ ط آياتُنا ط ذلِكُمُ ط النَّارُ ط كَفَرُوا ط الْمَصِيرُ هـ فَاسْتَمِعُوا لَهُ ط اجْتَمَعُوا لَهُ ط مِنْهُ ط وَالْمَطْلُوبُ هـ قَدْرِهِ ط وَمِنَ النَّاسِ ط بَصِيرٌ هـ خَلْفَهُمْ ط الْأُمُورُ هـ تُفْلِحُونَ هـ ج للآية مع العطف جِهادِهِ ط حَرَجٍ ط إِبْراهِيمَ ط النَّاسِ ج للعطف مع الفاء بِاللَّهِ ط مَوْلاكُمْ ط النَّصِيرُ هـ.
التفسير:
إن من جملة نعم الله تعالى على عباده تسخير الأرضيات وتذليلها لهم، فلا أصلب من الحديد والحجر، ولا أشد نكاية من النار وقد سخرها للإنسان وسخر لهم الأنعام أيضا ينتفعون بها بالأكل والركوب والحمل عليها والانتفاع بالنظر إليها أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى
[الغاشية: ١٧] وسخر لهم الدواب، وغيرها وسخر لهم الفلك حال كونها جارية بأمره وهو تهيئة الأسباب المعاونة ودفع الأشياء المضادة لسهولة جريها. ولا ريب أن الانتفاع بالأرضيات لا يتأتى إلا بعد الأمن من وقوع السماء على الأرض، فمنّ الله تعالى على المكلفين بأن حفظها كيلا تقع أو كراهة أن تقع على الأرض وذلك بمحض الاقتدار عند أهل الظاهر، أو بأن جعل طبعها هو الإحاطة بما في ضمنها إذ لا خفة فيها ولا ثقل ولهذا خصت بالحركة على المركز. وفي قوله إِلَّا بِإِذْنِهِ إشارة إلى أن الأفلاك ستنخرق وتنشق فتقع على الأرض، ويحتمل أن يقال: توقيف الوقوع على الإذن لا يوجب حصول الإذن، فالانخراق والانشقاق لا يستفاد من هذه الآية. ثم ذكر الإنسان مبدأه ومعاده فقال وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ نظيره قوله في أول البقرة كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ [الآية:
٢٨] وقد سبق هنالك. وفي قوله إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ زجر لهم عن الكفران بطريق التوبيخ. وعن ابن عباس أنه الكافر. وبعضهم جعله أخص فقال: هو أبو جهل وأضرابه، والأولى إرادة الجنس، ثم عاد إلى بيان أن أمر التكاليف مستقر على ما في هذه الشريعة فقال لِكُلِّ أُمَّةٍ الآية. قال في الكشاف: إنما فقد العاطف هاهنا بخلاف نظرائها في السورة لأن تلك مناسبة لما تقدمها وهذه مباينة لها. قلت: وذلك لأن من هاهنا إلى آخر السورة عودا بعد ذكر المعاد إلى الوسط الذي هو حالة التكليف، والأقرب أن المنسك في هذه الآية هو الشريعة كقوله لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [المائدة: ٤٨] وهو قول ابن عباس في رواية عطاء. وقيل: أراد مكانا معينا وزمانا لأداء الطاعات. وقال مجاهد: هو الذبائح ولا وجه للتخصيص هاهنا والأمة أعم من أن تكون قد بقيت آثارهم أو لم تبق. أما الضمير في قوله فَلا يُنازِعُنَّكَ فلا بد من رجوعه إلى الأمم الباقية آثارهم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال الزجاج: إنه نهي له عن منازعتهم كما تقول «لا يضاربنك فلان» أي لا تضار به. وذلك أن المفاعلة تقتضي العكس ضمنا. وقال في الكشاف: هو نهي لرسول الله ﷺ أي لا تلتفت إلى قولهم ولا تمكنهم من أن ينازعوك، أو هو زجر لهم عن التعرض لرسول الله ﷺ بالمنازعة في أمر الدين وكانوا يقولون في الميتة «ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتله الله». ومنه يعلم استقرار أمر الديانة على هذه الشريعة وأن على كل أمة من الأمم التي بقيت منها بقية أن يتبعوه ويتركوا مخالفته فلذلك قال: وَادْعُ إِلى رَبِّكَ أي لا تخص بالدعوة أمة دون أمة فإن كلهم أمتك إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ أي على دين وسط ودليل ظاهر. وإن أبوا إلا الجدال فكل أمرهم إلى الله قائلا اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ وفيه وعيد وإنذار مخلوط برفق ولكن اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أي يفصل بين المؤمنين والكافرين منكم، ويحتمل أن يكون من تتمة المقول وأن يكون ابتداء خطاب من الله سبحانه للأمم. أَلَمْ تَعْلَمْ خطاب لكل
وحين بين كمال ألوهيته قطع شأن أهل الشرك بقوله وَيَعْبُدُونَ الآية والمراد أنهم لم يتمسكوا في صحة عبادته بدليل سمعي ولا علم ضروري وقوله وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ الظلم الشرك، والنصرة إما بالشفاعة أو بالحجة ولا حجة إلا للحق وهو كقوله في آخر آل عمران وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ [الآية: ١٩٢] وقد مر. والمنكر دلائل الغيظ والحنق.
وقال جار الله: هو الفظيع من التجهم والبسور أو هو الإنكار كالمكرم بمعنى الإكرام وقال الكلبي: أراد أنهم كرهوا القرآن مع وضوح دلائله. وقال ابن عباس: هو التجبر والترفع.
وقال مقاتل: أنكروا أن يكون من الله تعالى. السطو الوثب والبطش أي يهمون بالبطش والوثوب لعظم إنكار ما تلي عليهم. وقوله مِنْ ذلِكُمُ إشارة إلى غيظهم على التالين أو إلى همهم. ثم إنه كأن سائلا قائلا ما ذلك الشر فقيل النَّارُ أي هو النار. قلت: وذلك أن حرارة الغيظ والسطو تشبه حرارة النار ولكن هذه أقوى ولا سيما نار جهنم. ثم استأنف للنار حكما فقال وَعَدَهَا الآية. ويحتمل أن تكون النَّارُ مبتدأ ووَعَدَهَا خبرا. ثم ضرب للأصنام مثلا فقال يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ إنما قال بلفظ الماضي لأنه معلوم من قبل لكل ذي عقل. والمثل بمعنى المثل استعاروه لجملة من الكلام مستغربة مستفصحة متلقاة بالرضا والقبول أهل للتسيير والإرسال وذلك أنهم جعلوا مضربها مثلا لموردها، ثم استعاروا هذا المستعار للقصة أو الحالة أو الصفة المستغربة لتماثلها في الغرابة وهذا هو الذي قصد في الآية: فَاسْتَمِعُوا لَهُ أي تدبروه وحق له ذلك فإن السماع المجرد لا نفع له. قال جار الله: محل وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ نصب على الحال كأنه قال مستحيل أن يخلقوا الذباب مشروطا عليهم اجتماعهم جميعا فكيف لو انفردوا؟ وأقول: الظاهر أن «لو» هذه للمبالغة وجوابه محذوف لدلالة ما تقدم عليه تقديره، ولو اجتمعوا لخلق الذباب لن يخلقوه أيضا، وليس من شرط كل جملة أن يكون لها محل. ثم زاد لعجزهم وضعفهم تأكيدا بقوله وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ الآية. بمعنى أترك أمر الحلق والإيجاد وتكلم فيما هو أسهل من
ثم بين أن المشركين الذين عبدوا من دون الله آلهة بهذه المثابة ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي ما عرفوه حق معرفته وقد مر مثله في «الأنعام». إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ قادر غالب فكيف يسوّي بينه وبين العاجز المغلوب في العبادة وهي نهاية التعظيم. وذلك أنهم لو اعتقدوا كون تلك الأصنام طلسمات موضوعة على الكواكب فإذا لم تنفع نفسها في المقدار المذكور فلأن لا تنفع غيرها أولى، وإن اعتقدوا أنها تماثيل الملائكة أو الأنبياء فلا يليق بها غاية الخضوع التي يستحقها خالق الكل. وحين رد على أهل الشرك معتقدهم في الإلهيات أراد أن يرد عليهم عقيدتهم في النبوّات وهي أن الرسول لا يكون بشرا فقال اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ فالملك رسول إلى النبي والنبي رسول إلى سائر البشر قاله مقاتل. هاهنا سؤالان: الأول أن «من» للتبعيض فتفيد الآية أن بعض الملائكة رسل فيكون مناقضا لقوله جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا [فاطر: ١] والجواب أن الموجبة الجزئية لا تناقض الموجبة الكلية، أو أراد بهذا البعض من هو رسول إلى بني آدم وهم أكابر الملائكة ولا يبعد أن يكون بعض الملائكة رسلا إلى بعض آخر منهم. وثانيهما أنه قال في موضع آخر لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ [الزمر: ٤] وقد نص في هذه الآية أن بعض الناس مصطفى فيلزم من مجموع الآيتين أنه قد اصطفى ولدا. والجواب أن تلك الآية دلت على أن كل ولد مصطفى ولكن لا يلزم من هذه الآية أن كل مصطفى ولد فمن أين يحصل ما ادعيت؟ والتحقيق أن الموجبتين في الشكل الثاني لا ينتجان هذا، ويحتمل أن تكون هذه الآية مسوقة للرد على عبدة الملائكة كما كانت الآية المتقدمة للرد على عبدة الأصنام إذ يعلم من هذا أن علو درجة الملائكة ليس لكونهم آلهة بل لأن الله اصطفاهم للرسالة حين كانوا أمناء على وحيه لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.
ثم بين علو شأنه وكمال علمه وإحاطته بأحوال المكلفين ما مضى منها وما غبر، وأن
قال جار الله: عن عقبة بن عامر قال:
قلت: يا رسول الله في سورة الحج سجدتان؟ قال: نعم إن لم تسجدهما فلا تقرأهما.
وعن عبد الله بن عمر: فضلت سورة الحج بسجدتين. وهو مذهب الشافعي. وأما أبو حنيفة فلا يرى هذه سجدة لأنه قرن الركوع بالسجود قال: فدل ذلك على أنها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة، قدم الصلاة لأنها أشرف العبادات ثم عمم فأمر بالعبادة مطلقا، ثم جعل الأمر أعم وهو فعل الخيرات الشامل للنوعين التعظيم لأمر الله والشفعة على خلق الله كأنه قال:
كلفتكم الصلاة بل كلفتكم ما هو أعم منها وهو العبادة، بل كلفتكم أعم وهو فعل الخيرات على الإطلاق. وقيل: معناه واعبدوا ربكم اقصدوا بركوعكم وسجودكم وجه الله عز وجل.
وعن ابن عباس أن فعل الخير صلة الأرحام ومكارم الأخلاق. ومعنى لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ افعلوا كل ذلك راجين الفلاح وهو الظفر بنعيم الآخرة لا متيقنين ذلك فإن الإنسان قلما يخلو في أداء فرائضه من تقصير والعواقب أيضا مستورة. ثم أمره بخلاف النفس والهوى في جميع ما ذكر وهو الجهاد الأكبر فقال وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ أي في ذاته ومن أجله حَقَّ جِهادِهِ أي حق الجهاد فيه أو حق جهادكم فيه فإضافة الجهاد إلى الله من قبيل التوسعة ولأدنى ملابسة من حيث إن الجهاد فعل لوجهه. وقيل: هو أمر بالغزو، أمروا أن يجاهدوا آخرا كما جاهدوا أولا فقد كان جهادهم في الأول أقوى وكانوا فيه أثبت نحو صنيعهم يوم بدر. وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف: أما علمت أنا كنا نقرأ وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ في آخر الزمان كما جاهدتم في أوله؟ فقال عبد الرحمن: ومتى ذلك يا أمير المؤمنين؟ قال: إذا كانت بنو أمية الأمراء وبنو المغيرة الوزراء. قال العلماء: لو صحت هذه الرواية فلعل هذه الزيادة من تفسير الرسول ﷺ ليست من نفس القرآن وإلا لتواترت. وأما عبارات المفسرين فعن ابن عباس: حق جهاده أي لا تخافوا في الله لومة لائم. وقال الضحاك: اعملوا لله حق عمله. وقال آخرون: استفرغوا ما في وسعكم في إحياء دين الله وإقامة حدوده باليد واللسان وجميع ما يمكن، وردوا أنفسكم عن الهوى والميل. وعن
ثم أثنى على هذه الأمة بقوله مِلَّةَ أَبِيكُمْ أي أعني الدين ملة أبيكم، ويجوز أن ينتصب بمضمون ما تقدم كأنه قيل: وسع دينكم توسعة ملة أبيكم فأقام المضاف إليه مقام المضاف، وإنما كان إبراهيم أبا هذه الأمة لأنه أبو الرسول ﷺ وكل نبي أبو أمته. والمراد أن التوحيد والحنيفية هي مما شرعه إبراهيم. هُوَ أي الله أو إبراهيم سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ أي في سائر الكتب أو في قوله وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ [البقرة: ١٢٨] وَفِي هذا القرآن أما إن كان المسمى هو الله فظاهر، وأما إن كان هو إبراهيم فلعله أراد أن حكاية دعائه مذكورة في القرآن. وقوله لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلق بقوله هُوَ اجْتَباكُمْ أي فضلكم على الأمم لهذا الغرض نظيره قوله في البقرة وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا [الآية:
١٤٣] والأصل تقديم الأمة كما في «البقرة» لأن الخطاب معهم وليقع الختم على شهادة الرسول كما هو الواقع إلا أنه عكس الترتيب في هذه السورة ليناط به قوله فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ والمراد إذ خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه واعتصموا بدلائله العقلية والسمعية أو بألطافه وعنايته. قال ابن عباس: سلوا الله العصمة عن كل المحرمات. وقال آخرون: اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون فهو خير مولى وناصر. استدلت المعتزلة بالآية في قولهم إنه يريد الإيمان من الكل من وجوه: الأول أنه أراد أن يكونوا شهداء ولن يكونوا كذلك إلا إذا آمنوا، الثاني أنه لا يمكن الاعتصام به إلا إذا لم يوجد منه الشر البتة. الثالث أنه لو خلق في عباده الكفر والمعاصي لم يكن نعم المولى. وأجيب بعد تسليم إرادة الإيمان من الكل أن إرادة الشيء إن كانت مستلزمة لإرادة لوازمه فإرادة الإيمان من الكفار تستلزم أن يكون الله تعالى مريدا
كقوله «أعوذ بك منك.» «١»
وأيضا إنه خلق الشهوة في قلب الفاسق وخلق المشتهي وقربه منه ودفع المانع وسلط عليه شياطين الإنس والجن، فلو لم تكن كل هذه مقتضية لكونه بئس المولى لم يكن خلق الكفر أيضا مقتضيا لذلك.
التأويل:
سَخَّرَ لَكُمْ ما في أرض البشرية من الصفات الحيوانية والشيطانية، وسخر فلك الواردات المغيبة تجري في بحر القلب، ويمسك سماء القلب أن تقع على أرض النفس بأن تتصف بصفاتها إِلَّا بِإِذْنِهِ بقدر ما أباحه الشرع من ضروريات المأكول والملبوس وغيرهما وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بازدواج الروح إلى القالب ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عن صفات البشرية ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بنور الصفات الرحمانية فَلا يُنازِعُنَّكَ في أمرك فإن لك مع الله وقتا لا يسعك فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل ولكل قوم رتبة لا يتجاوزونها إن الذين يدعون من دون الله كالأصنام الظاهرة والباطنة لن يطلعوا على كيفية خلق الذباب، وإن يسلبهم ذباب هواجس النفس شيئا من صفاء القلب وجمعية الوقت ضَعُفَ الطَّالِبُ وهو القلب غير المؤيد بنور الإيمان وَالْمَطْلُوبُ وهو النفس والشيطان ارْكَعُوا بالنزول عن مرتبة الإنسانية إلى خضوع الحيوانية: وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ [النور: ٤٥] وَاسْجُدُوا بالنزول إلى مرتبة الحيوانية وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ [الرحمن: ٦] وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ بجعل الطاعة خالصة له وَافْعَلُوا الْخَيْرَ بمراقبة الله في جميع أحوالكم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بالوصال. وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ فجهاد النفس بتزكيتها بأداء الحقوق وترك الحظوظ، وجهاد القلب بتصفيته وقطع تعلقه عن الكونين، وجهاد الروح بتحليته بإفناء الوجود في وجوده هُوَ اجْتَباكُمْ لهذه الكرامات من بين سائر البريات ولولا أنه اجتباكم ما اهتديتم إليه كما قيل:
فلولاكم ما عرفنا الهوى وما جعل عليكم في دين العشاق. وهو السير إلى الله من ضيق
«من تقرّب إلي شبرا
والسير إلى الله من سنة إبراهيم إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: ٩٩] هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ في الأزل وهو في هذا الطور. وإنما قدم الرسول لأن روحه في طرف الأزل مقدم «أول ما خلق الله روحي» فهو مشرف وقتئذ على أرواح أمته وبعد ذلك خلقت أرواح أمته مشرفين على أرواح غيرهم. وفي سورة البقرة اعتبر طرف الأبد فوقع الختم على الرسول وعلى شهادته فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ بدوام السير والعروج إلى الله والتعظيم لأمره وَآتُوا الزَّكاةَ بدعوة الخلق إلى الله والشفقة عليهم وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ حتى تصلوا إليه هو متولي أفنائكم عنكم فَنِعْمَ الْمَوْلى في إفناء وجودكم وَنِعْمَ النَّصِيرُ في إبقائكم بربكم والله أعلم وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الطيبين الطاهرين وذرياته وسلم تسليما كثيرا دائما أبدا إلى يوم الدين.
تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر وأوله تفسير سورة المؤمنون