تفسير سورة الحج

الوجيز للواحدي
تفسير سورة سورة الحج من كتاب الوجيز في تفسير الكتاب العزيز المعروف بـالوجيز للواحدي .
لمؤلفه الواحدي . المتوفي سنة 468 هـ
مكية وهي سبعون وأربع آيات الا ثلاث آيات بالمدينة

﴿يا أيها الناس﴾ يا أهل مكة ﴿اتقوا ربكم﴾ أطيعوه ﴿إن زلزلة الساعة شيء عظيم﴾ وهي زلزلةٌ يكون بعدها طلوع الشَّمس من مغربها
﴿يوم ترونها﴾ يعني: الزَّلزلة ﴿تذهل كلُّ مرضعة عمَّأ أرضعت﴾ تتلاك كلُّ امرأةٍ تُرضع ولدها الرضيع اشتعالا بنفسها وخوفاً ﴿وتَضَعُ كلُّ ذات حملٍ حملها﴾ تُسقط ولدها من هول ذلك اليوم ﴿وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى﴾ من شدَّة الخوف ﴿وَمَا هم بسكارى﴾ من الشَّراب ﴿ولكنَّ عذاب الله شديد﴾ فهم يخافونه
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم﴾ نزلت في النَّضر بن الحارث وجماعةٍ من قريش كانوا يُنكرون البعث ويقولون: القرآن أساطير الأولين ويجادلون النبي ﷺ ﴿ويتبع﴾ في جداله ذلك ﴿كلَّ شيطان مريد﴾ متمرِّدٍ عاتٍ
﴿كُتب عليه﴾ قُضي على الشَّيطان ﴿أنَّه مَنْ تولاَّه﴾ اتَّبعه ﴿فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير﴾ يدعوه إلى النَّار بما يُزيِّن له من الباطل
﴿يا أيها الناس﴾ يعني: كفار مكَّة ﴿إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ﴾ شكٍّ من الإِعادة ﴿فإنا خلقناكم﴾ خلقنا أباكم الذي هو أصل البشر ﴿من تراب ثمَّ﴾ خلقنا ذريَّته ﴿من نطفة ثمَّ من علقة﴾ وهي الدَّم الجامد ﴿ثمَّ من مضغة﴾ وهي لحمةٌ قليلةٌ قدر ما يُمضغ ﴿مُخَلَّقَةٍ﴾ مصوَّرةٍ تامَّة الخلق ﴿وغير مخلقة﴾ وهي ما تمجُّه الأرحام دماً يعني: السِّقط ﴿لنبيِّن لكم﴾ كمال قدرتنا بتصريفنا أطوار خلقكم ﴿ونقرُّ في الأرحام ما نشاء﴾ ننزل فيها ما لا يكون سقطاً ﴿إلى أجل مسمى﴾ إلى وقت خروجه ﴿ثم نخرجكم﴾ من بطون الأمهات ﴿طفلاً﴾ صغاراً ﴿ثمَّ لتبلغوا أَشدكم﴾ عقولكم ونهاية قوَّتكم ﴿ومنكم من يُتوفَّى﴾ يموت قَبْلُ بلوغ الأشدِّ ﴿وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أرذل العمر﴾ وهو الهرم والخرف حتى لا يعقل شيئاً وهو قوله: ﴿لكيلا يعلم من بعد علم شيئاً﴾ ثمَّ ذكر دلالةً أخرى على البعث فقال: ﴿وترى الأرض هامدة﴾ جافَّةً ذات ترابٍ ﴿فإذا أنزلنا عليها الماء﴾ المطر ﴿اهتزت﴾ تحركت بالنبات ﴿وربت﴾ زادت ﴿وأنبتت من كلِّ زوج بهيج﴾ من كلِّ صنفٍ حسنٍ من النَّبات
﴿ذلك﴾ الذي تقدَّم ذكره من اختلاف أحوال خلق الإِنسان وإحياء الأرض بالمطر ﴿بأن الله هو الحق﴾ الدَّائم الثَّابت الموجود ﴿وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قدير﴾
﴿وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ علم﴾ نزلت في أبي جهل ﴿ولا هدىً﴾ ليس معه من ربِّه رشادٌ ولا بيانٌ ﴿ولا كتابٍ﴾ له نورٌ
﴿ثاني عطفه﴾ لاوي عنقه تكبُّراً ﴿ليضل﴾ الناس عن طاعة الله سبحانه باتِّباع محمَّد عليه السَّلام ﴿له في الدنيا خزي﴾ يعني: القتل ببدرٍ
﴿ذلك بما قدَّمت يداك﴾ هذا العذاب بما كسبْتَ ﴿وأن الله ليس بظلام للعبيد﴾ لا يعاقب بغير جرمٍ
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ﴾ على جانبٍ لا يدخل فيه دخول مُتمكِّنٍ ﴿فإن أصابه خير﴾ خِصبٌ وكثرةُ مالٍ ﴿اطمأنَّ به﴾ في الدِّين بذلك الخصب ﴿وإن أصابته فتنة﴾ اختبارٌ بجدبٍ وقلَّة مالٍ ﴿انقلب على وجهه﴾ رجع عن دينه إلى الكفر
﴿يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ﴾ إن عصاه ﴿ولا ينفعه﴾ إن أطاعه ﴿ذلك هو الضلال البعيد﴾ الذَّهاب عن الحقِّ
﴿يدعو لمَنْ ضرُّه أقرب من نفعه﴾ ضرره بعبادته أقرب من نفعه ولا ينفع عنده والعرب تقول لما لا يكون: هو بعيدٌ والمعنى في هذا أنَّه يضرُّ ولا ينفع ﴿لبئس المولى﴾ الناصر ﴿ولبئس العشير﴾ الصاحب والخليط
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ﴾
﴿مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ﴾ محمدا ﷺ حتى يُظهره على الدِّين كلِّه فليمت غيظاً وهو تفسير قوله: ﴿فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ﴾ أَيْ: فليشدد حبلاً في سقفه ﴿ثمَّ ليقطع﴾ أَيْ: ليَمُدَّ الحبل حتى ينقطع فيموت مختلفا ﴿فلينظر هل يُذْهِبَنَّ كيده ما يغيظ﴾ غيظه وقوله:
﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي من يريد﴾
﴿إنَّ الله يفصل بينهم يوم القيامة﴾ أَيْ: يحكم ويقضي بأن يدخل المؤمنين الجنَّة وغيرهم من هؤلاء الفرق النَّار ﴿إنَّ الله على كل شيء شهيد﴾ يريد: إنَّ اللَّهَ عالمٌ بما في قلوبهم
﴿ألم تر أنَّ الله يسجد له﴾ يذلُّ له وينقاد له ﴿من في السماوات وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عليه العذاب﴾ وذلك أنَّ كلَّ شيءٍ منقاد لله عز وجل على ما خلقه وعلى ما رزقه وعلى ما أصحَّه وعلى ما أسقمه فالبر والفاجر والمؤمن والكافر في هذا سواءٌ ﴿ومَنْ يهن الله﴾ يذلَّه بالكفر ﴿فما له من مكرم﴾ أحدٌ يكرمه ﴿إنَّ الله يفعل ما يشاء﴾ يُهين من يشاء بالكفر ويكرم من يشاء بالإيمان
﴿هذان خصمان﴾ يعني: المؤمنين والكافرين ﴿اختصموا في ربهم﴾ في دينه ﴿فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ﴾ يلبسون مقطعات النيران ﴿يصبُّ من فوقِ رؤوسهم الحميم﴾ ماءٌ حارٌّ لو سقطت نقطٌ على جبال الدُّنيا أذابتها
﴿يصهر﴾ يُذاب ﴿به﴾ بذلك الماء ﴿ما في بطونهم﴾ من الأمعاء ﴿والجلود﴾ وتنشوي جلودهم فتتساقط
﴿ولهم مقامع﴾ سياطٌ ﴿من حديد﴾
﴿كلما أرادوا أن يخرجوا منها﴾ من جهنَّم ﴿من غمّ﴾ يصيبهم ﴿أعيدوا فيها﴾ ردوا إليها بالمقاطع ﴿و﴾ تقول لهم الخزنة: ﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ النَّار وقال في الخصم الذين هم المؤمنون:
﴿إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جنات﴾ الآية وهي مفسَّرةٌ في سورة الكهف
﴿وهدوا﴾ أُرشدوا في الدُّنيا ﴿إلى الطيب من القول﴾ ت وهو شهادة أن لا إله إلا الله ﴿وهدوا إلى صراط الحميد﴾ دين اللَّهِ المحمود في أفعاله
﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يمنعون عن طاعة الله تعالى ﴿والمسجد الحرام﴾ يمنعون المؤمنين عنه ﴿الذي جعلناه للناس﴾ خلقناه وبنيناه للنَّاس كلِّهم لم تخص به بعضاً دون بعض ﴿سواءً العاكف فيه والباد﴾ سواءٌ في تعظيم حرمته وقضاء النُّسك به الحاضر والذي يأتيه من البلاد فليس أهل مكَّة بأحقَّ به من النَّازع إليه ﴿ومَن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ﴾ أَيْ: إلحاداً بظلمٍ وهو أن يميل إلى الظُّلم ومعناه: صيد حمامة وقطع شجرة ودخوله غير مُحرمٍ وجميع المعاصي لأنَّ السَّيئات تُضاعف بمكَّة كما تضاعف الحسنات
﴿وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت﴾ بيَّنا له أين يُبنى ﴿أن لا تشرك﴾ يعني: وأمرناه أَنْ لا تُشْرِكْ ﴿بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ﴾ مفسَّرٌ في سورة البقرة
﴿وأذن في الناس﴾ نادِ فيهم ﴿بالحج يأتوك رجالاً﴾ مُشاةً على أرجلهم ﴿و﴾ ركباناً ﴿على كلّ ضامر﴾ وهو البعير المهزول ﴿يأتين من كلِّ فج عميق﴾ طريق بعيدٍ
﴿ليشهدوا﴾ ليحضروا ﴿منافع لهم﴾ من أمر الدُّنيا والآخرة ﴿وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ يعني: التَّسمية على ما ينجر في يوم النَّحر وأيَّامِ التشويق ﴿فكلوا منها﴾ أمر إباحةٍ وكان أهل الجاهليَّة لا يأكلون من نسائكهم فأمر المسلمون أن يأكلوا ﴿وأطعموا البائس الفقير﴾ الشَّديد الفقر
﴿ثم ليقضوا تفثهم﴾ يعني: ما يخرجون به من الإحرام وهو أخذ الشَّارب وتقليم الظُّفر وحلق العانة ولبس الثَّوب ﴿وليوفوا نذورهم﴾ يعني: ما نذروه من ير وهدي في أيَّام الحجِّ ﴿وليطوفوا بالبيت العتيق﴾ القديم: وقيل: المُعتق من أن يتسلَّط عليه جبَّار يعني: الكعبة
﴿ذلك﴾ أَيْ: الأمر ذلك الذي ذكرت ﴿ومن يعظم حرمات الله﴾ فرائض الله وسننه ﴿وأحلت لكم الأنعام﴾ أن تأكلوها ﴿إلاَّ ما يتلى عليكم﴾ في قوله: ﴿حرمت عليكم الميتة﴾ الآية ومعنى هذا النَّهي تحريمُ ما حرَّمه أهل الجاهليَّة من البحيرة والسَّائبة وغير ذلك ﴿فاجتنبوا الرجس من الأوثان﴾ يعني: عبادتها ﴿واجتنبوا قول الزور﴾ يعني: الشِّرك بالله
﴿حنفاء لله﴾ مسلمين عادلين عن كلِّ دينٍ سواه ﴿ومن يشرك بالله فكأنما خرَّ﴾ سقط ﴿من السماء﴾ فاختطفته الطَّير من الهواء أو ألفته الرِّيح في ﴿مكان سحيق﴾ بعيدٍ يعني: إنَّ مَنْ أشرك فقد هلك وبَعُدَ عن الحقِّ
﴿ذلك ومن يعظم شعائر الله﴾ يستسمن البُدن ﴿فإنَّ ذلك من﴾ علامات التَّقوى
﴿لكم فيها منافع﴾ الرُّكوب والدَّرُّ والنَّسل ﴿إلى أجل مسمى﴾ وهو أن يُسمِّيها هدياً ﴿ثمَّ محلها﴾ حيث يحلُّ نحرها عند ﴿البيت العتيق﴾ يعني: الحرم كلَّه
﴿ولكلِّ أمة﴾ جماعةٍ سلفت قبلكم ﴿جعلنا منسكاً﴾ ذبحاً للقرابين ﴿ليذكروا اسم الله﴾ عند الذَّبح ﴿على ما رزقهم من بهيمة الأنعام﴾ يعني: الأنعام ﴿فإلهكم إله واحد﴾ أَيْ: لا تذكروا على ذبائحكم إلاَّ الله وحده ﴿فله أسلموا﴾ أخلصوا العبادة ﴿وبشر المخبتين﴾ المتواضعين
﴿الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ ينفقون﴾
﴿والبدن﴾ الإبل والبقر ﴿جعلناها لكم من شعائر الله﴾ أعلام دينه ﴿لكم فيها خيرٌ﴾ النَّفع في الدُّنيا والأجر في العقبى ﴿فاذكروا اسم الله﴾ وهو أن يقول عند نحرها: اللَّهُ أَكْبَرُ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاللَّهُ أكبر ﴿صواف﴾ قائمةً معقولة اليد اليسرى ﴿فإذا وجبت جنوبها﴾ سقطت على الأرض ﴿فكلوا منها وأطعموا القانع﴾ الذي يسألك ﴿والمعتر﴾ الذي يتعرَّض لك ولا يسألك ﴿كذلك﴾ الذي وفصفنا ﴿سخرناها لكم﴾ يعني: البدن ﴿لعلَّكم تشكرون﴾ لكي تطيعوني
﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها﴾ كان المشركون يُلطِّخون جدار الكعبة بدماء القرابين فقال الله تعالى: ﴿لن ينال الله لحومها ولا دماؤها﴾ أَيْ: لن يصل إلى اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا ﴿وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى منكم﴾ أَيْ: النِّيَّةُ والإِخلاص وما أريد به وجه الله تعالى ﴿لتكبروا الله على ما هداكم﴾ إلى معالم دينه ﴿وبشر المحسنين﴾ المُوحِّدين
﴿إن الله يدافع﴾ غائلة المشركين عن المؤمنين ﴿إن الله لا يحب كل خوَّانٍ﴾ في أمانته ﴿كفورا﴾ لنعمته وهم الذين تقرَّبوا إلى الأصنام بذبائحهم
﴿أُذِنَ للذين يقاتلون﴾ يعني: المؤمنين وهذه أوَّلُ آيةٍ نزلت في الجهاد والمعنى: أُذن لهم أن يُقاتلوا ﴿بأنهم ظلموا﴾ بظلم الكافرين إيَّاهم ﴿وإنَّ الله على نصرهم لقدير﴾ وعدٌ من الله تعالى بالنَّصر
﴿الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق﴾ يعني: المهاجرين ﴿إلاَّ أن يقولوا ربنا الله﴾ أَيْ: لم يُخرجوا إلاَّ بأن وحَّدوا الله تعالى ﴿ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض﴾ لولا أن دفع الله بعض النَّاس ببعض ﴿لهدِّمت صوامع وبيعٌ﴾ في زمان عيسى عليه السَّلام ﴿وصلوات﴾ في أيَّام شريعة موسى عليه السَّلام يعني: كنائسهم وهي بالعبرانيَّة صلوتا ﴿ومساجد﴾ في أيام شريعة محمد ﷺ ﴿ولينصرنَّ الله من ينصره﴾ يعني: مَنْ نصر دين الله نصره الله على ذلك ﴿إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ﴾ على خلقه ﴿عزيز﴾ منيعٌ في سلطانه
﴿الذين إن مكناهم في الأرض﴾ يعني: هذه الأمَّة إذا فتح الله عليهم الأَرْضِ ﴿أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور﴾ أَيْ: آخر أمور الخلق ومصيرهم إليه ثمَّ عزَّى نبيَّه فقال:
﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ﴾
﴿وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ﴾
﴿وأصحاب مدين وكُذِّب موسى فأمليت للكافرين﴾ أَيْ: أمهلتهم ﴿ثم أخذتهم﴾ عاقبتهم ﴿فكيف كان نكير﴾ إنكاري عليهم ما فعلوا بالعذاب
﴿فكأين من قرية﴾ وكم من قريةٍ ﴿أهلكناها وهي ظالمة﴾ بالكفر ﴿فهي خاوية﴾ ساقطةٌ ﴿على عروشها﴾ سقوفها ﴿وبئر مُعَطَّلَةٍ﴾ متروكةٍ بموت أهلها ﴿وقصر مشيد﴾ رفيعٍ طويلٍ
﴿أفلم يسيروا في الأرض﴾ يعني: كفَّار مكَّة ﴿فينظروا﴾ إلى مصارع الأمم المكذبة وهو قوله: ﴿فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يسمعون بها﴾ فيتفكَّروا ويعتبروا ثم ذكر أن الأبصار لا تعمى عن رؤية الآيات ولكن القلوب تعمى فلا يتفكروا ولا يعتبروا
﴿ويستعجلونك بالعذاب﴾ كانوا يقولون له: ﴿فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ فقال الله تعالى: ﴿ولن يخلف الله وعده﴾ الذي وعدك من نصرك وإهلاكهم ثمَّ ذكر أنَّ لهم مع عذاب الدُّنيا في الآخرة عذاباً طويلاً وهو قوله تعالى: ﴿وإنَّ يوماً عند ربك﴾ أَيْ: من أيَّام عذابهم ﴿كألف سنة مما تعدون﴾ وذلك أن يوماً من أيَّام الآخرة كألفِ سنةٍ في الدُّنيا ثمَّ ذكر سبحانه أنَّه قد أخذ قوماً بعد الإِمهال فقال:
﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثمَّ أخذتها وإلي المصير﴾
﴿قل يا أيها النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾
﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كريم﴾
﴿والذين سعوا في آياتنا﴾ عملوا في إبطالها ﴿معاجزين﴾ مقدرين أنهم يعجزوننا ويفوتوتنا
﴿وما أرسلنا من قبلك من رسول﴾ وهو الذي يأتيه جبريل عليه السلام بالوحي عياناً ﴿ولا نبيّ﴾ وهو الذي تكون نبوَّته إلهاماً ومناماً ﴿إلاَّ إذا تمنى﴾ قرأ ﴿ألقى الشيطان﴾ في قراءته ما ليس ممَّا يقرأ يعني: ما جرى على لسان النبيِّ ﷺ حين قرأ سورة والنجم في مجلس من قريش فلما بلغ قوله تعالى: ﴿ومناة الثَّالثة الأخرى﴾ جرى على لسانه: تلك الغرانيق العلى وإنَّ شفاعتهنَّ لترتجى ثمَّ نبَّهه جبريل عليه السَّلام على ذلك فرجع وأخبرهم أنَّ ذلك كان من جهة الشَّيطان فذلك قوله: ﴿فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ الله آياته﴾ يُبيِّنها حتى لا يجد أحدٌ سبيلاً إلى إبطالها ﴿والله عليم﴾ بما أوحى إلى نبيِّه محمد ﷺ ﴿حكيم﴾ في خلقه ثمَّ ذكر أنَّ ذلك ليفتن الله به قوماً فقال:
﴿ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة﴾ ضلالةً ﴿للذين في قلوبهم مرض﴾ وهم أهل النِّفاق ﴿والقاسية قلوبهم﴾ المشركين ﴿وإنَّ الظالمين﴾ الكافرين ﴿لفي شقاق بعيد﴾ خلافٍ طويلٍ مع النبي ﷺ والمؤمنين
﴿وليعلم الذين أوتوا العلم﴾ التَّوحيد والقرآن ﴿أنه الحق﴾ أَيْ: الذي أحكم الله سبحانه من آيات القرآن وهو الحقُّ ﴿فتخبت له قلوبهم﴾ فتخشع
﴿ولا يزال الذين كفروا في مرية﴾ في شكٍّ ﴿منه﴾ ممَّا أُلقي على لسان الرسول ﷺ ﴿حتى تأتيهم الساعة﴾ القيامة ﴿بغتة﴾ فجأة ﴿أو يأتيهم عذاب يوم عقيم﴾ يعني: يوم بدرٍ وكان عقيماً عن أن يكون للكافرين فيه فرحٌ أو راحةٌ والعقيم معناه: التي لا تلد
﴿الملك يومئذ﴾ يعني: يوم القيامة ﴿لله﴾ وحده من غير مُنازعٍ ولا مُدَّعٍ ﴿يحكم بينهم﴾ ثمَّ بيَّن حكمه فقال: ﴿فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ﴾
﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مهين﴾
﴿والذين هاجروا﴾ فارقوا أوطانهم وعشائرهم ﴿في سبيل الله﴾ في طاعة اللَّهِ ﴿ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رزقاً حسناً﴾ في الجنَّة
﴿لَيُدْخِلَنَّهُمْ مدخلاً﴾ أَيْ: إدخالاً وموضعاً ﴿يرضونه﴾ وهو الجنة
﴿ذلك﴾ أَيْ: الأمر ذلك الذي قصصنا عليك ﴿ومَنْ عاقب بمثل ما عوقب به﴾ أَيْ: جازى العقوبة بمثلها ﴿ثم بغي عليه﴾ ظُلم ﴿لينصرنَّه الله﴾ يعني: المظلوم
﴿وذلك﴾ أَيْ: ذلك النَّصر للمظلوم بأنَّه القادر على ما يشاء فمن قدرته أن ﴿يولج الليل في النهار﴾ يزيد من هذا في ذلك ومن ذلك في هذا والباقي ظاهرٌ إلى قوله:
﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هو العلي الكبير﴾
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خبير﴾
﴿له ما في السماوات وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الحميد﴾
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بإذنه إن الله بالناس لرؤوف رحيم﴾
﴿إنَّ الإنسان لكفور﴾ يعني: إنَّ الكافر لجاحدٌ لآيات الله تعالى الدَّالة على توحيده وقوله:
﴿لكلّ أمة جعلنا منسكاً هم ناسكوه﴾ شريعةً هم عاملون بها ﴿فلا يُنازِعُنَّكَ﴾ يُجادِلُنَّكَ ﴿في الأمر﴾ نزلت في الذين جادلوا المؤمنين فقالوا: ما لكم تأكلون ما تقتلون ولا تأكلون ممَّا قتله الله؟
﴿وإن جادلوك﴾ بباطلهم مِراءً وتعنُّتاً فادفعهم بقولك: ﴿الله أعلم بما تعملون﴾ من التكذيب والكفر
قال تعالى ﴿اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فيه تختلفون﴾
﴿أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السماء والأرض إنَّ ذلك﴾ كلَّه ﴿في كتاب﴾ يعني: اللَّوح المحفوظ ﴿إن ذلك﴾ يعني: علمه بجميع ذلك ﴿على الله يسير﴾
﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ به﴾ بعبادته ﴿سلطاناً﴾ حجَّةً وبرهاناً ﴿وما ليس لهم به علم﴾ لم يأتهم به كتابٌ ولا نبيٌّ ﴿وما للظالمين﴾ المشركين ﴿من نصير﴾ مانعٍ من عذاب الله تعالى
﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ﴾ يعني: القرآن ﴿تعرف في وجوه الذين كفروا المنكر﴾ الإِنكار بالعبوس والكراهة ﴿يكادون يسطون﴾ يقعون ويبشطون ﴿بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ﴾ بِشَرٍ لكم وأكره إليكم من هذا القرآن الذي تسمعون ﴿النار﴾ أَيْ: هي النَّار
﴿يا أيها الناس﴾ يعني: يا أهل مكَّة ﴿ضرب مثل﴾ بُيِّن لكم ولمعبودكم شَبَهٌ ﴿فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ الله﴾ من الأصنام ﴿لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا﴾ كلُّهم لخلقه ﴿وإن يسلبهم الذباب شيئاً﴾ ممَّا عليهم من الطَّيب ﴿لا يستنقذوه منه﴾ لا يستردُّوه منه لعجزهم ﴿ضعف الطالبُ والمطلوب﴾ يعني: العابد والمعبود والطَّالب: الذُّباب يطلب من الصَّنم ما لطِّخ به من الزَّعفران والطِّيب وهو مَثَلٌ لعابده يطلب منه الشَّفاعة والنُّصرة والمطلوب: الصنم
﴿ما قدروا الله حق قدره﴾ ما عظَّموه حقَّ تعظيمه إذ أشركوا به ما لا يمتنع من الذُّباب ولا ينتصر منه
﴿الله يصطفي من الملائكة رسلاً﴾ مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل عليهم السَّلام ﴿ومن الناس﴾ يعني: النبيِّين عليهم السَّلام ﴿إنَّ الله سميع﴾ لقول عباد ﴿بصير﴾ بمَنْ يختاره
﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ ما عملوه ﴿وما خلفهم﴾ وما هم عاملون ممَّا لم يعلموه
قال تعالى ﴿يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الخير لعلكم تفلحون﴾
﴿وجاهدوا في الله﴾ في سبيل الله ﴿حق جهاده﴾ بينة صادقة ﴿هو اجتباكم﴾ اختاركم لدينه ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حرج﴾ ضيقٍ لأنَّه سهَّل الشَّريعة بالتَّرخيص ﴿ملَّة أبيكم﴾ اتبعوا ملَّة أبيكم ﴿إبراهيم﴾ كان هو في الحرمة كالأب ﷺ ولذلك جُعل أبا المسلمين ﴿هو سماكم﴾ أَيْ: الله تعالى سمَّاكم ﴿المسلمين من قبل﴾ أي: من قبل القرآن في سائر الكتب ﴿وفي هذا﴾ يعني: القرآن ﴿ليكون الرسول شهيداً عليكم﴾ وذلك أنَّه يشهد لمَنْ صدَّقه وعلى مَنْ كذَّبه ﴿وتكونوا شهداء على الناس﴾ تشهدون عليهم أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم وقوله: ﴿واعتصموا بالله﴾ أَيْ: تمسَّكوا بدينه ﴿هو مولاكم﴾ ناصركم ومتولي أموركم ﴿فنعم المولى ونعم النصير﴾
Icon