هذه السورة مكية نزلت في مكة، وتشتمل على ١٠٩ آيات، وقد ابتدأت بالإشارة إلى مكانة الكتاب الكريم، وما يقوله المشركون في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الكون وآيات الله تعالى فيه، والجزاء يوم القيامة، وسنة الله تعالى بالنسبة للكافرين، والتنديد عليهم في عقائدهم، وحال الناس في الضراء والسراء، وقدرة الله تعالى على كل شيء، وعجز الأوثان عن أي سيء. وفيها الإشارة إلى التحدي بأن يأتوا بسورة ولو مفتراة، وفيها التهديد الشديد بعذاب الله تعالى، وأحوال نفوس الناس، ومراقبة الله تعالى لأعمالهم، وانتقلت بعد ذلك إلى التسرية عن النبي صلى الله عليه وسلم لألمه من كفرهم، مع قيام الحجة القاطعة عليهم، وسري عنه بذكر قصص الأنبياء مع أقوامهم، فجاءت قصة نوح، وقصة موسى وهارون وفرعون وبني إسرائيل، ثم إشارة إلى قصة يونس، وبها سميت السورة، واتجه البيان في السورة من بعد ذلك إلى النبي لتمام العظة والاعتبار.
ﰡ
١- هذه حروف بدأ الله تعالى بها السورة، وهو أعلم بمراده منها، وهي مع ذلك تشير إلى أن القرآن مُكَوَّن من مثل هذه الحروف، ومع ذلك عجزتم عن أن تأتوا بمثله، وهذه الحروف الصوتية تثير انتباه المشركين فيستمعون إليه، وإن اتفقوا على عدم استماع هذه الآيات الكريمة ونحوها التي هي آيات القرآن المحكم في أسلوبه ومعانيه، الذي اشتمل على الحكمة وما ينفع الناس في أمور دينهم ودنياهم.
٢- ما كان للناس أن يَعجبوا ويُنكروا وحْينا إلى رجل منهم ( محمد )، ليُحذّر الناس من عذاب الله، ويُبَشّر الذين آمنوا منهم بأن لهم منزلة عالية عند ربهم، لا يتخلف وعد الله، وما كان لهؤلاء المنكرين أن يقولوا عن محمد - رسولنا - : إنه ساحر واضح أمره.
٣- إن ربكم - أيها الناس - هو الله الذي خلق السماوات والأرض وما فيهما في ستة أيام لا يعلم إلا الله مداها. ثم هيْمن - بعظيم سلطانه - وحده، ودبَّر أمور مخلوقاته، فليس لأحد سلطان مع الله في شيء، ولا يستطيع أحد من خلقه أن يشفع لأحد إلا بإذنه. ذلكم الله الخالق، هو ربكم وولي نعمتكم فاعبدوه - وحده - وصدقوا رسوله، وآمنوا بكتابه. فعليكم أن تذكروا نعمة الله وتتدبروا آياته الدالة على وحدانيته.
٤- وكما بدأ الله الخلق فإليه - وحده - مرجعكم، ومرجع المخلوقات كلها، وقد وعد الله بذلك وعداً صادقاً لا يتخلف. وإنه سبحانه بدأ الخلق بقدرته، وبعد فنائه سيعيده بقدرته، ليثيب المؤمنين المطيعين بعدله التام، وأما الكافرون فلهم شراب في جهنم شديد الغليان، ولهم عذاب موجع جزاء كفرهم.
٥- وربكم الذي خلق السماوات والأرض، والذي جعل الشمس تشع الضياء، والقمر يرسل النور، وجعل للقمر منازل ينتقل فيها، فيختلف نوره تبعاً لهذه المنازل، لتستعينوا بهذا في تقدير مواقيتكم، وتعلموا عدد السنين والحساب، وما خلق الله ذلك إلا بالحكمة، وهو سبحانه يبسط في كتابه الآيات الدالة على ألوهيته وكمال قدرته، لكي تتدبروها بعقولكم وتستجيبوا لما يقتضيه العلم.
٦- إن في تعاقب الليل والنهار واختلافهما بالزيادة والنقصان، وفي خلْق السماوات والأرض وما فيهما من الكائنات، لأدلة واضحة وحُججاً بينة على ألوهية الخالق وقدرته لمن يتجنبون غضبه ويخافون عذابه.
٧- إن الذين لا يؤمنون بالبعث ولقاء الله في اليوم الآخر، واعتقدوا - واهمين - أن الحياة الدنيا هي منتهاهم وليس بعدها حياة، فاطمأنوا بها، ولم يعملوا لما بعدها، وغفلوا عن آيات الله الدالة على البعث والحساب.
٨- هؤلاء مأواهم الذي يستقرون فيه هو النار، جزاء ما كسبوا من الكفر وقبيح الأعمال.
٩- إن الذين آمنوا إيماناً صحيحاً، وعملوا الأعمال الصالحة في دنياهم يثبتهم ربهم على الهداية بسبب إيمانهم، ويدخلون يوم القيامة جنات تجرى الأنهار خلالها، وينعمون فيها نعيماً خالداً.
١٠- دعاء المؤمنين في هذه الجنات تسبيح وتنزيه لله عما كان يقوله الكافرون في الدنيا، وتحية الله لهم، وتحية بعضهم لبعض تقرير للأمن والاطمئنان، وخاتم دعائهم دائماً حمد الله على توفيقه إياهم بالإيمان، وظفرهم برضوانه عليهم.
١١- ولو أجاب الله ما يستعجل به الناس على أنفسهم من الشر مثل استعجالهم لطلب الخير، لأهلكهم وأبادهم جميعاً، ولكنه يتلطف بهم، فيرجئ هلاكهم، انتظاراً لما يظهر منهم حسب ما علمه فيهم، فتتضح عدالته في جزائهم، إذ يتركون - والأدلة قائمة عليهم - يتعمدون الانحراف والاتجاه إلى طريق الضلال والظلم.
١٢- وإذا أصاب الإنسان ضر في نفسه أو ماله أو نحو ذلك، أحس بضعفه ودعا ربه على أي حال من حالاته، مضطجعاً أو قاعداً أو قائماً، أن يكشف ما نزل به من محنته، فلما استجاب الله له، فكشف عنه ضره، انصرف عن جانب الله واستمر على عصيانه، ونسى فضل الله عليه، كأنه لم يصبه ضر ولم يدع الله إلى كشفه، وكمثل هذا المسلك زيَّن الشيطان للكافرين ما عملوا من سوء وما اقترفوا من باطل.
١٣- ولقد أهلكنا الأمم السابقة عليكم بسبب كفرهم حين جاءتهم رسلهم بالآيات الواضحة على صدق دعوتهم إلى الإيمان، وما كان في علم الله أن يحصل منهم إيمان، بسبب تشبثهم بالكفر والعصيان، فاعتبروا يا كفار قريش، فكما أهلكنا مَنْ قبلكم، سنجزى المجرمين بإهلاكهم.
١٤- ثم جعلناكم - يا أمة محمد - خلفاء في الأرض، تعمرونها من بعد هؤلاء السابقين، لنختبركم ونظهر ما تختارونه لأنفسكم من طاعة أو عصيان، بعد أن عرفتم ما جرى على أسلافكم.
١٥- وحينما تجلت آيات القرآن من رسولنا - محمد - على المشركين، قال له الكافرون الذين لا يخافون عذاب الله ولا يرجون ثوابه : آتنا كتاباً غير هذا القرآن، أو بَدِّل ما فيه مما لا يعجبنا. قل لهم - أيها الرسول : لا يمكنني ولا يجوز أن أغير أو أبدل فيه من عندي. ما أنا إلا متبع ومبلغ ما يوحى إلىَّ من ربى، إنى أخاف إن خالفت وحى ربى عذاب يوم عظيم خطره، شديد هوله.
١٦- قل لهم - يا أيها الرسول - : لو شاء الله ألا ينزل علىَّ قرآناً من عنده، وألا أبلغكم به ما أنزله، وما تلوته عليكم، ولا أعلمكم الله به. لكنه نزل، وأرسلني به، وتلوته عليكم كما أمرني، وقد مكثت بينكم زمناً طويلا قبل البعث لم أدّع فيه الرسالة، ولم أتل عليكم شيئاً، وأنتم تشهدون لي بالصدق والأمانة، ولكن جاء الوحي به فأمرت بتلاوته، ألا فاعقلوا الأمور وأدركوها، واربطوا بين الماضي والحاضر.
١٧- ليس هناك أشد ظلماً لنفسه ممن كفر وافترى الكذب على الله، أو كذب بآيات الله التي جاء بها رسوله. إنه لا ينجح الكافر في عمله، وقد خسر خسراناً مبيناً بكفره، ومغاضبته لله تعالى.
١٨- ويعبد هؤلاء المشركون - المفترون على الله بالشرك - أصناماً باطلة، لا تضرهم ولا تنفعهم، ويقولون : هؤلاء الأصنام يشفعون لنا عند الله في الآخرة، قل لهم - أيها الرسول - : هل تخبرون الله بشريك لا يعلم الله له وجوداً في السماوات ولا في الأرض ؟ ! تنزه الله عن الشريك وعما تزعمونه بعبادة هؤلاء الشركاء.
١٩- وما كان الناس في تكوينهم إلا أمة واحدة بمقتضى الفطرة، ثم بعثنا إليهم الرسل لإرشادهم وهدايتهم بمقتضى وحى الله تعالى، فكانت تلك الطبيعة الإنسانية التي استعدت للخير والشر سبباً في أن يغلب الشر على بعضهم، وتحكم الأهواء ونزغات الشيطان، فاختلفوا بسبب ذلك. ولولا حكم سابق من ربك بإمهال الكافرين بك - أيها النبي - وإرجاء هلاكهم إلى موعد محدد عنده، لعجل لهم الهلاك والعذاب، بسبب الخلاف الذي وقعوا فيه، كما وقع لأمم سابقة.
٢٠- ويقول هؤلاء المشركون : هلا أنزل على محمد معجزة من عند الله غير القرآن، تقنعنا بصدق رسالته ؟ فقل لهم - أيها الرسول - : إن نزول الآيات غيب، ولا أحد يعلم الغيب إلا الله، وإن كان القرآن لا يقنعكم فانتظروا قضاء الله بيني وبينكم فيما تجحدونه، إني معكم من المنتظرين.
٢١- ومن شأن الناس أننا إذا أنعمنا عليهم، من بعد شدة أصابتهم في أنفسهم أو أهليهم أو أموالهم، لم يشكروا الله على ما أنعم به عليهم بعد صرف الضر عنهم، بل هم يقابلون ذلك بالإمعان في التكذيب والكفر بالآيات. قل - أيها الرسول - : إن الله قادر على إهلاككم والإسراع بتعذيبكم، لولا حكم سابق منه بإمهالكم إلى موعد اختص - وحده - بعلمه. إن رسلنا من الملائكة الموكلين بكم يكتبون ما تمكرون، وسيحاسبكم ويجازيكم.
٢٢- الله الذي تكفرون بنعمه، وتُكَذِّبون بآياته، هو الذي يُمكِّنكم من السير والسعي في البر مشاة وركباناً، وفي البحر بما سخَّر لكم من السفن التي تجرى على الماء، بما يهيئ الله لها من ريح طيبة تدفعها في أمان إلى غايتها، حتى إذا اطمأننتم إليها وفرحتم بها هبت ريح عاصفة أثارت عليكم الموج من كل جانب، وأيقنتم أن الهلاك واقع لا محالة، في هذه الشدة لا تجدون ملجأ غير الله فتدعونه مخلصين في الدعاء، وموقنين أنه لا منقذ لكم سواه، متعهدين له لئن أنجاكم من هذه الكربة لتؤمنن به ولتكونن من الشاكرين.
٢٣- فلما أنجاهم مما تعرضوا له من الهلاك، نقضوا عهدهم، وعادوا مسرعين إلى الفساد الذي كانوا من قبل - يا أيها الناس - الناقضون للعهد إن عاقبة اعتدائكم وظلمكم سترجع عليكم - وحدكم - وإن ما تتمتعون به في دنياكم متاع دنيوي زائل، ثم إلى الله مصيركم في النهاية فيجزيكم بأعمالكم التي أسلفتموها في دنياكم.
٢٤- ما حالة الحياة الدنيا في روعتها وبهجتها، ثم في فنائها بعد ذلك، إلا كحالة الماء ينزل من السماء، فيختلط به نبات الأرض، مما يأكله الناس والحيوان، فيزدهر ويثمر وتزدان به الأرض نضارة وبهجة، حتى إذا بلغت هذه الزينة تمامها، وأيقن أهلها أنهم مالكون زمامها ومنتفعون بثمارها وخيراتها، فاجأها أمرنا بزوالها فجعلناها شيئاً محصوداً، كأن لم تكن آهلة بسكانها وآخذة بهجتها من قبل، ففي كلتا الحالتين نضارة وازدهار يبتهج بهما الناس، ثم يعقبهما زوال ودمار، وكما بيَّن الله ذلك بالأمثال الواضحة، يبيِّن الآيات ويفصل ما فيها من أحكام وآيات لقوم يتفكرون ويعقلون.
٢٥- والله يدعو عباده بالإيمان والعمل الصالح إلى الجنة دار الأمن والاطمئنان، وهو سبحانه يهدى من يشاء هدايته - لحسن استعداده وميله إلى الخير - إلى الطريق الحق وهو السلام.
٢٦- للذين أحسنوا بالاستجابة لدعوة الله، فآمنوا وعملوا الخير لدينهم ودنياهم، لهم المنزلة الحسنى في الآخرة وهي الجنة، ولهم زيادة على ذلك فضلا من الله وتكريماً، ولا يغشى وجوههم كآبة من همّ وهوان، وهؤلاء هم أهل الجنة الذين ينعمون فيها أبداً.
٢٧- والذين لم يستجيبوا لدعوة الله، فكفروا واقترفوا المعاصي فسيجزون بمثل ما عملوا من سوء، ويغشاهم الهوان، وليس لهم واقٍ يمنعهم من عذاب الله، ووجوهم مسودة من الغم والكآبة كأنما أسدل عليها سواد من ظلمة الليل، وهم أهل النار يشقون فيها أبداً.
٢٨- واذكر - أيها الرسول - هوْل الموقف، يوم نجمع الخلائق كافة، ثم نقول للذين أشركوا في عبادتهم مع الله غيره : قفوا مكانكم أنتم ومن اتخذتموهم شركاء من دون الله، حتى تنظروا ما يفعل بكم، فوقعت الفرقة بين المشركين والشركاء، وتبرأ الشركاء من عابديهم، قائلين لهم : لم ندعكم إلى عبادتنا، وما كنتم تعبدوننا، وإنما كنتم تعبدون أهواءكم.
٢٩- ويكفينا الله بعلمه وحكمه شهيداً وفاصلاً بيننا وبينكم. إنا كنا بمعزل عنكم لا نشعر بعبادتكم لنا.
٣٠- في ذلك الموقف تعلم كل نفس ما قدَّمت من خير أو شر، وتلقى جزاءها. وفي هذا الموقف أيقن المشركون بوحدانية الله الحق، وبطل كل ما كانوا يفترونه على الله.
٣١- ادع - أيها الرسول - إلى التوحيد الخالص، وقل : مَنْ الذي يأتيكم بالرزق من السماء بإنزال المطر، ومن الأرض بإخراج النبات والثمر ؟ ومَن الذي يمنحكم السمع والأبصار ؟ ومن يخرج الحي من الميت كالنبات وهو حي من الأرض وهي موات ؟ ومن يخرج الميت من الحي كالإنسان يسلب عنه الحياة ؟ ومن الذي يُدَبِّر ويصرف جميع أمور العالم كله بقدرته وحكمته ؟ فسيعترفون - لا مناص - بأن الله - وحده - فاعل هذا كله. فقل لهم - أيها الرسول - عند اعترافهم بذلك : أليس الواجب المؤكد أن تذعنوا للحق وتخافوا الله مالك الملك.
٣٢- فذلكم الله الذي أقررتم به، هو - وحده - ربكم الذي تحققت ربوبيته، ووجبت عبادته دون سواه، وليس بعد الحق من توحيد الله وعبادته إلا الوقوع في الضلال، وهو الإشراك بالله وعبادة غيره. فكيف تنصرفون عن الحق إلى الباطل ؟.
٣٣- كما تحققت ألوهية الله ووجبت عبادته، حق قضاؤه على الذين خرجوا عن أمر الله متمردين بأنهم لا يذعنون للحق، لأن الله تعالى لا يهدى إلى الحق إلا من سلك طريقه، لا من تمرد عليه.
٣٤- قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين : هل من معبوداتكم - التي جعلتموها شركاء لله - مَنْ يستطيع أن ينشئ الخلق ابتداء، ثم يعيده بعد فنائه ؟ إنهم سيعجزون عن الجواب، فقل لهم حينئذ : الله - وحده - هو الذي ينشئ الخلق من عدم، ثم يعيده بعد فنائه، فكيف تنصرفون عن الإيمان به ؟
٣٥- قل - أيها الرسول - لهؤلاء المشركين : هل من معبوداتكم التي جعلتموها شركاء لله مَن يستطيع التمييز بين الهدى والضلال، فيرشد سواه إلى السبيل الحق ؟ فسيعجزون ! فهل القادر على الهداية إلى الحق أولى بالاتباع والعبادة ؟ أم الذي لا يستطيع أن يهتدي في نفسه، وهو بالأولى لا يهدى غيره، اللهم إلا إذا هداه غيره ؟ كرؤوس الكفر والأحبار والرهبان الذين اتخذتموهم أرباباً من دون الله. فما الذي جعلكم تنحرفون حتى أشركتم هؤلاء بالله ؟ وما هذه الحال العجيبة التي تجركم إلى تلك الأحكام الغريبة.
٣٦- وما يتبع أكثر المشركين في معتقداتهم إلا ظنوناً باطلة لا دليل عليها، والظن - على وجه العموم - لا يفيد، ولا يغنى عن العلم الحق أي غناء، ولاسيما إذا كان ظناً وهمياً كظن هؤلاء المشركين. وإن الله عليم بما يفعله رؤساء الكفر وأتباعهم الذين يقلدونهم، وسيجازيهم على ذلك.
٣٧- وما كان يتأتى في هذا القرآن أن يفتريه أحد، لأنه في إعجازه وهدايته وإحكامه لا يمكن أن يكون من عند غير الله. وليس هو إلا مصدقاً لما سبقه من الكتب السماوية فيما جاءت به من الحق، وموضحاً لما كتب وأثبت من الحقائق والشرائع. لا شك في أن هذا القرآن منزل من عند الله، وأنه معجز لا يقدر أحد على مثله.
٣٨- بل يقول هؤلاء المشركون : اختلق محمد هذا القرآن من عنده، فقل لهم - أيها الرسول - : إن كان هذا القرآن من عمل البشر، فأتوا أنتم بسورة واحدة مماثلة له، واستعينوا على ذلك بمن تشاءون من دون الله، إن كنتم صادقين في زعمكم أن القرآن من عندي.
٣٩- بل سارع هؤلاء المشركون إلى تكذيب القرآن من غير أن يتدبروا، ويعلموا ما فيه، فلم ينظروا فيه بأنفسهم، ولم يقفوا على تفسيره وبيان أحكامه بالرجوع إلى غيرهم، وبمثل هذه الطريقة في التكذيب من غير علم، كذب الكافرون من الأمم السابقة رسلهم وكتبهم، فانظر - أيها الإنسان - ما آل إليه أمر المكذبين السابقين من خذلانهم وهلاكهم بالعذاب، وهذه سنة الله في أمثالهم.
٤٠- ومن هؤلاء المكذبين من سيؤمر بالقرآن بعد أن يفطن إلى ما فيه، ويتنبه لمعانيه، ومنهم فريق لا يؤمن به ولا يتحول عن ضلاله، والله سبحانه وتعالى أعلم بالمكذبين المفسدين، وسيجازيهم على ما فعلوه.
٤١- وإن أصروا على تكذيبك - أيها الرسول - بعد وضوح الأدلة على نبوتك - فقل لهم : إن لي جزاء عملي، ولكم جزاء عملكم كيفما كان، وإني مستمر في دعوتي، وأنتم لا تؤاخذون بعملي، وأنا لا أؤاخذ بعملكم، فافعلوا ما شئتم وسيجازى الله كلا بما كسب.
٤٢- ومن هؤلاء الكفار من يستمع إليك - أيها الرسول - حين تدعوهم إلى دين الله، وقد أغلقت قلوبهم دون قبول دعوتك، فأنت لا تقدر على إسماع هؤلاء الصم وهدايتهم، وخاصة إذا أضيف إلى صممهم عدم تفهمهم لما تقول.
٤٣- ومنهم من ينظر إليك ويفكر في شأنك، فيرى دلائل نبوتك الواضحة، ولكن لا يهتدي بها، فمثله في ذلك مثل الأعمى، ولست بقادر على هداية هؤلاء العمى، فعمى البصر كعمى البصيرة، كلاهما لا هداية له، فالأعمى لا يهتدي حساً، والضالُّ لا يهتدي معنى.
٤٤- إن الله سبحانه سيجازى الناس بأعمالهم بالعدل والقسطاس، ولا يظلم أحداً منهم شيئاً، ولكن الناس الذين يظلمون أنفسهم باختيارهم الكفر على الإيمان.
٤٥- وأنذرهم - أيها الرسول - يوم نجمعهم للحساب، فيتحققون مجيء اليوم الآخر بعد أن كانوا يكذبون به، ويتذكرون حياتهم في الدنيا، كأنها ساعة من النهار لم تتسع لما كان ينبغي من عمل الخير، ويعرف بعضهم بعضا، يتلاومون على ما كانوا عليه من الكفر والضلال. قد خسر المكذبون باليوم الآخر، فلم يقدموا في دنياهم عملا صالحاً، ولم يظفروا بنعيم الآخرة بكفرهم.
٤٦- وإن أريناك - أيها الرسول - بعض الذي نعدهم به، من نصرتك عليهم، وإلحاق العذاب بهم، أو نتوفينك قبل أن ترى كل ذلك، فلا مناص من عودتهم إلينا للحساب والجزاء. والله سبحانه رقيب وعالم بكل ما يفعلونه، ومجازيهم به.
٤٧- ولقد جاء رسول لكل أمة فبلَّغها دعوة الله، فآمن مَن آمن، وكذّب مَن كذب، فإذا كان يوم الحشر، وجاء رسولهم وشهد على مكذبيه بالكفر، وللمؤمنين بالإيمان، فيحكم الله بينهم بالعدل التام، فلا يظلم أحداً فيما يستحقه من جزاء.
٤٨- ويُمعن الكافرون في التكذيب باليوم الآخر، فيستعجلونه متهكمين، ويقولون : متى يكون هذا الذي تعدنا به من العذاب، إن كنت - أيها الرسول - ومن معك، صادقين فيما تؤمنون به وتدعوننا إليه ؟.
٤٩- قل لهم - أيها الرسول - إنني لا أملك لنفسي خيراً ولا شراً، إلا ما أقدرني الله عليه. فكيف أملك تقديم العقوبة ؟ إن لكل أمة نهاية حددها الله أزلا، فإذا حانت هذه النهاية فلا يستطيعون التأخر عنها وقتاً ما، كما لا يستطيعون سبقها.
٥٠- قل لهؤلاء المكذبين المستعجلين وقوع العذاب : أخبروني إن وقع بكم عذاب الله ليلا أو نهاراً، فأي فائدة يحصل عليها من استعجاله المجرمون الآثمون ؟ والعذاب كله مكروه.
٥١- أتنكرون العذاب الآن، ثم إذا حل بكم يقال لكم توبيخاً : هل آمنتم به حين عاينتموه، وقد كنتم تستعجلونه في الدنيا مستهينين جاحدين.
٥٢- ثم يقال يوم القيامة للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والتكذيب : ذوقوا العذاب الدائم، لا تجزون الآن إلا على أعمالكم التي كسبتموها في الدنيا.
٥٣- ويطلب الكفار منك - أيها الرسول - على سبيل الاستهزاء والإنكار - أن تخبرهم أحق ما جئت به من القرآن وما تعدهم به من البعث والعذاب ؟ قل لهم : نعم وحق خالقي الذي أنشأني إنه حاصل لا شك فيه، وما أنتم بغالبين ولا مانعين ما يريده الله بكم من العذاب.
٥٤- ولو أن كل ما في الأرض مملوك لكل نفس ارتكبت ظلم الشرك والجحود، لارتضت أن تقدمه فداء لما تستقبل من عذاب تراه يوم القيامة وتعاين هوله، وحينئذ يتردد الندم والحسرة في سرائرهم لعجزهم عن النطق به، ولشدة ما دهاهم من الفزع لرؤية العذاب، ونفذ فيهم قضاء الله بالعدل، وهم غير مظلومين في هذا الجزاء. لأنه نتيجة ما قدَّموا في الدنيا.
٥٥- ليعلم الناس أن الله مالك ومهيمن على جميع ما في السماوات والأرض، وليعلموا أن وعده حق، فلا يعجزه شيء، ولا يفلت من جزائه أحد، ولكنهم قد غرتهم الحياة الدنيا، لا يعلمون ذلك علم اليقين.
٥٦- والله سبحانه، يهب الحياة بعد عدم، ويسلبها بعد وجود، وإليه المرجع في الآخرة، ومَن كان كذلك لا يعظم عليه شيء.
٥٧- يا أيها الناس : قد جاءكم على لسان الرسول محمد كتاب من الله، فيه تذكير بالإيمان والطاعة وعظة بالترغيب في الخير، والترهيب من عمل السوء، وسوْق العبر بأخبار مَن سبقوكم، وتوجيه نظركم إلى عظمة الخلق لتدركوا عظمة الخالق، وفيه دواء لأمراض قلوبكم من الشرك والنفاق، وهداية إلى الطريق المستقيم. وذلك كله رحمة للمؤمنين الذين يستجيبون.
٥٨- قل لهم - أيها الرسول - : افرحوا بفضل الله عليكم ورحمته بكم، بإنزال القرآن، وبيان شريعة الإسلام، وهذا خير من كل ما يجمعه الناس من متاع الدنيا، لأنه غذاء القلوب وشفاء أسقامها.
٥٩- قل - أيها الرسول - للكفار الذين أوتوا بعض متاع الدنيا : أخبروني عما منحكم الله من رزق حلال طيب، فأقمتم من أنفسكم مشرِّعين، تجعلون بعضه حلالا، وبعضه حراماً، دون أن تأخذوا بشرع الله ؟ إن الله لم يأذن لكم في هذا، بل أنتم تكذبون في ذلك على الله.
٦٠- ما الذي يظنه يوم القيامة أولئك الذين كانوا يفترون الكذب على الله، فيدَّعون الحِلّ والتحريم من غير أن يكون عندهم دليل ؟ إن الله أنعم عليهم نعماً كثيرة، وأحلها لهم بفضله، وشرع لهم ما فيه خيرهم، ولكن الأكثرين لا يشكرون الله عليها، بل يفترون على الله الكذب.
٦١- وإنك - أيها الرسول - قد بلغت وهو معلوم لله، وما تكون في أمر من أمورك، وما تقرأ من قرآن ولا تعمل أنت وأمتك من عمل، إلا ونحن شهود رقباء عليه حين تدخلون فيه مجاهدين، ولا يغيب عن علم ربك شيء في وزن الذرة في الأرض ولا في السماء، ولا أصغر من هذا ولا أكبر منه. إن ذلك كله يسجل في كتاب عند الله بيِّن واضح.
٦٢- تنبهوا - أيها الناس - واعلموا أن الموالين لله بالإيمان والطاعة يحبهم ويحبونه، لا خوف عليهم من الخزي في الدنيا، ولا من العذاب في الآخرة، وهم لا يحزنون على ما فاتهم من عرض الدنيا ؛ لأن لهم عند الله ما هو أعظم من ذلك وأكثر.
٦٣- وهم الذين صدَّقوا بكل ما جاء من عند الله، وأذعنوا للحق، واجتنبوا المعاصي، وخافوا الله في كل أعمالهم.
٦٤- لهؤلاء الأولياء البشرى بالخير في الدنيا، وما وعدهم الله به من نصر وعزة، وفي الآخرة يتحقق وعد الله، ولا خلف لما وعد الله به، وهذا الذي بشروا به في الدنيا، وظفروا به في الآخرة هو الفوز العظيم.
٦٥- ولا تحزن - أيها الرسول - لما يقوله المشركون من سخرية وطعن وتكذيب، ولا تظن أن حالهم ستدوم، بل إن النتيجة لك وسيعتز الإسلام، فإن العزة كلها لله تعالى، والنصر بيده، وسينصرك عليهم، وهو سبحانه السميع لما يفترون عليك، العليم بما يضمرونه، وسيجازيهم على ذلك.
٦٦- لتعلموا - أيها الناس - أن لله - وحده - كل مَن في السماوات والأرض خلقاً وملكاً وتدبيراً، وإن الذين أشركوا بالله لا يتبعون إلا أوهاماً باطلة لا حقيقة لها، وليسوا إلا واهمين يظنون القوة فيما لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً.
٦٧- إن الذي يملك مَن في السماوات والأرض، هو الذي خلق لكم الليل لتستريحوا فيه من عناء السعي في النهار، وخلق لكم النهار مضيئاً لتسعوا فيه وتجلبوا مصالحكم. إن في خلق الليل والنهار لدلائل بينة لمن يسمعون ويتدبرون.
٦٨- وإذا كان عبدة الأوثان قد أشركوا في العبادة حجارة، ولم ينزهوا الله حق التنزيه، وقالوا : إن لله ولداً. فالله منزه عن ذلك. إنه غنى عن أن يتخذ ولداً، لأن الولد مظهر الحاجة إلى البقاء، والله باق خالد، وكل ما في السماوات وما في الأرض مخلوق ومملوك له، وليس عندكم - أيها المفترون - حُجة ولا دليل على ما زعمتم، فلا تختلقوا على الله أمراً لا أساس له من الحقيقة.
٦٩- قل لهم - أيها الرسول - : إن الذين يختلقون على الله الكذب ويزعمون أن له ولداً، لن يفلحوا أبداً.
٧٠- لهم متاع في الدنيا يغترون به، وهو قليل، طال أو قصر، بجوار ما يستقبلهم. ثم إلينا مرجعهم، فنحاسبهم ونذيقهم العذاب المؤلم بسبب كفرهم.
٧١- وإن ما ينزل بك من قومك قد نزل بمن سبقك من الأنبياء، واقرأ - أيها الرسول - على الناس، فيما ينزله عليك ربك من القرآن قصة نوح رسول الله لمَّا أحس كراهية قومه وعداءهم لرسالته، فقال لهم : يا قوم إن كان وجودي فيكم لتبليغ الرسالة قد أصبح شديداً عليكم، فإني مستمر مثابر على دعوتي متوكل على الله في أمري، فاحزموا أمركم ومعكم شركاؤكم في التدبير، ولا يكن في عدائكم لي أي خفاء، ولا تمهلوني بما تريدون لي من سوء، إن كنتم تقدرون على إيذائي، فإن ربى يرعاني.
٧٢- وإن بقيتم على الإعراض عن دعوتي، فإن ذلك لن يضيرني، لأني لم أقم بها لأتقاضاكم عليها أجراً أخشى عليه الضياع بسبب إعراضكم، إنما أطلب أجرى عليها من الله - وحده - وقد أمرني أن أكون مُسَلِّماً إليه جميع أمري.
٧٣- ومع هذا المجهود وتلك المثابرة التي بذلها من أجل هدايتهم، أصروا على أن يستمروا في تكذيبه وعدائه، فنجَّاه الله ومَن معه من المؤمنين به، الراكبين معه في الفلك، وجعلهم عُمَّاراً للأرض بعد هلاك الكافرين الذين أغرقهم الطوفان، فانظر - يا محمد - كيف لقى المستخفون بالنذر مصيرهم السيئ.
٧٤- ثم أرسلنا من بعد نوح رُسُلاً آخرين، داعين إلى التوحيد، ومبشرين ومنذرين، ومؤيدين بالمعجزات الدالة على صدقهم، فكذبت أقوامهم كما كذب قوم نوح، فما كان من شأن الجاحدين منهم أن يذعنوا، لأن التكذيب سبق التبصر والاعتبار، وبذلك طبع الله الباطل على قلوب الذين من شأنهم الاعتداء على الحقائق وعلى البينات.
٧٥- ثم أرسلنا من بعدهم موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وإلى خاصته، داعين إلى عبادة الله - وحده - ومؤيدين بالحُجج الباهرة، فاستكبر فرعون وقومه عن متابعة موسى وهارون في دعوتهما، وكانوا بهذا الرفض مرتكبين جرماً عظيماً، آثمين به.
٧٦- فلما ظهر لهم الحق من عندنا على يد موسى، قالوا في معجزة موسى وهي العصا التي انقلبت حية أمام أعينهم : إن هذا سحر مؤكد واضح.
٧٧- قال لهم موسى مستنكراً : أتصفون الحق الذي جئتكم به من عند الله بأنه سحر ؟ أتكون هذه الحقيقة التي عاينتموها سحراً ؟ ! وهأنذا أتحداكم أن تثبتوا أنها سحر، فأتوا بالساحرين ليثبتوا ما تدعون، ولن يفوز الساحرون في هذا أبداً.
٧٨- قال فرعون وقومه لموسى : إنما جئت إلينا قاصداً أن تصْرِفَنا عن دين آبائنا، وتقاليد قومنا ؛ لكي نصير لكما أتباعاً، ويكون لك ولأخيك الملك والعظمة والرياسة المسيطرة المتحكمة ؟ وإذن فلن نؤمن بكما ولا برسالتكما.
٧٩- وزعم فرعون وقومه أن موسى وأخاه ساحران لا رسولان، فأمر رجاله بأن يحضروا له من مملكته كل من له مهارة في فنون السحر.
٨٠- ولما حضر السحرة ووقفوا أمام موسى، لمنازلته بسحرهم على رؤوس الأشهاد، قال لهم موسى : هاتوا ما عندكم من فنون السحر.
٨١- فلما ألقوا حبالهم وَعصِيَّهم، قال لهم موسى : إن الذي فعلتموه هو السحر حقاً، والله سبحانه سيبطله على يدي، إن الله لا يهيئ أعمال المفسدين لأن تكون صالحة ونافعة.
٨٢- أما الحق فإن الله ناصره ومؤيده بقدرته وحكمته، مهما أظهر الكافرون من بغضهم له ومحاربتهم إياه.
٨٣- ومع ظهور الآيات الدالة على صدق الرسالة، فإن الذين آمنوا بموسى لم يكونوا إلا فئة قليلة من قوم فرعون، آمنوا على خوفٍ من فرعون ومن معه أن يردوهم عما آمنوا به، وما أعظم طغيان فرعون في أرض مصر، وإنه لمن المغالين الذين أسرفوا في استكبارهم واستعلائهم.
٨٤- أما موسى فقد قال للمؤمنين مواسياً لهم ومشجعاً : يا قوم، إن كان الإيمان قد دخل قلوبكم في إخلاص لله فلا تخشوا سواه، وأسلموا أموركم إليه. وتوكلوا عليه، وثقوا في النهاية إن كنتم ثابتين على الإسلام.
٨٥- فقال المؤمنون : على الله - وحده - توكلنا، ثم دعوا ربهم ألا يجعلهم أداة فتنة وتعذيب في يد الكافرين.
٨٦- ودعوا ربهم قائلين : نجنا بما أسبغت علينا من نعمة ورحمة، وبفيض رحمتك التي اتصفت بها، من القوم الجاحدين الظالمين.
٨٧- وأوحينا إلى موسى وأخيه هارون أن يتخذا لقومهما بيوتاً يسكنونها بأرض مصر، وأن يجعلا هذه البيوت قبلة يتجه إليها أهل الإيمان الذين يتبعون دعوة الله، وأن يؤدوا الصلاة على وجهها الكامل. والبشرى بالخير للمؤمنين.
٨٨- ولما تمادى الكفار في تعنتهم مع موسى، دعا الله عليهم، فقال : يا رب إنك أعطيت فرعون وخاصته بهجة الدنيا وزينتها من الأموال والبنين والسلطان، فكانت عاقبة هذه النعم إسرافهم في الضلال والإضلال عن سبيل الحق، اللهم اسحق أموالهم. واتركهم في ظلمة قلوبهم، فلا يوفقوا للإيمان حتى يروا رأي العين العذاب الأليم، الذي هو العاقبة التي تنتظرهم ليكونوا عبرة لغيرهم.
٨٩- قال الله تعالى : قد أجيب دعاؤكما، فاستمرا على السير في الطريق المستقيم، واتركا سبيل أولئك الذين لا يعلمون الأمور على وجهها ولا يذعنون للحق الذي وضح.
٩٠- ولما جاوزنا ببني إسرائيل البحر، تعقبهم فرعون وجنوده للاعتداء عليهم فأطبقنا عليهم البحر، فلما أدرك الغرق فرعون، قال : صدقت بالله الذي صدقت به بنو إسرائيل، وأذعنت له، وأنا من الطائعين الخاضعين.
٩١- لم يقبل الله من فرعون هذا الإيمان الذي اضطر إليه، وتلك التوبة التي كانت وقد حضره الموت، بعد أن عاش عاصياً لله مفسداً في الأرض فمات كافراً مُهاناً.
٩٢- واليوم الذي هلكت فيه نُخرج جثتك من البحر، ونبعثها لتكون عظة وعبرة لمن كانوا يعبدونك، ولا ينتظرون لك مثل هذه النهاية المؤلمة المخزية، ولكن كثيراً من الناس يغفلون عن البينات الباهرة في الكون التي تثبت قدرتنا.
٩٣- ولقد مكنا لبنى إسرائيل بعد ذلك فعاشوا في أرض طيبة، محافظين على دينهم، بعيدين عن الظلم الذي كانوا فيه، موفورة لهم الأرزاق والنعم، ولكنهم ما إن ذاقوا نعمة العزة بعد الهوان، حتى أصابهم داء الفرقة، فاختلفوا، مع أنه قد تبيَّن لهم الحق والباطل، وسيقضى الله بينهم يوم القيامة، ويجزى كلا منهم بما عمل.
٩٤- فإن ساورك أو ساور أحداً غيرك شك فيما أنزلنا إليك من وحى، فاسأل أهل الكتب السابقة المنزلة على أنبيائهم، تجد عندهم الجواب القاطع الموافق لما أنزلنا عليك، وذلك تأكيد للصدق ببيان الدليل عند احتمال أي شك، فليس هناك مجال للشك، فقد أنزلنا عليك الحق الذي لا ريب فيه، فلا تجار غيرك في الشك والتردد.
٩٥- ولا تكن - أنت ولا أحد من الذين اتبعوك - من الذين يكذِّبون بالحُجج والبينات، لئلا يحل عليك الخسران والغضب، كما هو شأن الكفار الذين لا يؤمنون، والخطاب للنبي خطاب لكل من اتبعه.
٩٦- إن الذين سبق عليهم قضاء الله بالكفر، لما عَلِمَ من عنادهم وتعصبهم، لن يؤمنوا مهما أجهدت نفسك في إقناعهم.
٩٧- ولو جئتهم بكل حُجة - مهما يكن وضوحها - فلن يقتنعوا وسيستمرون على ضلالهم إلى أن ينتهي بهم الأمر إلى العذاب الأليم.
٩٨- لو أن كل قرية من القرى تؤمن ؛ لنفعها إيمانها، لكنها لم تؤمن، فلم يكن النفع إلا لقوم يونس، فإنهم لما آمنوا وجدوا النفع لهم، فكشفنا عنهم الخزي وما يترتب عليه من آلام، وجعلناهم في متعة الدنيا الفانية حتى كان يوم القيامة.
٩٩- ولو أراد الله إيمان من في الأرض جميعاً لآمنوا، فلا تحزن على كفر المشركين، ولا إيمان مع الرغبة ؛ فلا تستطيع أن تكره الناس حتى يذعنوا للحق ويستجيبوا له، فليس لك أن تحاول إكراههم على الإيمان، ولن تستطيع ذلك مهما حاولت.
١٠٠- لا يمكن لإنسان أن يؤمن إلا إذا اتجهت نفسه إلى ذلك، وهيَّأ الله لها الأسباب والوسائل، أما من لم يتجه إلى الإيمان فهو مستحق لسخط الله وعذابه، وسنة الله أن يجعل العذاب والغضب على الذين ينصرفون عن الحُجج الواضحة ولا يتدبرونها.
١٠١- قل - يا أيها النبي - لهؤلاء المعاندين : انظروا إلى ما في السماوات والأرض من بينات ترشد إلى ألوهيته ووحدانيته، ففيها ما يقنعكم بالإيمان. ولكن الآيات على كثرتها، والنذر على قوتها، لا تغنى عن قوم جاحدين لا يتعقلون، إذا لم يؤمن هؤلاء الجاحدون فلن ينظروا.
١٠٢- فهل ينتظر أولئك الجاحدون إلا أن ينالهم من الأيام الشِّداد مثل ما أصاب الذين مضوا من قوم نوح وقوم موسى وغيرهم ؟ ! قل لهم - أيها النبي - : إذا كنتم تنتظرون غير ذلك، فانتظروا إني منتظر معكم، وستصيبكم الهزيمة القريبة والعذاب يوم القيامة.
١٠٣- ثم ننجى رسلنا والمؤمنين من ذلك العذاب، لأنه وعد بنجاتهم، ووعده حق لا يتخلف.
١٠٤- قل لهم - أيها الرسول - : إن كنتم تشكون في صحة الدين الذي بُعثت به، فاعلموا أنه مهما تشككتم فيه فلن أعبد الأصنام التي تعبدونها من دون الله، ولكنى أعبد الله الذي بيده مصيركم، وهو الذي يتوفاكم، وقد أمرني أن أكون من المؤمنين به.
١٠٥- يا أيها - النبي - قم حق القيام بالاتجاه إلى الله منصرفاً إليه، ولا تدخل في غمار الذين أشركوا بالله، فجانبهم وابتعد عنهم أنت ومن اتبعك من المؤمنين.
١٠٦- ولا تلجأ بالدعاء والعبادة إلى غير الله ما لا يجلب لك نفعاً، ولا ينزل بك ضرراً، فإنك إن فعلت ذلك كنت داخلاً في غمار المشركين الظالمين. والنهي الموجه للنبي هو موجه لأمته، وهو تأكيد للنهي، لأن النهي حيث لا يمكن وقوع المنهي عنه مبالغة في النهي.
١٠٧- وإنْ يصبك الله بضر - أيها النبي - فلن يكشفه عنك إلا هو، وإن يقدّر لك الخير فلن يمنعه عنك أحد ؛ لأنه يهب الخير من فضله لمن يشاء من عباده، وهو - سبحانه - الواسع المغفرة، العظيم الرحمة.
١٠٨- بلّغ - أيها الرسول - دعوة الله إلى الناس كافة، وقل لهم :- أيها الناس - قد أنزل الله عليكم الشريعة الحقة من عنده، فمن شاء أن يهتدي بها فليسارع، فإن فائدة هداه ستكون لنفسه، ومن أصرَّ على ضلاله، فإن ضلاله سيقع عليه - وحده - وأنا لست موكلاً بإرغامكم على الإيمان، ولا مسيطراً عليكم.
١٠٩- واثْبت - أيها الرسول - على دين الحق، واتَّبع ما أُنْزل عليك من الوحي، صابراً على ما ينالك في سبيل الدعوة من مكاره، حتى يقضى الله بينك وبينهم، بما وعدك به من نصر المؤمنين، وخذلان الكافرين، وهو خير الحاكمين.