تفسير سورة الفتح

تفسير القرآن الكريم
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تفسير القرآن الكريم .
لمؤلفه شحاته . المتوفي سنة 1423 هـ
تفسير سورة الفتح
أهداف سورة الفتح :
سورة ( الفتح ) مدنية، نزلت في الطريق بين مكة والمدينة عند الانصراف من الحديبية، وآياتها ٢٩ آية، نزلت بعد سورة الجمعة.
ونلمح في بداية السورة فضل الله على النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه، وآثار نعمائه على المسلمين.
وقد سبقتها في ترتيب المصحف سورة ( محمد ) التي وصفت ظلم المشركين والمنافقين، وحرضت المسلمين على الجهاد، وحذرتهم من الخنوع والبعد عن طاعة الله.
وقد نزلت سورة ( محمد ) في الفترة الأولى من حياة المسلمين بالمدينة، أما سورة ( الفتح ) فقد نزلت في العام السادس من الهجرة، وكان عود المسلمين قد اشتد، وقوتهم قد زادت، وظهر أثر ذلك في بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة على التضحية والفداء.
صلح الحديبية :
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في منامه ذات ليلة أنه دخل المسجد الحرام في أصحابه، آمنين محلقين رؤوسهم ومقصرين لا يخافون عدوا، فاستبشر صلى الله عليه وسلم بذلك وأخبر أصحابه فاستبشروا وفرحوا واستعدوا لزيارة البيت الحرام معتمرين. ( وفي ذي القعدة من السنة السادسة للهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم معتمرا لا يريد حربا، واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، وهو يخشى من قريش أن يعرضوا له بحرب أو يصدوه عن البيت )١. وتخلف كثير من الأعراب عن مرافقته ظنا بأن الحرب لابد واقعة بينه وبين قريش، ( فخرج رسول الله بمن معه من المهاجرين والأنصار ومن لحق بهم من العرب، وساق معه الهدي سبعين بدنة، وأحرم بالعمرة ليأمن الناس من حربه، وليعلموا أنه إنما خرج زائرا للبيت ومعظما له )٢.
واستخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم على المدينة عبد الله ابن أم مكتوم، وأخذ معه من نسائه أم سلمة، وسار معه ألف وخمسمائة من المسلمين معتمرين وسيوفهم مغمدة في قربها، فلما أصبحوا على مسيرة مرحلتين٣ من مكة لقي النبي بشر بن سفيان، فأنبأه نبأ قريش قائلا : يا رسول الله، هذه قريش علمت بمسيرك، فخرجوا عازمين على طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( يا ويح قريش، قد أكلتهم الحرب، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس، فإن أصابوني كان الذي أرادوا، وإن أظهرني الله دخلوا في الإسلام وافرين ؟ والله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله به، حتى يظهره الله أو تنفرد مني هذه السالفة )٤.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على أن يتجنب الحرب مع قريش، لأنه خرج متنسكا معظما للبيت لا للحرب.
وأرسلت قريش مندوبين عنها، فأعلمهم النبي أنه لم يأت محاربا، وإنما جاء معتمرا معظما للبيت.
وأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان إلى أهل مكة ليخبرهم بمقصد المسلمين، فقال لهم : إنا لم نأت لقتل أحد، وإنا جئنا زوارا لهذا البيت، معظمين لحرمته ولا نريد إلا العمرة، فأبت قريش أن يدخل النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه مكة، وأذنت لعثمان أن يطوف بالبيت، فقال : لا أطوف ورسول الله ممنوع، فاحتبست قريش عثمان فشاع عند المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال صلى الله عليه وسلم حينما سمع ذلك :( لا نبرح حتى نناجزهم الحرب ).
بيعة الرضوان
دعا النبي الناس للبيعة على القتال، فبايعوه تحت شجرة هناك سميت :( شجرة الرضوان ) على الموت وقد بارك الله هذه البيعة وأعلن رضاه عن أهلها فقال سبحانه :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة... ﴾ ( الفتح : ١٨ ).
شرط الصلح
علمت قريش بخبر هذه البيعة فاشتد خوفها، وقويت رغبتها في الصلح، وأرسلت سهيل بن عمر ليفاوض المسلمين بشأن الصلح، وتوصل الطرفان إلى معاهدة مشتركة سميت بصلح الحديبية، وأهم شروط هذا الصلح ما يأتي :
١- وضع الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنين.
٢- من جاء إلى محمد من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا من المسلمين لا يلزمون برده.
٣- من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل فيه، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل فيه.
٤- أن يرجع النبي صلى الله عليه وسلم من غير عمرة هذا العام، ثم يأتي في العام المقبل فيدخل مكة بأصحابه، ويقيموا بها ثلاثة أيام ليس معهم من السلاح إلا السيوف في القراب.
وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض من بعض كبار المسلمين لأنهم جاءوا للطواف بالبيت فمنعوا من ذلك، وهم في حال قوة واستعداد لمحاربة قريش، كما أن شروط الصلح أثارت غضب المسلمين، فقال عمر ابن الخطاب : يا رسول الله، ألست برسول الله ؟ فقال :( بلى )، قال عمر : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال :( بلى )، قال : فعلام نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( أنا عبد الله ورسوله، لن أخالف أمره ولن يضيعني ).
ولكن أبا بكر أكثر الناس وثوقا بما اختاره النبي، وبأن الحكمة والخيرة في اختياره.
ثم وقع الطوفان على الصلح، وبعد ذلك توافدت قبيلة خزاعة فدخلت في عهد رسول الله، وتوافدت قبيلة بكر فدخلت في حلف قريش، وقد كان لهذا الصلح أكبر الأثر في سير الدعوة الإسلامية، فقد اعترفت قريش بالمسلمين، كما سمحت لهم بدخول مكة في العام القادم، ولما دخلوا مكة شاهدهم أهلها وسمعوا لقولهم ورأوا عبادتهم فتفتحت قلوبهم للإسلام، وقد فتحت مكة بعد عمرة القضاء بسنة واحدة، إذ كان صلح الحديبية سنة ٦ ه، وعمرة القضاء سنة ٧ ه، وفتح مكة سنة ٨ ه، كما أن هذا الصلح يسر للمسلمين نشر الدعوة وشرح الفكرة، ودعوة الناس إلى الإسلام، ومكاتبة الرسل والملوك.
الأحداث وسورة الفتح
نزلت سورة الفتح في أعقاب صلح الحديبية فباركت هذا الصلح، وجعلته فتحا مبينا، وبشرت النبي صلى الله عليه وسلم بالمغفرة والنصر وإتمام النعمة، وقد فرح النبي الكريم بهذه السورة فرحا شديدا ( انظر الآيات ١-٣ ).
واشتملت السورة على بيان فضل الله على المسلمين حين أنزل السكينة والأمان والرضا في قلوبهم، كما اعترفت السورة للمؤمنين بزيادة الإيمان ورسوخه، وبشرتهم بالمغفرة والثواب.
وتوعدت السورة المنافقين والكفار بالعذاب والنكال ( انظر الآيات ٤-٦ )، ثم التنويه ببيعة الرضوان، واعتبارها بيعة الله، وربط قلوب المؤمنين مباشرة بربهم عن هذا الطريق بهذا الرباط المتصل مباشرة بالله الحي الباقي الذي لا يموت ( الآية : ١٠ ).
وبمناسبة البيعة والنكث، التفت السياق إلى الأعراب الذين تخلفوا عن الخروج، ليفضح معاذيرهم، ويكشف ما جال في خواطرهم من سوء الظن بالله، ومن توقع السوء للرسول ومن معه، ويوجه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ما ينبغي أن يكون موقفه منهم في المستقبل، وذلك في أسلوب يوحي بقوة المسلمين وضعف المخلّفين، كما يوحي بأن هناك غنائم وفتوحا قريبة يسيل لها لعاب المخلّفين المتباطئين ( انظر الآيات ١١-١٧ ).
الله يبارك بيعة الرضوان
كان الربع الثاني من سورة الفتح تمجيدا لهؤلاء الصفوة من الرجال، وتسجيلا لرضوان الله عليهم حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، والله عز وجل حاضر هذه البيعة وشاهدها وموثقها، ويده فوق أيديهم فيها، تلك المجموعة التي حظيت بتلك اللحظة القدسية وذلك التبليغ الإلهي :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾. ( الفتح : ١٨ ).
تلك المجموعة التي سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لها عند البيعة :( أنتم اليوم خير أهل الأرض )٥.
تبدأ الآيات ( ١٨-٢٩ ) بحديث من الله سبحانه وتعالى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هؤلاء الصفوة الذين بايعوا تحت الشجرة، ثم بحديث مع هؤلاء الصفوة يبشرهم بما أعد لهم من مغانم كثيرة وفتوح، وبما أحاطهم به من رعاية وحماية في هذه الرحلة وفيما سيتلوها، ويندد بأعدائهم الذين كفروا تنديدا شديدا، ويكشف لهم عن حكمته في اختيار الصلح والمهادنة في هذا العام، ويؤكد لهم صدق الرؤيا التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن دخول المسجد الحرام، وأن المسلمين سيدخلونه آمنين لا يخافون، وأن دينه سيظهر على الدين كله في الأرض جميعا.
ظهور الإسلام
لقد صدقت رؤيا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتحقق وعد الله للمسلمين بدخول المسجد الحرام آمنين، ثم كان الفتح في العام الذي يليه، وظهر دين الله في مكة، ثم ظهر في الجزيرة العربية كلها بعد ذلك، ثم تحقق وعد الله وبشراه الأخيرة، حيث يقول :﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ﴾. ( الفتح : ٢٨ ). فلقد ظهر دين الحق لا في الجزيرة وحدها، بل ظهر في المعمور من الأرض كلها قبل مضي نصف قرن من الزمان، ظهر في إمبراطورية كسرى كلها، وفي قسم كبير من إمبراطورية قيصر، وظهر في الهند وفي الصين، ثم في جنوب آسيا في الملايو وغيرها، وفي جزر الهند الشرقية ( أندونيسيا )، وكان هذا هو معظم المعمور من الأرض في القرن السادس ومنتصف القرن السابع الميلادي.
ولا يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله حتى بعد انحساره السياسي عن جزء كبير من الأرض التي فتحها، وبخاصة في أوربا وجزر البحر الأبيض، وانحسار قوة أهله في الأرض كلها بالقياس إلى القوى التي ظهرت في الشرق والغرب في هذا الزمان.
أجل لا يزال دين الحق ظاهرا على الدين كله من حيث هو دين، فهو الدين القوي بذاته، القوي بطبيعته، الزاحف بلا سيف ولا مدفع من أهله، لما في طبيعته من استقامة مع الفطرة، ومع نواميس الوجود الأصلية، ولما فيه من تلبية عميقة لحاجات العقل والروح، وحاجات العمران والتقدم، وحاجات البيئات المتنوعة من ساكني الأكواخ إلى ساكني ناطحات السحاب، وما من صاحب دين غير الإسلام ينظر في الإسلام نظرة مجردة من التعصب والهوى، إلا ويقر باستقامة هذا الدين وقوته الكامنة، وقدرته على قيادة البشرية قيادة رشيدة، وتلبية حاجاتها النامية المتطورة في يسر واستقامة.
وصف الصحابة
في ختام سورة الفتح نجد صورة مشرقة للنبي الكريم وصحبه الأبرار، فهم أقوياء في الحق، أشداء على الكفار رحماء بينهم، وهم في الباطن أقوياء في العقيدة يملأ صدورهم اليقين، فتراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا.
وقد ظهر نور الإيمان عليهم في سمتهم وسحنتهم وسماتهم، سيماهم في وجوههم من الوضاءة والإشراق والصفاء والشفافية، هذه الصورة الوضيئة ثابتة لهم في لوحة القدر، فقد وردت صفتهم في التوراة التي أنزلها الله على موسى.
أما صفتهم في الإنجيل فهي صورة زرع نام قوي، يخرج فروعه بجواره، وهذه الفروع تشد أزره وتساعده حتى يصبح الزرع ضخما مستقيما قويا سويا، يبعث في النفوس البهجة والإعجاب.
قال تعالى :{ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِ

فضائل صلح الحديبية، أو فتح مكة
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( ١ ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢ ) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( ٣ ) ﴾

تمهيد :

بعد صلح الحديبية عاد المسلمون من الحديبية إلى المدينة، وفي الطريق أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه السورة الكريمة، تسجل للرسول الأمين أنه بذل جهده في الحرب والسلم، والمعاهدة في صلح الحديبية، وكان من أثر هذه المعاهدة ما يأتي :

١-
اعتراف قريش بقوة المسلمين، وأنهم أمة متكاملة، وكانوا قبل ذلك يعتبرونهم صابئين خارجين على دين العرب.

٢-
ترك الأمر بالخيار للناس، فتوافدت الوفود على المدينة، حتى سمي العام التالي لصلح الحديبية بعام الوفود.

٣-
تزايد عدد المسلمين خلال عامين من ألف وخمسمائة فرد عام الحديبية سنة ٦ هـ، إلى عشرة آلاف في فتح مكة سنة ٨ هـ.

٤-
اختلط المسلمون بأهل مكة في عمرة القضاء سنة ٧ هـ وجاوروهم، وسمعوا منهم، وتم النقاش المباشر بين الكافرين والمسلمين، وكان هذا سببا عمليا في تيسير فتح مكة.

قال الإمام الزهري :

لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين، وسمعوا كلامهم ؛ فتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها.
وقالت جماعة : المراد بالفتح هنا فتح مكة، وقد نزلت السورة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من الحديبية تبشره بفتح مكة أو بفتح خيبر.
المفردات :
الفتح : الفتح في أصل اللغة : إزالة الأغلاق، والفتح في باب الجهاد هو الظفر بالبلد عنوة أو صلحا، بحرب أو بغير ذلك، لأن البلد قبل ذلك منغلق ما لم نظفر به، فإذا ظفرنا به وأصبح في أيدينا فقد فتح. والمراد بالفتح هنا في رأي الجمهور : صلح الحديبية، وقال جماعة : المراد فتح مكة، وقد بشر الله تعالى به رسوله الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين قبل حصوله.
مبينا : ظاهر الأمر، مكشوف الحال.
التفسير :
١- ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾.
يسرنا لك صلح الحديبية، وفيه اعتراف بالمسلمين كقوة محترمة يتعاهد معها، وفي صلح الحديبية أوقفت الحرب بين المسلمين وأهل مكة، فتحرك الناس في جزيرة العرب آمنين، ودخل في الإسلام خلق كثير، ويسر صلح الحديبية عمرة القضاء، وفيها اختلط المسلمون بأهل مكة عن قرب، وشاهدوهم وناقشوهم، وكان ذلك سببا من أسباب تيسير فتح مكة.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالآية صلح الحديبية، وكان اعتراض البعض أن المسلمين في صلح الحديبية قد منعوا من أداء العمرة، ومُنع الهَدْي من الوصول إلى الكعبة وذبح عند الحديبية، وقد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية صلح الحديبية، حين طلب أهل مكة الصلح ورغبوا فيه، وأحسوا بقوة المسلمين بسبب بيعة الرضوان التي تمت تحت الشجرة، وبايع المسلمون فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت وعلى ألا يفروا، ثم عاد المسلمون وافرين سالمين إلى المدينة، ليتيسر لهم فتح خيبر وإزالة حصون اليهود القوية، ثم يتيسر لهم فتح مكة بعد عامين، وهم في جيش يزيد على عشرة آلاف مقاتل، لقد كان صلح الحديبية من أكبر وأهم نقاط الارتكاز للأمة الإسلامية الناشئة، فما أعظم أن تطلب مكة الصلح، على أن يعود المسلمون إلى المدينة هذا العام، ثم يقدموا إلى مكة في العام القادم -ومعهم السيوف في قرابها- ليؤدوا عمرة القضاء، وكأن هذا الأمر ترتيب الله، والإعداد للفتح الأكبر.
وبعض المفسرين يرى أن السورة نزلت عند انصراف الرسول صلى الله عليه وسلم من الحديبية لتبشره بفتح مكة، أو بفتح خيبر، ولتعظم قدر النبي صلى الله عليه وسلم وتبين أنه يستحق نعم الله تعالى عليه في الدنيا والآخرة.
والرأي الأول عليه جمهور المفسرين، وهو أرجح عند التأمل.
فضائل صلح الحديبية، أو فتح مكة
بسم الله الرحمان الرحيم
﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا ( ١ ) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢ ) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا ( ٣ ) ﴾

تمهيد :

بعد صلح الحديبية عاد المسلمون من الحديبية إلى المدينة، وفي الطريق أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم هذه السورة الكريمة، تسجل للرسول الأمين أنه بذل جهده في الحرب والسلم، والمعاهدة في صلح الحديبية، وكان من أثر هذه المعاهدة ما يأتي :

١-
اعتراف قريش بقوة المسلمين، وأنهم أمة متكاملة، وكانوا قبل ذلك يعتبرونهم صابئين خارجين على دين العرب.

٢-
ترك الأمر بالخيار للناس، فتوافدت الوفود على المدينة، حتى سمي العام التالي لصلح الحديبية بعام الوفود.

٣-
تزايد عدد المسلمين خلال عامين من ألف وخمسمائة فرد عام الحديبية سنة ٦ هـ، إلى عشرة آلاف في فتح مكة سنة ٨ هـ.

٤-
اختلط المسلمون بأهل مكة في عمرة القضاء سنة ٧ هـ وجاوروهم، وسمعوا منهم، وتم النقاش المباشر بين الكافرين والمسلمين، وكان هذا سببا عمليا في تيسير فتح مكة.

قال الإمام الزهري :

لم يكن فتح أعظم من صلح الحديبية، اختلط المشركون بالمسلمين، وسمعوا كلامهم ؛ فتمكن الإسلام من قلوبهم، وأسلم في ثلاث سنين خلق كثير، كثر بهم سواد الإسلام، فما مضت تلك السنون إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف ففتحوها.
وقالت جماعة : المراد بالفتح هنا فتح مكة، وقد نزلت السورة على النبي صلى الله عليه وسلم وهو عائد من الحديبية تبشره بفتح مكة أو بفتح خيبر.
التفسير :
٢، ٣- ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويتم نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما * وينصرك الله نصرا عزيزا ﴾.
كان محمد صلى الله عليه وسلم أطوع خلق الله لله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، وجاهد في الله حق جهاده، ونصر دين الله في السلم والحرب والمعاهدة، فوعده الله بهذه المكافأة الجليلة المتمثلة فيما يأتي :
( أ ) أن يغفر الله له ذنوبه السابقة واللاحقة، ليرفع درجته ويعلي كعبه، ويطهر ساحته، ويغفر له هفواته قبل النبوة وبعدها.
( ب ) إتمام النعمة بفتح الطريق أمام دين الإسلام، وأمام أمة الإسلام، لتأخذ طريقها إلى النصر والظفر، واستيعاب أحكام الدين.
( ج ) هداية الرسول إلى الصراط المستقيم، والدين القويم، والحكمة التامة في تبليغ الدعوة، وقيادة سفينة الإسلام بحكمة النبوة، وهداية الله وتوفيقه.
( د ) النصر العزيز الذي يقدمه له الله :﴿ وما النصر إلا من عند الله... ﴾ ( الأنفال : ١٠ ).
وقد كان صلح الحديبية نصرا، ثم تبعه فتح خيبر، ثم تبعه فتح مكة، وكان هناك نصر معنوي كبير في ضآلة شأن المنافقين، وانزواء أمرهم، وتحطيم قوة اليهود، وتلاشي قوة قريش والكافرين، وبحث جزيرة العرب عن الإسلام، وتوافدها على الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، فكان هناك فتح في النفوس، وهداية من الله للناس حتى دخلوا في دين الله أفواجا، أي جماعات جماعات، وكانوا قبل ذلك يدخلون أفرادا، وظل شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ارتفاع، وشأن أعدائه في انحدار، حتى عم الإسلام بلاد العرب، ونزل قوله تعالى :﴿ اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا... ﴾ ( المائدة : ٣ ).
وقوله سبحانه :﴿ إذا جاء نصر الله والفتح * ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا * فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا ﴾. ( النصر : ١-٣ ).
إنزال السكينة في قلوب المؤمنين
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( ٦ ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ ) ﴾

تمهيد :

يتفضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بما يأتي :

١-
المغفرة.

٢-
إتمام النعمة.

٣-
هداية الصراط المستقيم.

٤-
النصر العزيز.
وهنا يبين سبحانه أنه أنزل توفيقه على المؤمنين، فازدادوا يقينا بفضل الله عليهم، وتفهموا أن صلح الحديبية كان نقطة ارتكاز، سيتم بعدها الانطلاق إلى أعمال نافعة مثل :

١-
الوفود القادمة إلى المدينة في عام الوفود.

٢-
فتح خيبر، وعمرة القضاء، وفتح مكة، ولله ملائكة تحث على الخير، وتثبت المؤمنين.
ثم وعد الله المؤمنين الصادقين بدخول الجنة، ومغفرة الذنوب، وذلك فوز عظيم لهم، كما وعد سبحانه بأن يعذب المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات.
ثم ذكر سبحانه أن بيده القدرة القادرة، وبيده جنود السماوات والأرض، والعزة والحكمة، فهو سبحانه أهل لأن ينصر المسلمين، ويعبد لهم طريق العزة والغلبة وجمع الكلمة ووحدة الصف إن شاء الله.
المفردات :
السكينة : الطمأنينة والثبات والسكون والرضا.
إيمانا مع إيمانهم : يقينا مع يقينهم.
جنود السماوات والأرض : الأسباب السماوية والأرضية.
التفسير :
٤- ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾.
كان خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع المسلمين من المدينة إلى مكة لأداء مناسك العمرة، ومعهم السيوف في قرابها، وقد وقفت قريش في طريقهم ومنعتهم من دخول مكة، واحتبست عثمان بن عفان، وأشيع بين المسلمين أنه قد قتل، فتغير الموقف، لقد خرجوا لأداء العمرة والنسك والعبادة، ثم تغير الموقف إلى المناجزة والحرب والقتال، وفي هذه الحالة تمت بيعة المسلمين جميعا لرسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الرضوان، بايعوا على الموت وعلى ألا يفروا، بعد أن أشيع أن عثمان بن عفان قد قتل، عندئذ قال صلى الله عليه وسلم :( لا نبرح حتى نناجز القوم )٨.
فقد بدأوا بالعدوان وصد المسلمين عن البيت الحرام، وقتل عثمان كما أشيع، عندئذ كان المؤمنون على مستوى المعركة، تجيش قلوبهم بالإيمان، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، ومعرفة أن الحكمة في فعله صلى الله عليه وسلم، وكانوا على قلب رجل واحد، وحكى القرآن الكريم ذلك الموقف حين قال تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾. ( الفتح : ١٨ ).
لقد اطلع الله على هذه القلوب وهي تتحرك إلى البيعة والفداء والتضحية عند بيعة الشجرة، ثم يظهر للجميع أن عثمان لم يقتل، ويرغب أهل مكة في الصلح، ويرسلون عددا من الرسل، ويتم الأمر بعقد صلح بين أهل مكة يمثلهم سهيل بن عمرو، وبين المسلمين ويمثلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وكان كبار المسلمين متحفزين مع جميع المسلمين للقتال والدفاع، ثم عقدت معاهدة الصلح، وإيقاف القتال عشر سنين، على أن يعود المسلمون جميعا هذا العام بدون أداء العمرة، وأن يأتوا في العام القادم لأداء عمرة القضاء، وفي أعقاب المعاهدة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بذبح الهدى، فلم يبادروا إلى الذبح، فكرر الأمر ثلاث مرات فلم يمتثلوا، ودخل النبي صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وقال لها :( هلك المسلمون، أمرتهم بذبح الهدي فلم يفعلوا )، فقالت أم سلمة : يا رسول الله، التمس لهم بعض العذر، فهم قدموا من أجل العمرة وزيارة مكة، والطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ثم ذبح الهدي بمكة، وقد أحصروا ومنعوا من دخول مكة، ومن أداء العمرة، فهم في موقف صعب، ثم قالت أم سلمة : يا رسول الله، اخرج ولا تكلم أحدا، واعمد إلى هديك فاذبحه بيدك، فإن المسلمين سيتسابقون إلى الاقتداء بك، وبالفعل خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكلم أحدا، وذبح الهدي علنا جهرا أمام المسلمين، فتسابقوا بسرعة وقوة إلى ذبح الهدي والاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم، وازداد يقينهم بأن الرسول الأمين مؤيد بمعونة الله، وأن الله ناصره، وأن طاعة الرسول واجبة.
ويكون معنى الآية ما يأتي :
إن الله تعالى الذي من على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم بالفتح والمغفرة والنصر، هو الذي أنزل السكينة والأمان والاطمئنان واليقين والرضا في قلوب المؤمنين عند بيعة الرضوان، استعدادا للحرب، فلما تبين أن عثمان لم يقتل، ورغب أهل مكة في الصلح، وتم صلح الحديبية بعد مناقشات متعددة، ورضي الرسول صلى الله عليه وسلم عن المعاهدة وقَبِلها، ألقى الله السكينة والاطمئنان في قلوب المؤمنين، بأن ما عمله الرسول هو الأسلم والأحكم، وأن في هذا العمل أمانا للإسلام وللمسلمين، فازدادوا يقينا مع يقينهم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم.
﴿ ولله جنود السماوات والأرض... ﴾
فقد كان قادرا على أن ينصر المسلمين بإنزال ملائكة من السماء، وإن ملكا واحدا قادر على البطش بقريش ومن معها، ولكن الله أراد أن يبتلي المسلمين بالجهاد والقتال، ليظهر إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، وهزيمة الكافرين.
﴿ وكان الله عليما حكيما ﴾.
أي : كان الله ولا يزال واسعا علمه، محيطا علمه بكل شيء، ﴿ حكيما ﴾. في فعله، لطيفا في تدبيره.
وقد أخذ جمهور العلماء من هذه الآية أن الإيمان يزيد وينقص، واستدل جمهور الأشاعرة والفقهاء والمحدثين والمعتزلة على هذا بهذه الآية، وبقوله صلى الله عليه وسلم وقد سئل : هل يزيد الإيمان وينقص ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :( نعم، يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة، وينقص حتى يدخل صاحبه النار )٩.
وقد ذهب الشافعي، ومالك والبخاري إلى أن الإيمان يزيد وينقص.
قال البخاري : لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار، فما رأيت واحدا منهم يختلف في أن الإيمان قول وعمل، ويزيد وينقص.
وقد حالف في ذلك أبو حنيفة، وأورد الألوسي في تفسيره هذا الموضوع بتوسع، فليرجع إليه من شاء.
وقال المفسرون :
أراد بإنزال السكينة في قلوب المؤمنين ( أهل الحديبية ) حين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على مناجزة الحرب مع أهل مكة، بعد أن حصل لهم ما يزعج النفوس ويزيغ القلوب، من صد الكفار لهم عن دخول مكة، ورجوع الصحابة دون بلوغ مقصودهم، فلم يرجع منهم أحد عن الإيمان، بعد أن هاج الناس وماجوا، وزلزلوا حتى جاء عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال : ألست نبي الله حقا ؟ قال :( بلى )، قال : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل ؟ قال :( بلى )، قال : فلم نعطي الدنية في ديننا إذن ؟ فقال صلى الله عليه وسلم :( إني رسول الله، ولست أعصيه وهو ناصري )١٠.
إنزال السكينة في قلوب المؤمنين
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( ٦ ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ ) ﴾

تمهيد :

يتفضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بما يأتي :

١-
المغفرة.

٢-
إتمام النعمة.

٣-
هداية الصراط المستقيم.

٤-
النصر العزيز.
وهنا يبين سبحانه أنه أنزل توفيقه على المؤمنين، فازدادوا يقينا بفضل الله عليهم، وتفهموا أن صلح الحديبية كان نقطة ارتكاز، سيتم بعدها الانطلاق إلى أعمال نافعة مثل :

١-
الوفود القادمة إلى المدينة في عام الوفود.

٢-
فتح خيبر، وعمرة القضاء، وفتح مكة، ولله ملائكة تحث على الخير، وتثبت المؤمنين.
ثم وعد الله المؤمنين الصادقين بدخول الجنة، ومغفرة الذنوب، وذلك فوز عظيم لهم، كما وعد سبحانه بأن يعذب المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات.
ثم ذكر سبحانه أن بيده القدرة القادرة، وبيده جنود السماوات والأرض، والعزة والحكمة، فهو سبحانه أهل لأن ينصر المسلمين، ويعبد لهم طريق العزة والغلبة وجمع الكلمة ووحدة الصف إن شاء الله.
التفسير :
٥- ﴿ ليدخل المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ويكفر عنهم سيئاتهم وكان ذلك عند الله فوزا عظيما ﴾.
كما أكرم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بالفتح المبين، ومغفرة الذنب، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، فقد أكرم المؤمنين في هذه الآية إكراما عظيما، جزاء ثباتهم في بيعة الرضوان، وطاعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في الحرب والسلم، فوعدهم بما يأتي :
( أ ) أن يدخلهم جنات وبساتين ناضرة تجري الأنهار من تحتها، ويتمتعون فيها بسائر أنواع المتعة، وما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين.
( ب ) أن يكفر عنهم سيئاتهم ويستر خطيئاتهم، ويغفر ذنوبهم، ويرفع درجاتهم.
( ج ) أن يعطيهم الفوز العظيم برضوان الله، وجواره وفضله.
قال تعالى :﴿ فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور ﴾. ( آل عمران : ١٨٥ ).
إنزال السكينة في قلوب المؤمنين
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( ٦ ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ ) ﴾

تمهيد :

يتفضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بما يأتي :

١-
المغفرة.

٢-
إتمام النعمة.

٣-
هداية الصراط المستقيم.

٤-
النصر العزيز.
وهنا يبين سبحانه أنه أنزل توفيقه على المؤمنين، فازدادوا يقينا بفضل الله عليهم، وتفهموا أن صلح الحديبية كان نقطة ارتكاز، سيتم بعدها الانطلاق إلى أعمال نافعة مثل :

١-
الوفود القادمة إلى المدينة في عام الوفود.

٢-
فتح خيبر، وعمرة القضاء، وفتح مكة، ولله ملائكة تحث على الخير، وتثبت المؤمنين.
ثم وعد الله المؤمنين الصادقين بدخول الجنة، ومغفرة الذنوب، وذلك فوز عظيم لهم، كما وعد سبحانه بأن يعذب المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات.
ثم ذكر سبحانه أن بيده القدرة القادرة، وبيده جنود السماوات والأرض، والعزة والحكمة، فهو سبحانه أهل لأن ينصر المسلمين، ويعبد لهم طريق العزة والغلبة وجمع الكلمة ووحدة الصف إن شاء الله.
المفردات :
ظن السوء : ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله لا ينصر نبيه.
عليهم دائرة السوء : الدائرة في الأصل : الحادثة التي تحيط بمن وقعت عليه، وكثر استعمالها في المكروه، والجملة دعاء عليهم بالهلاك والدمار الذي يتربصونه بالمؤمنين.
التفسير :
٦- ﴿ ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا ﴾.
كما أكرم الله المؤمنين والمؤمنات بدخول الجنة، وتكفير السيئات، وبالفوز العظيم، كذلك عاقب المنافقين والمنافقات، الذي يبطنون الكفر ويظهرون الإسلام.
﴿ والمشركين والمشركات... ﴾ الكافرين بالله، والعابدين للأصنام.
﴿ الظانين بالله ظن السوء... ﴾
ظنوا أن الله لن ينصر رسوله، وأن الرسول والمؤمنين لن يعودوا إلى أهليهم بالمدينة، بل سينزل بهم المكروه والقتل والهزيمة أمام أهل مكة.
﴿ عليهم دائرة السوء... ﴾
دعاء عليهم بأن تدور الدائرة عليهم، وأن يحيق بهم مكرهم السيئ، وعملهم الخبيث، فينزل بهم السوء والمكروه الذي يتوقعونه للمسلمين.
﴿ وغضب الله عليهم ولعنهم... ﴾
وسخط الله عليهم بكفرهم ونفاقهم، وأبعدهم من رحمته وفضله، وعرضهم لعقوبته.
﴿ وأعد لهم جنات وساءت مصيرا ﴾.
وهيأ لهم في الآخرة نارا مستعرة، يجدون فيها أنواع الآلام وصنوف العذاب، وبئس المصير مصيرهم في جهنم.
إنزال السكينة في قلوب المؤمنين
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ( ٤ ) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا ( ٥ ) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ( ٦ ) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ٧ ) ﴾

تمهيد :

يتفضل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم في الآيات السابقة بما يأتي :

١-
المغفرة.

٢-
إتمام النعمة.

٣-
هداية الصراط المستقيم.

٤-
النصر العزيز.
وهنا يبين سبحانه أنه أنزل توفيقه على المؤمنين، فازدادوا يقينا بفضل الله عليهم، وتفهموا أن صلح الحديبية كان نقطة ارتكاز، سيتم بعدها الانطلاق إلى أعمال نافعة مثل :

١-
الوفود القادمة إلى المدينة في عام الوفود.

٢-
فتح خيبر، وعمرة القضاء، وفتح مكة، ولله ملائكة تحث على الخير، وتثبت المؤمنين.
ثم وعد الله المؤمنين الصادقين بدخول الجنة، ومغفرة الذنوب، وذلك فوز عظيم لهم، كما وعد سبحانه بأن يعذب المنافقين والمنافقات، والمشركين والمشركات.
ثم ذكر سبحانه أن بيده القدرة القادرة، وبيده جنود السماوات والأرض، والعزة والحكمة، فهو سبحانه أهل لأن ينصر المسلمين، ويعبد لهم طريق العزة والغلبة وجمع الكلمة ووحدة الصف إن شاء الله.
التفسير :
٧- ﴿ ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
جنود يرسلها للرحمة والمعونة والنصر للمؤمنين، ولتثبيت قلوبهم، كالريح والملائكة، وجنود يرسلها بالعذاب على الكافرين، من الملائكة والجن والحيوانات، والصواعق المدمرة، والزلازل والخسف والغرق، جنود لا تحصى ولا تعد، تستخدم تارة للرحمة بعباد الله وأصفيائه وأوليائه، ونفس الجنود تستخدم لعذاب من يشاء الله.
قال تعالى :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ﴾. ( المدثر : ٣١ ).
﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
غالبا غير مغلوب، حكيما لا يعمل عملا إلا بحكمة الحكيم العليم.
جاء في حاشية الجمل على تفسير الجلالين ما يأتي :
في الآية الرابعة قال سبحانه :﴿ ولله جنود السماوات والأرض وكان الله عليما حكيما ﴾.
وكان ذلك في معرض الخلق والتدبير، فذيلها بقوله :﴿ عليما حكيما ﴾.
وذكرها ثانية في معرض الانتقام -في الآية السابعة- فذيلها بقوله :﴿ عزيزا حكيما ﴾.
وهو في منتهى الترتيب الحسن، لأنه تعالى ينزل جنود الرحمة لنصرة المؤمنين، وجنود العذاب لإهلاك الكافرين. اه.
وفي معركة بدر أنزل الله المطر فثبت به أقدام المسلمين، وكان المطر وبالا على الكافرين، وأنزل الله الملائكة تثبت قلوب المؤمنين، وتلقي الرعب في قلوب الكافرين.
فضل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ ) ﴾

تمهيد :

نحن أمام وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي : ١- تبليغ الرسالة للخلق أجمعين.

٢-
الشهادة على أمته بالإيمان، وعلى المكذبين بالكفر. ٣- هو بشير بالجنة لمن أطاع.

٤-
هو نذير بالنار لمن عصى.
وزاد في سورة الأحزاب ما يأتي :﴿ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ﴾. ( الأحزاب : ٤٦ ).
ثم تحدثت الآيات عن فضائل المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، على الموت وعلى ألا يفروا، وقد بارك الله هذه البيعة، ونسبها إليه تشريفا لها وتكريما، وجعل بركته وفضله وأنعمه وتوفيقه فوق أيدي المبايعين، ووعد بالعقوبة للناكثين، وبالأجر العظيم لمن وفى بهذه البيعة.
وقد شهدت آيات القرآن الكريم، وصفحات التاريخ، والسيرة المحمدية على جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهاده في تبليغ الرسالة، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين، طول مدة رسالته صلى الله عليه وسلم، على مدار ثلاث وعشرين سنة، حتى عمت رسالته بلاد العرب، ثم انطلق نور الإسلام بعد ذلك فعم المشارق والمغارب.
المفردات :
شاهدا : على أمتك.
التفسير :
٨- ﴿ إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا ﴾.
هذه شهادة من الله العلي الكبير لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم، يذكر فيها سبحانه أنه اختص نبيه صلى الله عليه وسلم بما يأتي :
( أ ) أرسله الله رسولا، وجعله خاتم الرسل، وقال له :﴿ إنا أرسلناك... ﴾
أي : نحن الذين اصطفيناك واخترناك، وأرسلناك رسولا.
( ب ) ﴿ شاهدا ﴾. على أمتك بالإجابة، وعلى أعدائك بالتكذيب، وعلى الرسل السابقين بأنهم بلغوا رسالات ربهم، بدليل القرآن الذي قص قصصهم، وأحيا ذكراهم، وبارك كفاحهم، وسجل نصر الله لهم، وإهلاك أعدائهم.
( ج ) ﴿ ومبشرا ﴾. للمؤمنين والمؤمنات، وكل من استجاب لرسالة الإسلام بالجنة.
( د ) ﴿ ونذيرا ﴾. لكل من خالفك بالنار.
فضل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ ) ﴾

تمهيد :

نحن أمام وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي : ١- تبليغ الرسالة للخلق أجمعين.

٢-
الشهادة على أمته بالإيمان، وعلى المكذبين بالكفر. ٣- هو بشير بالجنة لمن أطاع.

٤-
هو نذير بالنار لمن عصى.
وزاد في سورة الأحزاب ما يأتي :﴿ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ﴾. ( الأحزاب : ٤٦ ).
ثم تحدثت الآيات عن فضائل المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، على الموت وعلى ألا يفروا، وقد بارك الله هذه البيعة، ونسبها إليه تشريفا لها وتكريما، وجعل بركته وفضله وأنعمه وتوفيقه فوق أيدي المبايعين، ووعد بالعقوبة للناكثين، وبالأجر العظيم لمن وفى بهذه البيعة.
وقد شهدت آيات القرآن الكريم، وصفحات التاريخ، والسيرة المحمدية على جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهاده في تبليغ الرسالة، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين، طول مدة رسالته صلى الله عليه وسلم، على مدار ثلاث وعشرين سنة، حتى عمت رسالته بلاد العرب، ثم انطلق نور الإسلام بعد ذلك فعم المشارق والمغارب.
المفردات :
وتعزروه : وتنصروه.
وتوقروه : وتعظموه.
وتسبحوه : وتنزهوه، وتصلوا عليه.
بكرة وأصيلا : غدوة وعشيا، أي : أول النهار وآخره، والمراد : جميع النهار، إذ من سنن العرب أن يذكروا طرفي الشيء، يريدون بذلك جميعه، كما يقال : شرقا وغربا، لجميع الدنيا.
التفسير :
٩- ﴿ لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا ﴾.
أرسلنا رسولا من أجل أن تؤمنوا أيها المؤمنون بالله ربا، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا.
﴿ وتعزروه ﴾. بالاستجابة لدينه والإيمان برسوله، وتقويته ونصره، والانضمام تحت لوائه.
﴿ وتوقروه ﴾. تعظموه.
﴿ وتسبحوه ﴾. تنزهوه عما لا يليق، فالله سبحانه وتعالى متصف إجمالا بكل كمال، ومنزه عن كل نقص، والتسبيح ذكر الله، مثل : سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
﴿ بكرة وأصيلا ﴾. أول النهار وآخره، وقيل : البكرة والأصيل جميع النهار، ويكنى بالتعبير عن جميع الشيء بطرفيه.
وقال ابن عباس : المراد بهما صلوات الفجر والظهر والعصر.
قال القاسمي في تفسير الآية ما يأتي :
والضمائر كلها على ما ذكرنا لله، وجُوّز إعادة الأولين للرسول، والأخير لله، إلا أن فيه تفكيكا. اه.
وقال القرطبي في تفسيره :
والهاء في قوله تعالى :﴿ وتعزروه وتوقروه... ﴾ للنبي صلى الله عليه وسلم، وهنا وقف تام، ثم تبتدئ بقوله تعالى :﴿ وتسبحوه ﴾. أي : تسبحوا الله بكرة وأصيلا.
وقيل : الضمائر كلها لله تعالى، فعلى هذا يكون تأويل :﴿ وتعزروه وتوقروه... ﴾ أي : تثبتوا له صحة الربوبية، وتنفوا عنه أن يكون له ولد أو شريك. اه.
فضل الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين
﴿ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا ( ٨ ) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ( ٩ ) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ( ١٠ ) ﴾

تمهيد :

نحن أمام وظائف الرسول صلى الله عليه وسلم وهي : ١- تبليغ الرسالة للخلق أجمعين.

٢-
الشهادة على أمته بالإيمان، وعلى المكذبين بالكفر. ٣- هو بشير بالجنة لمن أطاع.

٤-
هو نذير بالنار لمن عصى.
وزاد في سورة الأحزاب ما يأتي :﴿ وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا ﴾. ( الأحزاب : ٤٦ ).
ثم تحدثت الآيات عن فضائل المؤمنين الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان تحت الشجرة، على الموت وعلى ألا يفروا، وقد بارك الله هذه البيعة، ونسبها إليه تشريفا لها وتكريما، وجعل بركته وفضله وأنعمه وتوفيقه فوق أيدي المبايعين، ووعد بالعقوبة للناكثين، وبالأجر العظيم لمن وفى بهذه البيعة.
وقد شهدت آيات القرآن الكريم، وصفحات التاريخ، والسيرة المحمدية على جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم، واجتهاده في تبليغ الرسالة، وتبشير المؤمنين، وإنذار الكافرين، طول مدة رسالته صلى الله عليه وسلم، على مدار ثلاث وعشرين سنة، حتى عمت رسالته بلاد العرب، ثم انطلق نور الإسلام بعد ذلك فعم المشارق والمغارب.
المفردات :
يبايعونك : يعاهدونك على الجهاد والانتصار لدعوتك، وذلك في بيعة الرضوان بالحديبية.
إنما يبايعون الله : إنما يعاهدون الله، لأن المقصود من البيعة طاعة الله وامتثال أمره.
يد الله فوق أيديهم : قدرته وقوته فوق قدرتهم وقوتهم، أو بركة الله ونصرته وتوفيقه فوق أيديهم.
نكث : نقض العهد والبيعة.
فإنما ينكث على نفسه : فإنما يضر نفسه، ويوردها موارد الهلكة، فلا يعود وبال نقضه وضرر نكثه إلا عليه.
عليه الله : قرأ الجمهور بكسر الهاء، وقرأ حفص برفعها لأنها هاء ( هو ) مضمومة، فاستصحب ذلك كما في : له، وضربه.
التفسير :
١٠- ﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ﴾.
تتحدث الآية عن بيعة الرضوان، عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون لأداء العمرة، فمنعتهم قريش، وأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان ليعلم أهل مكة بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه جاء معتمرا معظما للبيت، ولم يأت محاربا، فاحتبست قريش عثمان، وأشيع بين المسلمين أن عثمان قد قتل، فقال صلى الله عليه وسلم :( لا نبرح حتى نناجز القوم )، واجتمع المسلمون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحدقوا به، والتفوا حوله، وبايعوه على الموت وعلى ألا يفروا، وكان عدد المسلمين ألفا وأربعمائة مقاتل أو ألفا وخمسمائة مقاتل، وقد بايعوا جميعا، ولم يتخلف أحد من المسلمين عن البيعة، إلا الجد بن قيس، فكان جابر رضي الله عنه يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقا بإبط ناقته، قد صبأ إليها يستتر بها من الناس.
ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان باطل، وأن عثمان حي يرزق، لكن الله سجل أمر هذه البيعة، وظلت علامة بارزة، ووساما غاليا، يذكر لهؤلاء الصحابة تضحيتهم وبيعتهم، ورغبتهم في نصرة دين الله، ونصرة رسوله صلى الله عليه وسلم، وطاعة الله، والتضحية بالدنيا في سبيل الآخرة وما فيها.
من معاني الآية
عناية الله تعالى وإكرامه ورضاه عن هؤلاء الرجال، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة، حتى جعل بيعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم إنما هي بيعة لله، فيا للجلال والإكرام في هذا المعنى.
﴿ إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله... ﴾
لقد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الرضوان، على الموت وعلى ألا يفروا، وكانت هذه البيعة للرسول صلى الله عليه وسلم، وهي أيضا بيعة لله، على بيع النفس وشراء الجنة، كما قال سبحانه وتعالى :﴿ إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدا عليه حقا في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفى بعهده من الله... ﴾ ( التوبة : ١١١ ).
وقريب من ذلك قوله تعالى :﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى... ﴾ ( الأنفال : ١٧ ).
وقوله سبحانه :﴿ من يطع الرسول فقد أطاع الله ومن تولى فما أرسلناك عليهم حفيظا ﴾. ( النساء : ٨٠ ).
ثم قال تعالى :﴿ يد الله فوق أيديهم... ﴾
بركة الله، وعناية الله، وتوفيق الله، وفضل الله، ورقابة الله، وقوة الله، وقدرة الله فوق أيديهم، بالنصر والرضا والتأييد.
﴿ فمن نكث فإنما ينكث على نفسه... ﴾
فمن نقض عهده مع الرسول، وخان الأمانة، وعدل عن التضحية والفداء، أو خان بأي نوع من أنواع الخيانة، فإنما ضرر ذلك يعود على نفسه، فهو الخاسر المغبون، لأنه خسر ما أعده الله لهؤلاء الرجال المبايعين، الذين قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم البيعة :( أنتم اليوم خير أهل الأرض ).
﴿ ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما ﴾.
ومن قام بحق البيعة ووفى بها، وألزم نفسه طاعة الله، وطاعة الرسول، وألزم نفسه بهدى القرآن والسنة، ولزوم الجماعة والأمة، فله الثواب العظيم، والأجر الكريم من الله تعالى، وأنعم به من أجر عظيم.
وفي معنى ذلك قال سبحانه وتعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا ﴾. ( الفتح : ١٨ ).
أحوال المتخلفين عن الحديبية
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ١٤ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات بيان حال المتخلفين من الأعراب عن مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج لأداء العمرة، التي ترتب عليها صلح الحديبية، وقد اعتذروا بانشغالهم بالمال والأولاد، وهو اعتذار ظاهري أو مخادع، وقد كشفهم القرآن وعراهم، وكشف السبب الحقيقي لتخلفهم، وهو ظنهم السوء بالمسلمين، واعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه سيقتلون وتستأصل شأفتهم، ولا يعودون إلى أهليهم أبدا، وقد هددهم الله بالنار المحرقة يوم القيامة، وبين لهم أن لله ملك السماوات والأرض، وهو أهل للمغفرة لمن تاب إليه وأخلص نيته، وهو أهل لأن يعذب الخائنين المعادين لله ورسوله.
المفردات :
المخلفون : هم الذين تخلفوا في أهليهم عن صحبة الرسول صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، جمع مخلف.
الأعراب : سكان البادية من العرب، لا واحد له.
فمن يملك لكم : استفهام بمعنى النفي، أي : لا أحد يملك لكم.
ضرا : ما يضر من هلاك الأهل والمال وضياعهما.
نفعا : ما ينفع من حفظ المال والأهل.
التفسير :
١١- ﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾.
كان حول المدينة أعراب من جهينة ومزينة، وغفار وأشجع، والديل وأسلم، وقد تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خرج لأداء العمرة، وظنوا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن ينتصر على قريش، ومعها ثقيف وكنانة والقبائل المجاورة لمكة، وهم الأحابيش.
وقالوا : كان أهل مكة يغزونه بالمدينة في عقر داره، في غزوتي أحد والخندق، فكيف يذهب إليهم بنفسه، وما علموا أن لله ملك السماوات والأرض، وأن بيده الخلق والأمر والنصر، وأنه على كل شيء قدير.
وفي الآية إعجاز غيبي، حيث أخبر الله رسوله بما سيقوله الأعراب الذي تخلفوا عن الخروج معه.
ومعنى الآية :
سيقول لك المتخلفون عن الجهاد من الأعراب، معتذرين عن تخلفهم : انشغلنا برعاية أموالنا وأبنائنا ونسائنا، فاطلب من الله المغفرة لنا على هذا التقصير عن الجهاد، وهم لم يقولوا الحقيقة، ولم يعترفوا بالسبب الحقيقي لتخلفهم، بل قالوا كلاما فيه نوع من التقية والمداراة، وعدم إظهار العذر الحقيقي للتخلف.
﴿ قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا... ﴾
أي : ليس الشغل بالأهل والمال والولد عذرا، فكل المجاهدين لهم أموال وأولاد، والحقيقة اليقينية هي أن الضر والنفع بيد الله، وأن الغنى والفقر بيد الله، والصحة والمرض بيد الله، فإذا أراد الله بكم ضرا فلا أحد يستطيع أن يدفعه، وإذا أراد الله بكم خيرا أو نفعا فلا أحد يستطيع أن يمنعه، ولو استقر الإيمان في قلوبكم لخرجتم للجهاد مع المجاهدين، وعلمتم أن النفع وحفظ المال والأهل من عند الله، وأن الضرر لا يدفعه إلا الله.
﴿ بل كان الله بما تعملون خبيرا ﴾.
بل كان الله مطلعا على قلوبكم ونياتكم، وسيجازيكم عليها جزاء عادلا.
قال القرطبي :
وهذا رد عليهم حين ظنوا أن التخلف عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدفع عنهم الضر، ويعجل لهم النفع.
أحوال المتخلفين عن الحديبية
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ١٤ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات بيان حال المتخلفين من الأعراب عن مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج لأداء العمرة، التي ترتب عليها صلح الحديبية، وقد اعتذروا بانشغالهم بالمال والأولاد، وهو اعتذار ظاهري أو مخادع، وقد كشفهم القرآن وعراهم، وكشف السبب الحقيقي لتخلفهم، وهو ظنهم السوء بالمسلمين، واعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه سيقتلون وتستأصل شأفتهم، ولا يعودون إلى أهليهم أبدا، وقد هددهم الله بالنار المحرقة يوم القيامة، وبين لهم أن لله ملك السماوات والأرض، وهو أهل للمغفرة لمن تاب إليه وأخلص نيته، وهو أهل لأن يعذب الخائنين المعادين لله ورسوله.
المفردات :
ينقلب : يرجع.
إلى أهليهم : إلى عشائرهم وذوي قرباهم.
بورا : هالكين لفساد عقيدتكم.
التفسير :
١٢- ﴿ بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا وزين ذلك في قلوبكم وظننتم ظن السوء وكنتم قوما بورا ﴾.
بل ظننتم أيها المنافقون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيهزم، ويقتل أمام أهل مكة، ولن يرجع الرسول والمؤمنون إلى أهليهم وعشائرهم أبدا، وزين الشيطان ذلك في قلوبكم، وامتد ظن السوء إلى صدق رسالته صلى الله عليه وسلم، لأن الذي يشك في صدق رسالته ويتوقع له الهزيمة إنسان فاسد الإيمان، هالك مع الهالكين المستوجبين لسخط الله وعقابه.
ونلحظ هنا جملة :﴿ وكنتم قوما بورا ﴾.
أي : هالكين فاسدين، لا تصلحون لشيء من الخير، ولا تستحقون إلا الخزي والعقاب، ومنه : أرض بائرة، أي : ليس فيها زرع.
قال الزمخشري :
والبور من بار، كالهُلْك من هلك، بناء ومعنى، ولذلك وصف به الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، ويجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ وعوذ.
أحوال المتخلفين عن الحديبية
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ١٤ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات بيان حال المتخلفين من الأعراب عن مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج لأداء العمرة، التي ترتب عليها صلح الحديبية، وقد اعتذروا بانشغالهم بالمال والأولاد، وهو اعتذار ظاهري أو مخادع، وقد كشفهم القرآن وعراهم، وكشف السبب الحقيقي لتخلفهم، وهو ظنهم السوء بالمسلمين، واعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه سيقتلون وتستأصل شأفتهم، ولا يعودون إلى أهليهم أبدا، وقد هددهم الله بالنار المحرقة يوم القيامة، وبين لهم أن لله ملك السماوات والأرض، وهو أهل للمغفرة لمن تاب إليه وأخلص نيته، وهو أهل لأن يعذب الخائنين المعادين لله ورسوله.
المفردات :
سعيرا : نار ا موقدة ملتهبة.
التفسير :
١٣- ﴿ ومن لم يؤمن بالله ورسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا ﴾.
ومن لم يصدق بالله ربا، وإلها واحدا أحدا، فردا صمدا، بيده الخلق والأمر، والرزق والخير، والنفع والضر، ولم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا ورسولا، من أمثال هؤلاء المخلفين من الأعراب ؛ فلن ينفعه مال ولا ولد، وقد أعد الله له السعير والعذاب الشديد.
أي : فقد اختار الأدنى وهو المال والولد، وعرض نفسه للهلاك والبوار، وعذاب السعير.
أحوال المتخلفين عن الحديبية
﴿ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ( ١١ ) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا ( ١٢ ) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا ( ١٣ ) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ( ١٤ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات بيان حال المتخلفين من الأعراب عن مشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج لأداء العمرة، التي ترتب عليها صلح الحديبية، وقد اعتذروا بانشغالهم بالمال والأولاد، وهو اعتذار ظاهري أو مخادع، وقد كشفهم القرآن وعراهم، وكشف السبب الحقيقي لتخلفهم، وهو ظنهم السوء بالمسلمين، واعتقادهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه سيقتلون وتستأصل شأفتهم، ولا يعودون إلى أهليهم أبدا، وقد هددهم الله بالنار المحرقة يوم القيامة، وبين لهم أن لله ملك السماوات والأرض، وهو أهل للمغفرة لمن تاب إليه وأخلص نيته، وهو أهل لأن يعذب الخائنين المعادين لله ورسوله.
التفسير :
١٤- ﴿ ولله ملك السماوات والأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء وكان الله غفورا رحيما ﴾.
هو سبحانه الملك الحقيقي لهذا الكون كله، سمائه وأرضه، وبحاره وأنهاره، وليله ونهاره، وشمسه وقمره :﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم إنه كان حليما غفورا ﴾. ( الإسراء : ٤٤ ).
وهو سبحانه :﴿ يغفر لمن يشاء ﴾. ممن تاب وأناب، ودخل في محراب الإنابة والرجوع إلى الله، وفيه حث للمنافقين والكافرين وجميع الناس على الدخول في رحمته الواسعة، والإنابة والرجوع إليه، والندم على ارتكاب النفاق والشقاق.
﴿ ويعذب من يشاء ﴾. فلا يقدر أحد على دفع العذاب عنكم إن أراد الله تعذيبكم، وفيه تحريض لهم على عدم اللجوء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ليعاملهم على ظواهرهم ويستغفر لهم، لأن الله تعالى هو المطلع على السرائر، وبيده وحده المغفرة لمن يشاء، والعذاب لمن يشاء.
﴿ وكان الله غفورا رحيما ﴾.
أي : كان ولا يزال واسع المغفرة، سبقت رحمته غضبه، وفتح أبوابه للتائبين.
قال ابن جرير الطبري : هذا من الله جل ثناؤه حث لهؤلاء الأعراب المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، على التوبة والمراجعة إلى أمر الله، في طاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، يقول لهم : بادروا بالتوبة من تخلفكم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله يغفر للتائبين، لأنه لم يزل ذا عفو عن عقوبة التائبين إليه من ذنوبهم ومعاصيهم من عباده، وذا رحمة بهم أن يعاقبهم على ذنوبهم بعد توبتهم منها.
رغبة المخلفين في القتال والغنائم
﴿ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ( ١٥ ) ﴾
المفردات :
ذرونا نتبعكم : اتركونا نخرج معكم إلى خيبر.
كلام الله : حكمه القاضي باختصاص أهل الحديبية بمغانم خيبر.
تمهيد :
هذه الآية أيضا من الإخبار بالغيب، حيث أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بما سيقع من الأعراب الذين تخلفوا عن غزوة الحديبية، ظنا منهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه سيقتلون هناك، سيقولون : اتركونا نخرج معكم إلى فتح خيبر، رغبة في الغنائم، وذلك يوضح كذبهم السابق، حين قالوا : شغلتنا أموالنا وأهلونا، ويؤكد أن النفاق والخوف هو الذي منعهم في السابق.
وجمهور المفسرين على أن المراد بالغنائم هنا غنائم خيبر، فقد كانت عمرة الحديبية في ذي الحجة من العام السادس للهجرة، وكان فتح خيبر في المحرم من السنة السابعة، فهي أقرب غنائم بعد الحديبية.
التفسير :
١٥- ﴿ { سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾.
سيقول المخلفون الذين تخلفوا عن عمرة الحديبية، إذا انطلقتم إلى فتح خيبر، والحصول على غنائمها : اتركونا نخرج معكم، بغية الحصول معكم على الغنائم، يريدون أن يبدلوا وعد الله القاضي بأن يعجل لأهل الحديبية غنائم كثيرة يأخذونها وحدهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعل مغانم خيبر لأهل الحديبية، لأن الله وعدهم بفتح قريب، وبمغانم كثيرة يأخذونها، وسيأتي تأكيد ذلك في قوله سبحانه :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحا قريبا * ومغانم كثيرة يأخذونها... ﴾ ( الفتح : ١٨، ١٩ ).
﴿ قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل... ﴾
قل يا محمد لهؤلاء المتخلفين عن الحديبية : لن تتبعونا عند الذهاب إلى خيبر، فبمثل ذلك الحكم أمر الله وقضى وحكم، بأن غنائم خيبر لمن خرج إلى الحديبية، حيث بايع على الموت، ثم رضي بالصلح والعودة إلى المدينة، راضيا بحكم الله ورسوله.
﴿ فسيقولون بل تحسدوننا... ﴾
سيقول المخلفون عند سماع ذلك : ليس هذا حكم الله، بل هو الحسد الذي منعكم من قبولنا في الخروج معكم إلى فتح خيبر.
﴿ بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا ﴾.
أي : إنكم شغلتكم الدنيا وأموالها، فلا فقه لكم في المعاني السامية التي يحملها المؤمنون المجاهدون الذين بايعوا تحت الشجرة، ورضي الله عنهم، وسجل ذلك في كتابه، فأنتم لا تفهمون إلا فهما قليلا في شئون الدنيا، أما أمور الدين، ومعالم الخير والرضوان من الله، فأهلها وفاهموها هم المؤمنون، فالقرآن ينزه رسوله صلى الله عليه وسلم وأصحابه هنا عن الحسد، وهو تمني زوال نعمة الغير، ويصاحبه الحقد والضغينة والسوء والشر، وكلها معان حفظ الله رسوله والمؤمنين منها، والمنافقون لا يفهمون من هذه المعاني إلا القليل.
أو المعنى : قليل منهم هم الذين يفقهون ويدركون، وقد ثبت أن بعض هؤلاء الأعراب أسلم وحسن إسلامه، وشارك في فتح مكة، ثم في غزوتي حنين والطائف.
خطاب آخر للمخلفين
﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٧ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآية يفتح الله أبوابه للمتخلفين عن الجهاد، ويذكرهم بأن فرصة سانحة ستأتي لقتال قوم أشداء أقوياء في الحرب، فمن أطاع ولبى وقاتل فله الثواب والأجر الحسن، ومن أعرض فله العذاب الأليم، وبمناسبة الدعوة إلى الجهاد بين سبحانه أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن الجهاد.
المفردات :
أولي بأس شديد : أصحاب شدة وقوة في الحرب.
فإن تطيعوا : تستجيبوا وتنفروا للجهاد.
التفسير :
١٦- ﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾.
قل أيها الرسول الكريم لهؤلاء المخلفين من الأعراب : ستأتي فرصة قادمة لدخولكم تحت راية الجهاد، حيث تدعون إلى قتال قوم أقوياء، أصحاب خبرة وتفوق في الحرب، ولهم به مراس شديد، حيث يكون الغرض من القتال دخولهم في الإسلام أو قتالهم، فإن تطيعوا الله ورسوله في تلبية داعي الجهاد والإخلاص له ؛ يؤتكم الله أجرا حسنا، فما أعظم ثواب الجهاد، وهو الأجر والغنيمة في الدنيا، أو الثواب إن لم يغنم، ثم الجنة في الآخرة، كما ورد في الحديث الصحيح.
﴿ وإن تتولوا كما توليتم من قبل يعذبكم عذابا أليما ﴾.
وإن تعرضوا عن المشاركة مع المسلمين، كما سبق أن أعرضتم عنهم في عمرة الحديبية ؛ تتعرضون للعذاب الأليم، أي الهوان والذل في الدنيا، والسعير والعذاب في الآخرة.
من هم القوم أصحاب البأس الشديد ؟
تعددت أقوال المفسرين في هؤلاء القوم، وذكر ابن كثير عدة أقوال :
أحدها : هوازن. ثانيها : ثقيف. ثالثها : بنو حنيفة. رابعها : فارس. خامسها : فارس والروم.
ورجح د. أحمد الكومي، ود. محمد سيد طنطاوي، أن يكون المقصود بالقوم أولي البأس الشديد هوازن وثقيف، فالجيش المسلم الذي ذهب لفتح مكة كان يضم بين جوانحه العدد الكثير من قبائل أسلك وأشجع وجهينة وغفار ومزينة، وقد ذهبوا لفتح مكة، وبعد خمسة عشر يوما ذهبوا لقتال هوازن وثقيف، وكانوا رماة مهرة، ولهم دراية بفنون القتال، وقد شارك الأعراب في قتالهم، وكثير من هؤلاء المخلفين أسلم إسلاما خالصا، وحسنت توبته.
خطاب آخر للمخلفين
﴿ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٦ ) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ( ١٧ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآية يفتح الله أبوابه للمتخلفين عن الجهاد، ويذكرهم بأن فرصة سانحة ستأتي لقتال قوم أشداء أقوياء في الحرب، فمن أطاع ولبى وقاتل فله الثواب والأجر الحسن، ومن أعرض فله العذاب الأليم، وبمناسبة الدعوة إلى الجهاد بين سبحانه أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن الجهاد.
المفردات :
حرج : إثم في التخلف عن الجهاد، وقتال الكفار.
التفسير :
١٧- ﴿ لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ﴾.
هؤلاء أصحاب الأعذار الذين يباح لهم التخلف عن الجهاد، وهم الأعمى فاقد البصر، والأعرج صاحب العرج البين المستمر، والمريض.
والمرض نوعان : مرض دائم فيلحق بالأعمى والأعرج، ومرض طارئ : يطرأ أياما ثم يزول، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة، حتى يبرأ، فإذا برئ من المرض وأصبح سليما معافى، وجب أن يشترك في الجهاد.
﴿ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار ومن يتول يعذبه عذابا أليما ﴾.
من أطاع الله ورسوله في كل ما ذكر، ولبى داعي الجهاد، وآثر الآخرة على الفانية، فله الجنة التي تجري الأنهار من تحتها، وفيها النعيم الأبدي الدائم، ومن أعرض عن طاعة الله، وترك الجهاد وخالف أمر الله، يعذبه عذابا بالغا، بالذلة والصغار في الدنيا، والنار في الآخرة.
رضوان الله عن أهل بيعة الشجرة
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) ﴾

تمهيد :

يخبر الله تعالى برضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى ألا يفروا، وذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى قريش، كمبعوث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبرها أنه جاء معتمرا معظما للبيت الحرام، لكن قريشا احتبست عثمان، وأشيع أنه قد قتل، فتمت هذه البيعة، ثم علمت قريش بخبر هذه البيعة، فأفرجت عن عثمان، ورغبت في الصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
رضي : الرضا من الله تعالى محبة وعطف وحنان ورعاية، وتوفيق وهداية وتقدير، وعدم سخط على أهل الحديبية لمبايعتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يبايعونك : يعاهدونك على السمع والطاعة.
الشجرة : شجرة سمُرة ( شجرة طلح، وهي المعروفة الآن بالسنط )، بايع المسلمون تحت ظلها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما في قلوبهم : من الصدق والإخلاص في المبايعة.
السكينة : طمأنينة القلب، وسكون النفس.
وأثابهم : جازاهم.
فتحا قريبا : هو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية.
التفسير :
١٨- ﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾.
إن الرضا والبركة، والرحمة والفضل، والسكينة والأمان والمغفرة، قد نزلت من الله تعالى على هؤلاء الصحابة الأجلاء، وكانوا ألفا وأربعمائة رجل، قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة الرضوان، فسجل الله رضاه عنهم، وقال صلى الله عليه وسلم لهم :( أنتم اليوم خير أهل الأرض ).
وقد حضر جبريل الأمين هذه البيعة، روى ابن أبي حاتم، عن إياس بن سلمة، عن أبيه قال : بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس، البيعة البيعة، نزل روح القدس، قال : فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو تحت شجرة سُمرة فبايعناه، فذلك قول الله تعالى :﴿ لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة... ﴾
قال : فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه، بإحدى يديه على الأخرى١١.
﴿ فعلم ما في قلوبهم... ﴾
من التضحية والفداء، والصدق والوفاء، والسمع والطاعة.
﴿ فأنزل السكينة عليهم... ﴾
فأنزل عليهم الطمأنينة والهدوء، والامتثال لأمر الله ورسوله.
﴿ وأثابهم فتحا قريبا ﴾.
عوضهم الله وكافأهم بفتح قريب، ثم بعد شهرين من الحديبية، وهو فتح خيبر، وفتح مكة، وفتح حنين والطائف، بل وسائر ما فتحه الله عليهم من البلاد، وما وقع لهم من العز والرفعة، والنصر والمنعة في الدنيا والآخرة.
رضوان الله عن أهل بيعة الشجرة
﴿ لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا ( ١٨ ) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ( ١٩ ) ﴾

تمهيد :

يخبر الله تعالى برضاه عن المؤمنين الذين بايعوا تحت الشجرة، وكانوا قد بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة على الموت وعلى ألا يفروا، وذلك عندما أرسل النبي صلى الله عليه وسلم عثمان إلى قريش، كمبعوث لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يخبرها أنه جاء معتمرا معظما للبيت الحرام، لكن قريشا احتبست عثمان، وأشيع أنه قد قتل، فتمت هذه البيعة، ثم علمت قريش بخبر هذه البيعة، فأفرجت عن عثمان، ورغبت في الصلح مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
المفردات :
ومغانم كثيرة : هي مغانم خيبر، وكانت خيبر أرضا ذات عقار وأموال، قسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المقاتلين، فأعطى للفارس سهمين، والراجل سهما.
التفسير :
١٩- ﴿ ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
جعل الله لهم المغانم الكثيرة، التي يسرها لهم من أهل خيبر وغيرها من البلاد، مع العز والمنعة والرفعة في الدنيا والآخرة.
﴿ وكان الله عزيزا حكيما ﴾.
هو سبحانه العزيز الغالب، الحكيم في تصرفاته وأفعاله، حيث يسر لهم مهادنة أهل مكة، والصلح معهم، ثم يسر لهم فتح خيبر، وقد غنموا منها غنائم كثيرة، ثم فتح مكة، ثم فتح حنين والطائف.
قال تعالى :﴿ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ﴾. ( آل عمران : ٢٦ ).
الحكمة في صلح الحديبية
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾

تمهيد :

هذه الآيات تتحدث عن نعمة الله تعالى على أهل الحديبية، فقد تم الصلح بعد مناوشات متعددة، تمسك المسلمون فيها بالصبر، ومنحهم الله النصر، وهنا يخبرهم القرآن أن أمامهم مغانم كثيرة في فتوحاتهم، فعجل لهم غنائم خيبر، ولتكون دليلا على صدق وعده سبحانه، وهناك غنائم في فارس والروم قد أحاط الله بها، وجعلها جاهزة لمن يتقدم لطلبها، أو مغانم بعد فتح مكة من هوازن وغيرها، ولو حدث قتال يوم الحديبية لنصركم الله عليهم، تلك سنة الله في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، إن لله حكمة في أن كف ومنع أيديكم عن أهل مكة، ومنع أيديهم عنكم، بعد أن أظفركم الله عليهم بالبيعة و بمطاردتهم إلى حيطان مكة، والله مطلع على أعمالكم، بصير بنياتكم، وسيحسن مثوبتكم.
المفردات :
المغانم الكثيرة : ما وعد به المؤمنون إلى يوم القيامة.
فعجل لكم هذه : مغانم خيبر.
وكف أيدي الناس عنكم : أيدي قريش بالصلح، وأيدي أهل خيبر وحلفائها من بني أسد وغطفان، وأيدي اليهود عن المدينة، إذ هموا بعيالكم بعد خروج الرسول صلى الله عليه وسلم منها إلى الحديبية، بأن قذف في قلوبهم الرعب.
آية : علامة وأمارة.
للمؤمنين : أمارة للمؤمنين في نصرهم، يعرفون بها صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في وعدهم بفتح خيبر وبالمغانم وغير ذلك، ومعرفة المؤمنين الذين سيأتون بعد أن كلاءته تعالى ستمنعهم أيضا ما داموا على الجادة.
الصراط المستقيم : الثقة بفضل الله، والتوكل عليه، فيما تأتون وتذرون.
التفسير :
٢٠- ﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ﴾.
وعد الله المؤمنين إذا استمروا على الجهاد في سبيل الله، ولإعلاء كلمة الله، أن يغنموا مغانم كثيرة إلى يوم القيامة، ومنها ما غنموه في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما غنموه في حياة خلفائه، وفي تاريخهم في ماضي حياتهم، وفي مستقبل حياتهم إن شاء الله، قال تعالى :﴿ إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ﴾. ( غافر : ٥١ ).
﴿ فعجل لكم هذه... ﴾
عجل لكم فتح خيبر، مكافأة عاجلة لما أظهرتم يوم الحديبية من البيعة، ومن طاعة الرسول في الحرب والسلم.
﴿ وكف أيدي الناس عنكم... ﴾
كف أيدي أهل مكة عن قتالكم، ورغبوا في مصالحتكم، فرجعتم وافرين سالمين، وكف أيدي اليهود بالمدينة عن نسائكم وصبيانكم، بإلقاء الرعب في قلوبهم، وكف أيدي أهل خيبر وحلفائهم من أسد وغطفان عن قتالكم، وقذف في قلوبهم الرعب، فنكصوا على أعقابهم، وولوا هاربين فزعا وخوفا، كل ذلك لتشكروه، ﴿ ولتكون آية للمؤمنين... ﴾ يعرفون منها صدق رسولهم صلى الله عليه وسلم في جميع ما يعدهم به، وأن الله حافظهم وناصرهم على جميع الأعداء مع قلة العدد.
﴿ ويهديكم صراطا مستقيما... ﴾
ويلهمكم الصواب والتوفيق في سلوك الطريق الأمثل، الواضح القويم، الذي يوصلكم إلى ما تبتغون في عزة وأمان.
الحكمة في صلح الحديبية
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾

تمهيد :

هذه الآيات تتحدث عن نعمة الله تعالى على أهل الحديبية، فقد تم الصلح بعد مناوشات متعددة، تمسك المسلمون فيها بالصبر، ومنحهم الله النصر، وهنا يخبرهم القرآن أن أمامهم مغانم كثيرة في فتوحاتهم، فعجل لهم غنائم خيبر، ولتكون دليلا على صدق وعده سبحانه، وهناك غنائم في فارس والروم قد أحاط الله بها، وجعلها جاهزة لمن يتقدم لطلبها، أو مغانم بعد فتح مكة من هوازن وغيرها، ولو حدث قتال يوم الحديبية لنصركم الله عليهم، تلك سنة الله في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، إن لله حكمة في أن كف ومنع أيديكم عن أهل مكة، ومنع أيديهم عنكم، بعد أن أظفركم الله عليهم بالبيعة و بمطاردتهم إلى حيطان مكة، والله مطلع على أعمالكم، بصير بنياتكم، وسيحسن مثوبتكم.
المفردات :
وأخرى : ومغانم أخرى، هي مغانم فارس والروم.
أحاط الله بها : أعدها لكم وهي تحت قبضته يظهر عليها من أراد.
التفسير :
٢١- ﴿ وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديرا ﴾.
وغنائم أخرى وعدكم الله إياها، غير غنائم خيبر، مثل فتح مكة وحنين والطائف، وقد غنم المسلمون منها مغانم كثيرة، وقيل : المقصود غنائم فارس والروم، لم تقدروا عليها الآن، لكن الله العلي القدير قد أحاط بها، ودبر حفظها وتيسير أمرها للمسلمين، حين يتقدمون لفتح هذه البلاد في عهد الخليفة العادل عمر بن الخطاب، الذي ارتعدت منه الأكاسرة والقياصرة، كما قال الشاعر :
يا من رأى عمرا تكسوه بردته والزيت أدم له والكوخ مأواه
يهتز كسرى على كرسيه فرقا من بطشه وملوك الروم تخشاه
﴿ وكان الله على كل شيء قديرا ﴾.
حيث دبر سبحانه اقتتال الروم مع الفرس، وهزيمة الروم أولا، ثم انتصارهم ثانيا، ثم تهيئة الفريقين للانهزام أمام المسلمين، بتدبير الله الذي ينصر من يشاء، وهو على كل شيء قدير، إذا أراد أمرا هيأ له الأسباب، ثم قال له كن فيكون، فهو سبحانه كان ولا يزال قادرا مقتدرا، لا يعجزه شيء.
الحكمة في صلح الحديبية
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾

تمهيد :

هذه الآيات تتحدث عن نعمة الله تعالى على أهل الحديبية، فقد تم الصلح بعد مناوشات متعددة، تمسك المسلمون فيها بالصبر، ومنحهم الله النصر، وهنا يخبرهم القرآن أن أمامهم مغانم كثيرة في فتوحاتهم، فعجل لهم غنائم خيبر، ولتكون دليلا على صدق وعده سبحانه، وهناك غنائم في فارس والروم قد أحاط الله بها، وجعلها جاهزة لمن يتقدم لطلبها، أو مغانم بعد فتح مكة من هوازن وغيرها، ولو حدث قتال يوم الحديبية لنصركم الله عليهم، تلك سنة الله في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، إن لله حكمة في أن كف ومنع أيديكم عن أهل مكة، ومنع أيديهم عنكم، بعد أن أظفركم الله عليهم بالبيعة و بمطاردتهم إلى حيطان مكة، والله مطلع على أعمالكم، بصير بنياتكم، وسيحسن مثوبتكم.
المفردات :
لولوا الأدبار : لانهزموا وأعطوكم ظهورهم هربا منكم.
الولي : الحارس الحامي.
النصير : المعين والمساعد.
التفسير :
٢٢- ﴿ ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا ولا نصيرا ﴾.
أراد الله أن يحفظ مكة من الحرب يوم الحديبية لعدة أسباب، وهنا يقول : لو اشتبك كفار مكة معكم في قتال يوم الحديبية، لانهزموا مولين أدبارهم للمسلمين، كناية عن الفرار والهرب خوفا من المسلمين، ثم لا يجد الكفار وليا يساعدهم ويأخذ بأيديهم، ولا نصيرا ينصرهم بقوة سلاحه وقوة جيشه، لأنهم يحاربون دين الله، والله غالب على أمره، على حد قول القائل :
جاءت جهينة كي تحارب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
الحكمة في صلح الحديبية
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾

تمهيد :

هذه الآيات تتحدث عن نعمة الله تعالى على أهل الحديبية، فقد تم الصلح بعد مناوشات متعددة، تمسك المسلمون فيها بالصبر، ومنحهم الله النصر، وهنا يخبرهم القرآن أن أمامهم مغانم كثيرة في فتوحاتهم، فعجل لهم غنائم خيبر، ولتكون دليلا على صدق وعده سبحانه، وهناك غنائم في فارس والروم قد أحاط الله بها، وجعلها جاهزة لمن يتقدم لطلبها، أو مغانم بعد فتح مكة من هوازن وغيرها، ولو حدث قتال يوم الحديبية لنصركم الله عليهم، تلك سنة الله في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، إن لله حكمة في أن كف ومنع أيديكم عن أهل مكة، ومنع أيديهم عنكم، بعد أن أظفركم الله عليهم بالبيعة و بمطاردتهم إلى حيطان مكة، والله مطلع على أعمالكم، بصير بنياتكم، وسيحسن مثوبتكم.
المفردات :
سنة الله : حكم الله وقانونه القديم في نصرة أنبيائه، قال تعالى :﴿ كتب الله لأغلبن أنا ورسلي... ﴾ ( المجادلة : ٢١ ).
التفسير :
٢٣- ﴿ سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾.
تلك سنة الله، أي منهجه المطرد، وقوانينه العادلة، أن يؤيد الحق وينصر الرسل، ويبارك المؤمنين إذا أخذوا بالأسباب، ثم اعتمدوا على الله رب العالمين، ومن سنة الله هزيمة الكافرين أمام المؤمنين، وهزيمة أهل الباطل أمام أهل الحق، وهي سنة قديمة وممتدة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
﴿ ولن تجد لسنة الله تبديلا ﴾.
أي ولن تجد أيها العاقل لقانون الله الكوني تغييرا، لأن الذي وضعه هو خالق هذا الكون، ورافع السماء وباسط الأرض، ومسخر السحاب، ومظلم الليل ومضيء النهار، ومن قوانينه العادلة نصرة المجاهدين، ورفع راية أهل الحق، وهزيمة المبطلين، فدولة الباطل ساعة، ودولة الحق إلى قيام الساعة، والآية تبشر المؤمنين، وتأخذ بأيديهم إلى الثبات والكفاح والنصر، كما قال تعالى :﴿ ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين * إنهم لهم المنصورون * وإن جندنا لهم الغالبون ﴾. ( الصافات : ١٧١-١٧٣ ).
الحكمة في صلح الحديبية
﴿ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آَيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ( ٢٠ ) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ( ٢١ ) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ( ٢٢ ) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ( ٢٣ ) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا ( ٢٤ ) ﴾

تمهيد :

هذه الآيات تتحدث عن نعمة الله تعالى على أهل الحديبية، فقد تم الصلح بعد مناوشات متعددة، تمسك المسلمون فيها بالصبر، ومنحهم الله النصر، وهنا يخبرهم القرآن أن أمامهم مغانم كثيرة في فتوحاتهم، فعجل لهم غنائم خيبر، ولتكون دليلا على صدق وعده سبحانه، وهناك غنائم في فارس والروم قد أحاط الله بها، وجعلها جاهزة لمن يتقدم لطلبها، أو مغانم بعد فتح مكة من هوازن وغيرها، ولو حدث قتال يوم الحديبية لنصركم الله عليهم، تلك سنة الله في نصر المؤمنين وهزيمة الكافرين، إن لله حكمة في أن كف ومنع أيديكم عن أهل مكة، ومنع أيديهم عنكم، بعد أن أظفركم الله عليهم بالبيعة و بمطاردتهم إلى حيطان مكة، والله مطلع على أعمالكم، بصير بنياتكم، وسيحسن مثوبتكم.
المفردات :
كف أيديهم عنكم : أيدي كفار مكة.
وأيديكم عنهم ببطن مكة : يعني الحديبية.
أظفركم عليهم : أظهركم عليهم، وجعلكم متغلبين عليهم، فإن عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد على جند فهزمهم، حتى أدخلهم حيطان مكة ثم عاد.
التفسير :
٢٤- ﴿ وهو الذي كف أيديهم عنكم وأيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم وكان الله بما تعملون بصيرا ﴾.
تشير روايات في صحيح مسلم وغيره إلى أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على المسلمين من قبل جبل التنعيم، يريدون غزوة في المسلمين، فأخذوا وعفا عنهم النبي صلى الله عليه وسلم، وعادوا إلى مكة، وكان ذلك سبب نزول هذه الآية.
والآية مع ذلك تفسر بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالله تعالى بحكمته وقدرته ومشيئته، أراد أن يمر يوم الحديبية دون قتال، فمنع أيدي المسلمين عن قتال أهل مكة، ومنع أهل مكة عن قتال المسلمين، من بعد أن غنم المسلمون ثمانين محاربا فأطلقوهم، وطارد نخبة من جيش المسلمين فئة من أهل مكة كانوا خمسمائة مقاتل، بقيادة عكرمة بن أبي جهل، فهزم المشركون وطاردهم المسلمون إلى جدران مكة، وكان معروفا يومئذ أن الغلبة والقوة والبيعة مع المسلمين.
﴿ وكان الله بما تعملون بصيرا ﴾.
كان مطلعا ومشاهدا لاجتهادكم في مطاردة أعدائكم إلى جدران مكة، ويقظتكم واستيلائكم على ثمانين محاربا دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فكف الله بصرهم، واستولى عليهم المسلمون، ثم أطلق النبي سراحهم، وكل هذا يسر لمعاهدة الحديبية، ثم يسر بعد ذلك لفتح مكة.
أيضا من حكمة المصالحة يوم الحديبية
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات تعبير مصور يزرى بالكافرين، ويسجل أوسمة للمؤمنين، فكفار مكة هم الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام معتمرين متنسكين، ومنعوا الهدي من الإبل والبقر والغنم وقد علقت في صدورها قلائد من زيادات أوراق شجر الحرم، ليعلم الناس جميعا أنها قد أهديت إلى البيت الحرام، لتذبح ويوزع لحمها على الفقراء، وهذا منسك ديني موقر محترم في سائر الأديان، لأنه يعتمد على نحر الهدي بعد أداء منسك العمرة أو الحج تقربا إلى الله، وإطعاما للفقراء.
والقرآن هنا يسجل على الكافرين هذا المشهد، الذي ينم عن الغلظة والتعدي، والتصدي بالمنع لحجاج بيت الله، وللهدي المتقرب به إلى الله، ليطعم الفقراء من لحمه بعد ذبحه، وكانت لله حكمة في تأخير النزال بين المسلمين والكافرين، وهي وجود ثلاثة رجال وسبع نسوة من المسلمين بمكة، وفي رواية أبي حاتم ثلاثة رجال وتسع نسوة من المسلمين المختلطين بكفار مكة، وكان القتال بين المسلمين والمشركين سيؤدي إلى قتلهم، بدون أن يعرفهم المسلمون، فيندموا ويتأذوا، لذلك منع الله الحرب، ولو تميز المسلمون واعتزلوا وحدهم، لعذب الله الكافرين في الحرب، وهزمهم في الدنيا، ثم عاقبهم في الآخرة.
وتعرض الآية السادسة والعشرون موقفا ظهر الكافرون فيه في غاية الحمق والجلافة والعدوان بدون وجه حق، وكان المسلمون في غاية السكينة والإيمان والتقوى وهم أهل لذلك، وتفيد كتب السيرة والتاريخ أن قريشا لما أرادت الصلح أرسلت سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص، ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع في عامه، على أن تخلي قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، فأجابهم، وبدأ علي بن أبي طالب يكتب معاهدة الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اكتب : بسم الله الرحمان الرحيم )، فقال سهيل بن عمرو : اكتب ما نعرف، وهو : باسمك اللهم، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو )، فقال سهيل : لو أقررت أنك رسول الله ما حاربتك، اكتب اسمك واسم أبيك، اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو١٢.
وقد تمتع الرسول صلى الله عليه وسلم بالحلم والتقوى، وتمتع المسلمون بالطاعة والسكينة، كما ظهر من تعبير القرآن الكريم.
المفردات :
وصدوكم : ومنعوكم من الوصول إليه.
والهدى : وصدوا عن الهدى، وهو ما يقدم قربانا لله حين أداء مناسك الحج أو العمرة.
معكوفا : محبوسا عن الوصول إلى الحرم.
محله : المكان الذي يسوغ فيه نحره وهو منى.
تطؤوهم : تدوسوهم بأقدامكم، والمراد أن تبيدوهم وتهلكوهم.
معرة : المكروه والمشقة.
التنزيل : التفرق والتميز.
التفسير :
٢٥- ﴿ هم الذين كفروا وصدوكم عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله... ﴾
هم أهل مكة الذين كفروا بالله وبرسوله، ومنعوكم من دخول المسجد الحرام معتمرين مسالمين، ومنعوا الهدي من الإبل والبقرة والغنم أن يتقدم إلى منى ليذبح، فلما أحضر المسلمون عند الحديبية ذبحوا الهدي في الحديبية، وكان المسلمون قد ساقوا بين أيديهم سبعين بدنة، وذبحوا البدنة عن سبعة، والبقرة عن سبعة -كما ورد في صحيح مسلم- وتحلل النبي صلى الله عليه وسلم من إحرامه وذبح بدنة.
روى البخاري، عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنة وحلق رأسه.
﴿ ولولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم... ﴾
كان هناك في مكة ثلاثة رجال وتسع نسوة يخفون إيمانهم خوفا من أهل مكة، ولو حدث قتال لوطئهم المسلمون، أي قتلوهم خطأ بدون عمد.
ومعنى الآية :
لولا وجود هؤلاء الذين يكتمون إيمانهم خيفة على أنفسهم -وهم بين أهل مكة- لسلطانكم عليهم فقتلتموهم، ولو قاتلتم أهل مكة وانتصرتم عليهم، لقتل قوم من ضعفاء المؤمنين والمؤمنات، أنتم لا تعرفونهم حين تقتلونهم، ثم تتألمون وتحزنون بعد قتلهم، وتصيبكم معرة ألم، وربما تجرأ الكفار وقالوا لكم : قتلتم إخوانكم المسلمين بأيديكم، لهذه الاعتبارات يسر الله أمر الصالح مع أهل مكة.
﴿ ليدخل الله في رحمته من يشاء... ﴾
ليحفظ هؤلاء الضعفاء من المؤمنين بفضله ورحمته، أو ليدخل في دين الإسلام من أراد الله هدايته قبل فتح مكة.
﴿ لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما... ﴾
لو تميز الكفار من المؤمنين المقيمين بين أظهرهم، لنصرناكم على الكافرين من أهل مكة، وقهرناهم بالسبى والقتل، وغير ذلك من ضروب التنكيل الشديد، والإيلام العظيم.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وتفيد الآيتان ما يأتي :
( أ ) أن حرمة المسلم عند الله عظيمة ( ولقتل نفس مؤمنة أعظم عند الله من زوال الدنيا ) فقد أخر الله فتح مكة من أجل ثلاثة رجال، وسبع أو تسع نسوة.
( ب ) دل قوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾. على عدالة الصحابة وعصمتهم من التعدي، حتى لو أنهم أصابوا أحدا من المسلمين لكان ذلك من غير قصد، وهذا مشابه لقول النملة تصف جند سليمان :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾. ( النمل : ١٨ ).
( ج ) لم يكن منع أهل مكة للمسلمين من أداء العمرة لسبب معقول، وإنما كان تعصبا لآلهتهم وأصنامهم، وكراهية لدين لم يفحصوه، ولم يحاولوا أن يتفهموه، أما المؤمنون فقد ألزمهم الله السكينة والتقوى، وبعد النظر، وعوضهم بفتح خيبر ثم بفتح مكة.

أيضا من حكمة المصالحة يوم الحديبية
﴿ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( ٢٥ ) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ( ٢٦ ) ﴾

تمهيد :

في هذه الآيات تعبير مصور يزرى بالكافرين، ويسجل أوسمة للمؤمنين، فكفار مكة هم الذين كفروا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومنعوا المسلمين من دخول المسجد الحرام معتمرين متنسكين، ومنعوا الهدي من الإبل والبقر والغنم وقد علقت في صدورها قلائد من زيادات أوراق شجر الحرم، ليعلم الناس جميعا أنها قد أهديت إلى البيت الحرام، لتذبح ويوزع لحمها على الفقراء، وهذا منسك ديني موقر محترم في سائر الأديان، لأنه يعتمد على نحر الهدي بعد أداء منسك العمرة أو الحج تقربا إلى الله، وإطعاما للفقراء.
والقرآن هنا يسجل على الكافرين هذا المشهد، الذي ينم عن الغلظة والتعدي، والتصدي بالمنع لحجاج بيت الله، وللهدي المتقرب به إلى الله، ليطعم الفقراء من لحمه بعد ذبحه، وكانت لله حكمة في تأخير النزال بين المسلمين والكافرين، وهي وجود ثلاثة رجال وسبع نسوة من المسلمين بمكة، وفي رواية أبي حاتم ثلاثة رجال وتسع نسوة من المسلمين المختلطين بكفار مكة، وكان القتال بين المسلمين والمشركين سيؤدي إلى قتلهم، بدون أن يعرفهم المسلمون، فيندموا ويتأذوا، لذلك منع الله الحرب، ولو تميز المسلمون واعتزلوا وحدهم، لعذب الله الكافرين في الحرب، وهزمهم في الدنيا، ثم عاقبهم في الآخرة.
وتعرض الآية السادسة والعشرون موقفا ظهر الكافرون فيه في غاية الحمق والجلافة والعدوان بدون وجه حق، وكان المسلمون في غاية السكينة والإيمان والتقوى وهم أهل لذلك، وتفيد كتب السيرة والتاريخ أن قريشا لما أرادت الصلح أرسلت سهيل بن عمرو، وحويطب بن عبد العزّى، ومكرز بن حفص، ليسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع في عامه، على أن تخلي قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام، فأجابهم، وبدأ علي بن أبي طالب يكتب معاهدة الصلح، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( اكتب : بسم الله الرحمان الرحيم )، فقال سهيل بن عمرو : اكتب ما نعرف، وهو : باسمك اللهم، فوافق رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم :( اكتب : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم سهيل بن عمرو )، فقال سهيل : لو أقررت أنك رسول الله ما حاربتك، اكتب اسمك واسم أبيك، اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله سهيل بن عمرو١٢.
وقد تمتع الرسول صلى الله عليه وسلم بالحلم والتقوى، وتمتع المسلمون بالطاعة والسكينة، كما ظهر من تعبير القرآن الكريم.
المفردات :
الحمية : الكبر والأنفة، وحمية الجاهلية هي حمية في غير موضعها، لا يؤيدها دليل ولا برهان.
سكينته : السكينة : الوقار والحلم.
ألزمهم : اختار لهم، وطلب منهم.
كلمة التقوى : هي : لا إله إلا الله.
أحق بها : أولى بها من غيرهم، ومتصفين بمزيد استحقاق لها.
وأهلها : وأصحابها المستأهلين لها.
التفسير :
٢٦- ﴿ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾.
تضع هذه الآية الحقيقة الكاملة لموقف الكافرين والمؤمنين يوم الحديبية، فالكفار في قلوبهم الأنفة والعزة بالإثم، المنسوبة إلى الجاهلية، لذلك صدوا المسلمين عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي ومنعوه أن يصل إلى محل ذبحه في منى، وأخذتهم العزة بالإثم، فأبوا أن يكتبوا : بسم الله الرحمان الرحيم، وكتبوا : باسمك اللهم، كما أبوا أن يكتبوا : هذا ما صالح عليه محمد رسول الله، وكتبوا : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله، فنسب الله إليهم الحمية، وهي مذمومة، وتزداد ذما إذا نسبت إلى الجاهلية، أي التهور والغلظ بدون وجه حق.
وفي المقابل أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين، فجعلها محفوظة عنده حتى أنزلها عليهم، والسكينة كلمة طيبة، ثم نسبها الله إليه، فجعلها سكينته، أي الهدوء والإيمان والوقار والرضا، وعدم العناية بالشكليات.
﴿ وألزمهم كلمة التقوى وكانوا أحق بها وأهلها... ﴾
أي : مكنهم الله من كلمة التوحيد، والإخلاص لله في العمل، وكانوا أهلا لها وأولى بها، وهي لا إله إلا الله.
﴿ وكان الله بكل شيء عليما ﴾.
هو المطلع على أحوال كل من المؤمنين والكافرين، فيجازي كل فريق بما يستحق.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:وتفيد الآيتان ما يأتي :
( أ ) أن حرمة المسلم عند الله عظيمة ( ولقتل نفس مؤمنة أعظم عند الله من زوال الدنيا ) فقد أخر الله فتح مكة من أجل ثلاثة رجال، وسبع أو تسع نسوة.
( ب ) دل قوله تعالى :﴿ بغير علم ﴾. على عدالة الصحابة وعصمتهم من التعدي، حتى لو أنهم أصابوا أحدا من المسلمين لكان ذلك من غير قصد، وهذا مشابه لقول النملة تصف جند سليمان :﴿ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون ﴾. ( النمل : ١٨ ).
( ج ) لم يكن منع أهل مكة للمسلمين من أداء العمرة لسبب معقول، وإنما كان تعصبا لآلهتهم وأصنامهم، وكراهية لدين لم يفحصوه، ولم يحاولوا أن يتفهموه، أما المؤمنون فقد ألزمهم الله السكينة والتقوى، وبعد النظر، وعوضهم بفتح خيبر ثم بفتح مكة.

تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح
﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( ٢٧ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( ٢٨ ) ﴾

تمهيد :

كان صلى الله عليه وسلم قد رأى في المدينة رؤيا، مؤدّاها : أنه دخل مع أصحابه المسجد الحرام معتمرا متنسكا، فأخبر أصحابه بذلك، فخرجوا في ألف وأربعمائة رجل يريدون العمرة، فمنعهم كفار مكة، فتحللوا عند الحديبية، وذبحوا الهدي في الحديبية، وعادوا من دون أن يعتمروا.
قال قتادة : لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالحديبية، ارتاب المنافقون أو بعض ضعاف الإيمان، حتى قالوا : أين رؤياك يا رسول الله ؟ أي : نحن لم ندخل مكة، ولم نؤد العمرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق... ﴾
فأكد صدق رسوله، وبين الله أنهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين، أي : مؤدين للنسك حال كونهم آمنين يؤدون العمرة، ويتحللون من الإحرام حال كون بعضهم حالقين رؤوسهم كاملة، وحال كون بعضهم مقصرين فقط.
ولله سبحانه حكمة في أن يؤجل فتح مكة، حتى تفتح خيبر أو حتى يتم صلح الحديبية، وقد كان أعظم فتح في الإسلام، حيث أمن الناس، وزاد عدد المسلمين، وتم التمهيد لفتح مكة ولفتح حنين والطائف، ثم ذكر الله تعالى أنه هو الذي أرسل رسوله بدين الإسلام، ليكون الدين العالمي المشتمل على سعادة الدنيا والآخرة.
المفردات :
الرؤيا : هي رؤيا منامية رآها صلى الله عليه وسلم في منامه أنه دخل المسجد الحرام معتمرا، وصدق الله رسوله الرؤيا، أي : صدقه في رؤياه ولم يكذبه.
لتدخلن : جواب لقسم محذوف، أي : والله لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام في عامكم المقبل.
آمنين : حال كونكم آمنين من كل فزع.
محلقين : حال كون بعضكم يحلق شعر رأسه كله.
ومقصرين : وبعضكم يكتفي بقص جزء منه.
التفسير :
٢٧- ﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ﴾.
هذه الآية تأكيد لصدق الرسول صلى الله عليه وسلم في رؤياه، وبيان لحكمة العلي القدير في تأخير فتح مكة، وفي إنجاز صلح الحديبية.
فائدة
جزيرة العرب عبارة عن صحراء واسعة، تعتمد هذه الصحراء على المدن القريبة منها في بيع منتجاتها، من الألبان واللحوم والزراعة والخضر والفاكهة، ويشتري الأعراب من هذه المدن ما يلزمهم من الكساء والفراش وغير ذلك، وقد كانت فتوحات الرسول صلى الله عليه وسلم وغزواته أفعالا منظمة مرتبة لحكم عالية، وضعت في حسبانها أن تتم السيطرة على المدينة وما حولها، وأن يتم قطع الطريق على تجارة مكة، حتى تضطر إلى التسليم بالإسلام، أو مهادنته رهبة أو رغبة، والمتأمل في تاريخ السرايا والغزوات يرى أنها حققت ذلك.
وفي أول حياة المسلمين بالمدينة أرسل النبي صلى الله عليه وسلم سرايا استطلاعية لتعرف أحوال مكة وأخبار تجارتها، خصوصا المتحركة إلى الشام، حيث تمر بطريق المدينة، فمكة في جنوب الجزيرة، والشام في شمالها، والمدينة في الوسط، وكانت بدر الصغرى وبدر الكبرى دروسا موجهة إلى أهل مكة، وتمت غزوة أحد وغزوة الخندق، وفي أعقاب غزوة الخندق قال صلى الله عليه وسلم :( سنغزو مكة ولا تغزونا بعد ذلك )، ثم تم صلح الحديبية، وبحكمة الرسول صلى الله عليه وسلم تم فتح خيبر بعد شهرين من صلح الحديبية، ومن يسيطر على خيبر يمكنه التحكم في الأعراب المحيطة بها، وكان من حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم أن يحرم مكة من حلفائها، أو ممن ينسِّقون معها في حرب المسلمين، وأخذ صلى الله عليه وسلم يعقد معاهدات ومصالحات، ويستقبل وفودا من العرب، حتى سمى العام السابع الهجري بعام الوفود، من كثرة الوفود التي قدمت من حول مكة، آمنة على نفسها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي عمرة القضاء شاهد الصبيان والنساء بمكة المسلمين في نسكهم وعبادتهم، وناقشوهم في مبادئ الإسلام، وتهيأت مكة لاستقبال الإسلام رغبة أو رهبة، لقد حَرَم الرسول صلى الله عليه وسلم مكة من عدد من الحلفاء، وعقد معاهدات ومصالحات مع عدد من العرب في أنحاء الجزيرة، ورأى أهل مكة أن الإسلام هو دين الغد، وأن مكة ستسقط في يد المسلمين عاجلا أم آجلا، وقد كان صلح الحديبية أعظم فتح في تاريخ المسلمين، فقد تضاعف به عدد المسلمين، ويسّر الطريق لفتح خيبر، ثم لعمرة القضاء، ثم لفتح مكة بقليل من الجهد، مع الحفاظ على حرمة البيت الحرام وحرمة مكة، قال صلى الله عليه وسلم :( إنما أباحها الله لي ساعة من نهار ).
ومن ذلك نعلم أن الغزوات لم تكن ردود أفعال كما يتوهم بعض كتاب السيرة، وإنما كانت خطة محكمة، اعتمدت على تدريب الرجال، وإرسال السرايا، وإعداد المخابرات والعيون، وتوقيع المعاهدات، والاستيلاء على الأماكن المؤثّرة، والالتفاف حول مكة، والتأثير على تجارتها، وإفهامها أن مصلحتها في مهادنة الإسلام، ثم التمهيد لفتح مكة بأقل التضحيات، ثم فتح الطائف، ثم توجيه المسلمين إلى تبوك، وتهيئة الصحابة ليقودوا معارك في بلاد الفرس وبلاد الروم في مستقبل أمرهم، حتى أنه لم تمض على وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم عشر سنوات حتى ورث المسلمون ممالك الفرس والروم.
مع يقيننا بأن قدرة الله القادرة وتوفيقه العظيم، وهدايته لرسوله، وبشارته بالنصر، ومعونة الله له بالملائكة والهداية والتوفيق، كانت من أهم أسباب النصر.
قال تعالى :﴿ وما يعلم جنود ربك إلا هو وما هي إلا ذكرى للبشر ﴾. ( المدثر : ٣١ ).
وقال تعالى :﴿ فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى وليبلي المؤمنين منه بلاء حسنا إن الله سميع عليم * ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين ﴾. ( الأنفال : ١٧، ١٨ ).
عود إلى التفسير
معنى الآية :
والله لقد صَدَق الله رسوله وما كذبه، فالله هو الذي أراه الرؤيا بالحق، وكانت الرؤيا سببا في صلح الحديبية، وقال بعض الناس أو بعض المنافقين : لم ندخل المسجد الحرام، فنزلت هذه الآية :﴿ لتدخلن المسجد الحرام... ﴾ أي في عمرة القضاء، ﴿ إن شاء الله... ﴾ تأكيد من الله العليم بكل شيء، وتعليم لنا ونحن لا علم لنا، أي : ستدخلن المسجد الحرام بمشيئة الله وتوفيقه، لا بسبب قوتكم أو أسلحتكم.
﴿ آمنين محلقين رؤوسكم ومقصرين... ﴾
حال كونكم آمنين من عدوان أهل مكة، تتمتعون بالأمن وأداء العمرة، بعضكم يتحلل من إحرامه بالحلق لرأسه كاملا، وبعضكم يتحلل من إحرامه بتقصير شعر رأسه، والحلق أفضل بالنسبة للرجل، أما المرأة فليس لها إلا التقصير.
﴿ لا تخافون... ﴾
تأكيد للأمن، ولتكفّل الله بإلقاء الرعب في قلوب أهل مكة، ولتطمين المسلمين بأنهم سيؤدون عمرة القضاء آمنين لا يخافون، وهو تأكيد مقصود في أعقاب غزوات متعددة، وتعنت من أهل مكة في معاهدة الحديبية.
﴿ فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا ﴾.
إن حكمة الله أن تسير الأمور في أسبابها، وسقوط خيبر في يد المسلمين حرم كفار مكة من حلفاء أشداء، وحرم اليهود في خيبر من حرية الحركة، وألقى الرعب في قلوب أهل مكة، ويسر فتح مكة على المسلمين في الوقت المناسب، والله تعالى عالم الغيب لذلك جعل فتح خيبر قبل فتح مكة، أو جعل صلح الحديبية قبل فتح مكة.
تصديق رؤيا الرسول صلى الله عليه وسلم عام الفتح
﴿ لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا ( ٢٧ ) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ( ٢٨ ) ﴾

تمهيد :

كان صلى الله عليه وسلم قد رأى في المدينة رؤيا، مؤدّاها : أنه دخل مع أصحابه المسجد الحرام معتمرا متنسكا، فأخبر أصحابه بذلك، فخرجوا في ألف وأربعمائة رجل يريدون العمرة، فمنعهم كفار مكة، فتحللوا عند الحديبية، وذبحوا الهدي في الحديبية، وعادوا من دون أن يعتمروا.
قال قتادة : لما صالح رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل مكة بالحديبية، ارتاب المنافقون أو بعض ضعاف الإيمان، حتى قالوا : أين رؤياك يا رسول الله ؟ أي : نحن لم ندخل مكة، ولم نؤد العمرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية :﴿ لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق... ﴾
فأكد صدق رسوله، وبين الله أنهم سيدخلون المسجد الحرام آمنين، أي : مؤدين للنسك حال كونهم آمنين يؤدون العمرة، ويتحللون من الإحرام حال كون بعضهم حالقين رؤوسهم كاملة، وحال كون بعضهم مقصرين فقط.
ولله سبحانه حكمة في أن يؤجل فتح مكة، حتى تفتح خيبر أو حتى يتم صلح الحديبية، وقد كان أعظم فتح في الإسلام، حيث أمن الناس، وزاد عدد المسلمين، وتم التمهيد لفتح مكة ولفتح حنين والطائف، ثم ذكر الله تعالى أنه هو الذي أرسل رسوله بدين الإسلام، ليكون الدين العالمي المشتمل على سعادة الدنيا والآخرة.
المفردات :
ليظهره على الدين كله : ليعليه على سائر الأديان، حقها وباطلها، وأصل الإظهار : جعل الشيء باديا ظاهرا للرائي، ثم شاع استعماله في الإعلاء.
التفسير :
٢٨- ﴿ هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيدا ﴾.
الله تعالى هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم بالهداية والإصلاح والإرشاد والتعاليم النافعة، والآداب السامية، وبدين الإسلام، وهو دين الحق المشتمل على توحيد الله تعالى، والإيمان برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالملائكة والكتب والرسل، والعبادات والمعاملات، ومكارم الأخلاق، هذا الدين هو خاتم الأديان، وقد جمع محاسنها، وتخلص من شوائبها، هذا الدين هو الدين الوسط، المشتمل على الأحكام والتشريع، وفي نفس الوقت مشتمل على إحياء الضمير، وإيقاظ الهمة للخير، دين جمع بين الأحكام والهداية، بين التشريع وإصلاح القلب، وأمته هي الأمة الوسط، التي وجدت المنهج والطريق في كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، ووجدت فيهما ما يدعو إلى الهداية والاستقامة، والعفة وإيثار الفضيلة ومراقبة الله تعالى.
وقد أظهر الله الإسلام في حياة رسوله، حين فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وحين فتحت بلاد كثيرة في حياة الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم.
﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾.
على صدق رسوله، وأنه نبي الله حقا، ورسوله صدقا، وفي ذلك رد على سهيل بن عمرو حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم :( لو علمت أنك رسول الله ما حاربتك، أي أن الله يشهد بأنه، هو الذي أرسل رسوله محمدا صلى الله عليه وسلم، بالهداية ودين الحق وهو دين الإسلام، لينصر هذا الدين على كل دين سماوي أو أرضي، لأن الإسلام لا يتعارض مع الأديان السماوية السابقة، بل هو مشتمل عليها، ومتمم لما جاء فيها، لأنه دين الفطرة والواقع والإنسانية الراشدة، ﴿ وكفى بالله شهيدا ﴾. على صدق هذا الدين، وعلى صدق الرسول الأمين محمد صلى الله عليه وسلم.
أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ( ٢٩ ) ﴾
المفردات :
أشداء : واحدهم شديد، والمراد أقوياء غلاظ قساة على الكفار.
رحماء : جمع رحيم، أي : متعاطفون متوافقون، في قلوبهم رحمة، كالوالد مع الولد، كقوله تعالى :﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ﴾ ( المائدة : ٥٤ ).
يبتغون : يطلبون في جد واجتهاد.
فضلا من الله : ثوابا ورضا.
سيماهم : علامتهم وأمارتهم التي تميزهم.
مثلهم : وصفهم العجيب، الجاري مجرى الأمثال في الغرابة.
شطأه : فراخه، أو فروعه التي تنبت حول الأصل.
فآزره : فأعانه وقواه.
فاستغلظ : فصار من الدقة إلى الغلظ.
فاستوى على سوقه : استقام على قصبه وأصوله، والسوق : واحدها ساق.
تمهيد :
صفات جامعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهم رحماء متعاطفون مع إخوانهم المسلمين، وهم أشداء أقوياء في الحرب والجهاد في سبيل الله، وهم راكعون ساجدون عابدون، متبتِّلون بذكر الله، وابتغاء فضله ورضوانه، وقد انعكس الطهر والفضل والإيمان والعبادة من قلوبهم على صفحة وجوههم، فترى أثر الصلاح والتقوى في وجوههم، وترى النور والبهاء والرضوان على وجوههم من أثر السجود والطاعة لله، ذلك مثلهم في التوراة، أما صفتهم في الإنجيل فهي كزرع زرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخرج فراخه أو فروعه فآزرت الأصل وقوته، فاستغلظ الزرع واشتد وقوى، واعتدل قائما على الساق القوية المعتدلة، وكان صلى الله عليه وسلم يفرح بأصحابه وقوّتهم وبأسهم وطهارتهم، ويمدحهم ويقول :( الله الله في أصحابي، لا تسبُّوا أصحابي، من عاداهم فقد عاداني، ومن عاداني فقد عادى الله، ومن عادى الله يوشك أن يأخذه )١٣.
وقد وعد الله المؤمنين منهم بالمغفرة ومحو الذنوب، وبالأجر العظيم وبجنة عرضها السماوات والأرض.
التفسير :
٢٩- ﴿ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا ﴾.
أي : هو محمد صلى الله عليه وسلم الذي وصف بالرسالة في الآيتين السابقتين، وهنا يذكر الله تعالى اسمه :
﴿ محمد رسول الله... ﴾
مبتدأ وخبر، ما أعذبه وما أطهره وما أحلاه.
﴿ والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم... ﴾
صحابته الأطهار الأبرار كانوا مثلا أعلى في النزاهة والعطاء والطهر، ولم لا، ومعلمهم صلى الله عليه وسلم هو معلم الإنسانية كلها، هو النور المبين الذي أضاء جبين الدنيا، فعلّم العرب ووحدهم، وأخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن التفرق إلى الجماعة، ومن العصبية الجاهلية إلى السكينة والإيمان والوقار، وهؤلاء الصحابة تربية محمد صلى الله عليه وسلم، هم أشداء أقوياء على الكفار في قتالهم وحربهم، كانوا قلة ينتصرون على الكثرة.
قال تعالى :﴿ ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون ﴾. ( آل عمران : ١٢٣ ).
وكانوا يهتدون بقوله تعالى :﴿ يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة... ﴾ ( التوبة : ١٢٣ ).
﴿ رحماء بينهم... ﴾
متعاطفون متوادون متعاونون، كما قال سبحانه :﴿ أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين... ﴾ ( المائدة : ٥٤ ).
﴿ تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا... ﴾
من صفاتهم العبادة والصلاة والركوع والسجود، والتبتل وصلاة الفرائض والنوافل وقيام الليل، وهم في صلاتهم خاشعون خاضعون، ابتغاء ثواب الله وفضله ورضوانه، ومحبته ومودته، وهم لذلك ذاكرون شاكرون حامدون، لربهم ساجدون.
﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة... ﴾
وقد ظهر نور العبادة والطهر، وعلامة التقوى والإيمان على وجوههم، نورا وحبا وفضلا، من أثر السجود والاقتراب من الله تعالى، تلك صفتهم في كتاب موسى التوراة ( وهي العهد القديم ).
أما صفتهم في الإنجيل ( وهي العهد الجديد )، فهي كزرع ونبات نام قوي، أخرج فرعا صغيرا بجواره، فآزره وقواه وأعانه، أي أن الزرع قوى الشطء لأنه تغذّى منه، واحتمى به، وتحول من الدقة إلى الغلظ والقوة، واستقام الفرع الجديد على أعواده وسيقانه، يعجب الزراع لقوته وحسن منظره، وكان صلى الله عليه وسلم محبا لأصحابه، حريصا على تقويتهم وتطهيرهم وتعليمهم ليكونوا أساتذة الدنيا، وليغيظ بهم الكفار، فقد فتحوا الفتوح، وقادوا الغزوات، أو كانوا لحمتها وسداها، حتى جاء نصر الله والفتح.
روى أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( أرحم أمتي أبو بكر، وأشدهم في أمر الله عمر، وأصدقهم حياء عثمان، وأقضاهم علي، وأفرضهم زيد، وأقرؤهم أُبيّ، وأعلمهم بالحلال والحرام معاذ بن جبل، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح )١٤.
ويجوز أن يكون معنى هذه الفقرة ما يأتي :
﴿ ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطئه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار... ﴾
بدأ الصحابة قلة ضعيفة ثم اشتد أمرهم وتقوت جماعتهم برسول الله صلى الله عليه وسلم، كزرع أخرج فسيله حوله، مثل نبات القمح والشعير وغيرهما، فيقوى الأصل بما حوله ويشتد ويتحول من الدقة إلى الغلظ، ويستقيم على أصوله ؛ فيعجب به الزراع لقوته وغلظه وحسن منظره.
والخلاصة : إن هذا مثل ضربه الله لبدء الإسلام وترقّيه في الزيادة إلى أن قوي واستحكم وأعجب الناس.
﴿ ليغيظ بهم الكفار... ﴾
أي : إن الله تعالى قوّاهم وسدد خطاهم ليكونوا غصَّة في حلوق الكافرين، إن يعتقدون أن الله متم بهم نوره ولو كره الجاحدون.
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾.
لقد وعد الله تعالى الذين آمنوا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمغفرة لذنوبهم، وستر عيوبهم، ووعدهم بالجزاء العظيم في الدنيا والآخرة.
في أعقاب تفسير الآية
ذكر ابن جرير، عن قتادة أنه قال : مكتوب في الإنجيل :( سيخرج قوم يشبهون نبات الزرع، يخرج منهم قوم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر ).
وقال الزمخشري في تفسير الكشاف :
هو مثل ضربه الله تعالى لبدء الإسلام، وترقيه في الزيادة، إلى أن قوي واستحكم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قام وحده، ثم قواه الله تعالى بمن معه، كما يقوى الطاقة الأولى ما يحتف بها مما يتولد منها.
وظاهر قول الزمخشري أن الزرع هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والشطء هو الصحابة.
والخلاصة أن من المفسرين من رأى الآتي :
الزرع أمدّ الشطء، فقوى الشطء واشتد و استوى على سوقه، وهم الصحابة.
ومن المفسرين من رأى الآتي :
الزرع أخرج الشطء أو الفسيلة المجاورة له، فآزرت الفسيلة الزرع، فاستغلظ الزرع وقوي واشتد واستوى على سوقه.
والمراد أن الصحابة آزروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقوي بهم، ولكل وجهة، لكن سياق الآية في وصف الصحابة، والمضمون والفحوى يؤيد أن الزرع آزر الشطء، فاستغلظ الشطء وقوي واستوى على سوقه، أي أننا نرجح أن الذي استغلظ هم الصحابة، بدليل قوله تعالى في آخر الآية :
﴿ وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجرا عظيما ﴾.
ومن عظمة المعلم العظيم أن يمد تلاميذه ويقويهم ليكونوا خير أمة أخرجت للناس.
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهبا ما أدرك مد أحدهم ولا نصيفه ( نصفه ) )١٥. رضي الله عنهم وأرضاهم.
قال ابن عباس : إن للمعصية ظلمة في القلب، وسوادا في الوجه، ونقصا في الرزق، وبغضا في قلوب الخلق.
وقال بعضهم : إن للحسنة نورا في القلب، وضياء في الوجه، وسعة في الرزق، ومحبة في قلوب الناس.
وقال أمير المؤمنين عثمان بن عفان : ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه.
وقال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : من أصلح سريرته، أصلح الله تعالى علانيته.
وروى الإمام أحمد، عن أبي سعيد الخدري، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :( لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء، ليس لها باب ولا كوّة، لخرج عمله للناس، كائنا ما كان )١٦.
وروى أحمد، وأبو داود، عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :( إن الهدى الصالح، والسَّمت الصالح، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءا من النبوة )١٧.
وذكر بعض المفسرين أن معنى :﴿ سيماهم في وجوههم من أثر السجود... ﴾
أنها علامة سوداء تظهر في الجبهة من كثرة السجود، وكلام شيوخنا يفيد الآتي : إننا ينبغي ألا نتعمد إظهار هذه العلامة، ولا نحرص على ذلك، ومن تعمد فإنه يتشبه بالمنافقين، فإذا ظهرت بدون تعمد فلا حرج ولا بأس.
ونضرب مثلا بأننا نهينا عن طلب الشهرة، ونشر الأخبار الصالحة عن أنفسنا، فإذا قال قائل : إن الصحابة رضوان الله عليهم كانت لهم شهرة، فأخبار أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وخالد بن الوليد وغيرهم، تملأ الكتب ومجالس العلم، فيقول أبو حامد الغزالي في كتابه ( إحياء علوم الدين ) ردا على ذلك ما يأتي : هؤلاء ما تعمدوا الشهرة، وإنما جاءت الشهرة عفوا بدون قصد منهم، فاقصد بعملك وجه الله تعالى وحده، ولا تقصد الشهرة ولا الرياء ولا حسن السيرة بين الناس، فإن جاءت هذه الأمور لك بدون قصد منك فلا حرج عليك، وفي الحديث الصحيح :( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى )١٨.
Icon