ﰡ
قوله تعالى: ﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُون﴾.
أمر الله نبيّه والمؤمنين بمكة بالصَّبر على كُفْرِ المشركين، ثم نسخَ ذلكفأَمرَهُم في المدينة بقَتْلِهِم وقِتالهم في براءة وغيرها.
قوله تعالى: ﴿فَطَفِقَ مسْحاً بِالسُّوقِ والأَعْنَاق﴾.
مَنْ قال: إنَّ سليمانَ - عليه السلام - قطعَ أعناقَ الخيل التي شَغَلَتْهُ عنالصَّلاة وسوقَها، قال: هو منسوخٌ بتحريم السُّنَّةِ لذلك وبالإِجماع على منعقتلِ البهائم إذ لا بِرَّ فيه.
قال أبو محمد: وهذا لا يحسنُ فيه النَّسخ لأنه خبرٌ عَمَّا فعلَسليمان، فإن صَحَّ ذلك فهي شريعةٌ كانت (ثم) نَسَخَتْها شريعةُ(الإِسلام) فَمنعَ ذلك.
قال الحسن: قطع (سوقَها وأَعناقَها) فعوَّضَه الله ما هو خيرٌ منها، فسخَّر له الريحَ.
وعن ابن عباس: أَن سليمانَ إنما طَفِقَ (يمسحُ بيدِه أعناقَها وسوقَها)حُبَّاً لها، فهذا لا "يجوز أن" يكون فيه نسخٌ البتَّةَ - على هذا القول -. وهوقولٌ حسنٌ مِن التأويل لأن فيه النَّفْيَ عن نبي الله سليمان أن يكونَ عاقبَ(بهيمةً بالقتل) لا ذنبَ لها (وفي شغله بها) حتى فاتَتْهُ صلاةُ العصر.
قولُه تعالى: ﴿وخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرِبْ بِه وَلاَ تَحْنَثْ﴾:
قال قومٌ: هذا الفعلُ (في) كَفَّارَةِ اليمين منسوخٌ بشريعة الإِسلام، (ولا يجزىء من حلفَ) أن يضربَ أحداً مائةَ ضربةٍ أن يضربه ضربةً واحدةًبمائةِ قضيبٍ (لأن البِرَّ) لا يكونُ إلاَّ بغاية (الأفعال وأتمها) والحنث: يقع بأقل الأفعال احتياطاً للدِّين واتباعاً لفِعْلِ السلف - رضي الله عنهم -، وهذا مذهبُ مالكٍ وأصحابهِ وعليه أَدِلَّةٌ مِن الكتاب والسُّنَّة، ليس هذاموضعَ ذكرِها.
وقيل: هو حُكْمٌ خُصَّ به أَيّوبُ - عليه السلام - قاله مجاهد وغيرُه. وهذا مذهبُ مالكٍ وغيره من أهل المدينة.
وجعله الشافعيُّ محكماً عامّاً معمولاً به - وهو قول عطاء - وأجاز في الرجل يحلف: ليضربنّ عبدَه عشرَ ضرَبات، أن يضربَه ضربةً واحدةً بعشرِقضبان ويبرأ، جعلَ الآيةَ محكمةً غيرَ منسوخةٍ ولا مخصوصة.
وهذا مذهب يَدلُّ على أن شريعةَ من (كان) قبلَنا لازمةٌ لنا حتىنُنقَل عنها بنص، وهذا مذهبٌ يتناقضُ لأَنَّ شرائعَ مَنْ كانَ قبلَنا مختلفةٌ فيكثيرٍ مِن أَحكامِها ومن هيآتها وَرُتَبِها وأعدادِها وغيرِ ذلك من تحريمٍوتحليلٍ بدلالة قوله: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شرْعةً ومنهاجاً﴾ [المائدة: ٤٨] وإذا كانتمختلفةً في التَّحْريم والتَّحْليل، فكيفَ نَقْدِرُ على (تحريم) شيءٍ وتحليلِهفي حالٍ، وأيضاً فإذا كانت شرائعُ الأنبياء قبلَنا مختلفةً في العبادةِ والهيأة(والتَّحْريمِ والتَّحليل)، فبأيِّ شريعةٍ من شرائِعهم ندين، وما الذي يجبُعلينا منها، إذ لا نقدرُ على العَمَلِ بشرائعِهِم كُلِّها لاختلافِها، فأَما قولُهتعالى: ﴿فِبِهُداهُمُ اقْتَدِه﴾ [الأنعام: ٩٠] فإنما ذلك في الإِيمان بالله ورُسُلِهوملائكتِه وكتبِه، وما لا يختلفون فيه مِن الدِّين فهو الذي يلزمُنا الاقتداءُ بهمن أمرهم، وهو المراد بذلك؛ إذ غير جائز أن يكون المراد بشرائعهماقْتَدِه؛ إذ لا يُقْدَرُ على ذلك لاختلاف شرائعِهِم.
فإن ادَّعى مُدَّعٍ أن هذا الذي بَرَّ به أَيُّوبُ يمينَه، إجماعٌ من شرائعالأنبياء، فيلزمُنا فِعْلُه، سُئِلَ عن الدَّليل على ذلك، ولا يَجدُ إليه سبيلاًأبداً. وقد تقدَّمَ ذِكْرُ بَعْضِ هذا وزدناه بياناً في هذا الموضع. ولهذه المعانيكتابٌ تذكر فيه مشروحةً مع نظائرِها من الأصول التي هي عُمْدَةُ الدِّين. وقد اختلاف في هذا أصحابُ مالك:
فَمِنْهُم مَن قال: مذهبُهُ العملُ بشرائع مَنْ كانَ قبلَنا؛ إذ قد احْتَجَّبقولِه تعالى: ﴿وكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ - الآية -.
ومِنْهُم مَنْ قال: ليس ذلك مَذْهَبَهُ؛ لأنه لم يُجِزْ فعلَ ما برَّ به أَيوبُيمينه.
وأكثرُ النَّاسِ على أَنَّ مِلَّةَ إبراهيمَ - صلى الله عليه وسلم - لازمٌ لنا اتباعُها، لقوله: واتَّبِعوا ﴿مِلَّة أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ﴾ - صلى الله عليه وسلم -.
والذي عليه أكثرُ أَصحابِ مالك: أن ما نصَّ اللهُ علينا من شرائعمَنْ كانَ قبلَنا ولم ينسخْهُ قرآن ولا سُنَّةٌ، ولا افترضَ علينا ضدّه، فالعملُ بهواجبٌ، نحو قوله: ﴿وكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا﴾ - الآية -.
وقد اعْتُرِض على هذا القول بِقِصَّةِ أيوبٍ في تبرئةِ يمينه بِضَرْبَةٍ واحدةٍفيها مائةُ قضيب، ولا يقولُ به مالك، واعْتُرِضَ بالأحكام التي في تزويجِموسى إحدى المرأتين، ولا يقول بذلك مالكٌ وعن هذا كُلِّهِ أجوبةٌ يطولُذكرُها سنذكُرُها في غيرِ هذا الكتابِ - إن شاءَ الله -.