تفسير سورة الفتح

اللباب
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب اللباب في علوم الكتاب المعروف بـاللباب .
لمؤلفه ابن عادل الحنبلي . المتوفي سنة 775 هـ
سورة الفتح
مدنية١. وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وستون كلمة وألفان وأربعمائة وثمانية وثلاثون حرفا.
روى زيد بن أسلم عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه قال عمر : فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت٢ أن سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسل الله صلى الله عليه وسلم فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت٣ علي الليلة سورة ليس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ :﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ﴾ وروى أنس قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم إنا فتحنا لك. . . إلى آخر الآية مرجعه٤ من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال : نزلت٥ علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا فلما تلاها نبي الله صلى الله عليه وسلم قال رجل من القوم : هنيئا مريئا قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا ؟ فأنزل الله :﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار ﴾ حتى ختم الآية.
١ بإجماع انظر القرطبي ١٦/٢٥٩..
٢ أي ما لبثت وما تعلقت بشيء..
٣ في القرطبي وأ هنا أنزلت وفي ب أنزل..
٤ كذا في الروايات وهي منصوبة على نزع الخافض أي عند مرجعه..
٥ في ب نزل..

روى زيد بن أسلم عن ابن عمر عن عمر بن الخطاب أنه كان يسير مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في بعض أسفاره فسأله عمر عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه قال عمر: فحركت بعيري حتى تقدمت أمام الناس وخشيت أن يكون نزل في قرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي فجئت رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فسلمت عليه فقال: لقد أنزلت علي الليلة سورة ليس أحب إلي مما طلعت عليه الشمس، ثم قرأ: " إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر " وروى أنس قال: نزلت على النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنا فتحنا لك... إلى آخر الآية مرجعه من الحديبية وأصحابه مخالطو الحزن والكآبة فقال: نزلت علي آية هي أحب إلي من الدنيا جميعا فلما تلاها نبي الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال رجل من القوم: هنيئا مريئا قد بين الله لك ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟ فأنزل الله: ﴿ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ حتى ختم الآية. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ اختلفوا في هذا الفتح فروى أنس أنه فتح مكة وقال مجاهد: فتح خيبر. والأكثرون على أنه فتح الحديبية، وقيل: فتح الروم. وقيل: فتح الإسلام بالحُجَّة والبُرْهَان والسَّيْفِ والسِّنان. وقيل: الفتح الحكم لقوله
474
تعالى: ﴿افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق﴾ [الأعراف: ٨٩] وقوله: ﴿ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق﴾ [سبأ: ٢٦]. فمن قال: هو فتح مكة قال: لأنه مناسب لآخر السورة التي قبلها من وجوه:
أحدهما: أنه تعالى لما قال: ﴿هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله﴾ إلى أن قال: ﴿وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ﴾ وبين تعالى أنه فَتَحَ لهم مكة، وغَنِموا ديراهم، وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا؛ ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم.
وثانيها: لما قال: «واللهُ مَعكُمْ» وقال: «وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ» بين برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلون.
وثالثها: لما قال تعالى: ﴿فَلاَ تَهِنُواْ وتدعوا إِلَى السلم﴾ وكان معناه لا تسألوا الفتح بل اصبروا فإنكم تسألون الصلح كما كان يوم الحديبية فكان المراد فتح مكة حيث أتوا صَنَادِيدَ قُرَيْشٍ مستأمنين ومؤمنين ومسلمين ومستسلمين.
فإن قيل: إن كان المراد فتح مكة فمكة لم تكن فتحت فكيف قال: فتحنا بلفظ الماضي؟
فالجواب من وجهين:
أحدهما: فتحنا في حُكْمِنا وتَقْدِيرِنا.
والثاني: ما قدره الله تعالى فهنو كائن فأخبر بصيغة الماضي إشارة إلى أنه أمرٌ واقعٌ لا دَافِعَ له.
وأما حجة رأي الأَكْثرِين على أنه صلح الحديبية فلِمَا رَوَى البراء قال: تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ونحن نَعُدُّ الفتحَ بيعةَ الرضوان يوم الحديبية كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَرْبَعَ عَشْرَةَ مائةً والحديبيةُ بئرٌ فَنَزَحَنَاهَا فلم تنزل قَطْرَةٌ فبلغ ذلك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتاها فجلس على شفيرها فدعا بإناءٍ من ماءٍ فتوضأ ثم تَمَضْمَضَ ودعا وَصبَّهُ فيها فتركناها غير بعيد. ثم إنها أَصْدَرَتْنَا ما شئنا نحن وركابنا. قال الشعبي في قوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ قال: فتح الحديبية غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وأطعموا نَخْل خيبر، وبلغ الهديْ مَحِلّه وظهرت الروم على الفرس ففرح المؤمنون بظهر أهل الكتاب على المَجُوسِ. قال الزهري: ولم يكن فتح أعظمُ من صُلْحِ الحُدْيبِيَةِ، وذلك أن
475
المشركين اختلطوا بالمسلمين فسمعوا كلامهم فتمكن الإسلام في قلوبهم وأسلم في ثلاثِ سنين خلق كثير وكثر سَواَدٌ الإسلام، قال المفسرون: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ أي قضينا لك قَضَاءً بَيِّناً.
قوله: ﴿لِّيَغْفِرَ لَكَ الله﴾ متعلق «بِفَتَحْنَا» وهي لام العلة. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ:
فإن قلتَ: كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة؟
قلتُ: لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز كأنه قال: يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن، وإعراض العاجل والآجل.
ويجوز أن (يكون) فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب. وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكمون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول: كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة؟ ثم يقول: لم يجعل مُعَلَّلاً؟
وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين: آخرين؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال: إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ، والنُّصْرَةَ به عَمَت: الثاني: أن فتح مكة كان سبباً لتظهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتظهير بيته صار سبباً لتظهير عبده. الثالث: أن الفتح سبب الحِجَج، والبحَجِّ تحصل المغفرة كما ال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحج «اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً».
الرابع: المراد منه التعريف تقديره: إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم. وقال ابن عطية: المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة. وهذا كلام ماش على الظاهر، وقال بعضهم: إنَّ هذه اللام لام القَسَم والأصل: لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام «كي»، وحذفت النون. وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر، وبأنها لا تنصب المضارع.
476
وقد يقال: إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ.

فصل


لم يكن للنبي صلى لله عليه وسلم ذنب فما يغفر له؟ فقيبل: المراد ذنب المؤمنين. وقيل: المراد ترك الأفْضل. وقيل: الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد. قال ابن الخطيب: وهي تصونهم عن العُجْبِ. وقيل: المراد بالمغفرة العِصْمة. ومعنى قوله: «وَمَا تَأَخَّر» قيل: إنه وعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة. وقيل: ما تقدم على الفتح.
وقيل: هو للعموم، يقال: اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم. وقيل: من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالفعو وما بعدها بالعصمة. وفيه وجوه أُخر ساقطة. قال ابن الخطيب: منها قول بعضهم: ما تقدم من أمر «مَارِيَةَ» «وَمَا تَأَخَّر» من أمر «زَيْنَبَ» وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ.
قوله: ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ قيل: إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ وهو آخر التكاليف والتكاليف نعمة وقيل: يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عدوٌّ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح.
وقيل: ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة، وأما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة: بِقبول شفاعتك.

فصل


قال الضحاك: إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال، كان الصلح من الفتح. فإنْ كانت اللام في قوله: «لِيَغْفِرَ» لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح. وقال الحسن بن الفضل: هو مردود إلى قوله: «واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار».
وقال محمد بن جرير: هو راجع إلى قوله: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا﴾ [النصر: ١٣] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة «وما تأخر» إلى وقت نزول هذه السورة.
وقيل: ما تأخر ممايكون. وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال سُفْيَانُ
477
الثَّوْرِيّ: «ما تقدم» مما عملت في الجاهلية «وما تأخر» كل شيء لم تعمله كما تقدم.
وقال عطاء الخراساني: ﴿مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ﴾ يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك، «وَمَا تَأَخَرَ» ذنوب أمتك بدعوتك. ﴿وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ﴾ بالنبوة والحكمة.
قوله: ﴿صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ قيل: يهدي بك. وقيل: يُديمك على الصراط المستقيم، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده (و) العادجلة والآجلة. وقيل: المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم. ثم قال: ﴿وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً﴾ غالباً. وقيل: مُعِزًّا؛ لأن بالفتح ظهر النصر.
فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف النَّصْر بكونه عزيزاً من له النصر!
فالجواب من وجهين:
أحدهما: قال الزمخشري: إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة:
الأول: معناه نصراً ذا عزة، كقوله: ﴿فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ [الحاقة: ٢١] أي ذَاتِ رِضاً.
الثاني: وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال لَهُ كَلاَمٌ صَادِقُ كما يقال له متكلم صادق.
الثالث: المراد نصراً عزيزاً صَاحِبُهُ.
الوجه الثاني: أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشريُّ إذا قلنا: العزة هي الغلبة والعزيز الغالب. وأما إذا قلنا: العزيز هو النفيس القليل النظير، أو المحتاج إليه القليل الوجود، يقال: عَزَّ الشَّيْءُ في سُوقِ كَذَا أي قَلَّ وُجُودُهُ مع أنه مُحْتَاحٌ إليه، فالنصرُ كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المقيمين فيه من غير عَدَ ولا عُدَدٍ.

فصل في البحث المعنوي


وهو أن الله تعالى لما قال: ﴿لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ﴾ أبرز الفاعل وهو
478
الله، ثم عطف عليه بقوله: «ويُتِمّ» وبقوله: «ويَهْدِيكَ» ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل، ولا يظهر فيما بعد تقول: «جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ وَتَكَلََّمَ وَرَاحَ وَقَامَ» ولا تقول جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ زَيْدٌ، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَد، اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأوّل، وههنا لم يثقل: «وَيَنْصُرَكَ نَصْراً» بل أعاد لفظ الله وجوابه هذا إرشاد إلَى طريق النَّصر ولهذا قَلَّمَا ذَكَرَ الله النَّصْرَ من غير إضافة فقال تعالى:
﴿وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ﴾ [الحج: ٤٠] ولم يقل: بالنَّصْر يُنْصَرُ وقال: ﴿هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ﴾ [الأنفال: ٦٢] ولم يقل: أيدك بالنصر، وقال: ﴿إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح﴾ وقال: ﴿نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ﴾ [الصف: ١٣]، وقثال: ﴿وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله﴾ [آل عمران: ١٢٦]، وهذا أدل الآيات على مطلوبها.
وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى: ﴿وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله﴾ [النحل: ١٢٧] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله (تعالى) كما قال تعالى: ﴿أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب﴾ فلما قال ههنا: «وَيَنْصُركَ اللهُ» أ؟ هر لفظ الله، ليُعْلَمَ أن بذكر الله اطمئنان القلب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر.

فصل


قال: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ﴾ ثم قال: ﴿لَكَ الله﴾، ولم يقل: «إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ» تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى: ﴿إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً﴾ [الزمر: ٥٣] وقال: ﴿وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ﴾ [النساء: ١١٦] فإن قلنا: المراد من المغفرة في حق النبي صلى الله عليه سولم فكذلك لم يختص به نبينا، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى: ﴿اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي﴾ [المائدة: ٣] وقال تعالى: ﴿يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ [البقرة: ٤٧ و١٢٢] وكذلك الهداية قال تعالى: ﴿يَهْدِي الله﴾ [النور: ٣٥] وكذلك النصر، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون﴾ [الصافات: ١٧١١٧٢] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي صلى لله عليه ونسلم فعظَّمه بقوله: ﴿إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً﴾ وفيه التعظيم من وجهين:
أحدهما: قوله: «إنَّا»
والثاني: قوله: «لَكَ» أي لأجلك على وجه المِنَّةِ.
479
قوله :﴿ لِّيَغْفِرَ لَكَ الله ﴾ متعلق «بِفَتَحْنَا » وهي لام العلة. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ :
فإن قلتَ : كيف جعل فتح مكة علَّةً للمغفرة ؟
قلتُ : لَمْ تُجْعل علة للمغفرة ولكن لما عدد من الأمور الأربعة وهي المغفرة، وِإتمام النعمة وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز كأنه قال : يَسَّرْنَا لَكَ فَتْح مكة، ونَصَرْنَاك على عدوك ليجمع لك بين عِزِّ الدَّارَيْن، وإعراض العاجل والآجل.
ويجوز أن ( يكون )١ فتح مكة من حيث إنَّهُ جهادٌ للعدو سبَباً للغُفْران والثواب٢. وهذا الذي قاله مخالف لظاهر الآية، فإن اللام داخلة على المغفرة فتكون المغفرة علة للفتح والفتح معلَّلٌ بها فكان ينبغي أن يقول : كيف جعل فتح مكة معلَّلاً بالمغفرة ؟ ثم يقول : لم يجعل مُعَلَّلاً ؟
وقال ابن الخطيب في جواب هذا السؤال وجهين : آخرين ؛ فقال بعد أن حكى الأول وقال : إنَّ اجتماع الأربعة لم يثبت إلاَّ بالفتح فإنَّ النعمةَ به تَمَّتْ، والنُّصْرَةَ به عَمَت : الثاني : أن فتح مكة كان سبباً لتطهير بيت الله من رِجْز الأوثان وتطهير بيته صار سبباً لتطهير عبده. الثالث : أن الفتح سبب الحِجَج، وبالحَجِّ٣ تحصل المغفرة كما قال عليه الصلاة والسلام في الحج «اللَّهُمّ اجْعَلْهُ حَجًّا مَبْرُوراً وَسَعْياً مَشْكُوراً وَذَنْباً مَغْفُوراً ».
الرابع : المراد منه التعريف تقديره : إنَّا فتحنا لك لِتَعْرفَ أنك مغفور لك معصوم٤. وقال ابن عطية : المراد هنا أن الله فتح لك لِكَيْ٥ يجعل الفتح علامة لَغُفْرَانِهِ لك فكأنها لام صيرورة٦. وهذا كلام ماش على الظاهر، وقال بعضهم : إنَّ هذه اللام لام القَسَم٧ والأصل : لَيَغْفِرَنَّ فكسرت اللام تشبيهاً بلام «كي »، وحذفت النون. وَرُدَّ هذا بِأن اللام لا تكسر، وبأنها لا تنصب المضارع٨.
وقد يقال : إنَّ هذا ليس بنصب وإنما هو بقاءُ الفتح الذي كان قبل نون التوكيد بَقِيَ ليدل عليها ولكنه قول مردودٌ.

فصل


لم يكن للنبي صلى لله عليه وسلم ذنب فما يغفر له ؟ فقيل : المراد ذنب المؤمنين. وقيل : المراد ترك الأفْضل. وقيل : الصغائر فإنها جائزة على الأنبياء بالسهو والعَمْد. قال ابن الخطيب : وهي تصونهم عن العُجْبِ. وقيل : المراد بالمغفرة العِصْمة. ومعنى قوله :«وَمَا تَأَخَّر » قيل : إنه وعد النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لا يذنب بعد النُّبُوَّة. وقيل : ما تقدم على الفتح.
وقيل : هو للعموم، يقال : اضْرِبْ مَنْ لَقِيتَ وَمَنْ لاَ تَلْقَاهُ مع أن من لا تلقاه لا يمكن ضربه إشارة إلى العموم. وقيل : من قبل النبوة وبعدها ومعناه ما قبل النبوة بالعفو وما بعدها بالعصمة. وفيه وجوه أُخر ساقطة. قال ابن الخطيب : منها قول بعضهم : ما تقدم من أمر «مَارِيَةَ »٩ «وَمَا تَأَخَّر » من أمر «زَيْنَبَ »١٠ وهو أبعد الوجوه وأَسْقَطُهَا لعدم الْتِئَامِ الكَلاَمِ.
قوله :﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ قيل : إنَّ التكاليفَ عند الفتح تَمْتْ حيث وَجَب الحَجُّ وهو آخر التكاليف والتكليف نعمة وقيل : يتم نعمته عليك بإخلاء الأرض من مُعَانِدِيكَ، فإنَّ مِنْ يوم الفتح لم يبق للنبي صلى الله عليه وسلم عدوٌّ، فإن بعضهم قُتِلَ يوم بدر، والباقون آمنوا واستأمنوا يوم الفتح١١.
وقيل : ويتم نعمته عليك في الدنيا والآخرة، وأما في الدنيا باستجابة دعائك في طلب الفتح، وفي الآخرة : بِقبول شفاعتك.

فصل


قال الضحاك : إنَّا فتحنا لك فتحناً مبيناً بغير قتال، كان الصلح من الفتح. فإنْ كانت١٢ اللام في قوله :«لِيَغْفِرَ » لام كي فمعناه إنَّا فَتَحْنَا لك فتحاً مبيناً لكي يجتمع لك مع المغفرة تَمَامُ النعمة في الفتح. وقال الحسن بن الفضل : هو مردود إلى قوله :«واسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلمُؤْمِنِينَ وَالمُؤمِنَاتِ ليغفر الله لك ما تقدم من ذنبك، وما تأخر، وليُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جناتٍ تجري من تحتها الأنهار ».
وقال محمد بن جرير : هو راجع إلى قوله :﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّابَا ﴾ [ النصر : ١٣ ] ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك في الجاهلية قبل الرسالة «وما تأخر » إلى وقت نزول هذه السورة.
وقيل : ما تأخر مما يكون. وهذا على طريق من يجوز الصغائر على الأنبياء. وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيّ :«ما تقدم » مما عملت في الجاهلية «وما تأخر » كل شيء لم تعمله كما تقدم.
وقال عطاء الخراساني :﴿ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ ﴾ يعني ذنب أبويك آدَمَ وحوّاء ببركتك، «وَمَا تَأَخَرَ » ذنوب أمتك بدعوتك. ﴿ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ ﴾ بالنبوة والحكمة١٣.
قوله :﴿ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ قيل : يهدي بك. وقيل : يُديمك على الصراط المستقيم١٤، وقيل جعل الفتح سبب الهداية إلى الصراط المستقيم لأنه سهل على المؤمنين الجهاد لعلمهم بفوائده ( و )١٥ العاجلة والآجلة. وقيل : المراد التعريف، أي لتعرف أنك على صراط مستقيم١٦.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قال :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ ثم قال :﴿ لَكَ الله ﴾، ولم يقل :«إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ» تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] وقال :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ١١٦ ] فإن قلنا : المراد من المغفرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك لم يختص به نبينا، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقال تعالى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٧ و١٢٢ ] وكذلك الهداية قال تعالى :﴿ يَهْدِي الله ﴾ [ النور : ٣٥ ] وكذلك النصر، قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ﴾ [ الصافات : ١٧١ -١٧٢ ] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي صلى لله عليه ونسلم فعظَّمه بقوله :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ وفيه التعظيم من وجهين :
أحدهما : قوله :«إنَّا»
والثاني : قوله :«لَكَ» أي لأجلك على وجه المِنَّةِ.


١ كذا في الزمخشري وقد سقطت من ب..
٢ وانظر الكشاف ٣/٥٤١..
٣ في ب وبالحجج جمع حجة..
٤ بالمعنى من تفسير الإمام الرازي ٢٨/٧٨..
٥ في ب لكن تحريف..
٦ البحر المحيط ٨/٩٠ وهي ما تسمى بلام العاقبة وهذه اللام أنكرها البصريون ومن تابعهم كالزمخشري الذي قال: إنها لام العلة وأن التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون الحقيقة. انظر المغني ٢١٤ بتصرف..
٧ نقل القرطبي في الجامع أنه أبو حاتم السجستاني..
٨ ولو جاز هذا لجاز: ليقوم زيد بتأويل: ليقومن زيد. وانظر السابق والبحر المحيط ٨/٩٠ أقول: وهذا مما لم يحفظ في لسانهم..
٩ القبطية..
١٠ بنت جحش..
١١ الرازي ٢٨/٧٨..
١٢ في ب فإن قلت..
١٣ ذكر هذه الآراء القرطبي في الجامع ١٦/٢٦٢ و٢٦٣..
١٤ هذا رأي الرازي في تفسيره ٢٨/٧٨..
١٥ زيادة لا معنى لها من أ..
١٦ ذكرهما أيا الرازي في مرجعه السابق..
ثم قال :﴿ وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً ﴾ غالباً. وقيل : مُعِزًّا ؛ لأن بالفتح ظهر١ النصر٢.
فإن قيل : إنَّ الله تعالى وصف النَّصْر بكونه عزيزاً والعزيز من له النصر !
فالجواب من وجهين :
أحدهما : قال الزمخشري : إنه يحتمل وجوهاً ثلاثة :
الأول : معناه نصراً ذا عزة، كقوله :﴿ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي ذَاتِ رِضاً.
الثاني : وصف النصر بما يوصف به المنصور إسناداً مجازياً يقال لَهُ كَلاَمٌ صَادِقُ كما يقال له متكلم صادق.
الثالث : المراد نصراً عزيزاً صَاحِبُهُ٣.
الوجه الثاني : أن يقال إنما يلزم ما ذكره الزمخشريُّ إذا قلنا : العزة هي الغلبة والعزيز الغالب. وأما إذا قلنا : العزيز هو النفيس القليل النظير، أو المحتاج إليه القليل الوجود، يقال : عَزَّ الشَّيْءُ في سُوقِ كَذَا أي قَلَّ وُجُودُهُ مع أنه مُحْتَاج إليه، فالنصرُ كان محتاجاً إليه ومثله لم يوجد وهو أخذ بيت الله من الكفار المقيمين٤ فيه من غير عَددَ ولا عُدَدٍ٥.

فصل في البحث المعنوي


وهو أن الله تعالى لما قال :﴿ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ ﴾ أبرز الفاعل وهو الله، ثم عطف عليه بقوله :«ويُتِمّ » وبقوله :«ويَهْدِيكَ » ولم يذكر لفظ الله على الوجه الحسن في الكلام وهو أن الأفعال الكثيرة إذا صدرت من فاعل يظهر اسمه في الفعل، ولا يظهر فيما بعد تقول :«جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ وَتَكَلََّمَ وَرَاحَ وَقَامَ » ولا تقول جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَدَ زَيْدٌ، بَلْ جَاءَ زَيْدٌ وَقَعَد، اختصاراً للكلام بالاقتصار على الأوّل، وههنا لم يقل :«وَيَنْصُرَكَ نَصْراً » بل أعاد لفظ الله وجوابه هذا إرشاد إلَى طريق النَّصر ولهذا قَلَّمَا ذَكَرَ الله النَّصْرَ من غير إضافة فقال تعالى :﴿ وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ ﴾ [ الحج : ٤٠ ] ولم يقل : بالنَّصْر يُنْصَرُ وقال :﴿ هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ ﴾ [ الأنفال : ٦٢ ] ولم يقل : أيدك بالنصر، وقال :﴿ إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح ﴾ وقال :﴿ نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ ﴾ [ الصف : ١٣ ]، وقال :﴿ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله ﴾ [ آل عمران : ١٢٦ ]، وهذا أدل الآيات على مطلوبها. وتحقيقه هو أن النصر بالصبر والصبر بالله قال تعالى :﴿ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله ﴾ [ النحل : ١٢٧ ] وذلك لأن الصبر سكون القلب واطمئنانه وذلك بذكر الله ( تعالى )٦ كما قال تعالى :﴿ أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب ﴾ [ الرعد : ٢٨ ] فلما قال ههنا :«وَيَنْصُركَ اللهُ » أظهر لفظ الله، ليُعْلَمَ أن بذكر الله اطمئنان القلب وبه يحصل الصبر وبه يتحقق النصر.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:فصل
قال :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ ﴾ ثم قال :﴿ لَكَ الله ﴾، ولم يقل :«إنَّا فَتَحْنَا لِيَغْفِرَ لَكَ» تعظيماً لأمر الفتح وذلك لان المغفرة وإن كانت عظيمة لكنها عامة لقوله تعالى :﴿ إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً ﴾ [ الزمر : ٥٣ ] وقال :﴿ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ ﴾ [ النساء : ١١٦ ] فإن قلنا : المراد من المغفرة في حق النبي صلى الله عليه وسلم فكذلك لم يختص به نبينا، بل غيره من الرسل كان معصوماً وإتمام النعمة كذلك قال تعالى :﴿ اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ﴾ [ المائدة : ٣ ] وقال تعالى :﴿ يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ [ البقرة : ٤٧ و١٢٢ ] وكذلك الهداية قال تعالى :﴿ يَهْدِي الله ﴾ [ النور : ٣٥ ] وكذلك النصر، قال الله تعالى :﴿ وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون ﴾ [ الصافات : ١٧١ -١٧٢ ] وأما الفتح فلم يبق لأحد غير النبي صلى لله عليه ونسلم فعظَّمه بقوله :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً ﴾ وفيه التعظيم من وجهين :
أحدهما : قوله :«إنَّا»
والثاني : قوله :«لَكَ» أي لأجلك على وجه المِنَّةِ.


١ في ب حصل..
٢ قاله الرازي أيضا في مرجعه السابق..
٣ بلفظ الرازي ٢٨/٧٩ وبمعنى كلام الزمخشري فقد قال: "نصرا عزيزا فيه عز ومنعة، أو وصف بصفة المنصور إسنادا مجازيا، أو عزيزا صاحبة" الكشاف ٣/٥٤١..
٤ في الرازي المقيمين..
٥ مع تغيير طفيف في عبارة الرازي. وانظر التفسير الكبير ٢٨/٧٨ و٧٩..
٦ زيادة من أ..
قوله تعالى: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين﴾ لما قال تعالى: ﴿وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً﴾ [الفتح: ٣] بين وجه النصر، وذلك أن الله تعالى قد ينصر رسله بصحيةٍ يهْلِكُ بها أعداؤُهُمْ، أو رَجْفَةٍ يُحْكَمُ فيها عليهم بالفَنَاءِ، أو بشيءٍ يْرْسِلُهُ مِن السَّمَاء، أو يصبر وقوة وثبات قلبٍ يرزق المؤمنين ليكون لهم بذلك الثواب الجزيل، فقال: ﴿هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة﴾ أي تحقيقاً للنصر. والمراد بالسكينة قيل: السكون، وقيل: الوَقَار لله. وقيل: اليقين. قال أكثر المفسرين: هذه السكينة غير السكينة المذكورة في قوله تعالى: ﴿يَأْتِيَكُمُ التابوت فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [البقرة: ٢٤٨]. ويحتمل أن تكون هي تلك؛ لأن المقصود منها على جميع الوجوه اليقين وثبات القلب.

فصل


قال الله تعالى (في حق الكفار) ﴿وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب﴾ [الأحزاب: ٢٦] [الحشر: ٤٣] بلفظ القذف المُزعِج وقال في حق المؤمنين: ﴿أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين﴾ بلفظ الإنزال المثبت.
وفيه معنى حكميّ وهو أن من علم شيئاً من قبل ويذكره استدام بذكره، فإذا وقع لا يَتَغَيَّر ومن كان غافلاً عن شيء فيقع رفعه فإنه يَرْجُفُ فؤاده، ألا ترى أن من أخبر بوقوع صَيْحَةٍ، وقيل (له) لا تنزعج منها فوقعت الصيحة لا يَرْتَجِفُ ومنل م يخبر به أو أخبر وغفل عنه يرتجف إذا وقعت. كذلك الكافر أَتَاهُ الله من حيث لم يحتسب وقذف في قلبه الرُّعْبَ، فارْتَجَفَ، والمؤمن أُتِيَ من حيث كان يذكر فسكن، فلا تزعج نفوسهم لما يرد عليهم. قال ابن عباس: كل سكينة في القرآن فهي طمأنِينَةٌ إلاَّ التي في سورة البقرة.
480
قوله: ﴿إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾، قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) بَعث الله رسوله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشهادة أن لا إله إلا الله، فلما صدقوا زادهم الصلاة، ثم الزكامة، ثم الصِّيام، ثم الحجّ، ثم الجِهَاد حتى أكمل لهم دينهم وكُلَّمَا أُمِرُوا بشيء فصدقوه ازدادوا تصديقاً إلى تصديقهم. وقال الضحاك: يقيناً مع يقينهم، وقيل: أنزل السكينة عليهم فَصَبَرُوا ورأوْا عَيْنَ القين ما علموا النصر علم اليقين إيماناً بالغيب فازدادوا إيماناً مُسْتَفَاداً من الغيب مع إيمانهم المستفادِ من الشهادة. وقيل: ازدادوا إيماناً بالفروع مع إيمانهم بالأصول فإنهم آمنوا بأن محمداً رسولُ الله، فإن الله واحدٌ، والحَشْرَ كائنٌ فآمنوا بأن كُلَّ ما يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو صدق، وكُلَّ ما يأمر الله تعالى به فهو واجب.
وقيل: ازدادوا إيماناً استدلاليًّا مع إيمانهم الفطري.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في حق الكفار: ﴿إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً﴾ [آل عمران: ١٧٨] ولم يقل مع كفرهم وقال في حق المؤمنين: ﴿اإِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ ؟
فالجواب: أن كفر الكافر عِنَادِيّ، وليس في الوجود كُقْرٌ فِطْريّ، ولا في الوجود كفر عِنَادِيّ لينضمَّ إلَى الكفر الفطري بل الكفر ليس إلا عناداً وكذلك الكفر بالفروع لا يقال: انضم إلى الكفر بالأصول، لأن من ضرورة الكفر بالأصول الكفر بالفروع وليس من ضرورة الإيمان بالأصول الإيمان بالفروع بمعنى الطاعهة والانقياد، ولهذا قال: ﴿اإِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾.
قوله: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ فهو قادر على أهلاك عَدُوِّهم بجنود، بل بصيحة ولم يفعل بل أنزل السكينة على المؤمنين ليكون إهلاك أعدائه بأديهيم فيكون لهم الثواب. والمراد بجنود السموات والأرض الملائكة، وقيل: جنود السموات الملائكة وجنود الأرض الجنُّ والحَيَوَانَاتُ. وقيل: الأسباب السماوية.
﴿وَكَانَ الله عَلِيماً﴾ لما قال: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ وعددهم غير محصور فقال «عَليماً: إشارة إلى أنه لا يعزب عنه مثقال ذرّة في السموات ولا في الأرض. وقيل: لما ذكر القلوب بقوله: ﴿أَنزَلَ السكينة فِي قُلُوبِ المؤمنين﴾ والإيمان الذي من عَمَلِ القُلُوب ذكر العلم إشارة إلى أنه يَعْلَمُ السِّرََّ وأخفى. وقوله» حكيماً «بعد» عليماً «إشارة إلى أنه يفعل على وَفْق العلم، فإن الحكيم من يعمل شيئاً متقناً وبعلمه.
قوله تعالى: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين﴾ في متعلق هذه اللام أربعة أوجه:
أحدهما: محذوف تقديره: يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخبر ممن أهَّلَهُ له والشَّرَّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب.
481
الثاني: أنها متعلقة بقوله:» إِنَّا فَتَحْنَا «لأنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هنيئاً لك إن الله غَفَر لك فما بالنا؟ فنزلت الآية فكأنه تعالى قال: إنا فتحنا لك ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليُدْخِلَهُمْ جناتٍ.
الثالث: أنها متعلقة ب»
يَنْصُرَكَ «كأنه تعالى قال: وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنات.
الرابع: أنها متعلقة ب»
يَزْدَادُوا «واستشكل هذا بأن قوله:» ويعذب «عطف عليه وازديادهم الإيمان ليس سبباً عن تعذيب الله الكفار. وأجيبَ: بأن اعتقادهم أن الله يعذب الكفار يزيد في إيمانهم لا محالة.
وقال أبو حيان: والازْدِيَادُ لا يكون سبباً لتعذيب الكفار. وأجيب: بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن كأنه قيل: بسبب ازدِيَادِكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا. وفيه نظر لأنه كان ينبغي أن يقول: لا يكون مسبَّباً عن تعذيب الكفار وهذا يشبه ما تقدم في قوله:»
لِيَغْفِرْ لَكَ اللهُ «.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين آخرين:
أحدهما: (تقديره) ويعذب نَقِيضَ ما لكم من الازْدِياد، يقال: فعلت لأخبر به العدوَّ والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو، فكذا ههنا ليزداد المؤمن إيماناً يُدْخِلُهُ الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه (به).
وثانيهما: أن بسبب زيادة إيمان المؤمن يَكْثُرُ صَبْرُهُمْ وثباتهم ويتعب المنافق والكافر معه ويتعذب.
ثم ذَكَرَ وجوهاً أخر في تعلق الجار منها: أن الجار يتعلق بقوله:»
حَكِيماً «كأنه تعالى قال: وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ لأن الله حكيم فَعَلَ ما فَعَلَ ليدخل المؤمنين.
ومنها: أن يتعلق بقوله: «ويتم نِعْمَتَهُ عليك»
فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العُقْبَى ليدخل المؤمنين جنات. ومنها: أن يتعلق بأمر مفهوم من قرينة الحال وهو الأمر بالقتال لأنه لما ذكر الفتح والنصر علم أن الحالَ حالُ القِتَال، فكأنه تعالى قال: إنَّ الله تعالى أَمَرَ
482
بالقتال ليدخل المؤمنين، أو عرف من قرينة الحال أَنَّ الله اختار المؤمنين (فكأنه تعالى قال: اختار المؤمنين) ليدخلهم جنات.
فإن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون﴾ [المؤمنون: ١] وقوله: وَبَشِّرِ الْموْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ (مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) ؟
فالجواب: أنه في المواضع التي فيها ما يُوهم اخْتِصَاصَ المؤمنين بالخير الموعود به مع مُشَارَكَةِ المؤمنات لهم ذَكَرَهُنَّ الله صريحاً وفي المواضع التي فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهن في المؤمنين كقوله: «وبشر المؤمنين» مع أنه علم من قوله تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً﴾ [سبأ: ٢٨] العموم، فلا يوهم خروج المؤمنين عن البشارة. وأما ههنا فلما كان قوله تعالى: ﴿لِّيُدْخِلَ المؤمنين﴾ متعلّقاً بفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه، أو النصرة (بالمؤمنين) أو الفتح بأيديهم على ما تقدم.
فَإدْخَالُ المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تُقَاتِلُ فلا تدخل الجَنَّةَ الموعدَ بها فصرح الله بِذكرِهِنَّ، وكذا في قوله تعالى: ﴿إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات﴾ [الأحزاب: ٣٥] ؛ لأن الموضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله: ﴿وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ... وَآتِينَ... وَأَطِعْنَ... واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ﴾ [الأحزاب: ٣٣٣٤] فكان ذكر النساء هنا (ك) أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأمر العظيم ذكرهم وذكرهن بفلظ مفرد من غير تبعية لما بينا (أنَّ الأصل ذكرهن في ذلك الموضع).
قوله: ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ فيه سؤال وهو أن تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعد ذكر الإدخال؟ والجواب من وجهين:
أحدهما: أن الواو لا تقتضي التريتب.
والثاني: أن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة.
قوله: ﴿ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ «عِنْدَا اللهِ» متعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْزاً» لأنه صفته في الأصل. وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً لمَكَان. وفيه خلاف. وأن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الفوز، أي يفوزون عند الله ولا يتعلق «
483
بفَوْزاً» ؛ لأنه مصدر فلا يتقدم معموله عليه. من اغتفر ذلك في الظرف جوزه. قال ابن الخطيب: معناه أن ذلك الإدخال والتكفير في علم الله فوز عظيم يقال: عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي.
قوله تعالى: ﴿وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات... ﴾ الآية.
اعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع لأمور:
أحدها: أنهم كانواأ شد على المؤمنين من الكافر المجاهر؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه بإيمانه وكان يفشي أسراره. وإلى هذا أشار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله «اَعْدَى عَدُوكَ نَفْسُكَ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ» ولهذا قال الشاعر:
٤٤٨٩ - احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّة... وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّهْ
فَلَرُبَّمَا (انْقَلَبَ) الصَّدِيقُ... عَدُوًّا وَكَان أَعْلَمَ بِالْمَضَرَّهْ
وثانيها: أن المنافق كان يظن أن يتخلص بالمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلبه يعذبه فلهذا أول ما أخبر الله عن المنافق.
قوله: ﴿الظآنين بالله﴾ صفة للفريقين. وتقدم الخلاف في السَّوءِ في التَّوبْة. وقرأ الحسن السُّوءِ بالضم فيهما.

فصل


قال المفسرون: ظن السوء هو أن ينصر محمداً والمؤمنين. وقال ابن الخطيب: هذا الظن يحتمل وجوهاً:
أحدها: هو الظن الذي ذكره الله بقوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول﴾ [الفتح: ١٢].
وثانيها: ظن المشركين بالله في الإشراك كقوله تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ
484
سَمَّيْتُمُوهَآ} إلى أن قال: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً﴾ [النجم: ٢٣ ٢٨].
وثالثها: ظننتم أ، الله لا يرى ولا يعلم كما قال تعالى: ﴿ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [فصلت: ٢٢].
قال: والأول أصح أو يقال: المراد جميع ظنونهم كما قال: ﴿ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ﴾ [ص: ٢٧]. ويؤيد ذلك دخول الألاف واللام في السَّوْء. وفي السَّوءِ وجُوهٌ:
أحدها: وهو اختيار المحققين من الأدباء: أن السَّوْسَ عبارة عن الفساد والصِّدق عبارة عن الصلاح، يقال: مررت برجل سَوءٍ أي فاسد، وسكنت عند رجل صِدْق، أي صالح وهو قول الخليل، والزَّجَّاج واختاره الزَّمخشريّ.
(وتحقيق هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال: ساء مِزَاجُهُ (و) ساء خُلُقُه (و) سَاءَ ظَنَّه، كما يقال: فسدَ اللحمُ وفسد الهواء بل كلُّ ما ساء فقد فسد، وكلّ؟ ما فَسدَ فقد سَاءَ غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال تعالى: ﴿ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر﴾ [الروم: ٣٠] وقال: ﴿سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ [التوبة: ٩] و [المجادلة: ١٥] و [المنافقون: ٢].
قوله: ﴿عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء﴾ أي دائرة الفساد يعني حاق بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ﴾ زيادة على التعذيب «وَلعنَهُمْ» أي الغضب يكون شديداً ﴿وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ﴾ في العُقْبَى ﴿وَسَآءَتْ مَصِيراً﴾ أي جهنم.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض﴾ تقدم تفسيره. وفائدة الإعادة أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، أو جنود الله أنزلهم قد يكون إنزالهم للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولاً لبيان الرحمة بالمؤمنين كما قال: ﴿وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً﴾ [الأحزاب: ٤٣] وثانياً: لبيان إنزال العذاب بالنافقين والمشركين.
وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد
485
جهنم؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله: ﴿وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ﴾ ثم يقربهم زلفى بقوله: ﴿وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً﴾ وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيعبدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى: ﴿عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله﴾ [التحريم: ٦] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا: ﴿وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ﴾ وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنو وهم (الملائكة) ملائكة العذاب آخراً.
486
قوله تعالى :﴿ لِّيُدْخِلَ المؤمنين ﴾ في متعلق هذه اللام أربعة أوجه :
أحدهما : محذوف تقديره : يبتلي بتلك الجنود من شاء فيقبل الخبر ممن أهَّلَهُ له والشَّرَّ ممن قضى له به ليدخل ويعذب.
الثاني : أنها متعلقة بقوله :«إِنَّا فَتَحْنَا »١ لأنه روي أن المؤمنين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم هنيئاً لك إن الله غَفَر لك فما بالنا ؟ فنزلت الآية فكأنه تعالى قال : إنا فتحنا لك ليغفر لك وفتحنا للمؤمنين ليُدْخِلَهُمْ جناتٍ.
الثالث : أنها متعلقة ب «يَنْصُرَكَ » كأنه تعالى قال : وينصرك الله بالمؤمنين ليدخل المؤمنين جنات.
الرابع : أنها متعلقة ب «يَزْدَادُوا »٢ واستشكل هذا بأن قوله :«ويعذب » عطف عليه وازديادهم الإيمان ليس سبباً عن تعذيب الله الكفار. وأجيبَ : بأن اعتقادهم أن الله يعذب الكفار يزيد في إيمانهم لا محالة.
وقال أبو حيان : والازْدِيَادُ لا يكون سبباً لتعذيب الكفار٣. وأجيب : بأنه ذكر لكونه مقصوداً للمؤمن كأنه قيل : بسبب ازدِيَادِكم في الإيمان يدخلكم الجنة ويعذب الكفار بأيديكم في الدنيا٤. وفيه نظر لأنه كان ينبغي أن يقول : لا يكون مسبَّباً عن تعذيب الكفار وهذا يشبه ما تقدم في قوله :«لِيَغْفِرْ لَكَ اللهُ »٥.
وأجاب ابن الخطيب بوجهين آخرين :
أحدهما :( تقديره )٦ ويعذب نَقِيضَ ما لكم من الازْدِياد، يقال : فعلت لأخبر به العدوَّ والصديق أي لأعرف بوجوده الصديق وبعدمه العدو، فكذا ههنا ليزداد المؤمن إيماناً يُدْخِلُهُ الجنة ويزداد الكافر كفراً فيعذبه ( به )٧.
وثانيهما : أن بسبب زيادة إيمان المؤمن يَكْثُرُ صَبْرُهُمْ٨ وثباتهم ويتعب المنافق والكافر معه ويتعذب٩.
ثم ذَكَرَ وجوهاً أخر في تعلق الجار منها : أن الجار يتعلق بقوله :» حَكِيماً «كأنه تعالى قال : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ لأن الله حكيم فَعَلَ ما فَعَلَ ليدخل المؤمنين.
ومنها : أن يتعلق بقوله :«ويتم نِعْمَتَهُ عليك » فيستجيب دعاءك في الدنيا ويقبل شفاعتك في العُقْبَى ليدخل المؤمنين جنات. ومنها : أن يتعلق بأمر مفهوم من قرينة الحال وهو الأمر بالقتال لأنه لما ذكر الفتح والنصر علم أن الحالَ حالُ القِتَال، فكأنه تعالى قال : إنَّ الله تعالى أَمَرَ بالقتال ليدخل المؤمنين، أو عرف من قرينة الحال أَنَّ الله اختار المؤمنين ( فكأنه تعالى١٠ قال : اختار المؤمنين ) ليدخلهم جنات١١.
فإن قيل : ما الحكمة في أنه تعالى ذكر في بعض المواضع المؤمنين والمؤمنات وفي بعضها اكتفى بذكر المؤمنين ودخلت المؤمنات فيهم كقوله تعالى :﴿ قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون ﴾ [ المؤمنون : ١ ] وقوله : وَبَشِّرِ الْمؤْمِنينَ بِأَنَّ لَهُمْ ( مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً ) ؟
فالجواب : أنه في المواضع التي فيها ما يُوهم اخْتِصَاصَ المؤمنين بالخير الموعود به مع مُشَارَكَةِ المؤمنات لهم ذَكَرَهُنَّ الله صريحاً وفي المواضع التي فيها ما يوهم ذلك اكتفى بدخولهن في المؤمنين كقوله :«وبشر المؤمنين » مع أنه علم من قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً ﴾ [ سبأ : ٢٨ ] العموم، فلا يوهم خروج المؤمنين عن البشارة. وأما ههنا فلما كان قوله تعالى :﴿ لِّيُدْخِلَ المؤمنين ﴾ متعلّقاً بفعل سابق وهو إما الأمر بالقتال أو الصبر فيه، أو النصرة ( بالمؤمنين )١٢ أو الفتح بأيديهم على ما تقدم.
فَإدْخَالُ المؤمنين كان للقتال والمرأة لا تُقَاتِلُ فلا تدخل الجَنَّةَ الموعدَ بها فصرح الله بِذكرِهِنَّ، وكذا في قوله تعالى :﴿ إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ﴾ [ الأحزاب : ٣٥ ] ؛ لأن الموضع ذكر النساء وأحوالهن لقوله :﴿ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى وَأَقِمْنَ. . . وَآتِينَ. . . وَأَطِعْنَ. . . واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ ﴾ [ الأحزاب : ٣٣-٣٤ ] فكان ذكر النساء هنا ( ك )١٣ أصلاً لكن الرجال لما كان لهم ما للنساء من الأمر العظيم ذكرهم وذكرهن بلفظ مفرد من غير تبعية لما بينا ( أنَّ الأصل ذكرهن في ذلك الموضع )١٤.
قوله :﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ فيه سؤال وهو أن تكفير السيئات قبل الإدخال فكيف ذكره بعد ذكر الإدخال ؟ والجواب من وجهين :
أحدهما : أن الواو لا تقتضي التريتب.
والثاني : أن تكفير السيئات والمغفرة من توابع كون المكلف من أهل الجنة فقدم الإدخال في الذكر بمعنى أنه من أهل الجنة١٥.
قوله :﴿ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً ﴾ «عِنْدَا اللهِ » متعلق بمحذوف على أنه حال من «فَوْزاً » لأنه صفته في الأصل١٦. وجوز أبو البقاء أن يكون ظرفاً لمَكَان١٧. وفيه خلاف. وأن يكون ظرفاً لمحذوف دل عليه الفوز، أي يفوزون عند الله ولا يتعلق «بفَوْزاً » ؛ لأنه مصدر فلا يتقدم معموله عليه. من اغتفر ذلك في الظرف جوزه١٨. قال ابن الخطيب : معناه أن ذلك الإدخال والتكفير في علم الله فوز عظيم يقال : عندي هذا الأمر على هذا الوجه أي في اعتقادي١٩.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد جهنم ؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله :﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ ثم يقربهم زلفى بقوله :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً ﴾ وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيبعدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله ﴾ [ التحريم : ٦ ] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا :﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنود وهم ( الملائكة ) ملائكة العذاب آخراً.

١ ذكره أبو حيان في البحر المحيط ٨/٩٠ نقلا عن الرازي ٢٨/٨٢..
٢ المرجع السابق أيضا وقد ذكر الوجه السابق له أيضا أبو حيان الذي لم يرتض الأقوال الثلاثة الأخيرة قائلا: "وهذه الأقوال فيها بعد"..
٣ البحر المحيط ٨/٩٠..
٤ السابق أيضا..
٥ من إشكال الزمخشري المتقدم..
٦ سقط من نسخة ب..
٧ زيادة من الرازي رحمه الله تعالى..
٨ كذا في أ وفي ب بكبر. وفي الرازي: بكثرة..
٩ وانظر الرازي ٢٨/٨٢..
١٠ ما بين القوسين زيادة من أ وسقوط من ب بسبب انتقال النظر..
١١ بالمعنى من تفسير علامتنا الإمام الرازي ٢٨/٨٢..
١٢ زيادة من أ..
١٣ زيادة من أ. ففي ب هنا فقط..
١٤ زيادة من الرازي لتوضيح السياق..
١٥ انظر في هذا كله تفسير الإمام ٢٨/٨٢ و٨٣..
١٦ قدم وصار حالا. انظر التبيان ١١٦٥..
١٧ أي لمكان الفوز أو لما دل عليه الفوز..
١٨ المرجع السابق..
١٩ تفسير الإمام ٢٨/٨٣ وقرر الرازي وجها غريبا وصفه بالغرابة كأنه مشى مع أبي البقاء قال: "وهو أن يجعل "عند الله" كالوصف لذلك كأنه تعالى يقول: ذلك عند اله أي بشرط أن يكون عند الله تعالى يوصف عند الله فوز عظيم". انظر الرازي السابق..
قوله تعالى :﴿ وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات. . . ﴾ الآية.
اعلم أنه قدم المنافقين على المشركين في كثير من المواضع لأمور :
أحدها : أنهم كانوا أشد على المؤمنين من الكافر المجاهر ؛ لأن المؤمن كان يتوقى المشرك المجاهر ويخالط المنافق لظنه بإيمانه وكان يفشي أسراره. وإلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله «أعْدَى عَدُوكَ نَفْسُكَ الَّذِي بَيْنَ جَنْبَيْكَ » ولهذا قال الشاعر :
٤٤٨٩ احْذَرْ عَدُوَّكَ مَرَّة وَاحْذَرْ صَدِيقَكَ أَلْفَ مَرَّهْ
فَلَرُبَّمَا ( انْقَلَبَ )١ الصَّدِيقُ عَدُوًّا وَكَان أَعْلَمَ بِالْمَضَرَّهْ٢
وثانيها : أن المنافق كان يظن أن يتخلص بالمخادعة والكافر لا يقطع بأن المؤمن إن غلبه يعذبه٣ فلهذا أول ما أخبر الله عن المنافق.
قوله :﴿ الظآنين بالله ﴾ صفة للفريقين. وتقدم الخلاف في السَّوءِ في التَّوبْة٤. وقرأ الحسن السُّوءِ بالضم فيهما.

فصل


قال المفسرون : ظن السوء هو أن ينصر محمداً والمؤمنين. وقال ابن الخطيب : هذا الظن يحتمل وجوهاً :
أحدها : هو الظن الذي ذكره الله بقوله :﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول ﴾ [ الفتح : ١٢ ].
وثانيها : ظن المشركين بالله في الإشراك كقوله تعالى :﴿ إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ ﴾ إلى أن قال :﴿ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً ﴾ [ النجم : ٢٣ - ٢٨ ].
وثالثها : ظننتم أن الله لا يرى ولا يعلم كما قال تعالى :﴿ ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٢ ].
قال : والأول أصح أو يقال : المراد جميع ظنونهم كما قال :﴿ ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ ﴾ [ ص : ٢٧ ]. ويؤيد ذلك دخول الألف واللام في السَّوْء. وفي السَّوءِ وجُوهٌ :
أحدها : وهو اختيار المحققين من الأدباء : أن السَّوْء عبارة عن الفساد والصِّدق عبارة عن الصلاح، يقال : مررت برجل سَوءٍ أي فاسد، وسكنت عند٥ رجل صِدْق، أي صالح وهو قول الخليل٦، والزَّجَّاج٧ واختاره الزَّمخشريّ٨.
( وتحقيق٩ هذا أن السوء في المعاني كالفساد في الأجساد يقال : ساء مِزَاجُهُ ( و ) ساء خُلُقُه ( و )١٠ سَاءَ ظَنَّه، كما يقال : فسدَ اللحمُ وفسد الهواء بل كلُّ ما ساء فقد فسد، وكلّ ما فَسدَ فقد سَاءَ غير أن أحدهما كثير الاستعمال في المعاني والآخر في الأجرام قال تعالى :﴿ ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر ﴾ [ الروم : ٣٠ ] وقال :﴿ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾١١ [ التوبة : ٩ ] و [ المجادلة : ١٥ ] و [ المنافقون : ٢ ].
قوله :﴿ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء ﴾ أي دائرة الفساد يعني حاق بهم العذاب بحيث لا يخرجون منه ﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ ﴾ زيادة على التعذيب «وَلعنَهُمْ » أي الغضب يكون شديداً ﴿ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ﴾ في العُقْبَى ﴿ وَسَآءَتْ مَصِيراً ﴾ أي جهنم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد جهنم ؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله :﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ ثم يقربهم زلفى بقوله :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً ﴾ وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيبعدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله ﴾ [ التحريم : ٦ ] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا :﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنود وهم ( الملائكة ) ملائكة العذاب آخراً.

١ سقط من أ الأصل..
٢ يبدون أنه من البحور المهملة أو حكمة من الحكم فلم أعرف على أي بحر هو..
٣ كذا في النسختين وفي الرازي: يفديه..
٤ من الآية ٩٨ من التوبة ﴿عليهم دائرة السوء والله سميع عليم﴾ والسوء بالفتح هو ذم للدائرة فهو نقيض: صدق، والسوء بالضم العذاب والسوء مصدر سؤته أسوؤه سوءا. وأما السوء فاسم الفعل. والسوء بالفتح أفشى في القراءة وأكثر..
٥ في الرازي: سئلت عن الرجل..
٦ انظر الرازي والقرطبي ٢٨/٨٤ و١٦/٢٦٥..
٧ قال في معاني القرآن وإعرابه ٥/٢١: "أي الفساد والهلاك يقع بهم"..
٨ قال في الكشاف ٣/٥٤٢: "والسوء الهلاك والدمار"..
٩ ما بين القوسين كله ـ وهو من كلام الإمام الرازي ـ سقط من نسخة ب..
١٠ الواوان ساقطتان من أ وعن الرازي..
١١ وانظر الرازي السابق ومعاني الفراء ٣/٦٥ قال: "وقوله: دائرة السوء قولك: رجل السوء، ودائرة السوء العذاب. والسوء أفشى في اللغة وأكثر وقلما تقول العرب: دائرة السوء"..
قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض ﴾ تقدم تفسيره. وفائدة الإعادة أن لله جنود الرحمة وجنود العذاب، أو جنود الله أنزلهم قد يكون إنزالهم للرحمة وقد يكون للعذاب فذكرهم أولاً لبيان الرحمة بالمؤمنين كما قال :﴿ وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً ﴾ [ الأحزاب : ٤٣ ] وثانياً : لبيان إنزال العذاب بالنافقين والمشركين.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وفي الأول ذكر الجنود قبل إِدْخَال الجنَّة وذَكرهم هنا بعد تعذيب الكفار وإعداد جهنم ؛ لأن الله تعالى يُنَزِّل جنودَ الرحمة ليدخل المؤمن معظماً مكرماً الجنة، ثم يلبسهم خُلع الكرامة بقوله :﴿ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾ ثم يقربهم زلفى بقوله :﴿ وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً ﴾ وأما في حق الكفار فيغضب الله عليهم أولاً فيبعدهم ويطردهم إلى البلاد النائية عن الرحمة وهي جهنم، ثم يسلط عليهم ملائكة العذاب وهم جنود الله كما قال تعالى :﴿ عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله ﴾ [ التحريم : ٦ ] فلذلك ذكر جنود الرحْمَةِ أولاً هناك، وقال ههنا :﴿ وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ ﴾ وهو الإبْعَاد إلى جهنم ثم ذكر الجنود وهم ( الملائكة ) ملائكة العذاب آخراً.
قوله تعالى: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً﴾ على أمتك بما يفعلون، كما قال تعالى: ﴿وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: ١٤٣] أنه لا إله إلا الله وكما قال تعالى: ﴿شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم﴾ [آل عمران: ١٨]. وهم الأبنياء «وَمُبَشِّراً» من قبل شهادته ويحكم بها «ونَذِيراً» لمن ردَّ شهادته.
ثم بين فائدة الإرسال فقال: ﴿لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ﴾ أي تعينوه وتنصوره «وَتُوَقِّرُوهُ» أي تُعظموه وتُفخموه، هذه الكنايات راجعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وههنا وقف. ثم قال وتسبحوه، أي تسبحوا الله، يريد يصلوا له بكرةً وَأصيلاً بالغَدََاةِ والعشيّّ.
وقيل: الكنايات راجعة إلى لله تعالى، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه، ويوقروه الله الذي يُعَظِّموه.
قوله: «لِتُؤْمِنُوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليُؤْمِنُوا وما بعده بالياء من تحت رجوعاً إلى قوله المؤمنين والمؤمنات. والباقون بتاء الخطاب (وقرأ الجَحْدريّ يَعَزُّرُوه بفتح
486
الياء وضم الزاي وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي. وابن عباس واليماني ويُعَزِّزُوهُ كالعامَّة إلا أنه بزايَين من العِزَّة.
فإن قيل: ما الحكمة في قوله في الأحزاب: ﴿إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً﴾ [الأحزاب: ٤٥٤٦] وههنا اقتصر على الثلاثة الأول؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أن ذلك المقام كان مقام ذكر، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة والوعد بالدخول ففصل هناك ولم يفصل هنا.
وثانيهما: أن قوله: «شاهداً» لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك: «وَدَاعِياً» كذلك ههنا لما لم يكن كونه شاهداً ينبىء عن كونه داعياً قال: ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروهُ. وقوله: «بكرة وأصيلاً» يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيَّةً، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفَحْشَاء والمُنْكَر.
قوله تعالى: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ﴾ يا محمَّدُ بالحديبية على أن لا يفروا ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة، روى يزيدُ بن (أبي) عبيد قال: قلت لسلمةَ بْنِ الأكوع: على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الحديبية؟ قال: على الموت.
قوله: ﴿إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ خبر «إنَّ الَّذِينَ» و ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ جملة حالية، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله. وقرأ تمام بن العباس: يبايعون للهِ، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونَكَ لأجل الله.
487
قوله: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعهُ فقد بايع الحقّ.
وقوله: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنًى واحدٍ، وإما أن تكومن بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان:
أحدهما: قال الكلبي: نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة كما قال تعالى: ﴿بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ﴾ [الحجرات: ١٧].
وثانيهما: قال ابن عباس ومجاهد: يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه، ويقال: اليدُ لفلانٍ أي الغلبة والقوة.
وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي: كانوا يأخذون بيد رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببابً لحفظ البيعة، فقال تعالى: ﴿يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ﴾ يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين.
قوله: «فَمَنْ نَكَثَ» أي نقص البيعةَ ﴿فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ﴾ أي عليه وما له ﴿وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله﴾ أي ثبت على البيعة ﴿فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾ قرأ أهل العراق فسيُؤتيه بالياء من تحت، وقرأ الآخرون بالنون. والمراد بالأجر العظيم الجنة. وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم.
488
ثم بين فائدة الإرسال فقال :﴿ لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ ﴾ أي تعينوه وتنصروه «وَتُوَقِّرُوهُ » أي تُعظموه١ وتُفخموه، هذه الكنايات راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم٢ وههنا وقف. ثم قال وتسبحوه، أي تسبحوا الله، يريد يصلوا له بكرةً وَأصيلاً بالغَدََاةِ والعشيّّ.
وقيل : الكنايات راجعة إلى لله تعالى٣، أي ليؤمنوا بالله ورسوله ويعزروا الله بتقوية دينه، ويوقروه الله الذي يُعَظِّموه.
قوله :«لِتُؤْمِنُوا » قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليُؤْمِنُوا وما بعده بالياء من٤ تحت رجوعاً إلى قوله المؤمنين والمؤمنات. والباقون بتاء الخطاب ( وقرأ٥ الجَحْدريّ يَعَزُّرُوه بفتح الياء٦ وضم الزاي٧ وهو أيضاً وجعفر بن محمد كذلك إلا أنهما كسرا الزاي. وابن عباس واليماني ويُعَزِّزُوهُ كالعامَّة إلا أنه بزايَين٨ من العِزَّة. ٩
فإن قيل : ما الحكمة في قوله في الأحزاب :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُّنِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٥ - ٤٦ ] وههنا اقتصر على الثلاثة الأول ؟.
فالجواب من وجهين :
أحدهما : أن ذلك المقام كان مقام ذكر، لأن أكثر السورة ذكر الرسول وأحواله وما تقدمه من المبايعة و الوعد بالدخول ففصل هناك١٠ ولم يفصل هنا.
وثانيهما : أن قوله :«شاهداً » لما لم يقتض أن يكون داعياً لجواز أن يقول مع نفسه أشهد أن لا إله إلا الله ولا يدعو الناس قال هناك :«وَدَاعِياً » كذلك١١ ههنا لما لم يكن كونه شاهداً ينبئ عن كونه داعياً قال : ليؤمنوا بالله ويعزروه ويوقروهُ. وقوله :«بكرة وأصيلاً » يحتمل أن يكون إشارة إلى المداومة، ويحتمل أن يكون لمخالفة عمل المشركين، فإنهم كانوا يعبدون الأصنام في الكعبة بكرة وعشيَّةً، فأمر الله بالتسبيح في أوقات ذكرهم الفَحْشَاء والمُنْكَر١٢.
١ وهو قول الحسن والكلبي..
٢ وعزاه الإمام القرطبي في الجامع إلى الضحاك..
٣ وعزي إلى الإمام القشيري ـ رحمة الله على الجميع ـ انظر القرطبي ١٦/٢٦٧..
٤ وهي قراءة سبعية متواترة، انظر الكشف لمكي ٢/٢٨٠ والقرطبي ١٦/٢٦٧ قال: وهو اختيار أبي عبيد واختار أبو حاتم قراءة الخطاب. وانظر أيضا السبعة ٦٠٢، والإتحاف ٣٩٥..
٥ ما بين القوسين كله سقط من نسخة ب..
٦ الأصح كما في البحر والمحتسب وغيرهما التاء وهي شاذة..
٧ أي تمنعوه أو تمنعوا دينه وشريعته. وانظر البحر ٨/٩١ والمحتسب ٢/١٧٥. وانظر مختصر ابن خالويه ١٤١..
٨ في ب وأ كذلك بينما في البحر: بزاءين تثنية (زاء)..
٩ انظر البحر المرجع السابق وهما شاذتان..
١٠ في الرازي المصدر السابق: هنالك بلام البعد..
١١ وفيه: بذلك، وههنا..
١٢ بالمعنى من تفسير الإمام الفخر عليه سحائب الرحمة والرضوان ٢٨/٨٦..
قوله تعالى :﴿ إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ ﴾ يا محمَّدُ بالحديبية على أن لا يفروا ﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ لأنهم باعوا أنفسهم من الله تعالى بالجنة، روى يزيدُ١ بن ( أبي )٢ عبيد قال : قلت لسلمةَ بْنِ الأكوع : على أيِّ شيء بايعتم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ؟ قال : على الموت٣.
قوله :﴿ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله ﴾ خبر «إنَّ الَّذِينَ » و﴿ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ جملة حالية، أو خبر ثان وهو ترشيح للمجاز في مبايعة الله. وقرأ تمام بن العباس٤ :
يبايعون للهِ٥، والمفعول محذوف أي إنما يبايعونَكَ لأجل الله.
قوله :﴿ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ لما بين أنه مرسل ذكر أن من بايعهُ فقد بايع الحقّ.
وقوله :﴿ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ يحتمل وجوهاً، وذلك أن اليد في الموضعين إما أن تكون بمعنًى واحدٍ، وإما أن تكون بمعنيين فإن كانا بمعنى واحد ففيه وجهان :
أحدهما : قال الكلبي : نعمة الله عليه في الهداية فوق ما صنعوا من البيعة٦ كما قال تعالى :﴿ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ ﴾ [ الحجرات : ١٧ ].
وثانيهما : قال ابن عباس ومجاهد : يد الله بالوفاء بما عاهدهم من النصر والخير وأقوى وأعلى من نصرتهم إياه، ويقال : اليدُ لفلانٍ أي الغلبة والقوة٧.
وإن كانا بمعنيين ففي حق الله بمعنى الحفظ، وفي حق المبايعين بمعنى الجارحة قال السدي : كانوا يأخذون بيد رسول صلى الله عليه وسلم ويبايعونه ويد الله فوق أيديهم في المبايعة، وذلك أن المتبايعين إذا مد أحدهما يده إلى الآخر في البيع، وبينهما ثالث فيضع يده على يديهما ويحفظ أيديهما إلى أن يتم العقد ولا يترك أحدهما بترك يد الآخر لكي٨ يلزم العقد ولا يتفاسخان فصار وضع اليد فوق الأيدي سببا لحفظ البيعة، فقال تعالى :﴿ يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ ﴾ يحفظهم على البيعة كما يحفظ المتوسط أيدي المتبايعين٩.
قوله :«فَمَنْ نَكَثَ » أي نقض البيعةَ ﴿ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ ﴾ أي عليه و ما له ﴿ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله ﴾ أي ثبت على البيعة ﴿ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً ﴾ قرأ أهل العراق١٠ فسيُؤتيه بالياء من تحت، وقرأ الآخرون بالنون١١. والمراد بالأجر العظيم الجنة. وتقدم الكلام في معنى الأجر العظيم.
١ في ب زيد..
٢ سقط من ب..
٣ البحر المحيط ٨/٩١..
٤ ابن عبد المطلب عم رسول الله ـ صلى اله عليه وسلم ـ..
٥ وهي شاذة. انظر البحر ٧/٩١..
٦ نقل الرأي الكلبي القرطبي في الجامع ١٦/٢٦٧ و٢٦٨..
٧ ذكر كلا الرأيين الرازي دون تصريح بصاحب الرأي..
٨ في ب لكن..
٩ وانظر تفسير الرازي ٢٨/٨٧..
١٠ المراد بهم أبو عمرو وعاصم والأخوان حمزة والكسائي وبخلاف عن أبي عمرو، فقد روى عبيد عن هارون عنه بالنون وعن عبيد أيضا بالنون..
١١ أي باقي السبعة ابن كثير ونافع وابن عامر وبخلاف عن عاصم فقد روى أبان عنه بالنونـ انظر السبعة ٦٠٣ وهي قراءة سبعية متواترة..
قوله تعالى: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المخلفون مِنَ الأعراب﴾ قال ابن عباس: ومجاهد: يعني أعراب غِفَار، ومُزَيْنَةَ وجُهَيْنَةَ، وأشْجَعَ وَأسْلَمَ، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أراد المسير إلى مكة عام الحديبية معتمراً اسْتَنفَرَ من حول المدينة من الأعراب، والبَوَدِي ليخرجوا معه حَذَراً من قريش أن يعرضوا له بحرب، أو يصدوه عن البيت فأحرم بالعمرة وساق معه الهَدْي، ليعلمَ الناسُ أنه لا يريد حَرباً فتثاقل كثيرٌ من الأعارب وتخلفوا واعْتَلُّوا بالشغل لظنهم أنه يهزم، فأنزل الله هذه الآية.
قوله: «شَغَلَتْنَا» حكى الكسائي عن ابن مدح أنه قرأ: شَغَّلَتْنَا بالتشديد ﴿أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا﴾ يعني النساء والذَّرَارِي أنْ لم يكن لنا من يخلفنا فيهم ﴿فاستغفر لَنَا﴾ تَخَلٌّفَنَا عنك.
فكذبهم الله في اعتذارهم فقال: ﴿يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الأمر بالاستغفار فإنهم لا يبالون أستغفر لهم النبي أو لا. ﴿قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً﴾ قرأ الأخوان ضُرًّا بضم الضاد والباقون بفتحها.
فقيل: هما لغتان بمعى كالفَقْر والفُقْر والضَّعف والضُّعْف، وقيل: بالفتح ضِدُّ النفع، وبالضم سُوء الحال فمن فتح قال: لأنه قابله بالنفع، والنفع ضد الضر، وذلك أنهم ظنوا أن تخلفهم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدفع عنهم الضر، ويجعل لهم النفع بالسلامة في أموالهم وأنفسهم فأخبرهم أنه إن أراد بهم شيئاً من ذلك لم يقدر واحد على دفعه ﴿بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ أي بما تعلنون من إظهار أمر وإضمار غيره.
قوله: ﴿بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً﴾ أي ظننتم أن العدون يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبد الله: إلَى أهلهم دون ياء، بل أضاف الأهل مفرداً.
489
قوله: ﴿وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ﴾. قرىء: وزين مبنياً للفاعل أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم ﴿وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء﴾ وذلك أنهم قالوا: إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه؟ انتظروا ما يكون من أمرهم ﴿وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً﴾ أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير. وقيل: كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا. والبُورُ الهلاكُ. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله:
٤٤٩٠ - يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَانِي رَاتِقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُورُ
ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح.
قوله: ﴿وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله﴾ يجوز أن يكون (من) شرطية أو موصولة. والظاهر قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال: ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً.
قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوت والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً﴾ ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.
490
قوله :﴿ بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً ﴾ أي ظننتم أن العدو يستأصلهم ولا يرجعون. قرأ عبد الله : إلَى أهلهم١ دون ياء، بل أضاف الأهل مفرداً٢.
قوله :﴿ وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ ﴾. قرئ : وزين مبنياً للفاعل٣ أي الشيطان أو فِعْلُكُم زين ذلك الظن في قلوبكم ﴿ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء ﴾ وذلك أنهم قالوا : إن محمداً وأصحابه أكلة رأس فلا يرجعون فأين تذهبون معه ؟ انتظروا ما يكون من أمرهم ﴿ وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً ﴾ أي صرتم هَلْكَى لا تصلحون لخير٤. وقيل : كنتم على بابها من الإخبار بكونهم في الماضي كذا٥. والبُورُ الهلاكُ. وهو يحتمل أن يكون هنا مصدراً أخبر به عن الجمع كقوله :
٤٤٩٠ يَا رَسُول الإِلَهِ إنَّ لِسَانِي رَاتِقٌ مَا فَتقْتُ إذْ أَنَا بُورُ٦
ولذا يستوي فيه المفرد والمذكر وضدهما. ويجوز أن يكون جمع بَائرٍ كحَائل وحُولٍ في المعتل٧ وبَازِل وبُزْلٍ في الصحيح٨.
١ البحر المحيط ٨/٩٣٠ ودون نسبة في الكشاف ٣/٥٤٤..
٢ فتكون حينئذ خارجة عن نطاق الملحق بجمع المذكر السالم وتكون جمع تكسير أو اسم جمع أضيف إلى الضمير..
٣ لم ينسبها أبو حيان في البحر ٨/٩٢ ولا الزمخشري في الكشاف ٣/٥٤٤..
٤ وهو رأي مجاهد وقتادة. انظر القرطبي ١٦/٢٦٩..
٥ قال بذلك العلم أبو حيان في البحر المحيط ٨/٩٣..
٦ بيت من الخفيف لعبد اله بن الزبعري وينسب لأمية بن أبي الصلت وليس في ديوانه. والشاهد: بور فهو مصدر بمعنى هالك وأخبر في الآية بهذا المصدر عن الجمعية أي هالكون. وانظر مجمع البيان للطبرسي ٩/١٧٣ والهمع ٣/٢٢٦ والقرطبي ١٦/٢٦٩ والبحر ٨/٩٣..
٧ معتل العين المنقلبة همزة..
٨ المرجعين السابقين..
قوله :﴿ وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله ﴾ يجوز أن يكون ( من )١ شرطية أو موصولة. والظاهر٢ قائم مقام العائد على كلا التقديرين أي فإنا أعتدنا لهم. وفيه فائدة وهي التعميم كأنه قال : ومن لم يؤمن بالله ورسوله فهو من الكافرين وإنّا أعتدنا للكافرين سعيراً٣.
١ زيادة للسياق وتوضيحه..
٢ وهو الكافرين..
٣ الرازي ٢٨/٨٩، ٩٠..
قوله تعالى :﴿ وَلِلَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً ﴾ ذكر هذه بعد ذكر من له أجر عظيم من المبايعين ومن له في السعير عذاب أليم من الظالمين الضالين. وذلك يفيد عظمة الأمرين جميعاً، لأن من عظم ملكه يكون أجره وهيبته في غاية العظمة وعذابه وعقوبته في غاية الألم.
(قوله تعالى) :﴿سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم﴾ ﴿امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ يعني هؤلاء الذين تخلفواعن الحديبية ﴿إِذَا انطلقتم﴾ سرتم وذهبتم أيها المؤمنون ﴿امَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا﴾ يعني مغانم خيبر ﴿ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ﴾ إلى خيبر لنشهد معكم قتال أهلها، وذلك أنهم لما انطلقوا انصرفوا من الحديبية وعدهم الله فتح خير، وجعل عنائمهنا لمن شهد الحديبية خاصة عوضاً من غنائم مكة إذا انصرفوا من الحديبية (منهم على صلح) ولم يصيبوا منهم شيئاً، (لأن قوله: ﴿سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ﴾ وعد للمبايعين بالغنيمة وللمخلفين الحالفين بالحرمان).
قوله: يُرِيدُ (ونَ) يجوزو أن يكون مستأنفاً وأن يكون حالاً من «المخلفون» وأن يكون حالاً من مفعلو «ذَرُونَا».
قوله: ﴿كَلاَمَ الله﴾ قرأ الأخوان كَلِمَ جمع كلمة والبقاون كَلاَم قيل معناه: يريدون أن يغيروا تواعد الله تعالى لأهل الحديبية، بغنيمة خيبر خاصة وقال مقاتل: يعني أمر الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن لا يسيِّر معه منهم أحداً. وقال ابن زيد: هو أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما تخلف القوم أطعله الله على ظنهم وأظهر له نفاقهم وقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ﴿فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً﴾ [التوبة: ٨٣]. والأولى أصوب وعليه أكثر المفسرين.
قوله: ﴿قُل لَّن تَتَّبِعُونَا﴾ إلى خيبر ﴿كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ﴾ أي من قبل مرجعنا إليكم أن غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية ليس لغيرهم فيها نصيب.
قوله: ﴿بَلْ تَحْسُدُونَنَا﴾ قرأ أبو حيوة تَحْسِدُونَنَا بكسر السين «بَلْ» للإضْراب
491
والمضروب عنه محذوف في الموضعين عنه محذوف الموضعين أما ههنا فتقديره ما قال الله كذلك من قبل بل تحسدوننا أي يمنعكم الحد من أن نصيب منكم العنائم ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ﴾ لا يعلمون عن الله ما لهم وعليهم من الدين ﴿إِلاَّ قَلِيلاً﴾ منهم وهم من صدق الله وروسله.
(فإن قيل: بماذا كان الحسد في اعتقادهم؟
قلنا: كأنهم قالوا: نحن (كنا) مصيبين في عدم الخروج (حيث) رَجَعُوا من الحديبية من غير عدو حاصل، ونحن اسْتَرَحْنَا فإن خرجنا معهم ويكون فيه غنيمة يقولون هم غنموا معنا ولم يتعبوا معنا. ثم قال الله تعالى رداً عليهم كما ردوا عليه: ﴿بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾ أي لم يفقهوا من قولك: لا تخرجوا إلا ظاهر النهي، فلم يفهموا حكمة إلاَّ قليلاً فحملوه على ما أرادوه وعللوه بالحسد..).
قوله تعالى: ﴿قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ﴾ لما قال للنبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لهم لن تتبعونا، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم، فإنهم لم يبقوا على ذلك، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توتبهم علامة (وهو أنهم يدعون إلى قوم أولي بأس شديد، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ، حيث امتنع من أداء الزكاة، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون: فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن.
والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين:
أحدهما: أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة) وحل الأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يبق من المنافقين على النفقا أحدٌ.
الثاني: أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير، والْجَمِّ الغفير، أمسّ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ.
492
( «فصل»
قال ابن عباس ومجاهد: المراد بقوله ﴿قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ﴾ : هم أصحاب فارس. وقال كعب: الروم وقال الحسن: فارس والروم. وقال سعيد بن جبير: هوازن وثقيف. وقال قتادة: هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة: هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج: كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة: لم تأت هذه الآية بعد).
قوله: ﴿أَوْ يُسْلِمُونَ﴾ العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على «تُقَاتِلُونَهُمْ» أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ. وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها.
والنصب بإضمار «أن» عند جمهور البصريين، وب «أو» نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل: يكون قتالٌ أو إسلامٌ. ومثله في النصب قول امرىء القيس:
٤٤٩١ - فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا
وقال أبو البقاء: أو بمعنى إلاَّ أَنْ، أو حَتَّى.
( «فصل»
معنى قوله: تقاتلونهم أن يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع؛ لأن «أو» تبين
493
المتغايرين وتُنْبِىءُ عن الحصر، يقال: العدد زوجٌ أو فردٌ، ولهذا لا يصح قوله القائل: هذا زيدٌ أو ابن عمرو؛ أذا كان زيد ابن عمرو؛ إذا علم هذا فقول القائل: أُلاَزِمُكَ أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين: قسم يكون فيه الملازمة، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله: «أُلاَزِمُكَ أو تقضيني»، كقوله: ألازمك إلى أن تقضيني، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء).
قوله: ﴿فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً﴾ يعني الجنة ﴿وَإِن تَتَوَلَّوْاْ﴾ تُعْرِضُوا ﴿كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ﴾ عام الحديبية ﴿يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً﴾ وهو النار، فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة: كيف بنا يا رسول الله؟ فأنزل الله عزّ وجلّ ﴿لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ﴾ أي في التخلف عن الجهاد ﴿وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ﴾.
وذلك لأن الجهادَ عبارة عن المقاتلة والكرِّ والفَرِّ، وهؤلاء الثلاثةلا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب. وفي معنى الأعرج الأَقْطَعُ المُقْعَد بل أولى أن يعذر، ومن به عَرَجٌ لا يمكنه من الكرِّ والفرِّ لا يعذر، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسُّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يُضْعِفْهُ عن الكرِّ والفر، فهذه الأعذار في نفس المجاهد، وتبقى أعذار خارجة، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من ستصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفلٍ أو مريضٍ.
والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره.
قوله: ﴿وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً﴾ قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما. وقرآ الآخرون بالياء لقوله: ﴿ومن يطع الله ورسوله﴾.
494
قوله تعالى :﴿ قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعراب سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ ﴾ لما قال للنبي عليه الصلاة والسلام لهم لن تتبعونا، ولن تخرجوا معي أبداً كان المخلفون جمعاً كثيراً من قبائل متشعبة دعت الحاجة إلى بيان قبول توبتهم، فإنهم لم يبقوا على ذلك، ولم يكونوا من الذين مَرَدُوا على النفاق بل منهم من حسن حاله فجعل لقبول توبتهم١ علامة ( وهو أنهم٢ يدعون إلى قوم أولي بأس شديد، ويطيعون بخلاف حال ثَعْلَبَةَ، حيث امتنع من أداء الزكاة، ثم أتى بها ولم يقبل منه النبي صلى الله عليه وسلم واستمر عليه الحال، ولم يقبل منه أحد من الصحابة كذلك كان يستمر حال هؤلاء لولا أن الله تعالى بين أنهم يدعون : فإن أطاعوا أعطوا الأجر الحسن.
والفرق بين حال هؤلاء وبين حال ثعلبة من وجهين :
أحدهما : أن ثعلبة يجوز أن يقال حاله لم يكن يتغير في علم الله فلم يبين لتوبته علامة ) وحل الأعراب تغيرت، فإن بعد النبي صلى الله عليه وسلم لم يبق من المنافقين على النفاق أحدٌ.
الثاني : أن الحاجة إلى بيان حال الجمع الكثير، والْجَمِّ الغفير، أمسّ ؛ لأنه لولا البيان لأفضى الأمر إلى قيام الفتنة بين فِرَق الْمُسْلِمِينَ٣.
( «فصل »٤
قال ابن عباس ومجاهد : المراد بقوله ﴿ قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ ﴾ : هم أصحاب فارس. وقال كعب : الروم وقال الحسن : فارس والروم. وقال سعيد بن جبير : هوازن وثقيف. وقال قتادة : هوازن وغطفان قوم حنين. وقال الزهري ومقاتل وجماعة : هم بنو حنيفة أهل اليمامة أصحاب مسيلمة الكذاب. وقال رافع بن خديج : كنا نقرأ هذه الآية ولا نعلم من هم حتى دعا أبو بكر إلى قتال بني حنيفة فعلمنا أنهم هم. وقال أبو هريرة : لم تأت هذه الآية بعد )٥.
قوله :﴿ أَوْ يُسْلِمُونَ ﴾ العامة على رفعه بإثبات النون عطفاً على «تُقَاتِلُونَهُمْ » أو على الاستئناف أي أو هُمْ يُسْلِمُونَ٦. وقرأ أبيّ وزيدُ بن عليٍّ بحذف النون نصباً بحذفها٧.
والنصب بإضمار «أن » عند جمهور البصريين٨، وب «أو » نفسها عند الجَرْمي والكِسَائيِّ٩، ويكون قد عطف مصدراً مؤولاً على مصدر متوهم كأنه قيل : يكون قتالٌ أو إسلامٌ. ومثله في النصب قول امرئ القيس :
٤٤٩١ فَقُلْتُ لَهُ لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا نُحَاوِلُ مُلْكاً أَوْ نَمُوتَ فَنُعْذَرَا١٠
وقال أبو البقاء : أو بمعنى١١ إلاَّ أَنْ، أو حَتَّى١٢.
( «فصل »١٣
معنى قوله : تقاتلونهم أو يسلمون إشارة إلى أن أحدهما يقع ؛ لأن «أو » تبين المتغايرين وتُنْبِئ عن الحصر، يقال : العدد زوجٌ أو فردٌ، ولهذا لا يصح قوله القائل : هذا١٤ زيدٌ أو ابن١٥ عمرو ؛ إذا كان زيد ابن عمرو ؛ إذا علم هذا فقول القائل : أُلاَزِمُكَ١٦ أَوْ تَقضينِي حَقِّي معناه أن الزمان انحصر في قسمين : قسم يكون فيه الملازمة، وقسم يكون فيه قضاءُ الحق فيكون قوله :«أُلاَزِمُكَ أو تقضيني »، كقوله : ألازمك إلى أن تقضيني، لامتداد زمان الملازمة إلى القضاء )١٧.
قوله :﴿ فَإِن تُطِيعُواْ يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً ﴾ يعني الجنة ﴿ وَإِن تَتَوَلَّوْاْ ﴾ تُعْرِضُوا ﴿ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ ﴾ عام الحديبية ﴿ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ وهو النار،
١ في ب توبته. عائدا على لفظ من..
٢ ما بين القوسين سقط من ب بسبب انتقال النظر..
٣ وانظر الرازي ٢٨/٩١ و٩٢..
٤ سقط هذا الفصل كله من نسخة ب..
٥ ذكر هذه الأوجه والآراء مفصلة العلامة القرطبي في الجامع ١٦/٢٧٢ والعلامة أبو حيان في البحر ٨/٩٤..
٦ ذكر هذه الأوجه العكبري في التبيان ١١٦٦ وذكر وجها ثالثا ولذلك قلت: الأوجه، وهو الحالية وانظر المغني لابن هشام ٤٨٠..
٧ البحر المحيط ٨/٩٤ والكشاف ٣/٥٤٦..
٨ ويكون من العطف على المعنى وهو ما يسمى بالتوهم ولكن تأدبا مع قرآن الله نقول: العطف على المعنى أي ليكن قتال أو إسلام كما قرره أعلى، كأنه توهم أن "أن" مضمرة..
٩ وأصحابهما إلى أن الفعل انتصب بأو نفسها وهناك مذاهب أخرى للفراء والأخفش وغيرهما ذكرها السيوطي في الهمع ٢/١٠..
١٠ من بحر الطويل له، والشاهد في "فنعذرا" حيث نصب المضارع بعد "أو" على تقدير "أن" عند البصرة وبأو نفسها عند الجرمي والكسائي والتقدير: محاولة أو موت، وقد تقدم..
١١ الأصح كما في التبيان: إلى أن وكلاهما صحيحان ولكني أقارن النسخ بأبي البقاء..
١٢ وانظر التبيان لأبي البقاء ١١٦٦..
١٣ ما بين القوسين كله أيضا سقط من ب..
١٤ في الرازي المصدر السابق: "هو"..
١٥ زيادة من النسخ عن الرازي..
١٦ المشهور: لألزمنك كما في الرازي والمغني وغيرهما..
١٧ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٩٣..
فلما نزلت هذه الآية قال أهل الزمانة١٨ : كيف بنا يا رسول الله ؟فأنزل الله عزّ وجلّ١ ﴿ لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ ﴾ أي في التخلف عن الجهاد ﴿ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ ﴾.
وذلك لأن الجهادَ عبارة عن المقاتلة والكرِّ والفَرِّ، وهؤلاء الثلاثة لا يمكنهم الإقدام على العدو والطلب، ولا يمكنهم الاحتراز والهرب. وفي معنى الأعرج الأَقْطَعُ والمُقْعَد بل أولى أن يعذر، ومن به عَرَجٌ لا يمكنه من الكرِّ والفرِّ لا يعذر، وكذلك المرض الذي لا يمنع من الكر والفر كالطّحال والسُّعال وبعض أوجاع المفاصل إذا لم يُضْعِفْهُ عن الكرِّ والفر، فهذه الأعذار في نفس المجاهد، وتبقى أعذار خارجة، كالفقر الذي لا يمكن صاحبه من استصحاب ما يحتاج له وكذا الاشتغال بمن لولاه لضاع كطفلٍ أو مريضٍ.
والأعذار المبيحة مذكورة في كتب الفقه٢. وقدم الأعمى على الأعرج، لأن عذر الأعمى يستمر ولو حضر القتال، والأعرج إن حضر راكباً أو بطريق يقدر على القتال بالرمي وغيره.
قوله :﴿ وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً ﴾ قرأ أهل المدينة والشام ندخله ونعذبه بالنون فيهما٣. وقرآ الآخرون بالياء لقوله :﴿ ومن يطع الله ورسوله ﴾٤.
١ وانظر القرطبي ١٦/٢٧٣..
٢ الرازي ٢٨/٩٣ و٩٤..
٣ نافع وابن عامر وأبو جعفر. وانظر الإتحاف ٣٩٦ وهي متواترة..
٤ وهو اختيار أبي عبيد، وأبي حاتم؛ لتقدم ذكر الله أولا. انظر القرطبي ١٦/٢٧٤..
قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين... ﴾ الآية لما بين حال المخلفين بعد قوله: ﴿إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله﴾ [الفتح: ١٠] عاد إلى بيان حال المبايعين.
قوله: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾ منصوب ب «رَضِيَ» و «تَحْتَ الشَّجَرَة» يجوز أن يكون متعلقاً ب «يُبَايِعُونَكَ» وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول.
( «فصل»
المعنى: يبايعونك بالحديبية على أن يناجزوا قريشاً، ولا يفروا. وقوله: «تَحْتَ الشَّجَرَة» وكانت سمرة قال سعيد بن المسيب: حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تحت الشجرة قال: فلما خرجنا من العام المقبل نَسِيناها فلم نقدر عليها. وروي أن عمر بن الخطاب مرّ بذلك المكان بعد أن ذهبت الشجرة فقال: أين؟ فجعل بعضهم يقول: ههنا، وبعضهم ههنا، فلما كثر اختلافهم قال: سيروا قد ذهبت الشجرة. وروى جابر بن عبد الله قال: «قَالَ لَنَا رسول الله صلى الله عليه سولم يوم الحديبية أنتم خير أهل الأرض، وكنا ألفاً وأَرْبَعَمِائةٍ ولو كنت أبصر اليوم لأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَة. وروى سالم عن جابر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لاَ يَدْخُلُ النار أحَجٌ مِمَّنْ بَايَعَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ) ».
قوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الصدق والوفاء ﴿فَأنزَلَ السكينة﴾ الطمأنينة والرضا «عَلَيْهِمْ»
فإن قيل: الفاء للتعقيب وعلم الله قبل الرضا؛ لأن علم ما في قلوبهم من الصدق فرضي عنهم فكيف يفهم التعقيب في العلم؟
فالجواب: قال ابن الخطيب: إن قوله تعالى: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ متعلق بقوله: ﴿إِذْ يُبَايِعُونَكَ﴾ كما تقول: «فَرِحْتُ أَمس إِذْ كَلَّمت زَيْداً فَقَامَ لي، وإذْ دَخَلْتُ عَلَيْهِ فَأَكْرَمِني» فيكون الفرح بعد الإكرام مرتباً كذلك ههنا قال تعالى:
495
عند المبايعة (حَسْب بل عند المبايعة) التي كان معها علم الله بصدقهم. والفاء في قوله ﴿فَأنزَلَ السكينة﴾ للتعقيب المذكور، فإنه تعالى رضي عنهم فأنزل السكينة عليهم.
وفي قوله: «فَعَلِمَ» لبيان وصف المبايعة يكون (ها) معقبة بالعلم بالصدق الذي في قلوبهم.
قوله: ﴿وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً﴾ يعني فتح خيبر. وقوله: ﴿وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً﴾ أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ: «يَأخُذُونَهَا» بالغيبة، وهي قراءة العامة، و «تَأخُذُونَهَا» بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلاَبٍ.

فصل


قيل: المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بينهم.
وقيل: مغانم هجر.
﴿وَكَان الله عَزِيزا﴾ كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه «حَكِيماً» حيث جعل هلاك أعدائه على أيديهم ليثيبكم عليه، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال: يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ.
قوله: ﴿وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا﴾ وهي الفتوح التي تفتح لهم إلىيوم القيامة وليس المغانم كل الثواب، بل الجنة قُدَّامهم، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم، ولهذا قال: ﴿فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه﴾ يعني خيبر ﴿وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ﴾ وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ، وغَطَفَان، ِأن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل: كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم.
قوله: «وَلتَكُونَ» يجوز فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يتعلق بفعل مقدر بعد تقديره: ولِتَكُونَ (فعلك) فعل ذلك.
الثاني: أنه معطوف على علة محذوفة تقديره: وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون.
496
الثالث: أن الواو مزيدة. والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون.
قوله: ﴿وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً﴾ يثيبكم على الإسلام، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلىخيبر. روى أنسُ بن مالك (رَضِيَ اللهُ عَنْهُ) أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن بغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال: فخرجنا إلى خَيْبَرَ، فانتهينا إليهم، فلما أصبح لم يسمع أذاناً (ركب) وركبتُ خلف أبِي طلحة، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رآهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ. وروى إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال: خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم:
٤٤٩٢ - تَاللهِ لَوْلاَ اللهُ مَاأهْتَدَيْنَا... وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنضا... وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا... فَثَبِّتِ الأَقَدْامَ إنْ لاَ قَيْنَا... وَأَنْزِلَننْ سَكِينَةً عَلَيْنَا... فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَنْ هَذَ؟ فقال: أنا عامر، قال: غَفَر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد.
قال: فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وهُوَ على جمل له: يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال: فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْجَبُ يخطر بسيفه يقول:
﴿لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ﴾ من الصدق إشارة ألى أن الرضا لا يكون
497
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ... فقال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:
٤٤٩٤ - أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ... كَلَيْثِ غابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَه... أَكِيلُكُمْ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ... قال: فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
(ومعنى أكليكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسَّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل، والقِسِيُّ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة، والنون زائدة. قال ابن الأثير: وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها).
وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
قوله: «وأخرى» يجوز فيها أوجه:
أحدها: أن تكون مرفوعة بالابتداء و ﴿لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا﴾ صفتها و ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ خبرها.
الثاني: أن الخبر «منهم» محذوف مقدر قبلها، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا.
الثالث: أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى.
(الرابع: أن تكمون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير، بل لِدَلاَلة السِّياقِ، أي ووَعَدَ أُخْرَى، أو وآتاكُمْ أخرى.
الخامس: أن تكون مجرورة ب «رُبَّ» مقدرة، ويكون الواو واو «رب» ذكره
498
الزمخشري. وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف مشهور أهنو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو؟ إلا أبا حيان قال: ولم تأت «رُبَّ» جارة في القرآن على كَثْرة دورها، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر. قيل: إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله: ﴿رُّبَمَا﴾ [الحجر: ٢] على قولنا: إنّ ما نكرة موصوفةٌ).
قوله: ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ يجوز أن يكون خبراً ل «أُخْرَى» كما تقدم، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها مضمر أو حالاً أيضاَ.

فصل


قال المفسرون: معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقِدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب: تقديره: وعدكم الله مغانم تأخذونها، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء. قال: معنى قوله: ﴿قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا﴾ أي حفظها لمؤمنيني، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ.
499
واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل: هي فارس والرومُ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام.
وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد: هي خيبر وعدها الله عزّ وجلّ نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يصيبها ولم يكونوا برجونها. وقال قتادة: هي مكَّة. وقال عِكْرِمَةُ: حُنَيْن. وقال مجاهد: وما فَتَحُوا حتى اليوم، ﴿وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً﴾.
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ﴾ يعني أسداسً وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ ﴿لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾، قال ابن الخطيب: وهذا يصلح جواباً لمن يقول: كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها، فقال: ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم. وثم قال ﴿لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً﴾.
قوله: ﴿سُنَّةَ الله﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً.
قال ابن الخطيب: وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو: إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ تأثيراتٌ وتغييرات فقال: ليس كذلك، بل سنة الله نصرة رسوله، وإهلاك عدوه، والمعنى: هذه سنة الله في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه ﴿تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً﴾.
500
وقوله :﴿ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً ﴾ أي وآتاهم مَغَانِمَ أو أثابهم مغانم. وإنما قدر الخطاب والغيبة لأنه يقرأ :«يَأخُذُونَهَا » بالغيبة، وهي قراءة العامة، و«تَأخُذُونَهَا » بالخطاب وهي قراءة الأعمش وطَلْحَةَ ونافعٍ في رواية سِقْلاَبٍ١.

فصل


قيل : المراد بالمغانم الكثيرة مغانم خيبر، وكانت خيبر ذاتَ عَقَار وأموال فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم.
وقيل : مغانم هجر.
﴿ وَكَان الله عَزِيزا ﴾ كامل القدرة غنياً عن إعانتكم إياه «حَكِيماً » حيث جعل هلاك أعدائه على أيديكم ليثيبكم عليه، أو لأن في ذلك كان إعزاز قوم وإذلالَ لآخرين فقال : يُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ بِعِزَّتِهِ، ويعز من يشاء بِحِكْمَتِهِ.
١ والأنطاكي عن أبي جعفر ورويس عن يعقوب. وهي شاذة. انظر البحر ٨/٩٦..
قوله :﴿ وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا ﴾ وهي الفتوح التي تفتح لهم إلى يوم القيامة وليس المغانم كل الثواب، بل الجنة قُدَّامهم، وإنما هي عاجلة عَجَّلَ بها لهم، ولهذا قال :﴿ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه ﴾ يعني خيبر ﴿ وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ ﴾ وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قصد خَيْبَرَ وحَاصَرَ أهلها هَمَّ قبائلُ من أَسَدَ، وغَطَفَان، أن يُغِيرُوا على عِيَال المسلمين وذَرَارِيهِمْ بالمدينة فكف الله أيديهم بإلقاء الرعب في قلوبهم. وقيل : كف أيدي الناس عنكم يعني أهل مكة بالصلح، وليكون كفهم وسلامتكم آية للمؤمنين على صدقك، ويعلموا أن الله هو المتولِّي حياطتهم وحِرَاسَتَهُمْ في مشَهْدِهِمْ ومغيبهم١.
قوله :«وَلتَكُونَ » يجوز فيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن يتعلق بفعل مقدر بعد تقديره : ولِتَكُونَ ( فعلك )٢ فعل ذلك.
الثاني : أنه معطوف على علة محذوفة تقديره : وَعَدَ فَعَجَّل وَكَفَّ لينتفعوا ولِيَكُونَ أو لتشكروا ولتكون٣.
الثالث : أن الواو مزيدة٤. والتعليل لما قبله أي وَكَفَّ لتكون٥.
قوله :﴿ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً ﴾ يثيبكم على الإسلام، ويزيدكم بَصيرَةً ويقيناً بصُلْح الحديبية وفتح خيبر، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحديبية أقام بالمدينة بقية ذي الحجة وبعض المُحَرَّم، ثم خرج في سَنَةِ سَبع إلى خيبر. روى أنسُ بن مالك ( رَضِيَ اللهُ عَنْهُ )٦ أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا غزا بنا قوماً لم يكن بغير بنا حتى يُصْبِحَ وَيَنْظُرَ، فإن سمع أَذَاناً كفَّ عنهم، وإن لم يسمع أذاناً أغار عليهم، قال : فخرجنا إلى خَيْبَرَ، فانتهينا إليهم، فلما أصبح لم يسمع أذاناً ( ركب )٧ وركبتُ خلف أبِي طلحة، وإن قدمي لتمَسُّ قدم النبي صلى الله عليه وسلم قال : فخرجوا إلينا بمكاتلهم ومَسَاحِيهم فلما رأوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا محمد، والله محمد والخميس أي محمد والجيش، فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الله أكبر الله أكبر خَربتْ خَيْبَرُ، إنَّا إذَا نَزَلْنَا بِسَاحَةِ قَوْمٍ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ٨. وروى٩ إياسُ بْنُ سَلَمَةَ قال حدثني أبي قال : خرجنا إلى خيبر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : فجعل عمي يَرْتَجِزُ بالقَوم :
٤٤٩٢ تَاللهِ لَوْلاَ اللهُ مَاأهْتَدَيْنَا. . .
وَلاَ تَصَدَّقْنَا وَلاَ صَلَّيْنضا. . .
وَنَحْنُ مِنْ فَضْلِكَ مَا اسْتَغْنَيْنَا. . .
فَثَبِّتِ الأَقَدْامَ إنْ لاَ قَيْنَا. . .
وَأَنْزِلَنْ سَكِينَةً عَلَيْنَا١٠. . .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مَنْ هَذَا ؟ فقال : أنا عامر، قال : غَفَر الله لك ربك. وما استغفر رسول الله صلى الله عليه وسلم لإنسان يَخُصُّه إلا استشهد.
قال : فنادى عمرُ بنُ الخَطَّاب رضي الله عنه وهُوَ على جمل له : يا نبيّ الله لولا مَتَّعْتَنَا بعامرٍ قال : فلما قدمنا خيبر خرج ملكهم مَرْحبُ يخطر بسيفه يقول :
٤٤٩٣ - قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاَح يَطَلٌ مُجَرِّبُ
٤٤٩٣ قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ شَاكِي السِّلاَح يَطَلٌ مُجَرِّبُ
إذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ١١
فقال علي رضي الله عنه :
٤٤٩٤ أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهُ. . .
كَلَيْثِ غابَاتٍ كَرِيهِ المَنْظَرَه. . .
أَكِيلُكُمْ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ١٢. . .
قال : فضرب رأس مرحب فقتله، ثم كان الفتح على يديه.
( ومعنى أكيلكم بالسيف كيل السندرة أي أقتلكم قتلاً واسعاً ذريعاً. والسَّندرة مكيال واسع. قيل يحتمل أن يكون اتخذ من السندرة وهي شجرة يعمل منها النَّبْل، والقِسِيُّ، والسَّنْدرة أيضاً العجلة، والنون زائدة١٣. قال ابن الأثير١٤ : وذكرها الجَوْهَرِيُّ في هذا الباب ولم ينبه على زيادتها )١٥.
وروي فتح خيبر من طرق أُخَر في بعضها زيادات وفي بعضها نقصان عن بعض.
١ القرطبي ١٦/٢٧٨ و٢٧٩ والبحر ٨/٩٨..
٢ زائدة من النسخة ب..
٣ قال بهذين الوجهين أبو حيان في مرجعه السابق. وانظر القرطبي ١٦/٢٧٩..
٤ عند الكوفيين فقط..
٥ المرجعين السابقين..
٦ زيادة من أ..
٧ كذلك زيادة من أ..
٨ انظر معالم التنزيل البغوي ٦/١٩٨ و١٩٩..
٩ انظر معالم التنزيل البغوي ٦/١٩٨ و١٩٩..
١٠ أرجاز لعبد الله بن رواحة، أو عامر بن الأكوع، أو كعب بن مالك، وهي في ابن يعيش ٣/١١٨ وطبقات الشافعية ١/٢٥٧ و٢٥٨ والهمع ٢/٤٣١ والأشموني ٤/٢٨ و٥٠ والمقتضب ٣/١٣ والمغني ٣٣٩، وشرح شواهده للسيوطي ٢٨٦ و٢٨٧ و٧٥٩ وفي المغني أيضا ٩٨ و٢٦٩ و٣١٧ ومجمع البيان ٩/١٨١ والسراج المنير ٤/٤٨..
١١ من الرجز أيضا لمرحب اليهودي وانظر سيرة ابن هشام، ومجمع البيان ٩/١٨١ والسراج المنير ٤/٤٨ وانظر هذا كله في البغوي ٦/١٩٨ و١٩٩..
١٢ أرجاز أيضا له وهي في ديوانه ١٣٧، وطبقات الشافعية ١/٢٥٥، والهمع ١/٨٦ ومجمع البيان ٩/١٨٢ والسراج ٤/٤٨ واللسان سندر ٢١١٦..
١٣ اللسان المرجع السابق..
١٤ تقدم التعريف به. وانظر الصحاح الجوهري س ن در..
١٥ ما بين القوسين كله سقط من ب..
قوله :«وأخرى » يجوز فيها أوجه :
أحدها : أن تكون مرفوعة بالابتداء و﴿ لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا ﴾ صفتها و﴿ قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا ﴾ خبرها.
الثاني : أن الخبر «منهم » محذوف مقدر قبلها، أي وَثَمَّ أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا.
الثالث : أن تكون منصوبة بفعل مضمر على شريطة التفسير، فتقدر بالفعل من معنى المتأخر وهو ﴿ قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا ﴾ أي وقَضَى اللهُ أُخَْرَى.
( الرابع : أن تكون منصوبة بفعل مضمر لا على شريطة التفسير، بل لِدَلاَلة السِّياقِ، أي ووَعَدَ أُخْرَى، أو وآتاكُمْ أخرى١.
الخامس : أن تكون مجرورة ب «رُبَّ » مقدرة، ويكون الواو واو «رب » ذكره الزمخشري٢. وفي المجرور بعد الواو المذكورة خلاف٣ مشهور أهو برُبَّ مضمرة أم بنفس الواو ؟ إلا أبا حيان قال : ولم تأت «رُبَّ » جارة في القرآن على كَثْرة دورها٤، يعني جارة لفظاً وإلا تقدر. قيل : إنها جارة تقديراً هنا وفي قوله :﴿ رُّبَمَا ﴾ [ الحجر : ٢ ] على قولنا : إنّ ما نكرة موصوفةٌ )٥.
قوله :﴿ قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا ﴾ يجوز أن يكون خبراً ل «أُخْرَى » كما تقدم، أو صفة ثانية إذَا قِيلَ بأن أخرى مبتدأ وخبرها٦ مضمر أو حالاً٧ أيضاَ.

فصل


قال المفسرون : معناه أي وعدكم فتح بلدة أخرى لم تقِدروا عليها قد أحاط الله بها حتى يفتحها لكم كأنه حفظها لكم، ومنعها من غيركم حتى تأخذوها. قال ابن عباس ( رضي الله عنهما )٨ علم الله أنه يفتحها لكم. قال ابن الخطيب : تقديره : وعدكم الله مغانم تأخذونها، ومغانم لا تأخذونها أنتم ولا تقدرون عليها، وإنما يأخذها من يجيء بعدكم من المؤمنين. وهذا تفسير الفراء٩. قال : معنى قوله :﴿ قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا ﴾ أي حفظها للمؤمنين، لا يجري عليها هلاك وفناء إلى أن يأخذها المسلمون كإحاطة الحُرَّاسِ بالخَزَائِنِ١٠.
واختلفوا فيها فقال ابنُ عباس والحسن ومقاتل : هي فارس والرومُ، وما كانت العرب تقدر على قتال فارس والروم، بل كانوا حولاً لهم حتى قدروا عليها الإسلام.
وقال الضَّحَّاكُ وابنُ زيد : هي خيبر وعدها الله عزّ وجلّ نبيه صلى الله عليه وسلم قبل أن يصيبها ولم يكونوا يرجونها. وقال قتادة : هي مكَّة. وقال عِكْرِمَةُ : حُنَيْن. وقال مجاهد : وما فَتَحُوا حتى اليوم، ﴿ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً ﴾١١.
١ قال بهذه الأوجه الأربعة أبو البقاء في التبيان ١١٦٦ و١١٦٧، وقال الزمخشري بالوجهين الرابع والخامس. وانظر الكشاف ٣/٥٤٧..
٢ المرجع السابق..
٣ وقد نقل ابن هشام في المغني ٣٦١ أنه يرجح أن تكون الواو التي يجر الكلام بعدها واو عطف قال: والصحيح أنها واو العطف وأن الجر برب محذوفة خلافا للكوفيين والمبرد وحجتهم افتتاح القصائد بها كقول رؤبة:
وقاتم الأعماق خاوي المخترقن
وأجيب بجواز تقدير العطف على شيء في نفس المتكلم. ويوضح كونها عاطفة أن واو العطف لا تدخل عليها كما تدخل على واو القسم قال:
ووالله لولا تمره ما حببته ولا كان أدنى من عبيد ومشرق.

٤ بالمعنى من البحر فقد قال: "ولم تأت في القرآن جارة مع كثرة ورود ذلك في كلام العرب فكيف يؤتي بها مضمرة؟" انظر البحر ٨/٩٧..
٥ أي رب شيء هذا. وما بين القوسين كله سقط من نسخة ب..
٦ في ب وخبره..
٧ في النسختين حال والأصح ما أثبت أعلى فالمؤلف يقصد أو حالا بالعطف على خبرا لأخرى أي ويجوز أن تكون جملة "قد أحاط" حالية. وانظر الإعراب في التبيان ١١٦٧..
٨ زيادة من أ..
٩ في الرازي: وعلى هذا تبين لقول الفراء حسن، وذلك لأنه فسر قوله تعالى: ﴿قد أحاط﴾. انظر الرازي ٢٨/٩٧..
١٠ بالمعنى من الفراء قال: "قد أحاط الله بها" أحاط لكم بها أن يفتحها لكم. معاني القرآن وإعرابه ٣/٦٧..
١١ القرطبي ١٦/٢٧٨..
قوله تعالى :﴿ وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ ﴾ يعني أسدا وغَطفانَ وأَهْلَ خَيْبَرَ ﴿ لَوَلَّوُاْ الأدبار ﴾، قال ابن الخطيب : وهذا يصلح جواباً لمن يقول : كَفّ الأيدي عنهم كان أمراً اتفاقياً، ولو اجتمع عليهم العرب كما زعموا١ لمنعوهم من فتح خيبر واغتنام غنائمها، فقال : ليس كذلك بل سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا لا ينصرون والغلبة واقعة للمسلمين، فليس أمرهم أمراً اتفاقياً، بل هو أمر إلهيٌّ محكوم به محتوم٢. وثم قال ﴿ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً ﴾.
١ كذا في النسختين وفي تفسير الرازي: عزموا..
٢ المرجع السابق..
قوله :﴿ سُنَّةَ الله ﴾ مصدر مؤكد لمضمون الجملة المقدمة، أي سَنَّ اللهُ ذَلك سنةً١.
قال ابن الخطيب : وهذا جواب عن سؤال آخر يقوله قومٌ من الجُهَّال وهو : إن الطَّوَالِعَ والتأثيرات والاتِّصالاتِ٢ تأثيراتٌ وتغييرات فقال : ليس كذلك، بل سنة الله نصرة رسوله، وإهلاك عدوه٣، والمعنى : هذه سنة الله في نصرة أوليائه، وقهر أعدائه ﴿ ولن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً ﴾.
١ قاله في الكشاف ٣/٥٤٧..
٢ في تفسيره: الطوالع لها تأثيرات والاتصالات لها تغيرات..
٣ المرجع السابق..
قوله تعالى: ﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾ وهذا تبيين لما تقدم من قوله: ﴿وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار﴾ [الفتح: ٢٢]
500
بتقدير الله، كما أنه كف أيهديهم عنكم بالفرار، وأيديكم عنهم بالرجوع عنهم وتركهم.
روى ثابتٌ عن أنس بن مالك (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) أن ثمانين رجلاً من أهل مكة هُبَطُوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من جبل التنعيم متسلحين يريدون غِرَّةَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه فأخذهم سلْماً فاستحياهم فأنزل الله: ﴿وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ﴾.
قال عبد الله بن مُغَفَّل المُزَنيّ: كنا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية في اصل الشجرة التي قال الله تعالى «في القرآن»، وعلى ظهره غُصْنٌ من أغصان الشجرة فرفعته عن ظهرهِ، وعلي بن أبي طالب (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) بين يديه يكتب كتاب الصلح فخرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فنادَوْا في وجوهنا فدعى عليهم نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ الله بأبصارهم فقمنا إليهم فأخذناهم، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جئتم في عهد (أحد) أو هل جَعَلَ لكم أحد أمناً؟ قالوا: اللَّهم لا فَخَلَّى سبيلهم. فأنزل الله هذه الآية.
قوله: ﴿وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً﴾ قرأ أبو عمرو يَعْلَمُونَ بالياء وقرأ الآخرون بالتاء من فوق قرأ الغيبة فهو رجوع إلى قوله: «أيْدِيَهُمْ» وَ «عَنْهُمْ». ومن قرأ بالخطاب فهو رجوع إلى قوله: أيْدِيَكُمْ «و» عَنكُم «، والمعنى أن الله يرى فيه من المصلحة وإنْ كُنْتُمْ لا ترون ذلك.
ثم بين ذلك بقوله تعالى: ﴿ُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام﴾ وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر (فيهم) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات.
قوله:»
وَالهَدْيَ «العامة على نصبه، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في»
501
صَدُّوكُمْ «وقيل: نصب على المعية. وفيه ضعف، لإمكان العطف. وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على» المَسْجِدِ الحَرَامِ «. ولا بد من حذف مضاف، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي، وقرىء برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ.
والعامة على فتح الهاء وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء. وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش، والهَدِيّ والهَدَا.
قوله: «مَعْكُوفاً»
حال من الهدى أي محبوساً، يقال: عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته.
وأنكر الفارس تعدية «عكف» بنفسه، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا. وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.
قوله: ﴿أَن يَبْلُغَ﴾ فيه أوجه:
أحدها: أنه على إسقاط الخافض، أي «عَنْ» أو «مِنْ أن» وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق «صَدُّوكُمْ» وأن يتعلق ب «مَعْكُوفاً» أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ.
الثاني: أنه مفعول من أجله، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد، والتقدير: صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «مَعْكُوفاً» أي لأجل أن يبلغ محله، ويكون الحبس من المسلِمِينَ.
الثالث: أنه بدل من «الهدي» بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.
(فصل
معنى الآية ﴿هُمُ الذين كَفَرُواْ﴾ يعنى كفار مكة «وَصَدُّوكُمْ» منعوكم {عَنِ المسجد
502
الحرام} أن تطوفوا فيه «وَالهَدْيَ» أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانت سبعينَ بدنةً «مَعْكُوفاً» محبوساً، يقال: عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه، وعُكُوفاً، كما يقال: رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً ﴿أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ﴾ مَنْحَرَهُ، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم. ثم قال: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ﴾ يعني المستضعفين بمكة).
قوله: ﴿لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ﴾ صفة للصِّنْفين، وغلب الذكور، وقوله: ﴿أَن تَطَئُوهُمْ﴾ يجوز أن يكون بطلاً من «رجال ونساء»، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ، فالتقدير على الأول: ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني: لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ، والخبر محذوف تقديره: ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ.
(وأما جواب «لولا» ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه محذوف، لدلالة جواب «لو» عليه.
والثاني: أنه مذكور وهو «لَعَذَّبْنَا» وجواب «لو» هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث: أن «لعذبنا» جوابهما معاً. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك.
وقال الزمخشرري قريباً من هذا فإنه قال: ويجوز أن يكون: «لَوْ تَزَيَّلُوا» كالتكرير لِلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون «لَعَذَّبْنَا» هو الجواب.
ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد، قال: لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني).

فصل


المعنى «لم تعلموهم» لم تَعْرِفُوهُم ﴿أَن تَطَئُوهُمْ﴾ بالقتل وتُوقعوا بهم. ﴿فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ﴾. قال ابن زيد إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار، وهي دليل الإثم، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ؛ قال تعالى:
﴿فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ﴾ [
503
النساء: ٩٢]. وقال ابن إسحاق: غُرم الدية. وقيل: إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك.
قوله: «فَتُصِيبَكُمْ» نَسَقٌ على ﴿فَتُصِيبَكمْ﴾ وقوله ﴿أَن تَطَئُوهُمْ﴾ يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مَعَرَّة» وأن يكون حالاً من مفعول «تُصيبُكُمْ» وقال أبو البقاء: مِنَ الضمير المجرور يعني في «منهم». ولا يظهر معناه. أو أن يتعلق «بتصيبكم» أو أن يتعلق «بتطئوهم» ؛ أي تطئوهم بغير علم.
(فإن قيل: هذا تكرار، لأنه إن قلنا: هو بدل عن الضمير يكون التقدير: لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ؟.
فالجواب: أن يقال: قوله: «بِغَيْرِ عِلْمٍ» هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من (الذي) يعرّكم ويعيبُ عليكم، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم (مَسبَّة) الكفار «بغير علم» أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه. أو يقال تقديره: لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه. أو نقول: المعرَّة قسمان:
أحدهما: ما يحصل من القتل العمد والعدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ.
والثاني: ما حصل من القتل خطأ وهو عند عندم العلم فقال: تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند العلم).
والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ» وأنشدوا:
504
قوله: «لِيُدْخِلَ اللهُ» متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله. وقال البغوي: اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكمة بعد الصلح قبل أن يدخلوها.
قوله: «َلوْ تَزَيَّلُوا: قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن تَزَيَلُوا على تَفَاعَلُوا.
والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط، أو على الكافرين، أو على الفريقين. والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم.
قوله (تعالى) :﴿إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ﴾ العامل في»
إذْ «إِما» لَعَذَّبْنَا «أو» صَدُّوكُمْ «أو» اذْكُر «فيكون مفعولاً به.
قال ابن الخطيب في إذ: يحتمل أن يكون ظرفاً، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له، ويحتمل أن يكون مفعولاً به، فإن قلنا: إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان:
أحدهما: هو قوله تعالى: ﴿وَصَدُّوكُمْ﴾ أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام.
وثانيهما: المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين.
فإن قلنا: إنه غير مذكور ففيه وجهان:
أحدهما: حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قولبهم الحمية.
وثانيهما: أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية. وعلى هذا فقوله: «فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ»
تفسير لذلك الإحسان. وإن قلنا: إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك
505
الوقت كقولك: اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه. وعلى هذا يكون «إذْ» ظرفاً للفعل المضاف إليه.
قوله: «فِي قُلُوبِهِمْ» يجوز أن يتعلرق ب «جَعَلَ» على أنها بمعنى «أَلْقَى»، فتتعدى لواحد؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر.
قوله: «حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ» بدل من «الحمية» قبلها، والحمية الأنَفَةُ من الشيء، وأنشدوا للمتلمس:
٤٤٩٥ - وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ
٤٤٩٦ - أَلاَ إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا
وهي المنع، ووزنها فَعِيلَةٌ، وهي مصدر، يقال: حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه (حَمِيَّةً).
(فصل
المعنى: إذ جعل الذين كفوروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه عن البيت، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله. قال مقاتل: قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللاتِ والعُزَّ لا يدخلونها علينا. فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم).
قله: ﴿فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين﴾ حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم. قال ابن الخطيب: دخول الفاء في قوله: ﴿فَأَنزَلَ الله﴾ يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إِذْ» ظرف لفعل مقدر كأنه قال: أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا. «فأنزل» تفسير لذلك الإحسان، كما يقال: «اَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام. ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول: أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ.
(قوله: ﴿وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين: كلمة التقوى لا إله إلا الله.
وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً. وقال عليٌّ وابنُ عرم: كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح: هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء
506
قدير. وقال عطاء الخراساني: هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري: هي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل: هي الوفاء بالعَهْد).
قوله: ﴿وكانوا أَحَقَّ بِهَا﴾ الضمير في «كانوا» يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار، وقيل: يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ.
(فصل
قال البغوي: وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير، قال ابن الخطيب: قوله: «أحق بها» يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً (ما) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال: الحبس أهون من القتل، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك.
الثاني: أن يكون لا للتفضيل كما في قوله ﴿خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً﴾ [الفرقان: ٢٤]، ﴿وَأَحْسَنُ نَدِيّاً﴾ [مريم: ٧٣] ؛ إذ لا خير في غيره ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ ).
507
ثم بين ذلك بقوله تعالى :﴿ همُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام ﴾ وهذا أشارة إلى أن الكف لم يكن الأمر ( فيهم١ ) لأنهم كفروا وصدوكم وأحصروا وكل ذلك يقتضي قتَالَهُم، فلا يقع لأحد أن الفريقين اتفقوا واصطلحوا، ولم يكن بينهما خلاف ولا نزاع بلا الاختلافُ والنزاعُ باقٍ مستمر ؛ لأنهم هم الذين كفروا وصدوكم ومنعوكم فازدادُوا كفراً وعداوةً، وإنما ذلك للرجال المؤمنينَ والنِّساء المؤمنات٢.
قوله :«وَالهَدْيَ » العامة على نصبه، والمشهور أنه نسق على الضمير المنصوب في «صَدُّوكُمْ٣ » وقيل : نصب على المعية. وفيه ضعف، لإمكان العطف٤. وقرأ أبو عمرو في رواية بجره عطفاً على «المَسْجِدِ الحَرَامِ »٥. ولا بد من حذف مضاف، أي وعَنْ نَحْرِ الهَدْي٦، وقرئ برفعه على أنه مرفوع بفعل مقدر لم يسم فاعله أي وصُدَّ الهَدْيُ٧.
والعامة على فتح الهاء وسكون الدال، وروي عن أبي عمرو وعاصم وغيرهما كسر الدال وتشديد الياء٨. وحكى ابن خالويه ثلاث لغات الهَدْي وهي الشهيرة لغة قريش، والهَدِيّ والهَدَا٩.
قوله :«مَعْكُوفاً » حال من الهدى أي محبوساً، يقال : عَكَفْتُ الرَّجُلَ عن حاجته.
وأنكر الفارس تعدية «عكف » بنفسه١٠، وأثبتها ابن سِيدَهْ والأزهريّ وغيرُهُمَا١١. وهو ظاهر القرآن لبناء اسم مفعول منه.
قوله :﴿ أَن يَبْلُغَ ﴾ فيه أوجه :
أحدها : أنه على إسقاط الخافض، أي «عَنْ » أو «مِنْ أن » وحينئذ يجوز في هذا الجار المقدر أن يتعلق «صَدُّوكُمْ » وأن يتعلق ب «مَعْكُوفاً » أي محبوساً عن بلوغ مَحِلِّهِ.
الثاني : أنه مفعول من أجله، وحينئذ يجوز أن يكون علة للصد، والتقدير : صدوا الهدي كراهة أن يبلغ محله وأن يكون علة ل «مَعْكُوفاً » أي لأجل أن يبلغ محله، ويكون الحبس من المسلِمِينَ١٢.
الثالث : أنه بدل من «الهدي » بدل اشتمال أي صدوا بلوغ الهدي محله.
( فصل١٣
معنى الآية ﴿ هُمُ الذين كَفَرُواْ ﴾ يعنى كفار مكة «وَصَدُّوكُمْ » منعوكم ﴿ عَنِ المسجد الحرام ﴾ أن تطوفوا فيه «وَالهَدْيَ » أي وصدوا الهدي وهي البُدْنُ التي ساقها رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت سبعينَ بدنةً «مَعْكُوفاً » محبوساً، يقال : عَكَفَهُ عَكْفاً إذا حبسه، وعُكُوفاً، كما يقال : رَجَعَ رَجْعاً ورُجُوعاً ﴿ أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ﴾ مَنْحَرَهُ١٤، وحيث يحِلّ نحرُه يعني الحرم. ثم قال :﴿ وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ ﴾ يعني المستضعفين بمكة١٥ ).
قوله :﴿ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ ﴾ صفة للصِّنْفين، وغلب الذكور، وقوله :﴿ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ يجوز أن يكون بطلاً من «رجال ونساء »، وغلب الذكور كما تقدم وأن يكون بدلاً من مفعول تَعْلَمُوهُمْ، فالتقدير على الأول : ولولا وطءُ رجالٍ ونساءٍ غيرِ معلومين، وتقدير الثاني : لم تَعْلَمُوا وَطْأَهُمْ، والخبر محذوف تقديره : ولولا نساء ورجال موجودون أو بالحَضْرَةِ١٦.
( وأما جواب١٧ «لولا » ففيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه محذوف، لدلالة جواب «لو » عليه.
والثاني : أنه مذكور وهو «لَعَذَّبْنَا » وجواب «لو » هو المحذوف فحذف من الأول لدلالة الثاني، ومن الثاني لدلالة الأول.
والثالث : أن «لعذبنا » جوابهما معاً. وهو بعيد إن أراد حقيقة ذلك١٨.
وقال الزمخشري قريباً من هذا فإنه قال : ويجوز أن يكون :«لَوْ تَزَيَّلُوا » كالتكرير لِلَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ لمرجعهما إلى معنى واحد، ويكون «لَعَذَّبْنَا » هو الجواب١٩.
ومنع أبو حيان مرجعهما لمعنى واحد، قال : لأن ما تعلق به الأَوَّل غيرُ ما تعلَّق به الثاني )٢٠.

فصل


المعنى «لم تعلموهم » لم تَعْرِفُوهُم ﴿ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ بالقتل وتُوقعوا بهم. ﴿ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ ﴾. قال ابن زيد : إثم ذلك لأنكم ربما تقتلوهم فيلزمكم الكفَّار، وهي دليل الإثم، لأن الله تعالى أوجب على قاتل المؤمن في دار الحرب إذا لم يعلم إيمانه الكفارة دون الدِّيَةِ ؛ قال تعالى :﴿ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ﴾ [ النساء : ٩٢ ]. وقال ابن إسحاق : غُرم الدية. وقيل : إن المشركين يعيبوكم ويقولون قتلوا أهل دينهم وفعلوا بإخوانهم ما فعلوا بأعدائهم والمَعَرَّةُ السُّبَّة يقول لولا أن تطئوا رجالاً مؤمنينَ ونساءً مؤمناتٍ لا تعلموهم فيلزمكم به كفارة ويلحقكم به سُبَّة لأذن لكم في دخولها ولكنه حال بينكم وبين ذلك٢١.
قوله :«فَتُصِيبَكُمْ » نَسَقٌ على ﴿ أَن تَطَئُوهُمْ ﴾ وقوله «بغير علم » يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «مَعَرَّة » وأن يكون حالاً من مفعول «تُصيبُكُمْ »٢٢ وقال أبو البقاء : مِنَ الضمير المجرور يعني في «منهم »٢٣. ولا يظهر معناه. أو أن يتعلق «بتصيبكم »٢٤ أو أن يتعلق «بتطئوهم »٢٥ ؛ أي تطئوهم بغير علم.
( فإن قيل٢٦ : هذا تكرار، لأنه إن قلنا : هو بدل عن الضمير يكون التقدير : لم تعلموا أن تَطَئُوهُمْ بغير علم فيلزم تكرار بغَيرِ عِلْمٍ لحصوله بقوله : لَمْ تَعْلَمُوهُمْ ؟.
فالجواب : أن يقال : قوله :«بِغَيْرِ عِلْمٍ » هو في موضعه أي فتصيبكم منهم مَعَرَّةٌ بغير علم من ( الذي٢٧ ) يعرّكم ويعيبُ عليكم، يعني إن وَطَأتُمُوهُمْ غير عالمين يعركم ( مَسبَّة٢٨ ) الكفار «بغير علم » أي بجهل لأنهم لا يعلمون أنكم معذورون فيه. أو يقال تقديره : لم تعلموا أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم فيكون الوطء الذي يحصل بغير علم معذورين فيه. أو نقول : المعرَّة قسمان :
أحدهما : ما يحصل من القتل العمد العدوان ممن هو غير عالم بحال المحِلّ.
والثاني : ما حصل من القتل خطأ وهو عند٢٩ عدم العلم فقال : تصبيكم منهم معرة بغير علم لا التي تكون عند٣٠ العلم ).
والوَطْءُ هنا عبارة عن القَتْلِ والدَّوْسِ، قال عليه الصلاة والسلام :«اللَّهُمَ اشْدُدْ وَطْأَتَكَ عَلَى مُضَرَ »٣١ وأنشدوا :
٤٤٩٥ وَوَطِئْتَنَا وَطْاً عَلَى حَنَقٍ وَطْءَ المُقَيَّدِ ثَابِتَ الهَرَمِ٣٢
قوله :«لِيُدْخِلَ اللهُ » متعلق بمقدر أي كان انتفاء التسليط على أهل مكة وانتفاء العذاب ليدخل الله٣٣. وقال البغوي : اللام في ليدخل متعلق بمحذوف دلّ عليه معنى الكلام يعني ليدخل الله في رحمته أي في دين الإسلام من يشاء من أهل مكة بعد الصلح قبل أن يدخلوها٣٤.
قوله :«لوْ تَزَيَّلُوا » : قرأ بانُ أبي عَبْلَةَ وأبو حيوة وابنُ عَوْن٣٥ تَزَايَلُوا٣٦ على تَفَاعَلُوا.
والضمير في تزايلوا يجوز أن يعود على المؤمنين فقط، أو على الكافرين، أو على الفريقين. والمعنى لو تمَيَّزَ هؤلاءِ من هؤلاءِ لعذبنا الذين كفروا منهم عذاباً أليماً بالسَّبْيِ والقتْل بأيديكم.
١ ما بين القوسين زيادة من الرازي، فقد أشار الناسخ في النسختين بقوله كذا بياض في الأصل وفي الرازي: إشارة إلى أن الكف لم يكن لأمر فيهم، لأنهم كفروا، وصدوا وأحصروا..
٢ بالمعنى من تفسير الإمام ٢٨/٩٩..
٣ وهو اختيار الرازي في مرجعه السابق ومن قبل الزمخشري في الكشاف ٣/٥٤٧..
٤ المحض وهو ما جوزه ابن مالك ولكن الجمهور خصوه بما صلح فيه بمعنى العطف ومعنى المفعول به فلا يجوز حيث لا يتصور معنى العطف لقيام الأدلة على أن واو "مع" عطف في الأصل ولا حيث تمحض معنى العطف لأن دخول معنى المفعول به هو الذي سوغ خروجه بما يقتضيه العطف من المشاكلة التي تؤثرها العرب على غيرها وسواء صلح فيه العطف حقيقة أو مجازا. وانظر الهمع ١/٢١٩..
٥ وهي قراءة الجهني عن أبي عمرو. وانظر البحر ٨/٩٨ والكشاف ٣/٥٤٧..
٦ البحر المرجع السابق..
٧ لم تنسب في كل من المرجعين السابقين..
٨ لم ترو في المتواتر عنهما. انظر البحر ٨/٩٨ ومختصر ابن خالويه ١٤٢ و١٤٣..
٩ المرجع السابق..
١٠ قال: لأنا لا نعلم عكف جاء متعديا القرطبي ١٦/٢٨٤..
١١ انظر التهذيب والمخصص عكف ومعاني الفراء ٣/٦٧..
١٢ قال بالوجه الأول فقط الكشاف ٣/٤٧، وقال بالثلاثة الأوجه صاحب البحر المحيط ٨/٩٨..
١٣ ما بين القوسين كله سقط من نسخة (ب)..
١٤ قاله الفراء في المعاني ٣/٦٨..
١٥ وانظر القرطبي أيضا ١٦/٢٨٣، ٢٨٤..
١٦ قال بهذه الإعرابات أبو البقاء العكبري في التبيان ١١٦٧..
١٧ ما بين القوسين كله من هنا إلى نهاية الأقواس الآتي بعد ساقط من نسخة (ب)..
١٨ انظر التبيان ١١٦٧ وقد قال بالإعرابات السابقة أيضا أبو حيان في البحر ٨/٩٨..
١٩ الكشاف ٣/٥٤٨..
٢٠ وقال: "فالمعنى في الأولى ولولا وطء قوم مؤمنين والمعنى في الثانية لو تميزوا من الكفار وهذا معنى مغاير للأول مغايرة ظاهرة" انظر البحر ٨/٩٨..
٢١ وانظر في هذا تفسير العلامة القرطبي في الجامع ١٦/٢٨٥..
٢٢ التبيان ١١٦٧..
٢٣ السابق..
٢٤ البحر ٨/٩٨..
٢٥ وهو قول الزمخشري في الكشاف ٣/٤٨، ونقله عن الرازي في التفسير الكبير ٢٨/٩٩..
٢٦ ما بين القوسين كله سقط من نسخة (ب)..
٢٧ كذا أوردها الناسخ زيادة عن الرازي..
٢٨ زيادة من الرازي للسياق..
٢٩ في الرازي: "غير"..
٣٠ وفيه: "عن" بدل من عند. وانظر بالمعنى تفسير الرازي ٢٨/٩٩ و١٠٠..
٣١ اللسان وطأ ٤٨٨٣..
٣٢ من الكامل أحذ العروض والضرب، ولم أهتد إلى قائله. وشاهده: في "وطئتنا" وهو القتل والدوس وانظر اللسان والبحر ٨/٩٨ والكشاف ٣/٥٤٨ وشرح شواهده ٤/٥٤٠..
٣٣ قاله أبو حيان في البحر ٨/٩٩..
٣٤ معالم التنزيل ٦/٢١٢..
٣٥ مع ابن مقسم..
٣٦ وهي شاذة غير متواترة. انظر البحر ٨/٩٩ والكشاف ٣/٥٤٨..
قوله ( تعالى )١ :﴿ إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ ﴾ العامل في » إذْ «إِما » لَعَذَّبْنَا «أو » صَدُّوكُمْ «أو » اذْكُر «فيكون مفعولاً به٢.
قال ابن الخطيب في إذ : يحتمل أن يكون ظرفاً، فلا بد من فعل يقع فيه ويكون عاملاً له، ويحتمل أن يكون مفعولاً به، فإن قلنا : إنه ظرف فالفعل الواقع فيه يحتمل أن يكون مذكوراً ويحتمل أن يكون غير مذكور، فإن كان مذكوراً ففيه وجهان :
أحدهما : هو قوله تعالى :﴿ وَصَدُّوكُمْ ﴾ أي وصدوكم حِينَ جَعَلُوا في قلوبهم٣ الحَمِيَّة فلا يرجعون إلى الإسلام.
وثانيهما : المؤمنون لما أنزل الله عليهم سكينته لا يتركون الاجتهاد في الجهاد والله مع المُؤمنين٤.
فإن قلنا : إنه غير مذكور ففيه وجهان :
أحدهما : حفظ الله المؤمنين عن أن يَطَئُوهم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية.
وثانيهما : أحسن الله إليكم إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية. وعلى هذا فقوله :«فَأَنْزَلَ السَّكيِنَةَ » تفسير لذلك الإحسان. وإن قلنا : إنه مفعول به فتقديره اذكر ذلك الوقت كقولك : اذْكُر إِذْْ قَامَ زَيْدٌ أي اذكر وَقْتَ قيامه. وعلى هذا يكون «إذْ » ظرفاً للفعل المضاف إليه٥.
قوله :«فِي قُلُوبِهِمْ » يجوز أن يتعلق ب «جَعَلَ » على أنها بمعنى «أَلْقَى »، فتتعدى لواحد ؛ أي إِذْ أَلْقَى الكافرون في قلوبهم الحمية، وأن يتعلق بمحذوف على أنه مفعول ثانٍ قدم على أنها بمعنى صيّر.
قوله :«حَمِيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ » بدل من «الحمية » قبلها، والحمية الأنَفَةُ من الشيء، وأنشدوا للمتلمس :
٤٤٩٦ أَلاَ إِنَّنِي مِنْهُمْ وَعِرْضِي عِرْضُهُمْ كَذَا الرَّأْسِ يَحْمِي أَنْفَهُ أَنْ يُهَشَّمَا٦
وهي المنع، ووزنها فَعِيلَةٌ، وهي مصدر، يقال : حَمَيْتُ عن كذا أَحْمِيه ( حَمِيَّةً )٧.
( فصل٨
المعنى : إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عن البيت، وأنكروا أَنَّ محمداً رسول الله. قال مقاتل : قال أهل مكة قد قتلوا أبناءنا وإخوانَنَا ثم يدخلون علينا فتتحدث العرب أنهم دخلوا علينا على رغم أنفنا، واللاتِ والعُزَّى لا يدخلونها علينا. فهذه حَمِيَّة الجاهلية التي دخلت قلوبهم ).
قله :﴿ فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين ﴾ حين لم يدخلهم ما دخلهم من الحمية فعصوا الله في قتالهم. قال ابن الخطيب : دخول الفاء في قوله :﴿ فَأَنزَلَ الله ﴾ يدل على تعلق الإنزال أو ترتيبه على ما ذكرنا من أن «إِذْ » ظرف لفعل مقدر كأنه قال : أحْسَنَ اللهُ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا. «فأنزل » تفسير لذلك الإحسان، كما يقال٩ :«أَكْرَمَنِي فَأَعْطَانِي لتفسير الإكرام. ويحتمل أن تكون الفاء للدلالة على تعلق إنزال السكينة بجعلهم الحمية في قلوبهم على معنى المقابلة تقول : أَكْرَمِنِي فَأَثْنَيْتُ عَلَيْهِ١٠.
( قوله١١ :﴿ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى ﴾ قال ابن عباس ومجاهد وقتادة والضحاك وعكرمة والسدي وابن زيد وأكثر المفسرين : كلمة التقوى لا إله إلا الله.
وروي عن أبي بن كعب مرفوعاً. وقال عليٌّ وابنُ عمر : كلمة التقوى لا إله إلا الله والله أكبر. وقال عطاء بن أبي رباح : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير. وقال عطاء الخراساني : هي لا إله إلا الله محمد رسول الله وقال الزهري : هي بسم الله الرحمن الرحيم. وقيل : هي الوفاء بالعَهْد١٢ ).
قوله :﴿ وكانوا أَحَقَّ بِهَا ﴾ الضمير في «كانوا » يجوز أن يعود إلى المؤمنين وهو الظاهر، أي أحق بكلمة التقوى من الكفار، وقيل : يعود على الكفار أي كانت قريشٌ أحقَّ بها لولا حرمانُهُمْ١٣.
( فصل١٤
قال البغوي : وكان المؤمنونَ أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا المؤمنون أحقّ بها من كفار مكة وأهلها أي وكانوا أهلها في علم الله تعالى، لأن الله تعالى اختبار لدينه وصحبةَ نبيه أهل الخير١٥، قال ابن الخطيب : قوله :«أحق بها » يحتمل وجهين :
أحدهما : أنه يفهم من معنى الأحقِّ أنه يثبت رجحاناً ( ما١٦ ) على الكافرين وإن لم يثبت الأهلية كما لو اختار الملك اثنين لشغل، وكل واحد منهما غير صالح له ولكن أحدهما أبعد عن الاستحقاق يقال للأقرب إلى الاستحقاق إن كان ولا بد فهذا أحق كما يقال : الحبس أهون من القتل، مع أنه لا هيِّن هناك فقال وأهلها دفعاً لذلك.
الثاني : أن يكون لا للتفضيل كما في قوله ﴿ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً ﴾ [ الفرقان : ٢٤ ]، ﴿ وَأَحْسَنُ نَدِيّاً ﴾ [ مريم : ٧٣ ] ؛ إذ لا خير في غيره ﴿ وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً ﴾١٧ ).
١ زيادة من أ..
٢ قاله أبو حيان في بحره ٨/٩٩..
٣ في ب قلوبكم. تحريف..
٤ الواقع أن قبل هذا كلام قد نسيه الناسخ واله أعلم فقد قال الرازي:
وثانيها: قوله تعالى: ﴿لعذبنا الذين كفروا منهم﴾ أي لعذبناهم حين جعلوا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية ثم يقول: والثاني أقرب لفظا وشدة مناسبته معنى، لأنهم إذا جعلوا في قلوبهم الحمية لا يرجعون إلى الاستسلام والانقياد. والمؤمنون الخ. انظر الرازي ٢٨/١٠١ و١٠٢..

٥ المرجع السابق..
٦ من الطويل له ورواه المؤلف كرواية أبي حيان في البحر ٨/٩٩ وفي القرطبي: كذي الأنف و "يكشما". والكشم: قطع الأنف باستئصال. وانظر: القرطبي ١٦/٢٨٨ وشاهده واضح..
٧ نقله القرطبي في الجامع ١٦/٢٨٨..
٨ ما بين القوسين كله سقط من ب..
٩ في ب قال وما هكذا في الرازي..
١٠ الرازي ٢٨/١٠٢..
١١ ما بين القوسين أيضا كله سقط من نسخة ب..
١٢ وانظر هذه الأقوال مجتمعة في القرطبي ١٦/٢٨٩ والبحر ٨/٩٩..
١٣ نقله أبو حيان في البحر ٨/٩٩ و١٠٠ واختار القرطبي عوده على المؤمنين..
١٤ ما بين القوسين كله أيضا ساقط من نسخة ب..
١٥ معالم التنزيل له ٦/٢١٢ و٢١٣..
١٦ زيادة على الرازي من المؤلف..
١٧ بالمعنى من الرازي ٢٨/١٠٣..
قوله تعالى: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا﴾. «صَدَقَ» يتعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، يقال صَدَقََكَ فِي كَذَا، وقد يحذف كهذه الآية، وقوله: «بِالحَقِّ» فيه أوجه:
أحدها: أن يتعلق ب «صَدَقَ».
الثاني: أن يكون صفة لمصدر محذوف أي صِدْقاً مُلْتَبِساً بالحَقِّ.
الثالث: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من الرؤيا، أي ملتبسةً بالحق.
الرابع: أنه قسم وجوابه: لَتَدْخُلُنَّ فعلى هذا يوقف على الرؤيا، ويبتدأ بما بعدها.
507
(قال الزمخشري. وعلى تقديره قَسَماً إما أن يكون قَسَماً بالله فإن الحقَّ من أسمائه، وأما أن يكون قسماً بالحق الذي هو نقيض الباطل.
وقال ابن الخطيب: ويحتمل وجهين آخرين:
أحدهما: فيه تقديرم وتأخير تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق الرؤيا أي الرسول الذي هو رسول بالحق.
الثاني: أن يقال تقديره صدق الله (و) رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن فيكون تفسيراً للرؤيا بالحق يعني أن الرؤيا هي وَاللهِ لَتَدْخُلُنَّ.

فصل


ذكر المفسرون أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في المنام قبل أن يخرج إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجد الحرام ويَحْلِقُونَ رُؤُسَهُمْ ويُقَصِّرونَ، فأخبر أصحابه ففرحوا، وحسبوا أنهم دخلوا مكة عامَهُم ذلك فلما انصرفوا ولم يدخلوا شقَّ عليهم ذلك فأنتزل الله هذه الآية.
وروى مُجَمَّعُ بنُ جارية الأنصاريُّ قال: شهدنا الحديبية مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما انصرفنا عنها إذ النَّاسُ يهزّون الأبَاعِرَ فقال بعضهم: ما بال الناس؟ قالوا: أُوحيَّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ.
قال: فخرجنا نزحف فوجدنا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واقفاً على راحلته على كرَاع الغَمِيم، فلما اجتمع الناس قرأ: «إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» فقال عمر: أَوَ فَتحٌ هو يا رسول الله؟ قال: نعم والذي نفسي بيده. ففيه دليل على أن المراد من الفتح صلح الحديبية وتحقيق الرؤيا كان ف يالعام المقبل فقال تعالى: ﴿لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق﴾ أراها إياه في مَخْرَجِهِ إلى الحديبية أنه يدخل هو وأصحابه المسجِدَ الحَرَامَ صدق وحق).
قوله: «لَتَدْخُلُنَّ» جواب قسم مضمر أو لقوله: «بالحَقِّ» على ذلك القول. وقال أبو البقاء: و «لَتَدْخُلُنَّ» تفسير الرؤيا أو مستأنف أي والله لتدخلن، فجعل كونه جواب قسم قسماً تفسيراً للرؤيا. وهذا لا يصح البتة وهو أن يكون تفسيراً للرؤيا غير جواب القسم، إلا أن يريد أنه جواب قسم ولكنه يجوز أن يكون هو مع القسم تفسيراً وأن يكون مستأنفاً غير تفسير، وهو تفسير من عبارته.
قوله: ﴿إِن شَآءَ الله﴾ فيه وجوه:
508
أحدها: أنه ذكره تعظيماً للعبادة الأدب كقوله تعالى:
﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ و٢٤].
الثاني: أن الدخول لما وقع عام الحديبية وكان المؤمنون يريدون الدخول، ويأبون الصلح قال: لَتَدْخُلُنَّ ولكن لا بجلادتكم ولا بإرادتكم وإنما تَدْخُلُنَّ بمشيئة اله (تَعَالَى.
الثالث: أن الله تعالى لما قال في الوحي المنزَّل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لتدخلن» ذكر أنه بمشيئة الله) تعالى، لأن ذلك من الله وَعْدٌ، ليس عليه دينٌ ولا حقٌّ واجبٌ؛ لأن من وعد بشيء لا يحققه إلا بمشيئة الله، وإلا فلا يلزمه به أحدٌ.
(فصل
قال البغوي: معناه وقال لتدخلن. وقال ابن كيسان: لَتْدخُلُنَّ من قوله رسول الله صلى لله عليه وسلم لأصحابه حكاية عن رؤياه، فأخبر الله عن رسوله أنه قال ذلك، وإنما استثنى مع علمه بدخولها بإخبار الله تعالى تأدباً بأدب الله تعالى حيث قال: ﴿وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله﴾ [الكهف: ٢٣ و٢٤]. وقال أبو عبيدة: «إِلاَّ» بمعنى إذ مجازه إذْ شَاءَ شالله كقوله: ﴿إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ﴾ [البقرة: ٢٧٨] وقال الحُسَيْنُ بن الفضل: يجوز أن يكون الاستثناء من الدخول لأن بين الرؤيا وتصديقها سنة ومات في السنة ناس فمجاز الآية لتدخلن المسجد الحرام كلكم إذْ شَاءَ الله. وقيل: الاستثناء واقع على الأمر لا على الدخول؛ لأن الدخول لم يكن فيهن شك كقول النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند دخول القبر: «وإِنَّا إنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لاَ حِقُونَ» فالاستثناء راجع إلى اللحوق لا إلى الموت).
قوله: «آمِنينَ» حال من فاعل لَتَدْخُلُنَّ وكَذَا «مُحَلِّقِينَ ومُقَصِّرِينَ». ويجوز أن تكون «مُحَلِّقِينَ» حالاً من «آمِنينَ» فتكون متداخلةً.

فصل.


قوله: ﴿مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ﴾ إشارة إلى أنكم تتمون الحج من أوله إلى آخره فقوله: «لَتَدْخُلُونَّ» إشارة إلى الأول وقوله: «محلقين» إشارة إلى الآخر.
فإن قيل: محلقين حال الداخلين، والدَّاخل لا يكون إلا مُحْرِماً والمحرم لا يكون مُحَلّقاً.
509
(فالجواب: أن قوله: «آمِنينَ» مُتَمَكِّنِين من أن تُتِمُوام الحجَّ مُحَلِّقِينَ).
قوله: «لاَ تَخَافُونَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً ثالثةً، وأن يكون حالاً (إما) من فاعل لتدخلن، أو من ضمير «آمنين» أو «محلِّقين أو مقصرين» فإن كانت حالاً من آمنين أو حالاً من فاعل لتدخلن فهي حال للتأكيد وآمنين حال مقارنة وما بعدها حال مقدرة إلا قوله: «لا تخافون» إذا جعل حالاً فإنها مقارنة أيضاً.
فإن قيل: قوله: «لا تخافون» معناه غير خائفين، وذلك يحصل بقوله تعالى: ﴿آمِنِينَ﴾ فما الفائدة في إعادته؟
فالجواب: أن فيه كمال الأمن؛ لأن بعد الحق يخرج الإنسان عن الإحرام فلا يحرم عليه القتال ولكن عند أهل مكة يحرم قتال من أحْرَمَ ومن دَخَلَ الحَرَمَ فقال: تَدْخُلُونَ آمِنِينَ وتَحْلِقُوَ، ويبقى أَمنُكُمْ بعد إحلالكم من الإحْرَام.
قوله: ﴿فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ﴾ أي ما لم تعلموا من المصلحة، وأن الصلاح كان في الصلح، وأن دخولكم في سنتكم سبب لوطء المؤمنين والمؤمنات وهوقوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ... ﴾ [الفتح: ٢٥] الآية.
(فإن قيل: الفاء في قوله: «فعلم» فاء التعقيب، فقوله «فعلم» عقبت ماذا؟.
فالجواب: إن قلنا: إن المراد من «فَعَلِم» وقت الدخول فهو عقيب صَدَقَ، وإن قلنا: المراد فعلم المصلحة فالمعنى علم الوقوع والشهادة لا علم الغيب. والتقدير: لما حصلت المصلحةُ في العام القابل فعلم ما لم تعلموا من المصلحة المتجددة.
﴿فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ﴾ أي من قبل دخولهم المسجد الحرام «فَتْحاً قَرِيباً» وهو فتح الحديبية عند الأكْثَرين. وقيل: فتح خيبر. ثم قال: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٦] وهذا يدفع وَهَمَ حدوثِ علمه في قوله: «فَعَلِمَ» ؛ لأن قوله: ﴿وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً﴾ [الفتح: ٢٦] يفيد سَبْقَ علْمِهِ).
قوله
تعالى
: ﴿هُوَ
الذي
أَرْسَلَ
رَسُولَهُ
بالهدى
وهذا تأكيد لبيان صدق في
الرؤيا؛ لأنه لما كان مرسلاً لرسوله ليهدي، لا يريد ما لا يكون فيحدث الناس فيظهر خلافه فيكون ذلك سبباً للضلال. ويحتمل أن الرؤيا الموافقة للقواقع قد تقع لغير المرسل، ولكن ذلك قليل لا يقع لكل أحد فقال تعالى: ﴿هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى﴾ وحكى له ما سيكون في اليقظة فلا يبعد أن يُرِيَه في المنام ما سيقع ولا استبعاد في صدق رؤياه وفيها بيان وقوع الفتح ودخول مكة بقوله تعالى: ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي من يقويه على الأديان لا يستبعد منه فتح مكة. والهدى يحتمل أن يكون هو القرآن كقوله تعالى: ﴿أُنْزِلَ فِيهِ القرآن هُدًى لِّلنَّاسِ﴾ [البقرة: ١٨٥] وعلى هذا دين الحق هو ما فيه من الأصول والفروع. ويحتمل أن يكون الهدى هو المعجزة أي أرسله بالمعجزة.
فيكون قوله: «وَدِينَ الحق» إشارة إلى ما شرع. ويحتمل أن يكون الهدى هو الأصولَ ودين الحق هو الأحكام. والألف واللام في «الهدى» يحتمل أن تكون للعهد وهو كقوله: ﴿ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ﴾ [الأنعام: ٨٨] وأن تكون للتعريف أي كل ما هو هُدًى.
قوله: «وَدِينَ الْحَقِّ» يحتمل أن يكون المراد دين الله تعالى؛ لأن الحق من أسماء الله، ويحتمل أن يكون الحقُّ نقيضَ الباطل، فكأنه قال: دين الأمر الحق، ويحتمل أن يكون المراد الانقياد للحق، وقوله: أرسله بالهدى وهو المعجزة على أحد الوجوه ﴿لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ﴾ أي جنس الدين ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ على أنك صادق فيما تخبر وفي أنك رسول الله. وهذا في تسلية قلب المؤمنين فإنهم تأَذوا من ردِّ الكفَّار عليهم العهد المكتوب وقالوا: لا نعلم أنه رسول الله فلا تكتبوا محمد رسول الله، بل اكتبوا محمد بن عبد الله، فقال تعالى: ﴿وكفى بالله شَهِيداً﴾ أي في أنه رسول الله.
قوله
: ﴿مُّحَمَّدٌ
رَّسُولُ
اللهوَالَّذِينَ
مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ الله الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً﴾

قوله: " محمد رسول الله " يجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر؛ لأنه لما تقدم «هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُوله» دل على ذلك المقدر، أي هو أي الرسول بالهُدَى محمد و «رسول الله» بدل أو بيان، أو نعت. وأن يكون مبتدأ وخبراً، وأن يكون مبتدأ و «رسول الله» على ما تقدم من البيان والبدل، والنعت «والذين معه» عطف على محمد والخبر «عَنْهم».
511
قوله: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾ (قال ابن الخطيب: كأنه قال: «الذين معه» جميعهم ﴿أشداء الكفار رحماء بينهم﴾ لأن وصف الشدة والرحمة وجد في جميعهم، أما في المؤمنين فقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤] وأما في حق النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقوله تعالى: ﴿واغلظ عَلَيْهِمْ﴾ [التوبة: ٧٣]. وقال في حقه: ﴿بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: ١٢٨].
وعلى هذا فقوله: «تَرَاهُمْ» لا يكون خطاباً مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بل يكون عاماً خرج مَخْرَج الخطاب تقديره تراهم أيها السامع كائناً من كان). وقرأ ابن عامر في رواية: رَسُولَ اللهِ بالنصب على الاختصاص وهي تؤيد كونه تابعاً لا خبراً حالة الرفع.
ويجوز أن يكون «وَالَّذِينَ مَعَهُ» على هذا الوجه مجروراً عطفاً على الجلالة أي ورسول الذين آمنوا معه لأنه لما أرسل إليهم أضيف إليهم فهو رسول الله بمعنى أن الله أرسله ورسول أمته بمعنى أنه مرسل إليهم ويكون «أشداء» حينئذ خبر مبتدأ مضمرم أي هُمْ أَشِدَّاءُ. ويجوز أن يكون تَمَّ الكلامُ على «رَسُول اللهِ» و «الَّذين مَعَهُ» و «أشِدَّاء» خبره. وقرأ الحسن: أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ بالنصب إما على المَدْح وإمَّا على الحال من الضمير المستكِنّ في «مَعَهُ» ؛ لوقوعه صلة، والخبر حينئذ عن المبتدأ قوله «تَرَاهُمْ ركعاً» و «رُكَّعاً سُجَّداً» حالان؛ لأن الرؤية بصرية، وكذلك «يَبتَغُونَ». ويجوز أن يكون مستأنفاً. وإذا كان حالاص فيجوز أن تكون حالاً ثالثة من مفعول «تَرَاهُمْ» وأن تكون من الضمير المستتر في «رُكَّعاً سُجَّداً». وجوز أبو البقاء أن يكون «سُجَّداً حالاً من الضمير في» رُكَّعاً «حالاً مقدرةً. فعلى هذا يكون» يَبْتَغُونَ «حالاً من الضمير» سُجَّداً، فيكون حالاً من حال، وتلك الحال الأولى حالٌ من حالٍ أخرى. وقرأ ابن يَعْمُرَ أَشِدًّا بالقصر والقَصْرُ من ضرائر الأشعار كقوله:
512
٤٤٩٧ - لاَ بُدَّ مِنْ صَنْعَا وإنْ طَالَ السَّفَرْ...........................
فلذلك كانت شاذة. وقال أبو حيان: وقرأ عمرو بن عبيد: ورُضْوَاناً بضم الرءا قال شهاب الدين: وهذه قرءاة متواترة، قرأ بها عاصمٌ في رواية أبي بكر عنهُ، وتقدمت في سورة آل عمران واستثنيت له حرفاً واحداً وهو ثاني المائدة.

فصل


معنى الآية: ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾ أي غِلاظٌ عليهم كالأسد على فريسته، لا تأخذهم فيهم رأفة «رُحَمَاءُ بينهم» متعاطفون متوادُّون بعضهم لبعض كالوالد مع الوَلَد كقوله تعالى: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين﴾ [المائدة: ٥٤] و ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ خبر عن كثرة صلاتهم ومداومتهم عليها ﴿يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله﴾، أن يدخلهم الجنة «وَرِضْوَاناً» أي يرضى عنهم. وهذا تمييز لركوعهم وسجودهم عن ركوع الكافر وسجوده وركوع المرائي وسجوده فإنه لا يبتغي به ذلك.
قوله: «سِيمَاهُمْ» قرىء سِيماؤُهُمْ بياء بعد الميم والمد. وهي لغة فصيحة، وأنشد (رَحِمَهُ اللَّهُ عليه) :
٤٤٩٨ - غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بالْحُسْنِ يَافِعاً لَهُ سِيمْيَاءُ لا تُشَقُّ عَلَى البَصَر
وتقدم الكلام عليها وعلى اشتاقها في آخر البقرة.
513
و «فِي وُجُوهِهِمْ» خبر «سِيمَاهُمْ» و ﴿مِّنْ أَثَرِ السجود﴾ حال من الضمير المستتر في الجار وهو «في وُجُوهِهِمْ». وقرأ العامة «مِن أَثْرِ» بفتحتين. وابن هرمُز بكسر وسكون. وقتادة «مِنْ آثار» جمعاً.

فصل


المعنى علامتهم في وجوههم من أثر السجود. قيل: المراد سيماهم نورٌ وبياضٌ في وجوههم يوم القيامة كما قال تعالى: ﴿يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ﴾ [آل عمران: ١٠٦]. رواه عطيةُ العَوْفيُّ عن ابن عباس: وقال عطاء بن أبي رباح والربيع بن أنس: استنارة وجوههم من كَثْرَةِ صلاتهم. وقال شهر بن حوشب: تكون مواضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وروي البوالبيُّ عن ابن عباس: هو السَّمْتُ الحسن والخشوعُ والتواضع وهو قول مجاهد. والمعنى أن السجود أورثهم الخشوعَ والسَّمْتَ الحسن الذي يعرفون به. وقال الضحاك: صفرة الوجوه. وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: هو أثر التراب على الجِبَاه. وقيل: المراد ما يظهر في الجباه بكثرة السجود.
قوله: «ذَلِكَ مَثَلُهْمْ»، «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من وصفهم بكونهم أشِدَّاءَ رُحَمَاءَ لهم سِيمَا في وجوههم وهو مبتدأ خبره «مَثَلُهُمْ» و «فِي التَّوْرَاةِ» حال من «مَثَلَهُمْ» والعامل معنى الإشارة.
قوله: ﴿وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل﴾ يجوز فيه وجهان:
أحدهما أنه مبتدأ وخبره «كَزَرْعٍ» فيوقف على قوله: «فِي التَّوْرَاةِ» فهما مَثَلانِ.
وإليه ذهب أبن عباس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما) :
والثاني: أنه معطوف على «مَثَلُهُمْ» الأول فيكون مثلاً واحداً في الكتابين ويوقف حينئذ على: ف يالإنجِيلِ وإليه نحا مُجاهدٌ، والفراء.
وعلى هذا يكون قوله «كَزَرْعٍ» فيه أوجه:
أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر أي مثلهم كزرع فسر بها المثل المذكور.
514
الثاني: أنه حال من الضمير في «مَثَلُهُمْ» أي مُمَاثِلِينَ زَرْعاً هذِهِ صفَتُهُ.
الثالث: أنها نعت مصدر محذوف أي تمثيلاً كزرعٍ. ذكره أبو البقاء.
وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون «ذلك» إشارة مبهمةً أوضحت بقوله: «كزرع»، كقوله تعالى: ﴿وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ﴾ [الحجر: ٦٦].
قوله: ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ صفة ل «زَرْع». وقرأ ابنُ ذَكوَان بفتح الطاء والباقون بإسكانها. وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر. وقرأ أبو حَيْوة: شَطَاءَهُ بالمد. وزيد بن على: شَطَاهُ بألف صريحة بعد الطاء فيحتمل أن تكون بدلاً من الهمزة بعد نقل حركتها إلى الساكن قبلها على لغة من يقول: المِرَاةُ والكَمَاةُ بعد النقل. وهو مقيسٌ عند الكوفيين. ويحتمل أن يكون مقصوراً من الممدود. وأبو جعفر ونافع في رواية «شَطَهُ» بالنقل والحذف. وهو القياس. والجَحْدَريُّ شَطْوَهُ أبدل الهمزة واواً، أو يكون لغة مستقلة. وهذه كلها لغات في فِرَاخ الزرع، يقال: شَطَا الزرعُ وأَشْطَأ أي أخْرَجَ فِرَاخَهُ. وهل يختص ذلك بالحِنْطَةِ فقط أو بها وبالشعير فقط أو لا يختص خلافٌ مشهور. قال الشاعر:
515
٤٤٩٩ - أَخْرَجَ الشَّطْءَ عَلَى وَجْهِ الثَّرَى وَمِنَ الأَشْجَارِ أفنانُ الثَّمَرْ
قوله: «فآزَرَهُ» العامة على المد وهون على «أَفْعَلَ». وَغَلَّطوا من قال: إنه فاعل كَجَاهَرَ وغَيْرِه بأنه لم يسمع في مضارعه: يُؤَازِرُ على يؤزر. وقرأ ذكوان: فَأَزَرَه مَقصُوراً، جعله ثلاثياً. وقرىء «فأزَّرَهُ» بالتشديد. والمعنى في الكل: قوّاه. وقيل: ساواه، وأنشد:
٤٥٠٠ - بِمَحْنِيَةٍ قَدْ آزَرَ الضَّال نَبْتُهَا مَجَرَّ جُيُوشٍ غَانِمِينَ وَخُيَّبِ
قوله: «عَلَى سُوقِهِ» متعلق ب «اسْتَوَى». ويجوز أن يكون حالا أي كائنا على سوقه أي قائما عليها.
وقد تقدم في النمل أن قنبلا يقرأ سؤقه بالهمزة الساكنة. كقوله:
٤٥٠١ - أَحَبُّ المُؤْقِدِينَ إلَيَّ مُؤْسَى..............................
516
بهمزة مضمومة بعدها واو كعروج وتوجيه ذلك. والسُّوق جمع سَاقٍ.
( «فصل».
قال المفسرون: يقال: أشطأ الزرع فهو مُشْطِىء إذا خَرَجَ. قال مقاتل: هو نبت واحد فإذا خرج بعده فهو شطء. وقال السُّديّ: هو أن يخرج معه الطاقة الأخرى «فَآزَرَهُ» قَوَّاهُ وأَعَانَهُ وشدَّ أزره «فَاسْتَغْلَظَ» غَلُظَ ذلك الزرع «فَاسْتَوَى» تَمَّ وَتَلاَحَقَ نَبَاتُهُ عَلَى سُوقِهِ أصوله: «يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ» أي أعجب ذلك زُرَّاعَهُ هذ مثل ضربهُ الله لأصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإنجيل أنهم يكونوا قَليلاً ثم يَزْدَادُونَ وَكْثُرُونَ. قال قتادة: مَثَلُ أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإنجيل مكتوب له سيخرج قومٌ يَنْبتُونَ نبات الزرع يأمُرون بالمعروف وينهوْن عن المنكر. وقيل: الزرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والشطء أصحابه والمؤمنون. روى مبارك بن فُضَالة عن الحَسَن قال: محمد رسول الله والذين معه: أبو بكر الصديق ﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار﴾ عمر بن الخطاب ﴿رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ﴾ عثمان بن عفان ﴿تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً﴾ على بان أبي طالب «يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ رَبِّهِمْ» العشرة المبشرن «كَمَثَلِ زَرْعٍ» محمد ﴿أَخْرَجَ شَطْأَهُ﴾ أبو بكر ﴿فَآزَرَهُ فاستغلظ﴾ عثمان (بن عفان) يعني استغلظ عثمان بالإسلام ﴿فاستوى على سُوقِهِ﴾ علي بن أبي طالب استقام الإسلام بسيفه ﴿يُعْجِبُ الزراع﴾ قال: المؤمنون ﴿لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار﴾ فعل عمر لأهل مكة بعدما أسلم لا يُعبد الله سرًّا بعد اليوم.
روى أنس بن مالك: رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أَرْحَمُ (أصْحَابِ) النَّبِيِّ أبُو بَكْرس، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حُبًّا عُثْمَانُ وَأَفْرَضُهُمْ زيدٌ، وَأَقْوَأُهُمْ أبيٌّ، وَأَعْلَمُهُمْ بالحلال وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَلِكُلِّ أُمَّة أَمِينٌ وَأَمِين هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ»، وفي رواية أخرى: «وَأَقْضَاهُمْ عَلِيٌّ» وروى بريدةُ عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ مَاتَ مِنْ أَصْحَابِي بِأَرْض كان نُورَهُمْ وَقَائِدَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) ».
قوله: ﴿يُعْجِبُ الزراع﴾ حال أي معجباً. وها تم المَثَلُ.
قوله: «لِيَغِيظَ» فيه أوجهٌ:
أحدها: أنه متعلق ب «وَعَدَ» ؛ لأن الكفار إذا سمعوا بعزِّ المؤمنين في الدنيا وما أد لهم في الآخرة غَاظَهُمْ ذلك.
517
الثاني: أن يتعلق بمحذوف دل عليه تشبيهُهُمْ بالزرع في نمائِهِمْ وتقويتهم. قاله الزمخشري، أي شبههم الله بذلك ليغيظ.
الثالث: أن يتعلق بما دل عليه قوله:
﴿أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار .﴾ إلى آخره أي جعلهم بهذه الصفات ليغيظ.
قال مالك ابن أنس (رَضِيَ اللَّهُ عَنْه) «مَنْ أصْبَحَ فِي قَلْبِهِ غَيْظٌ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَدْ هَذِهِ الآيَةُ». وقال عليه الصلاة السلام: «اللهَ اللهَ فِي أَصْحَابِي لاَ تَتَّخِذُوهُمْ عَرَضاً بَعْدِي، فمن أحبهم فبحبي أحبهم، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ومن أذاهم فقد آذاني فَقَدْ أَذَى الله فَيُوشِكُ أَنْ يَأخُذَهُ».
وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ تَسُبّثوا أَصْحَابِي فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَباً مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدهِم وَلاَ نَصِيفَهُ».
قوله: ﴿لْكُفَّارَ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم﴾ «مِنْ» هذه للبيان، لا للتبعيض؛ لأن كلهم كذلك فهي كقوله: ﴿فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان﴾ [الحج: ٣٠].
وقال الطبري: منهم يعني من الشطء الذي أخرج الزرع، وهم الداخلون في الإسلام إلىيوم القيامة، فَأَعَادَ الضمير على معنى الشطء لا على لَفْظِهِ فقال: «مِنْهُمْ» ولم يقل: مِنْه وهو معنًى حَسَنٌ.

فصل


قد تقدم الدكلام على الأجر العظيم والمغفرة مراراً. وقال ههنا في حق الراكعين السَّاجدين: إنهم يَبْتَغُونَ فضلاً من الله ورِضْواناً وقال: لهم أجر «ولم يقل: لهم ما يطلبوا (نَ) هـ من الفضْل؛ لأن المؤمن عند العمل لم يلتَفِتْ إلى عمله ولم يجعل له أجراً يعتدّ به فقال: لا أبتغي إلا فضلك فإن عملي نَزْرٌ لا يكون له أجرٌ والله تعالى آتاه من طلب الفضل، وسماه أجراً إشارةً إلى قبوله عمله ووقوعه الموقع.
518
روى أنه من قرأ أول ليلة من رمضان: إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فِي التَّطَوع حُفِظَ في ذلك العام (انتهى). (اللَّهم إِنِّي أَسْأَلُكَ رِضَاكَ والْجَنَّة وأَعوذُ بك من سَخَطِكَ والنَّارِ).
519
سورة الحجرات
520
Icon