ﰡ
إن قلتَ : كيف جمع هنا، وأفرد بعدُ في قوله :﴿ وترى الناس سكارى ﴾ ؟ [ الحج : ٢ ]
قلتُ : لأن الرؤية الأولى متعلّقة بالزلزلة، وكلّ الناس يرونها.
والثانية متعلّقة بكون الناس سُكارى، فلا بدّ من جعل كل واحد رآيا باقيهم.
قال ذلك : هنا بذكر " من غمّ " وفي السجدة( ١ ) بدونه، موافقة لما قبلها. إذْ ما هنا تقدَّمه قوله تعالى ﴿ قُطّعت لهم ثياب من نار ﴾( ٢ ) الآية [ الحج : ١٩ ]. وما هناك لم يتقدّمه إلا قوله :﴿ فمأواهم النار ﴾ [ السجدة : ٢٠ ].
قوله تعالى :﴿ وذوقوا عذاب الحريق ﴾ [ الحج : ٢٢ ]. تقديره : وقيل لهم ذوقوا، كما في السجدة، وخصّ ما هنا بالحذف لطول الكلام، وما في السجدة بالذّكر لقصره، وموافقة لذكر القول قبله كقوله ﴿ أم يقولون افتراه ﴾ [ يونس : ٣٨ ] وقوله :﴿ وقالوا أئذا ضللنا ﴾ [ السجدة : ١٠ ] و﴿ قل يتوفاكم ﴾ [ السجدة : ١١ ].
٢ - إنما ذكر في الحج ﴿من غم﴾ لأن سياق الآيات يقتضيه، فالغمّ هو الكرب العظيم، الذي يأخذ بالأنفاس، فمن كانت ثيابه من نار، والحميم يصبّ من فوق رأسه، وله مقامع من حديد، كيف لا يكون في كرب وشدّة ؟ بخلاف آيات السجدة، فإنها لم تتحدث إلا عن مصير الكفار..
كرّره لأنه لما ذكر حكم أحد الخصمين، وهو ﴿ فالذين كفروا قطّعت لهم ثياب من نار ﴾ لم يكن بدّ من ذكر حكم الخصم الآخر، لمقارنته له، وإن تقدّم ذكره.
كرّره لأن الأول مرتّب على ذبح بهيمة الأنعام، الشاملة للبُدْن، والبقر، والغنم، والثاني مرتَّب على ذبح البُدن خاصة، وإن وافقه في حكم ذبح الآخرين.
ولا عيبَ فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلولٌ من قِرَاعِ الكتائب
أي إن كان فيهم عيب فهو هذا، وهذا ليس بعيب، فلا عيب فيهم.
قوله تعالى :﴿ ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهُدِّمت صوامع وبِيع ﴾ الآية [ الحج : ٤٠ ].
فإن قلتَ : أيّ مِنّة على المؤمنين، في حفظ " الصّوامع " و " البِيَع " و " الصلوات " أي الكنائس عن الهدم، حتى امتنّ عليهم بذلك ؟ !
قلتُ : المِنّة عليهم فيها أن الصّوامع، والبيع، في حِرسهم وحفظهم، لأن أهلها محترمون. أو المراد لهدّمت صوامع وبيع في زمن عيسى عليه السلام، وكنائس في زمن موسى عليه السلام، ومساجد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فالامتنان على أهل الأديان الثلاثة، لا على المؤمنين خاصّة( ١ ).
إنما لم يقل :«وبنوا إسرائيل » في قوم موسى، عطفا على " قوم نوح " ؟ !
لأن قوم موسى لم يكذّبوه، بل غيرهم وهم القِبْط، أو الإبهام في بناء الفعل للمفعول، للتفخيم والتعظيم، أي وكُذِّب موسى أيضا مع وضوح آياته، وعِظم معجزاته، فما ظنّك بغيره( ١ ) ؟
قال ذلك هنا، وقال بعدُ :﴿ وكأين من قرية أمليت لها وهي ظالمة ﴾ [ الحج : ٤٨ ] موافقة لما قبلهما، إذ ما هنا تقدّمه معنى الإهلاك بقوله ﴿ فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم ﴾ [ الرعد : ٣٢ ] أي أهلكتهم.
وما بعدُ تقدّمه ﴿ ويستعجلونك بالعذاب ﴾ [ الحج : ٤٧ ] وهو يدلّ على أن العذاب لم يأتهم في الوقت، فحسُن ذكر الإهلاك في الأول، والإملاء –أي التأخير- في الثاني.
إن قلتَ : ما فائدة ذلك، مع أن القلوب لا تكون إلا في الصدور ؟ !
قلتُ : فائدته المبالغة في التأكيد، كما في قوله تعالى :﴿ يقولون بأفواههم ﴾ [ آل عمران : ١٦٧ ].
أو القلب هنا بمعنى العقل، كما قيل به في قوله تعالى :﴿ إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب ﴾ [ ق : ٣٧ ] أي عقل، ففائدة التقييد، الاحتراز عن القول الضعيف، بأن العقل في الدماغ( ١ ).
الرسول : إنسان أُوحي إليه بشرع وأُمر بتبليغه.
والنبيّ : إنسان أوحي إليه بشرع، وإن لم يؤمر بتبليغه، فهو أعمّ من الرسول( ١ ).
قاله هنا بتأكيده ب " هو " وقاله في لقمان( ١ ) بدونه، لموافقة كلّ منهما ما قبله، وما بعده، لأن ما هنا تقدّمه تأكيدات، بعضُها ب " أنّ " وبعضها باللام، وبعضها بهما، بخلافة ثَمّ، ولهذا قال هنا :﴿ وإن الله لهو الغني الحميد ﴾ [ الحج : ٦٤ ] وقال ثَمّ :﴿ وأنّ ما يدعون من دونه هو الباطل وأنّ الله هو العليّ الكبير ﴾.
إن قلتَ : كيف لا حرج فيه مع أن في قطع يد بسرقة ربع دينار، ورجم محصن بزنى مرّة، ووجوب صوم شهرين متتابعين، بإفساد يوم من رمضان بوطء، ونحو ذلك حرجا ؟ !
قلتُ : المراد بالدين : التوحيد، ولا حرج فيه، بل فيه تخفيف، فإنه يكفّر ما قبله من الشرك وإن امتدّ، ولا يتوقف الإتيان به على زمان أو مكان معيّن.
أو أن كلّ ما يقع الإنسان فيه من المعاصي، يجد له مخرجا في الشرع، بتوبة، أو كفارة، أو رخصة، أو المراد نفي الحرج الذي كان في بني إسرائيل( ١ ).