ﰡ
آياتها خمس وسبعون، نزلت بعد البقرة، وهى مدنية إلا من آية ٣٠ لغاية ٣٦ فمكية ومناسبتها لسورة الأعراف أنها فى بيان أحوال النبي ﷺ مع قومه.
وسورة الأعراف مبينة لأحوال الرسل مع أقوامهم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١ الى ٤]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤)تفسير المفردات
الأنفال: واحدها نفل (بالتحريك) من النفل (بالسكون) وهو الزيادة على الواجب، ومنه صلاة النفل، والمراد به هنا الغنيمة- وقيل الغنيمة كل ما حصل مستغنما بتعب أو بغير تعب وقبل الظفر أو بعده، والنفل يحصل للإنسان قبل القسمة من الغنيمة، والبين: يطلق على الاتصال والافتراق وعلى كل ما بين طرفين كما قال:
«لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ» وذات البين: الصلة التي تربط بين شيئين، والوجل: الفزع والخوف، والدرجات: منازل الرفعة ومراقى الكرامة.
نزلت هذه الآيات فى غنائم غزوة بدر، إذ تنازع فيها من حازها من الشبان وسائر المقاتلة،
فقد روى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا»
فأما المشيخة فثبتوا تحت الرايات، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان: إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شىء للجأتم إلينا، فاختصموا إلى النبي ﷺ فنزلت:
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ؟ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)
وروى أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي عن سعد بن أبي وقّاص أنه قتل سعيد بن العاص وأخذ سيفه واستوهبه النبي ﷺ فمنعه إياه،
وأن الآية نزلت فى ذلك فأعطاه إياه لأن الأمر كله إليه صلى الله عليه وسلم.
الإيضاح
(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ) أي يسألونك أيها الرسول عن الأنفال لمن هى؟ أللشبان أم للشيوخ؟ أو للمهاجرين هى، أم للأنصار؟ أم لهم جميعا؟.
(قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ) أي قل لهم الأنفال لله يحكم فيها بحكمه، وللرسول يقسمها بحسب حكم الله تعالى، وقد قسمها ﷺ بالسواء.
وقد بين الله بهذا أن أمرها مفوض إلى الله ورسوله، ثم بين مصارفها وكيفية قسمتها فى آية الخمس: «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ» إلخ، وللإمام أن ينفلّ من شاء من الجيش ما شاء قبل التخميس
وقد روى عن سعد بن أبي وقاص أنه قال: قتل أخى عمير يوم بدر فقلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فأعجبنى فحئت به إلى النبي ﷺ فقلت إن الله شفى صدرى من المشركين فهب لى هذا السيف، فقال لى عليه الصلاة والسلام: ليس هذا لى ولا لك، اطرحه فى القبض فطرحته
(فَاتَّقُوا اللَّهَ) أي فاجتنبوا ما كنتم فيه من المشاجرة والتنازع والاختلاف الموجب لسخط الله، لما فيه من المضارّ ولا سيما فى حال الحرب.
(وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ) أي وأصلحوا ما بينكم من الأحوال حتى تكون أحوال ألفة ومحبة واتفاق، وهذا الإصلاح واجب شرعا وعليه تتوقف قوة الأمة وعزتها وبه تحفظ وحدتها، روى عن عبادة بن الصامت قال: نزلت هذه الآية فيما معشر أصحاب بدر حين اختلفنا فى النفل وساءت فيه أخلاقنا فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسوله، فقسمه بين المسلمين على السواء وكان فى ذلك تقوى الله وطاعة رسوله وإصلاح ذات البين.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) فى كل ما يأمر به وينهى عنه، ويقضى به، ويحكم فالله تعالى مالك أمركم، والرسول مبلّغ عنه ومبيّن لوحيه بالقول والفعل والحكم.
وعلى هذه الطاعة تتوقف النجاة فى الآخرة والفوز بثوابها، والرسول ﷺ يطاع فى اجتهاده أمر الدنيا المتعلق بالمصالح العامة ولا سيما فى الشئون الحربية، لأنه القائد العام فمخالفته تخلّ بالنظام وتؤدى إلى الفوضى التي لا تقوم للأمة معها قائمة، ولأئمة المسلمين من حق الطاعة فى تنفيذ الشرع وإدارة شئون الأمة وقيادة الجند ما كان له ﷺ بشرط عدم معصية الله تعالى ومشاورة أولى الأمر.
(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) أي إن كنتم كاملى الإيمان فامتثلوا هذه الأوامر الثلاثة، إذ كماله يقتضى ذلك لأن الله أوجبه فالمؤمن بالله حقا يكون له من نفسه وازع يسوقه إلى الطاعة واتقاء المعاصي إلا أن يعرض له ما يغلبه عليها أحيانا من ثورة شهوة أو سورة غضب ثم لا يلبث أن يفىء إلى أمر الله ويتوب إليه مما عرض له.
(إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ) أي إنما المؤمنون حقا المخلصون فى إيمانهم هم الذين اجتمعت فيهم خصال خمس:
(١) (الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ) أي الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم فزعوا لعظمته وسلطانه أو لوعده ووعيده ومحاسبته لخلقه، والآية بمعنى قوله: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ، الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ».
(٢) (وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً) أي وإذا تليت عليهم آياته المنزلة على خاتم أنبيائه ﷺ زادتهم يقينا فى الإيمان، وقوة فى الاطمئنان، ونشاطا فى الأعمال إذ أن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج يوجب زيادة اليقين، فابراهيم صلوات الله وسلامه عليه كان مؤمنا بإحياء الله الموتى حين دعا ربه أن يريه كيف يحييها كما قال تعالى: «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ؟ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» فمقام الطمأنينة فى الإيمان يزيد على ما دونه من الإيمان المطلق قوة وكمالا. ويروى أن عليا المرتضى قال: لو كشف عنى الحجاب ما ازددت يقينا، والعلم التفصيلي فى الإيمان أقوى من العلم الإجمالى، فمن آمن بأن لله علما محيطا بالمعلومات، وحكمة قام بها نظام الأرض والسموات، ورحمة وسعت جميع المخلوقات ويعلم ذلك علما إجماليا ولو سألته أن يبين لك شواهده فى الخلق لعجز- لا يوزن إيمانه بإيمان صاحب العلم التفصيلي بسنن الله فى الكائنات فى كل نوع من أنواع المخلوقات، ولا سيما فى العصور الحديثة التي اتسعت فيها معارف البشر بهذه السنن، فعرفوا منها ما لم يكن يخطر عشر معشاره لأحد من العلماء فى القرون الخوالى.
وفى معنى الآية قوله تعالى فى وصف الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم
(٣) (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) أي إنهم يتوكلون على ربهم وحده ولا يفوضون أمرهم إلى سواه، فمن كان موقنا بأن الله هو المدبر لأموره وأمور العالم كله لا يمكن أن يكل شيئا منها إلى غيره.
وإذا كان الشرع والعقل حاكمين بأن للإنسان كسبا اختياريا كلفه الله العمل به وأنه يجازى على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وجب على الإنسان أن يسعى فى تدبير أمور نفسه بحسب ما وضعه الله فى نظام الأسباب وارتباطها بالمسببات، وأن هذا الارتباط لم يكن إلا بتسخير الله تعالى وأن ما يناله باستعمالها فهو فضل من الله الذي سخرها وجعلها أسبابا وعلّمه ذلك، وأن ما لا يعرف له سبب يطلب به، فالمؤمن يتوكل على الله وحده وإليه يتوجه فيما يطلبه منه.
أما ترك الأسباب وتنكب سنن الله فى الخلق فهو جهل بالله وجهل بدينه وجهل بسننه التي لا تتبدل ولا تتحول.
(٤) (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ) أي يؤدونها مقوّمة كاملة فى صورتها وأركانها الظاهرة من قيام وركوع وسجود وقراءة وذكر وفى معناها وروحها الباطن من خشوع وخضوع فى مناجاة الرحمن، واتعاظ وتدبر فى تلاوة القرآن، وبهذا كله تحصل ثمرة الصلاة من الانتهاء عن الفحشاء والمنكر.
(٥) (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) أي وينفقون بعض ما رزقناهم فى وجوه البر فى الزكاة المفروضة وبالنفقات الواجبة والمندوبة للأقربين والمعوزين، وفى مصالح الأمة ومرافقها العامة التي بها يعلو شأنها بين الأمم ويكون عليها تقدمها وعمرانها.
(أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي أولئك الذين اتصفوا بتلك الصفات هم دون من سواهم
روى الطبراني عن الحارث بن مالك الأنصاري رضي الله عنه أنه مرّ برسول الله ﷺ فقال له: «كيف أصبحت يا حارثة؟ قال أصبحت مؤمنا حقا:
قال: انظر ماذا تقول فإن لكل شىء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ فقال عزفت نفسى عن الدنيا، فأسهرت ليلى، وأظمأت نهارى، وكأنى أنظر إلى عرش ربى بارزا، وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأنى أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها، فقال: يا حارثة عرفت فالزم (ثلاثا) »
وروى عن الحسن أن رجلا سأله أمؤمن أنت؟
قال الإيمان إيمانان، فإن كنت تسألنى عن الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار والبعث والحساب فأنا مؤمن، وإن كنت تسألنى عن قوله تعالى: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ» إلخ فو الله لا أدرى أنا منهم أم لا.
وبعد أن ذكر سبحانه أوصافهم ذكر جزاءهم عند ربهم فقال:
(لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم درجات من الكرامة والزلفى لا يقدر قدرها عند ربهم الذي خلقهم وسوّاهم وهو القادر على جزائهم على جميل أعمالهم فى دار الجزاء والثواب، والله تعالى فضل بعض الناس ورفعهم على بعض درجة أو درجات فى الدنيا وفى الآخرة وعند الله تعالى كما قال تعالى: «الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ» وقال تعالى فى الرسل: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ» الآية. وقال فى درجات الدنيا وحدها:
«وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ».
ولهم مغفرة من الله لذنوبهم التي سبقت وصولهم إلى درجة الكمال، ولهم رزق
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥ الى ٨]
كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (٥) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨)
تفسير المفردات
الشوكة: الحدة والقوة، وأصلها واحدة الشوك، شبهوا بها أسنة الرماح، والطائفتان: طائفة العير الآتية من الشام، وطائفة النفير التي جاءت من مكة للنجدة، وغير ذات الشوكة: هى العير، ودابر القوم: آخرهم الذي يأتى فى دبرهم ويكون من ورائهم، ويحق الحق: أي يعز الإسلام لأنه الحق، ويبطل الباطل: أي يزيل الباطل وهو الشرك ويمحقه.
المعنى الجملي
بدئت القصة بغزوة بدر الكبرى التي كانت أول فوز للمؤمنين، وخذلان للمشركين، مع بيان أحكام الغنائم التي غنمها المسلمون منهم- ثم ذكر هنا أول القصة وهو خروج النبي ﷺ من بيته وكراهة فريق من المؤمنين لذلك، وقد كان من مقتضى الإيمان الإذعان لطاعته والرضا بما يفعله بأمر ربه وما يحكم أو يأمر به.
(كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ) أي إن الأنفال لله يحكم فيها بالحق، ولرسوله يقسمها بين من جعل الله لهم الحق فيها بالسوية وإن كره ذلك بعض المتنازعين فيها ممن كانوا يرون أنهم أحق بها، كإخراج ربك إياك من بيتك بالحق للقاء إحدى الطائفتين من المشركين، وقد كان كثير من المؤمنين كارهين لذلك، لعدم استعدادهم للقتال، ولنحو هذا من الأسباب التي تعلم مما يلى.
وبيان ذلك-
أن رسول الله لما سمع بأبى سفيان مقبلا بعيره من الشام ندب المسلمين إليهم، وقال هذه عير قريش فيها أموالهم، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفّلكموها، فخف بعضهم وثقل بعضهم ظنا منهم أن رسول الله ﷺ لا يلقى حربا- وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز من يتجسس الأخبار ويسأل من لقى من الرّكبان تخوّفا على أمر الناس حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها فى أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة وخرج رسول الله ﷺ فى أصحابه حتى بلغ واديا يقال له ذفران حتى إذا كان ببعضه نزل وأتاه الخبر عن مسير قريش إليهم ليمنعوا عيرهم فأخبر رسول الله ﷺ الناس بذلك واستشارهم فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن، ثم قام عمر فقال فأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو فقال يا رسول الله امض لما أمرك الله به، فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى:
«فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ» ولكن اذهب أنت وربك إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق، لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة باليمن) لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال رسول الله ﷺ خيرا ودعا له بخير، ثم قال
(يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ) أي يجادلونك المؤمنون فى الحق وهو تلقى النفير، لإيثارهم عليه تلقى العير، كراهية للقاء المشركين، وإنكارا لمسير قريش حين ذكروا لهم بعد أن تبين لهم الحق بإخبارك أنهم سينصرون أينما توجهوا- ويقولون ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد ونتأهب، وما كان هذا إلا لكراهتهم للقتال.
إذ أنهم كانوا فى حال ضعف، فكان من حكمة الله أن وعدهم أولا إحدى طائفتى قريش تكون لهم على طريق الإبهام لا على طريق التعيين، فتعلقت آمالهم بطائفة العير القادمة من الشام، لأنها كسب عظيم لا مشقة فى إحرازه لضعف الحامية، فلما ظهر لهم أنها فاتتهم ونجت إذ ذهبت من طريق سيف البحر (طريق الشاطى) وأن طائفة النفير خرجت من مكة بكل ما لدى قريش من قوة، وأنها قد قربت منهم ووجب عليهم
ولكن الحق تبين بحيث لم يبق للجدل فيه وجه- فلا ينبغى أن يقال إن طائفة العير هى مراد الله لأنها نجت، ولا بأن يقال إننا لم نعدّ للقتال عدّته، لأنه مهما تكن حالها فلا بد من الظفر بها لوعد الله به، فإذا لا وجه للجدل إلا الجبن والخوف من القتال.
(كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي كأنهم لشدة ما هم فيه من جزع ورهب يساقون إلى موت محقق لا مهرب منه، لوجود أماراته وأسبابه حتى كأنهم ينظرون إليه بأعينهم، إذ ما بين حالهم وحال عدوهم من التفاوت فى القوة والعدد والخيل والزاد قاض بذلك، ولكن الله تعالى وعد رسوله والمؤمنين بالظفر والنصر عليهم (ووعده لا يتخلف) أما هذه الأسباب العادية فكثيرا ما تتخلف، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله الذي بيده كل شىء وهو القادر على كل شىء، وهكذا أنجز الله وعده لرسوله والمؤمنين وكان لهم الظفر والفوز على عدوهم وكان هذا نصرا مؤزّرا للمسلمين على المشركين، وبه علا ذكرهم فى البلاد العربية وهابهم قاصيها ودانيها.
(وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ) أي واذكروا حين وعد الله إياكم أن إحدى الطائفتين لكم تتسلطون عليها وتتصرفون فيها.
(وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي وتتمنّون أن الطائفة غير ذات الشوكة: (وهى العير) تكون لكم، لأنه لم يكن فيها إلا أربعون فارسا، وعبر عنها بذلك تعريضا لكراهتهم للقتال وطمعهم فى المال.
(وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) أي ويريد الله بوعده غير ما أردتم، يريد أن يثبت الحق الذي أراده بكلماته، أي بآياته المنزلة على رسوله فى محاربة ذات الشوكة،
(وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ) أي ويهلك المعاندين جملة، ويستأصل شأفتهم، ويمحق قوتهم، وقد كان الظفر ببدر فاتحة الظفر فيما بعدها إلى أن قطع الله دابر المشركين بفتح مكة.
قال صاحب الكشاف: يعنى أنكم تريدون الفائدة العاجلة وسفساف الأمور وألا تلقوا ما يرزؤكم فى أبدانكم وأموالكم، والله عز وجل يريد معالى الأمور وما يرجع إلى عمارة الدين ونصرة الحق وعلوّ الكلمة والفوز فى الدارين، وشتان بين المرادين ولذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة وكسر قوتهم بضعفكم، وغلب كثرتهم بقلتكم وأعزكم وأذلهم اهـ.
(لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) أي وعد الله بما وعد، وأراد بإحدى الطائفتين ذات الشوكة، ليحق الحق وهو الإسلام ويثبته، ويبطل الباطل وهو الشرك ويزيله، ولو كره المجرمون أولو الاعتداء والطغيان، ولا يكون ذلك بالاستيلاء على العير بل بقتل أئمة الكفر من صناديد قريش الذين خرجوا إليكم من مكة ليستأصلوكم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٩ الى ١٤]
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (١٢) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٣)
ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (١٤)
الاستغاثة: طلب الغوث، وهو التخليص من الشدة والنقمة، وممدكم: ناصركم ومغيثكم، ومردفين: من أردفه إذا أركبه وراءه، وتطمئن تسكن بعد ذلك الزلزال والخوف الذي عرض لكم فى جملتكم، وعزيز: أي غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه، ويغشيكم: يجعله مغطيا لكم ومحيطا بكم، والنعاس: فتور فى الحواس وأعصاب الرأس يعقبه النوم فهو يضعف الإدراك ولا يزيله كله فإذا أزاله كان نوما، والرجز والرجس والركس: الشيء المستقذر حسا أو معنى، ويراد به هنا وسوسة الشيطان، والربط على القلوب تثبيتها وتوطينها على الصبر، والرعب: الخوف الذي يملأ القلب فوق الأعناق: أي الرءوس، والبنان: أطراف الأصابع من اليدين والرجلين، شاقوا: أي عادوا وخالفوا، وسميت العداوة مشاقة لأن كلا من المتعاديين يكون فى شق غير الذي يكون فيه الآخر.
المعنى الجملي
روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: حدثنى عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: لما كان يوم بدر نظر النبي ﷺ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة رجل وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل نبى الله القبلة ثم مدّ يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد فى الأرض فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه ثم التزمه من ورائه
«إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» فلما كان يومئذ والتقوا هزم الله المشركين فقتل منهم سبعون رجلا وأسر سبعون.
وروى البخاري عن ابن عباس قال: قال النبي ﷺ يوم بدر «اللهم إنى أنشدك عهدك ووعدك، اللهم إن شئت لم تعبد» فأخذ أبو بكر بيده فقال حسبك، فخرج وهو يقول: «سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ».
وقد كان الرسول ﷺ يعلم بإعلام القرآن أن للنصر فى القتال أسباب حسية ومعنوية، وأن لله سننا مطردة، وهو مع ذلك يعلم أن لله توفيقا يمنحه من شاء من خلقه فينصر به الضعفاء على الأقوياء والفئة القليلة على الفئة الكثيرة بما لا ينقض به سننه، وأن له فوق ذلك آيات يؤيد بها رسله، فلما عرف من ضعف المؤمنين وقلتهم ما عرف استغاث الله تعالى ودعاه ليؤيدهم بالقوة المعنوية التي تكون أجدر بالنصر من القوة المادية، وكان كل من علم بدعائه يتأسى به فى هذا الدعاء ويستغيث ربه كما استغاث.
الإيضاح
(إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ) أي اذكروا وقت استغاثتكم ربكم قائلين ربنا انصرنا على عدوك، يا غياث المستغيثين أغثنا، والأمر بهذا الذكر لبيان نعمة الله عليهم حين التجائهم إليه، إذ ضاقت عليهم الحيل وطلبوا مخلصا من تلك الشدة فاستجاب دعاءهم كما قال:
(فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) أي فأجاب دعاءكم بأنى ممدكم بألف من الملائكة يردف بعضهم بعضا ويتبعه، وهذا الألف هى وجوههم وأعيانهم- وبهذا يطابق ما جاء فى سورة آل عمران: «بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ- بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ».
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) أي ليس النصر إلا من عند الله دون غيره من الملائكة أو سواهم من الأسباب، فهو سبحانه الفاعل للنصر والمسخّر له كتسخيره للأسباب الحسية والمعنوية، ولا سيما ما لا كسب للبشر فيه كتسخير الملائكة تخالط المؤمنين فتفيد أرواحهم الثبات والاطمئنان.
(إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى غالب على أمره، حكيم لا يضع شيئا فى غير موضعه.
وظاهر الآية يدل على أنّ لإنزال الملائكة وإمداد المسلمين بهم فائدة معنوية، فهو يؤثّر فى القلوب فيزيدها قوة وإن لم يكونوا محاربين، وهناك روايات تدل على أنهم قاتلوا فعلا.
وفى يوم أحد وعدهم الله وعدا معلقا على الصبر والتقوى، ولكن الشرط الأخير قد انتفى فانتفى ما علق عليه.
(إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ) أي إنه تعالى ألقى عليهم النعاس حتى غشيهم غلب عليهم تأمينا لهم من الخوف الذي كان يساورهم من الفرق الشاسع بينهم وبين عدوهم فى العدد والعدّة ونحو ذلك، إذ من غلب عليه النعاس لا يشعر بالخوف، كما أن الخائف لا ينام ولكن قد ينعس إذ تفتر منه الحواس والأعصاب.
روى البيهقي فى الدلائل عن على كرم الله وجهه قال: «ما كان فينا فارس بوم بدر غير المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله ﷺ يصلى تحت شجرة حتى أصبح»
والمتبادر من الآية أن النعاس كان فى أثناء القتال، وهو يمنع الخوف، لأنه ضرب من الذهول والغفلة عن الخطر.
أتزعمون أن فيكم نبيا وأنكم أولياء وتصلّون مجنبين محدثين، فأنزل الله من السماء ماء فسال عليهم الوادي ماء فشرب المسلمون وتطهروا وثبتت أقدامهم (أي على الرمل اللين لتلبده بالمطر) وذهبت وسوسته.
وقال ابن القيم: أنزل الله فى تلك الليلة مطرا واحدا فكان على المشركين وابلا شديدا منعهم من التقدم وكان على المسلمين طلّا طهرهم به وأذهب عنهم رجس الشيطان ووطّأ به الأرض، وصلّب الرمل، وثبّت الأقدام ومهّد به المنزل، وربط على قلوبهم، فسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه شطر الليل وصنعوا الحياض ثم غوّروا ما عداها من المياه ونزل رسول الله وأصحابه على الحياض وبنى لرسول الله ﷺ عريش على تلّ مشرف على المعركة، ومشى فى موضع المعركة وجعل يشير بيده (هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله تعالى فما تعدّى أحد منهم موضع إشارته) اهـ.
وقال ابن إسحاق: إن الحباب بن المنذر قال: يا رسول الله أرأيت هذا المنزل؟
أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا أن نتأخر عنه أم هو الرأى والحرب والمكيدة قال: (بل هو الحرب والرأى والمكيدة) قال: يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل، فانهض بالناس حتى تأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغوّر ما وراءه من القلب (الآبار غير المبنية) ثم نبنى عليها حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله ﷺ لقد أشرت بالرأى، وفعلوا ذلك».
وقد فهم من الآية أنه كان لهذا المطر أربع فوائد:
(٢) إذهاب رجس الشيطان ووسوسته.
(٣) الربط على القلوب: أي توطين النفس على الصبر وتثبيتها كما قال:
«وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها» وهذا لما للمطر من المنافع التي تكون أثناء القتال.
(٤) تثبيت الأقدام به، ذاك أن هذا المطر لبّد الرمل وصيره بحيث لا تغوص فيه أرجلهم فقدروا على المشي كيف أرادوا، ولو لاه لما قدروا على ذلك.
(إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) أي يثبت الله الأقدام بالمطر وقت الكفاح الذي يوحى فيه ربك إلى الملائكة آمرا لهم أن يثبّتوا به قلوب المؤمنين ويقووا عزائمهم، فيلهموها تذكر وعد الله لرسوله وأنه لا يخلف الميعاد، فالمراد بالمعية فى قوله (أَنِّي مَعَكُمْ) معية الإعانة والنصر والتأييد فى مواطن الجدّ ومقاساة شدائد القتال، وهذه منّة خفية أظهرها الله تعالى ليشكروه عليها.
أخرج البيهقي فى الدلائل أن الملك كان يأتى الرجل فى صورة الرجل يعرفه فيقول:
أبشروا فإنهم ليسوا بشىء والله معكم، كرّوا عليهم.
وقال الزجاج: كان ذلك بأشياء يلقونها فى قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدّهم، وللملك قوة إلقاء الخير ويقال له إلهام، كما أن للشيطان قوة إلقاء الشر ويقال لها وسوسة.
(سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) هذا تفسير لقوله أنى معكم، كأنه قيل:
أنى معكم فى إعانتكم بإلقاء الرعب فى قلوبهم.
(فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ) أي فاضربوا الهام، وافلقوا
وقد كان النبي ﷺ يمر بين القتلى ببدر بعد انتهاء المعركة ويقول (نفلق هاما) فيتم البيت أبو بكر رضي الله عنه وهو:
نفلق هاما من رجال أعزّة | علينا وهم كانوا أعق وأظلما |
ثم بين سبب ذلك التأييد والنصر فقال:
لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ)
أي ذلك الذي ذكر من تأييد الله للمؤمنين وخذلانه للمشركين بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله: أي عاد وهما فكان كل منهما فى شق غير الذي فيه الآخر فالله هو الحق والداعي إلى الحق، ورسوله هو المبلغ عنه، والمشركون على الباطل وما يستلزمه من الشرور والآثام والخرافات.
َ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ)
أي ومن يخالف أمر الله ورسوله فهو الحقيق بعقابه، فلا أجدر بالعقاب من المشاقين له الذين يؤثرون الشرك وعبادة الطاغوت على توحيده تعالى وعبادته، ويعتدون على أوليائه بمحاولة ردّهم عن دينهم بالقوة والقهر وإخراجهم من ديارهم ثم اتباعهم إلى مهجرهم يقاتلونهم فيه.
(ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ) أي هذا العقاب الذي عجّلت لكم أيها الكافرون المشاقون لله ورسوله فى الدنيا من انكسار وانهزام مع الخزي والذل أمام فئة قليلة العدد والعدد من المسلمين، فذوقوه عاجلا، واعلموا أن لكم فى الآخرة عذاب النار إن أصررتم على كفركم، وهو شر العذابين وأبقاهما.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ١٥ الى ١٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (١٥) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٧) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (١٨) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (١٩)تفسير المفردات
الزحف: من زحف إذا مشى على بطنه كالحية، أو دبّ على مقعده كالصبى أو على ركبتيه، أو مشى بثقل فى الحركة واتصال وتقارب فى الخطو كزحف صغار الجراد والعسكر المتوجه إلى العدو، لأنه لكثرته وتكاثفه يرى كأنه يزحف، إذ الكل يرى كجسم واحد متصل فتحس حركته بطيئة وإن كانت فى الواقع سريعة، والأدبار:
واحدها دبر وهو الخلف، ومقابله القبل ومن ثم يكنى بهما عن السوءتين، وتولية الدبر والأدبار: يراد بهما الهزيمة لأن المنهزم يجعل خصمه متوجها إلى دبره ومؤخره، والمتحرف للقتال وغيره: هو المنحرف عن جانب إلى آخر، من الحرف وهو الطرف والفئة: الطائفة من الناس، والمأوى: الملجأ الذي يأوى إليه الإنسان، والموهن:
المضعف، من أوهنه إذا أضعفه، والكيد: التدبير الذي يقصد به غير ظاهره فتسوء عاقبة من يقصد به، والاستفتاح طلب الفتح، والفصل فى الأمر كالنصر فى الحرب.
ذكر سبحانه وتعالى فى هذه الآيات حكما عاما لما سيقع من الوقائع والحروب فى مستأنف الزمان، وجاء به فى أثناء قصة بدر عناية بشأنه وحثا للمؤمنين على المحافظة عليه.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً) أي يا أيها الذين صدقوا الله ورسوله، إذا لقيتم الذين كفروا حال كونهم زاحفين لقتالكم زحفا، إذ الكفار هم الذين زحفوا من مكة إلى المدينة لقتال المؤمنين فقابلوهم ببدر.
(فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ) أي فلا تولوهم ظهوركم وأقفيتكم منهزمين منهم وإن كانوا أكثر منكم عددا وعدة، ولكن اثبتوا لهم، فإن الله معكم عليهم.
(وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي ومن يولهم حين تلقونهم ظهره إلا متحرفا لمكان رآه أحوج إلى القتال فيه، أو لضرب من ضروبه رآه أنكى بالعدو كأن يوهم خصمه أنه منهزم منه ليغريه باتباعه حتى إذا انفرد عن أنصاره كرّ عليه فقتله- أو منتقلا إلى فئة من المؤمنين فى جهة غير التي كان فيها ليشدّ أزرهم وينصرهم على عدو تكاثر جمعه عليهم فصاروا أحوج إليه ممن كان معهم- من فعل ذلك فقد رجع متلبسا بغضب عظيم من الله، ومأواه الذي يلجأ إليه فى الآخرة جهنم دار العقاب وبئس المصير هى:
ذاك أن المنهزم أراد أن يأوى إلى مكان يأمن فيه الهلاك، فعوقب بجعل عاقبته دار الهلاك والعذاب الدائم وجوزى بضد غرضه.
وفى الآية دلالة على أن الفرار من الزحف من كبائر المعاصي، وجاء التصريح بذلك
فى صحيح الأحاديث فقد روى الشيخان عن أبي هريرة مرفوعا «اجتنبوا السبع الموبقات (المهلكات) قالوا يا رسول الله وما هن؟. قال: الشرك بالله والسحر وقتل
وقد خصص بعض العلماء هذا بما إذا كان الكفار لا يزيدون على ضعف المؤمنين.
قال الشافعي: إذا غزا المسلمون فلقوا ضعفهم من العدو حرم عليهم أن يولّوا إلا متحرفين لقتال أو متحيزين إلى فئة، وإن كان المشركون أكثر من ضعفهم لم أحب لهم أن يولّوا، ولا يستوجبون السحط عندى من الله لو ولّوا عنهم على غير التحرف للقتال أو التحيز إلى فئة. وروى عن ابن عباس قال: من فر من ثلاثة فلم يفرّ، ومن فرّ من اثنين فقد فرّ.
(فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ) أي يا أيها الذين آمنوا لا تولوا الكفار ظهوركم أبدا فأنتم أولى منهم بالثبات والصبر ثم بنصر الله تعالى، انظروا إلى ما أوتيتم من نصر عليهم على قلة عددكم وعدتكم وكثرتهم واستعدادهم، ولم يكن ذلك إلا بتأييد من الله تعالى لكم وربطه على قلوبكم وتثبيت أقدامكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي أفنى كثيرا منهم بقوتكم وعدتكم ولكن قتلهم بأيديكم، بما كان من تثبيت قلوبكم بمخالطة الملائكة وملابستها لأرواحكم، وبإلقائه الرعب فى قلوبهم، وهذا بعينه هو ما جاء فى قوله تعالى: «قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ».
والمؤمن أحرى بالصبر الذي هو من أجل عوامل النصر من الكافر، إذ هو أقل حرصا على متاع الدنيا وأعظم رجاء لله والدار الآخرة، يؤيد هذا قوله تعالى:
«وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ».
ثم انتقل من خطاب المؤمنين الذين قتلوا أولئك الصناديد بسيوفهم إلى خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو قائدهم الأعظم فقال:
فقد روى «أن النبي ﷺ رمى المشركين يومئذ بقبضة من التراب وقال: شاهت الوجوه ثلاثا، فأعقبت رميته هزيمتهم».
وروى على بن أبي طلحة عن ابن عباس أن النبي ﷺ لما قال فى استغاثته يوم بدر «يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد فى الأرض أبدا» قال له جبريل: خذ قبضة من التراب فارم بها وجوههم، ففعل فما من أحد من المشركين إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولّوا مدبرين.
والفرق بين قتل المسلمين للكفار وبين رمى النبي ﷺ إياهم بالتراب:
أن الأول فعل من أفعالهم المقدورة لهم بحسب سنن الله فى الأسباب الدنيوية، وأن الثاني لم يكن سببا عاديا لإصابتهم وهزيمتهم، لا مشاهدا كضرب أصحابه لأعناق المشركين، ولا غير مشاهد، إذ هو لا يكون سببا لشكاية أعينهم وشوهة وجوههم لقتله وبعده عن راميه وكونهم غير مستقبلين له كلهم، ومن ثم كانت الحاجة ماسة إلى بيان نقص الأول وعدم استقلاله بالسببية وبيان أنه لولا تأييد الله ونصره لما وصل كسبهم المحض إلى هذا القتل لأنك قد علمت ما كان من خوفهم وكراهتهم للقتال وبمجادلة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم لو ظلوا على هذه الحال مع قلتهم وضعفهم لكان مقتضى الأسباب العادية أن يمحقهم المشركون محقا.
فالفرق بين فعله تعالى فى القتل وفعله فى الرمي- أن الأول عبارة عن تسخيره تعالى لهم أسباب القتل كما هو الحال فى جميع كسب البشر وأعمالهم الاختيارية من كونها لا تستقل فى حصول غاياتها إلا بفعل الله وتسخيره لهم، وللأسباب التي لا يصل إليها كسبهم عادة كما بين ذلك سبحانه بقوله «أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ
فالإنسان يحرث الأرض ويلقى فيها البذر ولكنه لا يملك إنزال المطر ولا إنبات الحب وتغذيته بمختلف عناصر التربة ولا دفع الجوائح عنه.
وأن الثاني من فعله تعالى وحده بدون كسب عادى للنبى ﷺ فى تأثيره، فالرمى منه كان صوريا لتظهر الآية على يده صلى الله عليه وسلم، فما مثله فى ذلك إلا مثل أخيه موسى ﷺ فى إلقائه العصا «فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى».
(وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً) أي فعل الله ما ذكر لإقامته حجته وتأييد رسوله، وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا بالنصر والغنيمة وحسن السمعة.
(إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما كان من استغاثة الرسول والمؤمنين ربهم ودعائهم إياه وحده ولكل نداء وكلام، عليم بنياتهم الباعثة عليه والعواقب التي تترتب عليه.
(ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ) أي ذلكم البلاء الحسن هو الذي سمعتم- إلى أنه تعالى مضعف كيد الكافرين ومكرهم بالنبي ﷺ والمؤمنين ومحاولتهم القضاء على دعوة التوحيد والإصلاح قبل أن يقوى أمرها وتشتد.
وبعد أن ذكر خذلانهم وإضعاف كيدهم- انتقل منه إلى توبيخهم على استنصارهم إياه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد روى محمد بن إسحاق عن الزهري أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أيّنا كان أقطع للرحم، وأتى بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وقال السدى: كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين، وخير القبيلتين، فأجابهم الله بقوله:
(إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ) أي إن تستنصروا لأعلى الجندين وأهداهما فقد جاءكم الفتح ونصر أعلاهما وأهداهما.
وهذا من قبيل التهكم بهم لأنه قد جاءهم الهلاك والذلة.
(وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ) أي وإن تعودوا إلى حربه وقتاله نعد إلى مثل ما رأيتم من الفتح له عليكم حتى يجىء الفتح الأعظم الذي به تدول الدّولة للمؤمنين عليكم، وبه يذل شرككم وتذهب ريحكم.
(وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ) أي ولن يدفع عنكم رهطكم شيئا من بأس الله وشديد نقمته ولو كثرت عددا، إذ لا تكون الكثرة وسيلة من وسائل النصر أمام القلة إلا إذا تساوت معها فى أمور كثيرة كالصبر والثبات والثقة بالله تعالى، فهو الذي بيده النصر والقوة.
(وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) بمعونته وتوفيقه فلا تضرهم قلتهم ولا كثرة عددكم، فهو يؤتى النصر من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٠ الى ٢٣]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (٢٠) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٢١) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (٢٢) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣)
المعنى الجملي
بعد أن هدد الله المشركين بقوله: وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغنى عنكم فئتكم شيئا- قفى على ذلك بتأديب المؤمنين بالأمر بطاعة الرسول وإجابة دعوته إذا دعا للقتال فى سبيل حياطة الدين وصد من يمنع نشره ويقف فى طريق تبليغ دعوته.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ) أي أطيعوا الله ورسوله فى الإجابة إلى الجهاد وترك المال إذا أمر الله بتركه، ولا تعرضوا عن طاعته، وعن قبول قوله، وعن معونته فى الجهاد، وأنتم تسمعون كلامه الداعي إلى وجوب طاعته وموالاته ونصره، ولا شك أن المراد بالسماع هنا سماع الفهم والتصديق بما يسمع، كما هو شأن المؤمنين الذين من دأبهم أن يقولوا «سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ».
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) وهؤلاء القائلون فريقان: فريق الكفار المعاندين، وفريق المنافقين الذين قال فى بعض منهم «وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً؟».
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ) الدواب، واحدها دابة:
وهى كل مادبّ على الأرض كما قال «وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ» وقلّ أن يستعمل فى الإنسان بل الغالب أن يستعمل فى الحشرات ودواب الركوب، فإذا استعمل فيه كان ذلك فى موضع الاحتقار، أي إن شر مادب على الأرض فى حكم الله وقضائه هم الصم الذين لا يصغون بأسماعهم ليعرفوا الحق ويعتبروا بالموعظة الحسنة، فهم بفقدهم لمنفعة السمع كانوا كأنهم فقدوا حاسته، البكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا النطق الذين لا يعقلون الفرق بين الحق والباطل والخير والشر إذ هم لو عقلوا لطلبوه واهتدوا إلى ما فيه المنفعة والفائدة لهم كما قال «إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ».
والخلاصة- إنهم حين فقدوا منفعة السمع والنطق والعقل كانوا كأنهم فقدوا هذه المشاعر والقوى، بأن خلقوا خداجا ناقصى هذه المشاعر، أو طرأت عليهم آفات
(وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ) أي ولو علم الله فيهم استعدادا للإيمان والهداية بنور النبوة ولم يفسد قبس الفطرة سوء القدوة وفساد التربية، لأسمعهم بتوفيقه الكتاب والحكمة سماع تدبر وتفهم، ولكنه قد علم أنه لا خير فيهم فهم ممن ختم الله على قلوبهم وأحاطت بهم خطاياهم.
(وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ) أي ولو أسمعهم- وقد علم أنه لا خير فيهم- لتولوا عن القبول والإذعان وهم معرضون من قبل ذلك بقلوبهم عن قبوله والعمل به كراهة وعناد للداعى إليه ولأهله فقد فقدوا الاستعداد لقبول الحق والخير فقدا تاما لا فقدا عارضا موقوتا.
والخلاصة- إن للسماع درجات باعتبار ما يطالب الله به من الاهتداء بكتابه:
(١) أن يتعمد من يتلى عليه ألا يسمعه مبارزة له بالعدوان بادئ ذى بدء خوفا من سلطانه على القلوب أن يغلبهم.
(٢) أن يستمع وهو لا ينوى أن يفهم ويتدبر كالمنافقين الذين قال الله فيهم:
«وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً».
(٣) أن يستمع لأجل التماس شبهة للطعن والاعتراض، كما كان يفعل المعاندون من المشركين وأهل الكتاب وقت التنزيل وفى كل حين إذا استمعوا إلى القرآن أو نظروا فيه.
(٤) أن يسمع ليفهم ويتدبر ثم يحكم له أو عليه، وهذا هو المنصف، وكم من السامعين أو القارئين آمن بعد أن نظر وتأمل فقد نظر طبيب فرنسى فى ترجمة القرآن فرأى أن كل النظريات الطبية التي فيه كالطهارة والاعتدال فى المآكل والمشارب وعدم
وكثير من المسلمين يستمعون القراء ويتلون القرآن فلا يشعرون بأنهم فى حاجة إلى فهمه وتدبر معناه، بل يستمعونه للتلذذ بتجويده وتوقيع التلاوة على قواعد النغم، أو يقصدون بسماعه التبرك فقط، ومنهم من يحضر الحفّاظ عنده فى ليالى رمضان، ويجلسهم فى حجرة البوّابين أو غيرهم من الخدم تشبها بالأكابر والوجهاء.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (٢٤) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢٥) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٢٦)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه وجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم التولي حين الجهاد، أردفه الأمر بالاستجابة له إذا دعاهم لهدى الدين وأحكامه عامة، لما فى ذلك من
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ) أي إن الرسول دعاكم بأمر ربكم لما فيه حياتكم الروحية: من علم بسننه فى خلقه ومن حكمة وفضيلة ترفع نفس الإنسان وترقى بها إلى مراتب الكمال حتى تحظى بالقرب من ربها وتنال رضوانه فى الدار الآخرة- فأجيبوا دعوته بقوة وعزم. كما قال فى آية أخرى:
«خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ» وطاعته ﷺ واجبة فى حياته، وبعد مماته فيما علم أنه دعا إليه دعوة عامة من أمور الدين الذي بعثه الله به كبيانه لصفة الصلاة وعددها قولا أو فعلا فقد صلى بأصحابه
وقال: «صلّوا كما رأيتمونى أصلى»
وقال «خذوا عنّى مناسككم»
وبيانه لمقادير الزكاة وغيرها من السنن العملية المتواترة وأقواله كذلك، فكل من ثبت لديه شىء منها ببحثه أو بحث العلماء الذين يثق بهم وجب عليه الاهتداء به.
أما الإرشادات النبوية فى أمور العادات كاللباس والطعام والشراب والنوم، فلم يعدّها أحد من الأئمة دينا يجب الافتداء به فيه.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) نبهنا الله فى هذه الآية لأمرين لهما خطرهما فى سعادة الإنسان الأخروية، وهما:
(١) أنه قد جرت سنة الله فى البشر أن يحول بين المرء وقلبه، وهو مركز الإحساس والوجدان والإدراك الذي له السلطان على الإرادة والعمل، أي إنه تعالى يميت القلب فتفوت الفرصة التي هو واجدها من التمكن من معالجة أدوائه وعلله، ورده سليما كما يريده الله، وهذا أخوف ما يخافه المتقى على نفسه إذا غفل عنها وفرّط فى جنب الله،
وفى ذلك إيماء إلى أن الطائع المجدّ لا يأمن مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، والعاصي المنصرف عن الطاعة لا ييأس من روح الله فيسترسل فى اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه ومن لم يأمن عقاب الله ولا ييأس من روح الله كان جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره ويعاقب نفسه على هفواته، لتظل على الصراط المستقيم.
والخلاصة- إن من سننه تعالى فى البشر أن من يتبع هواه فى أعماله تضعف إرادته فى مقاومته فلا تؤثر فيه المواعظ القولية ولا العبر المبصرة ولا المعقولة.
روى البخاري وأصحاب السنن قال: كانت يمين النبي ﷺ «لا ومقلّب القلوب».
(٢) أن نتذكر حشرنا إليه ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا بالعذاب أو النعيم، فلا نألو جهدا فى انتهاز الفرصة لنعمل صالح الأعمال.
وبعد أن أمرنا سبحانه بتلك الأوامر ونهانا عن النواهي التي تخص أعمال الإنسان الاختيارية، أمرنا أن نتقى الفتن الاجتماعية التي لا تخص الظالمين، بل تتعداهم إلى غيرهم، وتصل إلى الصالح والطالح فقال:
(وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً) الفتنة: البلاء والاختبار، أي اتقوا وقوع الفتن التي لا تختص إصابتها بمن يباشرها وحده، بل تعمه وغيره كالفتن القومية التي تقع بين الأمم فى التنازع على المصالح العامة من الملك والسيادة أو التفرق فى الدين والشريعة والانقسام إلى الأحزاب الدينية والأحزاب السياسية، ونحو ذلك
أخرج ابن جرير من طريق الحسن قال: لقد خوّفنا بهذه الآية، ونحن مع رسول الله ﷺ وما ظننا أننا خصصنا بها.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر فى الآية قال: نزلت فى علىّ وعثمان وطلحة والزبير، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة قال:
علم والله ذوو الألباب من أصحاب محمد حين نزلت هذه الآية أن سيكون فتن.
وروى عن ابن عباس قال: أمر الله المؤمنين ألا يقرّوا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله.
بالعذاب.
وقال عدىّ بن عميرة: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة».
وروى أحمد والبزار وابن مردويه عن مطرّف قال: قلنا للزبير يا أبا عبد الله ضيعتم الخليفة (عثمان) حتى قتل ثم جئتم تطلبون بدمه فقال: إنا قرأنا على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وعمر وعثمان «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً» ولم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت فينا حيث وقعت.
وعلى الجملة ففتنة عثمان كانت أول الفتن التي اختلفت فيها الآراء، فاختلفت أعمال أهل الحل والعقد، وخلا الجو للمفسدين من زنادقة اليهود والمجوس وغيرهم، ثم أعقبتها فتنة الجمل بصفّين، ثم فتنة ابن الزبير مع بنى أمية، ثم قتل الحسين بكربلاء، إلى نحو ذلك من الفتن التي كان لها آثارها فى الإسلام، ولو تداركوها كما تدارك أبو بكر رضي الله عنه أهل الردة لما كانت فتنة تبعتها فتن كثيرة أكبرها فتن الخلافة والملك وفتن الآراء والمذاهب الدينية والسياسية.
(وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إنه تعالى شديد عقابه للأمم والأفراد
وهذا العقاب منه ما هو فى الدنيا وهو مطرد فى الأمم، وقد أصيبت به الأمة الإسلامية فى القرن الأول الذي كان أهله خير القرون بعده، إذ فصّروا فى درء الفتنة الأولى فعاقبهم الله عقابا شديدا على ذلك، ثم تسلسل العقاب فى كل جيل وقع فيه ذلك، ثم امتزجت الفتن المذهبية بالفتن السياسية على الملك والسلطان حتى دالت الخلافة التي تنافسوا فيها وتقاتلوا لأجلها.
وقد يقع هذا العقاب للأفراد لكنهم ربما لا يشعرون به، لأنه يقع تدريجيا فلا يكاد يحسّ به، وأما العقاب الأخروى فأمره إلى الله العالم بالسر والنجوى والذي جعل العقاب آثارا طبيعية للذنوب التي تجترحها الأفراد والأمم.
(وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) هذا خطاب المهاجرين يذكرهم فيه سبحانه بما كان من ضعفهم وقلتهم، وقد يكون الخطاب للمؤمنين عامة فى عصر التنزيل يذكّرهم فيه بما كان من ضعف أمتهم العربية فى الجزيرة بين الدول القوية من فارس والروم.
(تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ) أي تخافون من مبدإ الإسلام إلى حين الهجرة أن يتخطفكم مشركو العرب من قريش وغيرها، والمراد أن ينتزعوكم بسرعة فيفتكوا بكم كما كان يتخطف بعضهم بعضا فى خارج الحرم وتتخطفهم الأمم من أطراف جزيرتهم كما قال تعالى: «أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ».
(فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) أي فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار وأيدكم وإياهم بنصره فى غزواتكم، وسيؤيدكم على من سواكم من فارس والروم وغيرهما كما وعدكم بذلك فى كتابه الكريم، ورزقكم من الطيبات
وقد أخرج ابن جرير عن قتادة فى قوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ) الآية. قال: كان هذا الحي أذل الناس ذلا وأشقاه عيشا، وأجوعه بطونا، وأعراه جلودا، وأبينه ضلالة، معكوفين على رأس حجر بين فارس والروم، لا والله ما فى بلادهم ما يحسدون عليه، من عاش منهم عاش شقيا، ومن مات منهم ردّى فى النار، يؤكلون ولا يأكلون، لا والله ما نعلم قبيلا من حاضر الأرض يومئذ كان أشر منهم منزلا، حتى جاء الله بالإسلام فمكّن به فى البلاد ووسّع به فى الرزق، وجعلكم به ملوكا على رقاب الناس، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم، فاشكروا لله نعمه، فإن ربكم منعم يحب الشكر، وأهل الشكر فى مزيد من نعم الله عز وجل.
وفى الآية من العبرة التي يجب على المؤمنين أن يتذكروها أنه أورث من اهتدى بهديه سعادة الدنيا وبسطة السلطان ومكّن لأهله فى الأرض وأنا لهم ما لم يكونوا يرجونه لولا هدى الدين، وأورثهم فى الآخرة فوزا ورضوانا من ربهم وروحا وريحانا وجنة نعيم هذا حين كانوا يعملون بهديه، فلما أعرضوا عنه ونأوا بجانبهم عاقبهم الله بما جرت به سننه فى الأرض فأضاعوا ملكهم وسلّط عليهم أعداءهم، فليعتبر المسلمون بما حل بهم، وليرجعوا إلى تاريخ أسلافهم، وليستضيئوا بنورهم وليثوبوا إلى رشدهم، لعله يعيد إليهم تراثهم الغابر وعزهم الماضي: «إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٢٧ الى ٢٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٧) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (٢٨)
الخيانة: لغة تدل على الإخلاف والخيبة بنقص ما كان يرجى ويؤمل من الخائن، فقد قالوا خانه سيفه إذا نبا عن الضّربية، وخانته رجلاه إذا لم يقدر على المشي، ومنه قوله: «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ» أي تنقصونها بعض ما أحل لها من اللذات، ثم استعمل فى ضد الأمانة والوفاء لأن الرجل إذا خان الرجل فقد أدخل عليه النقصان. والأمانة: كل حق مادّى أو معنوى يجب عليك أداؤه إلى أهله قال تعالى: «فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً» والفتنة: الاختبار والامتحان بما يشقّ على النفس فعله أو تركه أو قبوله أو إنكاره، فهى تكون فى الاعتقاد والأقوال والأفعال والأشياء، فيمتحن الله المؤمنين والكافرين والصادقين والمنافقين، ويجازيهم بما يترتب على فتنتهم من اتباع الحق والباطل وعمل الخير أو الشر.
المعنى الجملي
روى أن أبا سفيان خرج من مكة: (وكان لا يخرج إلا فى عداوة الرسول ﷺ والمؤمنين) فأعلم الله رسوله بمكانه، فكتب رجل من المنافقين إلى أبى سفيان: إن محمدا يريدكم فخذوا حذركم فأنزل الله (لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) الآية.
وروى أنها نزلت فى أبي لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي ﷺ بعد إجلاء إخوانهم من بنى النّضير، أرادوا بعد طول الحصار أن ينزلوا من حصنهم على حكم سعد بن معاذ وكان من حلفائهم من قبل غدرهم ونقضهم لعهد النبي صلى الله عليه وسلم، فأشار إليهم أبو لبابة ألا تفعلوا وأشار إلى حلقه (يريد أن سعدا سيحكم بذبحهم) فنزلت الآية.
قال أبو لبابة: ما زالت قدماى عن مكانهما حتى علمت أنى خنت الله ورسوله،
وقد روى «أن أبا لبابة شدّ نفسه على سارية من المسجد وقال: والله لا أذوق طعاما ولا شرابا حتى أموت أو يتوب الله علىّ، ثم مكث سبعة أيام لا يذوق طعاما ولا شرابا حتى خر مغشيا عليه، ثم تاب الله عليه، فقيل له: قد تيب عليك، فقال:
والله لا أحلّ نفسى حتى يكون رسول الله ﷺ هو الذي يحلّنى فجاء فحله بيده».
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ) أي لا تخونوا الله فتعطّلوا فرائضه أو تتعدوا حدوده وتنتهكوا محارمه التي بينها لكم فى كتابه، ولا تخونوا الرسول فترغبوا عن بيانه لكتابه إلى بيانه بأهوائكم أو آراء مشايخكم أو آبائكم أو أوامر أمرائكم، أو ترك سنته إلى سنة آبائكم وزعمائكم زعما منكم أنهم أعلم بمراد الله ورسوله منكم.
(وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ) أي ولا تخونوا أماناتكم فيما بين بعضكم وبعض من المعاملات المالية وغيرها حتى الشئون الأدبية والاجتماعية، فإفشاء السر خيانة محرمة ويكفى فى العلم بكونه سرا قرينة قولية كقول محدثك: هل يسمعنا أحد؟ أو فعلية كالالتفات لرؤية من عساه يجىء، وآكد أمانات السر وأحقها بالحفظ ما يكون بين الزوجين.
كذلك لا تخونوا أماناتكم فيما بينكم وبين أولى الأمر من شئون سياسية أو حربية فتطلعوا عليها عدوكم وينتفع بها فى الكيد لكم.
والخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين،
قال أنس بن مالك: قلما خطب رسول الله ﷺ إلا قال: «لا إيمان لمن لا عهد له» رواه الإمام أحمد.
(وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) أي وأنتم تعلمون مفاسد الخيانة وتحريم الله لها وسوء عاقبتها فى الدنيا والآخرة، وقد يكون المعنى- وأنتم تعلمون أن ما فعلتموه خيانة لظهوره، فإن خفى عليكم حكمه فالجهل له عذر إذا لم يكن مما علم من الدين ضرورة، أو مما يعلم ببداهة العقل، أو باستفتاء القلب كفعلة أبي لبابة التي كان سببها الحرص على المال والولد، ومن ثم فطن لها قبل أن يبرح مكانه.
(وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ)
أي إن فتنة الأموال والأولاد عظيمة لا تخفى على ذوى الألباب، إذ أموال الإنسان عليها مدار معيشته وتحصيل رغائبه وشهواته ودفع كثير من المكاره عنه، من أجل ذلك يتكلف فى كسبها المشاق ويركب الصعاب ويكلفه الشرع فيها التزام الحلال واجتناب الحرام ويرغّبه فى القصد والاعتدال، ويتكلف العناء فى حفظها وتتنازعه الأهواء فى إنفاقها، ويفرض عليه الشارع فيها حقوقا معينة وغير معينة: كالزكاة ونفقات الأولاد والأزواج وغيرهم.
وأما الأولاد فحبهم مما أودع فى الفطرة، فهم ثمرات الأفئدة وأفلاذ الأكباد لدى الآباء والأمهات، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل كل ما يستطاع بذله فى سبيلهم من مال وصحة وراحة.
وقد روى عن أبي سعيد الخدري مرفوعا إلى النبي ﷺ «الولد ثمرة القلب وإنه مجبنة مبخلة محزنة».
فحب الولد قد يحمل الوالدين على اقتراف الذنوب والآثام فى سبيل تربيتهم والإنفاق عليهم وتأثيل الثروة لهم، وكل ذلك قد يؤدى إلى الجبن عند الحاجة إلى الدفاع عن الحق أو الأمة أو الدين وإلى البخل بالزكاة والنفقات المفروضة والحقوق الثابتة كما يحملهم ذلك على الحزن على من يموت منهم بالسخط على المولى والاعتراض عليه
فيجب على المؤمن أن يتقى الفتنتين، فيتقى الأولى بكسب المال من الحلال وإنفاقه فى سبيل البر والإحسان، ويتقى خطر الثانية من ناحية ما يتعلق منها بالمال ونحوه بما يشير إليه الحديث. ومن ناحية ما أوجبه الدين من حسن تربية الأولاد وتعويدهم الدين والفضائل وتجنيبهم المعاصي والرذائل.
(وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)
فعليكم أن تؤثروا ما عند ربكم من الأجر العظيم بمراعاة أحكام دينه فى الأموال والأولاد على ما عساه قد يفوتكم فى الدنيا من التمتع بهما.
[سورة الأنفال (٨) : آية ٢٩]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٢٩)
تفسير المفردات
التقوى: ترك الذنوب والآثام، وفعل ما يستطاع من الطاعات والواجبات الدينية، وبعبارة أخرى: هى اتقاء ما يضر الإنسان فى نفسه وفى جنسه، وما يحول بينه وبين المقاصد الشريفة والغايات الحسنة، والفرقان: أصله الفرق والفصل بين الشيئين أو الأشياء، ويراد به هنا نور البصيرة الذي به يفرق بين الحق والباطل والضّارّ والنافع، وبعبارة ثانية: هو العلم الصحيح والحكم الرجيح، وقد أطلق هذا اللفظ على التوراة والإنجيل والقرآن وغلب على الأخير قال تعالى «تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً» من قبل أن كلامه تعالى يفرق فى العلم والاعتقاد بين الإيمان والكفر، والحق والباطل، والعدل والجور، والخير والشر.
لما حذر الله تعالى من الفتنة بالأموال والأولاد، قفى على ذلك بطلب التقوى التي ثمرتها ترك الميل والهوى فى محبة الأموال والأولاد.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) أي إن تتقوا الله فتتبعوا أوامر دينه وتسيروا بمقتضى سننه فى نظام خلقه يجعل لكم فى نفوسكم ملكة من العلم تفرقون بها بين الحق والباطل، وتصلون بين الضار والنافع، وهذا النور فى العلم الذي لا يصل إليه طالبه إلا بالتقوى هو الحكمة التي قال الله تعالى فيها «وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً، وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ».
واتقاء الله يتحقق بمعرفة سننه فى الإنسان وحده أو فيه وهو فى المجتمع الإنسانى كما ترشد إلى ذلك آيات الكتاب الحكيم فى مواضع متفرقة منه، ومن ثم كانت ثمرة التقوى حصول ملكة الفرقان التي بها يفرق صاحبها بين الأشياء التي تعرض له من علم وحكمة وعمل فيفصل فيها بين ما ينبغى فعله وما يجب تركه.
وعلى الجملة فالمتقى لله يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى، ومن ثم كان الخلفاء والحكام من الصحابة والتابعين من أعدل حكام الأمم فى الأرض، حتى لقد قال بعض المؤرخين من الإفرنج ما عرف التاريخ فاتحا أعدل ولا أرحم من العرب.
(وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) أي ويمح بسبب ذلك الفرقان وتأثيره ما كان من دنس الآثام فى النفوس، فتزول منها داعية العودة إليها، ويغطيها فيسترها عليكم فلا يؤاخذكم بها، والله الذي يفعل ذلك بكم له الفضل العظيم عليكم وعلى غيركم من خلقه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٠ الى ٣١]
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٣٠) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٣١)
تفسير المفردات
ليثبتوك: أي ليشدوك بالوثاق ويرهقوك بالقيد والحبس حتى لا تقدر على الحركة، والمكر: هو التدبير الخفي لإيصال المكروه إلى الممكور به من حيث لا يحتسب، والغالب أن يكون فيما يسوء ويذم من الكذب والحيل، وإذا نسب إلى الله كان من المشاكلة فى الكلام بتسمية خيبة المسعى فى مكرهم أو مجازاتهم عليه باسمه، والأساطير:
واحدها أسطورة كأرجوحة وأراجيح وأحدوثة وأحاديث وهى الأقاصيص التي سطّرت فى الكتب بدون تمحيص ولا تثبيت من صحتها. وفى القاموس: الأساطير الأحاديث لا نظام لها واحدها إسطار وأسطير وأسطور وبالهاء فى الكل، وأصل السطر الصف من الشيء كالكتاب والشجر اهـ.
المعنى الجملي
لما ذكر المؤمنين عامة بنعمه عليهم بقوله (وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ) ذكر هنا نعمه على رسوله خاصة بدفع كيد المشركين ومكر الماكرين بنصره عليهم وخيبة مسعاهم فى إيقاع الأذى به بعد أن تآمروا عليه وقطعوا برأى معين فيه.
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي واذكر أيها الرسول نعمته تعالى عليك فى ذلك الزمن القريب الذي يمكر بك فيه قومك الذين كفروا بما يدبّرون فى السر من وسائل الإيقاع بك، فإنّ فى ذلك القصص على المؤمنين والكافرين فى عهدك ومن بعدك لأكبر الحجج على صدق دعوتك ووعد ربك بنصرتك.
(لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) أي إن كلمتهم قد اتفقت على إيقاع الأذى بك بإحدى خلال ثلاث: إما الحبس الذي يمنعك من لقاء الناس ودعوتهم إلى الإسلام، وإما القتل بطريق لا يكون ضررها عظيما عليهم كما سيأتى، وإما الإخراج والنفي من الوطن.
وقد روى أن أبا طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلم: ما يأتمر بك قومك؟ قال:
يريدون أن يسجنونى أو يقتلونى أو يخرجونى، قال من حدّثك بهذا؟ قال ربى، قال نعم الرب ربك فاستوص به خيرا. قال أنا أستوصى؟ بل هو يستوصى بي فنزلت (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآية.
وقد تحدثوا بهذا الحديث فسمعه أبو طالب فبلّغه للنبى صلى الله عليه وسلم، ولكن إجماع الرأى عليه والشروع فى تنفيذه قد وقع بعد موت أبي طالب.
(وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) أي إن دأبهم معك ومع من اتبعك من المؤمنين تدبير الأذى لكم والله محبط ما دبروا، فقد أخرجك من بينهم إلى دار الهجرة، ووطن السلطان والقوة، والله خير الماكرين، لأن مكره نصر للحق، وإعزاز لأهله، وخذلان للباطل وحزبه.
وفى الآية إيماء إلى أن هذه حالهم الدائمة فى معاملته ﷺ ومن تبعه من المؤمنين.
روى من طرق عدة أقربها رواية ابن إسحاق فى سيرته قال: إن نفرا من قريش ومن أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة واعتراضهم إبليس فى صورة شيخ جليل، فلما رأواه قالوا من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت بما اجتمعتم له فأردت أن أحضركم ولن يعدمكم منى رأى ونصح، قالوا أجل فادخل، فدخل معهم، فقال: انظروا فى شأن هذا الرجل فو الله ليوشكنّ أن يؤاتيكم فى أمركم بأمره، فقال قائل: احبسوه فى وثاق ثم تربصوا به المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء: زهير والنابغة فإنما هو كأحدهم، فقال عدو الله الشيخ النجدي لا والله ما هذا لكم برأى والله ليخرجن رائد من محبسه لأصحابه فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم ثم يمنعوه منكم، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم، فانظروا فى غير هذا الرأى، فقال قائل: فأخرجوه من بين أظهركم فاستريحوا منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وأين وقع، وإذا غاب عنكم أذاه استرحتم منه، فإنه إذا خرج لم يضركم ما صنع وكان أمره فى غيركم، فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأى، ألم تروا حلاوة قوله وطلاقة لسانه وأخذه للقلوب بما تسمع من حديثه، والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب لتجمعنّ إليه ليسيرن إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم، قالوا صدق والله، فانظروا رأيا غير هذا، فقال أبو جهل والله لأشيرن عليكم برأى لا أرى غيره قالوا وما هذا؟ قال نأخذ من كل قبيلة غلاما وسطا شابا نهدا ثم يعطى كل غلام منهم سيفا صارما ثم يضربونه به ضربة رجل واحد، فإذا قتلتموه تفرق دمه فى القبائل كلها، فلا أظن هذا الحي من بنى هاشم يقدرون على حرب قريش كلهم، وإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل (الدية) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه، فقال الشيخ النجدي: هذا والله هو الرأى، القول ما قال الفتى لا أرى غيره وتفرقوا على ذلك وهم مجتمعون له، فأتى جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ فأمره ألا يبيت
(وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا) الآيتين.
ولما قص الله مكرهم فى ذات محمد قص علينا مكرهم فى دين محمد فقال:
(وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا) أي وإذا تتلى على هؤلاء الذين كفروا آيات كتاب الله الواضحة لمن شرح الله صدره لفهمه قالوا جهلا منهم وعنادا للحق وهم يعلمون أنهم كاذبون: لو نشاء لقلنا مثل هذا الذي تلى علينا، وقد نسب هذا القول إلى النضر بن الحارث من بنى عبد الدار وكان يختلف إلى أرض فارس فيسمع أخبارهم عن رستم وإسفنديار وكبار العجم، ويمر باليهود والنصارى فيسمع منهم التوراة والإنجيل.
ثم عللوا هذه الدعوة الكاذبة بما هو أصرح منها فى الكذب فقالوا:
(إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي إن أخبار القرآن عن الرسل وأقوامهم تشبه قصص أولئك الأمم، فهم يستطيعون أن يأتوا بمثلها فما هى من خبر الغيب الدالّ على أنه وحي من الله.
وقد يكون النضر أول من قال هذه الكلمة فقلده فيها غيره، ولكنهم لم يكونوا يعتقدون أنها أساطير مختلفة وأن محمدا هو الذي افتراها، إذ لم يكونوا يتهمونه بالكذب كما قال تعالى: «فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ».
ونحو الآية قوله: «وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» وهم ما كانوا يعتقدون صدق هذه المقالة، لأنهم يعلمون أنه أمي لا يتعلم شيئا، بل قالوا ذلك ليصدّوا العرب عن القرآن وقد كذبهم الله فيه فما استطاعوا له إثباتا.
وقد كان زعماء قريش كالنضر بن الحارث وأبي جهل والوليد بن المغيرة يتواصون بالإعراض عن سماع القرآن ويمنعون الناس عنه، ثم يختلفون أفرادا إلى بيت النبي ﷺ ليلا يستمعون إليه ويعجبون منه ومن تأثيره وسلطانه على القلوب حتى قال الوليد بن المغيرة كلمته المشهورة: إنه يعلو ولا يعلى عليه، وإنه يحطم ما تحته، فخافوا أن تسمعها العرب وما زالوا يلحون عليه ليقول كلمة منفرّة فقال: «إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ».
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٣٢) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (٣٣) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٥)
المعنى الجملي
روى أنه لما قال النضر: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: ويلك إنه كلام رب العالمين فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك، الآية.
(وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أي اللهم إن كان هذا القرآن وما يدعو إليه هو الحق منزلا من عندك ليدين به عبادك كما يدّعى محمد ﷺ فافعل بنا كذا وكذا.
وفى هذا إيماء إلى أنهم لا يتبعونه وإن كان هو الحق المنزل من عند الله، بل يفضلون الهلاك بحجارة يرجمون بها من السماء أو بعذاب أليم سوى ذلك، كما أن فيه تهكما وإظهار للحزم واليقين بأنه ليس من عند الله- وحاشاه- ومنه يعلم أيضا أن دعاءهم كفر وعناد، لا لأن ما يدعوهم إليه قبيح وضار.
روى أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة! فقال: أجهل من قومى قومك حين قالوا: (اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ) ولم يقولوا: فاهدنا له.
ثم قال تعالى بيانا للموجب لإمهالهم والتوقف فى إجابة دعائهم.
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) أي وما كان من سنة الله ولا من مقتضى رحمته وحكمته أن يعذبهم وأنت الرسول فيهم، لأنه إنما أرسلك رحمة ونعمة لا عذابا ونقمة- إلى أنه قد جرت سنته أيضا ألا يعذب أمثالهم من مكذبى الرسل وهم بين أظهرهم، بل كان يخرج الرسل أوّلا كما حدث لهود وصالح ولوط.
(وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) أي وما كان الله ليعذبهم هذا العذاب الذي عذّب بمثله الأمم قبلهم فاستأصلهم، وهم يستغفرون، وهم المسلمون الذين بين أظهرهم ممن تخلف عن رسول الله ﷺ من المستضعفين.
روى ابن جرير قال: كان رسول الله ﷺ بمكة فأنزل الله:
(وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) ثم خرج إلى المدينة فأنزل الله: (وَما كانَ اللَّهُ
وكان من بقي فى مكة من المؤمنين يستغفرون فلما خرجوا أنزل الله: (وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) الآية فأذن الله فى فتح مكة فهو العذاب الذي وعدهم به.
(وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) أي وأىّ شىء يمنع تعذيبهم بما دون عذاب الاستئصال عند زوال المانع منه، وكيف لا يعذبون وهم يمنعون المسلمين من دخول المسجد الحرام ولو لأداء النسك؟ فما كان مسلم يقدر أن يدخل المسجد الحرام فإن دخل مكة عذبوه إذا لم يكن فيها من يجيره، والمراد بالعذاب هنا عذاب بدر إذ قتل صناديدهم ورءوس الكفر كأبى جهل وأسر سراتهم.
(وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ) أي وما كانوا مستحقين للولاية عليه لشركهم وعمل المفاسد فيه كطوافهم فيه عراة رجالا ونساء، وهذا ردّ لقولهم: نحن ولاة البيت والحرام، نصد من نشاء وندخل من نشاء.
(إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ) أي إنه لا يلى أمره إلا من كان برّا تقيا، لامن كان كافرا عابدا للصم.
(وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهم ليسوا أولياء الله، ولا أن أولياءه ليسوا إلا المتقين فهم الآمنون من عذابه بمقتضى عدله فى خلقه والجديرون بولاية بيته.
وقد نسب هذا الجهل إلى الأكثر، إذ كان فيهم من لا يجهل حالهم فى جاهليتهم وضلالهم فى شركهم وكون الله لا يرضى عنهم، كما كان فيهم من يكتم إيمانه خوفا من الفتنة ومنهم المستعدون له بسلامة الفطرة، وقد جرت سنة القرآن أن يدقق فى الحكم، ولا يقول إلا الحق ولا يقول كما يقول الناس: إن القليل لا حكم له.
هذا، وإن جماهير المسلمين الآن صاروا يجهلون ولاية الله لأوليائه، فصارت هذه الولاية عندهم تشمل المجانين والمجاذيب الذين يسيل اللعاب من أشداقهم وترتع الحشرات فى ثيابهم وأجسادهم، وتشمل أصحاب الدجل والخرافات، والدعاوى الباطلة للكرامات، وصاروا يؤيدون دعاويهم من رؤيا الأنبياء والأقطاب فى المنام.
(وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً) المكاء: الصفير، والتصدية:
التصفيق، وكان أحدهم يضع يده على الأخرى ويصفر، قال ابن عباس: كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفّق، وروى عنه أن الرجال والنساء منهم كانوا يطوفون عراة مشبّكين بين أصابعهم يصفرون فيها ويصفّقون،
وروى عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش يعارضون النبي ﷺ فى الطواف يستهزئون ويصفرون فنزلت (وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكاءً وَتَصْدِيَةً).
وعلى الجملة فقد كانت صلاتهم وطوافهم من قبيل اللهو واللعب سواء عارضوا الرسول ﷺ فى طوافه وخشوع صلاته وحسن تلاوته أم لا.
(فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) أي فذوقوا عذاب القتل لبعض كبرائكم والأسر للآخرين منهم وانهزام الباقين مدحورين مكسورين يوم بدر.
والخلاصة- فذوقوا العذاب الذي طلبتموه، وما كان لكم أن تستعجلوه إذ قلتم (أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٦ الى ٣٧]
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (٣٦) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٣٧)
المعنى الجملي
لما بين سبحانه أحوال هؤلاء المشركين فى الطاعات البدنية بقوله: وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم فى الطاعات المالية.
وقال سعيد بن جبير إنه استأجر يوم أحد ألفين من الأحابيش (واحدها حباشة:
الجماعة ليسوا من قبيلة واحدة) يقاتل بهم رسول الله ﷺ سوى من استجاش من العرب وأنفق عليهم أربعين أوقية (والأوقية اثنان وأربعون مثقالا من الذهب).
الإيضاح
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) سبيل الله دينه واتباع رسوله: أي إن مقصدهم بالإنفاق الصدّ عن اتباع محمد وهو سبيل الله وإن لم يكن عندهم كذلك.
(فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ) أي إنه سيقع هذا الإنفاق وتكون عاقبته الحسرة لأنه سيذهب المال ولا يصلون إلى المقصود، بل يغلبون كما قال تعالى:
«كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي» وسينكسرون المرة بعد المرة.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ) أي والذين كفروا يساقون يوم القيامة إلى جهنم إذا هم أصروا على كفرهم حتى ماتوا فيكون لهم شقاء الدارين وعذابهما.
وقد كان للمسلمين العبرة فى هذه الآية فينفقون أموالهم فى سبيل الله لأن لهم بها سعادة الدارين، وهكذا كانوا أيام قاموا بحقوق الإسلام والإيمان.
والكفار فى هذا العصر ينفقون الكثير من الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء من العامة بالدعوة إلى دينهم وتعليم أولاد المسلمين فى مدارسهم ومعالجة رجالهم
(لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) أي إن الله كتب النصر والغلب لعباده المتقين والخذلان والحسرة لمن يعاديهم ويقاتلهم من الكفار للصدّ عن سبيل الله، ليميز الكفر من الإيمان، والحق والعدل من الجور والطغيان.
وهذا التمييز بين الأمرين فى سنن الاجتماع هو بقاء أمثل الأمرين وأصلحهما:
«فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» وسنن الله فى الدنيا والآخرة واحدة، فالخبيث فى الدنيا خبيث فى الآخرة ومن ثم قال:
(وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) أي ويجعل الله الخبيث بعضه منضما متراكبا على بعض بحسب سنته تعالى فى اجتماع المتشاكلات واختلاف المتناكرات كما
جاء فى الحديث «الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف»
ثم يجعل أصحابه فى جهنم إلى يوم القيامة، وبئس المصير لمن خسر نفسه وماله.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٣٨ الى ٤٠]
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (٣٨) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٣٩) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٤٠)
المعنى الجملي
بعد أن أبان سبحانه حال من يصر على الكفر والصد عن سبيل الله وقتال رسوله والمؤمنين وعاقبة أعمالهم فى الدنيا والآخرة- قفى على ذلك ببيان من يرجعون عنه ويدخلون فى الإسلام لأن الأنفس فى حاجة إلى هذا البيان فقال:
(قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ) أي قل أيها الرسول لهؤلاء الكفار: إن ينتهوا عماهم عليه من عداوتك وعنادك بالصد عن سبيل الله، يغفر لهم الله ما قد سلف منهم من ذلك ومن سواه من الذنوب، فلا يعاقبهم على شىء من ذلك فى الآخرة، ويغفر لهم الرسول والمؤمنون فلا يطالبون قاتلا منهم بدم ولا سالبا أو غانما بسلب ولا غنم.
روى مسلم من حديث عمرو بن العاص قال: فلما جعل الله الإيمان فى قلبى أتيت النبي ﷺ فقلت ابسط يدك أبايعك، فبسط يده فقبضت يدى، قال مالك؟ قلت أردت أن أشترط. قال ماذا تشترط؟ قلت أن يغفر لى قال أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟».
(وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ) أي وإن يعودوا إلى العداء والصد والقتال تجر عليهم سننه المطردة فى أمثال لهم من الأولين الذين عادوا الرسل وقاتلوهم، من نصر المؤمنين وخذلانهم وهلاكهم كما حدث لهم يوم بدر كما قال: «إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ».
ثم بين ما سلف من قوله: فقد مضت سنة الأولين، ورغب المؤمنين فى قتالهم فقال:
(وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) أي وقاتلهم أيها الرسول أنت ومن معك من المؤمنين حتى تزول الفتنة فى الدين بالتعذيب وضروب الإيذاء لأجل تركه كما فعلوا ذلك حين كانت لهم القوة والبطش فى مكة، إذ أخرجوكم منها لأجل دينكم ثم أتوا لقتالكم فى دار الهجرة، وحتى يكون الدين كله لله فلا يستطيع أحد أن يفتن أحدا عن دينه ويكرهه على تركه إلى دين المكره تقيّة وخوفا.
وخلاصة ذلك- قاتلوهم حتى يكون الناس أحرارا فى عقائدهم لا يكره أحد أحدا
وروى عن ابن عباس تفسير الفتنة بالشرك- والمعنى عليه- قاتلوهم حتى لا يبقى شرك وتزول الأديان الباطلة فلا يبقى إلا الإسلام.
ويؤيد الرأى الأول أنه جاء رجلان فى فتنة ابن الزبير إلى عبد الله بن عمر فقالا:
إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يمنعك أن تخرج؟ قال يمنعنى أن الله حرم علىّ دم أخى المسلم. قالا ولم يقل الله (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) قال قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) أي فإن انتهوا عن الكفر وعن قتالكم فإن الله يجازيهم على ما فعلوا بحسب علمه.
(وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ، نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) أي وإن أعرضوا عن سماع تبليغكم ولم ينتهوا عن كفرهم وفتنتهم وقتالهم لكم فأيقنوا بنصر الله ومعونته لكم وهو متولى أموركم فلا تبالوا بهم ولا تخشوا بطشهم، وهو نعم المولى ونعم النصير فلا يضيع من تولاه ولا يغلب من نصره.
وما غلب المسلمون فى العصور الأخيرة وذهب أكثر ملكهم إلا لأنهم تركوا الاهتداء بهدى دينهم وتركوا الاستعداد المادي والحربي الذي طلبه الله بقوله: «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ» واتكلوا على خوارق العادات وقراءة الأحاديث والدعوات، وذلك ما لم يشرعه الله ولم يعمل به رسوله- إلى أنهم تركوا العدل والفضائل وسنن الله فى الاجتماع التي انتصر بها السلف الصالح، وأنفقوا أموال الأمة والدولة فما حرم الله عليهم من الإسراف فى شهواتهم.
وما مكّن الله لسلف المسلمين من فتح بلاد كسرى وقيصر وغيرهما من البلاد إلا لما أصاب أهلها من الشرك وفساد العقائد فى الآداب ومساوى الأخلاق والعادات والانغماس فى الشهوات واتباع سلطان البدع والخرافات- فجاء الإسلام وأزال كل هذا واستبدل التوحيد والفضائل بها، ومن ثم نصر الله أهله على الأمم كلها.
ولما أضاع جمهرة المسلمين هذه الفضائل واتبعوا سنن من قبلهم فى اتباع البدع والرذائل وقد حذرهم الإسلام من ذلك، ثم قصروا فى الاستعداد المادي والحربي للنصر فى الحرب عاد الغلب عليهم لغيرهم ومكنّ لسواهم فى الأرض: «وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ» أي الصالحون لاستعمارها والانتفاع بما أودع فيها من كنوز وخيرات.
وفق الله المسلمين إلى الهدى والرشاد وجعلهم يعيدون سيرتهم الأولى ويهتدون بهدى دينهم ويستمسكون بآدابه ويتبعون سيرة السلف الصالح، فيكتب لهم العز فى الدنيا والسعادة فى الآخرة، والحمد لله أولا وآخرا.
وكان الفراغ من مسوّدة هذا الجزء فى ليلة العشرين من شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وألف بمدينة حلوان من أرباض القاهرة، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.
الصفحة المبحث ٤ حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين.
٥ أوجب الله الهجرة على من يستضعف فى وطنه فيمنع من إقامة دينه فيه.
١٥ الإيمان الصحيح سبب سعادة الدنيا والآخرة.
١٦ الأمن من مكر الله خسران ومفسدة كاليأس من رحمته.
١٧ فى قصص الماضين عبرة للحاضرين.
٢٢ ذكر اسم موسى فى القرآن أكثر من مائة وثلاثين مرة.
٢٤ الفتن السياسية والأكاذيب التي حدثت فى الصدر الأول مرجعها إلى الفرس الذين كانوا يروّجون الغش والتدليس لإفساد الإسلام.
٢٦ السحر وضروبه ورواجه فى البلاد الهمجية.
٢٧ السحر صناعة تتلقّى بالتعليم ٣٥ اتهام فرعون السحرة بالتوطؤ مع موسى.
٣٧ التاريخ المصري يدل على أنه كان للمصريين آلهة كثيرة.
٣٩ ما كتبه المفسدون عن بنى إسرائيل منقول بالسماع منهم أو مأخوذ من كتب لا يوثق بصدقها.
٥١ طلب بنو إسرائيل من موسى أن يجعل لهم آلهة يعكفون على عبادتها.
٥١ سحرة موسى كانوا من العلماء.
٥٣ فى القرآن وعد بزوال الوثنية من مصر.
٦٦ كثير ممن تعلم العلم فى البلاد الغربية من المسلمين يحتقرون هداية الدين الروحية.
٦٨ عجل السامرىّ وصفته، وكيف كان صنعه، وردّ القرآن على من اتخذوه إلها.
٧٨ اختار موسى من قومه سبعين رجلا.
٨١ صفات النبي ﷺ فى القرآن.
٨٩ ما جاء فى التوراة عن عدد بنى إسرائيل الذين كانوا فى التيه، وردّ ابن خلدون على ذلك.
٩٣ الحكمة فى كون النبي محمد عليه الصلاة والسلام أمّيا لا يقرأ ولا يكتب.
٩٦ هل كان مسخ بنى إسرائيل فى الخلق أو فى الخلق؟
١٠٩ ضرب الله المثل لمن يميل إلى الدنيا ويتبع هواه بالكلب فى أقبح حالاته ١١٣ المؤمن تسمو نفسه بمعرفة ربه فلا يذل لغيره ولا يخاف منه.
١١٤ المسلمون أهملوا النظر فى آيات الله فى الأنفس والآفاق.
١١٥ الإسلام يحض على استعمال الطيبات فى الحياة بلا تقتير ولا إسراف.
١١٧ إن لله تسعة وتسعين اسما ١٢٣ عقاب الأمم مبنى على النواميس التي سنها الله فى الخليقة.
١٢٥ الأمر بالنظر فى ملكوت السموات والأرض ١٢٨ تأتى الساعة على الناس بغتة وهم لا يشعرون ١٣٠ الحكمة فى إخفاء الآجال والأعمال.
١٣١ عمر الدنيا وما جاء فى ذلك من الآثار.
١٣٢ أشراط الساعة وأماراتها.
١٣٣ المهدى المنتظر ١٣٦ الرسول لا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه.
١٥٢ المؤمن إذا مسه طائف من الشيطان تذكر فأناب إلى ربه.
١٥٣ أوصاف القرآن.
١٥٥ ما يفعله جماهير الناس فى المحافل عند سماع القرآن.
١٥٦ ذكر الله باللسان وحده لا يجدى نفعا.
١٦٨ قصة بدر وسببها.
١٧٢ دعاء النبي ربه قبل الغزوة.
١٧٣ إنزال الملائكة مددا للمؤمنين.
١٧٩ الفرار من الزحف من الكبائر ١٨٨ من يتبع هواه لا تؤثر فيه النصائح ١٩٠ عقاب الأمم على ذنوبها مطرد دون عقاب الأفراد.
١٩٣ الخيانة من صفات المنافقين والأمانة من صفات المؤمنين.
١٩٦ المتقى يؤتيه الله فرقانا يميز به بين الرشد والغى.
١٩٨ اتفقت كلمة المشركين على إيقاع الأذى بالنبي ﷺ بإحدى ثلاث.
٢٠٥ أهل الكفر الآن ينفقون الأموال للصد عن الإسلام وفتنة الضعفاء.
٢٠٨ ما غلب المسلمون وذهب أكثر ملكهم إلا لتركهم هدى الإسلام.
[تتمة سورة الأنفال]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤١ الى ٤٤]وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤)
الغنم والمغنم والغنيمة: ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادىّ، وقولهم الغرم بالغنم: أي يقابل به، والفيء: كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها، وتصير الدار دار إسلام، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس، والنفل: ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها.
المعنى الجملي
لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه فى قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.
الإيضاح
(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين، فاجعلوا أوّلا خمسه لله تعالى ينفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة، ثم أعطوا منه ذوى القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء، وقد خص الرسول ﷺ ذلك ببني هاشم وبنى أخيه المطّلب
روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بنى نوفل) قال: مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بنى عبد شمس) إلى رسول الله ﷺ فقلنا: يا رسول الله أعطيت بنى المطلب وتركتنا، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول الله ﷺ «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شىء واحد».
وسرّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بنى هاشم من مكة وحصرتهم فى الشعب لحمايتهم له ﷺ دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل- إلى ما كان من عداوة بنى أمية بن عبد شمس لبنى هاشم فى الجاهلية والإسلام، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي ﷺ ويؤكّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله ودانت له العرب بفتح مكة، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على علىّ وقاتله.
والحكمة فى تقسيم الخمس على هذا النحو- أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من الملل لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة، وهو ما جعل لله فى الآية، ثم نفقة رئيس حكومتها، وهو سهم الرسول فيها، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوى القربى، ثم ما يكون لذوى الحاجات من ضعفاء الأمة، وهم الباقون.
ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به فى كثير من الدول مع اختلاف شئون الاجتماع والمصالح العامة، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل فى موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية، ولا سيما الأمور الحربية، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه، ومنه ما هو لأسرته وعياله، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.
وعن ابن عباس أنه قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء، وليس المراد منه أن لله سهما مفردا، لأن ما فى السموات والأرض فهو لله، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي، فقد قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد، وذكر الله للتعظيم.
(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان، فاعلموا أن ما غنمتم من شىء قلّ أو كثر فأن لله خمسة لأنه هو مولاكم وناصركم، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم، وارضوا بحكم الله فى الغنائم، وبقسمة رسوله فيها.
ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين فى الحرب والنزال، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر، وأيد رسوله وأنجز وعده له.
(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) العدوة- مثلثة العين- جانب الوادي، والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد.
والمعنى- إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا فى ذلك اليوم فى الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة، وفيه نزل المطر لا فى غيره والأعداء فى الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.
(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم فى الميعاد، كراهة للحرب لقلّتكم، وعدم إعداد العدة لها، وانحصار همكم فى العير، ويأسا من الظفر بها، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يأمنون نصر الله له، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا.
(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة فى القتال ليقضى الله أمرا كان فى علمه وحكمته أنه واقع لا محالة، وهو القتال المفضى إلى خزيهم ونصركم عليهم، وصدق وعده لرسوله، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) البينة الحجة الظاهرة، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر، على حقية الإسلام، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين، بحيث تنتفى الشبهة، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا فى الأعمال.
(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء من أقوال الكافرين والمؤمنين، ولا من عقائدهم وأفعالهم، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره فى أعماله، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره، ويجازى كلّا بحسب ما يسمع ويعلم.
والخلاصة- إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم، وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما
(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا) أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك، عليم بما يضمرونه، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا فى الرؤيا المنامية، فتخبر بها المؤمنين، وتطمئن قلوبهم، وتقوى آمالهم بالنصر، فيجترئون عليهم.
(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء فى أمر القتال، إذ منهم القوىّ الإيمان والعزيمة، فيطيع الله ورسوله ويقاتل، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول ﷺ كما تقدم فى قوله «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ».
(وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ) أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان.
(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فى النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها.
(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا) الخطاب هنا للرسول ﷺ والمؤمنين، أي وفى الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا، بما أودع فى قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم، ويقللكم فى أعينهم لقلتكم بالفعل، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل: إنما أصحاب محمد أكلة جزور (أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد فى اليوم).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٥ الى ٤٦]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦)
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر- قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم:
(١) الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.
(٢) ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قلبه من ذكره فى أشد الأوقات خرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدّولة.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب فى النصر والغلب بين الأفراد والجيوش، انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا، ولكن قد يخطر له أن خصمه
(وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً) أي وأكثروا من ذكر الله فى أثناء القتال فى قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شىء.
(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن الثبات وذكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز ويعدّان للفلاح فى القتال فى الدنيا، وفى نيل الثواب فى الآخرة.
وفى ذلك إيماء إلى أنه يجب على العبد ألا يفتر عن ذكر الله أكثر ما يكون، همّا، وأشغل ما يكون قلبا، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره.
(وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا الله فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح فى القتال وفى غيره، وأطيعوا رسوله كذلك، فهو المبيّن لكلام ربه، والمنفّذ له بالقول والعمل والحكم، وهو القائد الأعظم فى القتال، فطاعته هى جماع النظام، والنظام ركن من أركان الظفر، وهو المشارك لكم فى الرأى والتدبير والاستشارة فى الأمور.
(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة، فيتغلب عليكم العدو.
وأصل الريح الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة، لأنه لا يوجد فى الأجسام ما هو أقوى منها، فهى تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع، ومن ثم يقال هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال: ركدت رياحه إذا ضعف أمره وولّت دولته.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٤٧ الى ٤٩]
وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩)
تفسير المفردات
الذين خرجوا: هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير، والبطر: إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة، ويعرف ذلك فى الحركات المتكلّفة والكلام الشاذ، والرئاء: أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به، وتراءت الفئتان: قربت كل منهما من الأخرى، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها ونكص: رجع القهقرى وتولى إلى الوراء، والمنافق من يظهر الإسلام ويسرّ الكفر، والذين فى قلوبهم مرض: هم ضعاف الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.
بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر فى القتال، ونهاهم عن التنازع- قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.
الإيضاح
(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم فى مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.
(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم، والإعراض عن تبليغ دعوته، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار.
(وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي والله عليم بما جاءوا لأجله، ومن ثم فهو يجازيهم عليه فى الدنيا والآخرة بمقتضى سننه فى ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس.
وفى هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء.
قال البغوي: نزلت فى المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغى وفخر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك
قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم، فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرا- وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام- فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب، فلا يزالون يهابوننا أبدا، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.
فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة فى نصر دينه ومؤازة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته، وقال لهم بما ألقاه فى روعهم، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات، مجير لهم حتى قالوا: اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.
(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله، وقبل أن يصطلى نار القتال معه- نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهى الجهة التي فيها العقبان، والمراد أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم.
(وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ) أي تبرأ منهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة.
(وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان، وقد تكون من كلامه تعالى.
والخلاصة- إن جند الشيطان كانوا منبثّين فى المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يغريهم ويغرّهم، كما كان الملائكة منبثين فى المؤمنين يلهمونهم
فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شىء.
(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن فى حكمهم من مرضى القلوب: ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم- إلا غرورهم بدينهم، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حرم الإيمان الكامل والثقة بالله والتوكل عليه.
روى عن مجاهد أنه قال: هم فئة من قريش، قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ويعلى بن أمية والعاص بن منبّه، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله ﷺ قالوا: غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.
(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه، وأنه لا يعجزه شىء ولا يمتنع عليه شىء أراده- يكفه ما يهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم، لأنه العزيز الغالب على أمره، الحكيم الذي يضع كل أمر فى موضعه بمقتضى سننه فى نظام العالم، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٠ الى ٥٤]
وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤)تفسير المفردات
أدبارهم، أي ظهورهم وأقفيتهم، وعذاب الحريق: عذاب النار بعد البعث، والدأب: العادة المستمرة.
المعنى الجملي
بعد أن بين سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم- قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم فى ذلك الوقت.
الإيضاح
(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة،
وقد روى أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر، كان المؤمنون يضربون من أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم.
(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سىء الأعمال فى حياتكم الدنيا من كفر وظلم، وهذا يشمل القول والعمل.
ونسب ذلك إلى الأيدى وإن كان قد يقع من الأيدى والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.
(وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها، ولا لوم إلا عليها.
روى مسلم عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله يقول يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم، فمن وجد خيرا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة، ونصر رسله والمؤمنين.
(إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن الله قوىّ لا يغلبه غالب، ولا يفوته هارب، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه، وقد جعل لكل شىء أجلا.
روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري أن النبي ﷺ قال «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».
(ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها، إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم- فقد جرت سنة الله ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة.
وفى الآية إيماء إلى أن نعم الله على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها، فما دامت هذه الشئون ثابتة لهم متمكنة منهم، كانت تلك النعم ثابتة لهم، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال، غيّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغنى فقيرا والعزيز ذليلا والقوى ضعيفا.
وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه الله عنهم بقوله «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».
وكذلك لا يحابى الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة أو ما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان شأن بنى إسرائيل فى غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم،
(وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل، عليم بما يأتون وما يذرون، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير، وإن شرا فشر.
(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين.
والدأب الأول فى بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة، وفى تعذيب الله إياهم فى الآخرة، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته، وفى الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدىء بالموت وينتهى بدخول النار.
والدأب الثاني فى تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المربي لهم، ويدخل فى ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم، وفى الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم فى الدنيا.
وخلاصة ذلك- إن مادوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها فى الكفر والتكذيب والظلم فى الأرض، ومن عقاب الله إياها- جار على سننه تعالى المطردة فى الأمم، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم، وإنما عقابه لهم أثر طبيعى لكفرهم وظلمهم لأنفسهم.
وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوىّ فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٥٥ الى ٥٩]
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩)
الدابة: لفظ غلب استعماله فى ذوات الأربع، وأصله كل مادب على وجه الأرض، وهو المراد هنا، عند الله: أي فى حكمه وعلمه، والذين عاهدت منهم: هم طوائف من يهود المدينة. وثقفه: أدركه وظفر به، فشرد بهم: أي نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضى العهد، من خلفهم: هم كفار مكة وأعوانهم من مشركى القبائل الموالية لهم، والنبذ: الطرح، على سواء: أي على طريق واضح لاخداع فيه ولا خيانة ولا ظلم، سبقوا: أي أفلتوا من الظفر بهم، لا يعجزون: أي لا يجدون الله عاجزا عن إدراكهم، بل سيجزيهم على كفرهم.
المعنى الجملي
بعد أن بين حال مشركى قريش فى قتالهم له ببدر- قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي ﷺ وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا فى بلاد الحجاز.
قال سعيد بن جبير: نزلت هذه الآيات فى ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت، وقال مجاهد: نزلت فى يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف، وهو فيهم كأبى جهل فى مشركى مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض فى حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان:
(١) الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول ﷺ معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم، وفيهم يقول سبحانه: «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون فى الدلائل والآيات.
وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله فى ذوات الأربع، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط، بل هم أضل من العجماوات، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى فى أمثالهم: «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا».
(٢) نقض العهد، وقد كان النبي ﷺ عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم، فنقض كل منهم عهده.
روى عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله ﷺ وأعانوا عليه بالسلاح فى يوم بدر ثم قالوا: نسينا وأخطأنا، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله ﷺ يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: وهم لا يتقون، أي لا يتقون الله فى نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.
(فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ) أي إنك إن تدرك هؤلاء الناقضين لعهدهم وتظفر بهم فى الحرب- فنكّل بهم أشد التنكيل حتى يكون ذلك سببا لشرود من وراءهم من الأعداء وتفرقهم، فيكون مثلهم مثل الإبل الشاردة النادّة عن أمكنتها.
وإنما أمر الله رسوله ﷺ بالإثخان فى هؤلاء الأعداء الذين تكررت مسالمته لهم وتجديده لعهدهم بعد نقضه، لئلا ينخدع مرة أخرى بكذبهم، لما جبل عليه من الرحمة وحب السلم واعتبار الحرب ضرورة تترك إذا زال سببها كما قال تعالى:
«وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها» وهم قد أوهموه المرة بعد المرة أنهم يرغبون فى السلم واعتذروا عن نقضهم العهد وكانوا فى ذلك مخادعين.
(لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) أي لعل من خلفهم من الأعداء يذكّرون النكال فيمنعهم ذلك من نقض العهد ومن القتال.
روى البخاري ومسلم أن النبي ﷺ خطب فى بعض أيامه التي لقى فيها العدو فقال: «أيها الناس لا تمنّوا لقاء العدوّ وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف- ثم قال: اللهم منزّل الكتاب، ومجرى السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم».
وفى ذلك إيماء إلى شيئين:
(١) إن الحرب ليست محبوبة عند الله ولا عند رسوله، وإنما هى ضرورة يراد بها منع البغي والعدوان وإعلاء كلمة الحق ودحض الباطل: «فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً، وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ».
(٢) إن استعمال القسوة مع الناقضين للعهد والبادئين بالحرب والتنكيل بهم لتشريد من ورائهم- أمر لا بد منه للعظة والاعتبار حتى لا يعودوا إلى مثلها هم ولا غيرهم.
وبعد أن ذكر حكم ناقضى العهد حين سنوح الفرصة- قفى على ذلك بحكم من لا ثقة بعهودهم فقال:
(وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ) أي وإن توقعت من قوم معاهدين خيانة ونكثا للعهد بوجود أمارات ظاهرة وقرائن تنذر بها، فاقطع عليهم طريق الخيانة قبل وقوعها بأن تنبذ إليهم عهدهم وتنذرهم بأنك غير مقيّد به ولا مهتم بأمرهم، بطريق واضح لاخداع فيه ولا استخفاء.
والحكمة فى هذا أن الإسلام لا يبيج الخيانة مطلقا.
وخلاصة ذلك- لا تجاربهم قبل أن تعلمهم أنك قد فسخت العهد الذي بينك وبينهم حتى تكون أنت وهم فى العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصب الحرب عليهم.
(إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ) أي إن الخيانة مبغوضة بجميع ضروبها، ولا وسيلة لاتقاء ضررها من الكفار إذا ظهرت أماراتها إلا بنبذ عهدهم جهرة.
روى البيهقي أن النبي ﷺ قال: «ثلاثة المسلم والكافر فيهن سواء- من عاهدته فوفّ بعهده مسلما كان أو كافرا، فإنما العهد لله، ومن كانت بينك وبينه رحم فصلها، مسلما كان أو كافرا، ومن ائتمنك على أمانة فأدّها إليه، مسلما كان أو كافرا».
وبعد هذا أنذر أولئك الخائنين ما سيحل بهم من عقاب فقال:
(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا) أي ولا يظننّ الذين كفروا أنهم سبقونا ونجوا من عاقبة خيانتهم وشرهم، ونحو الآية قوله: «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ».
(إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ) أي إنهم لا يعجزون الله تعالى ولا يفوتونه بمكرهم وخيانتهم
وخلاصة ذلك- قطع أطماعهم فى الانتفاع بهذا النبذ والغلبة على المؤمنين.
وفى الآية إيماء إلى أن ما أوجبه الإسلام من المحافظة على العهود مع الأعداء المخالفين فى الدين، وما حرّمه من الخيانة فيها- لم يكن عن ضعف ولا عن عجز، بل عن قوة وتأييد إلهى، فقد نصر الله رسوله والمؤمنين على اليهود الخائنين الناقضين لعهودهم، وأجلى من أبقاه السيف منهم من جوار معقل الإسلام (شبه جزيرة العرب).
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٠ الى ٦٣]
وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٦٠) وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦١) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (٦٢) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٣)
تفسير المفردات
الإعداد: تهيئة الشيء للمستقبل، والرباط والمربط: الحبل الذي تربط به الدابة، ورباط الخيل: حبسها واقتناؤها، والإرهاب والترهيب: الإيقاع فى الرهبة وهى الخوف المقترن بالاضطراب، وجنح للشىء وإليه: مال، يقال جنحت الشمس للغروب أي مالت إلى
وحسبك الله: أي كافيك وناصرك عليهم.
المعنى الجملي
بعد أن أبان عز اسمه فيما سلف أن اليهود الذين عقدوا العهود مع النبي ﷺ وبها أمنهم على أنفسهم وأموالهم ودينهم- قد خانوه ونقضوا العهود وساعدوا عليه أعداءه المشركين الذين أخرجوه من دياره ووطنه وتبعوه إلى مهجره يقاتلون فيه لأجل دينهم، وبذلك صاروا هم والمشركون سواء- أردف ذلك ذكر ما يجب على المؤمنين فى معاملتهم أثناء الحرب التي أصبحت لا مناص منها بما أحدثوه من الخيانة والغدر والبداءة بالعدوان، وذلك سنة من سنن الاجتماع البشرى، إذ حصول الصراع بين الحق والباطل والقوة والضعف أمر لا مندوحة منه.
الإيضاح
(وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ) أمر الله المؤمنين بالاستعداد للحرب التي لا بد منها لدفع العدوان وحفظ الأنفس والحق والفضيلة.
ويكون ذلك بأمرين:
(١) إعداد المستطاع من القوة، ويختلف هذا باختلاف الزمان والمكان، فالواجب على المسلمين فى هذا العصر: صنع المدافع والطيارات والقنابل والدبابات وإنشاء السفن الحربية والغواصات ونحو ذلك، كما يجب عليهم تعلم الفنون والصناعات التي يتوقف عليها صنع هذه الأشياء وغيرها من قوى الحرب وقد استعمل الصحابة المنجنيق مع رسول الله ﷺ فى غزوة خيبر وغيرها،
روى مسلم عن عقبة بن عامر أنه سمع النبي ﷺ وقد تلا هذه
وذلك أن رمى العدو عن بعد بما يقتله أسلم من مصاولته على القرب بسيف أو رمح أو حربة أو نحو ذلك، وهذا يشمل السهم وقذيفة المنجنيق والطيارة والمدفع والبندقية ونحوها، فاللفظ يشملها وإن لم تكن معروفة فى عصره صلى الله عليه وسلم.
(٢) مرابطة الفرسان فى ثغور البلاد وحدودها، إذ هى مداخل الأعداء، ومواضع مهاجمتهم للبلاد.
والحكمة فى هذا أن يكون للأمة جند دائم مستعد للدفاع عنها إذا فجأها العدو على غرّة، وقوام ذلك الفرسان لسرعة حركتهم وقدرتهم على القتال وإيصال الأخبار من الثغور إلى العواصم وسائر الأرجاء، ومن أجل هذا عظم الشارع أمر الخيل وأمر بإكرامها، ولا يزال للفرسان نصيب كبير فى الحرب فى هذا العصر الذي ارتقت فيه الفنون العسكرية فى الدول الحربية.
(تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) أي أعدوا لهم المستطاع من القوة الحربية ومن الفرسان المرابطة لترهبوا عدو الله الكافرين به وبما أنزله على رسوله وعدوكم الذين يتربصون بكم الدوائر، إذ لا شىء يمنع الحرب إلا الاستعداد للحرب، فالكفار إذا علموا استعداد المسلمين وتأهبهم للجهاد واستكمالهم لجميع الأسلحة والآلات خافوهم، وإلى هذا يشير أبو تمام إذ يقول:
وأخافكم كى تغمدوا أسيافكم | إن الدّم المغبّر يحرسه الدم |
(ا) يجعل أعداءهم لا يعينون عدوا آخر عليهم (ب) يجعلهم يؤدون الالتزامات المطلوبة منهم.
(ج) ربما حملهم ذلك على الدخول فى الإسلام والإيمان بالله ورسوله (وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ) أي وترهبون به أناسا غير هؤلاء الأعداء المعروفين لكم، وهم مشركو مكة ومن والاهم ممن يجمعون بين هاتين
والخلاصة- إن تكثير آلات الجهاد وأدواتها كما يرهب الأعداء الذين نعلم أنهم أعداء- يرهب الأعداء الذين لا نعلم أنهم أعداء، فالاستعداد للحرب يرهبهم جميعا ويمنعهم من الإقدام على القتال، وهذا ما يسمى فى العصر الحديث (السلام المسلح) (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ) أي وما تنفقوا من شىء قليلا كان أو كثيرا فى إعداد المستطاع من القوة والمرابطة فى سبيل الله- بالله يعطيكم عليه الجزاء الوافي التام.
(وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ) أي والحال أنه لا يلحقكم ظلم ولا اضطهاد من أعدائكم، فإن القوىّ المستعد لمقاومة المعتدى قلما يعتدى عليه أحد، وإن اعتدى عليه فقلّ أن يظفر به.
وفى هذا إيماء إلى أن إعداد المستطاع من القوة الحربية والمرابطة فى سبيل الله لا يمكن تحقيقهما إلا بإنفاق الكثير من المال، ومن ثم رغّب سبحانه عباده المؤمنين فى الإنفاق فى سبيله، ووعدهم بأن كل ما ينفقون فيها يوفى إليهم إما فى الدنيا والآخرة أو فى الآخرة فحسب.
وإذ كان السلم هو المقصد الأول لا الحرب أكده بقوله:
(وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها) أي وإن مال العدو عن جانب الحرب إلى جانب السلم ولم يعتز بقوته فاجنح لها، لأنك أولى بالسلم منهم.
(وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) أي اقبل السلم وفوّض الأمر إلى الله ولا تخف غدرهم ومكرهم، فالله هو السميع لما يقولون، العليم بما يفعلون، فلا يخفى عليه ما يأتمرون به من الكيد والخداع وإن خفى عليك.
(وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ) أي وإن يريدوا بجنوحهم للسلم
(هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ) أي إن من آثار عنايته بك أن أيدك بتسخير المؤمنين لك، وجعلهم أمة متحدة متآلفة متعاونة على نصرك، وأن سخر لك ماوراء الأسباب من خوارق العادات كالملائكة التي ثبتت القلوب يوم بدر.
(وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه تعالى جمعهم على الإيمان بك، وبذل النفس والمال فى مناصرتك، بعد التفرق والتعادي الذي كان أثر حروب طويلة وضغائن موروثة كما كان بين الأوس والخزرج من الأنصار.
ونحو الآية قوله فى سورة آل عمران: «وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً».
وقد كاد يقع شىء من التباغض بين المهاجرين والأنصار حين قسمة الغنائم فى حنين فكفاهم الله شر ذلك بفضله وحكمة رسوله.
وفى الآية إيماء إلى أن النصر ينال بالأسباب التي من أهمها التآلف والاتحاد بفضل مقدّر الأسباب ورحمته بالعباد ومن جرّاء ذلك قال:
(لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ) أي إنه لولا نعمة الله عليهم بأخوّة الإيمان التي هى أقوى من أخوّة الأنساب والأوطان- لما أمكنك أن تؤلف بين قلوبهم بالمنافع الدنيوية، فالضغائن الموروثة والدماء المسفوكة فى الأنصار لا تزول بالأعراض الزائلة، وإنما تزول بصادق الإيمان الذي هو وسيلة السعادة فى الدنيا والآخرة كما أن التآلف بين أغنياء المهاجرين وفقرائهم، وأشرافهم وعامتهم، على ما كان بينهم من فوارق فى الجاهلية، وجمع كلمة البيوت والعشائر مع رسوخ العداوات والإحن، لم يكن مما ينال بالمال والآمال فى المغانم ونحوها، على أن شيئا من ذلك لم يكن فى يد الرسول أول الإسلام وإن كان قد صار فى يده شىء كثير منه فى المدينة بنصر الله له فى قتال المشركين واليهود جميعا.
(وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) إذ هداهم إلى الإيمان الذي دعوتهم إليه فتآلفت قلوبهم.
ونحو الآية قوله: «إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ».
وقد دلت التجارب على أن التآلف من أقوى وسائل التعاون وأنجعها، وأجدى وسائل التحاب والتآلف قوة الإيمان، ومن ثم قال ابن عباس رضى الله عنهما: إن الرحم لتقطع، وإن النعمة لتكفر، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شىء، ثم قرأ: «لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ» الآية (إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي إنه تعالى الغالب على أمره الذي لا يغلبه خداع الخادعين ولا كيد الماكرين، الحكيم فى أفعاله، فينصر الحق على الباطل، ويفضّل الجنوح للسلم إذا جنح إليها العدو على الحرب.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٤ الى ٦٦]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٦٤) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (٦٥) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٦٦)
حسبك: أي كافيك ما يهمّك، والتحريض: الحث على الشيء، لا يفقهون:
أي لا يدركون حكمة الحرب وما يقصد بها من سعادة فى الدنيا والآخرة، والضعف (بالفتح والضم) يشمل المادي والمعنوي، وقيل هو بالضم لما يكون فى البدن، وبالفتح لما يكون فى الرأى والعقل والنفس.
المعنى الجملي
بعد أن أمر الله رسوله بالجنوح للسلم إذا جنح لها الأعداء وربما كان جنوحهم لها مظنّة الخداع والمكر، ووعده أن يكفيه أمرهم إذا أرادوا التوسل بالصلح إلى الحرب وضروب الإيذاء والشر، وامتن عليه بتأييده له بنصره وبالمؤمنين، إذ سخرهم له وألف بين قلوبهم باتباعه- قفّى على ذلك بوعده بكفايته له ولهؤلاء المؤمنين الذين ألف قلوبهم فى حالى الحرب والسلم وجعل هذا تقدمة لأمره بتحريضهم على القتال حين الحاجة إليه، كما إذا بدأ العدو بالحرب أو نقض العهد أو خان فى الصلح.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) أي إن الله تعالى كاف لك كل ما يهمك من أمر الأعداء وغيرهم، وكاف لمن أيدك من المؤمنين.
ونحو الآية قوله: «الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ. وقوله: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ».
وإذا كان دأب المؤمنين أن يقولوا «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» فأجدر بأنبيائه أن يكونوا أكمل توحيدا وتوكلا عليه من غيرهم ولا سيما خاتم أنبيائهم.
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ) أي حرض المؤمنين على القتال ورغّبهم فيه لدفع عدوان الكفار من إعلاء كلمة الحق والعدل وأهلهما على كلمة الباطل والظلم وأنصارهما، إذ ذاك من ضرورات الاجتماع البشرى وسنة التنازع فى الحياة والسيادة.
والخلاصة- حثّهم على ما يقيهم أن يكونوا حرضا أو يكونوا من الهالكين بعدوان الكافرين عليهم وظلمهم إياهم إذا رأوهم ضعفاء مستسلمين.
(إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ، وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي إن يوجد منكم عشرون صابرون يغلبوا بتأثير إيمانهم وصبرهم وفقههم مائتين من الكافرين الذين جرّدوا من هذه الصفات الثلاث، وهذا عدة منه تعالى وبشارة بأن الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكافرين بعون الله وتأييده.
والخلاصة- ليصبرنّ الواحد لعشرة، فجماعة المؤمنين الصابرين ترجح جماعة الكافرين بهذه النسبة العشرية، سواء قلوا أو كثروا، بحيث يؤمرون بقتالهم وعدم الفرار منهم إذا بدءوهم بالقتال.
(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ) أي أنتم تغلبونهم وهم بهذه النسبة بسبب أنهم قوم لا يفقهون ما تفقهون من حكمة الحرب وما يراد بها من مرضاة الله عز وجل فى إقامة سننه العادلة وإصلاح حال عباده بالعقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة ومن وجوب مراعاة أحكامه وسننه بإعداد كل ما يستطاع من قوة، ومن كون غاية القتال عند المؤمنين إحدى الحسنيين النصر والغنيمة الدنيوية، أو الشهادة والسعادة الأخروية.
وحالهم يخالف حالكم فى كل ما تقدم، ولا سيما منكرى البعث والجزاء منهم كمشركى العرب فى ذلك العصر، واليهود الذين أعمتهم المطامع المادية وحب
وفى الآية إيماء إلى أن من شأن المؤمنين أن يكونوا أعلم من الكافرين بكل ما يتعلق بحياة البشر وارتقاء الأمم، ومن ثم كانت المائة منهم دون العشرة من المؤمنين الصابرين.
وهكذا كان المسلمون فى العصور الأولى حين كانوا يعملون بهداية دينهم وكانوا بها أرباب ملك واسع وعز وجاه عريض ودانت لهم الشعوب الكثيرة، حتى إذا ما تركوا هذه الهداية زال مجدهم وسؤددهم وذهب ريحهم ونزع منهم أكثر ذلك الملك.
وبعد أن بين المرتبة العليا التي ينبغى أن تكون للمؤمنين، قفّى على ذلك ببيان مادونها من مرتبة الضعف فقال:
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
روى البخاري عن ابن عباس رضى الله عنهما قال: لما نزلت «إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين» شق ذلك على المسلمين حين فرض عليهم ألا يفرّ الواحد من عشرة، فجاء التخفيف فقال: «الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا، فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين» قال: فلما خفف الله عنهم من العدة نقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم.
وبهذا الحديث استدل العلماء على وجوب ثبات الواحد المسلم إذا قاوم رجلين من الكفار وتحريم الفرار عليه منهما، سواء طلباه أو طلبهما، وسواء وقع ذلك وهو واقف فى الصف مع العسكر أو لم يكن هناك عسكر.
والخلاصة- إن أقلّ حال للمؤمنين مع الكفار فى القتال أن ترجح المائة منهم على المائتين والألف على الألفين، وإن هذه رخصة خاصة بحال الضعف كما كان الحال فى الوقت الذي نزلت فيه هذه الآيات وهو وقت غزوة بدر حين كان المؤمنون
ولما كملت للمؤمنين القوة كانوا يقاتلون عشرة أضعافهم أو أكثر وينتصرون عليهم، وما تم لهم فتح ممالك الفرس والروم وغيرهم إلا بذلك.
وكان أصحاب رسول الله ﷺ فى عهده ومن بعده القدوة فى ذلك فقد كان الجيش الذي أرسل إلى مؤتة من مشارف الشام للقصاص ممن قتلوا رسوله الحارث ابن عمير الأزدى ثلاثة آلاف وكان الجيش الذي قاتلهم من الروم ومتنصرة العرب مائة وخمسين ألفا.
وقوله بإذن الله: أي بمعونته وتوفيقه، وبمعنى الآية قوله: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ».
وفى ذلك إيماء إلى أن من سنن الله فى الغلب أن يكون للصابرين على غيرهم، وفى هذا تحذير للمؤمنين أن يغتروا بدينهم ويظنوا أن الإيمان وحده يقتضى النصر والغلب وإن لم يقترن بالصفات اللازمة لكماله، ومن أهمها وأعظمها الصبر والعلم بحقائق الأمور ومعرفة سنن الله فى خلقه.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٦٧ الى ٦٩]
ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٦٧) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٦٨) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٦٩)
الأسرى: واحدهم أسير، وهو من الأسر وهو الشد بالإسار أي القدّ من الجلد، وكان من يؤخذ من العسكر فى الحرب يشد لئلا يهرب، ثم صار يطلق على أخيذ الحرب وإن لم يشدّ، والإتخان فى كل شىء: قوّته وشدته، يقال قد أثخنه المرض إذا اشتدت قوته عليه، وكذلك أثخنته الجراح، والثخانة الغلظ، فكل شىء غليظ فهو ثخين، والعرض: ما يعرض ولا يدوم سمى به حطام الدنيا لأنه حدث قليل اللبث، ومسكم: أي أصابكم، وفيما أخذتم: أي لأجل ما أخذتم من الفداء.
المعنى الجملي
بعد أن ذكر سبحانه ما ينبغى أن يكون عليه المؤمنون فى حال الغزو والجهاد أمام أعدائهم الكافرين من الصبر والثبات على القتال، ومن تفضيل السلم إذا جنح العدو إليها- قفى على ذلك بذكر أحكام الأسرى لأن أمورهم يفصل فيها بعد القتال غالبا كما وقع فى وقعة بدر وكما يقع فى كل زمان.
روى ابن أبى شيبة والترمذي وابن مردويه والبيهقي عن ابن مسعود قال: «لما كان يوم بدر جىء بالأسارى، فقال أبو بكر رضى الله عنه يا رسول الله قومك وأهلك استبقهم لعل الله أن يتوب عليهم، وقال عمر يا رسول الله كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم، وقال عبد الله بن رواحة رضى الله عنه أنت فى واد كثير الحطب فأضرمه عليهم نارا، فقال العباس رضى الله عنه وهو يسمع ما يقول: أقطعت رحمك؟
فدخل النبي ﷺ ولم يردّ عليهم شيئا، فقال أناس: يأخذ بقول أبى بكر، وقال أناس: يأخذ بقول عمر، وقال أناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة، فخرج رسول الله ﷺ فقال: إن الله ليلين قلوب زجال حتى تكون ألين من اللبن، وإن الله سبحانه ليشدّد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة مثلك
وروى أحمد من حديث ابن عباس قال: «لما أسروا الأسارى (يعنى يوم بدر) قال رسول الله ﷺ لأبى بكر وعمر: ما ترون فى هؤلاء الأسارى؟
فقال أبو بكر يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة، أرى أن تأخذ منهم فدية فتكون قوة لنا على الكفار، وعسى الله أن يهديهم للإسلام فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما ترى يا ابن الخطاب؟ قال لا والله لا أرى الذي رأى أبو بكر، ولكننى أرى أن تمكننا فنضرب أعناقهم فتمكن عليا من عقيل (أخيه) فيضرب عنقه، وتمكننى من فلان- نسيب لعمر- فأضرب عنقه، ومكّن فلانا من فلان قرابته، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها، فهوى رسول الله ﷺ ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت.
فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله ﷺ وأبو بكر قاعدين يبكيان، قلت يا رسول الله أخبرنى من أىّ شىء تبكى أنت وصاحبك؟ فإن وجدت
أبكى للذى عرض علىّ أصحابك من أخذهم الفداء، لقد عرض علىّ عذابهم أدنى من هذه الشجرة- شجرة قريبة منه- وأنزل الله عز وجل (ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ).
وفى هذا الحديث تصريح بأن الذين طلبوا منه ﷺ اختيار الفداء كثيرون، وإنما ذكر فى أكثر الروايات أبو بكر رضى الله عنه، لأنه أول من أشار بذلك، ولأنه أكبرهم مقاما.
وروى ابن المنذر عن قتادة قال: أراد أصحاب محمد الفداء يوم بدر ففادوهم بأربعة آلاف، أربعة آلاف.
الإيضاح
(ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ) أي ما كان من شأن نبى من الأنبياء ولا من سنته فى الحرب أن يكون له أسرى يتردد أمره فيهم بين المنّ والفداء إلا بعد أن يثخن فى الأرض أي إلا بعد أن يعظم شأنه فيها ويتم له الغلب والقوة بقتل أعدائه، لأن الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتال والقتل كما قال:
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى | حتى يراق على جوانبه الدم |
وخلاصة ذلك- أن اتخاذ الأسرى إنما يكون خيرا ورحمة ومصلحة للبشر إذا كان الظهور والغلب لأهل الحق والعدل- ففى المعركة الواحدة يإثخانهم لأعدائهم من المشركين والمعتدين، وفى الحالة العامة التي تعم كل معركة وكل قتال فبإثخانهم فى الأرض بالقوة العامة والسلطان الذي يرهب الأعداء.
وفى ذلك إنكار لعمل وقع من جمهور المؤمنين على خلاف تلك القاعدة التي تقتضيها الحكمة والرحمة، وما كان للنبى ﷺ إقرار مثل هذا العمل، ومن ثم عاتبهم الله على ما فعلوا بعد بيان سنة النبيين، كما عاتب رسوله أيضا.
(وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ومن ثم يجعل أولياءه يغلبون أعداءه ويتمكنون منهم قتلا وأسرا، ويطلق لهم أخذ الفداء، ولكنه يؤخر ذلك إلى أن يكثروا ويعزّوا، ونحو الآية قوله: «وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ».
ولا تتم لهم العزة إلا بتقديم الإثخان فى الأرض والسيادة فيها على المنافع العرضية بمثل فداء الأسرى من المشركين وهم فى عنفوان قوتهم وكثرتهم.
وعلى هذه القاعدة جرت الدول العسكرية فى العصر الحديث، فإذا رأت من البلاد التي تحتلها أدنى بادرة من المقاومة بالقوة نكلت بأهلها أشد التنكيل، فتخرّب البلاد وتقتل الأبرياء مع المشاغبين، بل لا تتعفف من قتل النساء والأطفال بنيران المدافع وقذائف الطائرات والدبابات.
ولكن الإسلام- وهو دين الرحمة والعدل- لا يبيح شيئا من ذلك.
(لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) أي ولولا كتاب من الله سبق فى علمه الأزلى ألا يعذبكم والرسول فيكم وأنتم تستغفرونه من ذنوبكم- لمسكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم.
أخرج ابن المنذر عن نافع عن ابن عمر قال: «اختلف الناس فى أسارى بدر، فاستشار النبي ﷺ أبا بكر وعمر، فقال أبو بكر فادهم، وقال عمر
فأخذ رسول الله ﷺ بقول أبى بكر ففاداهم فنزل (لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) فقال رسول الله: إن كاد ليمسّنا فى خلاف ابن الخطاب عذاب عظيم، ولو نزل العذاب ما أفلت إلا عمر».
وبعد أن عاتبهم على أخذ الفداء أباح لهم أكل ما أخذوه، وعدّه من جملة الغنائم التي أباحها لهم فى أول السورة فقال:
(فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً) أي فكلوا مما غنمتم من الفدية حال كونه حلالا بإحلاله لكم، طيبا فى نفسه لا خبث فيه مما حرم لذاته كالدم ولحم الخنزير.
(وَاتَّقُوا اللَّهَ) فى أن تعودوا إلى أكل شىء من أموال الناس كفارا كانوا أو مؤمنين من قبل أن يحلّه لكم ربكم.
(إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه غفور لذنبكم بأخذ الفداء وإيثار جمهوركم لعرض الدنيا على ما يقتضيه إيثار الآخرة من طلب الإثخان أولا لإعزاز الحق وأهله بإذلال الشرك وكبت حزبه، رحيم بكم إذ أباح لكم ما أخذتم، وأباح لكم الانتفاع به.
وخلاصة ما تقدم- إنه ليس من سنة الأنبياء، ولا مما ينبغى لأحد منهم أن يكون له أسرى يفاديهم أو يمنّ عليهم إلا بعد أن يكون له الغلب والسلطان على أعدائه وأعداء الله الكافرين، لئلا يفضى أخذه فداء الأسرى إلى ضعف المؤمنين وقوة أعدائهم وجرأتهم عليهم، وما فعله المؤمون من مفاداة أسرى بدر بالمال كان ذنبا سببه إرادة جمهورهم عرض الحياة الدنيا قبل الإثخان الذي تقتضيه الحكمة بإعلاء كلمة الله تعالى، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، ولولا كتاب من الله سبق من عدم عقابهم على ذنب أخذ الفداء قبل إذنه تعالى وعلى خلاف سنته- لمسهم عذاب عظيم فى أخذهم ذلك، وإنه أحل لهم ما أخذوا وغفر لهم ذنبهم بأخذه قبل إحلاله لهم، الله غفور رحيم.
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٠ الى ٧١]
يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٧٠) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٧١)المعنى الجملي
لما أخذ الرسول ﷺ الفداء من الأسرى شق عليهم أخذ أموالهم، فأنزل الله هذه الآية استمالة لهم وترغيبا فى الإسلام ببيان ما فيه من خيرى الدنيا والآخرة، وتهديدا وإنذارا لهم ببقائهم على الكفر وخيانته ﷺ وبشارة للنبى صلى الله عليه وسلم، بحسن العاقبة والظفر له ولمن تبعه من المؤمنين.
روى أن الآية نزلت فى العباس وعقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث، وكان العباس أسيرا يوم بدر ومعه عشرون أوقية من الذهب أخرجها ليطعم الناس، وكان أحد العشرة الذين ضمنوا الطعام لأهل بدر، فلم تبلغه النوبة حتى أسر، فقال العباس:
كنت مسلما إلا أنهم أكرهونى، فقال عليه الصلاة والسلام: إن يكن ما تذكره حقا فالله يجزيك، فأما ظاهر أمرك فقد كان علينا، قال العباس فكلمت رسول الله أن يرد ذلك الذهب علىّ فقال: أمّا شىء خرجت لتستعين به علينا فلا، قال: وكلفنى الرسول فداء ابن أخى عقيل بن أبى طالب عشرين أوقية، وفداء نوفل بن الحارث، فقال العباس:
تركتنى يا محمد أتكفف قريشا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة وقلت لها: لا أدرى ما يصيبنى؟
فإن حدث بي حادث فهو لك ولعبد الله وعبيد الله والفضل، فقال العباس:
وما يدريك؟ قال أخبرنى ربى، قال فأنا أشهد أنك صادق، وأن لا إله إلا الله وأنك
قال العباس: فأبدلنى الله خيرا من ذلك، لى الآن عشرون عبدا، وإنّ أدناهم ليضرب فى عشرين ألفا، وأعطانى زمزم وما أحب أن لى بها جميع أموال مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربى.
الإيضاح
(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) أي قل للذين فى أيديكم من الأسرى الذين أخذتم منهم الفداء:
إن كان الله تعالى يعلم أن فى قلوبكم الآن إيمانا أو سيظهر فى حينه- كما يدّعى بعضكم- يعطكم إذ تسلمون ما هو خير لكم مما أخذه المؤمنون منكم من الفداء بما تشاركونهم فى المغانم وغيرها من النعم التي وعد المؤمنون بها.
روى أبو الشيخ عن ابن عباس: أن العباس وأصحابه قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم:
آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله فنزل (إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً) الآية.
(وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي ويغفر لكم ما كان من الشرك وما استتبعه من السيئات والأوزار، والله غفور لمن تاب من كفره وذنوبه، رحيم بالمؤمنين فيشملهم بعنايته وتوفيقه ويعدّهم للسعادة فى الدنيا والآخرة.
وفى ذلك من الحضّ على الإسلام والدعوة إليه ما لا يخفى.
(وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ) أي وإن يريدوا خيانتك بإظهار الميل إلى الإسلام والرغبة عن قتال المسلمين، فلا تخف مما عسى أن يكون من خيانتهم وعودتهم إلى القتال، فإنهم قد خانوا الله من قبل، فنقضوا الميثاق الذي أخذه على البشر بما أقامه على وحدانيته من الدلائل العقلية والكونية، وبما آتاهم من العقل الذي يتدبرون به سنن الله فى خلقه.
(وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) فهو يعلم ما ينتوونه وما يستحقونه من عقاب، حكيم يفعل ما يفعل بحسب ما تقتضيه حكمته البالغة، فينصر المؤمنين ويظهرهم على الكافرين.
وفى الآية من العبر:
(١) إنه يجب على المؤمنين ترغيب الأسرى فى الإيمان، وإنذارهم عاقبة الخيانة إذا ثبتوا على الكفر وعادوا إلى البغي والعدوان.
(٢) إن فيها بشارة للمؤمنين باستمرار النصر وحسن العاقبة فى كل قتال يقع بينهم وبين المشركين ما داموا محافظين على أسباب النصر المادية والمعنوية التي علمت مما تقدم.
روى البخاري عن أنس «أن رجالا من الأنصار استأذنوا رسول الله ﷺ فى ترك فداء عمه العباس رضى الله عنه وكان فى أسرى المشركين يوم بدر فقالوا: ائذن لنا فنترك لابن أختنا العباس فداءه (كانت جدته أنصارية) فقال صلى الله عليه وسلم: والله لا تذرون منه درهما».
وقد كان فداء الأسير أربعين أوقية ذهبا، فجعل على العباس مائة أوقية وعلى عقيل ثمانين، فقال له العباس: أللقرابة صنعت هذا؟ قال: فأنزل الله تعالى (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى، إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) الآية فقال العباس (بعد إسلامه) وددت لو كان أخذ منى أضعافها لقوله تعالى (يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ) اه.
وبعد أن ذكر تلك القواعد الخاصة بالحرب والسلم وما يجب أن يعمل مع الأسرى ختم السورة بولاية المؤمنين بعضهم لبعض بمقتضى الإيمان والهجرة وما يلزم ذلك،
[سورة الأنفال (٨) : الآيات ٧٢ الى ٧٥]
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٧٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (٧٣) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٧٤) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٧٥)
المعنى الجملي
قسم الله المؤمنين اربعة أقسام، وبين حكم كل منها ومنزلته من بينها:
(١) المهاجرون الأولون أصحاب الهجرة الأولى قبل غزوة بدر- إلى صلح الحديبية.
(٢) الأنصار الذين كانوا بالمدينة وآووا النبي ﷺ والمهاجرين عند هجرتهم إليهم.
(٣) المؤمنون الذين لم يهاجروا.
(٤) المؤمنون الذين هاجروا بعد صلح الحديبية.
(١) (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي هؤلاء الكلمة هم المؤمنون الذين هجروا أوطانهم فرارا بدينهم من فتنة المشركين إرضاء لربهم ونصرا لرسوله صلى الله عليه وسلم، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم فى سبيل الله:
أي بذلوا الجهد بقدر الوسع، واقتحموا المشاق.
أما ما كان من بذل الأموال فهو قسمان:
(ا) ما ينفق فى التعاون والهجرة والدفاع عن دين الله ونصر دينه وحماية رسوله.
(ب) ما يكون بسخاء الأنفس بترك ما تركوه فى أوطانهم عند خروجهم منها.
وما كان من بذل الأنفس فهو أيضا ضربان:
(ا) قتال الأعداء وعدم المبالاة بكثرة عددهم وعددهم.
(ب) ما يكون قبل القتال من احتمال المشاق ومغالبة الشدائد والصبر على الاضطهاد والهجرة من البلاد، وما يصحب ذلك من سغب وتعب ونحو ذلك.
(٢) (وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا) أي والذين آووا الرسول ومن هاجر من أصحابه ونصروهم وأمنوهم من المخاوف، فقد كانت يثرب ملجأ المهاجرين، شاركهم أهلها فى أموالهم وآثروهم على أنفسهم وقاتلوا من قاتلهم وعادوا من عاداهم، ومن جراء هذا جعل الله حكمهم حكم المهاجرين فى قوله:
(أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي يتولى بعضهم من أمر الآخرين ما يتولونه من أمر أنفسهم حين الحاجة إلى التعاون والتناصر فى القتال وما يتعلق به من الغنائم لأن حقوقهم ومرافقهم مشتركة، ويجب عليهم كفاية المحتاج، وإغاثة المضطر منهم.
(٣) (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا) الولاية بفتح الواو وكسرها، وقيل هى بالفتح خاصة بالنصرة والمعونة والنسب والدين، وبالكسر فى الإمارة وتولى الأمور العامة، لأنها من قبيل الصناعات والحرف،
أما من أسره الكفار من دار الإسلام فله حكم أهل هذه الدار، ويجب على المسلمين السعى فى فكاكهم بقدر ما يستطيعون من الحول والقوة، بل يجب بذل هذه الحماية لأهل الذمة أيضا.
(وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ) أي إنه لا ولاية لكم عليهم إلا إذا قاتلهم الكفار أو اضطهدوهم لأجل دينهم وطلبوا نصركم عليهم، فعليكم أن تساعدوهم بشرط أن يكون الكفار حربيين لا عهد بينكم وبينهم، أما إن كانوا معاهدين فيجب الوفاء بعهدهم ولا تباح خيانتهم وغدرهم بنقض العهود والمواثيق.
(وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فعليكم أن تقفوا عند حدوده، وأن تراقبوه وتتذكرو اطلاعه على أعمالكم، وتتوخّوا فيها الحق والعدل وتتقوا الهوى الذي يصد عن ذلك.
وبهذه المحافظة على العهود والمواثيق سرا وجهرا امتازت الشريعة الإسلامية على الشرائع الوضعية، فشعار أهلها الوفاء بالعهود والبعد عن الخيانة والغدر.
وإن أعظم دول المدنية فى العصر الحاضر تنقض عهودها جهرة متى وجدت الفرصة سانحة، ولا سيما عهودها للضعفاء، وتتخذها خداعا مع الأقوياء، وما أكثر ما تنقضها بالتأويل والتحايل فى التفسير إذا رأت فى ذلك مصلحتها، حتى قال رئيس الدولة الألمانية:
ما المعاهدات إلا قصاصات ورق، وقال بسمارك أكبر ساسة هذه الدولة: المعاهدات حجة القوى على الضعيف، وأبرع الساسة فى التفصّى منها بالتأويل هم الإنكليز.
(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ) أي فى النصرة والتعاون على قتال المشركين،
(إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إن لم تفعلوا ما شرع لكم من ولاية بعضكم لبعض، ومن تناصركم وتعاونكم تجاه ولاية الكفار بعضهم لبعض عليكم، ومن الوفاء بالعهود والمواثيق مع الكفار إلى أن ينقضى عهدهم وينبذوه على سواء- يقع من الفتنة والفساد فى الأرض ما فيه أعظم الضرر عليكم بتخاذلكم الذي يفضى إلى فشلكم وظفر الأعداء بكم واضطهادكم فى دينكم بصدكم عنه كما وقع ذلك بضعفائكم بمكة قبل الهجرة.
ثم فضل الله المهاجرين والأنصار على غيرهم فقال:
(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا) أي هؤلاء المهاجرون والأنصار هم المؤمنون حق الإيمان وأكمله دون من لم يهاجر وأقام بدار الشرك ولم يغز مع المسلمين عدوهم.
ثم وعدهم بحسن العاقبة فقال:
(لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) أي لهم مغفرة تامة من ربهم تمحو ما فرط منهم من السيئات، ورزق كريم فى دار الجزاء، لأنهم قد تركوا الأهل والوطن وبذلوا النفس والمال وأعرضوا عن سائر اللذات الجسمانية، وعملوا ما يقربهم من ربهم فى دار النعيم.
(٤) (وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ) أي والذين تأخر إيمانهم وهجرتهم عن الهجرة الأولى وهاجروا وجاهدوا معكم أعداءكم- فأولئك منكم أي فيلتحقون بالمهاجرين الأولين والأنصار وبما تقدم من الولاية والجزاء.
وفى جعلهم منهم دليل على فضل السابقين على اللاحقين يرشد إلى ذلك قوله
ولا يخفى ما فى الآية من ترغيب فى الإيمان والهجرة.
(وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ) أولو الأرحام: هم أصحاب القرابات، والأرحام واحدها رحم (بزنة قفل وكتف) وأصله رحم المرأة وهو موضع تكوين الولد، سمى به الأقارب لأنهم من رحم واحد، أي وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض وأحق من المهاجرين والأنصار الأجانب بالتعاون والتناصر، وبالتوارث فى دار الهجرة فى ذلك العهد وفى كل عهد، وقوله: فى كتاب الله، أي فى حكمه الذي كتبه على عباده المؤمنين، وأوجب به عليهم صلة الأرحام والوصية بالوالدين وذى القربى.
والخلاصة- إن القريب ذا الرحم أولى من غيره من المؤمنين بولاء قريبه وبره ومقدم عليه فى جميع الولايات المتعلقة به كولاية النكاح وصلاة الجنازة وغيرها، وإذا وجد قريب وبعيد يستحقان البر والصلة فالقريب أولى كما قال تعالى: «وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ»
وقال رسول الله ﷺ «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شىء فلأهلك، فإن فضل شىء عن أهلك فلذى قرابتك، فإن فضل عن ذى قرابتك شىء فهكذا وهكذا»،
أي فللمستحق من الأجانب.
(إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي فهو سبحانه إنما شرع لكم هذه الأحكام فى الولاية العامة والخاصة والعهود والمواثيق وصلة الأرحام وأحكام القتال والغنائم وسنن التشريع
زادنا الله علما بفقه كتابه، ووفقنا للعمل بأحكامه وآدابه، وجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إنه هو السميع المجيب.
موضوعات السور المكية والمدنية
تقدم أن قلنا فى آخر سورة البقرة: إن أمهات المسائل التي ذكرت فى السور المكية هى:
أصول الإيمان من الاعتقاد بوحدانية الله والتصديق بالوحى والرسالة والبعث والجزاء، وقصص الرسل مع أقوامهم، ثم أصول التشريع العامة والآداب والفضائل الثابتة، وجاء فى أثناء ذلك محاجة المشركين ودعوتهم إلى الإيمان بتلك الأصول ودحض شبهاتهم وإبطال ضلالاتهم والنعي على خرافاتهم.
وأمهات ما جاء فى السور المدنية- قواعد التشريع التفصيلية، ومحاجّة أهل الكتاب ببيان ما ضلوا فيه من هداية كتبهم ورسلهم، فكثر فى سورة البقرة محاجة اليهود، وكثر فى سورة آل عمران محاجة النصارى، وكثر فى سورة المائدة محاجة الفريقين، وكثر فى سورة النساء الأحكام المتعلقة بالمنافقين، وكثر فى سورة التوبة فضائح المنافقين.
أهم ما تشتمل عليه سورة الأنفال من الأحكام
(١) تعليل أفعاله وأحكامه بمصالح الخلق كقوله: «وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ» وقوله: «وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ».
(٤) استغاثة الرسول ربه وإمداده بالملائكة كما قال: «إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ» (٥) كراهة مجادلة الرسول فيما يأمر به ويرغّب فيه من أمور الدين ومصالح المسلمين بعد أن تبين لهم أنه الحق كما قال «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ».
أما المجادلة والمراجعة فى المصالح الحربية والسياسية قبل أن يتبين الحق فيها فمحمودة، إذ بها تتم المشاورة التي عمل بها النبي ﷺ فى مواطن كثيرة.
(٦) إن من شأن صادق الإيمان أن يتوكل على الله، أي يكل إليه أموره وحده، فلا يتكل على مخلوق مربوب لخالق مثله، فكل المخلوقات سواء فى الخضوع لسننه، ومن شأن المؤمن المتوكل أن يطلب كل شىء من سببه خضوعا لسننه فى نظام خلقه، فإذا جهل الأسباب أو عجز عنها وكل أمره فيها إلى ربه داعيا أن يعلمه ما جهل منها، وأن يسخر له ما عجز عنه من جماد وحيوان أو إنسان كما قال: «وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» وبين فائدة ذلك بقوله: «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ».
(٧) إن الظلم فى الأمم يقتضى عقابها فى الدنيا بالضعف والانحلال الذي قد يفضى إلى الزوال أو فقد الاستقلال، وإن هذا العقاب يقع على الأمة بأسرها لا على مقترفى الظلم وحدهم كما قال: «وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً».
(٩) إن تقوى الله فى الأعمال العامة والخاصة تكسب صاحبها ملكة يفرق بها بين الحق والباطل والخير والشر كما قال: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً».
(١٠) إن تغير أحوال الأمم وتنقلها فى الأطوار من نعم إلى نقم أو بالعكس أثر طبيعى لتغييرها ما بأنفسها من العقائد والأخلاق والآداب «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ».
(١١) وجوب إعداد الأمة بكل ما تستطيع من قوة لقتال أعدائها، وذلك يشمل السلاح، وهو يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، وقد كثرت أنواعه من برى وبحرى وهوائى، ومرابطة الفرسان فى ثغور البلاد لإرهاب الأعداء وإخافتهم من عاقبة التعدي على الأمة ومصالحها أو على أفرادها «وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ».
(١٢) تفضيل السلم على الحرب إذا جنح لها العدو لأن الحرب ضرورة من ضرورات الاجتماع تقدر بقدرها «وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ».
(١٣) المحافظة على الوفاء بالعهد والميثاق فى الحرب والسلم، وتحريم الخيانة سرا وجهرا: «وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ».
(١٤) وجوب معاملة ناقضى العهد بالشدة التي يكونون بها عبرة ونكالا لغيرهم
(١٥) جعل الغاية من القتال الديني حرية الدين ومنع الفتنة فيه حتى لا يرجع المشركون أحدا عن دينه «وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
(١٦) اتقاء التنازع والتفرق حال القتال لأنه سبب الفشل وذهاب القوة، «وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ» وقد جرت على ذلك الدول فى العصر الحديث، فإنها تبطل تنازع الأحزاب زمن الحرب وتكتفى بالشورى العسكرية التي شرعها الإسلام وعمل بها النبي صلى الله عليه وسلم، فى غزوة بدر، وفرضت عليه فى غزوة أحد «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ».
(١٧) منع اتخاذ الأسرى ومفاداتهم بالمال فى حال الضعف، وجواز ذلك حين الإثخان فى الأرض بالقوة والعزة والسيادة، مع ترغيب الأسرى فى الإيمان وإنذارهم أن يخونوا المسلمين بعد إطلاقهم بمن أو فداء.
عدد آيها ثلاثون ومائة، وهى مدنية، ولها أسماء كثيرة: منها الفاضحة لما تضمنته من ذكر أسرار المنافقين وأنبائهم بما فى قلوبهم من الكفر وسوء النيات، والمدمدمة والمخزية.
وقد نزل معظمها بعد غزوة تبوك، وهى آخر غزواته صلى الله عليه وسلم، وقد كان الاستعداد لها وقت القيظ زمن العسرة، وفى أثنائها ظهر من علامات نفاق المنافقين ما كان خفيّا من قبل.
وأولها نزل سنة تسع بعد فتح مكة، فأرسل النبي ﷺ عليا ليقرأها على المشركين فى الموسم.
روى البخاري عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت «يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ» وآخر سورة نزلت براءة.
ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها- أنها كالمتممة لها فى معظم ما فى أصول الدين وفروعه، وفى التشريع الذي جلّه فى أحكام القتال والاستعداد له، وأسباب النصر فيه، وأحكام المعاهدات والمواثيق من حفظها ونبذها عند وجود المقتضى لذلك، وأحكام الولاية فى الحرب وغيرها بين المؤمنين بعضهم مع بعض، والكافرين بعضهم مع بعض، وأحوال المؤمنين الصادقين والكفار والمذبذبين من المنافقين ومرضى القلوب، فما بدىء به فى الأولى أتم فى الثانية- وهاك أمثله على ذلك:
(١) تفصيل الكلام فى قتال المشركين وأهل الكتاب.
(٢) ذكر فى الأولى صدّ المشركين عن المسجد الحرام، وأنهم ليسوا بأوليائه، وجاء فى الثانية «ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ» إلى آخر الآيات (٣) ذكرت العهود فى سورة الأنفال، وافتتحت سورة التوبة بتفصيل الكلام فيها.