تفسير سورة هود

القطان
تفسير سورة سورة هود من كتاب تيسير التفسير المعروف بـالقطان .
لمؤلفه إبراهيم القطان . المتوفي سنة 1404 هـ

تقدم الكلام على هذه الحروف التي افتتحت بها بعض السور، وانها تقرأ باسمائها: فيقال: «الف لام را» احكمت آياته: اتقنت فصلت: جعلت واضحة. يمتعكم متاعا حسنا: يجعل معيشتكم كلها صالحة وارضية الى اجل مسمى: الى عمر مقدر.
﴿الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ....﴾.
حروف ابتدأت بها السورة للإشارة الى ان القرآن معجِز، مع انه مكون من الحروف التي ينطقون بها، وللتنبيه الى الاصغاء عند تلاوة القرآن الكريم الى انه كتاب آياته محكمة النظم واضحة المعاني، قد فصِّلت أحكامها، وأنزلها ربّ حكيمٌ يقدر حاجة عباده، وخبير يضع الأمور في مواضعها.
﴿أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ﴾.
قل أيها النبي للناس: لا تعبدوا الا الله، انّي مرسَل من عنده لأُنذركم بعذابه إن كفرتم، وأبشّركم بثوابه ان آمنتم وأطعتم.
﴿وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى﴾.
وقلْ لهم ايضاً: ادعوا الله واسألوا هـ ان يغفر لكم ذنوبكم، ثم توبوا ليه بإخلاص، فيمتّعكم في معيشتكم متاعاً حسنا بالرِزق الطّيب والعافية والأمن الى ان ينتهي الأجل المقدر لكم في هذه الحياة.
﴿وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ﴾.
ويعطي كل صاحب عمل صالح في الدنيا أفضل اثواب واحسن الجزاء في الآخرة.
﴿وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ﴾.
وان توليتم وأعرضْتم عما دعوتكم إليه، فإن أخاف عليكم عذابَ يومٍ كبير، هو يوم القيامة، لما فيه من أهوال شديدة.
﴿إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾.
إليه تعالى رُجوعكم بعد موتكم، وحينئذ تلقَون جزاءكم بالعدْل والقسطاس، والله قادر على كل شيء.
ثنى الشيء: عطف عضه على بعض فطواه. يثنون صدروهم: عن الحق وينكسون رؤوسهم. ليستخفوا منه: ليخفوا انفسهم يستغشون ثيابهم: يتغطون بها.
بعد ان ذكر الله تعالى أنهم إن أعرضوا حلّ بهم عذابٌ كبير، بيّنه هنا في هذه الآية وصفَ حالتِهم العجيبة وكيف يتلقى فريق منهم تلك الآياتِ، عندما يتلوها عليهم النبيّ الكريم.
﴿أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ﴾.
إن هؤلاء الكافرين يطوون صورَهم ليكتُموا ما يجُول فيها.
﴿أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ﴾.
والله سبحانه وتعالى مطّلع على أحوالهم حتى في حال خَلْوَتِهم حين يتغطَّون بثيابهم، فهو يعلم سرَّهم وعلانيتَهم.
﴿إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور﴾.
وهو يعلم بأسرار الصدور وخواطر القلوب.
الدابة: كل حي يدب على الأرض، وغلبت على كل ما يركب من الخيل والبغال والحمير. المستقر: مكان الاستقرار. ومستودعها: الموضع الذي كانت فيه قبل استقرارها، كالصلب والرحم والبيضة. الى امة معدودة: الى زمن معين. حاق بهم: نزل بهم واحط بهم.
يبيّن الله في الآيات آثار قدرته، وما يتعلقّ بحياة البشر وشؤونهم المختلفة، ويعرِّفُ الخلْقَ بربهم الحقّ الذي عليهم ان يعبدوه، فهو العالِمُ المحيط علمه بكل خلْقه، وهو الرزاق الذي لا يترك أحداً من زرقه. ثم يُطلعها على آثار قدرتِه وحكمته في خلق السماوات والأرض بنظامٍ خاص في أطوا او آمادٍ مُحكّمة.
﴿وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا﴾.
لي هناك دابة تتحرك على الارض الا وقد تكّفل الله برزقها، فكل مخلوق له رزقٌ مقدَّر من الله في سُننه التي ترتَّب النِّتاجَ على الجُهد، فلا يقعدنَّ أحد عن السعي فالسّماء لا تمطر ذهباً ولا فضة. ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى﴾ [النجم: ٣٩].
﴿وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا﴾.
ان الله يعمل اين تستقرّ تلك الدابة او المخلوق واين تقم، والمكانّ الذي تودع فيه بعد موتها.
﴿كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾.
كل شيء من ذلك مسجَّلٌ عنده سبحانه في كتابٍ مبين موضِحٍ لأحوال ما فيه.
﴿وَهُوَ الذي خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ﴾.
انه هو الذي خلق السماواتِ والأرض في ستّ مراحلَ، كما تقدم في سورة الاعراف الآية ٥٤، وسورة يونس الآية ٤.
ومن قبل ذلك لم يكن الوجود اكثر من عالم الماء.
﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء﴾ يعني أن الماء كان موجوداً، خَلَقَه سبحانه وتعالى قبل ان يخلق السماوات والأرض.
أما كيف كان هذا الماء، وكيف كان عرشه عليه، فليس هناك نص على شيء من ذلك، والعقلُ وحده لا يمِلك العمل به ونترك البحث فيه.
ثم عَلل الله بما آنفاً بعض حِكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال:
﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾.
ولقد خلق هذا الكونَ ليُظهر أحوالَكم ايها الناس، بالاختبار وليُظهِر أيكم احسنُ إتقانا لما يعمله لنفسه وللناس.
﴿وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾.
لئن اخبرتَ يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سبعثُهم من قبورِهم بعد مماتِهم، سارعوا الى الرد عليك مؤكدين ان هذا الذي جئتَهم به لا حقيقةَ له، وما هو الا كالسِحر الواضح تسحَرُ به العقول. فما أعجبَ هذا القول وما أغربه!؟
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «ان هذا الا ساحر مبين».
﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ؟﴾.
ولئن أخّرنا عنهم عذابَنا الذي توعِدُهم به ايها الرسول إلى وقت محدّد لَيقولون مستهزئين: ما الذي يمنعُه عنّا الآن! شأنُهم في التكذي بالبعث، كشأنهم في مسألة العذابِ الدنيوي، يستعجِلونه ويتساءولن عن سببِ تأخيره.
﴿أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ﴾.
الا فلْيعلمْ هؤلاء القوم ان العذابَ آتٍ حتما، لا خلاصَ لهم منه، وأنه سيحيط بهم بسبب استهزائهم واستهتارهم.
أذقنا: اعطينا. نزعناها منه: اخذنا منه. يؤوس: مبالغة في اليأس. نعماء: نعمة. ضراء: مضرة.
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا.... الآية﴾.
هذه طبيعةُ الانسان العَجول القاصر، إذا أعطيناه بعضَ النِعم رحمةٍ منا كالصحَة والرِزق الواسع، ثم نزعنا تلك النعمة أسرفَ في يأسه من عودتها، وقطع الرجاءَ من رحمةِ الله. إنه يؤوس منَ الخير، كفور بالنعمة.
﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ﴾.
واذا منحنا هذا الانسانَ اليؤوسَ نعمةً أذقناه لذَّتها بعد ضرر لحِقَ به، لم يقابلْها بالشُّكر والطاعة، بل تجده يبطَر ويفخَر على الناس ويقول: ذهبَ ما كان يسؤوني.
﴿إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾.
وذلك لا ينطبق على الذين صبروا عند الشدائد، وعملوا الصالحاتِ في السّراء والضراء، فهؤلاء لهم مغفرة من الذنوب، وأجر كبير عند الله في نعيم الجنة الأبدي.
وضائق به صدرك: تحس بالغم والحزن. كنز: أصل الكنز المالُ المدفون تحت التراب، وكل مال مدخر فهو كنز افتراه: جاء به من عنده كذبا.
لا تحاول ايها النبيُّ إرضاءَ المشركين، فهم لا يؤمنون ولعلّك يا محمد تاركٌ تلاوةَ بعضِ ما يوحى اليك ما يشُقُّ سماعه على المشركين، بل قد تحسّ بالضِيق وانت تتلوا عليهم ما لايقبلون.
﴿أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ﴾.
إنهم يطلبون ان يُنزل اللهُ عليك كنزا، او يجيء مَلَك يؤيّكك في دعوتك، فلا تبالِ بعنادهم.
﴿إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ﴾.
فأنت منذِر ومحذِّر من عقبا الله لمن يخالف أمره، وقد أدّيتَ رسالتك، وليس عليك من أعمالهم شيء.
﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ﴾.
لقد تكرر هذا القول، وتكرر التحدي، فقد جاء في سور ﴿البقرة الآية: ٢٣] قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ... الآية﴾ وفي سورة [يونس الآية ٣٨] ﴿أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ... الآية﴾ أمن هنا في سورة هود فالوضع فيه تحدٍّ، لكنّه يختلف عن السورتين السابقتين، فالله تعالى يقول لهم: ﴿قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ أي فاتوا بمثله ولم كَذِباً مفترى.
والمعنى: قل لهم: إن كان هذا القرآن مما افتريتُه على الله من عندي، فإن كنتُم صادقين في دعواكم هذه، فهاتوا من عندكم عشرَ سُورٍ مثله مفتريات مكذوبات، واستعينوا في ذلك لك من تستطيعون من فصحائكم وبُلغائكم وشعرائكم وجنّكم وإنسكم.
فالقرآن الكريم معجز باسلوبه، وبما فيه من القصص الصادق، وما فيه من العلوم الكونية التي اشار اليها، ولم تكن معروفة في عصر نزوله، وفي الاحكام التي اشتمل عليها.
﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ بِعِلْمِ الله وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ﴾.
فان عجزتم وعجز من استعنتم بهم، فاعلموا ان هذا القرآن انما أنزل على محمد ﷺ بمقتضى علم الله وارادته، ولا يقدر عليه محمد ولا غيره ممن تدعون زورا انهم أعانواه. واعلموا انه لا إله الا الله، فلا يعمل علمه احد، فهل انتم بعد ان قامت عليكم الحجة داخلون في الاسلام الذي ادعوكم اليه بهذا القرآن؟ وان هذا التحدي لايزال قائما الى يوم القيامة.
نوف اليهم: نؤد الحق كاملا. لا يبخسون: لا ينقصون. وحبط ما صنعوا: بطل وفسد. بينة: برهان واضح. يتلوه: يتبعه. مرية: شك.
بعد قيام الحجّةِ على حقيقة الاسلام، والتحديث الشديد بالقرآن وعجزهم عن الإتيان بمثله - ظل المشركون يكابرون.. لأنهم كانوا يخافون على ما يتمتعون به من منافع وسلطة وشهوات، لهذا يعقّب القرآنُ على ذلك بما يناسب حالهم يصور لهم عاقبة أمرهم بقوله:
﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ﴾.
من كان يطلب الحياةَ الدنيا والتمتع بلذّاتها وزينتِها من طعامٍ وشرابٍ ومال وأولاد وغيرِ ذلك نعطِهم ثمراتِ أعمالهم لا يُنْقَص منها شيء.
﴿أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾.
هؤلاء الذين قَصَروا همَّهم على الدنيا وما فيها من لذائذ ليس لهم في الآخرة إلا عذاب النار، جزاءَ كل ما صنعوه في الدينا، لأنه لم يكن للآخرة فيه نصيب.
وبعد ان ذكَر اللهُ مآل من يعمل للدنيا وزينتِها، ولا يهتمُّ بالآخرة وأعمالِها، ذكر هنا من كان يريدُ اخرة ويعمل لها، ومعه شاهد عل صدقه وهو القرآن فقال:
﴿أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إَمَاماً وَرَحْمَةً أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾.
أفمَن كان يسير في حياته على بصرةٍ وهداية من ربّه، ومعه شاهدٌ بالصدِق من الله وهو القرآن، وشاهدٌ من قبله وهو كتابُ موسى الذي أنزله الله قدوةً ورحمة لمتّبعيه، كمن يسيرُ على ضلالٍ وكفرٍ فلا يهتمُّ الا بالدنيا وزينتها؟! كلاّ أبداً.
اولئك الأَوّلون هم الذين أنارَ الله بصائرهم، فهم يؤمنون بالنبيّ والكتابِ الذي أُنزل عليه.
﴿وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
ومن يكفر به ممن تألّبوا على الحقّ وتحزَّبوا ضده، فالنارُ موعدُه يوم القيامة.
﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ﴾.
لا تكن أيها النبيّ في شكّ من هذا القرآن. وحاشا النبيَّ ان يشكّ. واذا كان لخطاب موجَها اليه فالمقصود به كل من سمع برسالة محمد، ولا في القرآن المنزل عليه.
﴿إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ﴾.
ان هذا القرآن هو الحقُّ النازل من عند ربّك، لا يأتيه الباطل، ولكنّ اكثر الناس تُضِلُّهم شهواتهم فلا يؤمنون.
الأشهاد: جمع شاهد. الذين يصدون عن سبيل الله: الذين يصرفون الناس عن الدين. يبغونها عوجا: يريدونها ملتوية معوجة. لا جرم: حقا. واخبتوا: خشعوا واطمأنوا.
بعد ان بين الله الناس فريقان: يريد الدنيا وزينتها، وفريق مؤمن بربه وبرسالة رسوله الكريم، ذكر هنا بيان حال كُلٍّ من الفريقين وما يكون عليه في الآخرة. وهو يضرب للفريقين مثلا: الأعمى والأصم، والبصير والسميع.
لا أحد أكثرُ ظلماً لنفسه وبُعدا عن الحق من الذين يكذِبون على الله. ان افتراء الكذب في ذاته جريمةٌ نكراء وظلمٌ لمن يُفترى عليه الكذب، فكيف إذا كان هذا الافتراءُ على الله!!
﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً﴾.
لا أحد أكثرُ ظلماً لنفسه وبُعدا عن الحق من الذين يكذِبون على الله. ان افتراء الكذب في ذاته جريمةٌ نكراء وظلمٌ لمن يُفترى عليه الكذب، فكيف إذاكان هذا الافتراءُ على الله!!
﴿أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين﴾.
سَيُعْرَضُ هؤلاء المفترون يوم القيامة على ربهم ليحاسبَهم على أعمالهم السيئة، فيقول الاشهاد من الملائكة والانبياء والناس: هؤلاء هم الذين ارتكبوا جريمة الكذب على الله. بذلك يفضحونهم بهذه الشهادةِ المقرونة باللَّعنة، اي خروجِهم من رحمة الله.
وفي الصحيحَين عن عبد الله بن عمر قال: «سمعتُ رسولَ الله ﷺ يقول: إن الله يُدني المؤمنَ حتى يضعَ كنَفَه عليه ويسترَهُ من الناس، ويقرِّره بذنوبه ويقول له: اتعرف ذنْبَ كذا؟ اتعرف ذنب كذا؟ فيقول: يا ربِّ أعرف، حتى إذا قرّره بذُنوبه ورأى في نفسه انه قد هلَك قال: فإنّي سترتُها عليك في الدُّنيا وأنا أغفر لك اليوم، ثم يعطى كتاب حسناته».
﴿الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ﴾.
الذين يَصرِفون الناسَ عن سبيلِ الله، وهو دينُه القيم وصراطُه المستقيم؛ ويريدون ان تكونَ هذه السبيلُ معوجَّة لتوافقَ شهواتِهم واهواءَهم، وهو كافرون بالآخرِة والبعث والجزاء.
﴿أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب﴾.
هؤلاءِ الّذين يصُدُّون عن سبيل الله لم تكنْ لهم قوةٌ تعجِز اللهَ عن أخذِهم بالعذاب في الدنيا، ولم يكن لهم أنصارٌ يمنعون عنهم العذابَ لو شاء ان يُعَجِّلَه لهم. انهم سيلقون ضعف العذاب في الآخرة.
ثم بين علة هذه المضاعفة للعذاب بقوله:
﴿مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ﴾.
لقد أعماهم وأصمَّهم انهماكهم في الكفر والضلال حتى كرهوا ان يسمعوا القرآن أو يبصروا آيات الله في الكون.
﴿أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ﴾.
هكذا اضاع اولئك الكافرون أنفسهم، ولم يربحوا بعبادة غير الله شيئاً، وغابَ عنهم في الآخرة ما كانوا يفترونه من الكذِب على الله في دنياهم.
214
﴿لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون﴾.
حقا إنهم أشدُّ الناس خسارةً في الآخرة، وبذلك يكونون قد أضاعوا أنفسَهم في الدنيا والآخرة.
وبعد ان بين الله حال الكافرين واعمالهم ومآلهم، بين حال المؤمنين اصحاب العمل الصالح وعاقبة أمرهم فقال:
﴿إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.
ان الذين آمنوا بالله ورسُله، وعملوا الاعمالَ الصالحة، وخشعتْ قلوبُهم واطمأنّت الى ربها، سيكونون أهل الجنةِ خالدين فيها ابدا.
﴿مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع﴾.
مثل الفريقين: الكافرين والمؤمنين: الكافرين كالأعمى الذي يسير على غيرِ هدى، والأصمِ الذي لا يسمع ام يُرشده إلى النجاة؛ والمؤمنين، كالمبصِر يرى طريقَ الخير، وقويِّ السمعِ الذي يسمع كل ما ينفعه.
﴿هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾.
هل يستوي هذانِ الفريقان في الحال والمآل؟ افلا تتفكرون ايها الناس فيما بين الباطل والحق من خلاف فتعتبروا به، وتسيروا على الصراط المستقيم!
215
ورد ذِكر نوح في ثلاثة واربعين موضعا من القرآن الكريم في ثمانِ وعشرين سورة. وذُكرت قصة نوح مفصلة في القرآن الكريم في سورة الاعراف وهود وسورة المؤمنين والشعراء والقمر وسورة نوح، وهي مختلفة اللفظ حسْب ما تكون العنايةُ موجهة نحوه من البيان والمعنى:
كما أرسلناك يا محمد الى قومه لتنذِرَهم وتبشّرهم، فقابلَكَ فريقٌ بالكفر والجحود، أرسلنا من قبلُ نوحاً الى قومه فقال لَهم: إني رسولُ الله إليكم، أُنذرُتكم من عذابِ الله وأبيّن لكم طريق النجاة.
ثم فسر هذا الانذار بكلام مختصر.
﴿أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ﴾.
وإني أطلبُ منكم ان لا تعبُدوا إلا الله، ولا تشرِكوا به شيئا، لأني أخاف عليكم إن عبدتم غيره او اشركتم معه سواه أن ينالكم عذابُ يوم مؤلم.
قراءات:
قرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة: «إني لكم نذير مبين» بكسر همزة ان، والباقون بفتحها.
الملأ: كبار القوم. اراذل: جمع ارذل، وهو الخسيس الدنيء. بادى الرأي: ظاهره قبل التامل في باطنه. ارأيتم: اخبروني. عميت: خَفِيتء انلزمكموها: انكرهكم عليها. تزدري: تستهزئ.
اختار الله تعالى نوحاً من بين أولئك القوم لينذرَهم عذابَ الله، لأنهم تمادَوا في غيِّهم وضلالهم. وقد اجتمع كبراؤهم وأهلُ فيهم على تكذيبه واحتقاره هو ومن ابتعه، واستتعدوا ان يكونَ واحدٌ منهم - لا يمتاز عليهم بالغِنى والجاه- هو المختار لهدايتهم، وأَنِفوا ان يكونوا مثل الّذين اتّبعوا نوحاً من الضعفاء. وزعموا ان هؤلاء قد اتبعوه من غير رويّة ولا تكفير، «بادى الرأي» وطلبوا اليه لن يجد ناصر يدفع عنه عقاب اله اذا ما طردهم عن الهدى.
كذلك أوضح لهم ان إنما جاءهم بالهداية، وليس رجلَ مال قد مكّنه الله من خزائنه وأطلعه على غَيْبه، وقال إنه المُلك فيهم، وانما هو شخص اختاره الله تعالى لدعوتهم وتبليغهم أمره. أما اتباععه من المؤمنين الذين تزدريهم أعين الكبراء فإن أمْرَهم الى الله، وهو أعلمُ بسرائرهم، لان ادراك الهداية الى الحقّ لا يكون بالمظهر الفاخر بل باطمئنان النفس وركونها الى الهدى مع اليقين التام والرضى به، ثم إنه لا يطلبُ منهم أجرا على دعوته، فأجرُه على الله وحده.
قراءات:
قرأ ابو عمرو: «بادئ الرأي» بالهمزة والباقون بدون همزة. وقرأ حمزة والكسائي وحفص: «فعيت» بضم العين وتشديد الميم. «فعميت» بفتح العين وكسر الميم بدون تشديد.
جادلتنا: نافشتنا وخاصمتنا. يغويكم يضلكم.
قالوا: يا نوحُ، قد ناقشتَنا بجِدالك فأطلتَ حتى مَلِلْنا. ان كنت صادقاً فيما تدعيه، فعجِّلْ وهاتِ ما توعدنا به من العذاب.
﴿قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾.
عند ذالك قال نوح: هذا أمرٌ بيدِ الله وحدَه، فهو الذي يأتيكم بما تَشاء حكمتُه، ولن تعجزوه ابداً، لأنه لايعجِزه شيءٌ في الارض ولا في السماء.
﴿وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
إنه لن ينفعكم نصيحي لمجردٍ إرادتي الخيرَ لكم، إذا كان الله قد شاء ان يضلَّكم... انه ربُّكم وخالقكم لا أنا، واليه ترجعون يوم القيامة، ويجازيكم على اعمالكم.
ونرى من هذا الحوار الذي دار بين نوح والملأ من قومه أنهم عجَزوا عن الجدال فطلبوا ان يأتيَهم بالعذاب تشكيكاً فيه، وهذا دَيْدَنُ الأمم في عدم الخضوع لحكم العقل إذا خالف الأمرُ ما ألِفُوه وورثوه عن آبائهم.
في هذه الآية الكريمة دَفْعُ شبهةٍ من شُبَهِ المشركين من قريشِ الّذين ادَّعوا أن محمَّداً يفتري هذا القَصص، فيردُّ الله عليهم بأن هذا القَصص صادقٌ، وقل لهم أيها الرسول: إن كنت افتريتُه على الله كما تزعمون، فهو جُرمٌ عظيمٌ عليَّ وحدي إثمهُ، وإذا كنت صادقاً، فانتم المجرمون، وانا بريء من جرمكم هذا.
فلا تبئس: فلا تحزن الفلك: السفينة. مفرد وجمع. بأعيننا: تحت رعايتنا. وحينا: بارشاد وحينا.
في تلك الحال أوحى الله الى نوح أنه لم يؤمن من قومك غير الذين سبق وآمنوا، فلا تحزَنْ على ما كانوا يعملون... ابنِ السفينةَ تحت رعايتنا وبإرشادش وحْينا، ولا تشفعْ في الّذين ظلموا... فهم محكومٌ عليهم بالغرق. وشرع نوح في صنع الفُلك، فكان كلّما مر عليه نفر من قادة الكفر من قومه استهزأوا به، لجَهْلِهم الغرضَ من بناء السفينة، فيقول لهمك ان تهزأوا منا فنحن ايضاً نهزأ منكم، لكنكم سوف تعلمون من منا الّذي سيأتيه عذابٌ يذلّه في الدنيا، ثم يحلّ عليه في الآخرة عذاب دائم.
فار التنور: نبع منه الماء بقوة. التنور: فرن له شكل خاص للخبر. مجراها ومرساها: اجراؤها وارساؤها. ومجراها بفتح الميم ومرساها بضم الميم. معزل: مكان بعيد عن ابيه. سآوي الى جبل: سألتجئ الى جل يعصمني: يحميني. اقلعي: أمسِكي. وغيض الماء: نضب الجوديّ: اسم جبل يقال انه في الموصل.
حتى اذا جاء وقتُ أمرِنا بإهلاكهم نبع الماء بشدة من التنُّور. وحينئذ قلنا لنوح: إحملْ معكم في السفينة من كل نوعٍ زوجَين ذكراً وأنثى، واحمِل اهلَكَ جيمعاً الا من سبق عليه حُكْمنا بإهلاكه. كذلك واحمِل معك من آمن بك من قومك، وهم نفر قليل.
وقال نوح: اركبوا في السفينة باسم الله جريانُها ورسوُّها، ان ربّي لواسع المغفرة لعباده. وركبوا في السفنية وهم يذكُرون الله، وجرتْ بهم في أمواجٍ هائجة عالية كالجبال، ثم ان نوحاً دعتْه الشفقة على انبه الذي تخلّف ولم يرافق أباه. فناداه قائلاً: تعال اركب معنا يا بنّي، ولا تكن من الجاحدين. فكان جواب ذلك الوالد العاصي: يا أبتِ، سألجأ الى جبلٍ يحمين من طغيان الماء. فقال نوح: لا شيء يعصِم أحداً من عذاب الله في هذا اليوم العصيب، الا من رحمة الله. ثم إن الموج حال بينهما وغاب الولد في اللجة وكان من الهالكين.
ثم ذكر الله ما حدثَ بعد هلاكهم، فأُمرت الأرضُ أن تبتلغَ ماءضها، والسماءُ أن تكفَّ عن المطر. وغاضَ الماء، وانتهى حكمُ الله بالإهلاك، ورست السفينةُ عند الجبل المسمَّى بالجُودِيّ عند المَوْصِل بالعراق. «وقيِلَ بُعداً للقومِ الظالمين».
قراءات:
قرأ حفص: «من كل زوجين اثنين» بتنوين كل والزوج يطلق على الواحد وعلى الاثنين. والباقون: «من كلّ زوجين اثنين» وقرأ حمزة والكسائي: «مجراها» بفتح الميم والباقون بضم الميم.
﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين﴾.
وبعد ان هدأت العاصفة، وسَكَن الهَول، ثارت الشفقةُ في قلب نوحٍ على ابنه، فنادى ربَّه ضارعاً مشفقا: يا ربّ، إن ابني منّي وهو من أهلي، وقد وعدتَ أن تنجّي أهْلي، ووعدْك هو الحقّ، وأنت أعدلُ الحاكمين.
﴿قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين﴾.
قال الله تعالى: يا نوح، إن ابنك هذا ليسَ من أهلِك، بكفْره قد انقطعت الصِلةُ بينك وبينه، فهو عملٌ غير صالح. واحذر ان تطلبَ ما ليس لك به علم، فأنا أرشِدك الى الحقّ لكيلا تكونَ من الجاهلين الّذين تُنسِيهم الشفقةُ الحقائقَ الثابتة.
قراءات:
قرأ الكسائي ويعقوب: «انه عَملَ غيرَ صالح» والباقون «عملٌ غيرُ صالحٍ» وقرأ ابن كثير: «لا تسألن» بتشديد النون وفتحها. وقرأ نافع وابن عامر: فلا تسألَنِيّ.
﴿قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وترحمني أَكُن مِّنَ الخاسرين﴾.
قال نوح: يا ربّ، إني ألجأ إليك فلا أسألُك بعدَ هذا ما لاعِلمَ لي بحقيقته، وإن لم تنفضَّلْ عليَّ بمغفرتِك، وترحمني أكْنْ في عِداد الخاسرين.
وفي هذه الآية دليل على ان الله تعالى يجازي الناس في الدنيا والآخرة بإيمانهم وأعمالهم، نلا بأنسابهم. انه لا يحابي أحدا لأجل الآباء والاجداد ولو كانوا من الأنبياء.
وكان رسول الله ﷺ يقول: «يا قاطمة بنت محمد، واللهِ لا أُغني عنك من الله شيئا». فأساس الدين عندنا انه لا علاقة للصلاح بالوارثة والأنساب. وانما بالايمان والعمل الصالح.
﴿قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
قال تعالى: يا نوح، انزِل من السّفينة بسلامٍ منا، وأمْنٍ وبركاتٍ عليك.
ويسأل أناس كثيرون: هل كان الطوفان عاماً في الأرض جميعا، ام حدث في المنطقة التي كان يسكنها نوح وقومه، وأين كانت هذه الأرض؟
لم يرد نص صريح بذلك، وقد ودت رواياتٌ واسرائيليات كثيرة واخبرا غير مقطوع بصحتها، ولذلك نضرب عنها صفحا.
ثم ذكر الله تعالى لنبيّه الكريم أن هذا قصصٌ من عالَم الغيب لا يعرفه هو ولا قومه من قبل، قال:
﴿تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ﴾.
ان هذه القصة عن نوح وقومه من أخبارِ الغيب التي لا يَعلمها الا الله، ما كنتَ تعلمُها يا محمد ولا قومُك من قبل هذا. فاصبِر على إيذاء قومك كما صَبَرَ الأنبياءُ قبلك، فان عاقبة الفوز للّذين يتّقون اللهَ بالإيمان والعمل الصالح.
فطرني: خلقني. مدرارا: كثيرا.
جاء ذكر عاد قومي النبي هود سبع مرات بدون ذكره هو صراحة، وذلك سورة المؤمنون، وفصلت، والاحقاف، والذارايات، والقمر، والحاقة، والفجر.
والقارئ لقصة هود مع قومه يراه إنسانا وقوراً رزيناً يزنُ الكلامَ قبل إلقائه، ويتجلى الإخلاص وحُسن النية على قسمات وجهه. فهو لا يقابل الشرَّ بمثله، بل لا يفارقه اللّينُ مع قومه أبداً، ويتلطف معهم بذكِر نعم الله عليهم ويرغَّبهم في الايمان، ويذكّرهم بما أنعمَ اللهُ عليهم به من اموال وبنين وجنات وعيون، وأنه زادَهم في الخلْق بَسْطَةً، وجعلهم خلفاء الأرض من بد قوم نوح، فإذا آمنوا حازوا رضي الله، فيرسل السماءَ عليهم مِدراراً لسقي زروعهم وإبناتِ الكلأ لماشيتهم، كما يزيدُهم عزّاً على عزّهم، وكان في كل محاوراته معهم واسعَ الصدر، مثالَ الحكمة والرزانة والأَناة.
وقد ذكرت قصة هود في سورة الاعراف بأُسلوب ونَظْمٍ يخالف ما هنا، وفي كل من الموضعَين من العظمة والعبرة ما ليس في الآخرة.
﴿وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ﴾.
وأرسلْنا الى قوم عادٍ أخاهم في النسَب والوطَن هودا، فقال لهم: يا قوم، اعبُدوا الله وحده، ليس هناك إلهٌ غيره، أما عبادتكم للأصنام والأوثان فهي محض افتراءٍ منكم على الله.
كانت مساكنُ عادٍ في أرض الأحقاف، في شمال حَضْرَمَوْت، وفي شمالها يوجد الرَّبْع الخالي، وفي شرِقها عُمان. وموضع بلادهم اليومَ رمالٌ خالية ليس بها أنيس. ولم يردْ ذِكرٌ لقوم عاد في الكتب القديمة سوى القرآن الكريم.
﴿ياقوم لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾.
يا قوم إنني لا أطلبُ منكم أجراً على تبيلغ رسالة ربي إليكم، فأَجري على من خلقني وبعني اليكم. أفلا تعقِلون ما ينفعُكم وما يضركم؟.
﴿وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ﴾.
يا قومُ اطلبوا المفغرةَ من ربِّكم على سلَفَ من ذنوبكم، ثم توبوا إليه توبةً صادقة، فإنه يَغِيثُكم بالمطر الغزير المتتابع، ويزيدُكم قوةً الى قوتكم التي تغترّون بها، ولا تُعرِضوا عما أدعوكم اليه، وأنتم مصرّون على إجرامكم وآثامكم.
الناصية: شعر مقدم الرأس، ومقدم الرأس.
﴿قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ﴾.
قالوا: يا هود ما جئتَنا بحُجّةٍ واضحةٍ تؤيّد دعواك في أنك مرسَل من عندِ الله، ولن تركَ عبادةَ آلهتِنا قولك.
﴿إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ﴾.
وبالَغوا في الردّ وقالوا: ما نقول فيك الا أن بعضَ آلهتنا قد أصابك بمسٍّ من جُنونٍ. فقال: مصرَّا على ايمانه متحدّيا: إني أُشهِد الله، وأشهِدكم على قولي إن أبرأ الى اللهِ مما تُشركون به. واتحدّى أن دبِّرا كلَّ حيلةٍ لإهلاكي إذا استطعتم.
﴿إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾.
حتى اذا عجَزتم جيمعا، ولم يبقَ شُبهةٌ في أن آلهتكم لا تضرّ ولا تنفع، أجبتُكم أَني توكَلْ على الله واعتمدتُ عليه. هو ربّي وربكم. وليس في ها الكون من دابّةٍ الا هو مالكُ أمرِها يصرّفها كما يريد، فلا يُعجِزه حِفظُها من أذاكم. وهو عادل تجري كل أفعاله على طريق الحق والعدل، ولا يضيع عنده مظلوم.
﴿فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَّآ أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ﴾.
فان تُعرِضوا عن دعوتي لم يضرَّني إعراضُكم أبداً... لقد أبلغْتُكن رسالةَ ربي اليكم، وقد يُهلككمُ اللهُ ويستخلفُ قوماً غيركم في دياركم وأموالكم. وكذلك لا تضرون الله بإعراضكم عن الايمان، وهو رقيب على كل شيء من أعمالكم.
﴿وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ﴾.
ولما نزلَ عذابُنا نجَّينا هودا والذين آمنوا معه من العذاب الشديد الذي نزل بقومه ثم ذلك سبب ما نزل بهم من البلاء فقال:
﴿وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ﴾.
وتلك قبيلة عادٍ. لقد أنزلنا لهم نقمتنا لأنهم أنكروا الحججَ الواضحة، وعصَوا رسُل الله جميعا بعصيانهم رسولَهم، وطاعتِهم لأمر كل طاغية من رؤسائهم وكبرائهم.
﴿وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة﴾.
ولقد لحقتْ بهم اللعنةُ في هذه الدنيا، وسوف تلحقهم يوم القيامة.
ثم اكد الله كفرهم بشهادته عليهم فقال:
﴿ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ﴾.
فلْيعلم كلُّ الناس ان عاداً جحدوا خالقِهم عليهم ولم يشكروها بالإيمان، فبُعداً لهم. وهذا دعاء عليهم بالطرد عن رحمة الله.
أنشأكم من الارض: اوجدكم منها. استعمركم فيها. جعلكم تعمرونها. مرجوا: نرجوا منك الخير. مريب: موجب للتهمة والشك. تخسير: خسران.
صالح هو الرسول الثاني من العرب، ورد ذِكره في القرآن تسع مرات، في سورة الأعراف ثلاث مرات، وفي سورة هود اربع مرات، وفي كل من الشعراء والنمل مرة واحدة. وجاء ذِكر ثمودَ في سورة الحِجْر، وفُصّلت، والذاريات، والنجم، والقمر، والحاقة، والشمس.
كانت مساكن ثمود بالحِجْر التي تُعرف اليوم بمدائن صالح، في شمال الحجاز، وآثارُها باقية الى اليوم، وكانوا وثنيين يعبُدون الاصنام.
﴿وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض واستعمركم فِيهَا فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ﴾.
وأرسلْنا إلى قوم ثمود رسولَهم صالحاً، فقال لهم: يا قومي، اعبدوا لله وحدَه، لي لكم آله غيره يستحق العبادة. لقد خلقَكُم من الأرض، ومكّنكم من عِمارتها، واستثمارها خَيراتِها، فاستغفِروه من ذنوبكم، ثم ارِجعوا إليه بالتوبة الصادقة، فهو قريبُ الرحمة مجيبٌ لمن دعاه.
﴿قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ﴾.
قالوا: يا صالح، لقد كنّا نرجو الخير فيك قبل هذه الدعوة، كنا نرى فيك حكمةً وأصالة رأي، فما بالك الآن؟ أتنهانا عن عبادة ما كان يعبُد آباؤنا؟ نحن في شكّ من دعوتك هذه الى عبادة الله وحده، شكٍ يجعلُنا نرتابُ فيك وفيما تقول.
﴿قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ﴾.
قال صالح: أخبرني ان كنتُ على بَصيرةٍ من ربي، واعطني رحمةً منه لي ولكن، وهي النبوة والرسالة، ماذا اصنع؟ وكيف أخالف أمره وأعصيه؟ ومن يُعينني إن عصيتُه؟، إنكم لن تزيدوني غيرَ الضياعِ والوقوع في الخسران.
الآية: المعجزة. ذروها: اتركوها فعقروها: قطعوا قوائهما ثم بعد ذلك ينحرونها. في داركم: في بلدكم. الصيحة: صوت الصاعقة. جاثمين: ساقطين على وجوههم. كأن لم يغنوا فيها: كأنهم لم يقيموا في تلك الديار.
يا قوم، هذه ناقةُ الله معجزةً لكم تشهدُ على صدقي، فاتركوها تأكل في الأرض ولا تَمَسُّوها بأذى فينزلَ بكم عذابٌ قريب. فعقروها... فقال لهم صالح: استمتعوا بحياتكم في بلدِكم ثلاثة ايام، ثم بعدَ ذلك يأتيكم عذابُ الله. هذا وعد من الله الذي لايًخلف وعده.
فلما نزل العذاب نجّى الله صالحا والذين آمنوا معه من الهلاك ومن فضيحة ذلك اليوم على السوء والله هو القوي العزيز.
واخذت الصَّيحةُ ثمود، فاصبحوا في ديارِهم هامدين ساقطين على وجوههم. يؤمئذٍ انتهى أمرُهم وباتت ديارُهم خاليةً مهجورة كأنهم لم يسكنوها. لقد كفر قوم ثمود بآيات ربهم، فبُعداً لهم. وهكذا كانت الخاتمة، تجيل الذنب وإتباعهم اللعنة، وهلاكهم الى الأبد.
قراءات:
قرأ نافع: «ومِن خزي يومَئذ» بفتح ميم يومَئذٍ. وقرأ الباقون بكسرها. وقرأ الكسائي «لثمودٍ» بكسر الدال وتنوينها. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم ويعقوب: «الا ان ثمودَ» بفتح الدال بدون تنوين. والباقون: «ثمودا» بالتنوين.
فما لبث: أسرع. حنيذ: مشوي بالحجارة المحاماة. نكرة: أنكره، ضد عرفه. واوجس منهم خِيفة: احس بالخوف. يا ويلتا: يا عجبا. البعل: الزوج.
جاء ذِكر إبارهيم عليه السلام في خمس وعشرين سورة سيأتي بعض التفصيلات عنها في سورة ابراهيم.
﴿وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ﴾.
ولقد أرسلنا الملائكة إلى ابراهيم تبشِّره بأن الله سيرزُقُه غلاماً من زوجته سارة. وكان له اسماعيل من هاجر. فقالوا يحيُّونه: سلاماً، فقال: سلام، وأسرع فهيَّأ لهم طعاماً لذيذاً، عِجلاَ مشوياً، وكان كريماً يحب الضيوف.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي: «قال سلم» بكسر السين وسكون اللام.
﴿فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ﴾.
استغرب ابراهيم حال ضيوفه حين رأى أيديَهم لا تمتد الى الطعام، وأَدرك أنهم ليسوا من البشرَ، وأَضمر ذلك في نفسِه وخافَ أن يكون مَجيئهم لأمرٍ خطيرٍ لا يعلمه. فالذّي لا يأكل الطعام من الضيوف يكون امره مريباً، ويُشعر بأنه ينوي خيانةً او غدراً حسب تقاليد العرب.
وعند ذلك شفوا له عن حقيقتِهم، قالوا: لا تخفْ، لقد أُرسِلْنا إلى قومِ لوطٍ لإهلاكهم. وكانت ديارهم قريبةً من ديار ابراهيم.
﴿وامرأته قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ﴾.
وكانت امرأةُ إبراهيم سارة واقفةً تسمع ما يقال، فضحكتْ سروراً بالأمنِ من الخوف، فبشَّرها الملائكة بأن الله سيرزقها ولداً اسمُه اسحاق، ومن بعدِه سيولد لإسحاقَ يعقوب.
قراءات:
قرأ ابن عامر وحمزة حفص «ويعقوب» بنصب الباء، والباقون «ويعقوب» بالرفع.
﴿قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ﴾.
قالت سارة متعجبة: كيف ألد وأَنا كبيرة في السن عجوز، وهذا زوجي كما تَرَونه شيخاً كبيراً لا يولَد لمثله! إن بشارتكم هذه شيء عجيب مخالف لما هو معروف.
﴿قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ﴾.
قال الملائكة: لا ينبغي لك ان تعجبي من قُدرة الله وأمرهِ. انه لا يعجِزه شيء.
لتكنْ هذه معجزةً من معجزاته الخارقة للعادات، وهي رحمةٌ منه لكم واحدى نعمه الكثيرة عليكم يا أهلَ بيتِ النبوّة. وهل جلَّ ثناؤه مستحقّ لجيمع المحامد، حقيق بالخير والاحسان.
الروع: الخوف. حليم: يصبر على من آذاه وجهل عليه ويعامله بلطف. اواه: كثير التأوه والتضرع الى الله. منيب: يرجع الى الله في كل امر.
وكان ابراهيم عليه السلام رجلاً رقيق القلب، فلما عَلِمَ أن قومَ لوطٍ هالكون، كما أعلمه الملائكة- أخذتْه الشفقةُ عليم، فجعلَ يجادل ويسأل الرحمة بهم، رجاء ان ينظُر الله اليهم نظر رحمة.
قال تعالى:
﴿فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَآءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ﴾.
حين اطمأن ابراهيم الى ان ضيوفه ملائكة من رسُل الله، وذهب عنه الخوف، وسكن قلبه ببُشرى الولد التي حمولها اليه، أخذ يجادل الملائكة في خلاك قوم لوط. وكان لوط هذا ابن أخ ابراهيم، وقد آمن بعمه كما قال تعالى: ﴿فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي﴾ [العنكبوت: ٢٦].
﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾.
لقد جادل ابراهيم الملائكة في عذاب قوم لوط لأنه كان يعمل ان لوطاً من الصدِّيقين، ولان ابرايهم نفسهَ كان حليماً لا يعْجَل بالانتقام من المسيء، بل هو كثير التأوُّه والتضرُّع الى ربه، ويرجع في كل اموره الى الله.
﴿ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ﴾.
وجاءه الرد بقوله الملائكة: دعْ هذا الجدل لمصلحة قوم لوط والتماس الرحمة لهم يا إبراهيم، فقد صدر أمرُ ربك بهلاكهم، فالعذاب آتيهم لا يُرَدّ، بعد أن حقَّت عليهم الكلمةُ بالهلاك.
سيء بهم: ساءه مجيئهم. وضاق بهم ذعا: تحير ولم يطق هذه المصيبة. الذرع: منتهى الطاقة، يقال: ضاق الامر ذرعا: اذا صعب عليه احتالُه عصيب: شديد يُهرَعون اليه: يسرعون. لا تخزوني: لا تخجلوني. رشيد: عاقل الى ركن شديد: الى من ينصرني من اصحاب النفوذ.
﴿وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سياء بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ﴾.
كان لوط ابنَ أخِ ابراهيم. آمن بنبوّة عمّه وتَبعه في رحلاته. فكان معه بِمِصْرَ وأغدق عليه ملكُ مصرَ كما اغدق على ابراهيم. فكثُر ملاه ومواشيه. ثم إنه افترقَ عن ابارهيم لأن المكانَ الذيسكنه عمّه لمي عد يتسع لمواشيهما، ونزل سدوم في جنوب فلسطين، وهو المكان الذي فيه البحر الميت الآن.
وقد ذكر لوط في القرآن الكريم سبعا وعشرين مرة في اربع عشرة سورة هي: الانعام، الاعراف، هود الحجر، الانبياء، الحج، الشعراء، النمل، العنكبوت، الصافات، ص، ق، القمر، التحريم.
وكان أهلُ سَدوم، قوم لوط، ذوري أخلاق دنيئة لا يتسحون من منكر، ولا يتعفّفون عن معصية، بل يأتونها علناً على رؤوس الاشهاد، كما قال تعالى: ﴿وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر﴾ [العنكبوت: ٢٩].
وقد ذكرت قصة لوط بتمامها في عدة سُوَر، وخلاصتها ان قوم لوطٍ كانوا من الشرّ بمكان... كانوا يقطعون الطريقَ على السابلة، قد ذهب الحياء من وجوههم فلا يستقبحون قبيحا، ولا يَرْغَبون في حَسَن. وكانوا قد ابتدعوا من المنكَرات مالم يسبقهم اليه أحَد، ومن ذلك أنهم يأون الذكورَ من دون النساء، ويرون في ذلك سوءا. وقد وعظَهم لوط ونصحهم ونهاهم وخوَّفهم بأسَ الله فلم يأبهوا له ولم يرتدعوا. فلما ألحّ عليهم بالعِظات والإنذار هدّدوه: تراةً بالرجم، وتارةً بالإخراج، لأنه غريب، الى أن جاءَ الملائكةُ الذين مرّ ذِكرهم. وقد جاءوا الى لوط بهيئةِ غِلمان مُرْدٍ حسان الوجوه، فلّما جاءوا على هذه الهيئة تألَم واستاء، واحسّ بضعف عن احتمال ضيافتهم وحمايتهم من فساد قومه، وقال: هذا يومٌ شديد، شرُّه عظيم.
﴿وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات﴾.
ولما علم قومُ لوط جاءوا مسرعين اليه، وكانوا معتادين على ارتكاب الفواحش والفُسوق وعملِ السيئات.
﴿قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ﴾.
وحاول لوط ردَّهم فقال: يا قوم، هؤلاء بناتي، تزوجوا بهن، ذلك أظهرُ لكم من ارتكاب الفواحش مع الذكور... اخشوا الله واحذَروا عقابه، وتفضحوني بالاعتداء على ضيوفي، الي فيكم رجلٌ عاقل سديدُ الرأي يردّكم عن الغيّ والضلال!!
﴿قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ﴾.
فأجابه قومُه بقولهم: أنت تعلم أ، الا نريد النساء كما تعلمُ ما هي رغبتُنا.
230
وأَجمَعُوا أمرَهم على فعلِ ما يريدون من العمل الخبيث.
عند ذلك تحيرّ لوط، وأَحسّ بضعفه، وهو غريبٌ بينهم، لا عشيرةَ له تحميه، فقال بحزن:
﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ﴾.
آه لو كان لي قوة تدفعكم عن بيتي هذا، او ركن شديد أعتمدُ عليه في حماية ضيوفي، ومنعكم من ارتكاب السيئات.
وفي صحيح البخاري ان رسول الله ﷺ كان وهو يقرأ هذه الآيات يقول: «يغفرُ الله للوط، أنه كان لَيأوي إلى ركن شديد».
فلما ضاق الأمر واستحكمت حلقاته، وبلغ الكرب اشده، كشف الرسل عن حقيقة أمرم وأَنهم ملائكة فقالوا:
قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ...}.
231
فأسر بأهلك: فسِرْ بأهلك في الليل، السرى والاسراء: السير ليلاً. بقطع من الليل: بجزء منه. من سجيل: من طين متحجر. منضود: متتابع منتظم. مسومة: لها علامة خاصة.
فما اشتدالأمرُ على لوط، وضاقت عليه الأرض بما رحُبَت، قالت الملائكة، وقد ظهرت على حقيقتها: لا تخف يا لوط، نحن رسُل ربك، ولسنا بشرأً كما بدا لك. ان قومك لن يؤذوك. سنمنعهم من ذلك. ولن يصلوا اليك بشر او ضر، أَسر بأهلك ليلاً، واخرج بهم من هذه القرية، ولا يلتفت أحدٌ منكم خلفه لكيلا يرى هولَ العذاب فيُصابَ بشرٍ منه، الا امرأتك التي لم تؤمن فإنها من الهالكين مع قومها، ان موعد هلاكهم الصبح، وهو موعدٌ قريب.
فلما جاء وقت لاعذاب قلَبْنا ديارهم، بهم، وجعلنا عاليَها سافلَها، وأَمطرنا عليهم حجارةً من طينٍ متحجّر، عليها علامة من عند ربك.
﴿وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ﴾.
ليس العذاب الذي حل بقوم لوط وديارهم بعيا عنكم أيها المشركون من أهل مكة.
قراءات:
قرأ بان كثير ونافع: فاسر بهمزة الوصل، والباقون: «فأسر» من الإسراء. وقرأ ابن كثير وابو عمرو: «الا امراتُك» بالرفع، والباقون: «الا امرأَتك» بالنصب.
الا بتخسوا الناس اشياءهم: لا تنقصوهم من حقوقهم. ولا تعثَوا في الارض مفسدين: لا تبالغوا في الافساد. بقية الله: ما ابقاه الله لكم من الربح الحلال.
تقدم ذكر قصة شُعيب في سورة الاعراف، وقد ذُكر شعيب في القرآن عشر مرات في سورة الاعراف وسورة هود، وفي سورة الشعراء وسورة العنكبوت. وفي كل موضع من العظمات والأحكام ما لي في الأخرى.
وأرض قومه فهي مَدْين في شمال الحجاز لا تزال معروفة الا الآن، ويسمي المفسِّرون شُعيباً خطيب الانبياء لحسن مراجعته قومَه وبراعته في الحوار واقامة الحجة عليهم. ويقول الشيخ عبد الوهاب النجّار في كتابه «قصص الأنبياء» صفحة ١٤٩:
«أما شُعيب فقد كان زمنه قبل زمن موسى، فان الله تعالى لما ذكر نوحاً ثم هوداً ثم صالحاً ثم لوطاً ثم شعيباً قال:» ثم بعثنا من بعدِهم موسى بأياتنا الى فرعون وملأه «سورة الاعراف، ومثل ذلك في سورة يونس وهود والحج والعنكبوت...».
ولقد أرسلْنا الى قومِ مدين أخاهم في النسَب شعينا، قال لهم: يا قوم اعبُدوا الله وحده، ليس لكم إله يستحق العبادة غيره، ولا تنقُصوا المكيالَ والميزان حين تبيعون. إن اراكم أهل ثروة واسعةٍ في الرزق تُغنيكم عن الدناءة في بخس حقوق الناس وأَكل اموالهم بالباطل، وأخاف ان يحلّ عذابُ يومٍ يحيط بكم لا تستطيعون تفلتوا من اهواله اذا لم تشكروا الله وتطيعوا امره؟
﴿وياقوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط﴾.
أتمُّرهما بالعدْل دون زيادة ولا نقصان.
﴿وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ﴾.
بسرقة أموالهم بالباطل.
﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ﴾.
ولا تفسدوا في الارض بقطع الطريق، وتهديد الأمن، وتعطيل مصالح الناس.
﴿بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ﴾.
ان ما يبقى لكم من المال الحلال الذي تفضّل اللهُ به عليكم خيرٌ لكم من المال الذي تجمعونه من الحرام، ان كنتم تؤمنون بالله حقّ الإيمان ولست استطيع أن أكون عليكم رقيبا أحصي أعمالكم واحاسبكم عليها.
بينة: حجة واضحة، ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه: ولا أريد ان أفعل ما انهكم عنه. واليه أنيب: الى الله ارجع. ولا يجرمنكم شقاقي: لا يحملنكم الخلاف بيني وبينكم على العناد.
بعد ان بين الله تعالى أمرَ شعيب لقومه بعباده الله وحده وعدم النقص في الكيْل والميزان- ذكر هنا ردَّهم عليه، ثم أعدا النُّصح لهم بأنه لا يريد لهم الا الإصلاح، فقالوا متهكّمين به:
أصلاتُك يا شعيب تأمُرك ان نتركَ ما كان يعبد آباؤنا؟ ون لا نتصرّف في أموالنا كما نشاء؟ افأنت الحليمُ الرشيدُ كما هو معروف بيننا؟.
فأجاب شعيب:
يا قوم، أرأيتم ان كنتُ على حجةٍ واضحة من ربي (وهي النبوة) ورزقَني منه رزقاً حسنا... هل يصحُّ لي مع هذه النعم الجزيلة ان كتَم ما أمرين بتبليغه لكم؟ إنني لن آتي ما أنهاكم عنه لأستبدَّ به دونكم، وانما اريد الإصلاح قدر طاقتي، وما توفيقي لإصابة الحق والصواب في كل ما آتي الا بهداية الله تعالى، عليه توكلت في أداء ما كلّفني من تبليغكم، وإليه أرجع في كل ما أهمَّني.
ويا قوم، لا يحملنَّكُم الخلافُ بيني وبينكم على العناد والإصرار على الكفر. عندئذ يصيبكم ما أصاب قومَ نوح من الغرق، او قوم هودٍ من الريح، او قوم صالح من الرَّجْفة. ان ديار قوم لوط قريبة منكم، فاتبروا بما أصابهم.
﴿واستغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ﴾.
واطلبوا من اللهِ ان يغفرَ لكم ذنوبكم، ثم ارجِعوا إله نادمين، فهو يرحم من اسغفر واعتذر، ويتودد الى عباده بالإنعام عليهم، والنصح لهم.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «اصلاتك» بالافراد، والباقون: «اصلواتك» بالجمع.
ما نفقه: ما نفهم. لولا رهطك: ولولا جماعتك. لرجمناك: لرميناك بالحجارة. واتخذتموه وراءكم ظهريا: وراء ظهرهم نسيا منسيا. اعملوا على مكانتكم: ما يمكنكم، اقصى استطاعتكم. ارتقبوا: انتظروا الصحية: صيحة العذاب. جاثمين: باركين على ركبهم مكيبن على وجوههم. كأن لم يغنوا: كأنهم م يقيموا في ديارهم ولم يسكنوها. بُعداً لمدين هلاكا لهم.
قالوا: يا شعيب، نحن لا نفهم كثيراً مما تقول، وأنت بيننا ضعيف في مكانتك، ولولا ان عشيرتك عزيزةٌ علينا لقتلناك رَجماً بالحِجارة، وما انت علينا بعزيز حتى نجلّك ونحترمك.
قال شعيب: يا قوم أعشيرتي أعزُّ عليكم من الله ارسلني اليكم! لقد جعلتم أوامره منبوذةً وراء ظهوركم.. ان ربي محيط بكل ما تعملون.
يا قوم، اعملوا ضدي كل ما تستطيعون، أما انا فسأظل أعمل على الثبات والدعوة الى الله. وسوف تعلمون من منّا الذي يأتيه عذاب يفضحُه ومن هو كاذب انتضِروا وأنا معكم من المنتتظِرين.
ويحن جاء عذابُنا نجَّينا شعيباً ومن آمنَ معه، واخذت الظالمين من اهل مدين الصيحةُ المهلكة، فأصبحوا في ديارشهم باركين مكبيّبين على وجوههم.
وانتهى أمرُهم وزالت آثارهم وصارت ديارهم باركين مكبين على وجوههم.
وانتهى أمرُهم وزالت آثارهم وصارت ديارهم خاوية كأنْ لم يقيموا فيها. الهلاكُ لمدين، وبعداً لهم من رحمة الهل كما بعدت ثمود من قبلهم.
الآيات التسع المعدودة في سورة الإسراء، والمفصلة في سورة الاعراف وغيرها. سلطان مبين: الحجة الواضحة والدليل الظاهر. الملأ: اشراف القوم وزعماؤهم: بلوغ الماء، والمورد: الماء. وهنا استعمل بمعنى النار مجازا. والرفد: العطاء والعون، والمرفود: المعطى.
لقد تكرر ذِكر موسى عليه السلام في القرآن الكريم مراتٍ كثيرة، ولما ذكر سبحانه ما أصاب أقوامَ نوح وهود وصالح ولوط وشعيب، اشار في هذه الآيات الى قصص موسى مع فرعون وقومه للإعلام بان عاقبة فرعون وزعماء قومه الهلاكُ مثل الظالمين من اولئك الأقوام، والغاية من ذلك العبرة والعظة.
لقد ارسلنا موسى، مؤيَّداً بالمعجزات الدالة على صدقه والحجّة، إلى فرعون وكبار قومه. فكفر فرعون وأمر قومه ان يتبعوه في الكفر، فاتبوعوا أمره وخالفوا أمر موسى. ولي ما فعل مما يدل على الرشد. وسيأتي يوم القيامة يتقدم قومه كما كان يتقدمهم في الدنيا، فيوردهم النار. ولبئس ذاك المورد. فعلى فرعون وعليهم لعنة الله والملائكة والناس. «بئس الرفد المرفود» بئس العطاء المعطى... اي تلك اللعنة.
منها قائم: موجود. وحصيد: محصود أمّحت آثاره كالزرع المحصود. تتبيب: اهلاك وتخسير تب: هلك وخسر.
﴿ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ﴾.
ان هذا القصص يا محمد هو بعض اخبار القرى التي أهلكناها، وهي جديدة عليك لم تكن تعلمها من قبل، لكن الوحي من لدنّا ينبئك بهذا الغيب. وذلك بعض اغراض القرآن في قصصه. «منها قائم» ومن هذه القرى ما لا تزال آثاره تشهد بما بلغ أهله من القوة والعمران، كآثار الفراعنة بمصر، وبقايا عاد وثمود، «وحصيد» ومن تلك الآثار ما درس وزال، كأنه زرع محصود، كما حل بقوة نوح او قوم لوط وغيرهم.
﴿وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ﴾.
وما ظلمناهم بإهلاكهم، ولكنّهم ظلموا أنفسَهم بالكفر وعبادةِ غير الله والفساد في الارض، فما استطاعت آلهتُهم ان تردّ عنهم الهلاك، ولا نفعتْهم بشيءٍ لما جاء أمر ربك، فما زادوهم غير هلاكٍ وتخسير.
﴿وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾.
مثل هذا الذي قصصنْا عليك من الأخذِ الشديد يأخذ ربُّك القرى حين يهلكها وهي ظالمة مشركة تَدين لغيره بالربوبية.
لا تكلم: لا تتكلم. يوم مشهود: يشهده جميع الناس. لأجل معدود: معين الزفير: تنفس الصعداء من الهم والكرب. شهيق: نشيج في البكاء اذا اشتد تردده في الصدر وارتفع به الصوت. غير مجذوذ: غير مقطوع مرية: شك.
بعد ان ذكر اللهُ تعالى العبرةَ في إهلاك الأمم في الدنيا، ذكره هنا العبرة بجزاء الآخرة للأشقياء والسعداء، وما ينال الاشقياءَ من العذاب والخلود في النار. ما يتمتع به المؤمنون في الجنة.
﴿إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾.
ان في ذلك القصص عبراً ومواعظ يعتبر بها من آمن بالله وخاف عذاب الآخرة بعد يوم القيامة، وهو يوم يُجمع له الناس كلهم للحساب، وتشهدهُ الخلائق جميعا من الجن والانس والملائكة.
﴿وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ﴾.
ونحن نؤخر ذلك اليوم حتى تمضي مدة محدّدة في عالمنا لا تزيد ولا تنقص، ولم يُطلع عليها أحداً من الخلق.
﴿يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ﴾.
في ذلك اليوم الذي يأتي لا تتكلَّم نفس من الأنفس الا بإذنه تعالى، ويكون الناس فريقين: شقياً مستحقاً للعذاب الأليم، وسعيداً مستحقاً لما وُعد به المتقون من نعيم الآخرة
قراءات:
قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة: «يوم يأتِ» بكسر التاء بدون ياء. والباقون «يوم يأتي» بالياء.
ثم فصل جزاء الفريقين فقال:
﴿فَأَمَّا الذين شَقُواْ فَفِي النار لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ﴾.
فاما الذين شقوا في الدنيا ففي النار مآلُهم يكون فيها تنفُّسه مصحوباً بآلام مزعجة، وشهيقُهم يشتد تردُّده في الصدر من شدة كروبهم.
﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ﴾.
خالدين في النار ما دامت السموات والارض، لا يخُرجون منها الا في الوقت الذي يشاء الله، وليعذِّبَهم بنوعٍ آخر من العذاب. ان ربك أيّها النبي فعّال لما يريد فعله، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.
﴿وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ﴾.
اما الذين رزقَهم الله السعادةَ فيدخلون الجنة خالدين فيها الى ما لا نهاية ﴿إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ﴾ الا الفريق الذي يشاء الله تأخيرَه عن دخول الجنة مع السابقين، وهم عصاةُ المؤمنين، وهؤلاء يتأخَرون في النار ريثما يم توقيع الجزاء عليهم، ثم يخرجون منها الى الجة ويعطي ربك أهل الجنة عطاءً دائماً غير مقطوع ولا منقوص.
قراءات:
قرأ حمزة والكسائي وحفص: «واما الذين سعدا» بضم السين وكسر العين والباقون: «سعدوا» بفتح السين وكسر العين.
238
﴿فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ﴾.
بعد ان بيّن الله تعالى قصص عبدةِ الأوثان وما آل اليه أمرهم، ثم أتبعه بأحوال الاشقياء والسعداء - أعاد الخطاب الى رسول الله ﷺ ليسرّي عنه عن المؤمنين معه ويثبتهم.
ما دام امر الأمم المشركة في الدنيا ثم في الآخرة كما قصصنا عليك يا محمد- فلا يكن لديك أدنى شكٍ في مصير عَبَدِة الأوثان من قومك. انهم يعبدون ما كان يعبد آباؤهم من قبل، من الاوثان والاصنام فهم مقلِّدون لهم، وسوف نعطيهم نصيبهم من العذاب جزاء اعمالهم وافيا على قدر جرائمهم.
239
شك منه مريب: قوي دائم. طرفي النهار: الغدوة العشيّة، يعني صلاة الصبح والظهر والعصر. وزلفاً من الليل: الساعات الاولى منه، صلاة المغرب والعشاء.
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ﴾.
بعد ان ذكّر مشركي مكة بالماضين من أمثالهم، وما جرى لهم في الدنيا وما سينالهم في الآخرة - ذكّرهم هنا في هاتين الآيتين بقوم موسى، واختلافهم في الكتاب. فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فلا عجب أن آمن بك قومٌ ايها الرسول وكفر بك آخرون.
ولقد آتينا موسى التوراة فاختلف بنو اسرائيل فيها، ولولا كلمةٌ سبقت من ربك بتأخير عذابهم الى يوم القيامة لفصل بينَهم بإهلاك المبطِلين ونجاة المحقّين. ان كفار قومك يشكّون في صدق القرآن، وكذلك هؤلاء ورثوا التوراة واقعون في حيرة وبعدٍ عن الحقيقة.
﴿وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾.
ان ربّك سيوفي كل فريق من هؤلاء: المصدّقين والمكذبين، جزاء اعمالهم، وهو خبير بهم يحيط علمه بكل ما يعملون.
قراءات:
قرأ ابن كثير ونافع وابو بكر «وان كلا» باسكان النون. وقرأ ابن عامر وعاصم وحمزة «لما» بالتشديد والباقون «لما» بالتخفيف.
وبعد ان بيّن الله أمر المختلفين في التوحيد والنبوّة، وذكَرَ وعْدَهم ووعيدَهم- أمر رسول الله ﷺ ومن معه من المؤمنين بالاستقامة، وهي كلمة جامعة لكل ما يتعلق بالعمل والعمل والاخلاق الفاضلة، فقال.
﴿فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
ما دام هذا حالُ الأمم التي جاءها كتاب من الله فاختلفت فيه وخرجت عليه، فاستِقم انت يا محمد ومن معك من المؤمنين ولا يتتجاوزوا حدودَ الاعتدال، انه سبحانه محيط علمه بكل ما تعملون.
﴿وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ﴾.
لا تميلوا ادنى ميلٍ ولا تطمئنوا الى اعداء الله وأَعدائكم الذين ظلموا أنفسَهم بالكفر والشرك فتستَحِقّوا عذابَ النار مثلهم. انه لا ناصر لكم غير الله، ولا تنصَرون الا بالاستقامة والايمان.
وكذلك لاتسكُتوا عن المنكر إذا رأيتموه... فإن الامام أحمد وأصحاب السُنن رووا عن ابي بكر رضي الله عنهـ انه قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «ان الناس رأوا المنكَر بينهم فلم يُنكِرونه، يوشكُ أن يعمَّمهم الله بعاقبه» وهذا ما هو حاصل فينا اليوم.
﴿وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
بعد ان امر الله رسولَه بالاستقامة وعدم تجاوُزِ ما رسمه الدين، وعدم الركون الى الظالمين، أمره هنا بأفضلِ العبادات وأجلّ الفضائل، فقال:
يا محمد، أقمِ الصلاة كاملة على أحسن وجه، وداومْ عليها في طرفَي النهار (وهما أوله وآخره) وفي اوقات متفرقة منه.
240
وهذه تشمل أوقاتَ الصلاة المفروضة دوت تحديد عددها، لكن السُّنة وعمل الرسول الكريم حددت ذلك. وقد خصّ الله تعالى الصلاة بالذكرلانها أساس العبادات.
﴿إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات﴾.
ان الأعمال الحنسة تمحو السيئات التي قلّما يخلو منها البشر، والمراد بالسيئات الذنوب الصغيرة، لان الكبائر لا يكفّرها الا التوبة. كما قال تعالى ﴿إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ﴾ [النساء: ٣١].
وفي الحديث الصحيح: «الصلوات الخمسُ كفّارة لما بينَها ما اجتُنبت الكبائر» رواه مسلم وفي صحيح البخاري ايضا: «أأيتُم لو ان نهراً بباب أحدِكم يغتسل فيه لك يوم خس مرات، هل يبقى من درنه شيء؟ قالوا: لا قال: فذلك ملُ الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا».
﴿ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ﴾.
ان في الوصايا السابقة من الاستقامة، والنهي عن الركون الى الذين ظلموا، واقامة الصلاة في تلك الأوقات عبرةً للمتعظين المستعدين لقبولها، الذين يذكرون ربهم على الدوام.
والاستقامة في حاجة الى الصبر، ولذلك عقب الله على ذلك بقوله:
﴿واصبر فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين﴾.
اصبر ايها النبي على مشاق ما أمرناك به، فالاستقامة احسان، واقامة الصلاة في اوقاتها احسان، والصبر على المكاره احسان، والله لا يضيع أجر المحسنين.
241
فلولا: فهلا القرون: جمع قرن، الجيل من الناس وشاع تقديره بمائة سنة. اولوا بقية: ما يبقة من اهل الصلاح والعقل. ما اترفوا فيه: ما تنعموا فيه من ملذات الدنيا فافسدتهم وابطرتهم. وتمت كلمة ربك: قضاؤه وأمره.
﴿فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفساد فِي الأرض﴾.
فهلاَّ وجد هناك من أهل القرون التي كانت قبلكم جماعةٌ اصحابُ شيء من العقل او الرأي والصلاح ينهون قومهم عن الفساد في الأرض.
﴿إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ﴾.
ولكن كان هناك نفَر قليل من المؤمنين لم يُسمع لهم راي ولا توجيه فأنجاهم الله مع رسلهم. أما الظالمون المعانِدون فقد تمسّكوا بما رزقناهم من أسباب الترف والنعيم فبطِروا واستكبروا وصدّوا عن سبيل الله، وكانوا بذلك مجرمين.
ثم بين الله تعالى ما يحول بين الأمم وإهلاكها فقال:
﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ﴾.
ما كان من سنة الله، ولا من عدله في خَلقه، ان يظلم أمةً من الأمم فيهلكها وهي متمسكة بالحق، ملتزمة الفاضئل. وهذا هوا لعدل من احكم الحاكمين.
﴿وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾.
لو شاء ربك ايها النبيّ لجعلَ الناس على دينٍ واحد، مطيعين الله بطبيعة خلْقتهم، كالملائكة، ولكان العالَم غير هذا العالم، ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك، بل خلقهم مختارين كاسِين، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم، وهي لا يزالون مختلفين في كل شيء حتى في اصول العقائد، تبعا لميولهم وشهواتهم وتفكيرهم.
الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}.
لا يزالون مختلفين في شئونهم الدنيوية والدينية، الا من رحم الله منهم لسلامة فِطَرهم، فانهم اتفقوا على حكم الله فيهم، فآمنوا بجميع رسله وكتبه واليوم الآخر. ولهذه المشيئة التي اقتضتها حكمته تعالى في نظام هذا الكون، خلَقهم مستعدّين لهذا الاختلاق ليرتب على ذلك استحقاق الثواب والعقاب.
﴿إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ﴾.
ولقد سبق في قضائه وقدَره وحكمته النافذة، أن يملأ جهنم من اتباع ابليس من الجن والناس من الذين ظلموا ولا يهتدون.
نقص عليك: تخبرك. من ابناء الرسل: من اخبارهم نثبت: نقوي على مكانتكم: على تمكنكم واستطاعتكم.
في خاتمة السورة خطاب للرسول الكريم ﷺ أن في قصص الأنبياء والأمم القديمة فائدةً عظمى له وللمؤمنين، وهي تثّبت الفؤاد وتُلقي العظمة.
﴿وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾.
إننا نقصّ عليك ايها النبي كلّ نبأ من انباء الرسُل المتقدمين مع أممهم كيما نقوي قلبك على تحمل اعباء الرسالة. وقد جاءك في هذه الأنباء بيان الحق الذي تدعو اليه مثلما دعا اليه السابقون من الرسل، وفيها موعظة وذكرة وعبرة ينتفع بها المؤمنون.
﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ﴾.
ايها النبيّ، قل للذين يصرّون على العناد والكفر: اعملوا ما تستطيعون من محارة الاسلام وايذاء المؤمنين، فاننا ماضون في طريقنا على قدر ما نستطيع من الثابت على الدعووة وتنفيذ أمر الله.
﴿وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾.
وانتظروا بنا ما تترقبون لنا. إننا كذلك منتظرون وعدَ الله لنا بنجاح الدعوة والانتصار.
﴿وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّهُ فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾.
ولله وحده علم الغيب في هذا كله، واليه وحده يرجع تصريف كل أم من الأمور. واذا كان الامر كذلك فاعبد ربك وحده، وتوكل عليه، وامتثل ما أُمرت به من دوام التبليغ والدعوة وما ربك بغافل عما تعملون جميعا ايها المؤمنون والكافرون. وقد صدق وعده ونصر عبده، واظهر دينه على الدين كله.
Icon