تفسير سورة المزّمّل

غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني
تفسير سورة سورة المزمل من كتاب غاية الأماني في تفسير الكلام الرباني المعروف بـغاية الأماني في تفسير الكلام الرباني .
لمؤلفه أحمد بن إسماعيل الكَوْرَاني . المتوفي سنة 893 هـ

سورة المزمل
مكية، وهي [عشرون آية]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) أي: المتزمل وهو المتلفف في ثيابه، أدغمت التاء في الزاء. روى أبو بكر البزار عن جابر: أنَّ مشركي مكة لما اختلفوا، شاعر أو ساحر أو كاهن أو مجنون، تزمّل في ثيابه في بيته حزيناً. فأتاه جبرائيل وقال: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) آمراً له بأن ينهض إلى القيام في عبادة ربّه في أشرف الأوقات، وهو الليل الخالي عن الشواغل. وفيه من لطيف العتاب الممزوج بالرأفة، لينشط ويستعدّ لتلقي ما يأتي من قوله: (إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا) وما قيل: " إنه كان متزملاً في مرط لعائشة نصفه عليه، ونصف آخر على عائشة
رضي اللَّه عنها " لا وجه له، إذ السورة من أوائل القرآن نزولاً، وعائشة لم تكن موجودة فضلاً عن كونها عنده. وكذا القول. بأنه أول ما أتاه جبرائيل أتى خديجة وقال: " زملوني " فبينا هو كذلك إذ ناداه جبرائيل فناداه: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ) بل كان هذا بعد فترة الوحي، " لما رأي جبرائيل قاعداً على كرسي بين السماء والأرض، فرجع إلى خديجة فنزل: (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) ".
(قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (٢) نِصْفَهُ... (٣) بدل من الليل، و (إِلَّا قَلِيلًا) استثناء منه، أي: قم أقل من النصف على البتّ.
(أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ... (٤) أنقص النصف أو زد، على التخيير، ولما كان الأقل هو الأصل كرّر، كقولك: أكرم زيداً، أو إما زيداً وإما عمراً. فإن قلت: إذا كان التخيير بين الأقل من النصف على البتِّ، وبين أحد الأمرين النقصان على النصف والزيادة عليه، فقد خرج النصف عن الأقسام، وقراءة الكوفيين وابن كثير: (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ
259
(أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ) بنصبه تدلّ على أنه كان يقوم تارة نصف الليل. قلت: الضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للنصف، وإذا جاز له الزيادة على النصف فقد جاز له النصف، لا أنه إذا جاز له الأقل جاز له النصف ليلزم استدراك ذكر الزيادة. أَو. (نِصْفَهُ) بدل من (قَلِيلًا) فالتخيير بين أمور ثلاثة: قيام النصف بتمامه، وقيام الناقص منه، وقيام الزائد عليه. وعلى هذا وصف النصف بالقلة بالنظر إلى الكل. وفيه إشارة إلى أنَّ النصف المعمور بالعبادة وذكر اللَّه تعالى جلّ الليل، والنصف الخالي عنه نزر قليل وإن ساواه كمًّا. ويجوز أن يكون الضمير في (مِنْهُ) و (عَلَيْهِ) للأقلّ من النصف كالثلث، والتخيير بينه وبين الأقل منه كالربع، والزائد عليه كالنصف. وعن الأخفش: " (نِصْفَهُ) عطف على (الليْلَ) بمقدّر أي. قم الليل إلا قليلاً، أو قم نصفه، أو ثلثه، أو ثلثيه ". فالتخيير بين أربعة أمور. روى مسلم عن عائشة - رضي الله عنها -: " أن قيام الليل كان فرضاً بأول هذه السورة فقام رسول اللَّه - ﷺ - وأصحابه حولاً حتى انتفخت أقدامهم، واصفرت وجوههم، فنسخه آخر السورة فصار تطوعاً ". وعن ابن جبير: نسخ بعد عشر سنين. وقيل: نسخ عن الأمة
260
فقط. (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) اقرأه على مهل وتؤدة لتتمكن من التأمل والتدبر في دقائقه وحكمه، فيكون قيامك في الليل الذي هو أشرف الأوقات على أكمل الأحوال. شبه القراءة المتصلة بالثغر المرتل، وهو المُفَلَّج الشبيه بالأُقْحُوَان.
(إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (٥) اعتراض دل به على أن قيام الليل من التكاليف الشاقة التي ورد بها القرآن، لأن الليل محل الراحة، فإحياؤه بالعبادة مضاد للطبع، وفيه إيقاظ له على التشمر لتحمله، وتوطن النفس على المكابدة في تبليغه وتحميله. روى البخاري عن عائشة رضي اللَّه عنها: " رأيته في اليوم الشديد البرد ينزل عليه الوحي، وإن جبينه ليتصفد عرقاً ". وقيل: ثقيل في الميزان، أو على الكفار، أو على المتأمل؛ لافتقاره إلى إتعاب القريحة في استنباط معانيه، أو ثقيل تلاوته على الوجه المنزل؛ ولذلك خفف عن هذه الأمة
بالقراءة على سبعة أحرف، أو على الراسخين؛ لاشتماله على المحكم، والمتشابه، والناسخ، والمنسوخ. وعلى الأوجه: الجملة تعليل للأمر بقيام الليل؛ لأنه يعد للنفس ما به يعالج ذلك الثقل.
(إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ... (٦) قيامه، مصدر نشأ، قام بالحبشية. وقيل: ساعاته؛ لأنها تحدث واحدة إثر أخرى. وقيل: النفس التي تنشأ عن المضجع وترتفع، من نشأت السحابة، ارتفعت. عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أول الليل ". وعن ابن عمر - رضي الله عنهما -: " من العشاء إلى الصبح، أيّ وقت كان ". وعن علي، والحسن رضي اللَّه عنهما: " بين العشائين "، وعن عائشة ومجاهد رضي اللَّه عنهما: " الصَّلاة بعد النوم " وهو الأصوب، لمداومة رسول اللَّه - ﷺ - على القيام بعد النوم، ولقوله: (هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا) أي: موافقة للحواس مع القلب على التوجه لعدم الشاغل. وعن الفراء: " أشق وأكثر علاجاً لترك الراحة ". وعن الأخفش: " أثبت قياماً ". وقرأ
الكوفيون ونافع وابن كثير " وَطْئاً " بفتح الواو وسكون الطاء من وطأهم وطئأ: ثقل عليهم، ومن قوله - ﷺ -: " اللَّهم اشدد وطأتك على مضر "، والمد أحسن وأوفق بقوله: (وَأَقْوَمُ قِيلًا) أي: أصح قراءة؛ لهدوء الأصوات، وعدم الخواطر والالتفاتات.
(إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (٧) فراغاً، أو منقلباً في معاشك، فتوفر بالليل من عبادة ربك، مستعار من سبح الفرس وهو: مد اليدين في الجري، والطول ترشيح.
(وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ... (٨) دم على ذكره في كل الأوقات، واستغرق في ملاحظة المذكور؛ لتحظى بالزلفى والقرب عنده. (وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) وانفصل بالكلية عن الدنيا، أو عن وجودك؛ لتبقى بوجوده الباقي. ولما كان المطاوع والمطاوَع واحداً في الخارج ذكر التبتيل موضع التبتل؛ مراعاة للفاصلة، وقيل: لأن معنى تبتل: بتل نفسك.
(رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ... (٩) مبتدأ وخبر، أو خبر مبتدأ محذوف، و (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ) خبر آخر. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وشعبة (ربِّ) بالجرّ بدلاً من (رَبِّك). وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - جرّ بإضمار حرف القسم جوابه: (لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ).
(فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا) متفرع على التوحيد. أي: إذا انفرد بالألوهية فاجعل أمورك موكولة إليه، أو اجعله كفيلاً ينصرك.
(وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ... (١٠) فيك وفيما أنزل إليك. (وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) أعرض عنهم وجانب من غير مقاولة ولا مقاتلة، نسخت بآية السيف.
(وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ... (١١) فأنا كافيك أمرهم. كلام من يكون واثقاً بالوفاء، متمكناً منه أقصى التمكن؛ ولذلك أبرزه في صورة المنع عن الاستكفاء. (أُولِي النَّعْمَةِ) التنعم، وبالكسر: الإنعام، وبالضم: المسرَّة. يريد المترفين من صناديد قريش، المغترين بالحطام، المانعين أتباعهم عن الدخول في الإسلام. (وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا) إمهالاً قليلاً، أو زماناً قليلًا.
(إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا... (١٢) جمع نكل: القيد الثقيل (وَجَحِيمًا) ناراً شديدة الحر والاتقاد.
(وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ... (١٣) آخذ بالحلق، بشيع لا يسوغ (وَعَذَابًا أَلِيمًا) نوعاً آخر لا يعرف كنهه إلا اللَّه.
(يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ... (١٤) تضطرب وتتزلزل. منصوب بما في (لَدَينَا) من معنى الفعل (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا) رملاً مجتمعاً من غير مقدار ومقياس، من هلت الدقيق: إذا أرسلته من غير كيل.
(إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ... (١٥) الخطاب للمكذبين. التفات حسن الموقع (كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا) أي: عصيتموه كما عصاه فرعون ولم يسمه؛ لأن الغرض عصيان الرسول كائناً من كان.
(فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ... (١٦) أعاده معرفة؛ لتقدم ذكره. ولا يخفى أن تشبيه عصيانهم بعصيان فرعون ينبئ عن فرط عتو، وزاد لهذا الرسول كونه شاهداً عليهم؛ ليكون عصيانه أبلغ في الذم، وأشار به إلى أنهم لو آمنوا به كان شاهدًا لهم لا عليهم.
(فَأَخَذْنَاهُ) في الدنيا. (أَخْذًا وَبِيلًا) ثقيلاً، ومنه الوابل للمطر العظيم القطر، أصله الوخامة يقال: مرعى وبيل.
(فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا... (١٧) مفعول به. أي: هب أنكم لا تؤاخَذون في الدنيا أخذة فرعون، فكيف تتقون أنفسكم هول يوم (يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا) كناية عن شدته، إذ عند تفاقم المصائب يسرع الشيب. قال أبو الطيب:
وَالهَمُّ يَختَرِمُ الجَسيمَ نَحافَةً... وَيُشيب ناصيَةَ الصَبِيِّ وَيُهرِمُ
أو عن طوله. وفي إيثار (إنْ) مع القطع بوجود الكفر واستمراره منهم؛ إشارة إلى أن وجود الكفر مع هذا الرسول الذي هو النور المبين ينبغي أن يكون على الفرض والتقدير. أو المعنى: فكيف تتقون اللَّه في ذلك اليوم بعد فوات الوقت؟ ففيه حث على الإقلاع قبل أن لا ينفع الندم. أو فكيف يرجى منكم التقوى وأنتم جاحدون ذلك اليوم والمجازاة فيه.
(السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ... (١٨) منشق. والتذكر باعتبار السقف. (بِهِ) أي: بذلك اليوم؛ لشدته وهوله. (كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا) لا محالة. الضمير للَّه، أو لليوم على إضافة المصدر إلى المفعول.
(إِنَّ هَذِهِ... (١٩) الآيات. (تَذْكِرَةٌ) موعظة؛ لجلائها. (فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا) موصلاً إليه.
(إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ... (٢٠) لما نزل أول السورة كان الرجل يحتاط في تقدير الأوقات، ولا يدري متى الثلث والنصف والثلثان، فشق ذلك عليهم فنزلت. واستعار الأدنى وهو الأقرب للأقل؛ لأن المسافة بين الشيئين إذا قربت قلت الأحيان. وقرأ الكوفيون " نصفَه وثلثَه " بالنصب عطفاً على " أدنى "، وهو المختار؛ لدلالته على أنهم قاموا بأفضل ما وقع فيه التخيير، وهو الأجدر بجلالة منصبه - على ذاته أفضل الصلاة -. وقرأ هشام بإسكان لام (ثلْثه) تخفيفاً. (وَطَائِفَة مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ) من أصحابك. (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ) لا يعلم تقدير ساعاتهما وضبط مقدارها غيره.
(عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ) أي: تقدير الأوقات؛ لاختصاص ذلك به تعالى. (فَتَابَ عَلَيْكُمْ) رفع عنكم ما كان تركه معصية. (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) في صلاة الليل، أو أي وقت كان. أمر ندب. (عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى) استئناف لبيان حكمة أخرى أقوى من الأولى، يقتضي الترخيص؛ ولذلك كرر الحكم مرتباً عليه. (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) الضرب في الأرض لابتغاء فضل اللَّه: المسافرة للتجارة. (وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) إخبار في يكون مستقبلاً بالإعجاز؛ لأن الآية مكية. وتسويته بين الضارب في الأرض للتجارة، والمجاهدة في سبيل اللَّه دلت على أن طلب الرزق إذا قرن بالنية الصالحة له مكان عند اللَّه، كيف وقد قدمه على المجاهدة؟!؛ ولذلك روي عن عبد اللَّه بن عمر - رضي الله عنهما -: " ما خلق الله موتة أموتها بعد القتل في سبيل اللَّه أحبّ إليَّ من أن أموت بين
266
شعبتي رحل أضرب في الأرض ابتغاء فضل اللَّه ". (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) المفروضة. فرضت ليلة الإسراء بمكة، بعد خمس من البعثة على الأصح. (وَآتُوا الزَّكَاةَ) قدراً من المال كان فرضاً بمكة، وتقرر المقادير بالمدينة. (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا) أنفقوا في سبيله على وجه الإخلاص. يتناول المفروض والمسنون، بل سائر أعمال البر، بدنية ومالية.
(وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) من تأخير إلى حين الموت والوصية به؛ لقوله - ﷺ -: " الصدقة أن تصدق وأنت صحيح شحيع ترجو الغنى وتحشى الفقر، ولا تدع أن يبلغ الحلقوم ثم تقول: لفلان كذا لفلان كذا ". وعن الزجاج: " خيرًا من متاع الدنيا " ويرده: (وَأَعظَمَ أَجْرًا). (وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ) لما فرط منكم؛ لأن الاستقامة متعذرة، أو متعسرة. (إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ) للذنوب (رَحِيمٌ) يجعل مكانها الحسنات.
* * *
تمت سورة المزمل، والحمد للرحيم المتفضل، والصلاة على الكامل المكمل.
* * *
267
Icon