تفسير سورة النّور

المنتخب في تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة النور من كتاب المنتخب في تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه المنتخب . المتوفي سنة 2008 هـ
سورة النور مدنية، وآياتها ٦٤، بين الله فيها وجوب تطهير المجتمع من الزنا، وإشاعة الفاحشة بالفعل وبالقول بين المؤمنين، وشرع لذلك عقوبات رادعة، كما شرع في زنى الزوج تشريعا خاصا لتوفر الثقة بين الزوجين. واستطرد الحديث في الزنا إلي ذكر الكذب في هذه الواقف، وما يجب علي المؤمنين إزاء قولة السوء التي يعوزها الدليل، ويتبع بآداب دخول البيوت، ومن له حق الإطلاع علي زينة المرأة، ويردف بعد الحكم بالدعوة العامة إلي العفة المطلقة. ثم يأتي نور الله، وتذكر المساجد، وتعرض أعمال الكافرين، وأحوال المعاندين، وبجانبهم تظهر أحوال المؤمنين. وبعد ذلك تعرض السورة آداب الأسر، وأصحاب القرابات والأطفال والكبار في شأن المخالطة، ومن يحق للمرء أن يأكل علي موائدهم وفي ختامها ذكرت أوصاف المؤمنين إذا دعاهم الرسول لأمر جامع، وبينت كبير سلطانه تعالي وواسع علمه.

١- هذه سورة أوحينا بها وأوجبنا أحكامها. ونزلنا فيها دلائل واضحة علي قدرة الله ووحدانيته. وعلي أن هذا الكتاب من عند الله، لتتعظوا بها.
٢- ومن تلك الأحكام حكم الزانية والزاني فاضربوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا يمنعكم شيء من الرأفة بهما عن تنفيذ الحكم، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر. لأن مقتضى الإيمان إيثار رضا الله علي رضا الناس، ولْيحضر تنفيذ الحكم فيهما جماعة من المؤمنين. ليكون العقاب فيه ردع لغيرهما١.
١ تعليق الخبراء علي الآية ٢ - ٤:
﴿الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تأخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة، والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك، وحرم ذلك علي المؤمنين، والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوا ثمانين جلدة، ولا تقبلوا لهم شهادة أبدا، وأولئك هم الفاسقون﴾: الجرائم في الشريعة الإسلامية هي محظورات زجر الله عنها بحد أو تعزير، وهذه المحظورات تقع إما بارتكاب فعل نهي الشرع عن ارتكابه، أو بترك فعل أمر الشرع بإتيانه. وعلة تحريم هذه المحظورات: أنها اعتداء علي إحدى المصالح المعتبرة في الإسلام، ومصالح الإسلام المعتبرة خمس وهي:
١ – المحافظة علي النفس.
٢ – المحافظة علي الدين.
٣ – المحافظة علي العقل.
٤ – المحافظة علي المال.
المحافظة علي العرض.
فالقتل مثلا اعتداء علي النفس، والردة اعتداء علي الدين، وتعاطي المخدرات اعتداء علي العقل، والسرقة اعتداء علي المال، والزنا اعتداء علي العرض.
وقسم الفقهاء الجرائم إلي تقسيمات عدة تختلف باختلاف وجهات النظر إليها. ويهمنا بصدد التعليق علي هذه الآية التقسيم من حيث جسامة العقوبة وكيفية تقديرها، وهي تنقسم إلي أقسام ثلاثة:
١ – الحدود.
٢ – القصاص أو الدية.
٣ – التعزير.
أما الحدود فهي الجرائم التي تعتبر في حد ذاتها اعتداء علي حق الله، أو يغلب فيها حق الله علي حقوق العباد. ولذلك حددها الله. وحددت عقوبتها بنص في القرآن أو في السنة. أما جرائم القصاص والدية فهي جرائم تغلب فيها حقوق العباد، وتولي الله تحديد عقوبات بعضها بالنص، وترك البعض لتقدير ولي الأمر. ومثلها جرائم الدماء، مثل جريمة القتل وقطع الأطراف والجراح.
أما جرائم التعزير فاكتفي الإسلام فيها بتقرير مجموعة من العقوبات بحديها الأخف والأشد، وترك للوالي اختيار العقوبة في كل جريمة بما يلائم ظروفها وحال الجماعة التي وقعت بها.
جرائم الحدود سبع:
١ – الزنا.
٢ – قذف المحصنات.
٣ – البغي.
٤ – السرقة.
٥ – قطع الطريق.
٦ – شرب الخمر.
٧ – الردة.
وقد حددها الله تعالي وجاء تعدادها جميعا في نصوص القرآن، كما حدد العقوبات عليها القرآن أيضا، عدا عقوبة الزاني المحصن "المتزوج" وهي الرجم، وعقوبة شارب الخمر وهي ثمانون جلدة، وعقوبة الردة وهي القتل، فقد نصت عليها السنة وقد درجت القوانين الوضعية علي الزجر في جريمة الزنا بتوافه العقوبات كالحبس. فشاعت الفاحشة بين الناس، وانتشر الفسق والفجور، وهانت الأعراض، وكثرت الأمراض واختلطت الأنساب. ومن عجب أن الشرائع الحديثة للبلاد المتمدينة تحمي هذه الجرائم، ففي قانون العقوبات الفرنسي مثلا: الزاني والزانية غير المحصنين لا عقوبة عليهما، ماداما قد بلغا سن الرشد، إذ حريتهما الشخصية تقتضي تركهما يفعلان بأنفسهما ما يشاءان. أما الزنا بالنسبة للمحصن من الرجال أو النساء فعقوبته الحبس. وليس للهيئة الاجتماعية متمثلة في النيابة العامة أن تتصدى للجريمة بالتحقيق، إلا بناء علي طلب أحد الزوجين، وترتب علي اعتبار الجريمة واقعة علي حق الزوج وحده أنه إذا بلغ الحادث فله أن يسحب بلاغه، فيقف التحقيق، وله أن يعفو عن زوجته فتخرج من السجن قبل انقضاء العقوبة ولو صار الحكم عليها نهائيا.
ويعيب البعض علي الإسلام التشدد في عقوبة الزنا، وكان أحرى بهم أن يدركوا أنه بقدر تغليظ العقوبة في الإسلام تشدد في طريق الإثبات. فبينما اكتفي في ثبوت جريمة القتل بشهادة شاهدين عدلين، حتم في ثبوت جريمة الزنا شهادة أربعة شهود عدول، رأوا الواقعة رأي العين، أو اعتراف الجاني.
هذا، ونلاحظ أن القرآن الكريم أوجب علانية عقوبة الجلد، لما في ذلك من تشهير بالجاني وتخويف لغيره..

٣- الخبيث الذي من دأبه الزنا، لا يرغب إلا في نكاح خبيثة عرفت الزنا أو الشرك، والخبيثة التي من دأبها الزنا لا يرغب في نكاحها إلا خبيث عرف بالزنا أو الشرك. ولا يليق هذا النكاح بالمؤمنين لما فيه من التشبه بالفسق. والتعرض للتهم.
٤- والذين يتهمون العفيفات النزيهات بالزنا، ثم لم يأتوا بأربعة شهود يثبتون صدق الاتهام، فعاقبوهم بالضرب ثمانين جلدة وبعدم قبول شهادتهم علي أي شيء كان مدى الحياة، فهؤلاء هم الجديرون باسم الخارجين خروجاً شنيعاً على حدود الدين.
٥- لكن من تاب منهم فندم على هذه المعصية، وعزم علي الطاعة وظهر صدق توبته بصدق سلوكه، فإن الله يتجاوز عن عقابه.
٦- والذين يتهمون زوجاتهم بالزنا، ولم يكن هناك عدد يشهد بصدق اتهامهم، فيطالب الواحد منهم ليدفع عن نفسه الحد والعقوبة بأن يشهد بالله أربع مرات أنه صادق في هذا الاتهام.
٧- ويذكر في المرة الخامسة أنه يستحق الطرد من رحمة الله إن كان من الكاذبين في ذلك.
٨- ولو سكتت الزوجة بعد ذلك أقيم عليها عقوبة الزنا، ولكي تدفع عنها العقوبة يجب عليها أن تشهد بالله أربع مرات أن الزوج كاذب في اتهامه إياها بالزنا.
٩- وتذكر في المرة الخامسة أنها تستحق أن ينزل بها غضب الله، إن كان من الصادقين في هذا الاتهام.
١٠- ولولا تفضل الله عليكم ورحمته بكم - وإنه كثير قبول التوبة من عباده، وحكيم في كل أفعاله - لما شرع لكم هذه الأحكام، ولعجل عقوبتكم في الدنيا علي المعصية.
١١- إن الذين اخترعوا الكذب الصارف عن كل هداية بالنسبة لعائشة زوج النبي - صلي الله عليه وسلم - إذ أشاعوا حولها الإفك والكذب - هم جماعة ممن يعيشون معكم، لا تظنوا هذه الحادثة شراً لكم بل هي خير لكم، لأنها ميَّزت المنافقين من المؤمنين الخالصين، وأظهرت كرامة المبرئين منها، والمتألمين، ولكل شخص من هذه الجماعة المتهمة جزاؤه علي مقدار اشتراكه في هذا الاتهام، ورأس هذه الجماعة له عذاب عظيم لعظم جرمه.
١٢- كان مقتضى الإيمان أنكم عند سماع خبر التهمة ؛ أن يظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيراً من العفاف والطهر، وأن يقولوا في إنكار : هذا كذب واضح البطلان، لتعلقه بأكرم المرسلين وأكرم الصديقات.
١٣- هلاَّ أحضر القائمون بالاتهام أربعة شهود يشهدون علي ما قالوا ؟ إنهم لم يفعلوا ذلك. وإذ لم يفعلوا فأولئك في حكم الله هم الكاذبون.
١٤- ولولا تفضل الله عليكم ببيان الأحكام، ورحمته لكم في الدنيا بعدم التعجيل بالعقوبة وفي الآخرة بالمغفرة لنزل بكم عذاب عظيم بسبب الخوض في هذه التهمة.
١٥- فقد تناقلتم الخبر بألسنتكم وأشعتموه بينكم، ولم يكن عندكم علم بصحته، وتظنون أن هذا العمل هين، لا يعاقب الله عليه، أو يكون عقابه يسيراً مع أنه خطير يعاقب الله عليه أشد العقاب.
١٦- وكان ينبغي عند سماع هذا القول الباطل أن تنصحوا بعدم الخوض فيه، لأنه غير لائق بكم، وأن تتعجبوا من اختراع هذا النوع القبيح الخطير من الكذب.
١٧- وأن الله ينهاكم أن تعودوا لمثل هذه المعصية البتَّة إن كنتم مؤمنين حقاً، لأن وصف الإيمان يتنافي معها.
١٨- وينزل الله لكم الآيات الدالة علي الأحكام واضحة جلية. والله واسع العلم لا يغيب عنه شيء من أعمالكم، وهو الحكيم في كل ما يشرع ويخلق، فكل شرعه وخلقه علي مقتضى الحكمة.
١٩- إن الذين يحبون أن يُفْشوا ذكر القبائح، فيفشوا معه القبائح نفسها بين المؤمنين، لهم عذاب مؤلم في الدنيا بالعقوبة المقررة، وفي الآخرة بالنار إن لم يتوبوا. والله عليم بجميع أحوالكم الظاهرة والباطنة، وأنتم لا تعلمون ما يعلمه.
٢٠- ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم، وأنه شديد الرأفة واسع الرحمة، لَما بيّن لكم الأحكام، ولعجَّل عقوبتكم في الدنيا بالمعصية.
٢١- يا أيها الذين آمنوا حصِّنوا أنفسكم بالإيمان، ولا تسيروا وراء الشيطان الذي يجركم إلي إشاعة الفاحشة والمعاصي بينكم. ومن يتبع الشيطان فقد عصى، لأنه يأمر بكبائر الذنوب وقبائح المعاصي، ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم ببيان الأحكام وقبول توبة العصاة ما طهر أحد منكم من دنس العصيان. ولكن الله يطهر من يتجه إلي ذلك بتوفيقه للبعد عن المعصية، أو مغفرتها له بالتوبة، والله سميع لكل قول، عليم بكل شيء، ومجازيكم عليه.
٢٢- ولا يَحّلِف الصالحون وذوو اليسار منكم علي أن يمنعوا إحسانهم ممن يستحقونه من الأقارب والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وغيرهم لسبب من الأسباب الشخصية، كإساءتهم إليهم، ولكن ينبغي أن يسامحوهم ويعرضوا عن مجازاتهم، وإذا كنتم تحبون أن يعفو الله عن سيئاتكم فافعلوا مع المسيء إليكم مثل ما تحبون أن يفعل بكم ربكم، وتأدبوا بأدبه فهو واسع المغفرة والرحمة١.
١ نزلت هذه الآية عندما حلف أبو بكر الصديق أن يمنع معونته عن قريبه مسطح بن أثاثة لخوضه في حديث الإفك حول السيدة عائشة رضي الله عنها..
٢٣- إن الذين يتهمون بالزنا المؤمنات العفيفات الطاهرات، اللاتي لا يظن فيهن ذلك، بل هن لفرط انصرافهن إلي الله غافلات عما يُقال عنهن، يُبعدهم الله عن رحمته في الدنيا والآخرة، ولهم عذاب عظيم إن لم يتوبوا.
٢٤- ذلك العذاب يكون يوم القيامة حيث لا سبيل للإنكار، بل يثبت عليهم ما ارتكبوا إذ تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بجميع ما ارتكبوا من آثام، وذلك بظهور آثار مما عملوه عليها، أو بأن يُنطقها الله الذي أنطق كل شيء.
٢٥- في ذلك اليوم يعاقبهم الله العقاب المقرر لهم كاملاً غير منقوص، وهنا يعلمون علم اليقين أُلوهية الله وأحكام شريعته، وصدق وعده ووعيده، لأن كل ذلك واضح دون خفاء.
٢٦- الخبيثات من النساء يَكُنَّ للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال يكونون للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء يكن للطيبين من الرجال، والطيبون من الرجال يكونون للطيبات من النساء، فكيف يُتصور السوء في الطيبة المصونة زوج الأمين، والرسول الكريم - صلي الله عليه وسلم - وهؤلاء الطيبون مبرَّأون من التهم التي يصفهم بها الخبيثون، ولهم مغفرة من الله علي مما لا يخلو منه البشر من صغار الذنوب، وإكرام عظيم بنعيم الجنة، وطيباتها.
٢٧- يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً ليست لكم إلا بعد أن تطلبوا الإذن من ساكنيها ويسمح لكم بالدخول، وبعد أن تلقوا تحية السلام علي ساكنيها. ذلك الاستئذان والسلام خير لكم من الدخول بدونهما، وشرعه الله لكم لتتعظوا وتعملوا به.
٢٨- فإن لم تجدوا في هذه البيوت أحداً يأذن لكم، فلا تدخلوا حتى يجئ من يسمح لكم به. وإن لم يُسمح لكم وطُلب منكم الرجوع فارجعوا، ولا تلحوا في طلب السماح بالدخول، فإن الرجوع أكرم بكم وأطهر لنفوسكم، والله مطلع علي كل أحوالكم ومجازيكم عليها فلا تخالفوا إرشاداته.
٢٩- وإذا أردتم دخول بيوت عامة غير مسكونة بقوم مخصوصين، ولكم فيها حاجة كالحوانيت والفنادق ودور العبادة فلا حرج عليكم إن دخلتم بدون استئذان، والله عالم أتم العلم بجميع أعمالكم الظاهرة والباطنة فاتقوا مخالفته.
٣٠- قل - يا أيها النبي - للمؤمنين - محذراً لهم مما يوصل إلي الزنا ويعرض للتهم - : إنهم مأمورون ألا ينظروا إلي ما يحرم النظر إليه من عورات النساء ومواطن الزينة منهن، وأن يصونوا فروجهم بسترها وبعدم الاتصال غير المشروع، ذلك الأدب أكرم بهم وأطهر لهم وأبعد عن الوقوع في المعصية والتهم. إن الله عالم أتم العلم بجميع ما يعملون ومجازيهم على ذلك.
٣١- قل أيضاً - يا أيها النبي - للمؤمنات : إنهن مأمورات بكف نظرهن عما يحرم النظر إليه، وأن يَصُنَّ فروجهن بالستر وعدم الاتصال غير المشروع، وألا يُظهرن للرجال ما يغريهم من المحاسن الخلقية والزينة كالصدر والعضد والقلادة، إلا ما يظهر من غير إظهار كالوجه واليد، واطلب منهن - يا أيها النبي - أن يسترن المواضع التي تبدو من فتحات الملابس، كالعنق والصدر، وذلك بأن يسترن عليها أغطية رؤوسهن، وألا يسمحن بظهور محاسنهن، إلا لأزواجهن والأقارب الذين يحرم عليهم التزوج منهن تحريماً مؤبداً كآبائهن أو آباء أزواجهن، أو أبنائهن أو أبناء أزواجهن من غيرهن، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن، ومثل هؤلاء صواحبهن، وسواء منهن الحرائر والمملوكات، والرجال الذين يعيشون معهن، ولا يوجد عندهم الحاجة والميل للنساء كالطاعنين في السن، وكذلك الأطفال الذين لم يبلْغوا حد الشهوة، واطلب منهن أيضاً ألا يفعلن شيئاً يلفت أنظار الرجال إلي ما خفي من الزينة، وذلك كالضرب في الأرض بأرجلهن، ليسمع صوت خلاخيلهن المستترة بالثياب، وتوبوا إلي الله جميعاً - أيها المؤمنون - فيما خالفتم فيه أمر الله، والتزموا آداب الدين لتسعدوا في دنياكم وأخراكم.
٣٢- وأعينوا علي الابتعاد عن الزنا وما يوصل إليه بتزويج من لم يتزوج منْ رجالكم ونسائكم، ومَنْ كان صالحاً من مماليككم كذلك، ولا تكن رقة الحال مانعة من الزواج فإن الله سيهيئ وسائل العيش الكريم لمن أراد إعفاف نفسه، وفضل الله واسع لا يثقله إغناء الناس، هو عالم أتم العلم بالنيات وبكل ما يجرى في الكون.
٣٣- والذين لا يجدون القدرة علي مؤونات الزواج، فعليهم أن يسلكوا وسيلة أخرى كالصوم والرياضة١. والأعمال العقلية، يعفون بها أنفسهم، حتى يهيئ الله لهم من فضله ما يستطيعون به الزواج، والأرقاء الذين يطلبون منكم تعاقداً علي دفع عوض مقابل عتقهم، عليكم أن تجيبوهم إلي ما طلبوا، إنْ علمتم أنهم سيصدقون في الوفاء ويستطيعون الأداء، وعليكم أن تساعدوهم علي الوفاء بما تعاقدوا عليه، وذلك مثلا بتخفيض ما اتفقتم عليه أو إعطائهم بعض المال الذي أنعم الله به عليكم بالزكاة أو الصدقة. ويحرم عليكم أن تجعلوا جواريكم وسيلة للكسب الدنيوي الرخيص باحتراف البغاء وتكرهوهن عليه. كيف تُكرِهُوهُنَّ وهن يردن العفاف ؟ ومن يكرههن عليه فإن الله يغفر لمن يكرهونهن بالتوبة عن الإكراه. لأن الله واسع المغفرة والرحمة.
١ يفسر هذا قول النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة ـ أي مؤونة الزواج ـ فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء..
٣٤- ولقد أنزلنا إليكم في هذه السورة وغيرها آيات واضحة مبينة للأحكام، وأنزلنا إليكم أمثلة من أحوال السابقين. وإرشادات ومواعظ يفيد منها الخائفون من الله.
٣٥- الله مصدر النور في السماوات والأرض، فهو منورهما بكل نور حسي نراه ونسير فيه، وبكل نور معنوي، كنور الحق والعدل، والعلم والفضيلة، والهدى والإيمان، وبالشواهد والآثار التي أودعها مخلوقاته، وبكل ما يدل علي وجود الله ويدعو إلي الإيمان به سبحانه، وَمَثلُ نوره العظيم وأدلته الباهرة في الوضوح، كمثل نور مصباح شديد التوهج، وضع في فجوة من حائط تساعد علي تجميع نوره ووفرة إضاءته، وقد وضع المصباح في قارورة صافية لامعة لمعان كوكب مشرق، يتلألأ كالدر ويستمد المصباح وقوده من زيت شجرة كثيرة البركات، طيبة التربة والموقع، هي شجرة الزيتون المغروسة في مكان معتدل متوسط، فلا هي شرقية فتحرم حرارة الشمس آخر النهار، ولا هي غربية فتحرمها أول النهار، بل هي علي قمة الجبل، أو في فضاء الأرض تفيد من الشمس في جميع أجزاء النهار، يكاد زيت هذه الشجرة لشدة صفائه يضيء، ولو لم تمسسه نار المصباح، فهذه العوامل كلها تزيد المصباح إضاءة فوق إضاءة، ونوراً علي نور.
وهكذا تكون الشواهد المنبثة في الكون حسيها ومعنويها آيات واضحة لا تدع مجالا للشك في وجود الله، وفي وجوب الإيمان به وبرسالاته وما جاءت به. والله يوفق من يشاء إلي الإيمان عن طريقها، إذا حاول الانتفاع بنور عقله. وقد أتى الله بالأمثلة المحسوسة ليسهل إدراك الأمور المعقولة، وهو سبحانه واسع العلم، يعلم من نظر في آياته، ومن أعرض واستكبر، ومجازيهم علي ذلك.
٣٦- إن هناك قوماً يُسبحون الله ويعبدونه في المساجد التي أمر الله أن تبنى وتعظم وتُعمر بذكر الله، وهم يترددون عليها صباحا ومساء.
٣٧- لا تشغلهم الدنيا بما فيها من بيع وشراء عن تذكر الله ومراقبته، فهم يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة خائفين من يوم القيامة الذي لا تستقر فيه القلوب من القلق والهم، وترقب المصير فيه وتلتفت فيه الأنظار في حيرة ودهشة من غرابة المنظر وشدة الهول.
٣٨- وستكون عاقبة عملهم مكافأة الله لهم أحسن مكافأة علي أعمالهم الطيبة، وأن يتفضل عليهم بأكثر مما يستحقون، فهو سبحانه واسع الفضل يعطى من يشاء من عباده الصالحين عطاء كبيرا، لا يحاسبه عليه أحد ولا يستطيع العادُّون إحصاءه.
٣٩- والذين جحدوا وأنكروا يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، وأن أعمالهم الحسنة ستفيدهم يوم القيامة، ولكنهم مخطئون في ظنهم هذا، فمثل أعمالهم في بطلانها وعدم جدواها كمثل اللمعان الذي يحدث من سقوط أشعة الشمس وقت الظهيرة علي أرض مستوية في بيداء، فيظنه العطشان ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً نافعاً كما كان يظنه، كذلك أعمال الكفار يوم الجزاء ستكون هباء منثوراً، وسيجد الكافر عقاب الله ينتظره واقعاً تاماً لا نقص فيه، إن حساب الله آت لا ريب فيه، وهو سبحانه سريع في حسابه لا يبطئ ولا يخطئ١.
١ ﴿والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب﴾: السراب مجرد ظاهرة ضوئية سببها انعكاس الشعاع المنبعث من الأجسام المضيئة، وارتداده من سطح أرض فسيحة جرداء فيتجه الشعاع المنعكس حتى يصل إلي الراصد، وعندها ترى صور الأجسام المضيئة مقلوبة كما لو كانت مرآة كبيرة ممتدة. وكذلك ترى صورة السماء الزرقاء الصافية كأنها بحيرة من الماء علي وجه الأرض، بينما تظهر باقي الأجسام مثل الأشجار والنخيل مقلوبة مؤكدة وجود الماء ظاهريا. وتبدو ظاهرة السراب هذه بأجلي معانيها إذا ما بلغ الفرق بين درجة حرارة سطح الأرض والهواء الملامس له بضع درجات مئوية. وهي تشاهد عادة في الصحاري والمناطق المنبسطة والطرق الصحراوية المستقيمة المعبدة بالأسفلت. ومما سبق يتضح أن السراب مجرد وهم..
٤٠- وهذا مثل آخر لأعمال الكفار، فمثلها كمثل ظلمات البحر الواسع العميق، الذي تتلاطم أمواجه عند هياجه، ويعلو بعضها فوق بعض، ويغطيها سحاب كثيف قاتم يحجب النور عنها، فهذه ظلمات متراكمة، لا يستطيع راكب البحر معها أن يرى يده ولو أدناها إلي بصره، فوقف حائراً مبهوتاً، وكيف يرى شيئاً ويخلص من هذه الحيرة بدون نور يهديه في مسيره ويقيه الارتطام والهلاك ؟ وكذلك الكافرون لا يفيدون من أعمالهم، ولا يخرجون من عمايتهم وضلالهم، ولا ينجون بأنفسهم إلا بنور الإيمان، ومن لم يوفقه الله لنور الإيمان، فليس له نور يهديه إلي الخير ويدله علي الطريق المستقيم، فيكون من الهالكين١.
١ تعليق الخبراء علي الآية ٤٠:
﴿أو كظلمات في بحر لجى يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب، ظلمات بعضها فوق بعض، إذا أخرج يده لم يكد يراها، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور﴾: تجمع هذه الآية الكريمة أهم ظواهر عواصف البحر، فالمعروف عن عواصف البحار العميقة أو المحيطات تنطلق فيها أمواج مختلفة الطول أو السعة أو الارتفاع، بحيث يبدو الموج منطلقا في طبقات بعضها فوق بعض، فيحجب ضياء الشمس، لما تثيره هذه العواصف من سحب ركامية سميكة تحجب بدورها ضوء الشمس ويخيم معها الظلام في سلسلة من عمليات الإعتام التي تصل إلي حد انعدام رؤية الأجسام رغم سلامة النظر. ولما كانت نشأة الرسول ـ صلي الله عليه وسلم ـ في البادية، فإن ورود الدقائق العلمية علي لسانه، وحيا من الله، دليل علي أن القرآن الكريم من عند الله، وعلي أنه معجزة هذا الرسول الكريم..

٤١- ألم تعلم - يا أيها النبي - علماً يقينياً أن الله يخضع له كل من يسكن السماوات والأرض، ويخضع له الطير كذلك، وهي باسطة أجنحتها. فهذه المخلوقات كلها خاضعة لأمر الله وتدبيره تنزهه عن الشريك وعن كل ما لا يليق، وكل منها قد علم بإلهام الله ما وجب عليه من خضوع وتنزيه وأداء لوظيفته في الحياة، والله من ورائهم عالم أتم العلم بصلاة كل مصل وتسبيح كل مسبح، وجميع ما يفعله العباد، فكيف لا يؤمن به الكافرون ؟
٤٢- والله - وحده - هو مالك السماوات والأرض وما فيهن، وصاحب السلطان عليها وكلهم راجع إليه يوم القيامة للحساب والجزاء.
٤٣- ألم تر - أيها النبي - أن الله يسوق بالريح سحاباً، ثم يضم بعضه إلي بعض ويجعله متراكماً، فترى المطر يخرج من خلال السحاب، والله ينزل من مجموعات السحب المتكاثفة التي تشبه الجبال١ في عظمتها برداً، كالحصى ينزل علي قوم فينفعهم أو يضرهم تبعاً لقوانينه وإرادته ولا ينزل علي آخرين كما يريد الله فهو سبحانه الفاعل المختار، ويكاد ضوء البرق الحادث من اصطكاك السحب يذهب بالأبصار لشدته، وهذه الظواهر دلائل قدرة الله الموجبة للإيمان به٢.
١ لا يعرف التشابه بين السحب والجبال إلا من يركب طائرة تعلو به فوق السحاب، فيراها من فوقه كأنها الجبال والآكام، وإذا لم تكن تلك الطائرات في عصر النبي ـ صلي الله عليه وسلم ـ فإنه يكون ذلك دليلا علي أن هذا الكلام من عند الله الذي يعلم ما علا، وما انخفض..
٢ ﴿ألم تر أن الله يزجي سحابا ثم يؤلف بينه ثم يجعله ركاما فترى الودق يخرج من خلاله، وينزل من السماء من جبال فيها من برد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء يكاد سنا برقه يذهب بالأبصار﴾: تسبق هذه الآية الكريمة ركب العلم، فإنها تتناول مراحل تكوين السحب الركامية وخصائصها، وما عرف علميا في العهد الأخير من أن السحب الممطرة تبدأ علي هيئة وحدات يتألف عدد منها في مجموعات هي السحب الركامية: أي السحب التي تنمو في الاتجاه الرأسي، وترتفع قممها إلي علو ١٥ أو ٢٠ كيلو مترا، فتبدو كالجبال الشامخة.
والمعروف علميا أن السحابة الركامية الممطرة تمر بمراحل ثلاث هي:
١ – مرحلة الالتحام والنمو.
٢ – ثم مرحلة الهطول.
٣ – وأخيرا مرحلة الانتهاء.
كما أن هذه السحب هي ـ وحدها ـ التي تجود بالبرد وتشحن بالكهرباء، وقد يتلاحق حدوث البرق في سلسلة تكاد تكون متصلة ٤٠ تفريغا في الدقيقة الواحدة "فيذهب ببصر الراصد من شدة الضياء، وهذا هو عين ما يحدث للملاحين والطيارين الذين يخترقون عواصف الرعد في المناطق الحارة، وينجم عن فقد البصر هذا أضرار بليغة بليغة تشكل خطرا حقيقيا علي أعمال الطيران وسط العواصف الرعدية..

٤٤- يغير الله أحوال الليل والنهار بالطول والقصر، والبدء والانتهاء بدوران الفلك، إن في ذلك كله لعبرة لذوى العقول السليمة المتبصرة، يؤمنون عن طريقها بالله.
٤٥- الله خالق كل شيء، وأبدع الأشياء بإرادته، وخلق كل حي يدب من أصل مشترك هو الماء، لذلك لا يخلو الحي منه، ثم خالف بينها في الأنواع والاستعدادات ووجوه الاختلاف الأخرى، فمن الدواب نوع يزحف علي بطنه كالأسماك والزواحف، ومنها نوع يمشى علي رجليه كالإنسان والطير، ومنها نوع يمشى علي أربع كالبهائم، يخلق الله ما يشاء من خلقه علي أية كيفية تكون للدلالة علي قدرته وعلمه، فهو المريد المختار، وهو القادر علي كل شيء١.
١ تعليق الخبراء علي الآية ٤٥:
﴿والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي علي بطنه ومنهم من يمشي علي رجلين ومنهم من يمشي علي أربع، يخلق ما يشاء، إن الله علي كل شيء قدير﴾: الماء في الآية الكريمة هو ماء التناسل ـ أي المشتمل علي الحيوانات المنوية، والآية الكريمة لم تسبق فقد ركب العلم في بيان نشوء الإنسان من النطفة، كما جاء في قوله تعالي: ﴿فلينظر الإنسان مم خلق، خلق ماء دافق﴾ (الآيات ٥، ٦ من سورة الطارق) بل سبقته كذلك في بيان أن كل دابة تدب في الأرض خلقت كذلك بطريق التناسل من الحيوانات المنوية، وإن اختلفت أشكال هذه الحيوانات المنوية وخصائصها في كل نوع من أنواع هذه الدواب.
ومما تحتمله الآية من معان علمية أن الماء قوام تكوين كل كائن حي، فمثلا يحتوي جسم الإنسان علي نحو: ٧٠ في المائة من وزنه ماء، أي أن الشخص الذي يزن ٧٠ كجم في جسمه نحو ٥٠ كجم ماء. ولم يكن تكوين الجسم واحتوائه هذه الكمية الكبيرة من الماء معروفا مطلقا قبل نزول القرآن. والماء أكثر ضرورة للإنسان من الغذاء، فبينما الإنسان يمكنه أن يعيش ٦٠ يوما بدون غذاء، لا يمكنه أن يعيش بدون الماء إلا من ٣ – ١٠ علي أقصى تقدير.
والماء أساس تكوين الدم والسائل اللمفاوي والسائل النخاعي وإفرازات الجسم كالبول والعرق والدموع واللعاب والصفراء واللبن والمخاط والسوائل الموجودة في المفاصل. وهو سبب رخاوة الجسم وليونته، ولو فقد الجسم ٢٠ في المائة فإن الإنسان يكون معرضا للموت.
والماء يذيب المواد الغذائية بعد هضمها فيمكن امتصاصها، وهو كذلك يذيب الفضلات من عضوية ومعدنية في البول والعرق وهكذا يكون الماء الجزء الأكبر والأهم من تكوين الجسم، ولذلك يمكن القول بأن كل كائن حي مخلوق من الماء..

٤٦- لقد أنزلنا بالوحي آيات واضحات تبين الأحكام والعظات، وتضرب الأمثال، والله يوفق إلي الخير من يشاء من عباده الذين استعدوا للنظر فيها والإفادة منها.
٤٧- والمنافقون يقولون بألسنتهم : آمنا بالله وبالرسول وأطعنا أوامرهما. وعند اختبارهم يعرض فريق منهم عن مشاركة المسلمين في أعمال الخير كالجهاد وغيره، بعد قولهم هذا، وهؤلاء ليسوا بمؤمنين مخلصين، ولا جديرين بإطلاق اسم المؤمنين عليهم.
٤٨- ومن أحوالهم أنهم إذا طلبوا إلي التحاكم أمام الرسول بمقتضى ما أنزل الله، ظهر نفاق بعضهم فرفضوا التحاكم إذا عرفوا أن الحق في جانب خصومهم.
٤٩- أما إذا عرفوا أن الحق في جانبهم، فهم يأتون إلي الرسول مسرعين ليحكم بينهم وبين خصومهم.
٥٠- ولماذا يقفون هذا الموقف من التحاكم أمام الرسول ؟ ألأنَّ نفوسهم مريضة بالعمى فلا تخضع لحكمك الحق، أم لأنهم شكوا في عدالة محمد - صلي الله عليه وسلم - في الحكم ؟ لا شيء من ذلك أصلاً، ولكنهم هم الظالمون لأنفسهم ولغيرهم بسبب كفرهم ونفاقهم وعدولهم عن الحق.
٥١- إنما كان القول الحق للمؤمنين الصادقين إذا دعوا إلي التحاكم بمقتضى ما جاء عن الله ورسوله أن يقولوا قابلين مذعنين : سمعنا دعوتك يا محمد ورضينا حكمك، وهؤلاء يكونون أهل فلاح في دنياهم وأُخراهم.
٥٢- ومن يطع الله، ويرض بما يأمر به الرسول - صلي الله عليه وسلم -، ويخش ذات الله العلية، ويستحضر جلاله ويتق غضبه، فأولئك هم الفائزون برضا الله ومحبته، ونعيم الجنة، والفائزون بالخير المطلق.
٥٣- وأقسم المنافقون بالله أقصى ما يكون من إيمان مغلظة، إنك يا محمد إن أمرتهم بالخروج معك للغزو أطاعوا، قل لهم : لا تحلفوا فالأمور المطلوبة منكم معروفة لكم لا ينكرها أحد منكم، ولا ينفي العلم بها إيمان تكذبون فيها، وإن الله لمطلع تمام الاطلاع علي كل ما يقع منكم ومجازيكم عليه.
٥٤- قل لهم : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول طاعة صادقة تدل عليها أعمالكم، فإن أعرض المنافقون ولم يمتثلوا، فإنما علي محمد ما حمله الله من أمر التبليغ وليس مكلفاً بهدايتهم، وعليكم ما حملكم الله من التكليف والطاعة، وستعاقبون إذا استمررتم علي العصيان، وإن تطيعوا الرسول تهتدوا إلي الخير، وما عليه سوى التبليغ الواضح - أطعتم أم عصيتم - وقد بلغ.
٥٥- وعد الله الذين صدَّقوا بالحق وأذعنوا له منكم، وعملوا الأعمال الصالحة وعداً مؤكداً أن يجعلهم خلفاء لمن سبقوهم وارثين لهم في الحكم والولاية في الأرض، كما كان الشأن فيمن سبقوهم. وأن يمكن لهم الإسلام الذي ارتضاه ديناً لهم، فتكون لهم المهابة والسلطان، وأن يبدل حالهم من خوف إلي أمن بحيث يعبدونني مطمئنين، لا يشركون معي أحداً في العبادة. ومن اختاروا الكفر بعد هذا الوعد الصادق، أو ارتدوا عن الإسلام فأولئك هم الخارجون المتمردون الجاحدون.
٥٦- وأقيموا الصلاة كاملة الأركان في خشوع وخضوع بحيث تكون مانعة من الفحشاء والمنكر، وأعطوا الزكاة لمستحقيها. وأطيعوا الرسول في سائر ما يأمركم به ليكون لكم رجاء في رحمة الله ورضوانه.
٥٧- لا تظن - أيها النبي - أن الكافرين سيعجزون الله عن أخذهم بذنوبهم، أو تمكين أهل الحق من رقابهم في أي مكان من الأرض، بل إنه القادر، فمصيرهم يوم القيامة هو النار وبئس المصير مصيرهم.
٥٨- يا أيها الذين آمنوا، يجب أن تأمروا عبيدكم وصبيانكم الذين لم يصلوا إلي حد البلوغ ألا يدخلوا عليكم إلا بعد الاستئذان في ثلاثة أوقات، وهي : قبل صلاة الفجر١، وحين تتخففون من ثيابكم وقت القيلولة، ومن بعد صلاة العشاء عند الاستعداد للنوم. فهذه الأوقات يتغير فيها نظام اللبس باستبدال ثياب النوم بثياب اليقظة، ويبدو من عورات الجسم ما لا ينبغي رؤيته، ولا حرج عليكم ولا عليهم في الدخول بغير استئذان في غير هذه الأوقات، لأن العادة جرت بأن يتردد فيها بعضكم علي بعض لقضاء المصالح. وبمثل هذا التوضيح يوضح الله لكم آيات القرآن لبيان الأحكام، والله سبحانه واسع العلم عظيم الحكمة، يعلم ما يصلح لعباده ويشرع لهم ما يناسبهم ويحاسبهم عليه.
١ ﴿يا أيها الذين آمنوا ليستأذنكم الذين ملكت أيمانكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات من قبل صلاة الفجر، وحين تضعون ثيابكم من الظهيرة، ومن بعد صلاة العشاء، ثلاث عورات لكم ليس عليكم ولا عليهم جناح بعدهن، طوافون عليكم بعضكم علي بعض، كذلك يبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم﴾: هذه الآية الشريفة إحدى الآيات التي توجه أنظار الناس إلي اللياقة الاجتماعية في محيط الأسرة، وذلك أن اندماج المماليك ـ الخدم ـ والصبيان في أسرهم، قد يتجاوز بهم الاحتشام في المخالطة، فيدخلون علي الغير دون استئذان في الأوقات المذكورة في الآية.
ونظرا لأنها أوقات خلوة وحرية شخصية وتحلل من لباس الحشمة، عنيت الآية بتشريع الاستئذان في تلك الأوقات بالنسبة لمن ذكرتهم من المماليك والصبيان، حتى لا يطلعوا علي ما يعتبر سرا لا يستساغ اطلاعهم عليه، إذ هو كالعورة التي ينبغي سترها، وفي هذا توجيه لأعضاء الأسرة إلي اتخاذ الملابس اللائقة بمقابلة بعضهم البعض، حتى تظل كرامتهم مصونة، وحريتهم مكفولة وآدابهم مرعية، والقرآن بهذه التوجيهات التي تنهض بأخلاقنا إلي المستوى الرفيع..

٥٩- وإذا وصل صبيانكم حد البلوغ وجب عليهم أن يستأذنوا للدخول في كل بيت، وفي جميع الأوقات، كما وجب ذلك علي الذين بلغوا من قبلهم، وبمثل هذا التوضيح يوضح الله لكم آياته التي أنزلها، والله سبحانه واسع العلم، عظيم الحكمة، يعلم ما يصلح لعباده ويشرِّع لهم ما يناسبهم ويحاسبهم عليه.
٦٠- والنساء الطاعنات في السن اللاتي لا يطمعن في الزواج، لا مؤاخذة عليهن إذا تخففن من بعض الملابس، بحيث تكون غير مظهرات زينة أمر الله بإخفائها من أجسامهن، ولكن استعفافهن بالاستتار الكامل خير لهن من التخفف، والله سميع لقولهن عليم بفعلهن وقصدهن ومجازيهن علي ذلك.
٦١- ليس علي أصحاب الأعذار كالأعمى والأعرج والمريض حرج، بل ولا عليكم أيها الأصحاء حرج في أن تأكلوا من بيوت أولادكم فهي بيوتكم، ولا أن تأكلوا من بيوت آبائكم أو أمهاتكم أو إخوانكم أو أخواتكم أو بيوت أعمامكم أو عماتكم أو أخوالكم أو خالاتكم، أو البيوت التي وكل إليكم التصرف فيها، أو بيوت أصدقائكم المخالطين إذا لم يكن فيها حرمات، وذلك كله إذا عُلِم سماح رب البيت بإذن أو قرينة، وليس عليكم جناح في أن تأكلوا مجتمعين أو منفردين، فإذا دخلتم بيوتاً فحيوا بالسلام أهلها الذين هم قطعة منكم بسبب اتحاد الدين أو القرابة فهم كأنفسكم، وهذه التحية تحية مشروعة مباركة بالثواب وفيها تطييب للنفوس وعلي هذا النحو يوضح الله لكم الآيات لتعقلوا ما فيها من العظات والأحكام وتفهموها وتعملوا بها.
٦٢- إن المؤمنين الصادقين هم الذين آمنوا بالله ورسوله، ولم يتركوا الرسول وحده في أمر مهم يتطلب اجتماعهم كالجهاد، إلا بعد أن يستأذنوه في الانصراف ويسمح لهم به، إن الذين يقدرونك - أيها النبي - حق قدرك، ويدركون خطر الاجتماع فلا ينصرفون إلا بعد موافقتك، وهم الصادقون في إيمانهم بالله ورسوله، فإذا استأذنك هؤلاء لقضاء بعض مصالحهم فأذن بالانصراف لمن تشاء منهم، إذا رأيت من الدلائل أنهم في حاجة ماسة إلي الانصراف، ولا يحتم الاجتماع وجودهم، ومع ذلك اطلب المغفرة لهم من الله علي انصرافهم الذي ما كان يليق أبداً، إن الله واسع المغفرة والرحمة.
٦٣- احرصوا علي احترام دعوة الرسول لكم إلي الاجتماع للأمور الهامة، واستجيبوا لها، ولا تجعلوها كدعوة بعضكم لبعض في جواز التهاون فيها، والانصراف عنها، ولا تنصرفوا إلا بعد الاستئذان والموافقة، وفي أضيق الحدود وأشد الضرورات. فالله سبحانه يعلم من ينصرفون بدون إذن مختفين بين الجموع حتى لا يراهم الرسول، فليحذر المخالفون عن أمر الله أن يعاقبهم سبحانه علي عصيانهم بمحنة شديدة في الدنيا كالقحط والزلزال، أو بعذاب شديد الإيلام قد أعد لهم في الآخرة وهو النار.
٦٤- تنبهوا - أيها الناس - إلي أن الله - وحده - هو مالك السماوات والأرض وما فيها، يعلم ما أنتم عليه من الكفر والإسلام والعصيان والطاعة، فلا تخالفوا عن أمره، وسيخبر الناس عند رجوعهم إليه يوم القيامة بكل ما عملوا في الدنيا وسيجازيهم عليه، لأنه محيط بكل شيء علماً.
Icon