تفسير سورة الأعراف

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الأعراف من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

سورة الأعراف
هى مكية إلا ثمانى آيات، من قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ إلى قوله تعالى: وَإِذْ نَتَقْنَا، وقيل: إلى قوله: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ. وآياتها: مائتان وخمس. قاله البيضاوي. ومضمنها: الحث على اتباع ما أنزله على نبيه من التوحيد والأحكام، والتحذير من مخالفته ومتابعة الشيطان، وذكر وبال من تبعه من القرون الماضية، وما لحقهم من الهلاك فى الدنيا والعذاب فى الآخرة، تتميما لقوله: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «١».
وافتتح السورة بالرموز التي بينه وبين حبيبه، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (١)
إما أن تكون مختصرة من المصطفى، على عادة العشاق يرمزون إلى ذكر بعض حروف المحبوب، اتقاء الرقباء، أي: يا أيها المصطفى المختار لرسالتنا هذا كتاب أنزل إليك، وإما أن تشير إلى العوالم الثلاثة: الجبروت والملكوت والملك. وزاد هنا الصاد، إشارة إلى صدقه فيما يُخبر به من علم الغيوب، ولذلك ذكر هنا جملة من القصص والأخبار.
وقال الورتجبي: كان الله- تبارك وتعالى- إذا أراد أن يتكلم مع نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم بقصص الأنبياء، وما جرى عليهم في الدهور والأعصار، وشأنه معهم في الأسرار والحقائق والشرائع، وأراد أن يخصه صلّى الله عليه وسلّم بشريعته، وما يكون من طريقته الخاصة إلى حضرته، ويخبره بما كان وما يكون، أشار إلى هذه الأشياء بحروف التهجي، واعلمه سر ذلك بخفي الإشارة ولطيف الخطاب، وعلم تعالى أنه عليه الصلاة والسلام يعرف بتلك الإشارة مراده من علم سابق، ونبأٍ صادق، وعلم تعالى أن عموم أمته لا تعرف تلك الإشارة، فعبَّر عنها بسورة طويلة من القرآن ليعرفوا مراده سبحانه من خطابه، وخواص أمته ربما تطلع على سر بعضها، كالصحابة والتابعين والمتقدمين من العلماء والأولياء، كأنَّ حروف المقطعات رموز ومعاني سور القرآن، لا يعرف تلك الرموز إلا الربانيون والأحبار من الصديقين. هـ.
(١) من الآية ١٦٥ من سورة الأنعام. [.....]
ثم ذكر حكمة إنزال الكتاب، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢]
كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)
قلت: (كتاب) : خبر، أي: هذا كتاب، و (أُنزل) : صفته، والحرج: الضيق، و (لتنذر) : متعلق بأُنزل، أو بلا يكن، لأنه إذا أيقن أنه من عند الله جسر على الإنذار، وكذا إذا لم يخفهم، و (ذكرى) : يحتمل النصب بإضمار فعل، أي:
لتُنذر ولتذكر ذكرى، والجر عطف على (لتنذر)، أي: للإنذار والتذكير، والرفع عطف على (كتاب).
يقول الحق جلّ جلاله: هذا كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ من ربك، فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ أي:
ضيق وثقل من أجل تبليغه لمن يُكذب به، مخافة أن تكذّب فيه، أو مخافة أن تقصر على القيام بتبليغه، أو بحقوقه، وتوجيه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولك: لا أرينك هاهنا، كأنه قال: فلا يحرج صدرك منه، وإنما أنزلناه إليك لتُنذر به من بلغه، وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ أي: وتذكيرًا وموعظة للمؤمنين لأنهم هم المنتفعون بمواعظة.
الإشارة: تذكير أهل الإنكار ووعظهم يحتاج إلى سياسة كبيرة وحلم كبير وصبر عظيم، لا يطيقه إلا الأكابر من أهل العلم بالله كالأنبياء والصديقين، لسعة معرفتهم، واتساع صدورهم لحمل الجفاء وتحمل الأذى، ونهيه تعالى لنبيه- عليه الصلاة والسلام- عن ضيق صدره: تشريع لورثته من بعده الداعون إلى الله- عزَّ وجَلَّ وإلّا فهو صلّى الله عليه وسلّم بحر واسع، لا تكدره الدِّلاءُ، كما قال البوصيري.
فَهو البَحرُ والأَنَامُ إِضاء «١» والله تعالى أعلم.
ثم حضّ على الإتباع، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣]
اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٣)
قلت: (قليلاً) : صفة لمصدرٍ، أو زمانٍ محذوف، أي: تتذكرون تذكراً قليلاً، أو زماناً قليلاً، والعامل فيه:
تذكرون، و (ما) : زائدة لتأكيد القلة.
(١) الإضاءة: جمع إضاءة، وهى: الغدران- جمع غدير. قلت: وهذا شطر بيت، أوله: لا تقس بالنبيّ فى الفضل خلقا.
يقول الحق جلّ جلاله: اتَّبِعُوا أيها الناس ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من أحكام القرآن والسنة إذ كله وحي يوحى، وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى «١»، وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أي: الله، أَوْلِياءَ من الجن والإنس يضلونكم عن دينه، أو: ولا تتبعوا من دون ما أنزل إليكم أولياء، تتبعونهم فيما يأمرونكم به وينهونكم، وتتركون ما أُنزل إليكم من ربكم، قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ: تتعظون حيث تتركون دين الله وتتبعون غيره، بعد كمال إنذاره ووضوح تذكاره، وذلك لانطماس البصيرة وعمي القلوب، والعياذ بالله.
الإشارة: اتباع الحبيب في أمره ونهيه يدل على صحة دعوى المحبة، ومخالفته يدل على بطلانها.
تَعصِي الإله وأنتَ تُظهِرُ حُبَّهُ هذَا محَالٌ في القياس بديع
لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مُطِيعُ «٢»
وجمع المحبة في محبوب واحد يدل على كمالها، وتفرق المحبة يدل على ضعفها، ولذلك قال الشاعر:
كَانَت لَقلبِي أهواءٌ مُفَرَّقَةٌ فَاسْتَجْمَعَتْ مُذَ رأتك العَيْنُ أهوائي
فلا تجتمع المحبة في محبوب واحد إلا بعد كمال معرفة المحبوب، وشهود أنوار جماله وكمال أسراره. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر وبال من لم يتبع، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤ الى ٧]
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (٤) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (٥) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (٦) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (٧)
قلت: (كم) : خبرية، مفعول (أهلكنا)، وهو على حذف الإرادة، أي: في الحال أردنا إهلاكها، و (بياتًا أو هم قائلون) : حالان، أي: بائتين أو قائلين، وأغني الضمير في (هم) عن واو الحال.
(١) الآية ٥ من سورة النجم.
(٢) البيتان لعبد الله بن المبارك.
197
يقول الحق جلّ جلاله: كثيرًا من القرى أَهْلَكْناها لما عصت أمرنا، وخالفت ما جاءت به رسلنا، فَجاءَها بَأْسُنا أي: عذابنا بَياتاً أي: ليلاً، كقوم لوط قلبت مدينتهم، عاليها سافلها، وأرسلت عليهم الحجارة بالسَّحَر، أَوْ هُمْ قائِلُونَ نصف النهار، كقوم شعيب، نزلت عليهم نار فأحرقتهم، وهو عذاب يوم الظلة، وإنما خص الوقتين لأنهما وقت دعة واستراحة، فيكون مجيىء العذاب فيهما أفظع.
فَما كانَ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم واستغاثتهم حين جاءهم بأسنا، إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ أي: إلا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه وبطلانه، تحسرًا، أو: ما كان دعاؤهم إلا قولهم:.. يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ، فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ «١» : ميتين، فإذا أحييناهم وبعثناهم من قبورهم، فو الله فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ عن قبول الرسالة وإجابة الرسل، وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عما أُجيبوا به، والمراد بهذا السؤال: توبيخ الكفرة وتقريعهم، وأما قوله تعالى: وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «٢» فالمنفي: سؤال استعلام لأن الله أحاط بهم علمًا، أو الأول في موقف الحساب، وهذا عند حصول العقاب.
فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ أي: على الرسل والأمم، فنقص على الرسل ما قُوبلوا به من تصديق أو تكذيب، وعلى الأمم ما قابلوا به الرسل من تعظيم أو إنكار، أو فلنقص على الرسل ما علمنا من قومهم حين يقولون: لاَ عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «٣». نقص ذلك عليهم بِعِلْمٍ وتحقيق لاطلاعنا على أحوالهم، وإحاطة علمنا بسرهم وعلانتيهم. وَما كُنَّا غائِبِينَ عنهم، فيخفى علينا شيء من أحوالهم، بل كنا حاضرين لديهم، محيطين بسرهم وعلانيتهم.
الإشارة: ما أهلكَ اللهُ قومًا وعذبهم إلا بتضييع الشرائع أو إنكار الحقائق، فمن قام بهما معًا كان مصحوبًا بالسلامة، موصوفًا بالكرامة في الدارين، ومن ضيعهما أو أحدهما لحقه الوبال في الدارين، فإذا لحقه إهلاك لم يسعه إلا الإقرار بالظلم والتقصير، حيث فاته الحزم والتشمير، فإذا ندم لم ينفعه الندم، حيث زلت به القدم، فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والانكسار، والتمسك بشريعة النبي المختار، والتحقق بمعرفة الواحد القهار، وصحبة الصالحين الإبرار، والعارفين الكبار، قبل أن تصير إلى قبرك فتجده إما رَوْضَةٌ مِن رِيَاضِ الجَنَّة، أو حُفْرة مِنْ حُفَرِ النار.
وكما أن الحق تعالى يسأل الرسل عما أُجيبوا به، يسأل خلفاءهم- وهم الأولياء والعارفون- عما إذا قُوبلوا من تعظيم أو إنكار، فيرفع من عظمهم في أعلى عليين، ويحط من أنكرهم في محل أهل اليمين. وبالله التوفيق.
(١) الآيتان ١٤- ١٥ من سورة الأنبياء.
(٢) الآية ٧٨ من سورة القصص.
(٣) من الآية ١٠٩ من سورة المائدة.
198
ثم ذكر مقادير الأعمال ووزنها، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨ الى ٩]
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٨) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (٩)
قلت: (الوزن) : مبتدأ، و (يومئذٍ) : خبره، و (الحق) : صفته، أي: الوزن العدل حاصل يومئذٍ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالْوَزْنُ أي: وزن الأعمال، على نعت الحق والعدل، حاصل يوم القيامة، حين يسأل الرسل والمُرسل إليهم. والجمهور على أن صحائف الأعمال تُوزن بميزان له لسان وكفتان، ينظر إليه الخلائق إظهاراً للمعدلة وقطعًا للمعذرة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، وتشهد بها جوارحهم، ويؤيده ما رُوِي: «أن الرجل يُؤتى به إلى الميزان، فيُنشَر عليه تسعَةٌ وتِسعُونَ سِجلاًّ، كُلُّ سجلّ مد البصر، فتخرج لَهُ بطَاقة فِيهَا كَلِمةُ الشهَادِة، فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كِفةٍ، والبطاقة في كفّة، فَتثقُل البطاقةُ، وتَطِيشُ السِّجلاَّتُ» «١».
وقيل: توزن الأشخاص لما روى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إنّهُ ليأتِي العَظِيمُ السَّمِينُ يَومَ القِيَامَة لا يَزنُ عندَ اللهِ تَعالى جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» «٢». والتحقيق: أن المراد به الإهانة والتصغير، وأنه لا يساوي عند الله شيئًا لاتباعه الهوى.
ثم فصل في الأعمال فقال: فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ أي: حسناته، أو الميزان الذي يوزن به حسناته، وجمعه باعتبار اختلاف الموزونات وتعدد الوزن، فعلى الأول هو جمع موزون، وعلى الثاني جمع ميزان، فمن رجحت حسناته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة والثواب الدائم، وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع الفطرة السليمة التي فُطِروا عليها، واقتراف ما عرضها للهلاك، بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ حيث بدلوا التصديق بها بالتكذيب، والعمل فيها بالتفريط. نسأل الله تعالى الحفظ.
الإشارة: العمل الذي يثقل على النفس كله ثقيل في الميزان لأنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقًا، والعمل الذي يخف على النفس كله خفيف لأنه فيه نوع من الهوى إذ لا يخف عليها إلا ما لها فيه حظ وهوى. وفي الحكم:
(١) أخرجه بنحوه الإمام أحمد فى المسند ٢/ ٢١٣ والترمذي فى (الإيمان، باب فيمن يموت وهو يشهد أن لا إله إلا الله) وابن ماجه فى (الزهد، باب ما يرجى من رحمة الله يوم القيامة) وصححه الحاكم ١/ ٦، من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الكهف، باب: «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم ولقائه فحبطت أعمالهم..» ) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم، باب صفة القيامة..) من حديث أبى هريرة.
«إذا التبس عليك أمران، فانظر أثقلهما على النفس فاتبعه فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقًا». وقال أبو بكر الصديق رضى الله عنه: والله ما ثقل ميزان عبد إلا باتباعه الحق، وما خف إلا باتباعه الهوى. قال تعالى: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ.
هـ. بمعناه، ذكره في القوت. وهذا في غير النفس المطمئنة، وأما هي فلا يثقل عليها شيء، وقد يثقل عليها الباطل، ويخف عليها الحق، لكمال رياضتها. والله تبارك وتعالى أعلم.
ثم ذكّرهم بالنعم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠]
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (١٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ تتصرفون فيها بالبناء والسكن، وبالغرس والحرث والزرع، وغير ذلك من أنواع التصرفات، وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ: أسبابًا تعيشون بها كالتجارة وسائر الحرف، قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ على هذه النعم، فتقابلون المنعم بالكفر والعصيان، فأنتم جديرون بسلبها عنكم، وإبدالها بالنقم، لولا فضله ورحمته.
الإشارة: نعمة التمكين في الأرض متحققة في أهل التجريد، المنقطعين إلى الله تعالى، فهم يذهبون في الأرض حيث شاءوا، ومائدتهم ممدودة يأكلون منها حيث شاءوا، فهم متمكّنون من أمر دينهم لقلة عوائدهم، ومن أمر دنياهم لأنها قائمة بالله، تجري عليهم أرزاقهم من حيث لا يحتسبون، تخدمهم ولا يخدمونها «يا دنياي اخدمي من خدمني، وأتعبي من خدمك». فمن قصّر منهم في الشكر توجه إليه العتاب بقوله: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ إلى قوله: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ، ومن تحقق شكره قيل له: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ «١». والله تعالى أعلم.
ولمّا ذكر نعمة الإمداد أتبعه بنعمة الإيجاد، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١ الى ١٨]
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (١١) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (١٢) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (١٣) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (١٤) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (١٥)
قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (١٦) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (١٧) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (١٨)
(١) الآيتان: ٥- ٦ من سورة القصص.
200
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ أي: خلقنا أباكم آدم طينًا غير مصور، ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي: صوّرنا خلقة أبيكم آدم. نزَّل خلقه وتصويره منزلة خلق الكل وتصويره لأنه المادة الأصلية، أي: ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا أباكم آدم، ثم صورناه، ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ تعظيمًا له، حيث وجد فيه ما لم يوجد فيهم، واختبارًا لهم ليظهر من يخضع ممن لم يخضع، فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ لآدم.
قالَ له الحق تبارك وتعالى: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي: أن تسجد، فلا: زائدة، مؤكدة معنى الفعل الذي دخلت عليه، ومنبهة على أن الموبَّخ عليه ترك السجود، وقيل: الممنوع من الشيء كالمضطر إلى خلافه، فكأنه قال: ما اضطرك إلى ترك السجود إِذْ أَمَرْتُكَ.
وفيه دليل على أنَّ مطلق الأمر للوجوب والفور، فأجاب بقوله: قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، أي: المانع لي من السجود هو كوني أنا خير منه، ولا يحسُنُ للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسُن أن يؤمر به، فإبليس هو الذي سنَّ التكبر، وقال بالتحسين والتقبيح العقليين أولاً، وبهذا الاعتراض كفر إبليس إذ ليس كفره كفر جحود.
ثم بيَّن وجه الأفضلية، فقال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ، فاعتقد أن النار خيرٌ من الطين، وقد غلط في ذلك، فإن الأفضلية إنما تظهر باعتبار النتائج والثمرات، لا باعتبار العنصر والمادة فقط، ولا شك أن الطين ينشأ منه ما لا يحصى من الخيرات كالثمار والحبوب وأنواع الفواكه.
قال البيضاوي: رأى الفضل كله باعتبار العنصر، وغفل عما يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله تعالى: مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ «١» أي: بغير واسطة، وباعتبار الصورة، كما نبّه عليه بقوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي وباعتبار الغاية، وهو ملاكه، ولذلك أمر الملائكة بالسجود له لما تبين لهم أنه أعلم منهم، وأنه له خواصًا ليست لغيره. هـ.
(١) من الآية ٧٥ من سورة ص.
201
ولما تبين عناده قال له تعالى: فَاهْبِطْ مِنْها أي: من السماء أو من الجنة، فَما يَكُونُ لَكَ أي: فما يصح لك أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها وتعصى فإنها موطن الخاشع المطيع، وفيه دليل على أنَّ الكبر لا يليق بأهل الجنة، فإنه تعالى إنما أنزله وأهبطه لتكبره لا لمجرد عصيانه، فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ أي: ممن أهانه الله لتكبره. قال صلّى الله عليه وسلّم: «مَن تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ الله، ومَن تَكَبَّر وَضَعَه الله» «١».
ولما تحقق إبليس أنه مطرود، سأل الإمهال فقال: أَنْظِرْنِي أي: أخرني، إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فلا تمتني، ولا تعجل عقوبتي، قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ يقتضي أنه أجابه إلى ما سأل، لكنه محمول على ما في الآية الأخرى: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «٢» وهو نفخ الصور النفخة الأولى، قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي أي: بعد أن أمهلتني لأجتهدن في إغوائهم بأي طريق يمكنني، بسبب إغوائك إياي، والله لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ، وهو الطريق الذي يوصلهم إليك، فأقعد فيه، وأردهم عنه، ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ فآتيهم من الجهات الأربع، وذلك عبارة عن تسلطه على بني آدم كيفما أمكنه.
قال ابن عباس: مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ: الدنيا يُزيّنها لهم، وَمِنْ خَلْفِهِمْ: الآخرة يُنسيها لهم، (وعن أيمانهم) :
الحسنات يُثبطهم عنها، وَعَنْ شَمائِلِهِمْ: السيئات يُزينها في أعينهم. هـ. ولم يجعل له سبيلاً من فوقهم، ولا من تحت أرجلهم لأن الرحمة تنزل من أعلى، فلم يحل بينهم وبينها، والإتيان من تحت موحش، وأيضًا: السفليات محل للتواضع والخشوع، فتكثر فيه الأنوار فيحترق بها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: (لإنَّ فوق: التوحيد، وتحت: الإسلام، ولا يمكن أن يأتي من توحيد ولا إسلام).
ثم قال تعالى: وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين، قال بعض الصوفية: (لو كان ثم مقام أعظم من الشكر لذكره إبليس) فالشكر أعظم المقامات، وهو الطريق المستقيم الذي قعد عليه إبليس، والشكر: هو ألا يُعصى الله بنعمه، أو: صرف الجوارح كلها في طاعة الله، أو رؤية المنعم في النعمة. وإنما قال إبليس ذلك ظنًا لقوله:
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «٣»، وسيأتي في الإشارة حقيقته.
قالَ تعالى لإبليس: اخْرُجْ مِنْها من السماء أو الجنة، مَذْؤُماً أي: مذمومًا، من ذامه، أي:
ذمه، مَدْحُوراً أي: مطرودًا. والله لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ في الكفر لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ أي:
منك وممن تبعك.
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (الباب ٥٧) من حديث سيدنا عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-.
(٢) الآية ٣٨ من سورة الحجر.
(٣) من الآية ٢٠ من سورة سبأ.
202
تنبيه: ذكر الفخر الرازي، في تفسيره، عن الشهرستاني أن إبليس جرت بينه وبين الملائكة مناظرة بعد الأمر بالسجود لآدم، فقال لهم: إني أسلم أن الله خالقي وموجدي، وهو موجد الخلق، ولكن لي على حكمته أسئلة: الأول:
ما الحكمة في إيجاد خلقه، لا سيما وكان عالمًا بأن الكافر لا يستوجب عند خلقه الآلام؟ الثاني: ما الفائدة في التكليف، مع أنه لا يعود عليه نفع ولا ضرر، وكل ما يعود إلى المكلفين فهو قادر على تحصيله لهم من غير واسطة التكليف؟ الثالث: هب أنه كلفني بطاعته ومعرفته، فلماذا كلفني بالسجود لآدم؟ الرابع: لما عصيته فلمَ لعنني وأوجب عقابي، مع أنه لا فائدة له ولا لغيره فيه، وفيه أعظم الضرر؟ الخامس: لما فعل ذلك فلم مكنني من الدخول إلى الجنة ووسوسة آدم؟ السادس: ثم لما فعل ذلك، فلم سلطني على أولاده، ومكننى من إغوائهم وإضلالهم؟ السابع: ثم لما استمهلته بالمدة الطويلة في ذلك فلم أمهلني، ومعلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا؟. هـ. قال شارح الأناجيل: فأوحى الله إليه من سرادقات الكبرياء: إنك ما عرفتنى، ولو عرفتني لعلمت أنه لا اعتراض عليَّ في شيء من أفعالي، فأنا اللهُ لا إِله إلاّ أنا لا أُسألُ عما أفعل.
قال الشهرستاني: اعلم أنه لو اجتمع الأولون والآخرون، وحكموا بتحسين العقل وتقبيحه لم يجدوا عن هذه الشبهات تخلصًا، أما إذا أجبنا بما أجاب به الحق- سبحانه- زالت الشبهات واندفعت الاعتراضات. هـ. قلت: من تشمرت فكرته بنور المعرفة، وعرف أسرار الحكمة والقدرة، لم يصعب عليه مثل هذه الشبهات، وسأذكر الجواب عنها على سبيل الاختصار:
أما الحكمة فى إيجاد خلقه فخلقهم ليعرف بهم. وفي الحديث القدسي: «كنت كنزاً لم أُعرف، فأحببتُ أن أعرف، فخلقت خلقًا لأعرف بهم، وليظهر بهم آثار قدرته وأسرار حكمته. وأما تعذيب الكافر بالآلام فليظهر فيه مقتضى اسمه المنتقم.
أما فائدة التكليف فلتقوم الحجة على العبيد، وليتميز من يستحق الإحسان ممن يستحق العذاب، فإذا عذبه لم يكن ظالمًا له وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «١»
، ولتظهر صورة العدل في الجملة. وأما تكليفه بالسجود لآدم فلأنه ادعى المحبة، ومقتضاها الطاعة للحبيب في كل ما يشير إليه، ولا تصعب إلا في الخضوع للجنس، أو مَن دونه، فأمره بالسجود لمن دُونه في زعمه ليظهر كذبه في دعوى محبته، وأما لعنه وطرده فهو جزاء من كذب
(١) من الآية ٤٩ من سورة الكهف. [.....]
203
وعصى. وهذا الطرد كان في علمه تعالى، ولكن حكمته تعالى اقتضت ترتيب الأسباب وارتباطها بالمسببات، فكان امتناعه واعتراضه سببًا لإظهار ما سَبق له في علم الله، كما كانت وسوسته لآدم سببًا في إظهار خروجه من الجنة السابق في علم الله. وأما تمكينه من دخول الجنة فليتسبب عنه هبوط آدم الذي سبق في علمه لأن الحكمة اقتضت أن لكل شيء سببًا. أما تسلطه على أولاده، فليكون منديلاً تمسح به أو ساخ الأقدار إذ إن الكفر والإيمان والطاعة والعصيان إنما هو بمشيئة الواحد القهار، ولا فعل لغيره، لكن الحق تعالى علمنا الأدب، فخلق الشيطان والنفس والهوى مناديل، فما كان فيه كمال نسبه لله، وما كان فيه نقص نسبه للشيطان والنفس أدبًا مع الحضرة.
وأما إمهاله فليدوم هذا المنديل عندهم، يمسحون فيه أوساخ المقادير التي تجري عليهم إلى انقضاء وجودهم.
وقوله: (معلوم أن العالم لو كان خاليًا من الشر لكان ذلك خيرًا)، مغالطة لأن حكمته تعالى اقتضت وجود الضدين: الخير والشر، وبهما وقع التجلي والظهور ليظهر آثار أسمائه تعالى فإن اسمه المنتقم والقهار يقتضي وجود الشر، فيما نفهم، وليظهر انتقامه وبطشه للعيان، ومعلوم أن الملك إذا وصف بوصف جلالي أو جمالي لا يظهر شرف ذلك الاسم إلا بظهور آثاره في مملكته. وقوله: (إنك ما عرفتني..) الخ.. يقتضي أنه لو عرف الله حق معرفته لفهم أسرار هذه الأشياء التي اعترض بها على ما بيناها. والله تعالى أعلم.
الإشارة: الأكوان ظاهرها أغيار، وباطنها أنوار وأسرار، فمن وقف مع ظاهرها لزمه الاعتراض والإنكار، ومن نفذ إلى شهود باطنها لزمه المعرفة والإقرار، ولعل إبليس لم ير- في حال الأمر بالسجود- من آدم إلا الأغيار، ولو رأى باطنه لكان أول ساجد لله الواحد القهار.
ثم ذكر دخول آدم الجنة وخروجه منها، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (١٩) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (٢٠) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (٢١) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (٢٢) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (٢٣)
قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٢٤) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (٢٥)
204
يقول الحق جلّ جلاله: وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ حواء الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما من ثمارها، وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ التين أو العنب أو الحنطة، فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ لأنفسكما بمخالفتكما، فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ أي: فعل الوسوسة لأجلهما، وهو الصوت الخفي، لِيُبْدِيَ أي: ليظهر لَهُما ما وُورِيَ أي: ما غطى عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما أي: عوراتهما، واللام: للعاقبة، أي: فعل الوسوسة لتكون عاقبتهما كشف عورتهما، وكانا لا يريانها من أنفسهما، ولا أحدهما من الآخر. وفيه دليل على أنَّ كشف العورة، ولو عند الزوج من غير حاجة- قبيح مستهجن في الطباع.
وَقالَ لهما: مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا كراهية أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ. واستدل به من قال بفضل الملائكة على الأنبياء، وجوابه: أنه كان من المعلوم عندهما أن الحقائق لا تنقلب، وإنما كانت رغبتهما فيما يحصل لهما من الغنى عن الطعام والشراب، فيمكن لهما الخلود في الجنة، ولذلك قال: أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الذين يخلدون في الجنة.
ويؤخذ من قوله تعالى: ما نَهاكُما رَبُّكُما، أن آدم عليه السلام لم يكن ناسيًا للنهي، وإلا لما ذكره بقوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما، وقوله في سورة طه: فَنَسِيَ، أي: نسي أنه عدو له، ولذلك ركن إلى نصيحته، وقبل منه حتى تأول أن النهي عن عين الشجرة لا عن جنسها، فأكل من جنسها رغبة في الخلود، ولكنه غره من حيث الأخذ بالظواهر وترك الاحتياط.
ولم يقصد إبليسُ إخراجهما من الجنة، وإنما قصد أسقاطهما من مرتبتهما، وإبعادهما كما بعُد هو، فلم يبلغ قصده ولا أدرك مراده، بل ازداد سخينة عين، وغيظ نفس، وخيبة ظن. قال الله تعالى: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى «١»، فصار عليه السلام خليفة لله في أرضه، بعد أن كان جارًا له في داره، فكم بين الخليفة والجار؟
(١) الآية ١٢٢ من سورة طه.
205
وَقاسَمَهُما أي: حلف لهما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ فيما قلت لكما. وذكر قَسَم إبليس بصيغة المفاعلة التي تكون بين اثنين مبالغة لأنه اجتهد فيه، أو لأنه أقسم لهما، وأقسما له أن يقبلا نصيحته.
فَدَلَّاهُما، أي: أنزلهما إلى الأكل من الشجرة، بِغُرُورٍ أي: بما غرهما به من القَسَم، لأنهما ظنًا أن أحدًا لا يحلف بالله كاذبًا، فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ أي: وجدا طعمها، آخذين في الأكل منها، بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما، وتهافت عنهما ثيابُهما، فظهرت لهما عوراتهما أدبًا لهما. وقيل: كان لباسهما نورًا يحول بينهما وبين النظر، فلما أكلا انكشف عنهما، وظهرت عورتهما، وَطَفِقا أي: جعلا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أي: أخذا يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة ليستترا به، قيل: كان ورقَ التين. فآدم أول من لبس المرقعه، وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ هذا عتاب على المخالفة، وتوبيخ على الاغترار بالعدو. وفيه دليل على أنَّ مطلق النهي للتحريم.
ثم صرّحا بالتوبة فقالا: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا حين صدّرناها للمعصية، وتعرضنا للإخراج من الجنة، وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ وهذه هي الكلمات التي تلقاها من ربه فتاب عليه بها.
قال البيضاوي: فيه دليل على أن الصغائر يُعاقب عليها إن لم تغفر، وقالت المعتزلة: لا يجوز المعاقبة عليها مع اجتناب الكبائر، ولذلك قالوا: إنما قالا ذلك على عادة المقربين في تعظيم الصغير من السيئات، واستحقار العظيم من الحسنات. هـ.
قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم وحواء وذريتهما، أو: لهما ولإبليس، وكرر الأمر له تبعًا ليعلم أنهم قرناء له أبدًا. حال كونكم بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: متعادين، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ أي: استقرار، وَمَتاعٌ أي: تمتع، إِلى حِينٍ انقضاء آجالكم، قالَ فِيها أي: في الأرض تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ للجزاء، بالنعيم، أو بالعذاب الأليم، على حسب سعيكم في هذه الدار الفانية.
الإشارة: قال بعض العارفين: كل ما نهى الله تعالى عنه فهو شجرة آدم، فمن دخل جنة المعارف، ثم غلبه القدر فأكل من تلك الشجرة- وهي شجرة سوء الأدب- أخرج منها، فإن كان ممن سبقتَ له العناية أُلهم التوبة، فتاب عليه وهداه، وأهبطه إلى أرض العبودية ليكون خليفة الله في أرضه، فأنعِم بها معصية أورثت الخلافة والزلفى. وفي الحكم: «ربما قضى عليك بالذنب فكان سبب الوصول». وقال أيضا: «معصية أورثت ذُلاً وافتقاراً، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارًا». وقال بعضهم: كل سوء أدب يُثمر لك أدبًا فهو أدب. والله تعالى أعلم.
206
ثم ذكّرهم بنعمة اللباس، الذي عوضهم به فى الدنيا عن لباس الجنة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٦]
يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٢٦)
قلت: من قرأ: (لباس) بالرفع فهو مبتدأ، والجملة: خبر، والرابط: الإشارة، والريش: لباس الزينة، مستعار من ريش الطير.
يقول الحق جلّ جلاله: يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماوية وأسباب نازلة، ونظيره: قوله تعالى: وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ «١»، وقوله تعالى: وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «٢». من صفة ذلك اللباس: يُوارِي أي: يستر سَوْآتِكُمْ التي قصد إبليس إبداءها، ويغنيكم عن خصف الورق. رُوِي أن العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، ويقولون: لا نطوف في ثياب عصينا الله تعالى فيها، فنزلت. ولعل ذكر قصة آدم تقدمه لذلك حتى يعلم أن انكشاف العورة أول سوء أصاب الإنسان من الشيطان، وأنه أغواهم في ذلك كما أغوى أبويهم. قاله البيضاوي.
وَرِيشاً أي: ولباسًا فاخرًا تتجملون به وَلِباسُ أي: وأنزلنا عليكم لباس التَّقْوى وهي خشية الله تعالى، أو الإيمان، أو السمت الحسن، واستعار لها اللباس كقولهم: ألبسك الله لباس تقواه، وقيل: لباس الحرب. ومن قرأ بالرفع فخبره: ذلِكَ خَيْرٌ أي: لباس التقوى خير من لباس الدنيا لبقائه في دار البقاء دون لباس الدنيا فإنه فانٍ في دار الفناء، ذلِكَ أي: إنزال اللباس من حيث هو خير مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالة على فضله ورحمته، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمه، فيشكرون عليها، أو يتعظون فينزجرون عن القبائح.
الإشارة: اللباس الذي يواري سوءات العبودية- أي: نقائصها- هي أوصاف الربوبية ونعوت الألوهية من عز وغنى، وعظمة وإجلال، وأنوار وأسرار، التي أشار إليها في الحكم بقوله: «لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك، ومحو دعاويك، لم تصل إليه أبداً، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه، ونَعْتَكَ بنعته، فوصلك بما منه إليك، لا بما منك إليه». والريش هو بهجة أسرار المعاني التي تغيب ظلمة الأواني، أو بهجة الأنوار التي تُفني الأغيار، ولباس التقوى هي حفظه ورعايته لأوليائه في الظاهر والباطن مما يكدر صفاءهم أو يطمس أنوارهم.
والله تعالى أعلم.
(١) مِنْ الآية ٦ من سورة الزمر.
(٢) من الآية ٢٥ من سورة الحديد.
ثم حذّرهم من الشيطان، وأعلمهم بسابق عداوته، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٧]
يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (٢٧)
يقول الحق جلّ جلاله: يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ بأن يشغلكم عما يقربكم إلى الله، ويحملكم على ما يمنعكم من دخول جنته، كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ بسبب غروره، والنهي، في اللفظ، للشيطان، والمراد: نهيهم عن اتباعه. حال كون أبويكم يَنْزِعُ الشيطان عَنْهُما لِباسَهُما بسبب غروره لهما، وإسناد النزع إليه: مجاز للسببية لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ، وهو تعليل للنهي، وتحذير من فتنته، وقَبِيلُهُ: جنوده. ورؤيتهم إيانا من حيث لا نراهم في الجملة لا يقتصي امتناع رؤيتهم وتمثلهم لنا، وقد جاءت في رؤيتهم أحاديث صحيحة فتحمل الآية على الأكثر والغالب. قال تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بما أوجدنا بينهم من التناسب، أو بإرسالهم عليهم، وتمكينهم من خذلانهم، وحملهم على ما سولوا لهم، والآية هي مقصود القصة وفذلكة الحكاية. قاله البيضاوي.
الإشارة: الحكمة في خلق الشيطان هي كونه منديلاً تمسح فيه أوساخ الأقدار، وكونه يحوش أولياء الله إلى الله، كلما نخسهم بنزعه فزعوا إلى مولاهم، فلا يزال بهم كذلك حتى يوصلهم إلى حضرته، فحينئذٍ ينقاد إليهم، ويخدمهم بأولاده. وفي الحِكَم: «إذا علمت أن الشيطان لا يغفل عنك، فلا تغفل أنت عمن ناصيتك بيده».
قال محمد بن واسع: تمثل لى الشيطان في طريق المسجد، فقال لي: يا ابن واسع، كلما أردتك وجدت بيني وبينك حجابًا، فما ذاك؟ قال: أقرأُ، كلما أصبحتُ: اللهم إنك سلطت علينا عدوًا من أعدائنا، بصيرًا بعيوبنا، مطلعًا على عوراتنا، يرانا هو وقبيله من حيث لانراهم، اللهم آيسه منا كما آيسته من رحمتك، وقنطه منا كما قنطته من عفوك، وباعد بيننا وبينه كما باعدت بين المشرق والمغرب- وفي رواية: كما باعدت بينه وبين جنتك- إِنك على كل شيءٍ قدير. هـ.
ثم ذكر مساوئ أولياء الشيطان، فقال:

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٨ الى ٣٠]

وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٢٨) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (٣٠)
يقول الحق جلّ جلاله، في وصف المشركين: وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أي: فعلة متناهية في القبح كعبادة الصنم، وكشف العورة في الطواف، احتجوا بفعل آبائهم فقالوا: وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها فاعتذروا بعذرين باطلين: أحدهما: تقليد آبائهم، والآخر: افتراؤهم على الله، فأعرض عن الأول لظهور فساده، ورد الثاني بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأن الله تعالى جرت عادته على الأمر بمحاسن الأفعال ومكارم الخلال. ولا حجة فيه للمعتزلة. انظر البيضاوي.
والآية كأنها جواب سؤالين مترتبين كأنه قيل لهم: لِمَ فعلتم هذه الفواحش؟ قالوا: وجدنا عليها آباءنا، فقيل:
ومن أين أخذها آباؤكم؟ قالوا: الله أمرنا بها، فكذبهم الله بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ، أي: أتتقولون على الله ما لا علم لكم به إنكار يتضمن النهي عن الافتراء على الله.
قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ أي: العدل، وهو الوسط من كل أمر، المتجافي عن طرفي الإفراط والتفريط، وأمر بأن قال: وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي: افعلوا الصلاة في كل مكان يمكن فيه السجود إذا حضرتكم، ولا تؤخروها حتى تعودوا إلى مساجدكم. والمعنى: إباحة الصلاة في كل موضع، فهو كقوله صلّى الله عليه وسلّم:
«جُعِلَت لِيَ الأرضُ مَسجدًا وَطَهورًا». وقيل: المراد إحضار النية والإخلاص لله في كل صلاة بدليل قوله:
وَادْعُوهُ أي: اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة، فلا تعبدوا معه غيره، فإنكم راجعون إليه، كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ فيجازيكم على أعمالكم، فاحتج على البعث الأخروي بالبدأة الأولى لاشتراكهما في تعلق القدرة بهما، بل العود أسهل باعتبار العادة، وقيل: كما بدأكم من التراب، تعودون إليه، وقيل: كما بدأكم حفاة عراة غرلاً، تعودون، وقيل: كما بدأكم مؤمنًا وكافرًا، يُعيدكم. قاله البيضاوي.
فَرِيقاً هَدى بأن وفقهم للإيمان، وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ بمقتضى القضاء السابق، أي: خذل فريقًا حق عليهم الضلالة، إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ يطيعونهم فيما يأمرونهم به، مِنْ دُونِ اللَّهِ،
وهذا تعليل لخذلانهم وتحقيق لضلالتهم، وَيَحْسَبُونَ أي: يظنون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ فهم على جهل مركب، وفيه دليل على أنَّ الكافر المخطئ والمعاند: سواء في الذم واستحقاق العذاب إذ لا يعذر بالخطأ في أمر التوحيد.
الإشارة: تقليد الآباء في المساوىء من أقبح المساوىء، واحتجاج العبد بتخليته مع هواه هو ممن اتخذ إلهه هواه، إن الله لا يأمر بالفحشاء، فإذا قال العبد- في حال انهماكه: هكذا أحبني ربي، فهو خطأ في الاحتجاج بل يجاهد نفسه في الإقلاع، ويتضرع إلى مولاه في التوفيق فإن الحق تعالى إنما يأمر بالعدل والإحسان، ودوام الطاعة والإذعان، والخضوع لله في كل زمان ومكان، والتحقق بالإخلاص في كل أوان، وإفراد المحبة والولاية للكريم المنان. وبالله التوفيق.
ثم أمرهم بستر العورة فى الصلاة والطواف، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣١]
يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (٣١)
يقول الحق جلّ جلاله: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي: ثيابكم التي تستر عورتكم، عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لطواف أو صلاة، واحتج به من أوجب ستر العورة في الصلاة، ومن السًّنة أن يأخذ الرجل أحسن ثيابه للصلاة، وقيل: المراد بالزينة: زيادة على الستر، كالتجمل للجمعة بأحسن الثياب وبالسواك والطيب، وَكُلُوا وَاشْرَبُوا أمر إباحة لِمَا رُوِي أن بني عامر، في أيام الحج، كانوا لا يأكلون من الطعام إلا قوتًا، ولا يأكلون دسمًا يعظمون بذلك حجهم، وهَمَّ المسلمون بذلك، فنزلت.
وَلا تُسْرِفُوا بتحريم الحلال، أو بالتقدم إلى الحرام، أو بإفراط الطعام والشره إليه، وقد عَدَّ في الإحياء من المهلكات: شره الطعام، وشره الوقاع، أي: الجماع. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم. وعن ابن عباس رضى الله عنه: (كل ما شئت، والبس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سَرفٌ ومخيلة) «١» أي: تكبر. وقال علي بن الحسين بن واقد: جمع الله الطب في نصف آية فقال: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا.
الإشارة: إنما أمر الحق- جل جلاله- بالتزين للصلاة والطواف لأن فيهما الوقوف بين يدي ملك الملوك، وقد جرت عادة الناس في ملاقاة الملوك: التهيؤ لذلك بما يقدرون عليه من حسن الهيئة لأن ذلك زيادة تعظيم
(١) أخرجه ابن أبى شبية فى المصنف (الأدب واللباس) موقوفا على ابن عباس رضى الله عنه. وأخرجه مرفوعا النسائي فى (الزكاة، باب الاختيال فى الصدقة) وابن ماجه فى (اللباس، باب البس ما شئت ما أخطأك سرف أو مخيلة) وأحمد فى المسند ٢/ ١٨١ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا ما لم يخالطه إسراف أو مخيلة».
للملك، وتزيين البواطن بالمحبة والوداد أحسن من تزيين الظواهر وخراب البواطن «إنَّ اللهَ لا يَنظُرُ إلَى صُوَرِكُم ولاَ إلى أموَالِكُم، وإنَّمَا يَنظُرُ إلَى قُلوبِكُم وأعمَالِكُم» «١». وملاقاة الملك بالذل والانكسار أحسن من ملاقاته بالتكبر والاستظهار. والله تعالى أعلم.
ولما تعاهدت قريش، ومن دان دينها، أنهم لا يأكلون أيام الحج دسما ولا سمنا ولا أقطا ولا طعاما جاء من الحل، ردّ الله عليهم بقوله:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٢ الى ٣٤]
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣٢) قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٣) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (٣٤)
قلت: من قرأ: (خالصة) بالرفع، فخبر بعد خبر، أو خبر عن مضمر، ومن قرأ بالنصب، فحال.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم: مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ وهي ما يتجمل به من الثياب وغيرها، الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن والكتان، أو الحيوان كالحرير والصوف والوبر، والمعادن كالدروع والحلي، وَقل أيضًا: من حرم الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ أي: المستلذات من المآكل والمشارب، ويدخل فيها المناكح إذ هي من أعظم الطيبات. وفيه دليل على أنَّ الأصل في المطاعم والملابس وأنواع التجملات: الإباحة لان الاستفهام للإنكار، وبه رد مالك- رحمه الله- على من أنكر عليه من الصوفية، وقال له: اتق الله يا مالك بلغني أنك تلبس الرقيق، وتأكل الرقاق، فكتب إليه بالآية.
قال تعالى: قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، ويشاركهم فيها الكفار، ويوم القيامة تكون خالِصَةً لهم دون غيرهم. كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ أي: كتفصيلنا هذا الحكم نُفصل سائر الأحكام لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فينزلونها في محلها بخلاف الجهال.
(١) أخرجه مسلم فى (البر والصلة، باب تحريم ظلم المسلم وخذله واحتقاره) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
211
قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ وهي ما تزايد قبحها من المعاصي، وقيل: ما يتعلق بالفروج، ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ أي: جهرها وسرها، أو ما يتعلق بالجوارح الظاهرة والعوالم الباطنية وهي القلوب، وَالْإِثْمَ كقطع الرحم، أو عام في كل ذنب، وَالْبَغْيَ وهو الظلم كقطع الطريق والغصب، وغير ذلك من ظلم العباد، أو التكبر على عباد الله وقوله: بِغَيْرِ الْحَقِّ: تأكيد له في المعنى. وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: حجة على استحقاق العبادة، وهو تهكم بالمشركين، وتنبيهٌ على تحريم ما لم يدل عليه برهان.
وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من الإلحاد في صفاته، والافتراء عليه كقولهم: اللَّهُ أَمَرَنا «١»، ولَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «٢».
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ أي: مدة ووقت لنزول العذاب بها إن لم يؤمنوا، وهو تهديد لأهل مكة، فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ أي: انقرضت مدتهم، أو دنى وقت هلاكهم، لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً عنه وَلا يَسْتَقْدِمُونَ أي: لا يتأخرون ولا يتقدمون عنه أقصَر وقت، أو لا يطيقون التقدم والتأخر لشدة الهول، وجعل بعضهم:
(ولا يستقدمون) استئنافًا لأن الأجل إِذا جاء لا يتصور التقدم، وحينئذٍ يوقف على: ساعَةً، ثم يقول: ولا هم يستقدمون عنه قبل وصوله.
الإشارة: قال شيخنا البوزيدى رضى الله عنه: زينة الله التي أظهر لعباده هي لباس المعرفة، وهو نور التجلي، والطيبات من الرزق هي حلاوة الشهود. هـ. وهي لمن كمل إيمانه وصِدقه في الحياة الدنيا، وتصفو له إلى يوم القيامة، فهي حلال على أهل التجريد يتمتعون بها في الدارين، وإنما حرّم عليهم ما يشغلهم عن ربهم من جهة الظاهر، وما يقطعهم عن شهوده من جهة الباطن، وسوء الأدب مع الله، والتعرض لعباد الله، والشرك بالله بأن يشهدوا معه سواه، وأن يقولوا على الله ما يوهم نقصًا أو خللاً في أنوار جماله وسناه. والله تعالى أعلم.
ثم إن العباد والزهاد وأهل البداية من المريدين السائرين- ينبغي لهم أن يزهدوا في زينة الدنيا وطيباتها لئلا تركن إليها نفوسهم، فيثبط سيرهم، وأما الواصلون فهم مع الله، لا مع شيء سواه، يأخذون من الله بالله، ويدفعون بالله، وقد اتسعت دائرة علمهم، فليسوا مع لباس ولا أكل ولا شرب ولا جوع ولا شبع، هم مع ما يبرز في الوقت من المقدورات. والله تعالى أعلم.
(١) من الآية ٢٨ من سورة الأعراف.
(٢) من الآية ١٤٨ من سورة الأنعام.
212
ثم وصاهم على الإيمان بالرسل، عند ظهورهم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٥ الى ٣٦]
يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٥) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٦)
قلت: (إما) : شرط مؤكد بما ذكره بحرف الشك للتنبيه على أن إتيان الرسل جائز، غير واجب، كما ظنه المعتزلة، وجوابه: (فمن اتقى..) الخ، وإدخال الفاء في الجواب الأول دون الثاني للمبالغة في الوعد والمسامحة في الوعيد. قاله البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: يا بَنِي آدَمَ مهما يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي الدالة على توحيدي ومعرفتي، فَمَنِ اتَّقى الشرك والتكذيب، وَأَصْلَحَ فيما بيني وبينه، منكم، بالعمل الصالح، فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ، فمِن كمال الإيمان: أن يقدر الإنسان نفسه أن لو كان في زمان كل رسول، لكان أول من تبعه، ولكان من خواص أصحابه، هكذا يسير بعقله مع كل رسول من زمان آدم عليه السلام إلى مبعث رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: قد جعل الله لكل نبي خلفاء يخلفونه في تبليغ أحكامه الظاهرة والباطنة، وهم العلماء الأتقياء، والأولياء العارفون الأصفياء، فمن أراد أن يكون ممن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، فليتبع علماء أهل زمانه في الشريعة، وأولياء أهل عصره في تربية الحقيقة. وبالله التوفيق.
ثم ذكر وعيد من استكبر، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٣٧]
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (٣٧)
يقول الحق جلّ جلاله: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن نسب إليه الولد والشريك، أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ التي جاءت بها الرسل من عنده، أي: لا أحد أظلم منه، أو: تَقوَّل على الله ما لم يقله، وكذب بما
قاله، أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ أي: يلحقهم نصيبهم مما كتب في اللوح المحفوظ من الأرزاق والآجال، حَتَّى إِذا انقضت أعمارهم وجاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ أي: يتوفون أرواحهم، قالُوا لهم توبيخًا: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: أين الآلهة التي كنتم تعبدونها من دون الله لتدفع عنكم العذاب؟ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عنا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ، اعترفوا بأنهم كانوا ضالين فيما كانوا عليه، وندموا حيث لم ينفع الندم، وقد زلَّت بهم القدم.
الإشارة: كل مَن أعرض عن خصوص أهل زمانه، واشتغل بمتابعة حظوظه وهواه، ينال نصيبه من الدنيا الفانية وما قُسِم له فيها فإذا جاءت منيته ندم وتحسر، وقيل له: أين ما تمتعت به وشغلك عن مولاك؟ فيقول: قد غاب ذلك وفنى وانقضى، وكأنما كان برقًا سَرَى، أو طَيفَ كَرَى، والدهر كله هكذا لمن سدد نظرًا، وعند الصباح يحمد القوم السُّرَى، وستعلم، إذا انجلى الغبار، أفرس تحتك أم حمار.
وقد قال صلّى الله عليه وسلّم في بعض خطبه: «لا تخدعنكم زخارف دنيا دنية، عن مراتب جنات عالية فكأنْ قد كشف القناع، وارتفع الارتياب، ولا قى كل امرئ مستقره، وعرف مثواه ومُنَقَلَبه». وفي حديث آخر: «مَن بدأ بَنَصِيبه من الدنيا فَاتَه نصيبُه من الآخرة، ولم يُدرك منها ما يريد، ومَن بدأ بنصيبه من الآخرة، وصل إليه نصيبه من الدنيا، وأدرك من الآخرة ما يريد».
ثم ذكر عذاب أهل التكذيب، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٣٨ الى ٣٩]
قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (٣٨) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (٣٩)
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ الله تعالى أي: يوم القيامة للكفارٍ، بواسطة ملك، أو بغيرها: ادْخُلُوا فِي جملة أُمَمٍ كانوا من قبلكم مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ متفقين معكم في الكفر والضلال، فادخلوا مصاحبين معهم فِي النَّارِ. قال تعالى، مخبرًا عن حالهم: كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ منهم في النار لَعَنَتْ أُخْتَها التي ضلت
بالاقتداء بها، حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا أي: تداركوا وتلاحقوا، فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ دخولاً أو منزلة، وهم الأتباع السفلة، لِأُولاهُمْ وهم المتبوعون الرؤساء- أي: قالت لأجلهم لأن الخطاب مع الله لا معهم، قالوا:
رَبَّنا هؤُلاءِ الرؤساء أَضَلُّونا حيث سنُّوا لنا الضلال فاقتدينا بهم، فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً أي: مضاعفاً مِنَ النَّارِ لأنهم ضلوا وأضلوا. قالَ تعالى: لِكُلٍّ واحد منكم ضِعْفٌ أي: عذابًا مضعفًا، أما القادة فلكفرهم وتضليلهم، وأما الأتباع فلكفرهم وتقليدهم، وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم، أو ما لكل فريق منكم.
وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ أي: المتبوعون للأتباع: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ في الإيمان والتقوى تُوجب أن يكون عذابنا أشد من عذابكم، حتى يتضاعف علينا العذاب دونكم فإنا وإياكم متساوون في الضلال واستحقاق العذاب، فَذُوقُوا أي: باشروا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ هو من قول القادة، أو من قول الله- تعالى- لجميعهم.
الإشارة: إذا قامت القيامة تحققت الحقائق، وتميزت الطرائق، للخاص والعام، فيرتفع المقربون في أعلى عليين، ويبقى أهل اليمين في أسفل منازل أهل الجنة مع عوام المسلمين، فيتعلق عوامهم بخواصهم، فيقولون لهم:
أنتم رددتمونا عن صحبة هؤلاء، وأنتم خذلتمونا عنهم، ثم يقولون: ربنا هؤلاء أضلونا عن صحبة هؤلاء المقربين، فآتهم حجابًا ضعفًا مما لنا، قال: لكل ضِعف من الحجاب، هم بتضليلهم لكم عن صحبتهم، وأنتم بتقليدكم لهم، ولكن لا تعلمون ما أعددت للمقربين حين صبروا على جفاكم، وتحملوا مشاق طاعتي ومعرفتي لأن كل آية في الكفار تجر ذيلها على أهل الغفلة من المؤمنين. والله تعالى أعلم.
ثم حرّم على الكفار دخول الجنة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٠ الى ٤١]
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (٤٠) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٤١)
قلت: (سَمّ الخياط) : عين الإبره، وفي السين: الفتح والكسر والضم، والخياط: ما يخاط به، على وزن حِزام، والتنوين في (غواشٍ) : للعوض عن الياء، عند سيبويه، وللصرف عند غيره.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عن: الإيمان بها، لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ لأدعيتهم وأعمالهم فلا تقبل، أو: لا تفتح لأرواحهم إذا ماتوا، بل تغلق دونها إذا وصلت بها
الملائكة إليها، فيطرحونها فتسقط من السماء، بخلاف أرواح المؤمنين تُفتح لهم أبواب السماء حتى يفضوا إلى سدرَة المنتهى. وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ أي: يدخل، الْجَمَلُ وهو البعير فِي سَمِّ الْخِياطِ أي:
في ثقب الإبرة، والمعنى: لا يدخلون الجنة حتى يكون ما لا يكون أبداً، فلا يدخلون الجنة أبدًا، وقرأ ابن عباس (الجُمل) بضم الجيم وسكون الميم، وهو حبل السفينة، الذي جُمِعَ بعضُه إلى بعض حتى صار أغلظ ما يكون.
ثم قال تعالى: وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ أي: مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين، لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ أي: فراش، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أي: أغطية من النار. وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبَّر عنهم بالمجرمين تارة، وبالظالمين أخرى إشعارًا بأنهم بتكذيبهم الآيات، اتصفوا بالجرم والظلم، وذكر مع الحرمان من الجنة: الجرم، ومع التعذيب بالنار: الظلم تنبيهًا على أن الظلم أعظم الإجرام.
الإشارة: أهل التربية النبوية من الشيوخ العارفين: آية من آيات الله، من كَذَّب بهم، واستكبر عن الخضوع لهم، لا تفتح لفكرته أبواب السماء، بل يبقى مسجونًا بمحيطاته، محصورًا في هيكل ذاته، ولا يدخل جنة المعارف أبدًا، بل يحيط به الحجاب من فوقه ومن أسفله، فتنحصر روحه في الأكوان، ولم تفض إلى فضاء الشهود والعيان.
وفي الحِكَم: «الكائن في الكون، ولم تفتح له ميادين الغيوب، مسجون بمحيطاته، محصور في هيكل ذاته».
وقال أيضًا: «وسعك الكون من حيث جثمانيتك، ولم يَسعَك من حيث ثبوتُ روحانيِتك»، فكل من لم تثبت له الروحانية: فهو محصور في الكون، وكل من ثبتت له الروحانية بأن استولى معناه على حسه، لم يسعه الكون، ولم يحصره عرش ولا فرش، وكذلك الصوفي لا تظله السماء ولا تقله الأرض، أي: لا يحصره الكون من حيث فكرتُهُ. والله تعالى أعلم.
ثم شفع بضدهم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٢ الى ٤٣]
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٤٢) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٤٣)
216
قلت: جملة (لا نُكلف) : معترضة بين المبتدأ والخبر للترغيب في اكتساب النعيم المقيم، بما تسعه طاقتهم، ويسهل عليهم، و (ما كنا لنهتدي) : اللام لتأكيد النفي، وجواب «لولا» : محذوف، أي: لولا هدايته إيانا ما اهتدينا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ آمَنُوا بالرسل، وَعَمِلُوا الأعمال الصَّالِحاتِ على قدر طاقتهم، لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أي: ما تسعه طاقتها، فمن فعل ذلك ف أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ أي: نُخرج مِن قلوبهم كل غل وعدواة، ونطهرها منه، حتى لا يكون بينهم إلا التودد، فيصيرون أحبابا وإخوانا، وإنما عبَّر بالماضي لتحقق وقوعه، كأنه وقع ومضى، وكذلك ما يجيء بعدها، ثم وصف الجنة فقال: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ أي: من تحت قصورهم، الْأَنْهارُ من عسل وخمر وماء ولبن زيادة في لذتهم وسرورهم، فالقصور مرتفعة في الهواء، والأنهار تجري تحتها.
وَقالُوا حينئذٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا أي: لما جزاؤه هذا النعيم من الإيمان في الدنيا والعمل الصالح، وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ بأنفسنا لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ بتوفيقه وإرادته، لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فاهتدينا بإرشادهم، يقولون ذلك اغتباطًا وتبجحًا بأن ما عملوه في الدنيا يقينًا، صار لهم عين اليقين في الآخرة، وَنُودُوا أي: نادتهم الملائكة، أو الحق تعالى: أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أي: هذه الجنة أُورِثْتُمُوها أي:
أُعطِيتموها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: بسبب أعمالكم، وهذا باعتبار الشريعة، وأما باعتبار الحقيقة فكل شيء منه وإليه. ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم: «لَن يُدخِلَ الجنَّةَ أحدَكم عَمُلهُ، قالوا: ولا أَنْتَ، قَالَ: ولا أَنَا، إِلاَّ أنْ يتغمدني الله برحمته» «١».
فالشريعة تنسب العمل للعبد، والحقيقة تعزله عنه، وقد آذنت بها الآية قبله بقوله: وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ، فقد نطقوا بما تحققوا به يوم القيامة.
وقال القشيري: إنما قال: أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ تسكينًا لقلوبهم، وتطييبًا لهم، وَإلاَّ، فإذا رأوا تلك الدرجات، علموا أن أعمالهم المشوبة لم تبلغ تلك الدرجات. هـ. وعن ابن مسعود أنه قال: (يجوزون الصراط بعفو الله، ويدخلون الجنة برحمة الله، ويقتسمون المنازل بأعمالهم). هـ.
الإشارة: والذين آمنوا بطريق الخصوص، وعملوا الأعمال التي تناسبها، من خرق العوائد واكتساب الفوائد، والتخلية من الرذائل والتحلية بأنواع الفضائل على حسب الطاقة أولئك أصحاب جنة المعارف، هم فيها خالدون في الدنيا والآخرة، قد نزع الله من قلوبهم المساوىء والأكدار، وطَهَّرها من جملة الأغيار، حتى صاروا إخوانًا متحابين لا لَغوَ بينهم ولا تأثيم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، وتفتح لهم مخازن الفهوم، فإذا تمكنوا من
(١) أخرجه البخاري فى (الرقاق، باب القصد والمداومة على العمل) من حديث السيدة عائشة- رضى الله عنها.
217
هذه الحضرة (قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله)، تحققوا أنهم محمولون بسابق العناية، محفوفون بعين الرعاية، فتحققوا بما جاءت به الرسل من عند الله، وما نالوه على يد أولياء الله من الذوق والوجدان، وكشف الغطاء عن عين العيان، منحنا الله من ذلك حظا وافرا، بمنِّه وكرمه.
ثم ذكر تبجح أهل الجنة على أهل النار، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٤ الى ٤٧]
وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (٤٤) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (٤٥) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (٤٦) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٤٧)
قلت: (أن) : في هذه المواضع: مخففة من الثقيلة، أو: تفسيرية، وحذف مفعول: (وعد) الثاني استغناء بمفعول وعد الأول، أو لإطلاق الوعد، فيتناول الثواب والعقاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا من النعيم حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ أنتم ما وَعَدَ رَبُّكُمْ من البعث والحساب حَقًّا، إنما قال أهل الجنة ذلك تبجحًا بحالهم، وشماتة بأصحاب النار، وتحسيرًا لهم، فأجابهم أهل النار بقولهم: نَعَمْ، قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقًا، فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ بين الفريقين: أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ الكافرين، الَّذِينَ يَصُدُّونَ الناس عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وهي الإسلام، وَيَبْغُونَها أي: يطلبون لها عِوَجاً زيغًا وميلاً عما هو عليه من الاستقامة، أو يطلبونها أن تكون ذات عوج، وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ أي: جاحدون.
وَبَيْنَهُما أي: بين الفريقين حِجابٌ، أو بين الجنة والنار حجاب، يمنع دخول أثر أحدهما للأخرى، وَعَلَى الْأَعْرافِ وهو السور المضروب بين الجنة والنار، رِجالٌ طائفة من الموحدين استوت حسناتهم وسيئاتهم، كما في الحديث. وقال في الإحياء: يشبه أن يكونوا مَن لم تبلغهم الدعوة في أطراف البلاد، فلم تكن لهم معرفة ولا جحود ولا طاعة ولا معصية، فلا وسيلة تقربهم، ولا جناية تبعدهم، ولهم السلامة فقط، لا تقريب ولا تبعيد. هـ. قلت: لكن سيأتي أنهم يدخلون الجنة.
ثم وصفهم بقوله: يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنة والنار، بِسِيماهُمْ: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها كبياض الوجوه فى أهل الجنة، وسوادها في أهل النار، أو غير ذلك من العلامات. وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ، إذا نظروا إليهم، فقالوا لهم: أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ، أي: نادوهم بالسلام عليهم، لَمْ يَدْخُلُوها أي: الجنة، وَهُمْ يَطْمَعُونَ في دخولها.
وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ أي: التفتوا إليهم على وجه القلة، تعوذوا من حالهم، قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ في النار.
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير نادوا أهلَ البطالة والتقصير، فقالوا لهم: قد وجدنا ما وعدنا ربنا من كشف الحجاب والدخول مع الأحباب، حقًا، فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا كما وجدنا نحن؟ قالوا على وجه الدعوى والغلط: نعم، فأذن مؤذن بينهم، بلسان الحال: أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظالمين الذين بقوا مع حظوظ أنفسهم، ولم يخرقوا شيئًا من عوائدهم، مع تراميهم على مراتب الرجال، وادعائهم بلوغ غاية الكمال، الذين يصدون عن طريق الخصوص ويبغونها عوجًا، وهم بالخصلة الآخرة- وهي إشراق نور الحقيقة على أهل التربية- هم كافرون، وبينهما حجاب كبير، وهو حجاب الغفلة، فلا يعرفون أهل اليقظة، وهم أهل مقام الإحسان، بل بينهما مفاوز ومهَامِه «١»، كما قال الشاعر:
تَرَكنَا البُحور الزَّخراتِ ورَاءنا فَمِنْ أَينَ يَدْرِِي الناس أينَ توجَّهنَا
وعلى الأعراف وهو البرزخ الذي بين الحقيقة والشريعة، رجال من أهل الاستشراف، يعرفون كلاًّ من العوام والخواص بسيماهم، ونادوا أصحاب الجنة أي: الواصلين إلى جنة المعارف: أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون، لأنهم في حالة السير، وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار، أي: نار الحجاب والتعب، وهم العوام، قالوا: ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
ثم ذكر شماتة أهل الأعراف بأهل النار، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٤٨ الى ٤٩]
وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (٤٨) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (٤٩)
(١) المهامة: جمع مهمه: وهي المفازة البعيدة. انظر اللسان (مهه).
قلت: (ما أغنى) : استفهامية أو نافية، و (ما كنتم) : مصدرية، و (ادخلوا) : محكي بقول محذوف، أي: قيل لهم ادخلوا... الخ.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالًا من رؤساء الكفرة، يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلامة فيهم من سوء حالهم، قالُوا لهم: ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ أي: كثرتكم، أو جمعكم للمال، شيئًا أو أيّ شيء أغنى عنكم جمعكم، وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ؟ أي: واستكباركم؟ أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ وهم ضعفاء المسلمين الذين كانت الكفرة تستحقرهم في الدنيا، ويحلفون أن الله لا يدخلهم الجنة، قد قيل لهم: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ. أو تقول الملائكة لأهل الأعراف: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ، بعد أن حُبسوا على الأعراف حتى أبصروا الفريقين وعرفوهم، وقالوا لهم ما قالوا، تفضل الله عليهم، فقيل لهم: ادخلوا الجنة.
وقيل: لما عيَّر أصحابُ الأعراف أهل النار، أقسموا- أي: أهل النار- أن أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنة، فقال لهم الله تعالى: أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ، ادْخُلُوا يا أهل الأعراف الْجَنَّةَ. والله تعالى أعلم.
الإشارة: أصحاب الأعراف: قوم من الصالحين حصل لهم محبة القوم، ليسوا من عوام أهل اليمين ولا من خواص المقربين، فإذا نظروا إلى أهل الطعن على الفقراء المتوجهين، والترفع عليهم، قالوا لهم: ما أغنى عنكم جمعكم واستكباركم، أهؤلاء الذين كنتم تطعنون عليهم، وأقسمتم أنهم ليسوا على شيء؟ قد قيل لهم: ادخلوا جنة المعارف لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، وأنتم حصل لكم الخيبة، والحرمان، والأسر في أيدي النفوس، والحصر في سجن الأكوان. عائذاً بالله من ذلك.
ثم ذكر استغاثة أهل النار بأهل الجنة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٠ الى ٥٣]
وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (٥٠) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (٥١) وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥٢) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٥٣)
220
قلت: (هدى ورحمة) : حال من مفعول (فصَّلناه)، (فيشفعوا) : جواب الاستفهام، (أو نُرد) بالنصب: عطف عليه، وبالرفع: استئناف، فعلى الأول: المسئول أحد الأمرين إما الشفاعة أو الرد، وعلى الثاني: المسئول الشفاعة فقط.
يقول الحق جلّ جلاله: وَنادى، يوم القيامة، أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا أي:
صبوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ، وفيه دليل على أنَّ الجنة فوق النار، أو: صبوا علينا مما رزقكم الله من سائر الأشربة، ليلائم قوله أَفِيضُوا، أو: من الطعام على حذف الفعل، أي: أو أعطونا مما رزقكم الله، قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ، أي: منعهما عنهم، الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً كتحريم البحائر والسوائب، والتصدية حول البيت، والطواف به عريانًا، وغير ذلك مما أحدثوه، واللهو: صرف القلب إلى ما لا يحصل به نفع أخروي. واللعب: طلب الفرح بما لا يحسن أن يطلب به لخلوه عن منفعة دينية، وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بأن أنستهم القيامةَ، فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا، والكاف: للتعليل، أي: ننساهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم هذا، فلم يخطروه ببالهم، ولم يستعدوا له، وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ أي: نُهملهم لأجل إهمالهم الاستعداد للقاء، وإهمالهم آياتنا حتى جحدوا أنها من عند الله.
وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ أي: بيَّنا معانيه من العقائد والأحكام والمواعظ، مفصلةً عَلى عِلْمٍ، أي: عالِمين بوجه تفصيله حتى جاء في غاية الإتقان، هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهدايته ورحمته دون غيرهم.
هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظر الكفار به إِلَّا تَأْوِيلَهُ، أي: ما يئول إليه أمره من تبين صدقه، بظهور ما نطق به من الوعد والوعيد، بقيام الساعة وما بعدها، يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ بظهور ما نطق به، يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ، ولم يؤمنوا به: قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ أي: قد تبين أنهم جاءوا بالحق، وحصل لهم اليقين حيث لم ينفع، ثم طلبوا من يشفع فيهم فقالوا: فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم، أَوْ نُرَدُّ أي:
وهل نرد إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ فنستبدل الكفر بالإيمان، والعصيان بالطاعة والإذعان، أو:
فيشفعوا لنا في أحد الأمرين: إما السلامة من العذاب، أو الرد إلى الدنيا فنستبدل الكفر بالإيمان. قال تعالى:
قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ أي: بخسوها بسوء أعمالهم وكفرهم، وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ أي: غاب عنهم افتراؤهم فلم ينفعهم.
221
الإشارة: إذا وصل أهل الجد والتشمير إلى حضرة العلي الكبير، وأفاض عليهم من ماء غيبه، حتى امتلأت قلوبهم وأسرارهم، فأثمر لهم العلوم اللدنية والأسرار الربانية ناداهم أهل البطالة والتقصير: أفيضوا علينا من الماء الذي سقاكم الله منه، أو مما رزقكم من العلوم والمعارف. قالوا: إن الله حرمهما على البطالين الذين اتخذوا طريق القوم لهوًا ولعبًا، وغرتهم الحياة الدنيا فقبضتهم في شبكتها، فيقول تعالى: فاليوم ننساهم من لذيذ مشاهدتي، وحلاوة معرفتي، كما نسوا لقائي بشهود ذاتي، وأنكروا على أوليائي وأهل معرفتي، وجحدوا وجود التربية وحجروا على قدرتي، ولقد جئناهم بكتاب فصّلنا فيه كل شيء فقلنا فيه: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها «١» إلى يوم القيامة، هل ينظرون إلا تأويله؟ يوم يأتي تأويله بظهور درجات المقربين، في أعلى عليين، حينئذٍ يحصل لهم اليقين بوجود المقربين، أو بالتربية النبوية في كل زمان وحين، فيطلب الشفاعة في اللحوق بهم، أو يرد إلى العمل بعملهم.. هيهات! قد بُعثر ما في القبور، وحُصّل ما في الصدور، فخسر المبطلون، وفاز المجتهدون السابقون. جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه.
ثم عرّف الحق- جل جلاله- بنفسه ليعرفه من أراد معرفته فى الدنيا، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٤ الى ٥٦]
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٥٤) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (٥٥) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦)
قلت: (حثيثًا) أي: سريعًا صفة لمصدر محذوف، أي: طلبّا حثيثا، أو حال من الفاعل، أي: حاثًا، و (مسخراتٍ) حال فيمن نصب، وخبر فيمن رفع، و (تضرعًا وخفية) : مصدران، حالان من الواو، وكذلك (خوفًا وطمعًا).
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ رَبَّكُمُ الذي يستحق أن تعبدوه، هو اللَّهُ وحده الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي: أظهرهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: مقدار ستة أيام من أيام الدنيا إذ لم يكن ثَمَّ شمس، ولو شاء خلقهن في لمحة، والعدول إليه لتعليم خلقه التأنى والتثبت.
(١) من الآية ١٠٦ من سورة البقرة.
222
ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استواء يليق به، والعرش: جسم عظيم محيط بالأكوان. سمي به لارتفاعه، وللتشبيه بسرير الملك، فالأكوان في جوفه ممحوقة فقد استولى عليها ومحقها، كذلك أسرار معاني الربوبية الأزلية قد استولت عليه ومحقته، فيمكن أن يكون الحق تعالى عبَّر بالاستواء عن هذا الاستيلاء، وسيأتي في الإشارة تمامه إن شاء الله.
وقال القشيري: ثم استوى على العرش، أي: تَوَحَّدَ بجلال الكبرياء بوصف الملكوت، وملوكنا إذا أرادوا التجلِّي والظهور للحَشَم والرعية برزوا لهم على سرير مُلكِهم في إيوان مشاهدتهم. فأخبر الحقُّ- سبحانه وتعالى- بما يَقرُب من فَهم الخلقِ، بما ألقى إليهم من هذه الكلمات، بأنه استوى على العرش، ومعناه: اتصافه بعز الصمدية وجلال الأحدية، وانفراده بنعت الجبروت وجلاء الربوبية، وتقدَّس الجبَّارُ عن الأقطار، والمعبودُ عن الحدود. هـ.
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ أي: يُغطي نور النهار بظلمةِ الليل، يَطْلُبُهُ حَثِيثاً أي: يعقبه سريعًا كالطالب له، لا يفصل بينهما شىء، وَخلق الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أي: بقضائه وتصريفه، ومن عجائب تسخيرها أن جعلها مقرونة بأمور غيبية، دالة على ظهور شيء منها.
والنهي عن النظر في النجوم أو تصديق المنجمين إنما هو لمن اعتقد التأثير لها مستقلة بنفسها، أو تصديقهم في تفصيل ما يخبرون به لأنهم إنما يقولون ذلك عن ظن وتخمين وجهل، فإنَّ عِلم النجوم كان معجزة لبعض الأنبياء، ثم اندرس ذلك العلم، فلم يبق إلا ما هو مختلط، لا يتميز فيه الصواب من الخطأ، فاعتقاد كون الكواكب أسبابًا لآثار يخلق الله- تعالى- بها في الأرض، وفي النبات والحيوان شيئًا، يعني في الجملة ليس قادحًا في الدين، بل هو الحق، ولكن دعوى العلم بتلك الآثار على التفصيل مع الجهل: قادح في الدين، فالكواكب ما خلقت عبثًا، ولهذا نظر عليه الصلاة والسلام إلى السماء، وقرأ قوله تعالى: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هذا باطِلًا... الآية «١».
انظر: الإحياء للغزالي.
ثم قال تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ أي: الإيجاد والتصرف بالأمر والنهي، تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ أي: تعاظم في ألوهيته، وتعالى في ربوبيته، وتفرد في وحدانيته.
قال البيضاوي: (وتحقيق الآية- والله أعلم- أن الكفرة كانوا متخذين أربابًا، فبيَّن لهم أن المستحق للربوبية واحد- وهو الله تعالى لأنه الذي له الخلق والأمر، فإنه تعالى خلق العالَم على ترتيب قويم، وتدبير حكيم فأبدع الأفلاك العلوية، والأجرام السفلية، ثم بعد تمام خلق عالَم الملك أخذ في تدبيره كالملِكِ الجالس على عرشه
(١) الآية ١٩١ من سورة آل عمران.
223
وسريره لتدبير مملكته، فدبر الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض، بتحريك الأفلاك وتسيير الكواكب، وتكوير الليالي والأيام، فله الخلق والأمر. وكذلك قال في آية السجدة بعد ذكر الخلق: ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «١»، فربُّ الخلائق: مَن هذا صفته، لا غيره. انتهى بالمعنى.
ثم أمرهم بأن يدعوه، متذللين مخلصين، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً أي: ذوي تضرع وخفاء فإن الإخفاء دليل الإخلاص، إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المتجاوزين ما أمروا به في الدعاء وغيره، ونبه على أن الداعي ينبغي ألاَّ يطلب ما لا يليق به كرتبة الأنبياء، وقيل: الاعتداء في الدعاء، هو الصياح به، والتشدق، أو اختراع دعوة لا أصل لها في الشرع، وعن النبي صلى الله عليه وسلّم: «سَيَكُونُ قَومٌ يَعتَدُونَ في الدّعَاءِ، وحَسبُ المَرء أن يَقُولَ:
اللَّهُمَّ إنَّي أسألُكَ الجَنَّةَ ومَا يُقرِّبُ إليهَا من قَولٍ وعَمَلٍ. ثم قرأ: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ»
«٢».
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والمعاصي، بَعْدَ إِصْلاحِها ببعث الأنبياء، وشرع الأحكام، أو:
ولا تُفسدوا في الأرض بالمعاصي الموجبة لفساد العالم بالقحط والفتن، بعد إصلاحها بالخصب والأمان، وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً أي: خوفاً من الرد لقصور الأعمال، وطمعًا في القبول بالفضل والكرم إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ المخلصين.
قال البيضاوي: هو ترجيح للطمع، وتنبيه على ما يتوصل به إلى الإجابة، وتذكير قريب لأن الرحمة بمعنى الترحم، أو لأنه صفة محذوف أي: أمر قريب، أو على تشبيه فعيل الذي هو بمعنى مفعول، أو للفرق بين القريب من النسب، والقريب من غيره. هـ. قلت: والأحسن أنه إنما ذكره لأن المراد بالرحمة هنا: سر الخصوصية، وهو مذكر، فراعى معنى اللفظ، كأنه قال: إن سر الولاية- وهي الخصوصية- قريب من المحسنين.
والله تعالى أعلم.
الإشارة: قوله تعالى: (في ستة أيام) : قال الورتجبي: في كل يوم من هذه الأيام: ظهور صفة من صفاته الست: أولها: العلم، والثاني: القدرة، والثالث: السمع، والرابع: البصر، والخامس: الكلام، والسادس: الإرادة، كملت الأشياء بظهور أنوار الصفات الستة، ولما أتمها صارت الحدثان كجسد آدم بلا روح، فتجلى من صفته السابعة-
(١) الآية ٤ من سورة السجدة.
(٢) أخرجه أبو يعلى فى مسنده «٢/ ٧١» من حديث سعد بن أبي وقاص. وصدر الحديث إلى قوله (فى الدعاء) أخرجه أبو داود فى (الطهارة، باب الإسراف فى الماء) وابن ماجه فى (الدعاء، باب كراهية الاعتداء فى الدعاء) والحاكم فى المستدرك «١/ ٥٤٠» وصححه ووافقه الذهبي، من حديث عبد الله بن مُغفل.
224
وهي حياته القديمة الأزلية الباقية، المنزهة عن همهمة الأنفاس والمشابهة والقياس- فقامت الأشياء بصفاته القائمة بذاته، ويكون إلى الأبد لحياتها بروح حياته، المقدسة عن الاتصال والانفصال. قلت: وهي المعبَّر عنها بالمعاني القائمة بالأواني. ثم قال: وفي أدق الإشارة: السموات: الأرواح، والأرض: الأشباح، والعرش: القلوب، بدأ بكشف الصفات للأرواح، وبدأ بكشف الأفعال للأشباح، ثم بدأ بكشف الذات للقلوب لأن مناظر القلوب للغيوب، والغيوب من القلوب محل تجلّي استواء القدم، استوى قهر القدم، بنعت الظهور للعدم، أي: فتلاشى العدم، ثم استوى تجلّي الصفات على الأفعال، واستوى تجلّي الذات على الصفات، فاستوى بنفسه لنفسه، المنزه عن المباشرة بالحدثان والاتصال والانفصال عن الأكوان. قلت: أي: إذ لا حدثان ولا أكوان لأنها لما قرنت بالقدم تلاشت، وما بقي إلا نعت القدم.
ثم قال: خصَّ السموات والأرض بتجلي الصفات، وخص العرش بتجلي الذات. قلت: لأن المعاني المستولية على العرش باقية على أصلها، وهي أسرار الذات لم تتَرَدَّ برداء الكبرياء، وهو حجاب الحس الظاهر، بخلاف المعاني القائمة بالأواني، وهي أنوار الصفات، تجلت مرتدية بحجاب القهرية، فقيل لها: تجلي الصفات.
ثم قال: السموات والأرض جسد العالم، والعرش قلب العالم، والكرسي دماغ العالم، خص الجميع بالأفعال والصفات، وخص العرش بظهور الذات لأنه قلب الكل، وهو غيب الرحمن وعلمه وحكمته، رأيته في المكاشفة أنوارًا شعشعانيًا، بلا جسم ولا مكان ولا صورة، يتلألأ، فسألت عن ذلك، فقيل لي: هذا عالم يسمى عرشًا. انتهى.
قلت: وأقرب من هذا كله: أن العرش قد استولى على ما في جوفه من العوالم، حتى صارت في وسطه كلا شيء، ومعاني أسرار الربوبية، وهي العظمة الأصلية- قد استولت عليه، وأحاطت به، ومحت وجوده، فعبَّر الحق- جل جلاله- عن استيلاء هذه العظمة- التي هي أسرار الربوبية- على العرش بالاستواء. وإلى هذا أشار في الحكم العطائية بقوله: «يا مَن استوى برحمانيته على عرشه، فصار العرش غيباً في رحمانيته، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه، محققت الآثار بالآثار، ومحوت الآثار- وهي العرش وما احتوى عليه- بمحيطات أفلاك الأنوار» وهي أسرار الذات المحيطات بالآثار، من العرش إلى الفرش، فعبّر عن المعاني المستولية على العرش بالرحمانية لأن الرحمانية صفة الذات، والصفة لا تُفارق الموصوف، فافهم.
قلت: ومن كحل عينه بإثمد توحيد الذات لا يستبعد أن يكون الحق- جل جلاله- يتجلى بتجل خاص من أسرار ذاته وأنوار صفاته، يستوي بتلك العظمة على العرش، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، إذ تجلياته لا تنحصر، بل كل ما ظهر في عالم الشهادة فإنما هو نور من تجلّي ذاته وصفاته. وهذا القدر كاف لمن شم شيئًا
225
من أسرار التوحيد، وقد تكلم ابن جزي هنا على الخوف والرجاء، وأطال فيهما، ولكنه يجنح لتصوف أهل الظاهر، وقد تقرر في محله.
وقوله تعالى: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ: هو تقييد لقوله: يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ فالمختص بالرحمة هم المحسنون. انظر لفظ الحُكم. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر الحق- جل جلاله- تصاريف قدرته المفهوم من قوله: (إلا له الخلقُ والأمرُ)، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٧ الى ٥٨]
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٥٧) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (٥٨)
قلت: (نُشُرًا) : حال من الرياح، وهو جمع نشور، بمعنى ناشر، ومن قرأ بسكون الشين، فهو تخفيف منه، ومن قرأ بفتح النون، فمصدر في موضع الحال، بمعنى: ناشرات، أو مفعول مطلق فإن الإرسال والنشر متقاربان، ومن قرأه بالباء وسكون الشين فهو جمع بشير، مخفف، و (أقَلَّت) : مشتق من القلة لأن الحامل للشيء يستقله، و (ثقالاً) :
جمع لأن السحاب جمع بمعنى السحائب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ أو الرياح نَشْراً أي: تنشر السحاب، وتفرقه إلى الأرض التي أراد الله إن تمطر، أو بشارة بالمطر «١»، بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أي: قبل نزول المطر، فهي قدامَه فإن الصبا تثير السحاب، والشمال تجمعه، والجنوب تذره، والدبور تُفرقه. قاله البيضاوي.
حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي: حملت سَحاباً ثِقالًا بالماء لأنها تحمل الماء فتثقل به، سُقْناهُ أي: السحاب بما اشتمل عليه من الماء، لِبَلَدٍ مَيِّتٍ أي: لإحيائه أو لسَقيه بعد يبسه، كأنه ميت، فَأَنْزَلْنا بِهِ أي: بالبلد، أو بالسحاب، أو بالسوق، أو بالريح، الْماءَ الذي في السحاب، فَأَخْرَجْنا بِهِ أي: بالماء، مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كل أنواعها وأصنافها، كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى من القبور، أي: كما نُحيي البلد بإحداث القوة
(١) هذا المعنى على قراءة «بشرا»، جمع بشير، وهى قراءة عاصم. وقرأ الباقون «نشرا» بالنون. راجع الإتحاف (٢/ ٥٢). [.....]
226
النامية فيه وتطريتها بأنواع النبات والثمرات كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى من الأجداث ونحييها برد النفوس إلى مواد أبدانها بعد جمعها وتطريتها بالقُوى الحسية. قاله البيضاوي.
وقال ابن جزي: هو تمثيل لإخراج الموتى من القبور بإخراج الزرع من الأرض، وقد وقع ذلك في القرآن في مواضع منها: كَذلِكَ النُّشُورُ «١» وكَذلِكَ الْخُرُوجُ «٢». هـ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنَّ مَن قَدَر على ذلك قدر على إحياء الموتى، إذ لا فرق.
وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ أي: الأرض الكريمة والتراب الجيد يَخْرُجُ نَباتُهُ بسهولة، حسنًا قويًا نضرًا، بِإِذْنِ رَبِّهِ أي: بمشيئته وقدرته، وَالَّذِي خَبُثَ من الأرض كالحرة والسبخة، لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً قليلاً عديم النفع، أو عسيرًا بمشقة، كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نُكررها ونُرددها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة الله، فيتفكرون فيها، ويعتبرون بها.
قال البيضاوي: والآية مثل لمن تدبر الآيات وانتفع بها، ولمن لم يرفع إليها رأسًا ولم يتأثر بها، ومثلُه في البخاري في حديث طويل «٣». وقال ابن عباس وغيره: هو ضرب مثل للمؤمن والكافر. وقال ابن جزي:
يحتمل أن يكون المراد ما يقتضيه ظاهر اللفظ، فتكون متممة للمعنى الذي قبلها في المطر، وأن تكون تمثيلاً للقلوب فالطيب: قلب المؤمن، والخبيث: قلب الكافر، وقيل: هما للفِهم والبليد. هـ.
الإشارة: وهو الذي يرسل رياح الهداية، تنشر سحاب الواردات الإلهية والنفحات الربانية، بين يدي معرفته، أو تُبشر بها قبل وصولها، حتى إذا أقلت سحابًا ثقالاً بالعلوم اللدنية، سقناه لقلبٍ ميت بالجهل والهوى، فأنزلنا مما فيه من ماء ذلك الأمطار، فأخرجنا به من ثمرات العلوم وأزهار الحِكَم ونوار اليقين. وفي الحِكَم: «لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته، فليس المقصود من السحابة الأمطار، وإنما المقصود وجود الأثمار». (كذلك نخرج الموتى) أي:
نحى القلوب الموتى بالجهل، (لعلكم تذكرون). والبلد الطيب، وهو القلب الطيب، إذا هبت عليه هذه الواردات، ونزلت فيه أمطار النفحات، يُخرج نباته من العلوم والمعارف بِإِذْنِ رَبِّهِ، والذي خَبُثَ من القلوب لا يخرج ما فيه إلا نكدًا- أي: ضعيفًا لعدم تأثره بالواردات والمواعظ.
وقال الورتجبي: ذكر- سبحانه- القلب الذي هو بلد الله الذي مُطر عليه من بحر امتنانه، ويخرج نبات ألوان الحالات والمقامات. ثم قال: وكل قلب بذره الهوى فنباته الشهوات. هـ.
(١) من الآية ١١ من سورة ق.
(٢) من الآية ٩ من سورة فاطر.
(٣) وذلك قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير... » الحديث أخرجه البخاري فى (العلم- باب فضل من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل- باب بيان ما بعث النبي صلى الله عليه وسلّم من الهدى والعلم) عن أبى موسى رضى الله عنه.
227
ثم شرع فى ذكر قصص الأنبياء مع أممهم، تفصيلا لقوله: (وكم من قرية أهلكناها..)... الآية، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٥٩ الى ٦٤]
لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (٥٩) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٦٠) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦١) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٦٢) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٦٣)
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (٦٤)
قلت: (أوَ عَجبتم) : الهمزة للإنكار، والواو للعطف، والمعطوف عليه محذوف، أي: أكذبتم وعجبتم، و (في الفلك) : يتعلق بأنجينا، أو بمن معه، أو حال من الموصول.
يقول الحق جلّ جلاله: لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ، وهو نوح بن لمك بن متوشلخ بن أدريس، نبىء بعده «١»، بعث وهو ابن خمسين سنة أو أربعين، وعاش ألفًا وثلاثمائة سنة، فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ يستحق أن يُعبد، إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ، إن لم تُؤمنوا وتُوحدوا الله عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ وهو يوم القيامة، أو يوم نزول الطوفان.
قالَ الْمَلَأُ أي: الأشراف مِنْ قَوْمِهِ لأنهم يملأون العيون عند رؤيتهم، قالوا له: إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أي: في خطأ بيِّن عن الحق، قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي: ليس بي شيء من الضلال، بالغ لهم في النفي كما بالغوا له في الإثبات، وعرض لهم به، وتلطف لهم في القول، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: لست في ضلال كما اعتقدتم، ولكني في غاية من الهدى لأني رسول من رب العالمين، أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي كما أمرني، وَأَنْصَحُ لَكُمْ جُهدي، وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من صفاته الجلالية والجمالية ومن رحمته وعذابه، أو من قدرته وشدة بطشه، أو أعلم من جهة وحيه أشياء لا علم لكم بها، وجمع الرسالات لاختلاف أوقاتها، أو لتنوع معانيها، كعلم العقائد والمواعظ والأحكام.
(١) أي: بعد إدريس- عليه السلام.
ثم قال لهم: أَوَعَجِبْتُمْ أي: أكذبتم وعجبتم من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ أي: تذكير ووعظ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى لسان رَجُلٍ مِنْكُمْ أي: من جملتكم، أو من جنسكم كانوا يتعجبون من إرسال البشر ويقولون:
وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً مَّا سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ «١»، قال القشيري: عجبوا مِن كونِ شخص رسولاً، ولم يَعجبوا من كون الصنم شريكًا لله، هذا فَرطُ الجهالة وغاية الغواية. هـ. وحكمة إرساله كونه جاءكم لِيُنْذِرَكُمْ عاقبة الكفر والمعاصي، وَلِتَتَّقُوا الله بسبب ذلك الإنذار، وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بتلك التقوى، وفائدة حرف الترجي التنبهُ على أن التقوى غير مُوجب للترحم بذاته، وإنما هو- أي: الترحم- فضل من الله، وأن المتقي ينبغي ألا يعتمد على تقواه، ولا يأمَن من عذاب الله.
فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ هو ومن آمن به، وكانوا أربعين رجلاً وأربعين امرأة، وقيل: عشرة، وقيل:
ثمانية، حَملناهم فِي الْفُلْكِ أي: السفينة، وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي: عُمي القلوب، غير مستبصرين، وأصله: عَميين، مخفف. قاله البيضاوي.
الإشارة: الشريعة المحمدية: سفينة نوح عليه السلام، فمن ركب بحر الحقائق وحاد عنها حال بينه وبينها الموج فكان من المغرقين في بحر الزندقة والكفر، ومن تمسك بها في ذلك كان من الناجحين الفائزين.
ثم ذكر قصة هود عليه السّلام فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٦٥ الى ٧٢]
وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (٦٥) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٦٦) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٧) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (٦٨) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٦٩)
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٧٠) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (٧١) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (٧٢)
(١) كما جاء فى الآية ٢٤ من سورة (المؤمنون).
229
قلت: (أخاهم) : عطف على نوح، و (هودًا) : عطف بيان أو بدل، وكذلك (أخاهم صالحًا) وما بعده حيث وقع.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى قبيلة عادٍ أَخاهُمْ أي: واحد من قبيلتهم، كقولهم:
يا أخا العرب، فإنه هود بن عبد الله بن رباح بن الخلود بن عادٌ بن عَوْص بن إرم بن سام بن نوح، وقيل: هو هود بن شالح بن أرفخشذ بن سام بن نوح، فهو ابن عم أبي عاد، وإنما أرسل إليهم منهم لأنهم أفهم لقوله، وأعرف بحاله، وأرغب في أتباعه، ثم وعظهم فقال: يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحده ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ عذاب الله، قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ، كان قومه أحسن من قوم نوح، إذ كان من أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد، ولذلك قيد الملأ بمن كفر، بخلاف قوم نوح لم يكن أحد منهم آمن به، فأطلق الملأ، قالوا لهود عليه السلام: إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ أي: متمكنًا في خفة العقل، راسخًا فيها، حيث فَارَقتَ دين قومك، وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادعاء الرسالة.
قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ، وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي، وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ، يحتمل أن يريد أمانته على الوحي، أو أنهم كانوا قد عرفوه بالأمانة والصدق قبل الرسالة. ثم قال:
أَوَعَجِبْتُمْ من أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ، تقدم تفسيرها.
قال البيضاوي: وفي ذكر إجابة الأنبياء الكفرةَ عن كلماتهم الحمقاء بما أجابوا به والإعراض عن مقالتهم:
كمال النصح والشفقة، وهضم النفس، وحسن المجادلة، وهكذا ينبغي لكل ناصح، وفي قوله: وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ: تنبيه على أنهم عرفوه بالأمرين. هـ.
ثم قال لهم: وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ في مساكنهم، أو خلفاء في الأرض من بعدهم بأن جعلكم ملوكًا، فإن شداد بن عاد ممن ملك معمورة الأرض، من رمل عالج إلى بحر عمان، خوفهم أولاً من
230
عقاب الله، ثم ذكرهم بإنعامه وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: قامة وقوة، فكانوا عظام الأجساد، فكان أصغرهم: ستين ذراعًا، وأطولهم: مائة ذراع. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي: نعمه، تعميم بعد تخصيص، لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: لكي يفضي بكم ذكر النعم إلى شكرها المؤدي إلى الفلاح، ومن شكرها: الإيمان برسولهم.
قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام، استبعدوا اختصاص الله بالعبادة والإعراض عما وجدوا عليه آباءهم انهماكًا في التقليد، وحبًا لما ألفوه مع اعترافهم بالربوبية، ولذلك قال لهم هود عليه السلام: قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ، بعد أن قالوا: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيه.
قالَ قَدْ وَقَعَ أي: وجب عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب وَغَضَبٌ إرادة الانتقام، أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: أتجادلونني في عبادة مسميات أسماء، ففي الكلام حذف. وأراد بقوله: سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ أي: جعلتم لها أسماء، فدل ذلك على أنها محدثة، فلا يصح أن تكون آلهة، أو سميتموها آلهة من غير دليل، وهو معنى قوله: ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: حجة تدل على استحقاقها للعبادة، فالمجادلة يحتمل أن تكون في عبادتها، أو في تسميتها آلهة، والمراد بالاسم- على الأول- المسمى، وعلى الثاني: التسمية.. قاله ابن جزي. فَانْتَظِرُوا نزول العذاب، الذي طلبتم حين أصررتم على العناد، إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ نزوله.
قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم. قال القشيري: لا رتبةَ فوق رتبة النبوة، ولا درجة أعلى من درجة الرسالة، وقد أخبر سبحانه: أنه نجَّى هودًا برحمته، وكذا نجَّى الذين آمنوا معه برحمته، ليُعلَم أن النجاة لا تكون باستحقاق العمل، وإنما تكون ابتداء فضلٍ من الله ورحمة، فما نَجَا مَن نَجَا إلا بفضل الله سبحانه وتعالى. هـ.
وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: استأصلناهم، وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ، تعريض بمن آمن منهم، وتنبيه على أن الفارق بين من نَجَا وبين من هلك: هو الإيمان.
رُوِي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، فبعث الله إليهم هودًا فكذبوه، وزادوا عتوا، فأمسك الله عنهم المطر ثلاث سنين حتى جهدهم، وكان الناس حينئذٍ، مسلمهم ومشركهم، إذا نزل بهم بلاء توجهوا إلى البيت الحرام وطلبوا من الله الفرج، فجهزوا إليه «قيل بن عنز»، ومرثد بن سعد، في سبعين من أعيانهم، وكان إذ ذاك بمكة العمالقة أولاد عمليق بن لاود بن سام، وسيدهم: معاوية بن بكر، فلما قدموا عليه، وهو بظاهر مكة، أنزلهم وأكرمهم، وكانوا أخواله وأصهاره، فلبثوا عنده شهرًا يشربون الخمر، وتغنى عليهم الجرادتان- قَينَتَانِ له- فلما رأى ذهولهم عما
231
بعثوا له أهمه ذلك، واستحيا أن يكلمهم فيه مخافة أن يظنوا به ثقل مقامهم، فعلم المغنيتين بيتين من الشعر، وأمرهما أن تغنيا به وهما:
ألا يا قَيلُ ويَحكَ، قُم، فَهَينِم لَعلَّ الله يسقِينَا الغَمَامَا
فيسقيِ أرضَ عَادٍ، إنَّ عَادًا قَدَ امسَوا لاَ يُبِينُونَ الكَلامَا
فلما غنيتا به أزعجهم ذلك، فقال مرثد: والله لا يُسقون بدعائكم، ولكن إن أطعتم نبيكم، وتبتم إلى الله، سقيتم، فقالوا لمعاوية: أحبسه عنا، لا يقدمنّ معنا مكة فإنه فد أتبع دين هود، وترك ديننا، ثم دخلوا مكة، فقال قيل: اللهم اسق عادًا ما كنت تسقيهم، فأنشأ الله سحابات ثلاثًا بيضاء وحمراء وسوداء، ثم ناداه منادٍ من السماء: يا قيل اختر لنفسك ولقومك. فقال: اخترت السوداء فإنها أكثرهن ماءً، فخرجت إلى عاد من وادي المغيث، فاستبشروا بها، وقالوا: هذا عارض مُمطرنا، فجاءتهم، فيها ريح عقيم، فأهلكتهم، رُوِي أنها لما قربت من ديارهم حملت أنعامهم في الهواء، كأنها جراد، فاستمرت عليهم سبع ليالٍ وثمانية أيام، شدخَت رؤوسهم إلى الحجارة حتى هلكوا جميعًا، ونجا هود والمؤمنون معه، فأتوا مكة وعبدوا الله حتى هلكوا. قاله البيضاوي وغيره.
وهاهنا بحث وهو أن البيت إنما بناه إبراهيم عليه السلام حسبما في الصحيح، ولم تعمر مكة إلا بعد إنزال إسماعيل فيها، وهود كان قبل إبراهيم، والبيت حينئذٍ خرب، كان خربه الطوفان، فكيف يتوجهون إليه وهو لم يكن؟.
ويمكن الجواب: بأنهم كانوا يلتجئون إلى رسومه وخربته التي بقيت بعد الطوفان لأن أول من بناه آدم عليه السلام فلما خربه الطوفان بقي أثره، فكانوا يتبركون به، وفي بعض التواريخ: أن العماليق بنوه قبل إبراهيم، فكانوا يطوفون به ويتبركون، ثم هُدم، وبناه بعدهم خليل الله إبراهيم. وبهذا- إن صح- يزول الإشكال. والله تعالى أعلم.
وأما من قال: إن هودًا تعدد، فغير سديد.
الإشارة: قد تضمنت موعظة هود عليه السلام لقومه خصلتين، بهما النجاة من كل هول وشر، والفوز بكل خير، وهما: التوحيد والتقوى، وهي الطاعة لله ولرسوله فيما جاء به من أمر ونهي. فالتوحيد تطهير الباطن من الشرك الجلي والخفي، والتقوى: حفظ الجوارح من المخالفة في السر والعلانية، وهاتان الخصلتان هما أساس الطريق ونهايته. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر قصة صالح عليه السّلام، فقال:
232

[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٩]

وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٣) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٧٤) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (٧٥) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٧٦) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (٧٧)
فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٧٨) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (٧٩)
قلت: آيَةً: حال، والعامل فيها: الإشارة، وبُيُوتاً: حال من الجبال.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى ثَمُودَ قبيلة أخرى من العرب، سُموا باسم أبيهم الأكبر:
ثمود بن غابر بن إرم بن سام، وقيل: سُموا به لقلة ما بهم من التثميد، وهو الماء القليل، وكانت مساكنهم الحجرَ، بين الحجاز والشام إلى وادي القرى، وقد دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلّم وأصحابه، فقال لهم صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تدخُلُوا عَلَى هَؤُلاَءِ المُعَذَّبِينَ إلاَّ أن تَكُونُوا بَاكِينَ مخافة أن يُصيبَكم مِثلُ مَا أصَابَهُم» «١».
أرسلنا إليهم أَخاهُمْ صالِحاً، وهو صالح بن عُبَيد بن أسف بن ماسَح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. وقال وهب بن منبه: بعث الله صالحًا حين راهق الحلم. وقال الكواشي: أنه مات ابن ثمان وخمسين سنة، وأقام في قومه ينذرهم عشرين. هـ.
(١) أخرجه البخاري فى (أحاديث الأنبياء- باب قول الله تعالى: وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً) ومسلم فى (الزهد- باب لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم إلا أن أن تكونوا باكين) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضى الله عنه.
233
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحة نبوتي، وهي: هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً لأنها جاءت من عند الله بلا وسائط وأسباب، على ما سيأتي، فَذَرُوها أي: اتركوها، تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، نهى عن المس، الذي هو مقدمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى مبالغةً في الأمر وإزاحة للعذر. قاله البيضاوي. فَيَأْخُذَكُمْ إن مستموها بسوء عَذابٌ أَلِيمٌ، وهو الهلاك بالصيحة.
وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ أي: هيأ لكم القرار فِي الْأَرْضِ أي: أرض الحجاز، تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي: تبنون مما انبسط منها قصورًا، فالسهل ضد الجبل، وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً أي: تنجُرون بيوتًا من الجبال، وكانوا يسكنون القصور في الصيف والجبال في الشتاء. فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالمعاصي والكفر.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ عن الإيمان، لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: للذين استضعفوهم واستذلوهم- أعني لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ-: أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ؟، قالوه على وجه الاستهزاء، قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ، لم يقولوا في الجواب: نعم تنبيهًا على أن إرساله أظهر من أن يشك فيه عاقل أو يخفى على ذي رأي، وإنما الكلام فيمن آمن ومن كفر فلذلك قال: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على المقابلة، ووضعوا آمَنْتُمْ بِهِ موضع أُرْسِلَ بِهِ ردًا لما جعلوه معلومًا مسلمًا.
فَعَقَرُوا النَّاقَةَ نحروها، أسند إلى جميعهم فعل بعضهم كما يأتي لأنه كان برضاهم، وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ أي: استكبروا عن امتثال أمره، وهو ما بلغهم صالح بقوله: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ، وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: صيحة جبريل، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ باركين على ركبهم، ميتين.
رُوِي: أنهم بعد عادٍ عمروا بلادهم وخلفوهم، وكثروا، وعُمروا أعمارًا طِوالاً لا تفي بها الأبنية، فنحتوا البيوت من الجبال، وكانوا في خِصب وسعة، فعتوا وأفسدوا في الأرض، وعبدوا الأصنام، فبعث الله إليهم صالحًا من أشرافهم، فأنذرهم، فسألوه آية، فقال لهم: أيّ آية تريدون؟ فقالوا: اخرج معنا إلى عيدنا فتدعو إلهك وندعو آلهتنا، فمن استجيب له اتبع، فخرج معهم، فدعوا أصنامهم فلم تجبهم، ثم أشار سيدهم «جندع بن عمرو» إلى صخرة منفردة يقال لها: «الكاثبة»، قال له: أخرج من هذه الصخرة ناقةً مخترجة جوفاء وبراء، فإن فعلت صدقناك، فأخذ
234
عليهم صالح مواثيقهم: لئن فعلتُ ذلك لتؤمنن؟ قالوا: نعم، فصلى، ودعا ربه، فتمخضت الصخرة تَمَخَّضَ النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عُشَرَاءَ، جوفاء وبراء كما وَصَفُوا، وهم ينظرون، ثم أنتجت ولدًا مثلها في العظم، فآمن به جندع في جماعة، ومنع الناس من الإيمان: ذُؤاب بن عمرو، والحباب صاحب أصنامهم، ورباب كاهنهم.
فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر، وترد الماء غِبًّا، فما ترفع رأسها من البئر حتى تشرب كل ما فيها، ثم تنفحج «١»، فيحلبون ما شاءوا حتى تمتلىء أوانيهم، فيشربون ويدخرون، وكانت تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم إلى بطنه، وتشتو ببطنه فتهرب مواشيهم إلى ظهره فشق ذلك عليهم، فزينت عقرها لهم «عنيزة أم غنم» وصدقة بنت المختار، فعقروها واقتسموا لحمها، وعاقرها: الأحمر، واسمه قدار، استعان برجل آخر، فلما شربت أختبأ لها في جانب تل، فضربها صاحبه بالسهم، وعقرها قدار بسيفه، واقتسموا لحمها، فرقى ولدها جبلاً اسمه: قارة، فرغى ثلاثًا، ودخل صخرة أمه، فقال لهم صالح عليه السلام: أدركوا الفصيل، عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه حيث دخل الصخرة بعد رغائه، فقال لهم صالح عليه السلام: تُصبح وجوهكم غداً مصفرة، وبعد غد محمرة، واليوم الثالث مسودة، ويصبحكم العذاب، فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولمّا كان ضحوة اليوم الرابع: تحنّطوا وتكفّنوا بالأنطاع، فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ، ظاهره:
أن توليته عنهم بعد أن أبصرهم جاثمين ولعله خاطبهم به بعد هلاكهم، كما خاطب رسول الله صلى الله عليه وسلّم أهل قليب بدر، وقال لهم: «قد وجدنا ما وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًا، فَهَل وجدتم ما وعد ربكم حَقًا؟» «٢» أو ذَكَرَ ذلك على سبيل التحسّر عليهم. قاله البيضاوي.
الإشارة: كل ما قصّ علينا الحق- جل جلاله- من قصص الأمم الماضية، فالمراد به: تخويف هذه الأمة المحمدية وزيادة في يقينهم، فالواجب على من أراد السلامة في الدارين أن يتمسك بما جاء به الرسول صلّى الله عليه وسلّم من غير زيادة ولا نقصان، ويتحرى في ذلك جهده يقصد بذلك رضا الله ورسوله. وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «٣»، ومن سلك الطريق المستقيم وصل إلى النعيم المقيم. والله تعالى أعلم.
(١) الفحج: تباعد ما بين الفخذين. انظر النهاية (فحج).
(٢) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (المغازي- باب قتل أبى جهل) عن ابن عمر رضى الله عنه.
(٣) من الآية ١٠١ من سورة آل عمران.
235
ثم ذكر قصة لوط عليه السّلام، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٠ الى ٨٤]
وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٨٠) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (٨١) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٨٢) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٨٣) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٨٤)
قلت: (شهوة) : مفعول له، أو مصدر في موضع الحال.
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ واعظًا لهم: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي:
اللواط توبيخًا وتقريعًا على تلك الفعلة المتناهية في القبح، ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ أي: ما فعلها أحد قبلكم، وبخهم على أمرين: إتيان الفاحشة، واختراعها أولاً، ثم قال لهم: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ، وصفهم بالشهوة البهيمية، وفيه تنبيه على أنَّ العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة:
طلب الولد وإبقاء النوع لا قضاء الوطر، بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ أي: عادتكم السرف في كل شيء، حتى تجاوزتم ما أحل الله لكم من النساء إلى ما حرم عليكم من إتيان الذكور، وهو إضراب عن الإنكار إلى الإخبار بحالهم التي أدت بهم إلى ارتكاب أمثالها وهي اعتياد الإسراف في كل شيء، أو عن الإنكار عليها إلى الذم لهم على جميع معايبهم، أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف. قاله البيضاوي.
وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ له حين وعظهم، إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ أي: لوط ومن آمن به، مِنْ قَرْيَتِكُمْ أي: ما أجابوه بشيء يصلح للجواب، لكن قابلوا نصحه بالأمر بإخراجه من قريتهم، والاستهزاء بهم، حيث قالوا: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ من الفواحش.
قال تعالى: فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ أي: من آمن معه، إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنها كانت تسر الكفر كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ أي: الباقين في ديارهم فهلكوا وهلكت معهم.
وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: نوعًا عجيبًا من المطر، بيَّنه بقوله: وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «١»، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ.
(١) الآية ٧٤ من سورة الحجر.
رُوِي أن لوط بن هاران بن تارح لما هاجر عمه إبراهيم إلى الشام، ونزل بالأردن، وكان هاجر هو معه، أرسله الله تعالى إلى أهل سدوم، ليدعوهم إلى الله، وينهاهم عما اخترعوه من الفاحشة، فلم ينتهوا عنها، فقلع جبريل مدينتهم، وجعل عاليها سافلها، وأمطر الحجارة على ما قربهم من القرى، وسيأتي في سورة هود بقية قصتهم، إن شاء الله. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إنما أهلك اللهُ قوم لوط حيث آثروا شهوة نفوسهم على عبودية ربهم، وغلبهم الطبع البهيمي على مقتضى العقل الصافي، وقد تقدم قول الغزالي: إن الشَّره إلى الوِقاع من جملة المهلكات. فعلى المريد أن يصفي قصده، ولا ينزل إلى أرض الحظوظ إلا بالإذن والتمكين والرسوخ في اليقين، ولا ينزل بالشهوة والمتعة. وقد قال عليه السلام:
«المؤمن يأكل بشهوة أهله» «١» فلا يأتي ما أحلَّ اللهُ لَهُ مِن متعة النِّساء إلا قيامًا بحقِّ الغَير وطلبًا للنسلِ. وبالله التوفيق.
ثم ذكر قصة شعيب عليه السلام فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٨٥ الى ٩٣]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٨٥) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (٨٦) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (٨٧) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩)
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣)
(١) أخرجه الديلمي فى الفردوس (ح ٦٥٤٧) من حديث أبى أمامة الباهلي، بلفظ «المؤمن يأكل بشهوة عياله، والمنافق يأكل أهله بشهوته».
237
يقول الحق جلّ جلاله: وَأرسلنا إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً، ومدين: قبيلة من أولاد مدين بن إبراهيم، شعيب بن ميكائل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم الخليل، على ما قيل. وقد تقدّم في البقرة أن مدين ومدان من ولد إبراهيم عليه السلام، وشعيب هذا يسمى خطيب الأنبياء لحسن مراجعته قومه.
قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ، قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ يريد المعجزة التي كانت له، وليس في القرآن بيان ما هي معجزته. وحمل الواحدي البينة على الموعظة. وقال في الكشاف: ومن معجزات شعيب: ما رُوِي من محاربة عصا موسى التنين، حين دفع إليه غنمه، وولادة الغنم الدرع خاصة، حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، ووقوع عصا آدم في يده في المرات السبع، وغير ذلك من الآيات. هـ. وفيه نظر لأن هذ وقعت بعد مقالته لقومه، وإنما كانت إرهاصات لموسى عليه السلام، وفي حديث البخاري: «مَا بَعَثَ الله نَبِيًّا إلاَّ وآتاهُ مَا مِثلُه آمَنِ عَليه البشرُ، وإَنَّما كَان الذِي أُوتِيتُه وحيًا، وأرجوُ أن أكُون أكَثَرهُم تَابِعاً يومَ القيامَةِ» «١». وهو صريح في أنه لا بد من الآية لكل رسول، ولعل الله تعالى لم يذكر معجزة شعيب وهود في القرآن مع وجودها لظاهر الحديث.
ثم قال لهم: فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ، وكانوا مطففين، أي: فأوفوا المكيال الذي هو آلة الكيل، أي: كبروها بدليل قوله: وَالْمِيزانَ الذي هو الآلة، ويحتمل أن يريد بهما المصدر، أي: الكيل والوزن.
وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ أي: لا تنقصوهم حقوقهم، وإنما قال: أَشْياءَهُمْ، للتعميم تنبيهًا على أنهم كانوا يبخسون الجليل والحقير، والقليل والكثير، وقيل: كانوا مكَّاسين لا يدعون شيئًا إلا مكسوه.
وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر والظلم، بَعْدَ إِصْلاحِها بإقامة الشرائع وظهور العدل، ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي: ذلك الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم من إبقائكم على ما أنتم عليه، ومعنى الخيرية: الزيادة مطلقًا إذ لا خير فيما هم فيه، أو: في الإنسانية وحسن الأحدوثة وجمع المال. قاله البيضاوي.
(١) أخرجه بنحوه البخاري فى (فضائل القرآن، باب كيف نزل الوحى) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
238
وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ أي: طريق تُوعِدُونَ من أراد الإيمان بالعقوبة، وكانوا يجلسون على الطرقات والمراصد، يقولون لمن يريد شعيبًا: إنه كذاب فلا يفتنك عن دينك ويوعدون من آمن، وقيل: كانوا يقطعون الطريق.
وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي: تصدون الناسَ عن طريق الله، وهو الإيمان به وبرسوله، وهو الذي قعدوا لأجله في كل طريق، وقوله: مَنْ آمَنَ بِهِ من أراد الإيمان به، أو من آمن حقيقة كانوا يصدونه عن العمل، وَتَبْغُونَها عِوَجاً أي: وتطلبون لطريق الله عوجًا بإلقاء الشُّبَه فيها، أو بوصفها للناس بأنها مُعوَجَّة.
وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم وعُددكم فَكَثَّرَكُمْ بالبركة في النسل والمال، وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الأمم قبلكم، فاعتبروا بهم.
وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا أي: تربصوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي: بين الفريقين بنصر المحقين على المبطلين، فهو وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين، وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقب لحكمه، ولا حيف فيه.
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ في جوابه عن وعظه: لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي: ليكونن أحد الأمرين إما إخراجكم من القرية أو عودكم في الكفر، وشعيب عليه السلام لم يكن في ملتهم قط لأن الأنبياء- عليهم السلام- لا يجوز عليهم الكفر مطلقًا، لكنهم غلّبوا الجماعة على الواحد فخُوطب هو وقومه بخطابهم، وعلى ذلك أجرى الجواب في قوله: قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ. قاله البيضاوي. وقال ابن عطية: وعاد: قد يكون بمعنى صار، فلا يقتضي تقدم ذلك المحال، قلت: ويؤيده ما في حديث الجَهنميين: «قد عادوا حممًا» «١» أي: صاروا.
ثم قال شعيب عليه السلام: قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها أي: إن رجعنا إلى ملتكم بعد الخلاص منها، فقد اختلقنا على الله الكذب، وهذا كله في حق قومه كما تقدم. وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا وارتدادنا، وفيه تسليم للإرادة المغيبة، والعلم المحيط، فإنّ القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء. فإن قلت: هو معصوم فلا يصح فيه العود؟. قلت: قاله أدبًا مع الربوبية، واستسلاما لقهر
(١) جزء من حديث طويل أخرجه البخاري فى (الرقاق- باب صفة الجنة والنار) ومسلم فى (الإيمان- باب معرفة طريق الرؤية) من حديث أبي سعيد الخدري رضى الله عنه.
239
الألوهية، كقول نبينا صلّى الله عليه وسلّم: «يا مُقَلِّبَ القُلوبِ ثَبِّت قَلبي عَلَى دِينِكَ» «١». وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أي: أحاط علمه بكل شيء مما كان وما يكون منا ومنكم، عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا في أن يثبتنا على الإيمان، ويخلصنا من الإشراك. رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا أي: احكم بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ بالعدل، بتمييز المحق من المبطل، وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ أي: الفاصلين.
وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً وتركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً أي: إذا اتبعتموه لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم، أو لفوات ما يحصل لكم من البخس والتطفيف. فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الزلزلة. وفي سورة الحجر. الصَّيْحَةُ، ولعلها كانت من مبادئها، فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي: في مدينتهم جاثِمِينَ: باركين ميتين.
الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي: استؤصلوا كأنهم لم يقيموا فيها ساعة. الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ دينًا ودُنيا، بخلاف الذين صدقوه واتبعوه كما زعموا فإنهم الرابحون، ولأجل التنبيه على هذا والمبالغة فيه كرر الموصول، واستأنف الجملتين وأتى بهما اسميتين.
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ، قاله بعد هلاكهم، تأسفًا عليهم، ثم أنكر على نفسه فقال: فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ ليسوا أهلاً للحزن عليهم، لاستحقاقهم ما نزل بهم.
الإشارة: يُؤخذ من قوله: وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها أن إقامة الشرائع، وظهور الدين من علامة إصلاح الأرض وبهجتها، وخصبها وعافيتها، وترك الشرائع وظهور المعاصي من علامة فساد الأرض وخرابها.
ويؤخذ من قوله: وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ... الآية، أن حض الناس على الإيمان ودلالتهم على الله من أفضل القربات عند الله، وأعظم الوسائل إلى الله.
ويؤخذ من قوله: وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ أن الإنسان لا يقف مع ظاهر الوعد والوعيد، ولعل الله تعالى علَّق ذلك الوعد أو الوعيد بشروط وأسباب أخفاها، ولذلك كان العارف لا يزول اضطراره، ولا يكون مع غير الله قراره. وفي بعض الآثار القدسية: «يا عبدي لا تأمن مكري وإن أمَّنتك، فعلمي لا يحيط به محيط». والله تعالى أعلم.
(١) أخرجه مطولا أحمد فى المسند (٦/ ٩١) عن السيدة عائشة رضى الله عنها والترمذي فى (القدر- باب ما جاء أن القلوب بين أصبعى الرحمن) من حديث أنس رضى الله عنه. وفى (الدعوات، باب ٩٠) من حديث أم سلمة رضى الله عنها. [.....]
240
ولما سرد قصص الأمم السالفة ذكر حاله معهم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٩٤ الى ٩٩]
وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨)
أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ أي: رسول إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ أي: بالبؤس والضر، كالقحط والأمراض، لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ أي: يتضرعون ويتذللون، ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ الحالة السَّيِّئَةِ الحالة الْحَسَنَةَ أي: أعطيناهم، بدل ما كانوا فيه من البلاء والشدة، السلامة والسعة، حَتَّى عَفَوْا: كثروا عَددًا وعُددًا، يقال: عفا النبات: إذا كثر، ومنه: «اعفوا اللِّحى» «١». وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ كُفرًا لنعمة الله عليهم، ونسيانًا لذكره، واعتقادًا بأنه من عادة الدهر يتعاقب في الناس بين السراء والضراء، فقد مس آباءنا منه شيء مثل ما مسنا، فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً: فجأة وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب.
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى المتقدمة في قوله: وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ وقيل: مكة وما حولها. وقيل:
مطلقًا، آمَنُوا وَاتَّقَوْا مكان كفرهم وعصيانهم، لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لوَسعنا عليهم الخير، ويسرناه لهم من كل جانب. وقيل: المراد: المطر والنبات. وَلكِنْ كَذَّبُوا بالرسل، وكفروا النعم، فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من الكفر والمعاصي.
أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أي: أبعد ذلك أمن أهل القرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟ أي: ليلاً، في حال نومهم. أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا أيضًا ضُحًى ضحوة النهار وَهُمْ يَلْعَبُونَ من
(١) جزء من حديث أخرجه البخاري فى (اللباس- باب إعفاء اللحى) من حديث ابن عمر رضى الله عنه.
فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم، أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ وهو أن يستدرجهم بالنعم حتى يأخذهم بغتة؟ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الذين خسروا أنفسهم، بترك النظر والاعتبار، حتى هلكوا، فلم ينفعهم حينئذٍ الندم.
الإشارة: إظهار المِحَن والمِنَن وتعاقبهما على الإنسان، حكمتها: الرجوع إلى الله، وتضرع العبد إلى مولاه، فمن فعل ذلك كان معتمدًا عليه في الحالتين، مغترفًا من بحر المنة بكلتا اليدين، ومن نزلت به المحن ثم أعقبته لطائف المنن، فلم يرجع إلى مولاه، ولا شكره على ما خوله من نعماه، بل قال: هذه عادة الزمان يتعاقب بالسراء والضراء على الإنسان، فهذا عبد منهمك في غفلته، قد اتسعت دائرة حسه، وانطمست بصيرة قدسه، يصدق عليه قوله تعالى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «١».
وقال القشيري في قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا... الآية: أي: لو آمنوا بالله واتَّقُوا الشرك (لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِنَ السماء والأرض) بأسباب العطاء، فإن سَبَقَ بخلافه القضاء فأبواب الرضا، والرضا أتم من العطاء. ويقال: ليس العبرة بالنعمة العِبرة بالبركة في النعمة. هـ.
قوله تعالى: وَلكِنْ كَذَّبُوا أي: شكُّوا في هذا الوعد فلم يتقوا بالإيمان والتقوى حتى يتركوا الأسباب، والشاك في الصادق المصدوق مكذب. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضى الله عنه: للناس أسباب، وسببنا الإيمان والتقوى، ثُم تَلا هذه الآية: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا... الآية، وقد تقدم عند قوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ «٢». ما يتعلق بالأمن من مكر الله.
ولما ذكر هلاك الأمم الماضية، خوّف من خلفهم بعدهم إلى يوم القيامة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٠ الى ١٠٢]
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢)
(١) من الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.
(٢) الآية ٨٢ من سورة الأنعام.
242
قلت: (أن لو نشاء) :«أن» مخففة، وهي وما بعدها: فاعل (يَهدِ) أي: أو لم يتبين لهم قدرتنا على إهلاكهم لو نشاء ذلك؟ وإنما عدى «يهدي» باللام لأنه بمعنى يتبين، و (نطبع) : استئناف، أي: ونحن نطبع على قلوبهم.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَهْدِ أي: يتبين لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي: يخلفون من قبلهم ويرثون ديارهم وأموالهم، أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ أي: أهلكناهم بِذُنُوبِهِمْ بسبب ذنوبهم، كما أهلكنا من قبلهم، لكن أمهلناهم ولم نهملهم، وَنحن نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ بالغفلة والانهماك في العصيان، فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تدبر واعتبار.
تِلْكَ الْقُرى، التي قصصنا عليك آنفًا، نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها من أخبارها، أي: بعض أخبارها، ولها أبناء غيرها لا نقصها عليك وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ: بالمعجزات، فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم، بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ مجيئها، يعني: أن ظهور المعجزات لم ينفعهم، بل الشيء الذي كذبوا به قبل مجيئها، وهو التوحيد وتصديق الرسل استمروا عليه بعد مجيئها.
أو: فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا مدة عمرهم بما كذبوا به أولا، حين جاءتهم الرسل، فلم تؤثر فيم دعوتهم المتطاولة والآيات المتتابعة. كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم بالآيات والنذر.
وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ أي: لأكثر أهل القرى مِنْ عَهْدٍ، بل جلّهم نقضوا ما عَهدناهم عليه من الإيمان والتقوى بإنزال الآيات ونصب الحجج، وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي: علمناهم لَفاسِقِينَ، و «إن» مخففة، واللام: فارقة.
الإشارة: ينبغي لمن فتح الله بصيرته أن ينظر بعين الاعتبار فيمن سلف قبله، كيف تركوا الدنيا ورحلوا عنها، ولم يأخذوا منها إلا ما قدموا أمامهم؟ قَدِموا على ما قدَّموا، وندموا على ما خلفوا، ولم ينفعهم الندم وقد زلَّت بهم القدم، فالدهر خطيب يُسمع القاصي والقريب، وهو ينادي بلسان فصيح، عادلاً عن الكناية إلى التصريح، قائلاً: أمَا حَصلَ لكم الإنذار؟ أما كفاكم ما تشاهدون في الاعتبار؟ أين من سلف قبلكم؟. أوَ ما كانوا أشد منكم أو مثلكم؟ قد نما ذكرهم وعلا قدرهم، وخسف بعد الكمال بدرهم، فكأنهم ما كانوا، وعن قريب مضوا وبانوا، أفضوا إلى ما قدموا، وانقادوا قهرا إلى القضاء وسلموا، فيا أيها الغافلون، أنتم بمن مضى لاحقون، ويا أيها الباقون أنتم إليهم تساقون، قَضاءٌ مبرم، وحُكمٌ ملزم، ليس عنه محيد لأحد من العبيد.
243
ثم شرع فى قصص موسى عليه السلام، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٠٣]
ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣)
يقول الحق جلّ جلاله: ثُمَّ بَعَثْنا من بعد الرسل المتقدمين مُوسى بن عمران بِآياتِنا:
بمعجزاتنا الدالة على صدقه، إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها أي: طغوا بسببها، وزادوا عتوًا على عتوهم، فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ كيف غرقوا عن آخرهم، وأكلهم البحر.
الإشارة: إذا أراد الله- تعالى- أن يُهلك قومًا بعث إليهم من يُذكرهم، فإذا زادوا في العتو والطغيان عاجلهم بالعقوبة. ذكر الشعراني: أن مدينة بالمشرق صنعوا وليمة يتنزهون فيها، فخرجوا إلى بستان، فلما صنعوا الطعام دخل عليهم فقير، فقال: أعطوني، فأعطوه، ثم قال: أعطوني فزادوه، ثم قال: أعطوني، فجروه حتى أخرجوه، فأرسل عليهم مَن أخرجهم من تلك المدينة وخربها، فهي خربة إلى اليوم. سبحان المدبر الحكيم الواحد القهار!.
ثم ذكر دعوة موسى إلى فرعون، وما كان من أمره معه، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٤ الى ١٠٥]
وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٠٥)
قلت: من قرأ: «عليّ» بشد الياء، فحقيق: مبتدأ، و «عليّ» : متعلق به، و (ألاَّ أقول) : خبره، أي: حقيق عَلَيَّ قولُ الحق. ومن قرأ: (عَلَى) بالتخفيف، فحقيق: صفة لرسول، و «على» : حرف جر، و (ألاَّ أقول) : مجرور، أي: إني رسول حقيق على قول الحق، وعدَّاه بعلى لتضمنه معنى حريص، أو تكون (على) بمعنى الباء أي: حقيق بقول الحق، وقد يبقى على أصله لأمن الالتباس والمعنى: حقيق علي قول الحق أن أكون أنا قائله، لا يرضى إلا مثله ناطقًا به. انظر البيضاوي.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ، حَقِيقٌ واجب عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ لأنني معصوم من النطق بغيره، فإن كذَّبتني فقد جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي:
بمعجزة واضحة، تدل على صدقي، وهي العصا. فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: فخل سبيلهم، حتى يرجعوا معي إلى الأرض المقدسة: التي هي وطنُ آبائهم، وكان قد استعبدهم واستخدمهم في الأعمال الشاقة وذلك أنه لما تُوفِّي يوسف عليه السلام غلب عليهم فرعونُ واستعبدهم حتى أنقذهم الله على يد موسى، وكان بين اليوم الذي دخل فيه يوسف مصر واليوم الذي دخله موسى رسولاً إلى فرعون: أربعمائة عام.
ثم طلب منه إظهار المعجزة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٠٦ الى ١١٢]
قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٠٦) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (١٠٧) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (١٠٨) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (١٠٩) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (١١٠)
قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (١١١) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (١١٢)
قلت: يقال: أرجأ، بالهمز، يرجىء بمعنى آخر فمن قرأ بالهمزة فعلى الأصل، ومن قرأه بغير الهمزة فيحتمل أن يكون بمعنى المهموز، وسهلت الهمزة، أو يكون بمعنى الرجاء، أي: أطمعه، وأما ضم الهاء وكسرها فلغتان، وأما إسكانها فلغة أجرى فيها الوصل مجرى الوقف. وقد تتبع البيضاوي توجيه القراءات، فانظره إن شئت.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ فرعون لموسى عليه السلام: إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ مَن عند مَن أرسلك، كما ذكرتَ، فَأْتِ بِها وأحضرها ليَثبت بها صدقك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك، فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ أي: ظاهر أمره، لا يشك في أنه ثعبان، وهي الحية العظيمة.
رُوِي أنه لما ألقاها صار ثعباناً أشعر، فاغراً فاه، بين لَحْيَيْهِ ثمانون ذراعًا، وضع لحيه الأسفل على الأرض والأعلى على سور القصر، ثم توجه نحو فرعون، فهرب منه وأحدَثَ، وانهزم الناسُ مُزدحمين، فمات منهم خمسة وعشرون ألفًا، وصاح فرعون: يا موسى، أُنشدك الذي أرسلك خذه، وأنا أُومن بك، وأرسل معك بني إسرائيل، فأخذه فعاد عصًا. قاله البيضاوي.
ثم أظهر له معجزة أخرى: وَنَزَعَ يَدَهُ من جيبه، أو من تحت إبطه، فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي:
بيضاء بياضاً خارجاً عن العادة، يجتمع عليها النظارة، أو بيضاء للنظار، لا أنها كانت بيضاء في خلقتها، بل كانت شديدة الأدمة كلون صاحبها. رُوِي أنه كان شديد الأدمة فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه، ثم نزعها، فإذا هي بيضاء نورانية، غلب شعاعُها شعاعَ الشمس.
قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ، قيل: قاله هو وأشرافُ قومه، على سبيل المشاورة في أمره، فحكى عنه في سورة الشعراء، وعنهم هنا، أو قاله هو ووافقوه عليه، كعادة جلساء الملوك مع أتباعهم.
يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالحيل، أو بالقتال، أو بإخراج بني إسرائيل، وكانوا خدامًا لهم، فتخرب البلد
من بعدهم، لأنهم خدامها وعمارها. قال فرعون: فَماذا تَأْمُرُونَ أي: تُشيرون عليَّ أن أفعل؟
قالُوا أَرْجِهْ أي: أخّره وَأَخاهُ أي: أخرّهما حتى تنظر في أمرهما، وقيل: أمروه بسجنهما، وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ أي: مدائن عمالتك حاشِرِينَ يحشرون لك السحرة، يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ.
ثم ذكر مجيئهم، وما كان من أمرهم مع موسى عليه السلام، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١١٣ الى ١١٩]
وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (١١٣) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (١١٤) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (١١٥) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (١١٦) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (١١٧)
فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١١٨) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (١١٩)
قلت: من قرأ: (أئن) بهمزتين، فهو اسم استفهام، ومَن قرأ بهمزة واحدة، فيحتمل أن يكون خبرًا، كأنهم قالوا:
لا بد لنا من أجر، أو استفهامًا حُذفت منه الهمزة، والتنكير للتعظيم، واستأنف الجملة، كأنها جواب عن سائل قال:
فماذا قالوا إذ جاءوا؟ قالوا: إن لنا لأجرًا... الخ، و (إنكم) : عطف على ما سدّ مسده نعم، من تمام الجواب، كأنه قال:
نعم نعطيكم الأجر ونقربكم.
يقول الحق جلّ جلاله: وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرطة في طلبهم، قالُوا لما وصلوا إليه: إِنَّ أئن لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى؟ قالَ نَعَمْ إن لكم أجرًا وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ إليّ. فأنعم لهم بالأجر، وزادهم التقريب منه والجاه عنده تحريضًا لهم. واختُلف في عدد السحرة اختلافًا متباينًا، من سبعين رجلاً إلى سبعين ألفًا، وكل ذلك لا أصل له في صحة النقل.
ولمَّا خرجوا إلى الصحراء لمقابلته قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ خيّروا موسى مراعاة للأدب، وإظهارًا للجلادة، ولكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، ولذلك عبَّروا عن إلقاء موسى بالفعل وعن إلقائهم بالجملة الاسمية، وفيه إشارة إلى أنهم أهل الإلقاء المتمكنون فيه. ولذلك أسعفهم، قالَ أَلْقُوا أسعفهم كرمًا ومسامحة وازدراءً بهم، فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ، بأن خيلوا إليها خلاف ما في حقيقة الأمر، وَاسْتَرْهَبُوهُمْ أي: خوفوهم بما أظهروا لهم من أعمال السحر، وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فَنّه.
رُوِي أنهم ألقوا حبالاً غلاظًا، وخشبًا طوالاً، كأنها حيات، ملأت الوادي، وركب بعضها بعضًا.
وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ، فألقاها، فصارت ثعبانًا عظيمًا، على قدر الجبل، وقيل: إنه طال حتى جاوز النيل، فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ أي: تبتلع ما يَأْفِكُونَ ما يُزَوِّرُونَهُ من إفكهم وكذبهم. رُوِي أنها لما ابتلعت حبالهم وعصيهم، وكانت ملأت الوادي، فابتلعتها بأسرها، أقبلت على الحاضرين، فهربوا وازدحموا حتى هلك منهم جمع عظيم، ثم أخذها موسى فصارت عصًا كما كانت، فقال السحرة: لو كان هذا سحرًا لبقيت حبالنا وعصينا.
فَوَقَعَ الْحَقُّ أي: ثبت بظهور أمره، وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ. فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي:
صاروا أذلاء مبهوتين، أو انقلبوا إلى المدينة مقهورين.
ولما رأى السحرة ذلك علموا أنه ليس من طوق البشر، وليس هو من السحر، فتحققوا أنه من عند الله، فآمنوا، كما أشار إليه بقوله:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٠ الى ١٢٦]
وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (١٢٠) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (١٢١) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (١٢٢) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (١٢٤)
قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (١٢٥) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (١٢٦)
يقول الحق جلّ جلاله: وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ على وجوههم ساجِدِينَ لما عرفوا الحق وتحققوا به، فآمنوا لأن الحق بهرهم، واضطرهم إلى السجود بحيث لم يتمالكوا، أو ألهمهم الله ذلك وحملهم عليه، حتى ينكسر فرعون بالذين أراد بهم كسر موسى، وينقلب الأمر عليه.
قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ. رَبِّ مُوسى وَهارُونَ أبدلوا الثاني من الأول لئلا يتوهم أنهم أرادوا به فرعون.
قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ أي: بالله أو بموسى، قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ، إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي: إن هذه لَحيلة صنعتموها أنتم وموسى فِي الْمَدِينَةِ في مصر، ودبرتموها قبل أن تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها أي: القبط، وتخلص لكم ولبني إسرائيل، فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما صنعتم.
ثم فصّل ما هددهم به، فقال: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ من كل شق عضو، كَيَدٍ ورِجل من كل واحد، ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحًا لكم وتنكيلاً لأمثالكم، وليس في القرآن أنه أنفذ ذلك، ولكن رُوِي عن ابن عباس وغيره أنه فعله. قيل: إنه أول من سنَّ ذلك- أي: القطع من خلاف- فشرعه الله للقطاع تعظيمًا لجرمهم، فلذلك سماه الله محاربة لله ورسوله.
قالُوا أي: السحرة لما خوفهم: إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت، فيكرم مثوانا، فلا نُبالي بوعيدك، كأنهم اشتاقوا إلى اللقاء، فهان عليهم وعيده، أو إنا وأنت إلى ربنا منقلبون، فيحكم بيننا وبينك، وَما تَنْقِمُ مِنَّا أي: وما تعيب علينا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا، وهو لا يعاب عند العقلاء، لأنه خير الأعمال، وأصل المناقب ومحاسن الخلال، ثم فزعوا إلى الله فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: اصبب علينا صبرًا يغمرنا، كما يُفرغ الماء على الشيء فيغمره، وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام. قال البيضاوي: قيل: إنه فعل بهم ذلك، وقيل: إنه لم يقدر عليه، لقوله: أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «١». هـ. وقد تقدم قول ابن عباس وغيره. والله تعالى أعلم.
الإشارة: انظر مَن سبقت له العناية، هؤلاء السحرة جاءوا يُحادون الله فأمسوا أولياء الله، فكم من خصوص تخرج من اللصوص، وانظر أيضًا صبرهم وثباتهم على دينهم، وعدم مبالاتهم بعدوهم، هكذا ينبغي أن يكون مَن مراده مولاه، لا يلتفت إلى شيء سواه، وعند هذه التصرفات يفتضح المُدّعُون ويثبت الصادقون، عند الامتحان يعز المرء أو يهان.
ثم قال تعالى في تتمة قصة موسى عليه السلام:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٢٧ الى ١٢٩]
وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٧) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (١٢٨) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (١٢٩)
(١) من الآية ٣٥ من سورة القصص.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ أي: تتركهم يخالفون دينك لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ أي: يخربوا ملكك بتغيير دينك ودعوتهم إلى مخالفتك، وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ أي:
يترك موسى دينك ومعبوداتك التي تعبد، قيل: كان يعبد الكواكب، وقيل: صنع لقومه أصنامًا وأمرهم أن يعبدوها تقربًا إليه. ولذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «١». قال فرعون في جوابهم: سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ أي: ذكورهم وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: بناتهم، كما كنا نفعل من قبل، ليُعلم أَنَّا على ما كنا عليه من القهر والغلبة، ولا يتوهم أنه المولود الذي حكم المنجمون والكهنة بذهاب ملكنا على يديه. وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون، وهم مقهورون تحت أيدينا.
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا، قاله تسكينًا لهم حين سمعوا قول فرعون وما هددهم به، ثم قال لهم: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وسيورثها لكم إن صبرتم وآمنتم. وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، فتكون العاقبة لكم إن اتقيتم، وهو وعدٌ لهم بالنصر والعز، وتذكير بما وعدهم من إهلاك القبط وتوريثهم ديارهم وملكهم.
قالُوا أي: بنو إسرائيل: أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بقتل الأبناء، وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا بإعادته، فلم يرتفع عنا الذل بمجيئك، قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ، تصريحًا بما كِنّى عنه أولاً، لما رأى أنهم لم يتسلوا بذلك، ولعله أتى بحرف الطمع، أي: الترجي لعدم جزمه بأنهم المستخلَفون بأعيانهم، أو أولادهم، وقد رُوِي أن مصر إنما فتح لهم في زمن داود عليه السلام. قاله البيضاوي. فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي: فإذا استخلفكم يرى ما تعملون من شكر أو كفران، أو طاعة أو عصيان، فيجازيكم على حسب ما يُوجد منكم من كفر أو إحسان.
الإشارة: ما وقع للأنبياء مع قومهم وقع مثله لأشياخ هذه الأمة وفقرائها مع أهل زمانهم، ولما كثرت الأحوال من الفقر أو خرق العوائد، وظهروا بتخريب ظواهرهم، وقعت بهم الشكاية إلى السلطان، وقالوا له: هؤلاء يخربون ملكك، فآل على نفسه إنَّ مكنه الله منهم لا يترك منهم أحدًا، فكفى الله بأسه، فاستعانوا بالله وصبروا، واشتغلوا بذكر الله، وغابوا عمن سواه، فكانت العاقبة للمتقين.
ثم ذكر ابتلاءه لقوم فرعون، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٠ الى ١٣١]
وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (١٣٠) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣١)
(١) كما جاء فى الآية ٢٤ من سورة النازعات.
قلت: عبَّر في جانب الحسنة بإذا، المفيدة للتحقيق، وعرَّف الحسنة لكثرة وقوعها، وعبَّر في جانب السيئة بإن المفيدة للشك، ونكّر السيئة لنُدورها.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ أي: بالجدب والقحط لقلة الأمطار والمياه، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة العاهات، لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ أي: لكي ينتبهوا أن ذلك من شؤم كفرهم ومعاصيهم، ويتعظوا، وترق قلوبهم بالشدائد، فيفزعوا إلى الله، ويرغبوا فيما عنده.
فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب والسعة والرخاء، قالُوا لَنا هذِهِ أي: قالوا: هذه لنا ولسعودنا، ونحن مستحقون له. وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ: جدب وبلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أي: يتشاءموا بهم، ويقولون: ما أصابتنا إلا بشؤمهم، وهذا إغراق في وصفهم بالغباوة والقساوة فإن الشدائد تُرقق القلوب، وتُذلل العرائك أي: الطبائع، وتُزيل التماسك، سيما بعد مشاهدة الآيات، وهي لم تؤثر فيهم، بل زادوا عندها عتوًا وانهماكًا في الغي.
قال تعالى: أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سبب طائرهم وشرهم عنده، وهو حكمه ومشيئه، أو سبب شؤمهم عند الله، وهو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنها التي ساقت إليهم ما يسوؤهم. قال ابن جزي: أي: حظهم ونصيبهم الذي قدر لهم من الخير والشر عند الله، وهو مأخوذ من زجر الطير، ثم سمى به مَا يُصيب الإنسان، ومقصود الآية: الرد عليهم فيما نسبوا إلى موسى من الشؤم. هـ. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن ما يصيبهم من الله تعالى بلا واسطة، أو من شؤم أعمالهم.
الإشارة: هذه الخصلة جارية أيضًا في هذه الأمة، أعني التطاير، ترى العوام إذا نزل بهم بلاء أو شدة قالوا:
بظهور هؤلاء وقع بنا ما وقع، ولقد سمعتُ ممن حكى لي هذه المقالة عن العامة وقت ابتداء ظهور الفقراء، وذلك أنهم آذوهم أذى شديدًا، فأرسل الله عليهم كثرة الأمطار كادت أن تكون طوفانًا، فقالوا: ما أصابنا هذا إلا من شؤم هذه المرقعات التي ظهرت، ولم يدروا أن ذلك منهم لإذايتهم أهل الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر عتو آل فرعون، وعقوبته لهم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٢ الى ١٣٧]
وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (١٣٢) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (١٣٣) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٣٤) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (١٣٥) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٣٦)
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (١٣٧)
250
قلت: (مهما) : اسم شرط جازم، و (تأتنا) : شرطها، وجملة (فما نحن) : جوابها، قيل: مركبة، وأصلها: «ما» الشرطية، ضُمت إليها «ما» الزائدة، نحو: أينما، ثم قُلبت الألف هاء، والمشهور: أنها بسيطة، ومحلها: رفع بالابتداء، أو نصب بفعل يفسره: «تأتنا»، والضمير في: «به» عائد على «مهما».
يقول الحق جلّ جلاله: وَقالُوا أي: فرعون وقومه: مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ، وإنما سموها آية على زعم موسى، لا لاعتقادهم، ولذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها أي: لتسحر بها أعيننا وتشبه علينا، فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. وهذا من عظيم عتوهم وانهماكهم في الكفر.
قال تعالى: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وهو مطر شديد نزل بهم مع فيض النيل، حتى هدم بيوتهم وكادوا يهلكون، وامتنعوا من الزراعة، وقيل: الطاعون، وقيل: الجدري، وقيل الموتان، وَالْجَرادَ وهو المعروف، أكل زروعهم وثمارهم، حتى أكل ثيابهم وأبوابهم وسقف بيوتهم، وَالْقُمَّلَ قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها، وقيل: البراغيث، وقيل السوس، والتحقيق: أنه صغار القراد، دخل ثيابهم وشعورهم ولحاهم، وقرىء: «القَملَ» بفتح القاف وهو القمل المعروف، دخل ثيابهم وامتلأت منها، وَالضَّفادِعَ، وهي المعروفة، كثرت عندهم حتى امتلأت بها فروشهم وأوانيهم، وإذا تكلم أحدهم وثب الضفدع إلى فيه. وَالدَّمَ صارت مياههم دمًا، فكان يستسقي من البئر القبطي والإسرائيلي في إناء واحد، فيخرج ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء.
قال البيضاوي: رُوِي أنهم مُطِروا ثمانية أيام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته، ودخل الماء بيوتهم حتى قاموا فيه إلى تراقيهم، وكانت بيوت بني إسرائيل متصلة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، وركب على أرضهم فمنعتهم من الحرث والتصرف فيها، ودام ذلك عليهم أسبوعًا، فقالوا لموسى عليه السلام: أدع لنا ربك بما عهد
251
عندك يكشف عنا ونحن نؤمن بك، فدعا الله فكشف عنهم، ونبت لهم من الكلأ والزرع والثمار ما لم يعهد مثله، ولم يؤمنوا، فبعث الله عليهم الجراد فأكلت زرعهم وثمارهم، ثم أخذت تأكل الأبواب والسقوف والثياب، ففزعوا إليه ثانيًا، فدعا، وخرج إلى الصحراء، وأشار بعصاه نحو المشرق والمغرب، فرجعت إلى النواحي التي جاءت منها، فلم يؤمنوا، فسلط عليهم القمل وأكل ما أبقاه الجراد، فكان يقع في أطعمتهم ويدخل في ثيابهم وجلودهم فيمصها، ففزعوا إليه فرفع عنهم، فقالوا: قدتحققنا الآن أنك ساحر، ثم أرسل الله عليهم الضفادع بحيث لا ينكشف ثوب ولا طعام إلا وُجدت فيه، وكانت تملأ مضاجعهم، وتثب إلى قدورهم وهي تغلي وأفواههم عند التكلم، ففزعوا وتضرعوا، فأخذ عليهم العهود ودعا فكشف الله عنهم، ثم نقضوا العهد، فأرسل الله عليهم الدم، فصارت مياههم دمًا، حتى يجتمع القبطي مع الإسرائيلي على الماء، فيكون ما يلي القبطي دمًا، وما يلي الإسرائيلي ماء، ويمص الماء من فم الإسرائيلي فيصير دمًا في فيه، وقيل: سلط عليهم الرعاف. هـ.
آياتٍ أي: حال كون ما تقدم آيات مُفَصَّلاتٍ، مبينات، لا تشكل على عاقل أنها آيات الله ونقمته.
قيل: كان بين كل واحدة منها شهر، وامتداد كل واحدة أسبوعًا، وقيل: إن موسى ثبت فيهم، بعد ما غلب السحرة، عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل، فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ أي:
عادتهم الإجرام.
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني: العذاب المفصل، أو الطاعون الذي أرسله عليهم بعد ذلك، قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ أي: بعهده عندك، وهو النبوة، أو بالذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك. والمعنى: ادع الله متوسلاً إليه بما عهد عندك من النبوة والجاه، أو بدعائك إليه ووسائلك، لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ: العذاب لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ أي: أقسمنا بعهد الله لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لنؤمن لك وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ كما طلبت، قال تعالى: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إلى حد من الزمان هم بالغوه ثم يُهلكون، وهو وقت الغرق أو الموت، وقيل: إلى أجل عينوه لإيمانهم، إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لَمَّا»، أي: فلما كشفنا عنهم جاءوا بالنكث من غير تأمل ولا توقف، فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: فأردنا الانتقام منهم، فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ أي: البحر الذي لا يدرك قعره أو لجته، بِأَنَّهُمْ أي: بسبب أنهم كَذَّبُوا بِآياتِنا التي أرسلناها عليهم. وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: أغرقناهم بسبب تكذيبهم بالآيات وعدم فكرهم فيها حتى صاروا كالغافلين عنها.
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستبعاد وذبح الأبناء مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا يعني:
أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتمكنوا من نواحيها الَّتِي بارَكْنا فِيها بالخصب وسعة العيش، وهي أرض الشام. وزاد ابن جزي: ومصر.
252
وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: نفذت ومضت واستقرت، والكلمة هنا: ما قضى في الأزل من إنقاذهم من عدوهم، وقيل: قوله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ «١» وكانت حسنى لما فيها من النصر والعز، بِما صَبَرُوا أي: بسبب صبرهم على الشدائد وَدَمَّرْنا أي: خربنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ من القصور والعمارات، وَما كانُوا يَعْرِشُونَ من البنيان المرتفع كصرح هامان، أو ما كانوا يرفعون من الكروم في البساتين على العرشان، فالأول من العرش، والثاني من العَريش.
الإشارة: قد جرت عادة الله في خلقه أن يظهر الخواص من عباده، فَيُنكَرُوا أو يستضعفوا، حتى إذا طهروا من البقايا وتمكنوا من شهود الحق، مَنَّ الله عليهم بالعز والنصر والتمكين، فمنهم من يمكن من التصرف في الحس والمعنى، ويقره الوجود بأسره، ومنهم من يمكن من التصرف في الكون بهمته، ولكنه تحت أستار الخمول، لا يعرفه إلا من اصطفاه لحضرته، وهذا من شهداء الملكوت، ضنَّ به الحق تعالى فلم يظهره لخلقه. والله تعالى أعلم وأحكم.
ثم ذكر نجاة موسى عليه السّلام وقومه من فرعون، وخروجهم إلى الشام، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٣٨ الى ١٤١]
وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (١٣٨) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٣٩) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (١٤٠) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (١٤١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ أي: قطعنا بهم الْبَحْرَ، رُوِي أنهم عبروه يوم عاشوراء، بعد مهلك فرعون، فصاموه شكرًا، فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ أي: مروا على قوم من العمالقة، وقيل: من لخم، يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ أي: يقيمون على عبادتها، قيل: كانت تماثيل البقر، وذلك أول شأن عبادة العجل،
(١) من الآية ٥ من سورة القصص.
253
وهؤلاء القوم، قيل: هم الجبارُون الذين أمر موسى بقتالهم بعد وصوله إلى الشام، ولما رأهم بنو إسرائيل قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً أي: مثالاً نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها، قالَ لهم موسى عليه السلام:
إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ، وَصَفَهُم بالجهل المطلق، وأكده بإن لبُعد ما صدر منهم، بعد ما رأوا من الآيات الكبرى.
قال البيضاوي: ذكر ما أحدثه بنو إسرائيل من الأمور الشنيعة بعد أن مَنَّ الله تعالى عليهم بالنعم الجسام، وآراهم من الآيات العظام، تسليةً لرسول الله صلى الله عليه وسلّم عما كان يرى منهم ويلقى من التشغيب، وإيقاظًا للمؤمنين حتى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم ومراقبة أحوالهم. هـ. وذكر في «القوت» أن يهوديًّا قال لعلى رضى الله عنه: كيف اختلفتم وضربتم وجوه بعضكم بالسيف، ونبيكم قريب عهد بكم؟ فقال: أنتم لم تجف أقدامكم من ماء البحر حتى قلتم:
اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ. هـ.
ثم قال لهم موسى عليه السّلام: إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ: مدمر هالك ما هُمْ فِيهِ يعني: أن الله تعالى يهدم دينهم الذي هم فيه، ويحطم أصنامهم ويجعلها رضاضًا. وَباطِلٌ: مضمحل ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها، وإن قصدوا بها التقرُّب إلى الله تعالى، وإنما بالغ في هذا الكلام تنفيرًا وتحذيرًا عما طلبوا. قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ أطلب لكم إِلهاً أي: معبودًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ أي: والحال أنه قد خصكم بنعم لم يُعطها غيركم، وفيه تنبيه على سوء مقابلتهم حيث قابلوا تخصيص الله لهم بما استحقوه تفضلاً، بأن قصدوا أن يشركوا به أخس شيء من مخلوقاته وأبلدَه، وهو البقر.
وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أي: ، واذكروا صُنعه معكم في هذا الوقت حيث نجاكم من فرعون ورهطه يَسُومُونَكُمْ أي: يذيقونكم سُوءَ الْعَذابِ، ثم بينَّه بقوله: يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ ذكوركم وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أي: بناتكم، وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ أي: وفي ذلك القتل امتحان عظيم، أو في ذلك الإنجاء نعمة عظيمة وامتنان عظيم.
الإشارة: من جاوز بحر التوحيد وحاد عنه، ولم يغرق فيه، لا يخلو من طلب شرك جلي أو خفي لأن النفس ما دامت لم تغرق في بحر الوحدة، ولم تسبها جمال المعاني، قطعًا تميل إلى شيء من جمال الحس، لأن الروح في أصلها عشاقة، إن لم تعشق جمال الحضرة تعشق جمال الحس، ومن ركن إلى شيء مما سوى الله فهو شرك عند الموحدين من المحققين، ويؤخذ من الآية أن شكر النعم هو تلخيص التوحيد، وانفراد الوجهة إلى الله تعالى لأن بني إسرائيل لمَّا أنعم الله عليهم بالإنجاء وفلق البحر قابلوا ذلك بطلب الشرك، فسقطو من عين الله واستمر ذلهم إلى يوم القيامة. والله تعالى أعلم.
254
ولما استقر بنو إسرائيل بالشام طلبوا من نبيهم نزول الكتاب وتقرير الشرائع، كما أشار إلى ذلك الحق تعالى بقوله:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٢]
وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (١٤٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَواعَدْنا مُوسى لإنزال الكتاب ثَلاثِينَ لَيْلَةً من ذي القعدة، وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجة، فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ بالغًا أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، رُوِي أنه عليه السلام وعد بني إسرائيل، بمصر، أن يأتيهم بعد مهلك فرعون بكتاب من الله تعالى، فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلما هلك فرعون سأل ربه فأمره بصوم ثلاثين، فلما أتم أنكر خلوف فيه فتسوك، فقالت الملائكة: كنا نشم منك رائحة المسك فأفسدتَه بالسواك، فأمره الله تعالى أن يزيد عليها عشرًا، ثم أنزل عليه التوراة.
وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ، عند ذهابه إلى الطور للمناجاة: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي أي: كن خليفتي فيهم وَأَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم، أو كن مصلحًا، وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ أي: لا تتبع سبيل من يسلك الإفساد، ولا تطع من دعاك إليه.
الإشارة: كل من انقطع إلى الله تعالى بكليته واعتزل عن الخلق، وأخلى قلبه عما سوى الحق، حصلت له المناجاة والمكالمة، كما وقعت للكليم عليه السلام، وكل ما منحه الله للأنبياء يكون منه نصيب للأولياء من هذه الأمة، والله تعالى أعلم. وفي الحديث: «من أخلص لله أربَعِينَ صبَاحًا ظَهَرَت يَنابِيعُ الحِكمَةِ مِن قَلبِهِ عَلَى لِسَانِه» «١».
قال بعض الحكماء: والسر في ذلك أن الله تعالى أمر بطينة آدم فخمرت في الماء أربعين يومًا، فتربى فيها أربعون حجابًا، فلولا تلك الحجب ما استطاع المقام في الأرض، فمن أيده الله على زوالها تشبه بالملأ الأعلى، وخرقت له العوائد، وأشرق النور من قلبه. ولهذا المعنى بقي داود عليه السلام ساجدًا أربعين يومًا، فقبلت توبته، ومكث إبراهيم عليه السلام في نار النمرود أربعين يومًا، فاتخذه الله خليلاً، وكان بعد ذلك يقول: ما رأيت أحلى من تلك الأيام، فمن أخلص في عبادته وأزال تلك الحجب عن قلبه كان ربانيًا. قال تعالى: وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ «٢». انظر الشطيبى.
ويوخذ من الآية أن الشيخ إذا أراد أن يسافر من زاويته ينبغي له أن يخلف خليفة عنه ليقوم له بنظام الزاوية، إذ لا خير في قوم ليس فيهم من يعظهم في الله. وبالله التوفيق.
(١) أخرجه أبو نعيم فى الحلية، بسند ضعيف عن أبى أيوب. ورواه أحمد بنحوه عن مكحول مرسلا. راجع كشف الخفاء (٢/ ٢٢٤).
(٢) من الآية ٧٩ من سورة آل عمران.
ولما سمع سيدنا موسى عليه السلام كلام الحق بلا واسطة، طمع فى الرؤية بلا واسطة، كما قال تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٤٣]
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (١٤٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا الذي وقتنا له وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة كما يكلم الملائكة. وفيما رُوِي: أنه كان يسمع ذلك الكلام من كل جهة، وفيه تنبيه على أن سماع كلامه القديم ليس من جنس كلام المحدثين. قاله البيضاوي. وقال الورتجبي: أي: أسمع عجائب كلامه كليمه ليعرفه بكلامه لأن كلامه مفاتيح كنوز الصفات والذات. هـ. وقال ابن جزي: لما سمع موسى كلام الله طمع في رؤيته، فسألها، كما قال الشاعر:
وأبرحُ ما يَكُونُ الشَّوقُ يَومًا إذا دَنَت الديارُ من الدَّيَارِ.
قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ أي: أرني نفسك أنظر إليك، بأن تكشف الحجب عني، حتى أنظر إلى ذاتك المقدسة من غير واسطة، كما أسمعتني كلامك من غير واسطة. قال البيضاوي: وهو دليل على أن رؤيته تعالى جائزة في الجملة لأن طلب المستحيل من الأنبياء محال، وخصوصًا ما يقتضي الجهل بالله، ولذلك رده بقوله تعالى: لَنْ تَرانِي دون لن أُرِى ولن أريك، ولن تنظر إليّ، تنبيهًا على أنه قاصر عن رؤيته لتوقفها على حال في الرائي، لم توجد فيه بعدُ، وجعلُ السؤال لتبكيت قومه الذين قالوا: أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «١» خطأ، إذ لو كانت الرؤية ممتنعة لوجب أن يجهلهم ويزيح شبههم، كما فعل بهم حين قالوا: اجْعَلْ لَنا إِلهاً «٢»، والاستدلال بالجواب على استحالتها أشد خطأ إذ لا يدل الإخبار عن عدم رؤيته أياه على أنه لا يراه أبدًا، وألا يراه غيره أصلاً، فضلاً عن أن يدل على استحالتها. ودعوى الضرورة فيه مكابرة وجهالة بحقيقة الرؤية. هـ.
وهو تعريض بالزمخشري وردُّ عليه، فإنه هنا أطلق لسانه في أهل السنة- عفا الله عنه-. والتحقيق: أن رؤيته تعالى برداء الكبرياء- وهي أنوار الصفات- جائزة واقعة-، وأما رؤية أسرار الذات- وهي المعاني الأزلية، التي هي كنه الربوبية- فغير جائزة إذ لو ظهرت تلك الأسرار لتلاشت الأكوان واضمحلت، ولعل هذا المعنى هو الذي طلب سيدنا موسى عليه السلام، فلذلك قال له: لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ عند تجلى هذه
(١) من الآية ١٥٣ من سورة النساء.
(٢) من الآية ١٣٨ من سورة الأعراف.
256
الأسرار له، فَسَوْفَ تَرانِي، فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: أظهر له شيئًا من أنوار الربوبية التي هي أسرار المعاني الأزلية، جَعَلَهُ دَكًّا أي: مدكوكًا مفتتًا، والدك والدق واحد. وقرأ حمزة: «دكاء» بالمد، أي: أرضًا مستوية، ومنه: ناقة دكاء لاسنم لها. وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيًا عليه من هول ما رأى، فَلَمَّا أَفاقَ قالَ تعظيمًا لما رأى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة والإقدام على السؤال بغير إذن، وقال بعضهم: تُبتُ إليك من عدم الاكتفاء بقوله: لَنْ تَرانِي حتى نظر إلى الجبل، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أنك لا تُرى بلا واسطة نور الصفات، أو أول أهل زماني إيمانًا.
الإشارة: رؤية الحق جائزة واقعة عند الصوفية في الدارين، ولكن لا ينالها في هذه الدار إلا خواص الخواص، ويُعبّرون عنها بالشهود والعيان، ولا يكون ذلك إلا بعد الفناء، وفناء الفناء بعد موت النفس وقتلها، ثم الغيبة عن حسها ورسمها، تكون بعد التهذيب والتدريب والتربية على يد شيخ كامل، لا يزال يسير به ويقطع به في المقامات، ويغيبه عن نفسه ورؤية وجوده، حتى يقول له: ها أنت وربك، وذلك أن الحق جل جلاله تجلى لعباده بأسرار المعاني خلف رداء الأواني، وهو حس الأكوان، فأسرار المعاني لا يمكن ظهورها إلا بواسطة الأواني، أو تقول:
أسرار الذات لا تظهر إلا في أنوار الصفات، فلو ظهرت أسرار الذات بلا واسطة لاضمحلت الأشياء واحترقت، كما في الحديث: «حِجَابُهُ النُّورُ، لَو كشَفَهُ لأحرقَت سُبُحَاتُ وَجههِ ما أنتَهَى إلَيه بَصَرُهُ مِنْ خلَقِهِ» «١».
فالمراد بالنور نور الصفات، وهو الأواني الحاملة للمعاني، لو كشف ذلك النور حتى تظهر أسرار الذات لأحرقت كلَّ شيء ادركه بصره. والواسطة عند المحققين هى عين الموسوط، فلا يزال المريد يفنى عن عين الواسطة في شهود الموسوط حتى يغيب عن الواسطة بالكلية، أو تقول: لا يزال يغيب عن الأواني بشهود المعاني حتى تشرق شمس العرفان، فتغيب الأواني في ظهور المعاني، فيقع العيان على فقد الأعيان، «كان الله ولا شيء معه، وهو الآن على ما عليه كان»، «ما حجبك عن الحق وجود موجود معه، إذ لا شيء معه، وإنما حجبك توهُّم موجود معه».
والحاصل: أن الحق تعالى تكون رؤيته أولاً بالبصيرة دون البصر، لأن البصيرة تدرك المعاني، والبصر يدرك الحسيات، فإذا انفتحت البصيرة استولى نورها على نور البصر، فلا يرى البصر حينئذٍ إلا ما تراه البصيرة. قال بعض العارفين: هذه المزية العظمى- وهي رؤية الحق تعالى- في الدنيا على هذا الوجه: خاص بخواص الأمة
(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان- باب فى قوله صلّى الله عليه وسلّم: إن الله لاينام) من حديث أبى موسى.
257
المحمدية- دون سائر الأمم- وراثة عن نبيهم صلّى الله عليه وسلّم، فإنه خص بالرؤية دون غيره من الأنبياء. وإلى ذلك أشار ابن الفارض في تائيته، مترجمًا بلسان الحقيقة المحمدية، حيث قال:
ودونَكَ بحرًا خُضتُهُ، وقَف الألي بساحِلِه، صَونًا لمَوضِع حُرمتي
ولا تقرَبُوا مالَ اليتيمِ إشارةٌ لكَفَّ يدٍ صُدَّت له، إذ تَصَّدِت
وما نالَ شيئًا منُه غيري سوى فتىً على قَدَمي في القبض والبسطِ ما فتى
قال شارحه القاشاني: أراد بهذا البحر: الرؤية التي مُنع منها موسى عليه السلام، وخص بها محمد- عليه الصلاة السلام- وأفراد من أتباعه. ثم قال: ورد في الخبر: أنه لما أفاق موسى عليه السلام من صعقته قيل له: ليس ذلك لك، ذلك ليتيم يأتي من بعدك، ثم قال: سبحانك تبتُ إليك عما تعديتُ لما ليس لي، وأنا أول المؤمنين بتخصيص محمد صلى الله عليه وسلّم بهذا المقام. هـ.
وقيل في قوله: فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ أي: جبل العقل، بحيث طمس نوره بنور شمس العرفان، وخر موسى صعقًا، أي: ذهب وجوده في وجود محبوبه، وحصل له الزوال في مكان الفناء والسكر، فلما أفاق ورجع إلى البقاء تمسك بمقام العبودية والأدب مع الربوبية فقال: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ من رؤية جبل الحس قبل شهود نور المعنى، وأنا أول المؤمنين بأن نور المعاني خلف رداء الأواني، لا يدرك إلا بعد الصعقة، والله تعالى أعلم.
ثم ذكر نزول التوراة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٤ الى ١٤٧]
قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (١٤٥) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (١٤٦) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٤٧)
258
قلت: الرُّشد والرَّشَد: لغتان، قُرىء بهما.
يقول الحق جلّ جلاله: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ الموجودين في زمانك، وهارون، وإن كان نبيًا، كان مأمورًا باتباعه، ولم يكن كليما ولا صاحب شرع. فقد اصطفيتك على أهل زمانك بِرِسالاتِي لك إليهم، ومن قرأ بالجمع فالمراد: أوقات التبليغ بأنواع الأحكام أو أسفار التوراة، وَخصصتك بِكَلامِي، وقد شاركه نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم مع زيادة الرؤية، فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أي: أعطيتك من الرسالة والتكليم، وأقنع بهما ولا تطلب غير ذلك، وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على هذه النعمة، وفيه نوع تأديب له.
رُوِي أن سؤال الرؤية كان يوم عرفة، وأعطاه التوراة يوم النحر.
قال تعالى: وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاجون إليه مَوْعِظَةً أي: تذكيرًا وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ يتوقفون عليه في الأحكام والوعظ. واختلف في الألواح: هل كانت سبعة أو عشرة أو اثنين، وهل كانت من زمرد أو زبرجد أو ياقوت أحمر، أو خشب، أو صخرة صماء، شقها الله تعالى لموسى عليه السلام فقطعها بيده، وكان فيها التوراة.
قال تعالى لموسى عليه السلام: فَخُذْها أي: الألواح أو الرسالة بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد، وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها بأحسن ما فيها، فإن فيها ما هو حسن وأحسن منه كالقصاص مع العفو، أو بواجباتها، فإن الواجب أفضل من المندوب، وهذا كقوله في كتابنا: وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَآ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «١»، ويجوز أن يراد بالأحسن: البالغ في الحسن مطلقًا، لا بالإضافة إلى غيره، كقولهم: الصيف أحر من الشتاء، فيكون الأمر بأخذ كل ما فيها لأنه بالغ الحسن، ثم بشرهم بخراب ملك عدوهم، فقال: سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ أي: دار فرعون وقومه خاوية على عروشها، أي: أريكم كيف أقفَرَت منهم لمّا هلكوا، وقيل: منازل عاد وثمود ومن هلك من الأمم، لتعتبروا بها، وقيل: جهنم.
وقرأ ابن عباس: «سأورثكم» بالثاء المثلثة، كقوله: وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ «٢».
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة في الآفاق والأنفس الدالة على قدرتنا ووحدانيتنا من عجائب المصنوعات فلا يتفكرون فيها، أو القرآن وغيره من الكتب، أصرفُ عنها الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم فلا يتفكرون فيها، ولا يعتبرون، ولا يؤمنون بها، عقوبة لهم على تكبرهم، وقيل: الصرف: منعهم من إبطالها
(١) من الآية ٥٥ من سورة الزمر.
(٢) من الآية ٥٩ من سورة الشعراء.
259
وإطفاء نورها، وإن اجتهدوا، كما فعل فرعون وغيره، فعاد عليهم بإعلائها وإظهار نورها، وذلك التكبر صدر منهم بِغَيْرِ الْحَقِّ أي: تكبروا بما ليس بحق، وهو دينهم الباطل.
وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ مُنزلةٍ أو معجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم، واختلال نظرهم، بسبب انهماكهم في الهوى وحب الجاه، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ أي: طريق الصواب والحق يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطان عليهم، وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ أي: الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا أي: يسلكونه ويتبعونه، لأن سجيتهم الضلال، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم وعدم تدبرهم الآيات.
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ أي: وبلقائهم الدار الآخرة، أو: ما وعد الله في الآخرة، حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها، هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لا يجزون إلا مقدار أعمالهم.
وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً «١».
الإشارة: كل من أقامه الله في مقام من المقامات، أو حال من الأحوال، كيفما كان، يقال له: خذ ما آتيتك، واقنع بما أوليتك، وكن من الشاكرين عليه، وإلا سلبناك ما أعطيناك، فالرضا بالقسمة واجب، وطلب باب الفضل والكرم لازب، والأمر مُبهم، والعواقب مُغيبة، ومنتهى المقام على التعيين لا يعلم إلا بعد الموت. وقوله تعالى:
فَخُذْها بِقُوَّةٍ أي: بجد واجتهاد. قال في الإحياء: الأخذ بالجد أن يكون القارئ متجردًا لله عند قراءته، منصرف الهمة إليه عن غيره، وهو يشير للحضور.
وقوله تعالى: يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها قال الورتجبي: يأخذون بأبينها لهم، وهي المحكمات التي توجب العبودية، ويأخذون بمتشابهها التي هي وصف الصفات بحسن الاعتقاد والتسليم فيها، لأن علومها وحقائقها لا تكشف إلا للربانيين. قال تعالى: وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ... «٢» الآية. هـ. وقوله تعالى:
سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ. قال القشيري: سأحرِمُ المتكبرين بركة الاتباع، حتى لا يتلقوا الآيات التي يُكاشَفَون بها بالقبول، ولا يسمعوا ما يُخَاطَبُون به بسمع الإيمان. هـ.
(١) من الآية ٤٩ من سورة الكهف. [.....]
(٢) الآية ٧ من سورة آل عمران.
260
ثم شرع فى ذكر مساوئ بنى إسرائيل فبدأ بعبادتهم العجل، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٤٨ الى ١٤٩]
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (١٤٨) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (١٤٩)
قلت: «عِجلاً» : مفعول أول لاتخذ، و «جسدًا» : بدل منه، وحذف الثاني- أي: «إلهًا» - لدلالة أوله، و (له خوار) :
نعت له.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد ذهابه للميقات، مِنْ حُلِيِّهِمْ التي كانوا استعاروها من القبط، حين هموا بالخروج من مصر، وإضافتها إليهم لأنها كانت تحت أيديهم، فصنع لهم منها السامري عِجْلًا جَسَداً بلا روح، فألقى في جوفه من تراب أثر فرس جبريل، فصار لَهُ خُوارٌ، فقال لهم: هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، فعكفوا على عبادته، واتخذوه إلهًا.
قال تعالى: أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا أي: ألم يروا، حين اتخذوه إلهًا، أنه لا يقدر على كلام، ولا على إرشاد سبيل، كآحاد البشر، حتى حسبوا أنه خالق الأجسام والقوى والقدر، وهذا تقريع على فرط ضلالتهم وإخلالهم بالنظر. قال تعالى: اتَّخَذُوهُ إلهًا وَكانُوا ظالِمِينَ في اتخاذه، وضعوا الأشياء في غير محلها، أي: كانت عادتهم الظلم، فلم يكن اتخاذ العجل بدعًا منهم.
وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم، فإن النادم المتحسر يعض يده غمًا، فتصير يده مسقوطًا فيها. أو يسقط رأسه، أي: يطأطئها لبعض يده. وقال الدمياميني: العرب تضرب الأمثال بالأعضاء، ولا تريد أعيانها، تقول للنادم: يُسقط في يده، وفي الذليل: رغم أنفه. هـ. أي: ولَمَّا ندموا على ما فعلوا، وَرَأَوْا أي:
علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتخاذ العجل، قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن خطيئتنا، لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ دنيًا وأخرى.
الإشارة: كل مَن ركن إلى شيء وعكف على محبته من دون الله فهو في حقه عجل يعبده من دون الله، «ما أحببتَ شيئاً إلا وكنت عبدًا له، وهو لا يُحب أن تكون عبدًا لغيره». عافانا الله من ذلك.
ثم ذكر رجوع موسى عليه السلام من الطور، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٠ الى ١٥٣]
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١٥٠) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (١٥١) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (١٥٢) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٥٣)
قلت: (بئسما) :«ما» نكرة موصوفة: تمييز، تفسير للضمير المستكن في (بئس)، والمخصوص: محذوف، أي:
بئس شيئًا خلفتموني خلافتكم هذه، و «ابن أم» : منادى مضاف، منصوب بفتحة مقدرة قبل ياء المتكلم، وأصله: ابن أمي، فحذفت الياء، وفتحت الميم تخفيفًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى من ميقاته إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ على قومه، أَسِفاً أي: حزينًا عليهم حيث ضلوا، قالَ لهم، أو لأخيه ومَن معه من المؤمنين: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أي: من بعد انطلاقي إلى المناجاة، أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أي: أسابقتم قضاء ربكم ووعده، واستعجلتم إتياني قبل الوقت الذي قدَّر فيه، أو أعجلتم عقوبة ربكم وإهلاكه لكم حيث عبدتم غيره.
وَأَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدة الغضب حمية للدين، رُوِي أن التوراة كانت سبعة أسفار في سبعة ألواح، فلما ألقاها انكسرت، فرفع ستةَ أسبَاعِها، وكان فيها تفصيل كل شيء، وبقي سُبعٌ كان فيه المواعظ والأحكام، وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ: بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ توهمًا في أنه قصَّر في زجرهم، وهارونُ كان أكبر منه بثلاث سنين، وكان حمولاً لَيِّنًا، ولذلك كان أحبَّ إلى بني إسرائيل، ولما رأى هارونُ ما يفعل به أخوه قالَ ابْنَ أُمَّ، ذكر الأم ليرقّقه، وكان شقيقًا له، إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي حين أنكرتُ عليهم، فقد بذلتُ جهدي في كفهم، وقهروني حتى قاربوا قتلي، فلم أُقَصِّر، فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا تفعل بي ما يشمتون بي، أي:
يستشفون بي لأجله، وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ معدودًا في عدادهم بالمؤاخذة، أو نسبة التقصير.
قالَ موسى: رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعتُ بأخي، وَلِأَخِي إن فرَّط في كفَّهم، وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإنعام علينا، وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم منا على أنفسنا.
262
قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وهو ما أمرهم من قتل أنفسهم، أو الطاعون الذي سلط عليهم، وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وهي ضرب الجزية والهوان إلى يوم القيامة، وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على الله، ولا فرية أعظم من فريتهم، حيث فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى، ولعله لم يفترِ أحدٌ مثلها قبلهم ولا بعدهم، حيث جعلوا البقر إلههم وإله الرسول، نسأل الله الحفظ.
ثم ذكر توبتهم، فقال: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر والمعاصي، ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيئات وَآمَنُوا واشتغلوا بما يقتضيه الإيمان من الأعمال الصالحات، إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ رَحِيمٌ وإن عَظُم الذنب كجريمة عَبَدَة العجل- وكَثُر كجرائم بني إسرائيل.
الإشارة: الغضب لله وبالله، والأسف على دين الله، من أمارة الغَيرة على دين الله، لكنَّ صاحب هذا المقام مالك نفسه، يظهر الغلظة ويبطن الرحمة، قيامًا بشهود الحكمة والقدرة، وأما ما صدر من سيدنا موسى- عليه السلام- فتشريع لأهل التشريع، لئلا يقع التساهل في تغيير المناكر. وساق الإمام الهروي هذه الآية في منازل السائرين في باب المراد، وهو المخصوص من ربه بما لم يُرِده هو ولا خطر بباله، والإشارة بذلك إلى الضَّنَائِن الذين وَرَدَ فيهم الخبر: «إنَّ للهِ ضَنَائِن من خَلقِه، ألبَسَهُم النُور السَّاطِع، وغذاهُم فِي رَحَمِتِه، وفَعَلَ بِهم وفَعَلَ... » أورده الإمام أبو نعيم في الحلية «١».
وحاصله: أن المُرادين هم قوم مخصوصون، ملطوف بهم، محمول عنهم، ومنه: وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ «٢» فقد خص- عليه الصلاة والسلام- بما لم يخطر على باله قبل النبوة.
قال الهروي: والمراد: ثلاث درجات: الدرجة الأولى: أن يُعصمَ العبد وهو مستشرف للجفا اضطرارًا بتنغيص الشهوات وتعويق الملاذ، وسد مسالك المعاطب عليه، إكرامًا، والدرجة الثانية: أن توضع عن العبد عوراض النقص، ويعافيه من سمة اللائمة، ويملكه عواقب الهفوات، كما فعل لسليمان عليه السلام في قتل الخيل حمله على الريح الرُخاء، فأغناه عن الخيل، وكما فعل لموسى عليه السلام حين ألقي الألواح وأخذ برأس أخيه لم يعتب عليه كما عتب على آدم ونوح وداود ويونس- عليهم السلام. هـ.
قال شارحه الإمام عبد المعطي السكندري: وهذه الدرجة أتم في الحمل على الأعمال وركوب الأهوال، والتلطف في تعليم الإقبال مما قبلها، فإن ما قبلها منعٌ من الشهوات، وصيانة عن الآفات جبرًا وقهرًا وحفظًا، وهذا حفظ عنها بإظهار صفح برفق وإكرام ولطف، فتقوى المحبة في القلب، فيحمل ذلك على سرعة الموافقة، ومتى
(١) الجزء الأول ص ٦ بنحوه عن ابن عمر- مرفوعا.
(٢) من الآية ٨٦ من سورة القصص.
263
عرف العبد تقصيره في حق مولاه، ورأى مع ذلك تجاوزه عنه، وإحسانه إليه، فضلاً عن ترك مؤاخذته بما جناه، انغرس في قلبه محبته، وقوى بذلك نشاطه، وخفت عليه الأعمال، وقويت منه الأحوال، فكلاهما محفوظ مُعَان، إلا أن الأول قهر مع تعلقه، وهذا إكرام ولطف بعد جريان هفوته، ثم ذكر الدرجة الثالثة، فانظره. هـ. بنقل المحشى.
ثم كمّل القصة، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٤]
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (١٥٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَمَّا سَكَتَ أي: سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ لَمَّا كان الغضب هو الحامل له على ما فعل صار كأنه كان يأمره به ويغريه عليه، حتى عبَّر عن سكونه بالسكوت، أي: لما سكن غضبه أَخَذَ الْأَلْواحَ التي ألقاها، وَفِي نُسْخَتِها أي: وفيما نسخ فيها، أي: كُتب هُدىً وَرَحْمَةً أي: بيان للحق وإرشاد إلى الصلاح والخير، لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ أي: للذين يخافون ربهم ويهابونه لأنهم هم المنتفعون بها، ودخلت اللام في المفعول لضعف العامل بتأخره.
الإشارة: الغضب لأجل النفس يُفسد الإيمان، كالحنظل مع العسل، ولذلك قال- عليه الصلاة والسلام- للذي قال له: أوصني، قال: «لا تَغضَب»، ثم كرر عليه: أوصني، قال: «لا تَغضَب»، ثلاثًا، لأن الغضب المفرط يغطي نور العقل، فيصدر من صاحبه أمور منكرة، قد يخرج بها عن الإيمان بالكلية، وقد يؤدي إلى قتل نفسه والعياذ بالله، والغضب معيار الصوفية قال بعضهم: إذا أردتَ أن تعرفَ الرجل فغضبه وانظر ما يخرج منه، إلى غير ذلك مما ورد فيه، فإن كان غضبه لله أو بالله فلا كلام عليه، وهو حال الأنبياء وأكابر الأولياء- رضى الله عنهم-.
ولما انقضت قضية العجل أراد سيدنا موسى عليه السلام أن يذهب بقوم، يعتذرون عن عبادة العجل، كما قال تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٥]
وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (١٥٥)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ من قومه سَبْعِينَ رَجُلًا يعتذرون عن قومهم في عبادة العجل، لِمِيقاتِنا الذي وقتنا لهم يأتون إليه، وقيل: إن الله تعالى أمره به بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من كل سبط ستةً، فزاد على السبعين اثنان، فقال: يتخلف منكم رجلان، فتشاجروا، فقال: إن لِمن قعد أجر من خرج، فقعد كالب ويوشع، وذهب معه الباقون، فلما دنوا من الجبل غشية غمام، فدخل موسى بهم الغمام وخروا سُجدًا، فسمعوه يكلم موسى، يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا إليه، وَقَالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «١»، فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الصعقة، أو رجفة الجبل، عقابًا لهم على قولهم، فصعقوا منها، يحتمل أن تكون رجفة موت أو إغماء. والأول أظهر لقوله: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ «٢».
فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ موسى: رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ، تمنى هلاكهم وهلاكه قبل ذلك الوقت، لأنه خاف من تشغيب بني إسرائيل عليه، إن رجع إليهم دون هؤلاء السبعين، ربما قالوا: عرّضهم للهلاك، أو يكون قال ذلك على وجه الاستسلام والانقياد للقضاء، أي: لو شئت أن تُهلكنا من قبل ذلك لفعلت، فإنا عبيدك وتحت قهرك تفعل بنا ما تشاء، أو يكون قاله على وجه التضرع والرغبة، أي: لو شئت أن تهلكنا قبل اليوم لفعلت، لكنك عافيتنا وأنقذتنا وأغرقت عدونا، فافعل بنا الآن كما عودتنا، وأحى هؤلاء الذين أمتهم، إذ ليس ببعيد من عميم إحسانك، أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد والتجاسر على طلب الرؤية، أو بما فعل السفهاء من عبادة العجل.
إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ أي: ابتلاؤك حين أسمعتهم كلامك، حتى طمعوا في الرؤية، أو فتنتك لهم بأن أجريت الصوت من العجل حتى افتتنوا به، وهذا اعتراف بالقدر، ورجوع إلى قوله: فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ... «٣» الآية، ولذلك قيل: إنه قال له تعالى: نعم هي فتنتي يا حكيم الحكماء. هـ. أي: ما هذه الأمور كلها التي صدرت من بني إسرائيل إلا فتنتك تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ ضلالته، باتباع المخايل، وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ هدايته، فيقوي بها إيمانه، وهو اعتذار عن فعل السفهاء فإنه كان بقضاء الله ومشيئته.
أَنْتَ وَلِيُّنا القائم بأمرنا، أو ناصرنا من الوقوع في أسباب المهالك، فَاغْفِرْ لَنا ما قارفنا من الذنوب، وَارْحَمْنا أي: اعصمنا من الوقوع في مثله، وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ تغفر السيئة وتبدلها بالحسنة،
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٥٦ الى ١٥٧]
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (١٥٦) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٥٧)
وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً أي: حالة حسنة من حسن معيشة وتوفيق طاعة، وَفِي الْآخِرَةِ حسنة نعيم الجنة، إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا إليك، من هادَ يهود: إذا رجع، أي: رجعنا إليك بالتوبة مما سلف منا.
(١) من الآية ٥٥ من سورة البقرة.
(٢) من الآية ٥٦ من سورة البقرة.
(٣) الآية ٨٥ من سورة طه.
265
الإشارة: السلامة من العطب هو في مقام الهيبة والأدب، ولذلك قيل: قف بالبساط، وإياك والانبساط. وأما مقام الإدلال فلا يصح إلا من أكابر الأنبياء، والأولياء المحققين بمقام المحبوبية، المتحَفين بغاية الخصوصية، ومنه قول سيدنا موسى عليه السلام: أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا، كما قال في الإحياء. والإدلال: هو انبساط يثور من مقام الأنس والتحقق بالمحبة الخاصة، ولا يتفق إلا من محبوب مأخوذ عنه، ليس عليه بغية من نفسه، ولا شعور بوجوده وأنانيته، وإلا ردّ في وجهه وكان سبب عطبه. ومن الإدلال: ما وقع لأبي الحسن الشاذلي رضى الله عنه في حزبه الكبير، من قوله:
وليس من الكرم إلا تحسن إلا لمن أحسن إليك الخ. وقد وقع لغيره من المحبوبين.
والله تعالى أعلم.
ثم أجاب الحق- سبحانه وتعالى- سؤال موسى عليه السلام في قوله: (واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة) فقال:
قالَ عَذابِي أُصِيبُ...
يقول الحق جلّ جلاله: في جواب سيدنا موسى عليه السلام: قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ ممن أخذّته الرجفة وغيرهم، وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في الدنيا للمؤمنين والكافرين، وفي الآخرة مخصوصة بالمؤمنين، فَسَأَكْتُبُها كتابة خاصة لا تليق بكم يا بني إسرائيل، إنما تليق بالأمة المحمدية الموسومة بالآداب المرضية، الذين يَتَّقُونَ الكفر والمعاصي، وإن وقعت هفوة بادروا إلى التوبة، وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ، خصصها بالذكر لأنها كانت أشق عليهم. وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشيء منها، بل يؤمنون بجميع الكتب والأنبياء، وليس ذلك لغيرهم. ولذلك خصهم الله بهذه الرحمة فَنَصرَهم على جميع الأمم، وأعلى دينهم على جميع الأديان، ومكّن لهم مالم يمكن لغيرهم.
266
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ صلّى الله عليه وسلّم النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ وهو نبينا ومولانا محمد صلى الله عليه وسلّم، وكونه أُميًّا شرفٌ له، إذ الكتابة وسيلة للعلوم، وقد أُعطي منها ما لم يُعطَ أحَدٌ من العالمين، من غير تعب تعلمها، ولارتفاع الارتياب في نبوته صلّى الله عليه وسلّم، فهي من جملة معجزاته قال تعالى: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ... الآية «١». قال بعضهم: لما قال الله تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ طمع فيها كل أحد، حتى إبليس، فلما قال: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ يئس إبليس، وبقيت اليهود والنصارى، فلما قال: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ يئس اليهود والنصارى. هـ.
الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ اسمًا وصفة، ونص ما في التوراة على ما في صحيح البخاري، عن عبد الله بن سلام: «يا أيُّهَا النَبِيُّ إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونَذِيرًا، وحِرزًا للأمِّيينَ، أنتَ عَبدِي ورَسُولِي، سَمَّيتُكَ المُتَوكلَ، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يُجَازِي بالسَّيِّئةَ السَّيِّئة، ولكِن يَعَفُو ويَصفَحُ، ولَن يَقبِضَهُ الله حَتَّى يُقِيمَ بِهِ المِلَّةَ العَوجاءَ بِأن يقولوا: لا إله إلا الله، فَيفَتَح بِها أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلُوبًا غُلفًا» «٢».
ومما في التوراة أيضًا، وهو مما أجمع عليه أهل الكتاب، وهو باق في أيديهم إلى الآن أن الملك قد نزل على إبراهيم، فقال له: في هذا العام يولد لك غلام اسمه إسحاق، فقال إبراهيم: يا رب ليت إسماعيل يعيش يخدمك، فقال الله لإبراهيم: ذلك لك، قد استجيب لك في إسماعيل، وأنا أباركه، وأنميه، وأكثره، وأعظمه بماذماذ، وتفسيره:
محمد صلى الله عليه وسلّم.
ومن ذلك مما في التوراة أيضًا: أن الرب- تعالى- جاء من طور سيناء، وطلع على «ساغين»، وظهر من جبل فاران، ويعنى بطور سيناء: موضع مناجاة موسى، وساغين موضع عيسى، وفاران هي مكة، موضع مولد نبينا محمد صلى الله عليه وسلّم، وفي التوراة أيضًا: أن هاجر أم إسماعيل لما غضبت عليها سارة، تراءى لها ملكٌ، فقال لها: يا هاجر، أين تريدين، ومن أين أقبلتِ؟ فقالت: أهرب من سيدتي سارة، فقال لها: يا هاجر، ارجعي إلى سارة، وستحملين وتلدين ولدًا اسمه إسماعيل، وهو يكون عَين الناس، وتكون يده فوق الجميع، وتكون يد الجميع مبسوطة إليه بالخضوع. هـ.
وهذا الذي وعدها الملك إنما ظهر بمبعث النبي صلى الله عليه وسلّم وظهور دينه وعلو مكانه، ولم يكن ذلك لإسماعيل ولا لغيره من أولاده، لكن الأصل يشرف بشرف فرعه، وفي التوراة أيضًا: أن الله أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: قد أجبت دعاءك في إسماعيل، وباركت عليه، وسيلد اثني عشر عظيمًا، وأجعله لأمة عظيمة. وفي بعض كتبهم: لقد
(١) الآية ٤٨ من سورة العنكبوت.
(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الفتح، باب: «إنَّا أرسلَنَاكَ شَاهِدًا ومُبَشَّرًا ونذيرا» ) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
267
تقطعت السماء من بهاء مُحمدٍ المحمود، وامتلأت الأرض من حمده، لأنه ظهر بخلاص أمته. هـ. ونص ما في الإنجيل: أن المسيح قال للحواريين: إني ذاهب عنكم، وسيأتيكم الفارقَليط، الذي لا يتكلم من قِبل نفسه، إنما يقول كما يقال له. هـ. والفارقليط بالعبرانية: اسم محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقيل معناه: الشافع المشفع.
وعن شَهر بن حَوشبٍ- في قصة إسلام كعب الأحبار، وهو من اليمن من حمير-: أن كعبًا أخبره بأمره، وكيف كان ذلك، وكان أبوه من مؤمني أهل التوراة برسول الله صلى الله عليه وسلّم، قبل ظهوره، قال كعب: وكان أبي من أعلم الناس بالتوراة وكُتب الأنبياء، ولم يكن يدخر عني شيئًا مما كان يعلم، فلما حضرته الوفاة دعاني فقال: يا بني، قد علمتَ أني لم أكن أدخر عنك شيئًا مما كنتُ أعلم، إلا أني حَبَستُ عنك ورقتين فيهما ذكر نبي يُبعث، وقد أطل زمانه، فكرهت أن أخبرك بذلك، فلا آمن عليك بعد وفاتي أن يخرج بعض هؤلاء الكذابين فتتبعه، وقد قطعتهما من كتابي، وجعلتهما في هذه الكوة التي ترى، وطينت عليهما، فلا تتعرض لهما حتى يخرج هذا النبي، فإذا خرج فاتبعه وانظر فيهما، فإن الله تعالى يزيدك بهذا خيرًا، فلما مات والدي لم يكن شيء أحب إلي من أن ينقضي المأتم حتى أنظر ما في الورقتين، فإذا فيهما: «محمد رسول الله صلى الله عليه وسلّم، خاتم النبيين لا نبي بعده، مولده بمكة، ومهاجره طيبة، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يجزي بالسيئة الحسنة، ويعفو ويغفر ويصفح، أمته الحمَّادون، الذين يحمدون الله على كل شرف وعلى كل حال، وتُذلل ألسنتهم بالتكبير، وينصر الله نبيهم على كل من ناوأه، يغسلون فروجهم بالماء، ويتأزرون على أوساطهم، وأنَاجِيلُهُم في صدورهم، ويأكلون قربانهم في بطونهم، ويؤجرون عليها، وتراحمهم بينهم تراحم بني الأم والأب، وهم أول من يدخل الجنة يوم القيامة من الأمم، وهم السابقون المقربون، والشافعون المشفع فيهم». «١». ثم أسلم على يد عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
قال الحق جلّ جلاله في بقية أوصاف نبينا- عليه الصلاة السلام-: يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ مما حرم على اليهود كالشحوم وغيرها، وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ كالدم ولحم الخنزير وسائر الخبائث، أو كالربا والرشوة وغيرهما من المحرمات. قال ابن جزي: مذهب مالك أن الطيبات هي الحلال، وأن الخبائث هي الحرام. ومذهب الشافعي: أن الطيبات هي المستلذات، إلا ما حرمه الشرع منها، كالخمر والخنزير، وأن الخبائث هي المستقذرات كالخنافس والعقارب. هـ.
وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ أي: الثقل الذي عليهم، وهو مثال لما كُلفوا به- أي: بنو إسرائيل- في شرعهم من المشقات كقتل الأنفس في التوبة، وقطع موضع النجاسة من الثوب، وتعيين القصاص فى العمد والخطأ. «٢»
(١) أخرجه بنحوه مختصرا الدارمي فى (المقدمة- باب صفة النبي صلى الله عليه وسلّم) والبغوي فى تفسيره، (٣/ ٢٨٩) وابن سعد فى الطبقات ١/ ٣٦٠.
(٢) من هنا يبدأ سقط كبير فى المخطوطة الأصلية سيستمر حوالي عشرين صفحة.
268
وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ عبارة عما منعت منه شريعتهم، كتحريم الشحوم، وتحريم العمل يوم السبت، وشبه ذلك. فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ أي: منعوه وحفظوه من عدوه، حتى لا يقوى عليه، أو عظموه بالتقوية حتى انتصر، وأصله: المنع، ومنه التعزير، وَنَصَرُوهُ حتى أظهروا دينه في حياته وبعد مماته، وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ وهو القرآن، وإنما سماه نورًا لأنه بإعجازه ظاهر أمره ومظهر غيره، أو لأنه كاشف للحقائق مظهر لها. أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبدية، وهذا آخر جواب سيدنا موسى عليه السلام.
الإشارة: قوله تعالى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، قال القشيري: لم يُعَلَّقها بالمشيئة- يعني: كما قال في العذاب- لأنها نفس المشيئة، ولأنها قديمة، والإرادة لا تتعلق بالقديم، فلمَّا كان العذاب من صفات الفعل علَّقه بالمشيئة، بعكس الرحمة لأنها من صفات الذات. ويقال في قوله تعالى: وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ: مجالٌ لآمال العُصَاة لأنهم، وإن لم يكونوا من جملة المطيعين العابدين والعارفين، فهم «شيء». هـ.
قلت: وبهذا العموم تشبث إبليس في قضية له مع سهل، وذلك أنه لما تراءى له، ضحك، فقال له: كيف تضحك وقد أبلست من رحمة الله؟ فقال له: قال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ وأنا شيء، فسكت سهل، ثم تذكر تمام الآية، فقال: قال تعالى: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، فهي مُقيدة لا مطلقة، فقال له: التقوى فعل العبد، والرحمة صفة الرب، ولا يتغير وصف الحق بفعل العبد، فعجز سهل. قلت: والجواب: أن إبليس جاء من جهة الفرق، ولو نظر للجمع لوجد الرحمة وصفه، والتقوى فعله، وفعله يغير وصفه، والكل منه وإليه. والله تعالى أعلم.
وقال الورتجبي: جميع الخلائق مستغرقون في بحر الرحمة، لأن إيجاد الحق إياهم، على أي وصف كانوا، عين رحمته، حيث دخلوا تحت نظره وسلطانه وربوبيته، ومباشرة قدرته فيهم، ثم إن الخلق بالتفاوت في الرحمة فالجمادات مستغرقة في نور فعله، وهي الرحمة الفعلية، والحيوانات مستغرقة في نور صفاته، وهي الرحمة الصفاتية، والعقلاء من الجن والإنس والملائكة مستغرقون في نور ذاته، وهي الرحمة القديمة الذاتية من جهة تعريفهم ربوبيته ووحدانيته، وهم من جهة الأجسام وما يجري عليها، في الرحمة العامة، ومن جهة الأرواح وما يجري عليها، في الرحمة الخاصة، وهم فيها بالتفاوت، فبعضهم في رؤية العظمة ذابوا، وبعضهم في رؤية القدم والبقاء تاهوا، وبعضهم في رؤية الجلال والجمال عشقوا وطاشوا، ومن خرج من مقام الرحمة إلى أصل الصفة، ومن الصفة إلى أصل الذات استغرق في الراحم، وفنى عن الرحمة، فصار رحمة للعالمين، وهذا وصف نبينا- عليه الصلاة والسلام-، لأنه وصل بالكل إلى الكل، فوصفه برحمة الكل بقوله: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «١»، ثم خص رحمته الخاصة الصفاتية، بعد أن عم الكل برحمته العامة للمنفردين بالله عن غير الله، القانتين بعظمته في عظمة الذين بذلوا وجوههم لحق ربوبيته عليهم بقوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ.... هـ.
(١) الآية ١٠٧ من سورة الأنبياء.
269
قال في الحاشية: واعتبر قوله: فَسَأَكْتُبُها، فإنه يقتضي كون الرحمة السابقة مطلقة، والتغيير طارئ، والطارئ لا ينافي الذات. هـ. قلت: فتكون على هذا الرحمة التي وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً عامة، إذ لا يخلو مخلوق من رحمته في الدنيا والآخرة، إما في الدنيا فالخلق كلهم مرحومون إيجادًا وإمدادًا، وأما في الآخرة فما من عذاب إلا والله أشد منه في قدرته، والرحمة التي كتبت للمتقين رحمة خاصة، ويدل على هذا ما في القوت «١» على قوله: فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ، قال: معناه خصوص الرحمة وصفوها لا كلها، إذا لا نهاية للرحمة، لأنها صفة الراحم الذي لا حد له، ولأنه لم يخرج من رحمته شيء، كما لم يخرج من حكمته وقدرته شيء. هـ.
وقال السيوطي: فسأكتبها في الآخرة، ووجه تخصيصها في الآخرة بالمؤمنين: تمحضها هنالك من غير شوب بضد، ولا كذلك في الدنيا، وإن كانت غالبة، والكافر عمته في الدنيا عمومًا ظاهرًا، وسلب منها في الآخرة بحسب الظاهر، وإن لم يخل عنها في الجملة، لأن غضبه تعالى لا حدّ له لولا رحمته.
وحاصله: أنه لم تفي جهنم بغضبه، لأنه لا يفي المتناهي بغير المتناهي ورحمته عمت الكافر في الدنيا لإمهاله وبسط نعمه عليه، وفي الإمهال فسحة في الحال وأمل الإقلاع في المآل، وقد يتفق كثيرًا، أي: الإقلاع، فلا يتعين أن يكون الإمهال استدراجًا، على أنه إنما يتجلى تجليًا أوليًا ذاتيًا برحمة مطلقة من غير تفصيل، إذ لا تعدد في الذات، وإنما يظهر التفصيل بالصفات، وإن كان يسري إليها من الذات، ولكن الرحمة تظهر أولاً من الذات، مع قطع النظر عن الصفات لظهورها، ولا تظهر النقمة إلا من الصفات، وهي خفية في تجلي الذات المطلق، ولذلك قال: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، وعلق العذاب على المشيئة، فخص به دونها. هـ. من الحاشية مع زيادة بيان.
ثم أمره بالدعاء إلى الإيمان، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٨]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٥٨)
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ يا محمد: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الأحمر والأسود، والعرب والعجم، والإنس والجن، خص بهذه الدعوة العامة، وإنما بعثت الرسل إلى قومها خاصة. فادع الناس أيها الرسول إلى الله تعالى، الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يتصرف فيهما كيفما شاء، لاَ إِلهَ إِلَّا هُوَ لأن من ملك العالم كان هو الإله لا غير، يُحيِي وَيُمِيتُ لعموم قدرته ونفوذ أمره،
(١) أي قوت القلوب لأبى طالب المكي.
فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ أي: ما أنزل عليه وعلى سائر الرسل قبله من كتبه ووحيه. وإنما عدل عن التكلم إلى الغيبة، أي: لم يقل: فآمنوا بالله وآمنوا لإجراء هذه الصفات عليه، الداعية إلى الإيمان به وأتباعه، ولذلك قال: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى طريق الحق والرشد، جعل رجاء الاهتداء آثر الأمرين تنبيهًا على أن من صدّقه، ولم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعد في خطط الضلالة. قاله البيضاوي.
الإشارة: لا غنى للمريد عن متابعة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ولو بلغ ما بلغ، لقوله تعالى: وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ، وغاية الاهتداء غير متناهية، لأن آدب العبودية مقرونٌ مع عظمة الربوبية، فكما أن الترقي في مشاهدة الربوبية لا نهاية له، كذلك أدب العبودية لا نهاية له، ولا تُعرف كيفية الأدب إلا بواسطة تعليمه عليه الصلاة والسلام، فواسطة النبي صلى الله عليه وسلّم لا تفارق العبد، ولو عرف ما عرف، وبلغ ما بلغ. والله تعالى أعلم.
ثم رجع الحقّ تعالى إلى الكلام مع بنى إسرائيل، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٥٩]
وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٥٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِنْ قَوْمِ مُوسى، يعني بني إسرائيل، أُمَّةٌ طائعة يَهْدُونَ الناس بكلمة الحق، أو متلبسين بِالْحَقِّ وهم الذين ثبتوا حين افتتن الناس بعباده العجل، والأحبار الذين تمسكوا بالتوراة من غير تحريف، أو الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلّم، وَبِهِ أي: بالحق يَعْدِلُونَ في أحكامهم وقضاياهم.
قال البيضاوي: أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن تنبيهًا على أن تعارض الخير والشر وتزاحم أهل الحق والباطل أمر مستمر. هـ.
الإشارة: في كل أمة، وفي كل عصر، أمة صالحة، يُبَصِّرُونَ الناس بالحق، ويدعون إلى الله، فمنهم مَن يهدي إلى تزيين الظواهر بالشرائع، وهم العلماء الأتقياء، ومنهم من يَهدي إلى تنوير السرائر بالحقائق، وهم الصوفية الأولياء، المحققون بمعرفة الله. وبالله التوفيق.
ثم ذكر أحوال بنى إسرائيل، فقالوا:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٠]
وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١٦٠)
قلت: أسباطًا: بدل لا تمييز لأن تمييز العدد يكون مفردًا، والتمييز محذوف، أي: فرقة أسباطًا. وقال الزمخشري: يصح تمييزًا لأن كل قبيلة أسباط لاسبط. هـ. فكأنه قال: وقطعناهم اثنتي عشرة سبطًا سبطا. والسبط في بني إسرائيل كالقبيلة عند العرب، و (أُممًا) : بدل بعد بدل على الأول، وعلى الثاني بدل من أسباط.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَطَّعْناهُمُ أي: بني إسرائيل، أي: فرقناهم اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أثني عشر سبطًا، أُمَماً متميزة، كل سبط أمة مستقلة، وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه، أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ انفجرت، إلا أن الانبجاس أخف من الانفجار، أي: فضرب فانبجست، وحذفه للإيماء إلى أن موسى لم يتوقف في الامتثال، وأن ضربه لم يكن مؤثرًا يتوقف عليه الفعل من ذاته، بل سبب عادي وحكمة جارية، والفعل إنما هو بالقدرة الإلهية، أي: نبعت مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً، قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كل سبط مَشْرَبَهُمْ، وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ لتقيهم من حرّ الشمس، وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى، وقلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ سبق في سورة البقرة، وكذلك الإشارة «١».
ثم قال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦١ الى ١٦٢]
وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (١٦١) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (١٦٢)
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكروا إِذْ قِيلَ لبني إسرائيل: اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ بيت المقدس، وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ، وَقُولُوا: أمرنا حِطَّةٌ، وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً سجود أنحناء، نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ التي سلفت، سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ وعد بالغفران والزيادة عليه، وإنما أخرج الثاني مخرج الاستئناف، يعني: سنزيد، ولم يقل: وسنزيد للدلالة على أنه تفضل محض، ليس في مقابلة ما أمروا به، فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ قالوا: حبة في شعرة، مكان حطة، لأنهم حملوا الحطة على الحنطة. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مر تفسيره، وإشارته، في سورة البقرة «٢».
(١) راجع تفسير الآية ٦٠ من سورة البقرة.
(٢) راجع تفسير الآية ٥٨ من سورة البقرة. [.....]
تنبيه: وقع اختلاف كثير في اللفظ بين هذا الموضع من هذه السورة وبين سورة البقرة، في فَانْفَجَرَتْ وفَانْبَجَسَتْ، وقوله: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا ووَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا، وقوله هنا: وَكُلُوا، وهناك فَكُلُوا. فقال الزمخشري: لا بأس باختلاف العبارتين، إذا لم يكن هناك تناقض. ووجّه بعضهم الفرق بأن ما في هذه السورة سيق في محل الغضب والعقاب على عبادة العجل، وما في سورة البقرة سيق في محل الامتنان، فلذلك عبّر هنا بانبحست لأنه أقل من انفجرت، وعبَّر هنا بقيل مبنيًا للمجهول تحقيرًا لهم أن يذكر نفسه لهم، وعبَّر هنا بالسكنى لأنه أشق من الدخول ويستلزمه، وعبَّر هنا بالواو لأن السكنى تجامع الأكل، بخلاف الدخول، فإن الأكل مسبب عنه، فعبَّر بالفاء، وزاد في البقرة الواو في: سَنَزِيدُ، كأنه نعمة أخرى، بخلاف هذا، وزاد هنا مِنْهُمْ لتقدم ذكرهم في قوله: وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ، وعبّر هنا بالظلم لأنه أعم من الفسق وغيره. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر اعتداءهم فى السبت وما ترتب عليه، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٣ الى ١٦٦]
وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٣) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (١٦٤) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (١٦٥) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (١٦٦)
قلت: (إذ يَعْدُون) : بدل من (القرية)، بدل اشتمال، أو منصوب بكانت، أو بحاضرة، و (إذ تأتيهم) : منصوب بيعدون، و (سبتهم) : مصدر مضاف للفاعل، يقال: سبت اليهود سبتًا: إذا عظم يوم السبت وقطع شغله فيه، و (شُرَّعًا) : حال، ومعناه: ظاهرة قريبة منهم، يقال: شرع منه فلان إذا دنا منه.
يقول الحق جلّ جلاله: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ أي: اليهود، سؤال تقرير وتوبيخ على تقديم عصيانهم وعما هو من معلومهم، الذي لا يعلم إلا بتعليم أو وحي، وقد تحققوا أنك أُمي، فيكون ذلك معجزة وحجة عليهم، عَنِ الْقَرْيَةِ أي: عن خبرها وما وقع لها، الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه، وهي «إيلة»، قرية بين مدين والطور، على شاطىء البحر، وقيل: مدين، وقيل: طبرية، إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ: يتجاوزون حدود الله
273
بالاصطياد في يوم السبت، وكان حرامًا عليهم لاشتغالهم عنه بالعبادة، إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً: ظاهرة على وجه الماء، دانية منهم، وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بل تغوص كلها في البحر، كَذلِكَ أي: مثل هذا البلاء الشديد نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي: بسبب فسقهم. وقيل: «كذلك» : متصل بما قبله، أي: لا تأتيهم مثل ذلك الإتيان الذي تأتيه يوم السبت.
ثم افترقت بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة عصت بالصيد يوم السبت، وفرقة نهت عن ذلك واعتزلت القوم، وفرقة سكتت واعتزلت فلم تنه ولم تعص. وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ، وهي التي لم تنه ولم تعص، لَمَّا رأت مهاجرة الناهية وطغيان العاصية: لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ بالموت بصاعقة، أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة؟ قالُوا: نهينا لهم مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ أي: عذرًا إلى الله تعالى، حتى لا تنسب إلى تفريط في النهي عن المنكر، وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ فينزجرون عن العصيان، إذ اليأس منهم لا يحصل إلا بالهلاك.
فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا ما وُعظوا به ترك الناسي، أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتياد ومخالفة أمر الله، بِعَذابٍ بَئِيسٍ: شديد، من بؤس يبؤس بؤسًا، وقرىء (بيْئَسٍ) على وزن ضيغم، و «بِئْس» بالكسر والسكون، كحذر، وبيس بتخفيف الهمزة، ومعناها واحد، أي: بما عاقبناهم بالمسخ، بِما كانُوا يَفْسُقُونَ أي: بسبب فسقُهم.
قال ابن عباس: لا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة؟ وقال عكرمة: لم تهلك لأنها كرهت ما فعلوه. ورجع إليه ابن عباس وأعجبه، لأن كراهيتها تغيير المنكر في الجملة، مع قيام الفرقة الناهية به لأنه فرص كفاية. قال تعالى:
فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبرًا عن ترك ما نُهوا عنه، قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أذلاء صاغرين.
قال البيضاوي: قُلْنا لَهُمْ كُونُوا، هو كقوله: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «١»، والظاهر يقتضي أن الله تعالى عذَّبهم أولاً بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك، فمسخهم قردة وخنازير، ويجوز أن تكون الآية الثانية تقريرًا وتفصيلاً للأولى.
رُوِي أن الناهين لما أيسوا عن اتعاظ المعتدين، كرهوا مساكنتهم، فقسموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يومًا ولم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا: إن لهم شأنًا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، ولكن القردة تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم وتشم ثيابهم، وتدور باكية حولهم، ثم ماتوا بعد ثلاثة أيام. هـ.
الإشارة: المسخ على ثلاثة أقسام: مسخ الأشباح، ومسخ القلوب، ومسخ الأرواح، فمسخ الأشباح هو الذي وقع لبني إسرائيل، قيل: إنه مرفوع عن هذه الآمة، والصحيح: أنه يقع في آخر الزمان، ومسخ القلوب يكون بالانهماك
(١) الآية ٤٠ من سورة النحل.
274
فى الذنوب، والإصرار على المعاصي، وعلامته: الفرح بتيسير العصيان، وعدم التأسف على ما فاته من الطاعة والإحسان، ومسخ الأرواح: الانهماك في الشهوات، والوقوف مع ظواهر الحسيات، أو تكثيف الحجاب، والوقوف مع العوائد والأسباب، دون مشاهدة رب الأرباب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر عقوبة بنى إسرائيل فى الدنيا، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٦٧]
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١٦٧)
قلت: تأذن: أعلم، وهي تفعل، وهي من الإيذان بمعنى الإعلام، كتوعّد وأوعد، أو: عزم، لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه بفعله، وأجرى مجرى القسم كعَلِم الله وشهد الله، ولذلك أجيب باللام القسمية.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكروا إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي: أعلم وأظهر ذلك في عالم الشهادة، لَيَبْعَثَنَّ على بنى إسرائيل، أي: ليسلطن عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال وضرب الجزية، وقد بعث الله عليهم بعد سليمان عليه السلام بُختنصر، فخرب ديارهم، وقتل مقاتلتهم، وسبى نساءهم وذراريهم، وضرب الجزية على من بقي منهم، وكانوا يؤدونها إلى المجوس، حتى بعث الله نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم ففعل بهم ما فعل، في بني قريظة والنضير وخبير، ثم ضرب الله عليهم الجزية إلى آخر الدهر، إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ فعاقبهم في الدنيا، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب وآمن، وإنما أكد هنا الخبر باللام دون ما في آخر الأنعام «١»، لأن ما هنا في اليهود، وما في آخر الأنعام في المؤمنين، فأكد ما هنا باللام، فقال: لَسَرِيعُ الْعِقابِ زيادة في توبيخهم ونكالهم.
الإشارة: مواطن الذل والهوان هو الانهماك في المخالفة والعدوان، وقد ينسحب ذلك في الذرية إلى آخر الزمان، فإن الله تعالى يقول: أنا الملك الودود، أعاقب الأحفاد بمعاصي الجدود، ومواطن العز والحرمة والأمان: هو الطاعة والتعظيم والإحسان، ينسحب ذلك على الأحفاد، إلى منتهى الزمان، فإن الله تعالى يحفظ الأولاد ببركة الأجداد. وقد تذاكر بعض التابعين ما يكون في آخر الزمان من الفتن والفساد، فقال بعضهم: يا ليتني كنت عقيمًا أو لم أتزوج، فقال له من هو أكبر منه: ألا أدلك على ما يحفظ الله به عقبك؟ قال: نعم، دلني، قال: قوله تعالى:
وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً... الآية «٢». وبالله التوفيق.
(١) في قوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ الآية الأخيرة من سورة الأنعام.
(٢) الآية ٩ من سورة النساء.
ثم قال تعالى في شأن اليهود:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٦٨ الى ١٧٠]
وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٦٨) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٦٩) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (١٧٠)
قلت: (أُمَمًا) : مفعول ثانٍ لقطَّعنا، أو حال، وجملة (منهم الصالحون) : صفة، وجملة (يأخذون) : حال من فاعل (ورثوا)، و (يقولون) عطف على (يأخذون)، أو حال، والفعل من (سيغفر) : مسند إلى الجار والمجرور، أو إلى مصدر (يأخذون)، و (أن لا يقولوا) : عطف بيلن من (ميثاق الكتاب)، أو تفسير له، أو متعلق به، أي: لأن لا يقولوا، و (درسوا) : عطف على (ألم يُؤخذ) من حيث المعنى، أي: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب ولم يدرسوا ما فيه، أو حال، أي: وقد درسوا، و (الذين يُمَسِّكُون) : مبتدأ، وجملة: (إِنا لا نُضِيعُ أجرَ المصلحين) : خبر، والرابط:
ما في المصلحين من العموم، فوضع موضع الضمير تنبيهًا على أن الإصلاح كالمانع من التضييع، أو حذف العائد، أي: منهم، ويحتمل أن يكوت عطفًا على (الذين يتقون) أي: خير للمتقين والذين يتمسكون بالكتاب.
يقول الحق جلّ جلاله: وَقَطَّعْناهُمْ أي: فرقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً: فرقًا، ففي كل بلد من البلدان فرقة منهم، فليس لهم إقليم يملكونه، تتمةً لإذلالهم، حتى لا تكون لهم شوكة قط، مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وهو من تمسك بدين التوراة، ولم يحرف، ولم يفرق، أو من آمن منهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في زمانه وبعده، وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ أي: ومنهم ناس دون ذلك، أي: منحطون عن الصلاح، وهم كفرتهم وفسقتهم، وَبَلَوْناهُمْ أي:
اختبرناهم بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ أي: بالنعم والنقم، لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينتبهون فينزجرون عمًّا هُم عليه.
فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أي: فخلف، من بعد الأولين، خلف، أي: بدل سوء، وهو مصدر نعت به، فالخلف، بالسكون، شائع في الشر، يقال: جعل الله منك خلفًا صالحًا. والمراد بالخلف في الآية: اليهود الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلّم، وَرِثُوا الْكِتابَ التوراة، من أسلافهم، يقرؤونها ويقفون على ما فيها، يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشيء الحقير، من الدنو، أو من الدناءة، وهو ما كانوا يأخذون من الرشا في الأحكام، وعلى تحريف الكلام. وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا الله بذلك ويتجاوز عنه، اغترارًا وحمقًا.
وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أي: يرجون المغفرة، والحال أنهم مصرون على الذنب، عائدون إلى مثله، غير تائبين منه، أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أي: في الكتاب، وهو التوراة، أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ، وهو تكذيب لهم في قولهم: سَيُغْفَرُ لَنا، والمراد: توبيخهم على القطع بالمغفرة مع عدم التوبة، والدلالة على أنه افتراء على الله، وخروج عن ميثاق الكتاب، وَدَرَسُوا ما فِيهِ أي: وقد درسوا ما فيه، وعلموا ما أُخذ عليهم فيه من المواثيق، ثم تجرأوا على الله، وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ مما يأخذ هؤلاء من العرض الفاني. أَفَلا يَعْقِلُونَ «١» فيعلموا ذلك، ولا يستبدلوا الأدنى الحقير المؤدي إلى العقاب بالنعيم الكبير المخلد في دار الثواب، ومَن قرأ بالخطاب فهو لهم، من باب التلوين في الكلام.
وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ أي: يتمسكون بالتوراة، وَأَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة عليهم، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ منهم. وهذا فيمن مات قبل ظهور الإسلام، أو: والذين يمسكون بالقرآن، وَأَقامُوا الصَّلاةَ مع المسلمين، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ.
الإشارة: تفريق النسب في البلدان، إن كان في الذل والهوان، فهو من شؤم المخالفة والعصيان، وإن كان مع العز وحفظ الحرمة، فقد يكون لقصد الخير والبركة، أراد الله أن يُنمي تلك البلاد، بنقل ذلك إليها، كأولاد الصالحين والعلماء وأهل البيت. ويؤخذ من قوله: وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، أن العبد مأمور بالرجوع إلى الله في السراء والضراء، في السراء بالحمد والشكر، وفي الضراء بالتسليم والصبر.
ويؤخذ من مفهوم قوله: وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ، أن من عقد التوبة وحل عقدة الإصرار غفر له ما مضى من الأوزار. وفي قوله: أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ... الآية، تحذير لعلماء السوء. وقوله: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ... الآية، أي: والذين يمسكون بظاهر الكتاب وأقاموا صلاة الجوارح، إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ مع عامة أهل اليمين، والذين يمسكون بباطن الكتاب وأقاموا صلاة القلوب- التي هي العكوف في الحضرة- حضرة الغيوب- إِنا لا نُضِيعُ أجرَ المصلحين لقلوبهم، وهو شهود رب العالمين مع المقربين، في حضرة الأنبياء والمرسلين، جعلنا الله منهم وفي حزبهم، آمين.
ولمّا ذكر من تمسك بالكتاب طوعا، ذكر من تمسك به كرها من أسلاف اليهود، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧١]
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧١)
(١) قرأ نافع وابن عامر وحفص وأبو جعفر ويعقوب «تعقلون» بالخطاب، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢/ ٦٨).
قلت: جملة (خُذوا) : محكية، أي: وقولنا لهم: خذوا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكر إِذْ نَتَقْنَا أي: قلعنا ورفعنا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: فوق بني إسرائيل، كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ أي: سقيفة، والظلة: كل ما أظلك، وَظَنُّوا أي: تيقنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ أي: ساقط عليهم بسبب عصيانهم لأن الجبل لا يثبت في الجو لأنهم كانوا يوعدون به، وإنما عبَّر بالظن لأنه لم يقع بالفعل حين الظن، وسبب نتق الجبل أنهم امتنعوا من أحكام التوراة، فلم يقبلوها لثقلها، فرفع الله الطور فوقهم، وقيل لهم:
إن قبلتم ما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم، فقلنا لهم حين الرفع: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من الأحكام بِقُوَّةٍ، وَاذْكُرُوا ما فِيهِ بالعمل به، ولا تتركوه كالمنسى، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قبائح الأعمال ورذائل الأخلاق.
الإشارة: من لم ينقد إلى الله بملاطفة الإحسان، قيد إليه بسلاسل الامتحان، عَجِبَ رَبُّكَ من قَوْمٍ يُساقون إلى الجنة بالسلاسل.
ولما ذكر الميثاق الخاص، ذكر الميثاق العام، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٢ الى ١٧٤]
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (١٧٢) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (١٧٣) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (١٧٤)
قلت: (من ظهورهم) : بدل من (بني آدم)، أي: من ظهور بني آدم، و (ذريتهم) : مفعول به، و (بلى) : حرف جواب، يُجاب بها عن الهمزة إذا دخلت على منفي، فخرجت عن الاستفهام إلى التقرير، وهو حمل المخاطب على الإقرار بما بعد النفي، نحو: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «١»، فيجاب ببلى، أي: شرحت، وكذا نظائرها، ومنه:
(إلست بربكم..) الآية.
وقد يجاب بها الاستفهام المجرد عن النفي، كما في الحديث: «أتَرْضَوْنَ أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أهْلِ الجَنَّةِ؟ قالوا:
بلى»
«٢». ولكنه قليل، فلا يُقاس عليه، بل يوقف على ما سمع، والكثير: أنها جواب للنفي، ومعناها: إثبات ما نفي، ورفع النفي، لا إثباته وتقريره، بخلاف «نعم» فإنها تقرر ما قبلها من إثبات أو نفي، ولذا قال ابن عباس: (ولو قالوا: نعم، لكفروا)، وقد تقدم الفرق بينهما في سورة البقرة، «٣» ثم الكثير: مراعاة صورة النفي، فيجاب ببلى، وقد
(١) الآية الأولى من سورة الشرح.
(٢) أخرجه مسلم فى (الإيمان- باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة) من حديث عبد الله بن مسعود- رضى الله عنه.
(٣) راجع تفسير الآية ٨١ من سورة البقرة.
278
ينظر للمعنى وما يفيده الاستفهام الإنكاري من نفيه للنفي، فيصير الكلام إيجابًا، فيصح الجواب بنعم في الجملة، لكن لمَّا كان محتملاً امتنع في الآية. انظر المغني. وقوله: (أن تقولوا) : مفعول من أجله.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاذكروا إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ من ظهور بني آدم ذُرِّيَّتَهُمْ وذلك أنّ الله تعالى لَمَّا خلق آدم، وأهبطه إلى الأرض، أخرج من صلبه نسيم بنيه، بعضهم من صلب بعض، على نحو ما يتوالدون، قرنًا بعد قرن كالذر، وكان آدم بنَعمان، وهو جبل يواجه عرفة، وقال لهم حين أخرجهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ فأقروا كلهم، وقالُوا بَلى أنت ربنا، شَهِدْنا بذلك على أنفسنا، لأن الأرواح حينئذٍ كانت كلها على الفطرة، علاّمة دَرَّاكة، فلما ركبت في هذا القالب نسيت الشهادة، فبعث اللهُ الأنبياءَ والرسل يُذكِّرون الناس ذلك العهد، فمن أقرّ به نجا، ومن أنكره هلك، ويحتمل أن يكون ذلك من باب التمثيل، وأن أخذ الذرية من الظهر عبارة عن أيجادهم في الدنيا، وأما إشهادهم فمعناه: أن الله نصب لبني آدم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فكأنه أشهدهم على أنفسهم، وقال: (ألست بريكم) ؟ وكأنهم قالوا بلسان الحال: أنت ربنا.
والأول هو الصحيح لتواتر الأخبار به، فقوله: (شَهِدنا) : هو من تمام الجواب، فهو تحقيق لربوبيته وأداء لشهادتهم بذلك، فينبغي أن يوقف عليه، وقيل: إنَّ (شهدنا) : من قول الله أو الملائكة، فيوقف على (بلى)، لكنه ضعيف.
ثم ذكر حكمة هذا الأخذ، فقال: أَوْ تَقُولُوا أي: فعلنا ذلك كراهة أن تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ، أو كراهية أن تقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم، أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ، يعني: آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك، ولا بد من حذف كلام هنا لتتم الحجة، والتقدير: أخذنا ذلك العهد في عالم الأرواح، وبعثنا الرسل يجددونه في عالم الأشباح، كراهة أن تقولوا: إنا كنا عن هذا غافلين، ويدل على هذا قوله تعالى: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا... الآية «١». وقوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ «٢»، ولا يكفي مجرد الإشهاد الروحاني في قيام الحجة لأن ذلك العهد نسيته الأرواح حين دخلت في عالم الأشباح، فلا تهتدي إليه إلا بدليل يُذكرها ذلك.
قال البيضاوي: والمقصود من إيراد هذا الكلام هاهنا: إلزام اليهود مقتضى الميثاق العام، بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص بهم، والاحتجاج عليهم بالحجج السمعية والعقلية، ومنعهم من التقليد، وحملهم على النظر والاستدلال، كما قال تعالى: وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ الدالة على وحدانيتنا سمعاً وعقلاً، وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عن التقليد واتباع الباطل.
(١) الآية ١٥ من سورة الإسراء.
(٢) الآية ١٦٥ من سورة النساء.
279
الإشارة: أَخَذَ الحقّ جلّ جلاله العهد على الأرواح أن تعرفه وتُوحده مرتين، أحدهما: قبل ظهور الكائنات، والثاني: بعد ظهورها. والأول أخذه عليها في معرفة الربوبية، والثاني تجديدًا له مع القيام بآداب العبودية. قال بعضهم: أخذ الأول على الأرواح يوم المقادير، وذلك قبل السموات والأرض بخمسين ألف سنة، ثم أخذ الثاني على النفوس بعد ظهورها في عالم الأشباح، كما نبهت عليه الآية والأحاديث.
وقال ابن الفارض في تائيته:
وَسَابِقِ عَهْدٍ لَمْ يَحُل مُذ عَهِدتُهُ ولا حِقِ عَقدٍ جَلَّ عَنْ حَلِّ فتْرَهِ
قال القاشاني: أراد بالعهد السابق: ما أخذه الله على الأرواح الإنسانية المستخرجة من صلب الروح الأعظم، الذي هو آدم الكبير، في صور المثل، قبل تعلقها بالأشباح، وهو عقد المحبة بين الرب والمربوب، في قوله سبحانه:
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ... الآية. وبالعهد اللاحق: ما أخذه عليهم بواسطة الأنبياء، من عقد الإسلام بعد التعلق بالأبدان، وهو توكيدٌ للعهد الأول، وتوثيقه بالتزام أحكام الربوبية والتزامها. هـ. وقال في الحاشية: كلام ابن الفارض ينظر إلى العهد الأول، الروحاني، وكلام غيره ينظر إلى الثاني النفساني، وهو ظاهر الآية. هـ. قلت: وفيه نظر، فإن كلام ابن الفارض مشتمل على العهدين معًا، الروحاني في الشطر الأولى، والنفساني في الشطر الثاني.
والحاصل مما تقدم: أن العهد أخذ على الأرواح ثلاث مرات، أحدها: حين استخرجت من صلب الروح الأعظم الذي هو آدم الكبير، وهو معنى القبضة النورانية، التي آخذت من عالم الجبروت. والثاني: حين استخرجت من صلب آدم الأصغر، كالذر، والثالث: حيث دخلت في عالم الأشباح، على ألسنة الرسل، ومن ناب عنهم، فالمذكور في الآية هو الثاني، وهو أحسن من حَملِ القاشاني الآية على الأول.
فالحاصل: أن الأخذ الأول كان على الأرواح مجردة عن مادة التطوير والتمثيل، بإقرارها إقرار النفوس، لا إقرار الألسنة، والأخذ الثاني كان على الأرواح بعد خروجها من الوجود العلمي إلى الوجود العيني، فتطورت الأرواح بصفاتها الذاتية، من سمع وبصر ولسان وغيرها، في عالم المثال، بصور مثالية لتُبصر بها ظهور الرب، وتسمع خطابه، وتجيب سؤاله، بإقرارها حينئذٍ إقرار الألسنة، وهو الذي يقتضيه ظاهر الآية. وأما العهد الذي أخذه بواسطة الأنبياء في ظهور عالم الأشباح فإنما هو تذكير للعهدين، وتجديد لهما، وهو الذي تقوم به الحجة عليها، فلا بد من انضمامه إِلى الأوَّلَين في قيام الحجة، كما تقدم.
فالموجودات ثلاث: علمي، ثم خيالي مثالي، ثم نوعي حسي. فَأُخِذَ على كل واحد عهد من الأَوَّلَيْنِ بلا واسطة، والثالث بواسطة الرسل. والله تعالى أعلم.
280
ثم ذكر وبال مَن نقض هذا العهد، مع تمكنه من العلم به، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٧٥ الى ١٧٨]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (١٧٧) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)
قلت: أتبعه الشيطانُ: أدركه، يقال: أتبع القوم: لحقهم، ومنه: فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ «١» أي: لحق بني إسرائيل. قاله في الأساس.
يقول الحق جلّ جلاله: وَاتْلُ عَلَيْهِمْ على اليهود نَبَأَ أي: خبر الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا علمًا بكتابنا، فَانْسَلَخَ مِنْها بأن كفر بها، وأعرض، فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فأدركه فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ. قال عبد الله بن مسعود: هو رجل من بني إسرائيل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين، داعيًا إلى الله، فرشاه الملكُ، وأعطاه المُلك على أن يترك دين موسى، ويُتابع الملكَ على دينه، ففعل وأضل الناس على ذلك.
وقال ابن عباس: هو رجل من الكنعانيين، اسمه: «بلعم»، كان عنده الاسم الأعظم، فلما أراد موسى قتل الكنعانيين، وهم الجبارون، سألوه أن يدعو على موسى باسم الله الأعظم، فأبى، فألحوا عليه حتى دعا ألا يدخل المدينة، ودعا موسى عليه. فالآيات التي أعطيها، على هذا: اسم الله الأعظم، وعلى قول ابن مسعود: هو ما علمه موسى من الشريعة. قيل: كان عنده من صحف إبراهيم. وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هو أمية بن أبي الصلت الثقفي «٢»، وكان قد أُوتي علمًا وحكمة، وأراد أن يُسلم قبل غزوة بدر، ثم رجع عن ذلك ومات كافرًا، وكان قد قرأ الكتب، وخالط الرهبان، وسمع منهم أن الله تعالى مرسِلٌ رسولاً في ذلك الزمان، فَرَجَا أن يكون هو، فلما بَعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم حسده، وقال: ما كنت لأؤمن لرسول ليس من ثقيف.
(١) من الآية ٩٠ من سورة يونس.
(٢) أخرجه النسائي فى السنن الكبرى (التفسير- ٦/ ٣٤٨) والطبري فى تفسيره (٩/ ١٢٠)، قال أبو حيان فى البحر: والأولى فى مثل هذا- إذا ورد عن المفسرين- أن تحمل أقاويلهم على التمثيل، لا على الحصر فى معين، فإنه يؤدى إلى الاضطراب والتناقض
281
قال تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار بِها أي: بسبب تلك الآيات وملازمتها، وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ أي: مال إلى الدنيا وحطامها، أي: أخلد إلى أرض الشهوات، وَاتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا واسترضاء قومه، أو صيانة رئاسته وجاهه. قال البيضاوي: وكان من حقه أن يقول: ولكنه أعرض عنها، فأوقع موقعه: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ مبالغةً وتنبيهًا على ما حمله عليه، وأن حب الدنيا رأس كل خطيئة. هـ.
فَمَثَلُهُ أي: فصفته التي هي مثلٌ في الخسة، كَمَثَلِ الْكَلْبِ أي: كصفته في أخس أحواله، وهو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: يلهث دائمًا، سواء حمل عليه بالزجر والطرد، أو ترك ولم يتعرض له، بخلاف سائر الحيوانات لضعف فؤاده، واللهث: إدلاع اللسان من التنفس الشديد، والمراد: لازم اللهث، وهو نفي الرفع ووضع المنزلة.
قال ابن جزي: اللهث: هو تنفس بسرعة، وتحريك أعضاء الفم، وخروج اللسان، وأكثر ما يعتري ذلك الحيوانات عند الحر والتعب، وهي حالة دائمة للكلب، ومعنى «إن تحمل عليه» : أن تفعل معه ما يشق عليه، من طرد أو غيره، أو تتركه دون أن تحمل عليه، فهو يلهث على كل حال. ووجه تشبيه ذلك الرجل به أنه إن وعظته فهو ضال، وإن لم تعظه فهو ضال، فضلالته على كل حال. هـ. وقال الواحدي: وذلك أنه زجر في المنام عن الدعاء على موسى، فلم ينزجر، وترك عن الزجر، فلم يهتد. هـ. وقيل: أن ذلك الرجل خرج لسانه على صدره، فصار مثل الكلب، وصورته ولهثه حقيقة. هـ. وفعل به ذلك حين دعا على موسى عليه السلام. وفي ابن عطية: ذكر «المعتمد» أن موسى قتله.
قال تعالى: ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صفتهم كصفة الكلب في لهثه وخسته، أو كصفة الرجل المشبه به، لأنهم إن أنذروا لم يهتدوا، وإن تركوا لم يهتدوا. أو شبههم بالرجل في أنهم رأوا الآيات فلم تنفعهم، كما أن الرجل لم ينفعه ما عنده من الآيات. وقال الواحدي: يعني: أهل مكة كانوا متمنين هادياً يهديهم، فلما جاءهم من لا يشكُّون في صدقه كذبوه، فلم يهتدوا لمَّا تُركوا، ولم يهتدوا أيضًا لما دعوا بالرسول، فكانوا ضالين عن الرسول في الحالتين. هـ.
فَاقْصُصِ الْقَصَصَ المذكور على اليهود، فإنها نحو قصصهم، لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكرًا يُؤدي إلى الاتعاظ، فيؤمنوا به، فإنَّ هذه القصص لا توجد عند من لم يقرأ إلا بوحي، فيتيقنوا نبوتك. ساءَ أي: قبح مَثَلًا مثل الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا حيث شُبهوا بالكلاب اللاهثة، وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ بتعريضها للهلاك. قال البيضاوي: إما أن يكون داخلاً في الصلة، معطوفًا على الَّذِينَ كَذَّبُوا، بمعنى: الذين
282
جمعوا بين تكذيب الآيات وظلم أنفسهم، أو منقطعًا عنها، بمعنى: وما ظلموا بالتكذيب إلا أنفسهم، فإن وباله لا يتخطاها ولذلك قدّم المفعول. هـ.
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي، وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، هو تصريح بأن الهدى والضلال بيد الله تعالى، وأنَّ هداية الله يخص بها بعضًا دون بعض، وأنها مستلزمة للاهتداء، والإفراد في الأول والجمع في الثاني لاعتبار اللفظ والمعنى، تنبيهًا على أن المهتدين كواحد لاتحاد طريقهم، بخلاف الضالين. والاقتصار في الإخبار عمّن هداه الله بالمهتدي: تعظيمٌ لشأن الاهتداء، وتنبيه على أنه، في نفسه، كمال جسيم، ونفع عظيم، لو لم يحصلُ له غيره لكفاه، وأنه المستلزم للفوز بالنعم الآجلة والعنوان لها. قاله البيضاوي.
الإشارة: في الحديث: «أشَدُّ الناس عذاباً يومَ القيامةِ عَالِمٌ لَم يَنفَعهُ عِلمُه» «١». والعلم النافع هو الذي تصحبه الخشية والمراقبة والتعظيم والإجلال، ويوجب لصاحبه الزهد والسخاء والتواضع والأنكسار، وهو علم التوحيد الخاص، الذي هو مشاهدة الحق. وقال الورتجبي في قوله: آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها: ذكر أنه تعالى أعطاه أياته، ولو أعطاه قرب مشاهدته ما انسلخ منه، لأن من رآه أحبه، ومن أحبه استأنس به واستوحش مما سواه، فمن ذلك تبين أنه كان مستدرجًا بوجدان آياته، وتصديق ذلك ما أخبر سبحانه من ارتداده عن دينه، واشتغاله بهواه وعداوة كليمه بقوله: فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ، ولو ذاق طعم حبه لم يلتفت إلى غيره، مُكِرَ به في الأزل، فكان مكره مستدامًا إلى الأبد، فالكرامات الظاهرة عارضه للامتحان بين الأزل والأبد، وعند الأصل القديم لا يعتبر العرض الطارئ. هـ.
وقال في الإحياء: إن بلعم أوتي كتاب الله تعالى فأخلد إلى الشهوات، فشُبه بالكلب، أي: سواء أوتي الحكمة أو لم يؤتها فهو يلهث إلى الشهوات. هـ. وفي ذكر قصته تحذير لعلماء هذه الأمة وصلحائها. وقال الشيخ أبو الحسن رضى الله عنه: من أخلدت نفسه إلى أرض الشهوات، وغلبته عن النهوض إلى الطاعات، فدواؤه في حرفين، أحدهما: أن يذكر منّة الله عليه بنعمة الإيمان والإسلام، ويقيد هذه النعمة بالشكر، لئلا تفلت من يده، والثاني: أن يتوجه إلى الله بالتضرع والاضطرار، آناء الليل والنهار، وفي رمضان راجيًا الإجابة، قائلاً: اللهم سَلِّم سَلِّم. فإن أهمل هاتين الخصلتين فالشقاوة لازمة له. هـ. بالمعنى لطول العهد به. وبالله التوفيق.
(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (باب فى نشر العلم- ح ١٧٧٨) وزاد السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٠٥) عزوه لابن عدى فى الكامل والطبراني فى الصغير عن أبى هريرة، وضعّفه.
283
ثم ذكر علامة أهل الضلالة والخسران، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٧٩]
وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٧٩)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلَقَدْ ذَرَأْنا خلقنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ كتبنا عليهم الشقاء في سابق الأزل، فهم من قبضة أهل النار، كما قال: «هؤلاء إلى الجنَّةِ ولا أُبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي» «١».
ثم ذكر علامتهم فقال: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها المواعظ والتذكير للأكنة التي جعلت عليها، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها دلائل وحدانيتنا وكمال قدرتنا، فلا ينظرون بها نظر اعتبار، وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها الآيات والمواعظ، سماع تأمل وتدبر، أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم التفقه والاستبصار، أو في أن هممهم ومشاعرهم متوجهة إلى أسباب التعيش، مقصورة عليها، فهممهم في بطونهم وفروجهم، بَلْ هُمْ أَضَلُّ من الأنعام، لأنها تطلب منافعها وتهرب من مضارها، وهؤلاء يقدمون على النار معاندة، وأيضًا: الأنعام رُفع عنها التكليف فلا تعذب، بخلاف الكافر، وأيضًا: البهائم تقبل الرياضة والتأديب لِمَا يراد بها، والكافر عاص على الدوام، أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة المنهمكون فيها.
الإشارة: النار على قسمين: حسية ومعنوية، كما أن الجنة كذلك، فالنار الحسية لتعذيب الأشباح، والنار المعنوية لتعذيب الأرواح، والجنة الحسية لنعيم الأشباح، والمعنوية لنعيم الأرواح. النار الحسية معلومة. والنار المعنوية هي نار القطيعة وغم الحجاب، وأهلها هم أهل الغفلة، وهم كثير من الجن والإنس، ليس لهم قلوب تجول في معاني التوحيد، وليس لهم أعين تنظر بعين الاعتبار، وليس لهم آذان تسمع المواعظ والتذكار، إن هم إلا كالأنعام، غير أن الله تعالى تفضل عليهم برسم الإسلام. والجنة الحسية هي جنة الزخارف، والجنة المعنوية هي جنة المعارف، وأعدها الله لقلوب تجول في الأنوار والأسرار، ولأعين تنظر بعين الأعتبار والاستبصار، حتى تشاهد أنوار الواحد القهار، ولآذان تسمع المواعظ والتذكار، وتعي ما تسمع من الحكم والأسرار، وبالله التوفيق.
(١) أخرج أحمد في المسند (٥/ ٢٣٩) عن معاذ بن جبل: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم تلا هذه الآية: أصحاب اليمين وأصحاب الشمال، فقبض بيديه قبضتين فقال: «هذه فى الجنة ولا أبالى وهذه فى النار ولا أبالي».
ثم عرّف بذاته بتعريف أسمائه، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٠]
وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (١٨٠)
يقول الحق جلّ جلاله: وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تسعة وتسعين، فَادْعُوهُ بِها أي: سموه بها. قال ابن جزي: أي: سموه بأسمائه، وهذا إباحة لإطلاق الأسماء على الله سبحانه، فأما ما ورد منها في القرآن والحديث فيجوز إطلاقه على الله إجماعًا، وأما ما لم يرد، وفيه مدح ولا تتعلق به شُبهة، فأجاز أبو بكر بن الطيب إطلاقه على الله، ومنع ذلك أبو الحسن الأشعري وغيره، ورأوا أن أسماء الله تعالى موقوفة على ما ورد في القرآن والحديث. وقد ورد في حديث الترمذي عدتها «١»، أعني: تعيين التسعة والتسعين.
واختلف أهل الحديث: هل هي مرفوعة أو موقوفة على أبي هريرة؟ والذي في الصحيح: «إنَّ للهِ تِسعَةً وتِسعِينَ اسْمًا، مائَةً إلاَ وَاحِدًا، مَن أحصَاهَا دَخَلَ الجَنَّةَ» «٢». وهل الإحصاء بالحفظ أو بالعلم أو بالتخلق أو بالتعلق أو بالتحقق؟ أقوال. قلت: كونها موقوفة بعيد جدًا إذ ليس هذا مما يقال بالرأي.
وسبب نزول الآية: أن أبا جهل سمع بعض الصحابة يقرأ، فيذكر الله مرة، والرحمن أخرى، فقال: يزعم محمد أن الإله واحد، وها هو يعبد آلهة كثيرة، فنزلت الآية مُبيِّنة أن تلك الأسماء الكثيرة هي لمسمى واحد، و (الحسنى) :
مصدر وُصف به، أو تأنيث أحسن، وحسن أسماء الله هي أنها صفة مدح وتعظيم وتحميد، وقيل: الدعاء بها:
التوسل بكل واحد منها.
قال تعالى: وَذَرُوا أي: اتركوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ أي: يميلون فِي أَسْمائِهِ عن الكمال إما بتعطيلها، أو إنكار شيء منها، وإما بزيادة فيها، مما يوهم نقصًا أو فسادًا.
قال القشيري: الإلحاد: هو الميل عن القصد، وذلك على وجهين: بالزيادة والنقصان فأهل التمثيل زادوا فألحدوا، وأهل التعطيل نقصوا فألحدوا. هـ. قال البيضاوي: أي: اتركوا تسمية الزائغين فيها، الذين يسمونه بما لا توقيف فيه، إذ ربما يوهم معنىً فاسدًا، كقولهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه، أو لا تبالُوا بإنكارهم ما سمى به نفسه، كقولهم: ما نعرف إلا رحمان اليمامة، أو: وذروهم وإلحادهم فيها بإطلاقها على الأصنام، واشتقاقها منه كاللات من الله، والعزى من العزيز، فلا توافقوهم عليه، أو أعرضوا عنهم ولا تحاوروهم. هـ.
(١) أخرج حديث الأسماء الحسنى الترمذي فى (الدعوات باب ٨٣) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه. [.....]
(٢) أخرجه البخاري فى (الدعوات- باب لله مائة اسم غير واحد) ومسلم فى (الذكر والدعاء- باب فى أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها). من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه- مرفوعا.
قال ابن جزي: قيل: معنى (ذروا) : اتركوهم فلا تجادلوهم ولا تتعرضوا لهم، فالآية، على هذا، منسوخة بالقتال، وقيل: معنى (ذروا) للوعيد والتهديد، كقوله: ذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ «١»، وهو الأظهر. هـ. قلت: وهو أليق بقوله بعده: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الإلحاد وغيره.
الإشارة: قال القشيري بعد كلام: ويقال إن الله سبحانه وقف الخلق بأسمائه، فهم يذكرونها قالةً، وتعزَّزَ بذاته، والعقول- وإن صَفَت- لا تهجم على حقائق الإشراف إذ الإدراك لا يجوز على الحق، فالعقول عند بواده الحقائق متقنعة بنقاب الحيرة عن التعرض للإدراك، وطلبه في أحوال الرؤية. والحق سبحانه عزيز باستحقاق نعوت التعالي مُتَفَرِّد. هـ.
قلت: وأسماء الله الحسنى كلها تتجلى في مظاهر الإنسان، وتتوارد عليه انفرادًا واجتماعًا، وقد تجتمع في واحد، إذا كان عارفًا، كلها، بحيث يتخلق بها، غير أن تجلياتها تختلف عليه، تارة ملكًا قدوسًا، وتارة رحمانيًا رحيمًا، وهكذا. وقد تقدم بيان كيفية التعلُّق والتخلُّق والتحقُّق بها، في شرحنا: الفاتحة الكبير، والله تعالى أعلم.
ولما ذكر فيما تقدم خواص قوم سيدنا موسى، ذكر هنا خواص هذه الأمة المحمدية، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨١]
وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (١٨١)
يقول الحق جلّ جلاله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أي: ومن جملة ما خلقنا: أُمَّةٌ: طائفة يَهْدُونَ الناس بِالْحَقِّ ويحملونهم عليه، وَبِهِ يَعْدِلُونَ في حكوماتهم وقضاياهم. رُوِي عن النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال: «هذه الآية لكم، وقد تقدم مثلها لقوم موسى» «٢».
قال البيضاوي: ذكر ذلك بعد ما بيَّن أنه خلق للنار طائفة ضالين، ملحدين عن الحق، للدلالة على أنه خلق أيضًا للجنة أمة هادين بالحق، عادلين في الأمر، واستدل به على صحة الإجماع، لأن المراد منه أن في كل قرن طائفة بهذه الصفة لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «لاَ تَزالُ مِنْ أمَّتِي طَائِفةٌ عَلى الحَقِّ، إِلى أن يأتيَ أَمرُ اللهِ» «٣» إذ لو اختص بعهد الرسول أو غيره لم يكن لذكره فائدة، فإنه معلوم. هـ.
الإشارة: هذه الأمة التي خلقها الله لهداية خلقه، وهى الطائفة التي لا تزال على الحق، وهي مؤلفة من العلماء الأنقياء على اختلاف أصنافهم وعلومهم، ومن الأولياء العارفين، فالعلماء يهدون إلى التمسك بالشرائع وإتقانها، والأولياء العارفون يهدون إلى التحقق بالحقائق وأذواقها، فالعلماء داعون إلى أحكام الله، والعارفون داعون إلى
(١) الآية ١١ من سورة المزمل.
(٢) أخرجه بنحوه الطبري فى التفسير (٩/ ١٣٥).
(٣) أخرجه البخاري فى (الاعتصام- باب قول النبي: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) ومسلم فى (الإمارة- باب قول النبي صلى الله عليه وسلّم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق) من حديث المغيرة.
معرفة ذات الله، العلماء لإصلاح الظواهر، والأولياء لإصلاح البواطن، ولا يقوم هذا إلا بهذا، فالظاهر من غير باطن فسق، والباطن من غير ظاهر إلحاد، وسيأتي عند قوله:
فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ «١» الآية، تمثيل منزلتهم عند الله. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر ضدهم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٢ الى ١٨٣]
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (١٨٢) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (١٨٣)
قلت: أصل الاستدراج: الاستصعاد، أو الاستنزال درجة بعد درجة، ومعناه: نسوقهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا.
يقول الحق جلّ جلاله: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا، وألحدوا في أسمائنا، سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أي: ندرجهم إلى الهلاك شيئًا فشيئًا، مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما نريد بهم، وذلك أَن تتواتر النعم عليهم، فيظنوا أنها لطفٌ من الله بهم، فيزدادوا بطرًا وانهماكًا في الغي، حتى تحق عليهم كلمة العذاب. وَأُمْلِي لَهُمْ أي: وأمهلهم، أي:
وأمدهم بالأموال والبنين والعُدة والعَدد، حتى نأخذهم بغتة، إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أي: أخذي شديد، وإنما سماه كيدًا لأن ظاهره إحسان وباطنه خذلان.
الإشارة: قال الشيخ زروق رضى الله عنه: الاستدراج: هو كُمون المحنة في عين المنة، وهو من درج الصبي إذا أخذ في المشي شيئًا بعد شيء، ومنه: الدرج الذي يرتقي عليه إلى العلو، كذلك المستدرج هو الذي تُؤخذ منه النعمة شيئًا بعد شيء وهو لا يشعر. قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ. هـ. فالاستدراج ليس خاصًا بالكفار، بل يكون في المؤمنين خواصهم وعوامهم.
قال في الحكم: «خف من وجود إحسانه إليك، ودوام إساءتك معه، أن يكون ذلك استدراجًا لك سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ». وقال سهل بن عبد الله رضى الله عنه: نمدهم بالنعم، وننسيهم الشكر عليها، فإذا ركنوا إلى النعمة وحجبوا عن المنعم: أُخذوا.
وقال ابن عطاء رضى الله عنه: كلما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة، وأنسيناهم الاستغفار من تلك الخطيئة. وقال الشيخ ابن عبّاد رضى الله عنه: الخوف من الاستدراج بالنعم من صفة المؤمنين، وعدم الخوف منه مع الدوام على الإساءة من صفة الكافرين. يقال: من أمارات الاستدراج: ركوب السيئة والاغترار بزمن المُهلة، وحمل تأخير العقوبة على استحقاق الوصلة، وهذا من المكر الخفي. قال تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ أي: لا يشعرون بذلك،
(١) من الآية ١٢٢ من سورة التوبة.
وهو أن يلقي في أوهامهم أنهم على شيء، وليسوا كذلك، يستدرجهم في ذلك شيئًا فشيئًا، حتى يأخذهم بغتة، كما قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ إشارة إلى مخالفتهم وعصيانهم، بعد ما رأوا من الشدة، فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ أي: فتحنا عليهم أسباب العوافي وأبواب الرفاهية، حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا من الحظوظ الدنيوية، ولم يشكروا عليها برجوعهم منها إلينا، أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً أي: فجأة، فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «١» آيسون قانطون من الرحمة. هـ.
ثم ندبهم إلى التفكر، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٤ الى ١٨٦]
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (١٨٤) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (١٨٥) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٨٦)
قلت: (وما خلق) : عطف على (ملكوت)، و (أن عسى) : مخففة، و (أن يكون) : مصدرية، أو عطف على (ملكوت) أيضًا.
يقول الحق جلّ جلاله: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا في أمر محمد صلّى الله عليه وسلّم حتى يتحققوا أنه مَا بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ يعني: نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم. روى أنه صلّى الله عليه وسلّم لما أُمر بالإنذار صعد الصَّفا، فدعاهم، فَخْذًا فخذًا، يُحذّرهم بأس الله تعالى، فقال قائلهم: إن صاحبكم لمجنون، بات يُصوِّت إلى الصباح، فنزلت «٢».
إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: بين الإنذار واضح أمره، لا يخفى على ناظر. أَوَلَمْ يَنْظُرُوا «٣» نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي: في عظمتهما وما اشتملتا عليه من العجائب، وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ أي: وينظروا فيما خلق الله من شيء من الأجناس التي لا يمكن حصرها، لتدلهم على كمال قدرة صانعها ووحدة مبدعها، وعظم شأن مالكها ومتولي أمرها، ليظهر لهم صحة ما يدعوهم إليه.
وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ أي: أوَ لم ينظروا أيضًا في اقتراب أجلهم وتوقع حلول الموت بهم، فيسارعوا إلى طلب الحق، والتوجه إلى ما ينجيهم من عذابه، قبل مفاجأة الموت ونزول العذاب. فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي: بعد القرآن، يُؤْمِنُونَ إن لم يؤمنوا به، وهو النهاية في البيان؟ كأنه إخبار عنهم بالطبع
(١) الآية ٤٤ من سورة الأنعام.
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير، (٩/ ١٣٦) بإسناد صحيح إلى قتادة.
(٣) إلى هنا ينتهى السقط الموجود فى المخطوطة الأصلية.
على القلوب والتصميم على الكفر، بعد إلزام الحجة والإرشاد إلى النظر، وقيل: هو متعلق بقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ كأنه قيل: لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يُبادرون بالإيمان بالقرآن، وماذا ينتظرون بعد وضوحه؟ وإن لم يؤمنوا به فبأي حديث أحق منه يريدون أن يؤمنوا به؟!.. قاله البيضاوي.
ثم بيَّن أن أمرهم بيده، فقال: مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ أصلاً، ولا يقدر أحد عليه، وَنَذَرُهُمْ «١» فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ: يتحيرون. ومن قرأ بالياء فمناسب لقوله: (من يضلل)، ومن جزمه فعطف على محل: (فلا هادي له) لأنه جواب الشرط.
الإشارة: قد أرشد الحق- تعالى- عباده إلى التفكر والاعتبار، وقد تقدّم الكلام عليه في «آل عمران»، وقد علَّم هنا أهل الاستدلال كيفيته وهو أن ينظر الإنسان في آمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وما ظهر على يديه من المعجزات وخوارق العادات، وأعظمها القرآن العظيم، ثم ما أتى به من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وما نطق به من الحكم العجيبة، وما أخبر به من قصص الأمم الدارسة والشرائع المتقدمة، مع كونه أُميًّا لم يقرأ ولم يكتب، ولم يجالس أحدًا ممن له خبرة بذلك، فتطلع عليه شمس المعرفة به حتى لا يخالطه وهمٌ، ولا يخطر بساحته خاطر سوء، ثم يتفكر في عجائب ملكوت السموات والأرض، وما اشتملتا عليه من ضروب المصنوعات، وعجائب المخلوقات، فيتحقق بوجود الصانع القادر على كل شيء، هذا إن لم يجد شيخاً يُخرجه من سجن الدليل، وإن وجده استغنى عن هذا بإشراق شمس العرفان، والخروج إلى فضاء الشهود والعيان.
ثم ذكر أمر الساعة، التي خوّفهم بها بقوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٧]
يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (١٨٧)
قلت: إنما سميت القيامة ساعة: لسرعة حسابها، أو وقوعها، لقوله: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ.
(١) قرأ نافع وابن كثير وابن عامر وابو جعفر (نذرهم) بنون العظمة ورفع الراء على الاستئناف، وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء على الغيبة ورفع الراء، وقرأ حمزة والكسائي بالياء وجزم الراء عطفا على محل قوله تعالى فَلا هادِيَ لَهُ راجع الإتحاف (٢/ ٧٠).
289
يقول الحق جلّ جلاله: يَسْئَلُونَكَ أي: قريش، عَنِ السَّاعَةِ أي: قيام الناس من قبورهم للحساب، أَيَّانَ مُرْساها أي: متى إرساؤها، أي: ثبوتها ووقوعها؟ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي استأثر بعلمها، لم يُطلع عليها ملكاً مقربًا، ولا نبيًا مرسلاً، لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها أي: لا يُظهرها عند وقت وقوعها، إِلَّا هُوَ، والمعنى إن إخفاءها يستمر إلى وقت وقوعها، ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عظمت على أهلها من الملائكة والثقلين لهولها، وكأنه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. أو ثقلت على السموات والأرض أنفسهما لتبدلهما وتغير حالهما، لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً: فجأة على غفلة، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إنَّ الساعَة تَهِيجُ بالنَّاسِ، والرَّجُلُ يُصلِحُ حَوضَهُ، والرَّجُلُ يسقى ما شيته، والرَّجلُ يُقَوَّم سِلعَته في سُوقِه، والرَّجُل يَخفِضُ مِيزَانَهُ ويرفعه». «١». والمراد:
النفخ في الصور للصعق، لأن الساعة مُرَتَّبة عليه وقريبة منه.
يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها أي: عالم بها، من حفى على الشيء: إذا سأل عنه، فإنَّ من بالغ في السؤال عن الشيء، والبحث عنه، استحكم علمه فيه، أي: يسألونك عن وقت قيامها، كأنك بليغ في السؤال عنها فعلمتها، وليس كما يزعمون، وأما قوله: فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها «٢» : فقيل: معناه: التعجب عن كثرة اهتمامه بالسؤال، أي: في أي شغل أنت من ذكراها والسؤال عنها؟ ولا يُعارض ما هنا لأنه استغنى عن ذلك بتلك الآية، وبعدها نزلت هذه، والله أعلم.
وقيل: «عنها» : يتعلق ب (يسألونك)، أي: يسألونك عنها كأنك حفي بهم، أي: شفيق بهم، قيل: إن قريشًا قالوا:
إنَّ بيننا وبينك قرابة، فقل لنا: متى الساعة؟ فقال له الحق تعالى: قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لا يعلمها غيره، وكرره لتكرر «يسألونك». وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن عِلْمُها عند الله لم يؤته أحدًا من خلقه.
الإشارة: إذا أشرق نورُ اليقين في القلب صارت الأمور المستقبلة حاصلة، والغائبة حاضرة، والآجلة عاجلة، فأهل اليقين الكبير قدّموا ما كان آتيًا، فحاسبوا أنفسهم قبل ان يُحاسبوا، ووزنوا أعمالهم قبل أن تُوزن عليهم، وجازوا الصراط بسلوكهم المنهاج المستقيم، ودخلوا جنة المعارف قبل حصول جنة الزخارف، فالموت في حقهم إنما هو انتقال من حالٍ إلى حال، ومن مقام إلى مقام، ومن دار الغرور إلى دار الهناء والسرور. وفي الحِكم: «لو أشرق لك نور اليقين في قلبك، لرأيت الآخرة أقرب إليك من أن ترحل إليها، ولرأيت محاسن الدنيا قد ظهرت كسفة الفناء عليها».
(١) أخرجه بهذا اللفظ ابن جرير فى التفسير، (٩/ ١٠٤) من حديث قتادة، وفي البخاري، عن أبي هريرة رفعه: «لتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه». أخرجه البخاري فى (الرقاق- باب ٤) وبنحوه مسلم فى (الفتن- باب قرب الساعة).
(٢) الآية ٤٣ من سورة النازعات.
290
قال الشيخ ابن عباد رضى الله عنه: نور اليقين تتراءى به حقائق الأمور على ما هي عليه، فيحق به الحق، ويبطل به الباطل، والآخرة حق، والدنيا باطل، فإذا أشرق نور اليقين في قلب العبد أبصر به الآخرة التي كانت غائبة عنه حاضرة لديه، حتى كأنها لم تزل، فكانت أقرب إليه من أن يرتحل إليها، فحق بذلك حقها عنده، وأبصر الدنيا الحاضرة لديه، قد انكسف نورها وأسرع إليها الفناء والذهاب، فغابت عن نظره بعد أن كانت حاضرة، فظهر له بطلانها، حتى كأنها لم تكن، فيوجب له هذا النظر اليقيني الزهادة فى الدنيا والتجافي عن زهرتها، والإقبال على الآخرة، والتهيؤ لنزول حضرتها، ووجدان العبد لهذا هو علامة انشراح صدره بذلك النور. كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم-: «إنَّ النورَ إذا دَخَلَ القلبَ انشرحَ له الصَّدرُ وانفسح، قيل يا رسول الله: هَل لذلكَ مِن عَلامَةٍ يعرف بها؟ قال: نعم. التَّجَافي عَن دَارِ الغُرُورِ، والإنَابَةُ إلى دَارِ الخُلُودِ، والاستِعدَادُ للمَوتِ قَبل نُزُولهِ» «١». أو كما قال- صلى الله عليه وسلم-.
وعند ذلك تموت شهواته وتذهب دواعي نفسه، فلا تأمره بسوء، ولا تطالبه بارتكاب منهي، ولا تكون له همة إلا المسارعة إلى الخيرات، والمبادرة لاغتنام الساعات والأوقات، وذلك لاستشعاره حلول الأجل، وفوات صالح العمل، وإلى هذا الإشارة بحديثي حارثة ومعاذ- رضى الله عنهما-. رَوى أنس بن مالك رضى الله عنه قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلّم يمشي إذ استقبله شابٌ من الأنصار، فقال له النبي صلى الله عليه وسلّم: «كَيْفَ أصبحَتَ يا حارثةٌ؟ قال: أصبحت مؤمنًا بالله حقًا، قال: انظر ما تقول، فإن لكلِّ قَولٍ حقيقة؟ فقال: يا رسولَ الله عَزَفت نَفسِي عن الدنيا فأسهَرْتُ لَيلي وأظمَأتُ نهاري، وكأني بعَرش ربي بارزًا، وكأني أنظر إلى أهلِ الجنّةِ يَتَزَاوَرُون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتعاوون فيها، فقال: أبصَرتَ فالزَم، عَبدٌ نوّر اللهُ الإيمانَ في قلبه..» إلى آخر الحديث «٢».
وروى أنس رضى الله عنه أيضًا: أن معاذَ بن جبل دخل على النبي صلى الله عليه وسلّم وهو يبكي، فقال له: كيف أصبحتَ يا معاذ؟
فقال: أصبحتُ بالله مؤمنًا، قال النبي صلى الله عليه وسلّم: «إنَّ لكل قول مصداقًا، ولكل حق حقيقة، فما مصداق ما تقول؟» فقال:
يا نبيَّ اللهِ، ما أصبحتُ صباحًا قط إلا ظننتُ أني لا أُمسي، ولا أمسَيتُ قط إلا ظننت إني لا أُصبِح، ولا خَطَوتُ خطوةً قط إلا ظننت أني لا أُتبِعُها أُخرَى، وكأني أنظرُ إلى كل أمةٍ جاثية تُدعى إلى كتابها، معها نبيُها وأوثَانُها التي كانت تعبدُ من دون اللهِ، وكأني أنظرُ إلى عُقُوبَةِ أهلِ النَّارِ وثوابِ أهلِ الجنة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «عَرَفَت فالزَم». انظر بقية كلامه رضى الله عنه.
(١) أخرجه البيهقي فى شعب الإيمان (٧/ ٣٦٢).
(٢) سبق تخريج الحديث عند تفسير الآية ١٢٦ من سورة الأنعام.
291
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بالاعتراف بالتقصير عن علم الغيب، الذي اختص الله به كعلم الساعة وغيرها، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٨٨]
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (١٨٨)
قلت: «وما مسني السوء» : عطف على «استكثرتُ»، أي: لو علمتُ الغيب لاستكثرتُ الخير واحترست من السوء، أو استئناف، فيوقف على ما قبله، ويراد حينئذٍ بالسوء: الجنون، والأول أحسن لاتصاله بما قبله، و (لقوم) : يجوز أن يتعلق ببشير ونذير، أي: أُبشر المؤمنين وأُنذرهم، وخصهم بالبشارة والنذارة لانتفاعهم بهما، ويجوز أن يتعلق بالبشارة وحدها، فيُوقف على (نذير)، ويكون المتعلق بنذير محذوف، أي: نذير للكافرين، والأول أحسن. قاله ابن جزي.
يقول الحق جلّ جلاله: قُلْ لهم يا محمد: أنا لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا أي: لا أجلب لها نفعًا ولا أدفع عنها ضررًا، إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من ذلك، فيعلمَني به، ويوقفني عليه، وهو إظهار للعبودية والتبري من ادعاء العلم بالغيوب، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: لو كنت أعلم ما يستقبلني من الأمور المغيبة كشدائد الزمان وأهواله، لاستعددت له قبل نزوله باستكثار الخير والاحتراس من الشر، حتى لا يمسني سوء، إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ أي: ما أنا إلا عبد مرسل بالإنذار والبشارة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنهم المنتفعون بهما، أو نذير لمن خالفني بالعذاب الأليم، وبشير لمن تبعني بالنعيم المقيم.
الإشارة: العبودية محل الجهل وسائر النقائص، والربوبية محل العلم وسائر الكمالات، فمن آداب العبد أن يعرف قدره، ولا يتعدى طوره، فإن ورد عليه شيء من الكمالات فهو وارد من الله عليه، وإن ورد عليه شيء من النقائص فهو أصله ومحله، فلا يستوحش منه، وكان شيخنا يقول: إن علمنَا فمن ربنا، وإن جهلنا فمن أصلنا وفصلنا. أو كلام هذا معناه، فالاستشراف إلى الاطلاع على علم الغيوب من أكبر الفضول، وموجب للمقت من علام الغيوب. والله تعالى أعلم.
ثم ذكر أصل النشأة، ليدل على نقص العبد وجهله، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٨٩ الى ١٩٠]
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (١٨٩) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (١٩٠)
292
يقول الحق جلّ جلاله: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ آدم عليه السلام، وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها أي: خلق من ضلعها زوجها حواء، سلها منه وهو نائم، لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليستأنس بها، ويطمئن بها اطمئنان الشيء إلى جزئه أو جنسه.
فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها حين رُكبت فيه الشهوة، حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً أي: خف عليها، ولم تلق منه ما تلقى بعضُ الحبالى من حملهن من الأذى والكرب، أو حملاً خَفيفًا، يعني النطفة قبل تصورها، فَمَرَّتْ بِهِ أي: ذهبت وجاءت به، مخففة، واستمرت إلى حين ميلاده، فَلَمَّا أَثْقَلَتْ أي: ثقل حملها وصارت به ثقيلة لكبره في بطنها، دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما آدم وحواء، قائلين: لَئِنْ آتَيْتَنا ولدًا صالِحاً أي: سويًا سالمًا في بدنه، تام الخلقة، لَنَكُونَنَّ لك مِنَ الشَّاكِرِينَ على هذه النعمة المجددة.
فَلَمَّا آتاهُما ولدًا صالِحاً كما سألا، جعل أولادُهما لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما، فسموا عبد العزى وعبد مناف وعبد الدار. فالآية إخبار بالغيب في أحوال بني آدم ممن كفر منهم وأشرك، ولا يصح في آدم وحواء هذا الشرك لعصمة الأنبياء، وهذا هو الصحيح. وقد يُعاتبُ المِلكُ الأب على ما فعل أولادهُ، كما إذا خرجوا عن طاعته فيقول له: أولادك فعلوا وفعلوا، على عادة الملوك.
وقيل: لما حملت حواء أتاها إبليسُ في صورة الرجل، فقال لها: وما يدريك ما في بطنك لعله بهيمة أو كلب، وما يدريك من أين يخرج؟ فخافت من ذلك، ثم قال لها: إن أطعتيني، وسميته عبد الحارث، فسأخلصه لك، وكان اسم إبليس في الملائكة: الحارث، وإن عصيتنى قتلته، فأخبرت بذلك آدم، فقال لها: إنه عدونا الذي أخرجنا من الجنة، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة أخرى، فقال لها إبليس مثل ذلك، فعصته، فلما ولدت مات الولد، ثم حملت مرة ثالثة، فسمياه عبد الحارث طمعًا في حياته «١»، فقوله: جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي: في التسمية لا غير، لا في عبادة غير الله.
والقول الأول أصح، لثلاثة أوجه: أحدها: أنه يقتضي براءة آدم وحواء من الشرك، قليله وكثيره، وذلك هو حال الأنبياء- عليهم السلام-. والثاني: أنَّ جمع الضمير في قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ، يقتضي أن الشرك وقع من أولادهما، لا منهما. الثالث: أن هذه القصة تفتقر إلى نقل صحيح، وهو غير موجود. انظر: ابن جزي.
الإشارة: قال الورتجبي: في قوله لِيَسْكُنَ إِلَيْها: لم يجد آدم عليه السلام في الجنة إلاسنا تجلى الحق، فكاد أن يضمحل بنور التجلي، لتراكمه عليه، فعلم الله- سبحانه- أنه لا يتحمل أثقال التجلي، وعرف أنه يذوب فى نور
(١) هذه القصة يظهر عليها أنها من آثار أهل الكتاب، وقد أعلّها أهل الحديث، رغم ورودها فى كتب الحديث وغيرها. راجع تفسير:
ابن كثير (٢/ ٢٧٥)، والإسرائيليات والموضوعات للشيخ أبى شهبة (١٧٩). والآية تتحدث عن (نمط) فى السلوك البشرى، وترسم نموذجا لأى زوجين بشريين يريدان الإنجاب من الله- بإلحاح، وعند ما يعطيهما الله تعالى ما سألاه، ينسبان ذلك لغير الله تعالى. [.....]
293
حسنه، وكل ما في الجنة مستغرق في ذلك النور، فيزيد عليه ضوء الجبروت والملكوت، فخلق منه حواء ليسكن آدم إليها، ويستوحش بها سُوَيعات من سطوات التجلي، ولذلك قال صلّى الله عليه وسلّم لعائشة- رضي الله عنها-: «كلميني يا حُميراء». ثم قال: وقال بعضهم: خلقها ليسكن آدم إليها، فلما سكن إليها غفل عن مخاطبة الحقيقة، بسكونه إليها، فوقع فيما وقع من تناول الشجرة. هـ. فكل من سكن إلى غير الله تعالى كان سكونه بلاء في حقه، يخرجه من جنة معارفه. والله تعالى أعلم.
ثم ردّ على من أشرك من بنى آدم، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩١ الى ١٩٥]
أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (١٩١) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٢) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (١٩٣) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٩٤) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (١٩٥)
يقول الحق جلّ جلاله: أَيُشْرِكُونَ مع الله أصنامًا جامدة، لا يَخلقون شيئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ، فهي مخلوقة غير خالقة. والله تعالى خالق غير مخلوق، وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً أي: لا يقدرون أن ينصروا من عبدهم، وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ فيدفعون عنها ما يعتريها، فهي في غاية العجز والذلة، فكيف تكون آلهة؟
وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ أي: وإن تدعو الأصنام إلى الهدى لا تجيبكم، فلا تهتدي إلى ما دعيت إليه لأنها جمادات، أو: وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى الحق لا تجيبكم، سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ عن دعائهم، فالدعاء في حقهم وعدمه سواء، وإنما لم يقل: أم صمتم ليفيد الاستمرار على عدم إجابتهم لأن الجملة الاسمية تقتضي الاستمرار.
ثم قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: تعبدونهم وتسمونهم آلهة من دون الله، هم عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث أنها مسخرة مملوكة، فكيف يعبد العبد مع ربه، فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنها تستحق أن تُعبد، والأمر للتعجيز لأن الأصنام لا تقدر أن تجيب فلا تستحق أن تعبد ثم عاد عليهم بالنقض فقال: أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها، ومعناه: أن الأصنام جمادات عادمة للحس والجوارح والحياة، ومن كان كذلك لا يكون
إلهًا، فإنَّ من وصف الإله الإدراك والحياة والقدرة. وإنما جاء هذا البرهان بلفظ الاستفهام لأن المشركين مقرون أن أصنامهم لا تمشي، ولا تبطش، ولا تبصر، ولا تُسمع، فلزمتهم الحجة، والهمزة في قوله: أَلَهُمْ: للاستفهام مع التوبيخ، و (أم)، في المواضع الثلاثة: تضمنت معنى الهمزة ومعنى بل، وليست عاطفة. قاله ابن جزي. قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ استعينوا بهم في عداوتي، ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ أي: لا تؤخرون، فإنكم وأصنامكم لا تقدرون على مضرتي وكيدي، ومفهوم الآية: الرد عليهم ببيان عجز أصنامهم وعدم قدرتها على المضرة.
الإشارة: كل ما سوى الله قد عمه العجز والتقصير، فليس بيده نفع ولا ضر، وفي الحديث: «لو اجتَمَعَ الإنسُ والجنُّ على أن ينفَعُوكَ بشَيءٍ لم يَنفَعُوكَ إلاَّ بشَيءٍ قد كَتَبَه اللهَ لك، ولو اجتَمَعُوا عَلَى أَن يَضُرُّوكَ بِشَيءٍ لم يَضُرُّوكَ إلاَّ بِشَيءٍ قَدَّرَهُ اللهُ عليكَ». أو كما قال صلّى الله عليه وسلّم، فالخلق كلهم في قبضة القهر، مصروفون بقدرة الواحد القهار، ليس لهم أرجل يمشون بها، ولا أيد يبطشون بها، ولا أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها، وإنما هم مجبورون في قوالب المختارين، فلا تركن إليهم أيها العبد في شيء، إذ ليس بيدهم شيء، ولا تخف منهم في شيء، إذ لا يقدرون على شيء. قال ابن جزي: وفيها- أي: في الآية- إشارة إلى التوكل على الله والاعتصام به وحده، وأن غيره لا يقدر على شيء.
ثم أفصح بذلك، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ١٩٦]
إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (١٩٦)
يقول الحق جلّ جلاله: قل لهم أيضًا يا محمد: إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ أي: هو ناصري وحافظي منكم، فلا تضرونني ولو حرصتم أنتم وآلهتكم، الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ أي: القرآن، وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي: ومن عادته تعالى أن يتولى الصالحين من عباده فضلاً عن أنبيائه، فلا أخافكم بعد أن تَولى حفظي منكم.
الإشارة: قال القشيري: مَن قام بحقِّ الله تولّى أمورَه على وجه الكفاية، فلا يحوجه إلى أمثاله، ولا يَدَعُ شيئاً من أحواله إلا أجراه على ما يريد بحُسنِ إفضاله، فإن لم يفعل ما يريده جعل العبد راضيًا بما يفعله، فرَوحُ الرضا على الأسرار أتَمُّ من راحة العطاء على القلوب. هـ.
ثم قال تعالى:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٧ الى ١٩٨]
وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (١٩٧) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (١٩٨)
يقول الحق جلّ جلاله، في إتمام الرد على المشركين: وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: تعبدونها من دونه، لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ، فلا تُبال بهم أيها الرسول، وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا، يحتمل أن يريد الأصنام، فيكون تحقيرًا لها، وردا على من عبدها فإنها جماد موات لا تسمع شيئًا، أو يريد الكفار، ووصفهم بأنهم لا يسمعون، يعني: سمعًا ينتفعون به، لإفراط نفورهم، أو لأن الله طبع على قلوبهم، وَتَراهُمْ أي: الأصنام، يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ لأنهم مصورون بصورة من ينظر، فقوله:
وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ: مجاز، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ حقيقةً، لأن لهم صورة الأعين، وهم لا يرون بها شيئا، هذا إن جعلناه وصفًا للأصنام، وإن كان وصفًا للكفار فقوله: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ حقيقة، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ مجاز، لأن الأبصار وقع منهم في الحس، لكن لمَّا لم ينفعهم لعمى قلوبهم، نفاه عنهم كأنه لم يكن.
قال المحشي: شاهدوا بأبصار رؤوسهم، لكنهم حجبوا عن الرؤية ببصائر أسرارهم وقلوبهم، فلم يعتد برؤيتهم. هـ.
الإشارة: في الآية تحويش للعبد إلى الأعتماد على الله واستنصاره به في جميع أموره، فلا يركن إلى شيء سواه، ولا يخاف إلا من مولاه، إذ لا شيء مع الله.
وقوله تعالى: وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ... الآية. قال المحشي: يقال: رُؤية الأكابر ليست بشهود أشخاصهم، لكن لِما يحصل للقلوب من مكاشفة الغيوب، وذلك على مقدار الاحترام وحضور الإيمان. هـ.
يعني: أن النظر إلى الأكابر، من العارفين بالله، ليست مقصودة لرؤية أشخاصهم، وإنما هي مقصودة لفيضان أمدادهم، وذلك على قدر التعظيم والاحترام، وصدق المحبة والاحتشام، فكل واحد من الناظرين إليهم يغرف على قدر محبته وتعظيمه. رُوِي أن بعض الملوك زار قبر أبي يزيد البسطامي، فقال: هل هنا أحد ممن أدرك الشيخ أبا يزيد البسطامي؟ فأتى بشيخ كبير، فقال: أنا أدركته، فقال: ما سمعتَه يقول؟ فقال: سمعتُه يقول: (من رآني لا تأكله النار). فقال الملك: هذا لم يكن للنبى- عليه الصلاة والسلام- فقد رآه كثير من الكفار فدخلوا النار، فكيف يكون لغيره؟ فقال له الشيخ: يا هذا، الكفار لم يروه صلّى الله عليه وسلّم على أنه رسول الله، وإنما رأوه على أنه محمد بن عبد الله، فسكت. والله تعالى أعلم.
ثم أمر نبيه صلى الله عليه وسلّم بمكارم الأخلاق، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ١٩٩ الى ٢٠٠]
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٠٠)
296
يقول الحق جلّ جلاله لنبيه صلى الله عليه وسلم: خُذِ الْعَفْوَ أي: اليسر من أخلاق الناس ولا تبحث عنها، أو: خذ من الناس، في أخلاقهم وأموالهم ومعاشرتهم، ما سهل وتيسر مما لا يشق عليهم لئلا ينفروا. فهو كقول الشاعر:
خُذِ العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمي مَوَدَّتِي «١»....
أو: خذ في الصدقات ما سهل على الناس من أموالهم وهو الوسط، ولا تأخذ كرائم أموالهم مما يشق عليهم، أو تمسك بالعفو عمن ظلمك ولا تُعاقبه، وهذا أوفق لتفسير جبريل الآتي، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: المعروف، وهو أفعال الخير، أو العرف الجاري بين الناس. واحتج المالكية بذلك على الحكم بالعرف الذي يجري بين الناس.
وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ أي: لا تكافئ السفهاء على قولهم أو فعلهم، واحلم عليهم. ولمّا نَزَلَت سأل رسولُ الله صلى الله عليه وسلّم جبريلَ عنها، فقال: «لا أَدري حَتَّى أسأَلَ، فعرج، ثم رَجَعَ فَقَالَ: يا مُحَمَدَّ، إِنَّ الله يَأمُركَ أن تَصِلَ مَن قَطَعَك، وتُعطِي مَن حَرَمَكَ، وتَعفُو عَمَّن ظَلَمَكَ» «٢». وعن جعفر الصادق: (أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلّم فيها بمكارم الأخلاق)، وهي على هذا ثابتة الحكم، وهو الصحيح. وقيل: كانت مداراة للكفار، ثم نسخت بالقتال.
وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ ينخسنك منه نخس، أي: وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به كاعتراء غضب، ومقابلة سفيه، فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ والتجئ إليه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يسمع استعاذتك، ويعلم ما فيه صلاح أمرك، فالاستعاذة عند تحريك النفس مشروعة، وفي الحديث: أن رجلاً اشتد غضبه، فقال صلّى الله عليه وسلّم: «إنّي لأَعلَمُ كلِمة لو قالَهَا لذَهَبَ عنهُ ما به أعُوذُ باللهِ من الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ» «٣».
الإشارة: كل ما أمر به الرسول صلّى الله عليه وسلّم تُؤمر به أمته، وخصوصًا ورثته من الصوفية، فهم مطالبون بالتخلق بأخلاقه صلّى الله عليه وسلّم أكثر من غيرهم، لأن غيرهم لم يبلغ درجتهم. وقال الورتجبي: خُذِ الْعَفْوَ: أي: فاعف عنهم من قلة عرفانهم حقك، وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ أي: تلطف عليهم في أمرك ونهيك لهم، فإنهم ضعفاء عن حمل وارد أحكام شرائعك وحقائقك، وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ الذين ليس لهم استعداد النظر إليك، ولا يعرفون حقوقك، فإنَّ منكر معجزات أنبيائي وكرامات أوليائي لا يبلغ إلى درجة القوم. قال بعض المشايخ- حين ذكر أهل الظاهر-: دع هؤلاء الثقلاء. هـ. فوصف علماء الظاهر بالثقلاء لثقل ظهورهم بعلم الرسوم، فلم ينهضوا إلى حقائق العلوم ودقائق الفهوم، وفي تائية ابن الفارض:
(١) هذا شطر بيت تمامه: (ولا تنطقى فى سورتى حين أغضب) وهو لحاتم، راجع: تفسير أبى حيان (٤/ ٤٤٤).
(٢) أخرجه الطبري فى التفسير (٩/ ١٥٥) عن سفيان بن عيينه عن أبى المرادي، وقال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف: (هذا منقطع، وأخرجه ابن مردويه موصولا من حديث جابر وحديث قيس بن سعد). انظر تفسير البغوي (٣/ ٣١٦) مع حاشية المحقق.
(٣) أخرجه بنحوه البخاري فى (بدء الخلق- باب صفه إبليس وجنوده) ومسلم فى (البر- باب فضل من يملك نفسه عند الغضب) من حديث سليمان بن صرد.
297
وجُزْ مُثَقلاً لو خَفَّ طَفَّ مُوكلاًّ بمَنْقُولِ أَحْكَامٍ ومَعْقُولِ حِكْمَه
قال شارحه: أمره بالمجاوزة عن المثقلين بأثقال العلوم الظاهرة، من الفقهاء، والمتكلمين بأحكام المنقولات، والفلاسفة الموكلين بالمعقولات والحكمة، ووصف مُثقلاً بأنه: لو خف طفا، أي: لأنه لو كان خفيفًا بوضع الأثقال عنه كان طفيفًا، لا يرى لنفسه قدرًا، واللازم منتف فالملزوم مثله هـ.
ثم إن البشر لا بد أن تعتريه أحكام البشرية، كالغضب وشبهه، كما بيّنه الحق تعالى بقوله:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠١ الى ٢٠٢]
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (٢٠١) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (٢٠٢)
قلت: الطيف- بسكون الياء-: مصدر طاف به الخيال يطيف طيفًا، أو مخفف من طيّف كهين ولين وميت.
ومن قرأ (طائف) : فاسم فاعل، والمراد به: لَمَّةُ الشيطان ووسوسته. وحذف مفعول (تذكروا) للعموم على ما يأتي في المعنى. وقوله: (فإذا هم مبصرون) : أتى بإذا الفجائية ليقتضي سرعة تيقظهم، وبالجملة الاسمية ولم يقل:
تذكروا فأبصروا ليفيد أنهم كانوا على البُصرى، وإنما السَّنة طرقتهم ثم رجعوا عنها.
يقول الحق جلّ جلاله: إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك والمعاصي، إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ أي:
لَمَّةُ منه، كما في الحديث: «إنَّ للشَّيطَانِ لَمّةٌ وللمَلكِ لَمّةَ... » «١» الخ، فإذا أخذتهم تلك السنة وغفلوا تَذَكَّرُوا عقابَ الله وغضبه، أو ثواب الله وإنعامه، أو مراقبته والحياء منه، أو مننه وإحسانه، أو طرده وإبعاده، أو حجبه وإهماله، أو عداوة الشيطان وإغواءه، كلٌ على قدر مقامه، فلما تذكروا ذلك فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ بسبب ذلك التذكر، أي: فإذا هم على بصيرة من ربهم التي كانوا عليها قبل المس، أو: فإذا هم مبصرون مواقع الخطأ ومكائد الشيطان فيحترزون منها، ولا يعودون إليها بخلاف المنهمكين في الغفلة، كما قال تعالى: وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ أي: وإخوان الشياطين، الذين لم يتقوا، يمدونهم، أي: ينصرونهم، ويكونون مددًا لهم في الضلال والغي بالتزيين والحمل عليه، ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يُمسكون عن إغوائهم حتى يُوردوهم النار، أو: لا يقصر الكفار عن غيهم وضلالهم حتى يهلكوا.
الإشارة: البصيرة حارسة للقلب، الذي هو بيت الرب، فإذا نامت طرقها الشيطان، فإن كان نومها خفيفًا أحست به وطردته، وهذه بصيرة المتقين، الذين ذكرهم الله تعالى بقوله: إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا، وإذا كان نومها ثقيلاً سرق الشيطان ما فيها، ولم تفطن به، وهذه بصيرة الغافلين، الذين هم إخوان الشياطين.
(١) أخرجه الترمذي في (تفسير سورة البقرة، آية: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ....) من حديث عبد الله بن مسعود. والمراد باللمّة:
النزول والقرب، والمراد بها: ما يقع فى القلب بواسطة الشيطان أو الملك. فأما كان من خطرات الخير فهو من الملك، وما كان من خطرات الشر فهو من الشيطان. راجع: النهاية (لمم ٤/ ٢٧٣).
قال القشيري: إنما يمس المتقين طيفُ الشيطان في ساعات غفلتهم عن ذكر الله، ولو أنهم استداموا ذكر الله بقلوبهم لما مسَّهم طائف الشيطان، فإن الشيطانَ لا يَقَربُ قلبًا في حال شهوده الله لأنه يخنس عند ذلك، ولكل عازمٍ فترة، ولكلِّ عالم هفوة، ولكل عابد شدة، ولكل قاصد فترة، ولكل سائر وقفة، ولكل عارف حجبة. قال- عليه الصلاة والسلام-: «الحِدَّةُ تعتري خيار أمتي» «١». فأخبر بأن خيار الأمة، وإن جلت رتبتهم، لا يتخلصون عن حدة تعتريهم في بعض أحوالهم، فتخرجهم عن دوام الحلم. هـ. وكأنه يُشير إلى أن طائف الشيطان يمس الواصلين والسائرين، وهو كذلك بدليل أول الآية في قوله: وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ... الآية، ومسه للسائر أو الواصل زيادة به، وترقية له، وتحويش له إلى ربه، والله تعالى أعلم.
ثم ردّ الله على من طلب الآيات، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٣]
وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٠٣)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ أي: الكفار، بِآيَةٍ بمعجزة مما اقترحوا، أو من القرآن حين يتأخر الوحي، قالُوا لَوْلا هلا اجْتَبَيْتَها أي: تخيرتها وطلبتها من ربك، أو هلا اخترعتها وتقولتها من نفسك كسائر ما تقرأ؟ قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي فلا أطلب منه آية، فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «٢»، أو: لا أخترع القرآن من عند نفسي، بل أَتبع ما يُوحى إليَّ من ربي.
هذا القرآن بَصائِرُ للقلوب مِنْ رَبِّكُمْ، أي: من عند ربكم، بها تُبصر الحق وتُدرك الصواب، وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ وإرشاد أو طمأنينة لقلوب المؤمنين.
الإشارة: قد تقدّم مراراً ما في طلب الآيات من ضعف اليقين، وعدم الصدق بطريق المقربين، وإنما على الأولياء أن يقولوا: هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بطريق المخصوصين. وبالله التوفيق.
ثم أمر بالإنصات للقرآن، الذي هو أعظم الآيات، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : آية ٢٠٤]
وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٢٠٤)
يقول الحق جلّ جلاله: وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ، مطلقًا، فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لكي تعتبروا وتتدبروا، فإنما نزل لذلك، وهل على الوجوب أو الاستحباب- وهو الراجح؟ قولان، وقيل: الاستماع المأمور به
(١) أخرجه الطبراني فى الكبير (١١/ ٦٤) عن ابن عباس رضى الله عنه، وضعفه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٣٨٠٨).
(٢) من الآية ٢٩ من سورة الكهف.
لقراءة الإمام في الصلاة، وقيل: في الخطبة، والأول الراجح، لوجهين: أحدهما: عموم اللفظ، ولا دليل على تخصيصه، والثاني: أن الآية مكيّة، والخطبة إنما شُرعت بالمدينة. وقوله تعالى: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أي: بسبب ما تكتسبه القلوب من الرقة والخشية عند استماع القرآن، قال بعضهم: الرحمة أقرب شيء إلى مستمع القرآن لهذه الآية. قاله ابن جزي.
الإشارة: الاستماع لكلام الحبيب أشهى للقلوب من كل حبيب، لا سيما لمن سمعه بلا واسطة، فكل واحد ينال من لذة الكلام على قدر حضوره مع المتكلم، وكل واحد ينال من لذة شهود المتكلم على قدر رفع الحجاب عن المستمع، والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالذكر القلبي، فقال:
[سورة الأعراف (٧) : الآيات ٢٠٥ الى ٢٠٦]
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (٢٠٥) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (٢٠٦)
يقول الحق جلّ جلاله، لنبيه صلى الله عليه وسلّم ولمن تبعه: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ أي: في قلبك بحركة لسان القلب، أو في نفسك سرًا بحركة لسان الحس، تَضَرُّعاً وَخِيفَةً أي: متضرعًا وخائفًا، وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ أي: متكلمًا كلامًا فوق السر ودون الجهر، فإنه أدخل في الخشوع والإخلاص، ولا حجة فيه لمن منع الذكر جهرًا لأن الآية مكية حين كان الكفر غالبًا، فكانوا يسبون الذاكر والمذكور، ولما هاجر المصطفى- عليه الصلاة والسلام- إلى المدينة، جهر الصحابةُ بالتكبير والذكر. فالآية منسوخة. انظر: الحاوي في الفتاوى للإمام السيوطي. فقد أجاب عن الآية بأجوبة.
فقوله: بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ أي: في الصباح والعشي، حين تتيقظ من نومك الشبيه بالبعث، وحين تريد النوم الشبيه بالموت، وقيل: المراد صلاةَ العصر والصبح، وقيل: صلاةَ المسلمين، قبل فرض الخمس، وقيل: للاستغراق، وإنما خص الوقتين لأنهما محل الاشتغال، فأولى غيرهما. وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر الله.
إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني ملائكة الملأ الأعلى، لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ يُنزهونه عما لا يليق به، وَلَهُ يَسْجُدُونَ أي: يخصونه بالعبادة والتذلل، لا يشركون به غيره، وهو تعريض بالكفار،
300
وتحريض للمؤمنين على التشبه بالملأ الأعلى، ولذلك شرع السجود عند قراءتها. وعن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: «إذا قَرَأَ ابنُ آدمَ السجدةَ، فَسَجَدَ، اعتَزَلَ الشيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلهُ أمِرَ هذا بالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الجَنّةُ، وأُمِرْتُ بالسُجُودِ فعصَيت فَلِي النارُ» «١».
الإشارة: اعلم أن الذكر على خمسة أقسام: ذكر اللسان فقط لعوام المسلمين، وذكر اللسان مع القلب لخواص الصالحين وأول المتوجهين، وذكر القلب فقط للأقوياء من السائرين، وذكر الروح لخواص أهل الفناء من المُوحدين، وذكر السر لأهل الشهود والعيان من المتمكنين، وفي قطع هذه المقامات يقع السير للسائرين، فيترقى من مقام، إلى مقام، حتى يبلغ إلى ذكر السر، فيكون ذكر اللسان في حقه غفلة.
وفي هذا المقام قال الواسطي رضى الله عنه: الذاكرون في حال ذكره أشد غفلة من التاركين لذكره لأن ذكره سواه.
وفيه أيضًا قال الغزالي: ذكر اللسان يُوجب كثرة الذنوب. وقال الشاعر:
مَا إِنْ ذَكَرْتُكِ إلاّ همَّ يَلْعَنُني... سرِّي، وقَلْبِي، وَرُوحِي، عند ذِكْرَاكَ
حَتَّى كَأَنَّ رَقيباً مِنْكَ يَهْتِفُ بِي:... إِيَّاكَ، وَيْحَك، والتَّذْكَارَ إِيَّاكَ
أَمَا تَرَى الْحقَّ قَدْ لاَحَتْ شَوَاهِدُهُ... وَوَاصَلَ الْكُلَّ مِنْ مَعْنِاهُ مَعْنَاكَ
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ... الآية، قال القشيري: أثبت لهم عندية الكرامة، وحفظ عليهم أحكام العبودية كي لا ينفك حال جمعهم عن نعت فرقهم، وهذه سُنَّة الله تعالى مع خواصِّ عباده، يلقاهم بخصائص عين الجمع، ويحفظ عليهم حقائق عين الفَرْق، لئلا يُخِلّوا بآداب العبودية في أوان وجود الحقيقة. هـ.
(١) أخرجه مسلم فى (الإيمان- باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة) من حديث أبى هريرة- رضى الله عنه.
301
Icon