ﰡ
مكية، وهي أربع وتسعون آية، ألف ومائة وتسع وأربعون كلمة، أربعة آلاف وسبعمائة وسبع وستون حرفا
طس أي هذا مسمى بطس تِلْكَ أي تلك السورة آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (١)، أي مظهر للحكم والأحكام وأحوال الآخرة.
وقرأ ابن أبي عبلة برفع «كتاب مبين». هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٢)، هما حالان من آيات، أي هادية إلى الله ومبشرة بالوصول إلى الله بهدايته للمصدقين بتلك الآيات أو بدلان منها، أو خبران آخران لتلك
كما قال تعالى: «ألا من طلبني وجدني من طلبني بدلالات القرآن وجدني بالعيان»
. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي يأتون بالصلوات الخمس بشروطها ووضعها في حقها.
وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ أي يعطونها بشرائطها وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (٣) أي هؤلاء هم الموقنون بالآخرة حق الإيقان لا من عداهم، لأن تحمل مشاق العبادات لخوف العقاب ورجاء الثواب.
إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ بأن خلقنا في قلبه العلم بما فيها من المنافع واللذات ولا يخلق في قلبه بما فيها من المضار والآفات، فَهُمْ يَعْمَهُونَ (٤) أي ينهمكون فيها أُوْلئِكَ أي الموصوفون بعدم الإيمان بما في الآخرة وبالعمد في الأعمال الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وهو عمي القلوب وصممه وبكمه، وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (٥) أي أشد الناس خسرانا لفوات الثواب واستحقاق العقاب، ولأنهم خسروا الدنيا والآخرة ولم يربحوا المولى وذلك لأن قوما من المختصين بتوفيق من الله يحبهم ويحبونه قد خسروا الدنيا والآخرة بتركهما وعدم الالتفات إليهما في طلب المولى، فربحوا المولى. فلهذا لمّا وجد أبو يزيد في البادية قحف رأس مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة بكى وقبّله وقال هذا رأس صوفي. وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (٦)، أي وإنك يا أشرف الخلق لتؤتى القرآن من عند ذات مصيب في أفعاله لا يفعل شيئا إلا على وفق علمه. عليم بكل شيء سواء كان ذلك العلم مؤديا إلى العمل أو لا. وقال بعضهم: أي إنك جاوزت حد كمال كل رسول فإنهم كانوا يتلقون الكتب بأيديهم من يد جبريل، والرسالات
ولا يخاف من الملك العدل إلا ظالم كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (١١) أي لكن من ظلم، ثم عمل حسنا بعد سوء، فإني غفور رحيم وهذا تعريض لطيف بما وقع من موسى عليه السلام من وكزه القبطي. وجعل الأخفش والفراء وأبو عبيدة «إلا» حرف عطف بمنزلة الواو، وفي التشريك في اللفظ. والمعنى: وقرئ «ألا من ظلم»
إشراق مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي آفة فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ وقوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال أخرى من ضمير «تخرج»، أي حال كون اليد مندرجة في جملة تسع آيات. وقوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل أدخل أي حال كونك مرسلا بها إلى فرعون والظاهر أن قوله: إِلى فِرْعَوْنَ متعلق بمحذوف حال من فاعل ألق وأدخل وإن قوله: فِي تِسْعِ متعلق بمحذوف حال من مفعولهما، أي ألق وأدخل، أي حال كون العصا واليد مع جملة الآيات التسع، فإن الآيات إحدى عشرة: العصا واليد والفلق، والطوفان والجراد، والقمل والضفادع، والدم والطمسة، والجدب في بواديهم والنقصان في مزارعهم، وحال كونك مبعوثا إلى فرعون والقبط. إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (١٢) أي خارجين من ربقة الانقياد لأمري والعبودية لألوهيتي فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا على يد موسى عليه السلام مُبْصِرَةً كل من ينظر إليها ويتأمل فيها، هادية إلى الطريق الأقوم.
وقرأ علي بن الحسين وقتادة مبصرة بفتح الميم، والصاد أي مكانا يكثر فيه التبصر. قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (١٣) أي هذا الذي أتى به موسى خيال لا حقيقة له، واضح في أنه خيال وَجَحَدُوا بِها أي كذبوا بتلك الآيات بألسنتهم وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي وقد علمتها قلوبهم علما يقينا أنها حق. ظُلْماً وَعُلُوًّا حال أخرى من الواو في جحدوا، أو علة للجحد، أي ظالمين للآيات حيث سموها سحرا وحطوها في رتبتها الرفيعة، ومترفعين عن الإيمان بها أو جحدوا بها للظلم للآيات وللتكبر عنها. وقرئ «عليا»، و «عليا» بالضم والكسر كما قرئ «عتيا» فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٤) من إغراقهم في البحر على الوجه الهائل الذي هو عبرة للعالمين.
وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً أي أعطينا كل واحد منهما جزءا من العلم لائقا به من علم الحكم والسياسة ومختصا به كعلم داود صنعة لبوس، وتسبيح الجبال، والطير، وعلم سليمان سائر نطق الطير والدواب. وَقالا شكرا لما أعطيناه من العلم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا بما أعطانا من العلم عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) ممن لم يؤت علما مثل علمنا. وفي هذا دليل على فضل العلم وشرف أهله، وتحريض للعالم بأن يحمد الله تعالى على ما أعطاه من العلم، ويعتقد أنه قد فضل عليه كثير وإن فضل على كثير فلا يفتخر ولا يتكبر وإن يشكر الله تعالى في أنه ينفع بعلمه المسلمين، وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ أي ملكه بأن قام مقامه فيه دون سائر أولاده، وكان لداود تسعة عشر ابنا، وزيد له تسخير الريح والشياطين. وداود أشد تعبدا من سليمان. وروي أن سليمان أعطي هذا الملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة، أما داود فقد عاش مائة سنة. وَقالَ سليمان لبني إسرائيل على جهة الشكر لنعم الله تعالى وللتنويه بها.
روي عن كعب الأبار رضي الله عنه أن سليمان عليه السلام أخبر عن منطق جملة من الطيور:
الورشانة: تقول: لدوا للموت، وابنوا للخراب.
والفاختة: تقول: ليت ذا الخلق لم يخلق.
والطاوس: يقول: كما تدين تدان.
والهدهد: يقول: من لا يرحم لا يرحم.
والصرد: يقول: استغفروا الله يا مذنبين وهو الذي دل آدم على مكان البيت، ومن ثمّ نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قتله.
والطيطوي: يقول: كل حي ميت وكل جديد بال.
والخطاف: يقول: قدموا خيرا تجدوه وهو الذي آنس الله آدم به بعد خروجه من الجنة فهي لا تفارق بني آدم أنسألهم.
والحمام: يقول: سبحان ربي الأعلى.
والغراب: يدعو على العشار فكان يقول: اللهم العن العشار.
والحدأة: تقول: كل شيء هالك إلا الله.
والقطاط: تقول: من سكت سلم.
والبغبغان: وهي الدرة تقول: ويل لمن الدنيا همه.
والقمري: يقول: سبحان ربي العظيم المهيمن.
والباز: يقول: سبحان ربي العظيم وبحمده.
والعقاب: يقول: في البعد عن الناس أنس.
والديك: يقول: ذكروا الله يا غافلين.
والنسر: يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ أي أعطينا شيئا كثيرا. وكان له عليه السلام ألف بيت من قوارير على الخشب فيها ثلاثمائة منكوحة وسبعمائة سرية، وقد نسجت له الجن بساطا من ذهب وإبريسم فرسخا في فرسخ، وكان يوضع منصته في في وسطه، وهو من ذهب، فيقعد عليه وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة، فيقعد الأنبياء عليهم السلام على كراسي الذهب، والعلماء على كراسي الفضة، وحولهم الناس، وحول الناس الجن والشياطين، وحولهم الوحش، وتظله الطير بأجنحتها حتى لا تقع عليه الشمس، وترفع ريح الصبا البساط، فتسير به مسيرة شهر، فأوحى الله إليه وهو يسير بين السماء
إنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه، ثم قال لتسبيحة واحدة يقبلها الله تعالى خير مما أوتي آل داود إِنَّ هذا أي التعليم والإعطاء لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (١٦) أي الذي لا يخفى على أحد.
وقصده عليه السلام بذلك القول: الشكر والحمد، أي أقول هذا القول شكرا لا فخرا. وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ أي جمع له بقهر وإكراه بأيسر أمر عساكره مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) أي يمنعون من التقدم في السير حتى يجتمعوا ليكون مسيره عليه السلام مع جنوده على ترتيب.
وروي عن كعب الأحبار أنه قال: كان سليمان عليه السلام إذا ركب حمل أهله وخدمه وحشمه، وقد اتخذ مطابخ ومخابز فيها تنانير الحديد والقدور العظام تسع كل قدر عشرة من الإبل، فيطبخ الطباخون، ويخبز الخبازون. وهو بين السماء والأرض. واتخذ ميادين الدواب فتجري بين يديه والريح تهوي، فسار من إصطخر يريد اليمن فسلك على مدينة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فلما وصل إليها قال سليمان: هذه دار هجرة نبي يكون آخر الزمان، طوبى لمن آمن به وطوبى لمن اتبعه. ولما وصل مكة رأى حول البيت أصناما تعبد، فجاوزه سليمان، فبكى البيت، فأوحي إليه ما يبكيك؟ قال: يا رب أبكاني إن هذا نبي من أنبيائك ومعه قوم من أوليائك مروا عليّ ولم يصلوا عندي، والأصنام تعبد حولي فأوحى الله تعالى إليه: لا تبك فإني سوف أملأك وجوها سجدا، وأنزل فيك قرآنا جديدا، وأبعث منك نبيا في آخر الزمان أحب أنبيائي إلي، وأجعل فيك عمارا من خلقي يعبدونني، أفرض عليهم فريضة يحنون إليك حنين الناقة إلى ولدها، والحمامة إلى بيضها، وأطهرك من الأوثان وعبدة الشيطان. ثم ساروا حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ وهو واد بالشام كثير النمل: على ما قاله مقاتل وقتادة، وبالطائف: على ما قاله كعب وهو نمل صغار على المشهور. قالَتْ نَمْلَةٌ قولا مشتملا على حروف وأصوات، وكانت عرجاء، ذات جناحين، وهي من الحيوانات التي تدخل الجنة، فسمع سليمان كلامها من ثلاثة؟؟؟ أم محال ويقال لها: منذرة وقيل: اسمها حرميا. وقيل: ظاخية. وقيل: عيجلوف يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ أي جحركم لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١٨) أي لا تبرزوا فيدوسنكم سليمان وجنوده في حال كونهم لا يشعرون بدوسهم لكم لاشتغالهم بما هم فيه من أحوال السير، وكأنهم أرادوا النزول عند الوادي، لأنه دامت الريح تحملهم
في الهواء لا يخاف دوسهم فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها أي تعجبا من قول النملة بفصاحتها واهتدائها إلى تدبير مصالح بني نوعها، وسرورا بما آتاه الله من سمعه كلامها، وفهمه بمعناه وبشهرة حاله وحال جنوده في باب التقوى والشفقة فيما بين أنواع المخلوقات. وَقالَ سليمان: رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ أي
إذا كان المحب قليل حظ | فما حسناته إلا ذنوب |
روي أن سليمان عليه السلام لما فرغ من بناء بيت المقدس تجهز للحج فوافى الحرم وأقام به ما شاء، وكان ينحر في كل يوم طول مقامه فيه خمسة آلاف ناقة، وخمسة آلاف بقرة وعشرين ألف شاة، ثم عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكة صباحا فوافى صنعاء وقت الزوال، فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها فنزل بها ليتغدى ويصلي، فلم يجد الماء فتفقد الهدهد وكان حين اشتغل سليمان بالنزول ارتفع نحو السماء، فنزل إلى بستان بلقيس فإذا هو بهدهد آخر، وكان اسم هدهد سليمان: يعفور؟ وهدهد اليمن: عفير. فقال عفير ليعفور: من أين أقبلت؟ قال: أقبلت من الشام مع صاحبي سليمان بن داود. قال: ومن سليمان؟ قال: ملك الإنس والجن.
والشياطين. والطير. والوحش. والرياح. قال يعفور: ومن ملك هذه البلاد. قال عفير: امرأة يقال لها: بلقيس وإن لصاحبك ملكا عظيما ولكن ليس ملك بلقيس دونه، فإنها تملك اليمن وتحت يدها أربعمائة ملك كل ملك على كورة، مع كل ملك أربعة آلاف مقاتل، ولها ثلاثمائة وزير يدبرون ملكها، ولها اثنا عشر ألف قائد، مع كل قائد مائة ألف مقاتل. وذهب معه لينظر إلى بلقيس وملكها فما رجع يعفور إلا بعد العصر، فلما دخل العصر سأل سليمان الإنس والجن والشياطين عن الماء فلم يعلموه فتفقد الهدهد، فلم يره فدعا عريف الطير- وهو النسر- فسأله عن الهدهد فقال: أصلح الله الملك ما أدري أين هو وما أرسلته إلى مكان! فغضب سليمان عند ذلك
وقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ بسبب غيبته فيما لم آذن فيه عَذاباً شَدِيداً بنتف ريشه، فهذا عذاب
فقال الهدهد: أو ما استثنى نبي الله فقالوا: بلى إنه قال: أو ليأتيني بسلطان مبين فقال: نجوت إذا ثم طار العقاب والهدهد حتى أتيا سليمان وكان قاعدا على كرسيه. فقال العقاب: قد أتيتك به يا نبي الله. فَمَكَثَ أي الهدهد غَيْرَ بَعِيدٍ أي زمانا غير طويل حتى جاءه.
وقرأ عاصم بفتح الكاف. والباقون بضمها. فلما قرب منه الهدهد رفع رأسه وأرخى ذنبه وجناحيه يجرهما تواضعا لسليمان فلما دنا منه أخذ برأسه فمده إليه وقال له: أن كنت لأعذبنك عذابا شديدا؟ فقال: يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى. فلما سمع سليمان ذلك ارتعد وعفا عنه، ثم سأله فقال: ما الذي أبطأك عني؟ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ أي علمت ما لم تعلم أيها الملك، وبلغت إلى ما لم تبلغ، وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ.
وقرأ أبو عمرو والبزي بفتح الهمزة من غير تنوين، يراد به القبيلة والمدينة والأصل اسم للقبيلة، ثم سميت مدينة مأرب بسبإ، وبينها وبين صنعاء مسيرة ثلاثة أيام. والباقون بالجر والتنوين اسم للحي سموا باسم أبيهم الأكبر وهو سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. وعن ابن كثير في رواية سبأ بالألف بِنَبَإٍ يَقِينٍ (٢٢) أي بخبر حق عجيب. إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يقال لها: بلقيس بكسر الباء وهي بنت شراحيل بن مالك بن الريان. وأمها فارعة الجنية- كما أخرج عن زهير بن محمد- وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها، وورث الملك من أربعين أبا، ولم يكن له ولد غيرها، وكان يقول لملوك الأطراف: ليس أحد منكم كفؤا لي وأبى أن يتزوج منهم، فزوجوه بامرأة من الجن يقال لها: ريحانة بنت السكن. قيل في سبب وصوله إلى الجن:
إنه كان كثير الصيد فربما اصطاد من الجن وهم على صور الظباء، فيخلي عنهم، فظهر له ملك الجن، وشكره على ذلك واتخذه صديقا، فخطب ابنته فزوجه إياها. وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يحتاج إليه الملوك وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (٢٣) أي سرير حسن كبير، طوله ثمانون ذراعا، وعرضه أربعون ذارعا وارتفاعه ثلاثون ذراعا مصنوع من الذهب والفضة، مكلل بالجواهر، وكانت قوائمه من ياقوت أحمر وأخضر، ودر وزمرد، وعليه سبعة أبيات، على كل بيت باب مغلق وَجَدْتُها وَقَوْمَها أي لقيتهم مجوسا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي يعبدون الشمس
فالأحرف تنبيه واستفتاح، و «يا» بعدها حرف تنبيه أيضا، أو نداء. والمنادى محذوف تقديره:
يا هؤلاء اسجدوا، و «اسجدوا» فعل أمر، فكان حق الخط على هذه القراءة أن يكون «يا اسجدوا»، ولكن الصحابة أسقطوا ألف «يا»، وهمزة الوصل خطأ لما سقطا لفظا، ووصلوا الياء بسين «اسجدوا» فاتّحدت القراءتان لفظا وخطا، واختلفا تقديرا، وعلى هذه القراءة فالوقف على «يهتدون» تام، ولو وقف على «يا» بمعنى: ألا يا هؤلاء، ثم ابتدئ ب «اسجدوا» جاز بخلاف قراءة الباقين بإدغام النون في «لا»، فالوقف على «لا يهتدون» جائز.
وقرأ الأعمش «هلا» وهي حرف، وعبد الله بقلب الهمزة هاء. وقرأ أبي «ألا يسجدون أي لم لا يسجدون لله كما قاله ابن عباس. وعن عبد الله «هلا تسجدون» بمعنى «ألا تسجدون» على الخطاب، و «هلا» يحتمل أن يكون استئنافا من جهة الله تعالى، أو من سليمان عليه السلام.
قال أهل التحقيق: قوله: أَلَّا يَسْجُدُوا يجب أن يكون بمعنى الأمر، لأنه لو كان بمعنى المنع من السجود لم يكن معنى لوصفه تعالى باستحقاق السجود للاتصاف بكونه تعالى قادرا على إخراج الخبء عالما بكل شيء. الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ والجار المجرور متعلق بالخبء أي الذي يظهر المخفي فيهما من المطر والنبات، ومتعلق ب «يخرج» على أن فيه معنى «من» كما قاله الفراء وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (٢٥) من الأحوال فيجازيكم بها.
وقرأ الكسائي وحفص بالتاء الفوقية فتأويل قراءة حفص في «ألا يسجدوا» أنه خرج إلى خطاب الحاضرين بعد أن أتم قصة أهل سبأ والخطاب على قراءة الكسائي ظاهر. والباقون بالغيبة لتقدم ضمائر الغيبة في قوله: أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ فهم وهي غير ظاهرة. وقرئ «ألا تسجدون لله الذي يخرج الخبء من السماء والأرض، ويعلم
سركم وما تعلنون». اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٢٦) أي فعرش الله عظيم بالنسبة إلى جميع المخلوقات من السموات والأرض وما بنيهما. وقرئ «العظيم» بالرفع على أنه صفة الرب، ولما ذكر الهدهد قصة بلقيس لم يتغير سيدنا سليمان عليه السلام لذلك، ولم يستفزه الطمع لما سمع من ملكها كعادة الملوك في الطمع في ملك غيرهم، فلما ذكر الهدهد عبادة بلقيس وقومها غير الله، اغتاظ سيدنا سليمان وأخذته حمية الدين، وجعل يبحث عن تحقيق. قالَ سليمان للهدهد: سَنَنْظُرُ أي سنتعرف في مقالتك بالتجربة أَصَدَقْتَ فيه أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (٢٧) وفي هذا دليل على أن خبر الواحد لا يثبت العلم، وعلى أن الوالي يجب أن يقبل عذر من في صورة المجرمين إذا صدق في اعتقاده، اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ أي إلى من يعبدون الشمس ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ أي تنح إلى مكان
أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ف «أن» مفسرة، و «لا» ناهية، أي لا تتكبروا علي كما تفعل الملوك.
وقرأ ابن عباس «لا تغلوا» بالغين المعجمة أي لا تترفعوا علي ولا تمتنعوا من الإجابة وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣١) أي مؤمنين. قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أي أجيبوني في أمري الذي حزبني وذكرت لكم خلاصته، ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (٣٢) أي عادتي معكم أن لا أفعل أمرا من الأمور المتعلقة بالملك حتى أحضركم وأشاوركم قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ في الأجساد والآلات وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي شجاعة مفرطة وثبات في القتال وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ أي هو موكول إليك، فَانْظُرِي أي تأملي ماذا تَأْمُرِينَ (٣٣)، ونحن مطيعون لك فمري بنا بأمرك، ولما أحست منهم الميل إلى الحراب لم ترض به لمّا علمت أن من سخّر له الطير على هذا الوجه لا يعجزه شيء يريده. وذلك يدل دلالة بينة على رسالة مرسلها، بل مالت للصلح، ولذلك بينت السبب في رغبتها فيه. قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً من القرى على منهاج الحراب أَفْسَدُوها بتخريب عمارتها وإتلاف ما فيها من الأموال وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً بالقتل والأسر والإجلاء وغير ذلك من فنون الإهانة. وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (٣٤) وهذا من جملة كلامها ذكرته توكيدا لما وصفته من حال الملوك أي إن الذين أرسلوا الكتاب يفعلون مثل الذي تفعله الملوك، فإن ذلك عادتهم المستمرة. إِنِّي مُرْسِلَةٌ رسلا بِهَدِيَّةٍ عظيمة فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (٣٥).
روي أنها بعثت خمسمائة غلام عليهم ثياب الجواري، وحليهن الأساور والأطواق، والقرطة راكبي خيل مغشاة بالديباج، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع، وخمسمائة جارية على رماك في زي الغلمان، وألف لبنة من ذهب وفضة، وتاجا مكللا بالدر والياقوت المرتفع، وبعثت العود والمسك والعنبر، وحقا فيه درة عذراء، وجزعة معوجة الثقب. وبعثت
قال ابن عباس: لما رجعت رسل بلقيس إليها من عند سليمان وأخبروها الخبر قالت: قد عرفت والله ما هذا بملك ولا لنا به من طاقة وبعثت إلى سليمان أني قادمة إليك بملوك قومي حتى أنظر ما أمرك وما تدعو إليه من دينك، ثم أمرت بعرشها فجعل في آخر سبعة أبيات بعضها في داخل بعض، ثم غلقت عليه سبعة أبواب وجعلت عليها حراسا يحفظونه، ثم تجهزت للمسير، فارتحلت إلى سليمان في اثني عشر ألف ملك من ملوكها تحت كل ملك ألوف. فخرج سليمان يوما فجلس على سريره، فسمع رهجا قريبا منه فقال: ما هذا؟ قالوا: بلقيس وقد نزلت بهذا المكان- أي الذي على مسيرة فرسخ من سليمان عليه السلام- فأقبل سليمان على جنوده قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها فأراد سليمان أن يريها بعض ما خصه الله تعالى من إجراء العجائب على يده الدالة على عظيم قدرته تعالى، وعلى صدقه في نبوته، وكان سليمان إذ ذلك في بيت المقدس، وعرشها في سبأ بلدة باليمن وبينها وبين بيت المقدس مسيرة شهرين وأن يعرف مقدار مملكتها قبل وصولها إليه، لأن العرش سرير المملكة قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (٣٨) أي مؤمنين، فإنها إذا أسلمت لم يحل له أخذ مالها قالَ عِفْرِيتٌ أي قوي مِنَ الْجِنِّ- كان مثل الجبل يضع قدمه عند منتهى طرفه. وكان مسخرا لسليمان واسمه: ذكوان. وقيل: صخر. وقيل: كوزن- أَنَا آتِيكَ بِهِ وهو اسم الفاعل، أي أنا آت بعرشها قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ أي من مجلسك للقضاء وكان مجلس قضائه إلى انتصاف النهار وَإِنِّي عَلَيْهِ أي على الإتيان به لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (٣٩) أي لقوي على حمله، أمين على ما فيه من الجواهر واللؤلؤ والذهب والفضة. قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ المنزل على الأنبياء قبل سليمان كالتوراة.
قال ابن عباس وقتادة: هو آصف بن برخيا كاتب سليمان أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ.
قال ابن عباس: إن آصف قال لسليمان حين صلى: مد عينيك حتى ينتهي طرفك. فمد سليمان عينيه ونظر نحو اليمن، ودعا آصف، فبعث الله الملائكة، فحملوا السرير يجدون به تحت الأرض حتى نبع بين يدي سليمان قيل: كان الدعاء الذي دعا به يا حي يا قيوم- كما روي ذلك عن عائشة قال بعضهم: أراد سليمان أن يظهر كرامة أمته ليعلم أن في أمم الأنبياء أهل الكرامات لئلا ينكروا من كرامات الأولياء. وقال محمد بن المنكدر: إنما الذي عنده علم هو سليمان نفسه.
قال له: عالم من بني إسرائيل أنت النبي بن النبي، وليس أحد أوجه منك عند الله، فإن دعوت الله كان العرش عندك فقال: صدقت، ففعل ذلك، فجيء بالعرش في الوقت.
قالَ سليمان: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها أي غيروا سريرها من هيئة، فزيدوا فيه وانقضوا منه. وروي أنه جعل أعلاه أسفله وجعل مكان الجوهر الأخضر أحمر، وبالعكس، فأراد سليمان عليه السلام اختبار عقلها نَنْظُرْ بالجزم على أنه جواب الأمر.
وقرئ بالرفع على الاستئناف أي نعلم أَتَهْتَدِي أي أتعرف أن ذلك العرش عرشها أو أتعرف الجواب اللائق بالمقام أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (٤١) أي لا يعرفون ذلك فَلَمَّا جاءَتْ أي بلقيس سليمان: قِيلَ لها من جهة سليمان أَهكَذا عَرْشُكِ أي أمثل هذا عرشك الذي تركته في قصرك وأغلقت عليه الأبواب وجعلت عليه حراسا؟ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ أي كأن عرشي هو هذا.
وقال عكرمة: كانت حكيمة لم تقل: نعم، خوفا من أن تكذب، ولم تقل: لا، خوفا من التكذيب. فعرف سليمان كمال عقلها حيث لم تقر، ولم تنكر. ولو قيل لها: أهذا عرشك؟
لقالت: نعم، لمعرفتها للعرش وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها أي وأعطينا العلم بكمال قدرة الله تعالى وصحة نبوتك من قبل هذه المعجزة التي شاهدناها بما سمعناه من رسولنا المنذر من الآيات الدالة على ذلك وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (٤٢) من ذلك الوقت. وهذا من تتمة كلام بلقيس كأنها ظنت أن سليمان أراد بذلك اختبار عقلها وإظهار معجزة لها وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ. وهذا من كلام الله تعالى أي ومنع بلقيس عن إظهار الإسلام عبادتها القديمة للشمس ف «ما كانت تعبد» فاعل «صد»
أي البلاط المتخذ من زجاج.
روي أن سيدنا سليمان أمر الشياطين قبل قدوم بلقيس بأن يحفروا على طريقها حفيرة ويجعلوا سقفها زجاجا أبيض شفافا يضعوا فيها ماء وسمكا، وضفدعا وغير ذلك من حيوانات الماء وصار الماء، وما فيه من هذا الزجاج، فمن أراد مجاوزته يمر فوق السطح لذي تحته الماء ولا يمسه الماء، ومن لم يكن عالما بالحال يظن هذا ماء مكشوفا ليس له سقف يمنع من الخوض فيه، ووضع سيدنا سليمان عليه السلام سريره في صدر ذلك السطح، فجلس عليه.
قال وهب ومحمد بن كعب: والسبب في ذلك أن الجن قالوا لسيدنا سليمان: إن في عقل بلقيس شيئا وإن رجليها كرجلي حمار، وإنها شعراء الساقين. وغرضهم في ذلك تنفيره عن تزوجها لأنهم ظنوا أنه سيتزوجها، وكرهوا ذلك لأن أمها كانت جنية، فخافوا أن تفشي له أسرار الجن، ولأنهم خافوا أن يأتي له منها أولاد فيسخّرون الجن، فيدوم عليهم الاستخدام والذل، فأراد سليمان عليه سليمان أن يختبر عقلها بتنكير عرشها فإذا فيها ما يدل على كمال رزانة رأيها ورصانة فكرها، وأن ينظر إلى قدميها ببناء ذلك البلاط، لأنه أراد أن ينكحها ليعلم أن ما قالت الجن في حقها صدق أو كذب. لَمَّا رَأَتْهُ
أي رأت ذلك الصرح سِبَتْهُ لُجَّةً
أي ماء غمرا كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها
على عادة من أراد خوض الماء لأجل أن تصل إلى سليمان.
قال وهب بن منبه فلما رأت اللجة فزعت وظنت أنها قصد بها الغرق، وتعجبت من كون كرسيه على الماء، ورأت ما هالها، ولم يكن لها بد من امتثال الأمر، فرفعت ثيابها عن ساقيها، فرآهما فإذا هي أحسن النساء ساقا وقدما سليمة مما قالت الجن فيها، إلا أنها كانت كثيرة الشعر في ساقيها، فلما علم الحال صرف بصره عنهاالَ
عليه السلام حين رأى منها الدهشة والرعب: نَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ
أي إن الذي ظننته ماء سقف مملس من زجاج تحته ماء فلا تخافي واعبري عليه. الَتْ
بعد أن دعاها سليمان إلى الإسلام وقد رأت حال العرش والصرح: بِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي
بالثبات على الكفر فيما تقدم من الزمان. وقيل: بسوء ظني بسليمان أنه يغرقني في اللّجة أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ
أي ودخلت في دين الإسلام مصاحبة له في
(٤٤). قيل: لما أراد أن يتزوجها وكره شعر ساقيها أمر الشياطين أن يتخذوا النورة والحمام لأجل إزالته، فكانتا من يومئذ، فلما تزوجها سليمان أحبها حبا كثيرا حتى بقيت على نكاحه إلى أن مات عنها، ورزق منها بولد اسمه داود وأقرها على ملكها وأمر الجن، فبنوا لها بأرض اليمن ثلاثة قصور لم ير الناس مثلها ارتفاعا وحسنا، وكان يزورها في الشهر مرة ويقيم عندها ثلاثة أيام، وكان يبكر من الشام إلى اليمن ومن اليمن إلى الشام، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان، فسبحان من لا يزول ملكه، وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥)، أي فريق مؤمن، وفريق كافر فالذي آمنوا، لأنهم عرفوا صحة حجة صالح فيكونون خصماء لمن لم يقبلها. والاختصام في باب الدين حق وإبطال للتقليد. قالَ صالح للفرقة الكافرة: يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ أي لما توعد صالح للمكذبين بالعذاب فقالوا على وجه الاستهزاء: ائتنا بعذاب الله فعند ذلك قال صالح:
يا قوم قد أمكنكم التوصل إلى رحمة الله تعالى، فلماذا تعدلون عنه إلى استعجال عذابه؟ وكانوا لجهلهم يقولون: إن صدق إيعاد صالح بنزول العذاب تبنا حينئذ، فحينئذ يدفع الله العذاب عنا وإلا فنحن على ما كنا عليه، فخاطبهم صالح على حسب اعتقادهم وقال: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ أي هلا تطلبون غفران الله قبل نزول العذاب بتوحيد الله وبالتوبة من الشرك لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) ؟ بقبوله التوبة، فإن استعجال الخير أولى من استعجال الشر، وإن قبول التوبة لا يمكن عند نزول العذاب. قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ أي تشاء منا بك وبمن في دينك حيث تتابعت علينا الشدائد من القحط والاختلاف مذ اخترعتم دينكم. قالَ صالح: طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي السبب الذي منه يجيء شدتكم ورخاؤكم قدره تعالى إن شاء رزقكم وإن شاء حرمكم بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) بزينة الدنيا فلا تعرفون قدر نعم الله في حقكم.
وقال ابن عباس: أي أنتم تختبرون بالخير والشر. وقال محمد بن كعب: أي تعذبون وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ أي في الحجر تِسْعَةُ رَهْطٍ أي أشخاص. قال ابن عباس: أساميهم:
رعمي، ورعيم، وهرمي، وهريم، وداب، وصواب، ورباب، ومسطع، وقدار بن سالف- عاقر الناقة- وأسماؤهم عن وهب قد نظمهم بعضهم في بيتين فقال:
رباب وغنم والهذيل ومسطع | عمير سبيط عاصم وقدار |
وسمعان رهط الماكرين بصالح | إلا أن عدوان النفوس جوار |
جاءوا بالليل شاهرين سيوفهم وقد أرسل الله تعالى الملائكة ملء دار صالح فدمغوهم بالحجارة، يرون الأحجار ولا يرون راميا.
فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ بصالح أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) أي أنا أهلكنا التسعة بالحجارة، وأهلكنا قومهم أجمعين بصيحة جبريل عليه السلام. وقرأ الكوفيون «أنا دمرناهم» بفتح الهمزة إما بدل من «عاقبة» على أنه فاعل «كان»، و «كيف» حال، أي فتفكر في أي وجه حدث تدميرنا إياهم. إما خبر لمبتدأ محذوف، أي هي أي العاقبة تدميرنا إياهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً أي خالية ساقطة.
وقرأ عيسى بن عمر «خاوية» بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف بِما ظَلَمُوا أي ظلمهم بعبادتهم غير الله تعالى إِنَّ فِي ذلِكَ أي التدمير العجيب لَآيَةً أي لعبرة عظيمة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) أي يفهمون إشارات القرآن وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أي صالحا ومن معه من المؤمنين وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣) أي المعاصي. وقتل الناقة وهم أربعة آلاف، وخرج صالح بمن آمن معه إلى حضرموت، فلما دخلها مات صالح فسمى حضرموت، ثم بنوا مدينة- يقال لها: حاضوراء- وَلُوطاً منصوب بمضمر معطوف على أرسلنا في صدر قصة صالح، أي وأرسلنا لوطا إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ- ف «إذا» ظرف للإرسال لما فارق عمه إبراهيم عليه السلام-: أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ أي الفعلة المتناهية في السماجة وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤)، أي والحال أنكم تعلمون علما يقينا أنها قبيحة؟! أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً أي لأجل الشهوة فقط فهو كالبهائم ليس فيها قصد إعفاف ولا قصد ولد مِنْ دُونِ النِّساءِ! أي حال كونكم متجاوزين، النساء بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) أي بل أنتم قوم سفهاء ما جنون. فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ أي أخرجوا لوطا وابنتيه زعورا وريثا وزوجته المؤمنة مِنْ قَرْيَتِكُمْ سذوم إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) أي يتنزهون عن الأقذار- قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء- فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ المنافقة قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) أي قدرنا عليها أن تكون من الباقين في العذاب.
وروي أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم»
«١». أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي بل من خلقهما وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً أي وأنزل لأجل منفعتكم من السماء نوعا من الماء- هو المطر- فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ أي بساتين ذاتَ بَهْجَةٍ أي حسن يفرح به الناظر؟ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي ما كان لم مقدرة أن تنبتوا شجر البساتين أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ أي أإله آخر كائن مع الله الذي ذكر بعض شؤونه. وقرئ أإلها مع الله. أي أتعبدون إلها آخر من الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أي بل هم قوم عادتهم العدول عن طريق الحق والانحراف عن الاستقامة في كل أمر من الأمور. وقيل: قوم يماثلون بالله غيره
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً أي بل من جعل الأرض مسكنا فيستقر عليها الإنسان والدواب، وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً أي صيّر أوساطها أنهار جارية ينتفعون بها، وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ أي جبالا ثوابت تمنعها أن تميد بأهلها وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ أي العذب والمالح، حاجِزاً أي برزخا معنويا مانعا الممازجة أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في إبداع هذه البدائع؟ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) كمال قدرته تعالى وحكمته، واستغنائه عن الشريك. أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ أي بل من يجيب الذي أحوجه مرض، أو فقر، أو نازلة إلى التضرع إلى الله تعالى، وَيَكْشِفُ السُّوءَ، أي يدفع ما يحزن الإنسان مما يطرأ عليه وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ! أي متوارثين سكناها ممن قبلكم فتعمرون الدنيا وتزينونها بأنواع الصنائع والحرف أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ في فعل ذلك؟ قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ (٦٢).
قرأ أبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالخطاب، وعلى كل من القراءتين ف «الذال» مفتوحة مشددة لإدغام التاء فيها، و «ما» مزيدة، و «القلة» كناية عن العدم، أي أنكم ما تتعظون لا كثيرا ولا قليلا. أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ أي بل من يهديكم إلى مقاصدكم في ظلمات الليالي فيهما، أو مشتبهات الطرق فيهما؟ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ! أي قدام المطر.
قال بعضهم: وللغيب خمس مراتب.
أحدها: غيب أهل الأرض في الأرض وفي السماء، وللإنسان إمكان تحصيل علمه وهو على نوعين: الأول: ما غاب في الأرض الصورية وسمائها، فالغائب في الأرض مثل غيبة شخص عنك، أو غيبة أمر من الأمور فلك إمكان إحضار الشخص، والاطلاع على ذلك الأمر. والغائب في السماء مثل علم النجوم والهيئة، فلك إمكان تحصيله بالتعلم. والثاني: ما غاب في أرض المعنى وهي أرض النفس، فإن فيها مخبآت من الأوصاف والأخلاق فلك إمكان الوقوف عليها بطريق المجاهدة، والرياضة، والذكر، والفكر. وما غاب في سماء القلب فإن فيها مخبآت من العلوم والحكم والمعاني فلك إمكان الوصول إليه بالسير عن مقامات النفس في مقامات القلب.
وثانيها: غيب أهل الأرض في الأرض والسماء وليس للإنسان إمكان الوصول إليه بإرادة الله تعالى كما قال تعالى: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ.
وثالثها: غيب أهل السماء في السماء والأرض وليس لهم إمكان الوصول إليه إلا بتعظيم الله تعالى مثل الأسماء فإن الله تعالى كرم آدم بكرامة لم يكرم بها الملائكة، وذلك بتعليمه علم الأسماء كلها.
وخامسها: غيب انفرد الله بعلمه وهو قيام الساعة فلا يعلمه إلا الله تعالى كما قال تعالى:
وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) أي متى ينشرون من القبور. وقرئ بكسر الهمزة. بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. وقرأ أبو عمرو وابن كثير «بل أدرك» بسكون اللام وفتح الهمزة وسكون الدال على وزن «أكرم». والباقون بكسر اللام ووصل الهمزة وتشديد الدال وبعدها ألف، وأصله «تدارك» وبه قرأ أبيّ.
قال ابن عباس: أي بل اجتمع علمهم على أن الآخرة لا تكون، أي فلم يعتقدوها بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها أي من نفس الآخرة كمن تحير في أمر لا يجد عليه دليلا، بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦) أي لا يدركون دلائلها لاختلال بصائرهم والله تعالى وصف المشركين أولا بأنهم لا يشعرون وقت البعث، ثم وصفهم بأنهم لا يعلمون أن القيامة كائنة ثم وصفهم بأنهم يخبطون في شك، ثم وصفهم بأن قلوبهم عمي فهم كالبهائم لا يخطرون ببالهم حقا ولا باطلا ويستقر همهم على البطون والفروج. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكة: أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) أي أنخرج من القبور أحياء إذا صرنا رميما ترابا؟ لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي الإخراج من القبور كما كنا أول مرة نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ، أي من قبل مجيء وعد محمد إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) ! أي ما هذا الذي تعدنا يا محمد إلا أحاديث الأولين التي لا حقيقة لها. قُلْ يا أشرف الخلق لأهل مكة: سِيرُوا فِي الْأَرْضِ أي سافروا فيها أيها الجاهلون، فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) أي كيف كان آخر أمر المنكرين للبعث، المكذبين للرسل فيما دعوهم إليه من الإيمان بالله تعالى وباليوم الآخر، وهو هلاكهم بالعذاب الدنيوي، لأن في مشاهدة ذلك ما فيه كفاية لمن اعتبر وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ يا أكرم الرسل فيما مضى لإصرارهم على الكفر. وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) أي ولا تكن في ضيق قلب من مكرهم في المستقبل.
وقرأ ابن كثير بكسر الضاد.
وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ أي العذاب الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) في إخباركم بمجيء العذاب؟ قُلْ لهم يا سيد الرسل: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) ف «عسى ولعل، وسوف» بمنزلة الجزم في مواعيد الملوك، أي لا بد أن يكون بعض الذي تستعجلونه حلوله لحقكم، وهو عذاب يوم بدر واللام مزيدة وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ أي إنه متفضل عليهم بتأخير عقوبتهم على ما يفعلونه من المعاصي وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) بتأخير العذاب لأنهم لا يعرفون حق النعمة فيه وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ
أي ما تخفيه فليس تأخير العذاب لخفاء حالهم عليه تعالى. وقرأ ابن محيصن وابن السميقع، وحميد «تكن» بفتح التاء وضم الكاف، وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) من الأفعال والأقوال وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥) أي وما من خافية فيهما إلا في لوح محفوظ ظاهر لمن يطالعه من الملائكة. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ الذي تقرأ عليهم يا سيد الرسل يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي يبين لليهود والنصارى أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (٧٦) - كالتشبيه والتنزيه وشأن عزير والمسيح- وَإِنَّهُ أي القرآن لَهُدىً من الضلالة، وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (٧٧)، وذلك لأن بعض الناس لما تأمل القرآن فوجد فيه من الدلائل العقلية على التوحيد، والنبوة، والحشر، وبيان نعوت جلال الله تعالى. ووجد ما فيه من الشرائع مطابقة للعقول، ووجده مبرأ عن التناقض، ووجد القوى البشرية عاجزة عن جمع كتاب على هذا الوجه علم أنه ليس إلا من عند الله تعالى فكان القرآن معجزا من هذه الجهة، وكان هدى ورحمة من هذه الجهات. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ أي بين اليهود والنصارى، أي بين المصيب والمخطئ منهم بِحُكْمِهِ أي بالحق لأنه تعالى لا يحكم إلا بالعدل، أو بحكمته كما يدل عليه قراءة من قرأ «بحكمه» بكسر الحاء وفتح الكاف جمع حكمة. وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٧٨) أي هو القادر الذي لا يمنع فلا يرد حكمه، العالم بالحكم فلا يكون إلا الحق. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ أي ثق بالله الذي هذه أوصافه فإنها توجب على كل أحد أن يفوض جميع أموره إليه إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (٧٩) أي الدين الظاهر، فالمحق حقيق بنصرة الله تعالى، ثم قطع الله تعالى طمع سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلّم عن بني إسرائيل بتبيين أحوالهم أنهم لا يلتفتون إلى شيء من الدلائل، فإن قطع الطمع عنهم يقوي القلب على إظهار المخالفة وعلى إظهار الدين كما ينبغي فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٨٠) أي إنهم لفرط إعراضهم عما يدعون إليه كالميت لا سبيل إلى إسماعه، وكالأصم الذي لا يسمع برفع الصوت ولا يفهم بالإشارة.
وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ أي ما أنت بمرشد من أعماه الله عن الهدى، وأعمى قلبه عن الإيمان.
وقرأ ابن كثير «ولا يسمع الصم» بالتحتية وفتحها وبفتح الميم ورفع «الصم». وقرأ حمزة «تهدي العمي» بالمضارع المفيد للخطاب وبنصب «العمي» إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٨١) أي ما تسمع سماعا يجدي السامع إلا من هو في علم الله أنهم يصدقون بالقرآن، لأنهم منقادون للحق وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي وإذا ثبت نزول العذاب على الكفار وذلك إذا لم يأمروا بالمعروف ولم ينهوا عن المنكر وهو يكون بموت العلماء وذهاب العلم ورفع القرآن أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ من جبل الصفا بمكة- وهي فصيل ناقة صالح عليه السلام- فإنه لما عقرت أمه هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه، ثم انطبق عليه الحجر فهو فيه حتى يخرج بإذن الله تعالى في آخر الزمان. وعن علي رضي الله عنه: أنها تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (٨٢).
قرأ الكوفيون بفتح أن بتقدير الباء، كما يدل عليه قراءة عبد الله بن مسعود ب «أن» بتصريح الباء أي تحدثهم بأن الناس كانوا لا يوقنون بآيات الله تعالى الناطقة بمجيء الساعة ومباديها. وقرأ أبيّ «تنبئهم»، وإضافة الآيات إلى نون العظمة، لأنها حكاية من الله تعالى لمعنى قولها لا لعين عبارتها. وقرأ الباقون بكسر «إن» على الاستئناف، فعلى هذا فالوقف على تكلمهم تام وعليه أيضا يجوز أن يكون بمعنى تجرحهم مع إفادة معنى التكثير ويدل عليه قراءة ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، وابن زرعة، والجحدري «تكلمهم» بفتح التاء وسكون الكاف وضم اللام.
والمراد بالجرح: الوسم بالعصا والخاتم.
روي أن الدابة تخرج من الصفا ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان، فتضرب المؤمن بين عينيه بعصا موسى عليه السلام فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتى يضيء لها وجهه، وتكتب بين عينيه مؤمن، وتنكت الكافر بالخاتم في أنفه فتفشو النكتة حتى يسود لها وجهه وتكتب بين عينيه كافر، ثم تقول لهم: أنت يا فلان من أهل الجنة، وأنت يا فلان من أهل النار. وَيَوْمَ نَحْشُرُ للعذاب بعد الحشر الكلي الشامل لكافة الخلق مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (٨٣) أي واذكر لهم وقت جمعنا على وجه الإكراه من كل أمة من أمم الأنبياء جماعة كثيرة، مكذبين بكتابنا فهم يوقف أولهم حتى يجتمعوا في موقف التوبيخ والمناقشة، حَتَّى إِذا جاؤُ إلى موقف السؤال والجواب قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً؟ أي قال الله تعالى موبخا لهم على التكذيب: أكذبتم بآياتي الناطقة بلقاء يومكم هذا بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدي إلى العلم بحقيقتها، وأنها حقيقة بالتصديق حتما؟ أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨٤) ؟ أي بل أيّ شيء كنتم تعملون في الكفر؟ والمعنى: لم يكن لكم عمل غير الكفر.
وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أي نزل بهم العذاب الموعود وهو كبهم في النار بِما ظَلَمُوا أي بسبب تكذيبهم بآيات الله فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (٨٥) بحجة واعتذار أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً؟ أي ألم يتفكر أهل مكة ولم يعلموا أنا جعلنا الليل مظلما ليستريحوا فيه بالقرار والنوم والنهار مضيئا ليطلبوا فيه معايشهم، إِنَّ فِي ذلِكَ أي في جعل الليل والنهار كما ذكر لَآياتٍ أي دلالات ظاهرة على التوحيد والبعث والنبوة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٨٦) أما وجه دلالته على التوحيد، فلأن التقلب من النور إلى الظلمة وعكسه لا يحصل إلا بقدرة قاهرة عالية، وأما وجه دلالته على الحشر، فلأنه لما ثبت قدرة القادر على هذا التقليب ثبت قدرته على التقليب من الحياة إلى الموت مرة، ومن الموت إلى الحياة مرة أخرى. وأما وجه دلالته على النبوة فلأن هذا
قيل: هم الشهداء يتقلدون أسيافهم حول العرش، فإنهم أحياء عند ربهم لا يصل الفزع إليهم. وقيل: هم جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل عليهم السلام. وقيل: الحور وخزنة النار وحملة العرش. وقيل: منهم موسى عليه السلام لأنه صعق مرة. وقال القشيري: والأنبياء داخلون في الشهداء لأن لهم الشهادة. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (٨٧) أي كل واحد من المبعوثين عند النفخة حضروا الموقف للسؤال والجواب، والحساب ذليلين مطيعين.
وقرأ حفص وحمزة «أتوه» بصيغة الفعل الماضي وهو بقصر الهمزة وفتح التاء. والباقون بصيغة اسم الفاعل فهو بمد الهمزة وضم التاء. وقرئ «أتاه» باعتباره لفظ كل. وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي وتبصر الجبال وقت النفخة تظنها ثابتة في أماكنها. والحال أنها تمرمر السحاب التي تسيّرها الرياح سيرا سريعا، فسير الجبال يوم القيامة لا يرى لعظمها كما أن سير السحاب لا يرى لعظمه صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ أي صنع الله الذي أحسن خلقه، وأتى به على الحكمة ذلك النفخ في الصور وما تفرغ منه من الأمور صنعا و «صنع» منصوب على أنه مصدر مؤكد لمضمون ما قبله، أي فإن نفخ الصور المؤدي إلى الفزع العام وحضور الكل الموقف وما فعل بالجبال، إنما هو من صنع الله لا يحتمل غيره إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (٨٨) أي إنه تعالى عالم بما يعمله أهل السعادة والشقاوة من الخير والشر.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وهشام بالتحتية على الغيبة. والباقون بالفوقية على الخطاب مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها أي من جاء يوم القيامة بكلمة الشهادة فله من الجزاء ما هو خير منها، باعتبار أن الثواب دائم، وأنه من فعل الله، وأنه حاصل من جهة الله تعالى، فإن المعرفة النظرية الحاصلة في الدنيا جزاؤها المعرفة الضرورية الحاصلة في الآخرة، ولذة النطر إلى وجه الله تعالى وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (٨٩).
وقرأ الكوفيون «فزع» بالتنوين فحينئذ كان «يومئذ» ظرفا ل «آمنون»، أو المحذوف هو صفة ل «فزع» أي والذين جاءوا بالحسنات آمنون من فزع كائن، يوم إذ وقعت هذه الأحوال العظيمة، وعلى هذا فالفزع على نوعين فزع من خوف العقاب، وفزع شديد مفرط الشدة لخوف النار أما ما يلحق الإنسان من الرعب عند مشاهدة الأهوال فلا ينفك منه أحد. وقرأ الباقون بإضافة «فزع»، وقرأ نافع والكوفيون بفتح الميم من «يومئذ» وهو فتحة بناء لإضافة «يوم» المبني.
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يقول لأهل مكة تنبيها لهم على أنه قد أتم أمر الدعوة: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ وهي مكة الَّذِي حَرَّمَها أي جعلها حرما لا يسفك فيها دم إنسان، ولا يصاد صيدها، ولا يقطع حشيشها الرطب.
قرأ الجمهور «الذي» صفة ل «رب».
وقرأ ابن عباس وابن مسعود «التي» صفة ل «البلدة» وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ خلقا وتصرفا من غير أن يشاركه شيء في شيء من ذلك، وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٩١) أي بأن أثبت على ملة الإسلام، وبأن أكون من المنقادين لها. وهذا إشارة إلى أن المسلم الحقيقي من يستعمل الشريعة مثل استعمال النبي صلّى الله عليه وسلّم وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ أي أمرت أن أقرأ عليكم القرآن بطريق تكرير الدعوة، وأن أواظب على تلاوته لتنكشف لي حقائقه، فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي فمن اهتذى باتباعه إياي في العبادة والإسلام، وتلاوة القرآن فإنما منافع اهتدائه راجعة إليه لا إلي، وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (٩٢)، أي ومن ضل بمخالفتي فيما ذكر فقل في حقه: إنما أنا من المنذرين فلا علي شيء من وبال ضلاله. وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما أعطاني من نعمة العلم والنبوة.
وعلى ما وفقني من القيام بأداء الرسالة. سَيُرِيكُمْ آياتِهِ أي سيريكم الله تعالى في الدنيا آياته الباهرة- كخروج الدابة وسائر أشراط الساعة- فَتَعْرِفُونَها أي فتعرفون أنها آيات الله تعالى حين لا تنفعكم المعرفة، وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٣).
وقرأ نافع وابن عامر، وحفص بالتاء على الخطاب أي وما ربك بغافل عما تعلم أنت من الحسنات، وما تعملون أنتم أيها الكفرة من السيئات فيجازي كلا منكم بعمله. والباقون بالياء على الغيبة أن وما ربك بغافل عن أعمالهم فسيعذبهم فلا يحسبوا أن تأخير عذابهم لغفلته تعالى عن أعمالهم المسببة للعذاب.