تفسير سورة الرحمن

كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل
تفسير سورة سورة الرحمن من كتاب كشف التنزيل في تحقيق المباحث والتأويل .
لمؤلفه أبو بكر الحدادي اليمني .

﴿ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ ﴾ ؛ هذا جوابٌ لقول كفَّار قُريش حين قالوا : إنَّ مُحَمَّداً يقولُ ما يقول من تِلقاء نفسهِ، ولم يُوحَ إليه شيءٌ، ومنهم مَن كان يقولُ : إنما يعلِّمهُ بشَرٌ، فردَّ اللهُ عليهم مقالتَهم وبيَّن أنه هو الذي عَلَّمَ مُحَمَّداً القرآنَ على لسانِ جبريلَ عليه السلام.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ ؛ قِيْلَ : المرادُ منه آدمُ عليه السلام علَّمَهُ اللهُ جميعَ اللُّغات وأسماءَ كلِّ شيءٍ، وكان آدمُ عليه السلام يتكلَّمُ سبعَمائة ألف لُغة أفضَلُها العربيةُ.
ويجوز أنْ يكون الإنسانُ اسمُ جنسٍ بمعنى جميعَ الناسِ، ﴿ عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ وهو المنطِقُ والكتابةُ والحِفْظُ والفهمُ والإفهام حتى عرَفَ الإنسانُ ما يقول وما يُقال له.
وَقِيْلَ : معنى البيانِ : بيانَ الحلالِ والحرامِ، وبيان الخيرِ والشرِّ، وما يأتِي وما يذرُ. وقال أبو العاليةِ :(يَعْنِي الكَلاَمَ). الْحَسَنُ (النُّطْقَ وَالتَّمْييزَ)، وَقِيْلَ : الكتابةُ بالقلمِ، وقال السديُّ :(عَلَّمَ كُلَّ قَوْمٍ لِسَانَهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بهِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ ﴾ ؛ معناهُ : والنجمُ في السَّماء، والشجرُ في الأرضِ يسجدُان لله تعالى. وَقِيْلَ : معناهُ : النباتُ والشجرُ يسجُدان، فإنَّ النَّجْمَ ما نبتَ على غيرِ ساقٍ، والشجرَ ما نبتَ على ساقٍ في اللغة، كما يقالُ في كلِّ ما طلعَ : إنه نجمٌ، ومن ذلك نَجْمُ القرآنِ.
ومعنى سُجودِهما ؛ أي يُسَبحوهُ ظِلاَلُهما كقولهِ﴿ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلَّهِ ﴾[النحل : ٤٨]. وَقِيْلَ : يسجُدان للهِ على الحقيقةِ، إلاّ أنَّنا لا نَفْقَهُ على سُجودِهما كقولهِ تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَآبُّ ﴾[الحج : ١٨].
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالسَّمَآءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ ؛ معناهُ : رفعَ السماءَ فوقَ الأرضِ ليُستَدَلَّ على وحدانيَّة اللهِ تعالى وكمالِ قُدرتهِ، وقولهُ تعالى ﴿ وَوَضَعَ الْمِيزَانَ ﴾ قال مجاهدُ :(مَعْنَاهُ : وَأمَرَ بالْعَدْلِ)، وقال الضحَّاكُ وقتادةُ : يَعْنِي الْمِيزَانَ الَّذِي يُوزَنُ بهِ لِيُتَوَصَّلَ بهِ إلَى الإنْصَافِ وَالانْتِصَافِ، وَلَوْلاَ الْمِيزَانُ لَتَعَذرَ الْوُصُولُ إلَى كَثِيرٍ مِنَ الْحُقُوقِ).
وقال بعضُهم : أنزلَ اللهُ الميزانَ على هَيئَتهِ في زمنِ نُوحٍ عليه السلام ولم يكن قبلَ ذلك. وقال بعضُهم : عرَّفَ اللهُ الناسَ ذلك على لسانِ بعضِ الأنبياء، وَقِيْلَ : إلهامٌ الْهَمَهُمْ كيف يتَّخِذُون الميزانَ ويِزِنُون.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الْمِيزَانِ ﴾ ؛ معناهُ : لئِلاَّ تَمِيلُوا وتَضِلُّوا وتُجاوزُوا الحدَّ في الميزان. وَقِيْلَ : معناهُ : لئلا تظلِمُوا وتأخُذوا الأكثرَ وتُعطوا الأقلَّ. وقوله تعالى :﴿ وَأَقِيمُواْ الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ ﴾ ؛ أي سَوُّوا الميزانَ بالعدلِ والإنصافِ، ﴿ وَلاَ تُخْسِرُواْ الْمِيزَانَ ﴾ ؛ وَقِيْلَ : معناهُ : أقِيمُوا ساقَ الميزانِ بالقسطِ ولا تَخونُوا من وَزْنَتِهِمْ له، ولا تبخَسُوا الوزنَ، وكلُّ شيءٍ نقَصتَهُ فقد أخسَرتَهُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ ﴾ ؛ معناهُ : والأرضَ بسَطَها على الماءِ لجميعِ الخلق مِن الجنِّ والإنسان، مكَّنَها للأحياءِ، ويُدفَنُ فيها الموتَى، تدلُّ على وحدانيَّة اللهِ، وقال الشعبيُّ :(الأَنَامُ : كُلُّ ذِي رُوحٍ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهَا فَاكِهَةٌ ﴾ ؛ أي في الأرضِ ألوانُ الفاكهةِ، وقولهُ تعالى :﴿ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الأَكْمَامِ ﴾ ؛ أي ذاتُ الأغطيَةِ، وهي أوعيةُ التمرِ، وأكمامُ النَّخلَةِ فإغطاءِ ثَمَرِها يكون في غُلفٍ ما لم يُشَقُّ. ومِن ذلك يقالُ للقُلُنْسُوَةِ : الأَكَمَةُ ؛ لأنَّها تُغَطِّي الرأسَ، وقال الحسنُ :(أكْمَامُهَا لِيفُهَا)، وقال ابنُ زيدٍ :(أكْمَامُهَا : طَلْعُهَا قَبْلَ أنْ يَنْفَتِقَ)، والحاصلُ أنَّ كلَّ ما يسترُ شيئاً فهو كُمُّ وَكُمَّةٌ، ومنه كُمُّ القميصِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ ﴾ ؛ يريدُ جميعَ الحبوب مما في الأرضِ من الحنطة والشعيرِ وغيرهما، وقولهُ تعالى ﴿ ذُو الْعَصْفِ ﴾ أي ذُو الورَقِ الأخضرِ الذي يصيرُ تِبْناً وتُقْتَاتُ به البهائمُ، ويسمَّى ورقُ الزرعِ عَصْفاً لِخِفَّتِهِ، وعصُوفُ الريحِ به مع ثُبوتِ الحب في مكانهِ. وَقِيْلَ : سُمي عَصْفاً لأنَّ الريحَ تذهبُ به في وقتِ حَاجَتهِم إلى تَمْييزِهِمْ الحبَّ من التِّبنِ.
وقوله تعالى :﴿ وَالرَّيْحَانُ ﴾ يعني الورقَ في قولِ الأكثرين، وقال الحسنُ :(هُوَ رَيْحَانُكُمُ الَّذِي يُشَمُّ)، وقال مقاتلُ :(الرَّيْحَانُ هُوَ الْوَرَقُ بلُغَةِ حِمْيَرَ)، كأنه قالَ : والحبُ ذو العَصْفِ والورَقِ، وقال سعيدُ بن جبير :(الرِّيْحَانُ : الزَّرْعُ وَيَكُونُ فِي سُنْبَلٍ).
وأما الْحَبُّ المذكورُ في الآيةِ، فهو ما يُلقَى في الأرضِ من البَذْر، والرَّيحانُ هو ما يُخلَقُ من الحب في سُنبُلٍ رزْقاً للعبادِ، وقد يُذكَرُ الرَّيحانُ بمعنى الورَقِ كما يقولُ العربُ : خرَجنا نطلبُ ريحانَ اللهِ ؛ أي رزقَهُ. والعَصْفُ : هو التِّبْنُ، والرِّيحانُ هو ثَمَرَتُهُ. وعن ابنِ عبَّاس :(الرَّيْحَانُ هُوَ خُضْرَةُ الزَّرْعِ).
قرأ العامةُ :(وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ) كلٌّ بالرفعِ عطفاً على الفاكهةِ، والمعنى فيها الحبُّ وفيها الرَّيحانُ، ونصَبَها كلَّها ابنُ عامرٍ على معنى خلقَ الإنسانَ وخلقَ هذه الأشياءَ.
وقرأ أهلُ الكوفة إلاَّ عاصِماً :(وَالرَّيْحَانِ) بالكسرِ عطفاً على (الْعَصْفِ) كأنه قال : والحبُّ ذو العصفِ وذو الرَّيحانِ، وهو الرزقُ الذي يخلَقُ في السُّنبل، فالريحانُ رزْقُ الناسِ، والعصفُ رزق الدواب، فذكرَ قوتَ الناسِ والأنعامِ.
ثم خاطبَ الجنَّ والإنسَ فقال :﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؛ وإنَّما قالَ الخطابُ للجنِّ والإنس ؛ لأن تلك الأيامَ فيما مضَى تشتملُ على الجنِّ والإنس، والمعنى : فبأَيِّ نعمةٍ من نِعَمِ ربكُما تُكذِّبان من هذه الأشياءِ المذكورة، فإنَّها كلَّها مما أنعمَ اللهُ بها عليكم، من دلالتهِ إيَّاكم على توحيدهِ، ومن رزقهِ إيَّاكم ما به قِوَامُكم.
وإنما خاطبَ الجنَّ والإنسَ لأنَّهما مُشتَرِيكان في الوعدِ والوعيدِ. وإنما كُرِّرَتْ هذه الآيةُ في هذه السُّورة تقديراً للنِّعمةِ وتأكيداً للتذكيرِ بها على عادةِ العرب في الإبلاغ والاتِّباع.
وقال الحسينُ بن الفضلِ :(التِّكْرَارُ لِطَرْدِ الْغَفْلَةِ وَتَأْكِيدِ الْحُجَّةِ). وَقِيْلَ : لَمَّا عدَّدَ اللهُ نعمةً بعد نعمةٍ، كرَّرَ هذا القولَ ترغيباً في الشُّكر، وتحذيراً من الكُفرِ والتكذيب بنِعَمِ اللهِ.
وهذه على وجهِ الحقيقة ليس بتكرارٍ ؛ لأنه ذكَرَ كلَّ واحدٍ منها عُقيبَ نعمةٍ لم يتقدَّمْ ذِكرُها. وعن جابرِ بن عبدِالله قالَ :" قَرَأ عَلَيْنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ سُورَةَ الرَّحْمَنِ حَتَّى خَتَمَهَا، ثُمَّ قَالَ :" مَا لِي أرَاكُمْ سُكُوتاً ؟ لَلْجِنُّ كَانُوا أحْسَنَ مِنْكُمْ رَدّاً، مَا قَرَأتُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الآيَةَ مِنْ مَرَّةٍ ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ إلاَّ قَالُوا : لاَ بشَيْءٍ مِنْ نِعَمِكَ رَبَّنَا نُكَذِّبُ فَلَكَ الْحَمْدُ " ".
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ خَلَقَ الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ ﴾ ؛ أي خلَقَ أصلَ الإنسانِ وهو آدمُ من طينٍ يابسٍ إذا نُقِرَ صَلَّ ؛ أي صَوَّتَ كالفخَّار وهو الْخَزَفُ الذي طُبخَ بالنار، يُسمَعُ منه الصوتُ إذا نُقِرَ وإذا اصْطَكَّ بعضهُ ببعضٍ. والمعنى : مِن طينٍ يابسةٍ كالْخَزَفِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَخَلَقَ الْجَآنَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ ﴾ ؛ معناهُ : وخلقَ أصلَ الجنِّ وهو الْجَانُّ أبو الجنِّ من مارجٍ من نارٍ، وهو الصَّافِي من لَهَب النار، لا دُخَّانَ فيه. وَقِيْلَ : من لَهَب من نارٍ مختلطٍ بسوَادِ النار. وَقِيْلَ : إنه لسانُ النار الذي يكون في طرَفِها إذا التَهَبت.
وقال مجاهدُ :(هُوَ مَا اخْتَلَطَ بَعْضُهُ ببَعْضٍ مِنَ اللَّهَب الأَحْمَرِ وَالأَصْفَرِ وَالأَسْوَدِ الَّذِي يَعْلُو النَّارَ إذا أُوْقِدَتْ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِهِمْ : مَرَجَ إذا اخْتَلَطَ). وَقِيْلَ : إنه نارٌ لا دخانَ لها تكون بين السَّماء الدُّنيا وبين حجاب دونَهما فأديمُ السَّماء يُرَى من ذلكَ الحجاب، ومن تلك النار تكون الصواعقُ. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ ﴾ ؛ أي مَشرِقُ الشَّمسِ في الشِّتاء، ومشرِقُها في الصَّيفِ، ومغرِبُها في الشِّتاء ومغربُها في الصَّيف، ويعني هو ربُّ المشرِقَين وربُّ المغربَين. وَقِيْلَ : معناهُ : هو ربُّ مشرقِ الشمس والقمرِ ومغرِبُهما. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ ﴾ ؛ أي أرسلَ البَحرَين العذبَ والمالِحَ بالإجراءِ في الأرضِ. ومَرَجْتَ الدابَّةَ إذا أرسَلتَها ترعَى، ويجوزُ أن يكون معنى مَرَجَ : خَلَطَ، ومنه الْمَرْجُ لاختلاطِ أشجارهِ، وقولهُ تعالى ﴿ يَلْتَقِيَانِ ﴾ أي يُلاقِي أحدُهما صاحبَهُ، ﴿ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ ؛ أي بينهم حاجزٌ من قُدرَةِ اللهِ لا يبغِي العذبُ على المالحِ فيكونان عَذْباً، ولا يبغِي المالِحُ عليه فيكونان مالحاً.
والمعنى : أنَّ اللهَ ذكرَ عظيمَ قُدرتهِ حيث خَلاَ البحرَ من العذب والمالح يلتقيان، وجعلَ بينَهما حاجزاً من قُدرتهِ وحِكمَتِهِ، لا يبغِي أحدُهما على صاحبهِ، فلا الملحَ يبغِي على العذب فيُفسِدهُ ولا العذبُ على الملحِ فيخلَطُ بهِ. وقيل معنى قولهِ ﴿ لاَّ يَبْغِيَانِ ﴾ أي لا يَطغِيَانِ على الناسِ بالغرَقِ. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ ﴾ ؛ فيه بيانُ نِعَمِ البحرِ، واللُّؤلؤ معروفٌ وهو الكبارُ من جنسِ اللُّؤلؤ، والْمَرْجَانُ : صِغَارُهُ، وإنما يخرُجان من الملحِ دونَ العذب، كاللُّقاحِ للملحِ، إلاّ أنه قالَ ﴿ يَخْرُجُ مِنْهُمَا ﴾ لأن ذلك لا يوجَدُ إلاَّ بحيث يكون العذبُ والملحُ جميعاً. وَقِيْلَ : المرجَانُ : ضربٌ من الجوهرِ كالقُضْبَانِ يخرجُ من البحرِ.
وقال ابنُ عبَّاس :(يَخْلِقُ اللهُ اللُّؤلُؤَ وَالْمَرْجَانَ مِنْ قَطْرِ الْمَطَرِ، وذلك أنَّ السماءَ إذ أمطَرَتْ فتحتِ الأصدافُ أفوَاهها على وجهِ الماء في البحرِ الملح، فما وقعَ من المطرِ في أفواهِها نزلَ إلى صدرها فانعقدَ لُؤلؤاً).
وقال السديُّ :(الْمَرْجَانُ الْخَرَزُ الأَحْمَرُ). وعن ابنِ مسعودٍ :(أنَّ الْمَرْجَانَ حَجَرٌ). وذكرَ إنْ كانت في جوفهِ صدفةٌ، فأصابت قطرةٌ بعضَ النواةِ ولم تُصِبْ بعضَها، فكان حيث أصابَ القطرةَ من النواةِ لؤلؤةٌ وَسَائِرُهُ نَواةٌ.
وسائرُ القرَّاء على أنَّ (يُخْرِجُ) بضمِّ الياء وفتحِ الراء، وهو اختيارُ أبي عُبيدة وأبي حاتم ؛ لأنه يُخرَجُ ولا يخرَجُ بنفسهِ. وقرأ (يَخْرُجُ) بفتحِ الياء وضمِّ الراء ؛ لأنه إذا أُخرِجَ خرجَ.
فإن قِيْلَ : كيف قال (يَخْرُجُ مِنْهُمَا) وإنما يخرجُ من أحدِهما وهو الملحُ ؟ قِيْلَ : هذا جائزٌ في كلامِ العرب أن يذكر شَيئان ثم يخصُّ أحدَهما وهو يفعلُ دون الآخرِ كقوله تعالى﴿ يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ ﴾[الأنعام : ١٣٠] والرُّسل من الإنسِ دون الجنِّ. قال الكلبيُّ :(وَكَذلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً ﴾[نوح : ١٦] وَإنَّمَا هُوَ فِي وَاحِدَةٍ مِنْهَا). وَقِيلَ : يخرجُ من ماءِ السَّماء ماءٌ وماء البحر. و ﴿ فَبِأَيِّ آلاَءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنشَئَاتُ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ ﴾ ؛ فيه بيانُ نِعَمِ الله تعالى بالسُّفن العظَامِ التي ينتفعُ بها للتِّجاراتِ وغيرها، الْمُنْشَآتُ : المرفوعاتُ الشِّراع، وما لم يُرفَعْ منها شِرَاعها فلا تكون مُنشَأَةً. وَقِيْلَ : المنشآتُ هي اللَّواتي ابتدأ بهِنَّ في الجريِ، والأعلامُ الجبالُ العظام، شبَّهَ السُّفن في البحرِ بالجبال في البرِّ.
وقرأ حمزةُ (الْمُنْشِآتُ) بكسر الشِّين، يعني المبتدئاتُ في السَّير اللاتي انسابَ جريُهن وسيرُهنَّ ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ﴾ ؛ أي كلُّ مَن على الأرضِ يَفنَى، وهذه كنايةٌ عن غيرِ مذكورٍ، ومعنى الآية : كلُّ مَن دبَّ ودرجَ على الأرضِ من حيوانٍ فهو هالكٌ، وفي هذا منعٌ من الرُّكون إلى الدُّنيا والاغترار بها. قال ابنُ عبَّاس :(لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ : هَلَكَ أهْلُ الأَرْضِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى :﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ ﴾[القصص : ٨٨] فَأَيْقَنَتِ الْمَلاَئِكَةُ بالْهَلاَكِ).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ﴾ ؛ معناهُ : ويبقَى ربُّكَ، والوجهُ يُذكَرُ على وجهَين : أحدُهما : بعضُ الشَّي كوجهِ الإنسانِ، والآخر : يقتضِي الشيءَ العظيمَ في الذِّكر كما يقالُ : هذا وجهُ الرَّأي ووجهُ التَّدبيرِ، ولَمَّا ثبتَ أنَّ الله تعالى ليسَ بجسمٍ، كان المعنى : ويبقَى اللهُ الظاهرُ بأدلَّته كظُهور الإنسانِ بوجههِ.
وقولهُ تعالى :﴿ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ﴾ أي ذُو العَظَمةِ والكبرياءِ واستحقاقِ المدحِ بإحسانهِ وإنعامهِ. والإكرامُ : إكرامهُ أنبياءَهُ وأولياءَهُ، فهو مُكرِمُهم بلُطفِه مع جلالهِ وعظَمتهِ.
وعن معاذ بنِ جبل قال :" مَرَّ رَسُولُ اللهِ ﷺ برَجُلٍ يُصَلِّي وَهُوَ يَقُولُ : يَا ذا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ :" قَدِ اسْتُجِيبَ لَكَ " وعن أنسٍ رضي الله عنه قالَ : قَالَ رسُولُ اللهِ ﷺ :" الِظُّوا بيَا ذا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ " ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ﴾ ؛ أي لا يستغنِي عنهُ أهلُ السَّماء ولا أهلُ الأرضِ، قال أبو صالح :(يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ الرَّحْمَةَ، وَيَسْأَلُهُ مَنْ فِي الأَرْضِ الْمَغْفِرَةَ وَالرِّزْقَ، وَالْكُلُّ يَلْجَأُونَ إلَيْهِ وَيَسْأَلُونَهُ حَوَائِجَهُمْ).
وقوله تعالى :﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ ؛ قال المفسِّرون : مِن شأنهِ أنه يُحيي ويُميتُ، ويرزُقَ، ويُعِزَّ ويُذِلَّ، ويُشفي مريضاً، ويجيبُ داعياً، ويعطِي سائلاً، ويغفِرُ ذنباً، ويكشِفُ كَرْباً إلى ما لا يُحصَى من أفعالهِ وإحداثهِ في خلقهِ ما شاءَ. وعن أبي الدَّرداءَ عن النبيِّ ﷺ : أنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ﴿ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ﴾ قَالَ :" مِنْ شَأْنِهِ أنْ يَغْفِرَ ذنْباً وَيُفَرِّجَ كَرْباً وَيَرْفَعَ قَوْماً وَيَضَعَ آخَرِينَ ".
وقال مجاهدُ :(هُوَ مِنْ شَأْنِهِ أنَّهُ يُجِيبُ دُعَاءَنَا، وَيُعْطِي سَائِلَنَا، وَيُشْفِي سَقِيمَنَا، وَيَغْفِرُ ذُنُوبَنَا وَيَتُوبُ عَلَى قًوْمٍ، وَيُشْقِي آخَرِينَ). وَقِيْلَ : شأنهُ يخرِجُ كلَّ يوم وليلة ثلاثة عساكرَ : عسكراً من أصلاب الآباءِ إلى الأرحامِ، وعسكراً من الأرحامِ إلى الدُّنيا، وعسكراً من الدنيا إلى القبور، ثم يرحَلون جميعاً إلى الله عَزَّ وَجَلَّ.
وحُكي : أنَّ بعضَ الملوكِ سألَ وزيرَهُ عن معنى هذه الآيةِ، فاستمهلَهُ إلى الغدِ، ورجعَ الوزيرُ إلى دارهِ كَئيباً لم يعرِفْ ما يقولُ : فقالَ له غلامٌ أسودُ من غِلمَانِهِ : يا مولايَ ما أصابَكَ ؟ فزجرَهُ، فقالَ : يا مولاي أخبرْني فلعلَّ اللهَ يُسهِّلُ لك الفرجَ على يديَّ، فأخبرَهُ بذلك، فقالَ : عُدْ إلى الملكِ فقل له : إنَّ لي غُلاماً أسودَ إنْ أذِنْتَ له فسَّرَ لكَ هذه الآيةَ، ففعلَ ذلكَ. فدعَا الملكُ الغلامَ فسألَهُ عن ذلك، فقالَ : أيُّها الملِكُ ؛ شأنُ اللهِ تعالى أنه يولِجُ الليلَ في النهار ويولِجُ النهارَ في الليلِ، ويُخرِجُ الحيَّ من الميِّت، ويخرجُ الميتَ من الحيِّ، ويُشفِي مَريضاً ويُسقِمُ سَليماً، ويَبتَلِي معافًى، ويُعافِي مُبتَلِياً، ويذِلُّ عزيزاً ويُعِزُّ ذليلاً. فقال له الملكُ : أحسنتَ يا غلامُ فرَّجتَ عني. ثم أمرَ الوزيرَ فخلعَ ثيابَ الوزراء فكسَاها الغلامَ، فقال : يا مولاي هذا شأنُ اللهِ تعالى :﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ ﴾ ؛ هذا وعيدٌ من اللهِ تعالى للخلقِ بالمحاسبة، كقولِ القائلِ : لأَتَفَرَّغَنَّ لكَ وما به شغلٌ، وهذا قولُ ابنِ عباس والضحَّاك، وقال الزجاجُ :(مَعْنَاهُ : سَنَقْصُدُ لِحِسَابكُمْ بَعْدَ التَّرْكِ وَالإمْهَالِ، وَنَأْخُذُ فِي أمْرِكُمْ وَنَجْزِيَكُمْ عَلَى مَا فَعَلْتُمْ بَعْدَ طُولِ الإمْهَالِ). وهذا على وجهِ التهديدِ على ما جرَتْ به العاداتُ في استعمالِ هذا اللفظِ، كما يقولُ الرجُل : سأَفرُغُ لغُلامِي، يريد سأجعلُ قَصدِي له، ولا يريدُ بذلك الفراغَ من شُغلٍ هو فيه.
قرأ أُبَي (سَنَفْرُغُ إلَيْكُمْ). وقرأ الأعمشُ (سَيُفْرَغُ لَكُمْ) بياءٍ مضمومة وفتحِ الرَّاء. وقرأ حمزةُ والكسائيُّ وخلف بياءٍ مفتوحة وبضمِّ الراء، وقرأ الباقون بنونٍ مفتوحة وضمِّ الراء.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ أَيُّهَ الثَّقَلاَنِ ﴾ الثَّقَلان الجنُّ والإنسُ، يدلُّ على ذلك قَوْلُهُ تَعَالَى بعد ذلك، سُمِّيا ثقلين لأنَّهما ثقَلٌ على الأرضِ أحياءً وأمواتاً، قال الله تعالى﴿ وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا ﴾[الزلزلة : ٢]. وقال جعفرُ الصَّادق :(سُمِّيَ الْجِنُّ وَالإنْسُ ثَقَلَيْنِ ؛ لأَنَّهُمَا مُثْقَلاَنِ بالذُّنُوب). ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ ﴾ ؛ في هذا بيانُ ضَعفِ الخلائقِ عن دفعِ ما ينْزِلُ بهم من قضاءِ الله وعذابهِ، يقولُ : إنْ قَدَرْتُم على الخروجِ من نواحِي السَّموات والأرضِ فَاخرُجوا هَرباً مما ينْزِلُ بكم في الدُّنيا، لا تقِدرُون أن تخرجُوا إلاّ بسُلطان يعطيكم الله من قوَّةٍ وحُجةٍ، فحيث ما كُنتم شاهَدتُم بسُلطان اللهِ تعالى، وذلك يدلُّكم على وحدانيَّة اللهِ. وَقِيْلَ : معناهُ إن استطعتُم أن تَهربُوا من الموتِ بالخروجِ من أقطار السموات والأرض فاهربُوا واخرجوا. والمعنى : أنَّكم حيث ما كنتم أدرَكَكم الموتُ، ولن تستطِيعُوا أن تَهربوا منه.
وُقوله تعالى :﴿ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ ﴾ ؛ أي لا تنفُذون إلاَّ بمُلكي، أي حيث ما كنتم وحيث ما توجَّهتم فثَمَّ مُلكِي وقُدرَتِي. وأقطارُ السموات والأرضِ : أطرَافُهما ونواحيهما. وَقِيْلَ في معنى هذه الآيةِ : يأمرُ الله تعالى الملائكةَ يومَ القيامةِ أن تَحُفَّ بأقطار السموات والأرضِ، ثم يقالُ للجنِّ والإنس : إنِ استطعتُم أن تَنفذُوا من أقطار السَّموات والأرضِ هَرباً من الحساب والعقاب فاهرُبوا. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ ﴾ ؛ أي يرسِلُ على مَن استحقَّ منكما بمعاصيهِ لهبٌ من النار، والشُّوَاظُ : اللهبُ الذي لا دخانَ فيه. وقرأ ابنُ اكثير (شِوَاظٌ) بكسر الشين وهي لغةُ أهلِ مكة، قال حسانُ يهجو أُميَّة بن أبي الصَّلت : هَجَوْتُكَ فَاخْتَضَعْتَ لَهَا بذُلٍّ بقَافِيَةٍ تَأَجَّجُ كَالشُّوَاظِقَوْلُهَ تَعَالَى :﴿ وَنُحَاسٌ ﴾ ؛ قرأ ابنُ كثيرٍ وأبو عمرو :(وَنُحَاسٍ) بالخفض عَطفاً على النار، وقرأ الباقون بالرفعِ عطفاً على الشُّواظ. واختلَفوا في معنى النُّحاسِ، قال ابنُ عبَّاس :(هُوَ الدُّخانُ) وأكثرُ القراءةِ فيه بالرفعِ عَطفاً على (شُواظٌ)، والمعنى : يرسلُ عليكما شِوَاظٌ، ويرسل نحاسٌ ؛ أي يرسِلُ هذا مرَّة وهذا مرَّةً، ويجوز أن يُرسَلا معاً من غيرِ أن يمتزجَ أحدُهما بالآخرِ. وَقِيْلَ : النحاسُ هو الصُّفْرُ المذابُ يُصَبُّ على رُؤوسِهم، وقال مقاتلُ :(هِيَ خَمْسَةُ أنْهَارٍ مِنْ صُفْرٍ مُذابٍ تَجْرِي عَلَى رُؤُوسِ أهْلِ النَّار)، قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَنتَصِرَانِ ﴾ ؛ أي فلا تَمتَنِعَانِ عن ما يرادُ بكما.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؛ وجهُ إنعامِ الله تعالى علَينا في إنزالِ آيات الوعيدِ : أنه تعالى لَمَّا حذرَنا من العذاب بأبلَغِ أسباب التحذيرِ حتى نتَّقِي المعاصِي خوفاً من عذابهِ، ونرغَبُ في الطاعاتِ طَعماً في ثوابهِ، كان ذلك نعمةً منه علينا فلذلك قالَ تعالى ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَإِذَا انشَقَّتِ السَّمَآءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ ﴾ ؛ معناهُ : إذا انشقَّت وذابَتْ حتى صارَتْ حمراءَ كلَونِ الوردةِ الحمراء أو كالدُّهنِ الأحمر من نار جهنَّم مع عِظَمِ السَّماء وكبرها، فكيف بأبدانِكم الضَّعيفة في ذلك اليوم، وهذا كما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه : أنَّهُ مَرَّ عَلَى قَوْمٍ مِنَ الْحَدَّادِينَ فَقَالَ :(أمَّا أنْتُمْ يَا مَعْشَرَ الْحَدَّادِينَ أحَقُّ النَّاسِ بالاتِّعَاظِ وَالاعْتِبَار، أمَا تَرَوْنَ تَأْثِيرَ هَذِهِ النَّار الضَّعِيفَةِ فِي هَذا الْحَدِيدِ الشَّدِيدِ ؟ فَكَيْفَ تَأْثِيرُ تِلْكَ النَّار الْعَظِيمَةِ فِي هَذِهِ الأَبْدَانِ الضَّعِيفَةِ).
ويقالُ في تشبيهِ السَّماء بالوردةِ : أنَّها تتكوَّنُ في ذلك اليومِ، قال الحسنُ :(إنَّ السَّمَاءَ أوَّلَ مَا تَنْشَقُّ تَحْمَرُّ ثُمَّ تَصْفَرُّ ثُمَّ تَخْضَرُّ كَالْفَرَس الْوَرْدِ، تَكُونُ فِي الرَّبيعِ وَرْدَةً إلَى الصُّفْرَةِ، فَإذا اشْتَدَّتْ كَانَ الشِّتَاءُ كَانَتْ وَرْدَةً حَمْرَاء، فَإذا كَانَ الْخَرِيفُ كَانَتْ وَرْدَةً أغْبَرَ).
وشبُّهَها بالدهانِ المختلفة التي تُصَبُّ بعضُها على بعضٍ، والدُّهْنُ والدِّهَانُ واحدٌ، قال قتادةُ :(إنَّ السَّمَاءَ الْيَوْمَ خَضْرَاءُ وَسَتَكُونُ يَومَ الْقِيَامَةِ حَمْرَاءَ كَالدِّهَانِ). وَقِيْلَ : إنَّ الدهانَ جمعُ الدُّهن، قال عطاءُ :(يَعْنِي عَصِيرَ الذائِب)، وقال ابن جُريج :(مَعْنَاهُ : أنَّ السَّمَاءَ تَذُوبُ كَمَا يَذُوبُ الدُّهْنُ الذائِبُ وَذلِكَ حِينَ يُصِيبُهَا حَرُّ نَار جَهَنَّمَ). ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ ؛ يُسأَلُ سُؤالَ استفهامٍ ؛ لأنَّ اللهَ تعالى يُظهِرُ على كلِّ مُجرِمٍ علامةً تدلُّ على معصيتهِ، وعلى كلِّ مُطيعٍ علامةً على إطاعتهِ، لأنَّ اللهَ تعالى قال بعدَ هذه الآية :﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ ﴾ ؛ أي بعَلامَتِهم من سَوادِ الوُجوهِ وزُرقَةِ الأعيُنِ، ﴿ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ﴾ ؛ فيُجعَلُ أقدامُهم مغلولةً إلى نواصِيهم مِن خَلْفٍ ويلقَونَ في النار كذلك، والناصيةُ : شَعرُ مقدمِ الرَّأسِ، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
ويقال للمجرمين عندما يُقذفون في النار :﴿ هَـاذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ﴾ ؛ يعني المشرِكين. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ ﴾ ؛ معناهُ : يطُوفون بين أطباقِ النِّيران وبين ماءٍ حارٍّ قد انتهَى حرُّهُ، إذا استغَاثُوا من الحميمِ من النار، جُعِلَ غِيَاثُهم الحميمُ الآخر، وإذا استغَاثُوا من الحميمِ جُعِلَ غِياثُهم النارُ، فيُطاف بهم مرَّة إلى الحميمِ ومرَّةً إلى النار.
يقال : آنَى يَأْنِي أناً فهو آنٍ، إذا انتهَى في النُّضجِ والحرارةِ، قال قتادةُ :(طُبخَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ). حدَّثنا المردوية الصانع قال : صلَّى بنا الإمامُ صلاةَ الصُّبح، فقرأ فيها سُورةَ الرَّحمن ومَعَنَا عليُّ بنُ الفُضَيلِ، فلما قرأ ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ﴾ خَرَّ مَغشِيّاً عليه حتى فَزِعنَا من الصَّلاة، فقُلنا له بعدَ ذلك : يا عليُّ أمَا سَمِعتَ الإمامَ يقولُ :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴾[الرحمن : ٧٢] قالَ : شغَلَنِي عنها ﴿ يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ ﴾. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ﴾ ؛ معناهُ : ولِمَن خافَ وُقوفَهُ في عرَضَاتِ القيامةِ بين يَدَي اللهِ تعالى، فتَركَ المعصيةَ رهبةً من اللهِ تعالى له جنَّتان بُستَانَانِ من الياقوتِ الأحمرِ والزمُرُّد الأخضرِ، تُرَابُهما الكافورُ والعنبَرُ، وحصَاهُما المسكُ الأَذْفَرُ، كلُّ بستانٍ منهما مسيرةُ مائةِ سنة، في وسطِ كلِّ بستانٍ دارٌ من نورٍ، وقال محمَّد بن علي الترمذي :(جَنَّةٌ دَاخِلَ قَصْرِهِ لِخَوْفِهِ وَجَنَّةٌ خَارجَ قَصْرِهِ لِتَرْكِهِ)، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وفي الحديث :" أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي مَنْ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْمَعْصِيَةِ، فَإذا تَمَكَّنَ مِنْهَا وَقَدَرَ عَلَيْهَا وتَذكَّرَ مَا فِي ارْتِكَابهَا مِنَ الْعِقَاب، وَمَا فِي تَرْكِهَا مِنَ الثَّوَاب، فَتَرَكَهَا فَلَهُ جَنَّتَانِ " هذه صِفتُهما :﴿ ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ ﴾ ؛ أي ذواتَا أغصانٍ، واحدُها فَنَنٌ وهو الغصنُ المستقيم طُولاً. وقال الزجَّاحُ :(الأَفْنَانُ : الأَلْوَانُ وَالأَغْصَانُ) أي ذواتَي الألوانِ وأصنافٍ من الفاكهةِ لا يُعدَمُ فيه لونٌ من ألوانِها، واحدُها فَنٌّ، وجمعَ عطاءُ بين القولَين فقالَ :(يُرِيدُ فِي كُلِّ غُصْنٍ فُنُونٌ مِنَ الْفَاكِهَةِ)، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وفي ذكرِ الأغصان بيانُ كَثرَةِ الأشجار، وبكثرةِ الأشجار تمامُ حالِ البُستان، فإنَّ البستانَ لا يكملُ إلاَّ بكثرةِ الأشجار، والأشجارُ لا تحسُن إلاَّ بكثرةِ الأغصانِ، ﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ ﴾ ؛ أي في البساتينِ عَينان تجريان، إحداهما : السَّلْسَبيلُ، والأُخرى : التَّسْنِيمُ، تجرِيان في غيرِ شِقٍّ ولا أُخدُودٍ. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ ﴾ ؛ أي نَوعَان وصِنفَان، حلوٌ وحامضٌ، وأحمرٌ وأصفرٌ، ورَطبٌ ويابسٌ. ويقال : صِنفَان : صنفٌ عَهِدُوهُ في الدُّنيا، وصنفٌ لم يَعهَدوهُ ولا خطرَ في قلوبهم، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ ﴾ ؛ أي جالسِين جلسةَ الملوكِ مُكرَمِين على فُرُشٍ بَطَائِنُها من استبرقَ، البطَانَةُ : الصَّفحَةُ مما يلِي الأَرضَ في البطانةِ، والاستبرقُ : الدِّيبَاجُ المنسوجُ بالذهب.
وإنما ذُكرت البطائنُ من استبرقَ لتعرف أنَّ البطائنَ إذا كانت هكذا، فالظاهرُ لا شكَّ أنَّها أشرفُ منها على ما عليهِ العادةُ، وقال أبو هريرة رضي لله عنه :(هَذِهِ الْبَطَائِنُ ؛ فَمَا ظَنُّكُمْ بالظَّوَاهِرِ). وقيل لسعيدِ بن جُبير : الْبَطَائِنُ مِنْ اسْتَبْرَقَ فَمَا الظَّوَاهِرُ ؟ قَالَ :(هَذا مِمَّا قَالَ اللهُ تَعَالَى :﴿ فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ ﴾[السجدة : ١٧]). وقال ابنُ عبَّاس :(وَصَفَ الْبَطَائِنَ وَتَرَكَ الظَّواهِرَ ؛ لأَنَّهُ لَيْسَ فِي الأَرْضِ أحَدٌ يَعْرِفُ مَا الظَّوَاهِرُ؟).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ ﴾ ؛ أي ثَمَرُهما قريبٌ مُتَنَاوَلُهُ، يناوَلهُ القائمُ والقاعد والمضطجعُ، يأخذهُ كيف ما أرادَ، ويدنُو إلى أفواهِهم حتى يناولونَهُ بالأفواهِ، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾ ؛ أي في هاتَين الجنَّتين وما حولهما من الجنانِ حورٌ غاضَّاتُ الأعيُن، قد قَصَرْنَ أطرَافَهُنَّ على أزواجِهن لا ينظُرنَ إلى غيرِهم ولا يَبغِينَ بهم بدَلاً.
والطَّرْفُ : جَفْنُ العينِ، ويجوز أن يكون معنى ﴿ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ ﴾ أي في الفُرُشِ التي بَطائِنُها من استبرقَ، وقال زيدٌ :(إنَّ الْمَرْأةَ مِنَ الْحُور الْعِينِ الْقَاصِرَاتِ الطَّرْفِ تَقُولُ لِزَوْجِهَا : وَعِزَّ رَبي مَا أرَى فِي الْجَنَّةِ شَيْئاً أحْسَنَ مِنْكَ، فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي جَعَلَنِي زَوْجَكَ وَجَعَلَكَ زَوْجِي).
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ ؛ أي لم يَفْضُضْهُنَّ، والطَّمْثُ : هو النكاحُ بالتدميةِ، وامرأةٌ طَامِثَةٌ ؛ أي حائضٌ، وطَمَثْتَ الجاريةَ إذا افْتَرَعتَها، والمعنى : لم يَغْشَهُنَّ ولا يُجامِعهُنَّ إنسٌ قبلَهم ولا جانٌّ ؛ لأنَّهن خَلقَهُنَّ في الجنَّة، وَقِيْلَ : الطمثُ هو الْمَسُّ، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ ﴾ ؛ أي كأنَّهن في صَفاءِ الياقوتِ وبياضِ المرجان، والمرجانُ : هو صغارُ اللُّؤلؤ وهو أشدُّ بيَاضاً من كبارهِ. وعن عبدِالله بن مسعود عن النبيِّ ﷺ :" أنَّ الْمَرْأةَ مِنْ أهْلِ الْجَنَّةِ يُرَى بَيَاضُ مُخِّ سَاقِهَا مِنْ وَرَاءِ سَبْعِينَ حُلَّةً مِنْ حَرِيرٍ "، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ هَلْ جَزَآءُ الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ﴾ ؛ أي ما جزاءُ مَن أحسنَ في الدُّنيا إلاّ أن يُحسَنَ إليه في الآخرةِ، قال ابنُ عباس :(هَلْ جَزَاءُ مَنْ قَالَ : لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، وَعَمِلَ بمَا جَاءَ بهِ مُحَمَّدٌ ﷺ إلاَّ الْجَنَّةُ). وعن ابنِ عمرَ رضي الله عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ :" هَلْ جَزَاءُ مَنْ أنْعَمْتُ عَلَيْهِ بمَعْرِفَتِي وَتَوْحِيدِي إلاَّ أنْ أُسْكِنَهُ جَنَّتِي وَحَضِيرَةَ قُدْسِي برَحْمَتِي " ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ ؛ معناهُ وله جنَّتان سِوَى الجنَّتين الأَوليَين، وهما دون الأُوليين. قال بعضُهم : أرادَ بالجنَّتين الأُولَين جنَّتين في العُلُوِّ، وأراد بهذين جنَّتين في السُّفلِ، قال ﷺ :" هُمَا جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا مِنْ فِضَّةٍ " وَقِيْلَ : معناهُ :﴿ وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ ﴾ أي أقربُ إلى قصرهِ ومَجَالسهِ من الجنَّتين الأُوليين، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ مُدْهَآمَّتَانِ ﴾ ؛ أي خَضرَاوَانِ تضربُ خُضرَتُهما من الرَّائي إلى السَّواد، وذلك أحسنُ ما يكون في الْخُضرَةِ أولاهم الأسودُ، يقال : ادْهَامَّ الزرعُ إذا علاهُ السَّواد رَياً. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ ﴾ ؛ أي فوَّارَتان بالماءِ من الامتلاءِ، تنضخُ على أولياءِ الله بالمِسْكِ والعنبرِ والكافور والخير والبركة، بخلافِ العَينين للأُوليين، والنضخُ أكثر من النضح، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ ﴾ ؛ أي فيهما ألوانُ الفاكهةِ. قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ وَرُمَّانٌ ﴾ يستدلُّ لأبي حنيفة أنَّ النخلَ الرُّمان ليسَا من الفاكهةِ ؛ لأن الشيءَ لا يعطفُ على نفسهِ، وعند أبي يوسفَ ومحمَّد هما من الفاكهةِ، وإنَّ عَطفَهما على الفاكهةِ لزيادةِ معنى فيهما لا يوجدُ في سائرِ الفواكهِ، كما في قوله تعالى :﴿ مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ ﴾[البقرة : ٩٨]. ورُوي : أنَّ نخيلَ الجنةِ، عُروقُها من فضَّة، وجذوعُها ذهبٍ، وسقفها حُلَلٌ، وثمرُها أحلَى من العسلِ وأليَنُ من الزُّبد، ليس له عجمٌ، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ ؛ قرأ أبو رجَاء (خَيِّرَاتٌ) بالتشديدِ، وما لُغتان مثل هَين وهَيِّنٍ ولِينِ ولَيِّنٍ، وعن أُمِّ سلمَةَ قالت :" قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ ﷺ أخْبرْنِي عَنْ قَوْلِهِ ﴿ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ ﴾ قَالَ :" خَيِّرَاتُ الأخْلاَقِ حِسَانُ الْوُجُوهِ " وَقِيْلَ : خيِّراتٌ فاضلات مختاراتٌ ليس بذربَاتٍ ولا دَفواتٍ ولا بَحِراتٍ ولا مُتسَلِّطاتٍ ولا طمَّاحَاتٍ ولا طوَّافات في الطُّرق، ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾ ؛.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ ﴾ ؛ الحورُ البيضُ الحسانُ البياضِ، والمقصوراتُ هن المحجوباتُ المحبوسات والْمَصُونَاتُ. والخِيَامُ : جمعُ خيمةٍ، وهي خيمةٌ من دُرَّةٍ مجوَّفةٍ فيها أربعةُ آلافِ مِصرَاعٍ من ذهبٍ، طولُ الخيمةِ في السَّماء ستُّون ميلاً، في كلِّ زاويةٍ أهلٌ لا يرَاهم الآخَرُون. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ ﴾ ؛ يعني أنَّ صِفَتَهُنَّ كصفةِ القاصرات الطَّرفِ. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
وقولهُ تعالى :﴿ مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ ﴾ ؛ قال أبو عُبيدة :(الرَّفْرَفُ : الْبُسُطُ) قاله الضحَّاكُ ومقاتلُ والحسن. وقال الزجَّاجُ :(الرَّفْرَفُ هَهُنَا ريَاضُ الْجَنَّةِ). وَقِيْلَ : الرَّفرَفُ الوسائدُ. وأما العبقريُّ : فهو البُسُطُ من الزَّرَابيِّ وغيرِها، وكلُّ ما بُولِغَ في وَصفهِ فهو عبقريٌّ، وأصلهُ أنَّ عَبْقَرِيَّ اسمُ بلدٍ كان يُوَشَّى فيها البُسُطُ، وكانت العربُ تعتقدُ أنَّ أفضلَ البُسُطِ ما نُسِجَ بعَبْقَرَ، فأضافَهُ اللهُ تعالى على عادَتِهم. ﴿ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ ﴾.
قَوْلُهُ تَعَالَى :﴿ تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ ﴾ ؛ أي عَظُمَتِ البركةُ في اسمِ ربكَ، فاطلبُوا البركةَ في كلِّ شيء يُذكَرُ فيه اسمهُ، قرأ ابنُ عامر (ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ).
Icon