تفسير سورة سورة العنكبوت من كتاب المحرر الوجيز فى تفسير الكتاب العزيز
المعروف بـتفسير ابن عطية
.
لمؤلفه
ابن عطية
.
المتوفي سنة 542 هـ
بسم الله الرحمن الرحيم
سورة العنكبوتهذه السورة مكية إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة وفي هذا الفصل اختلاف١ وهذا أصح ما قيل فيه.
١ خلاصة هذا الاختلاف أن الحسن وعكرمة وعطاء وجابر بن زيد يقولون: كلها مكية. وابن عباس في واحد من قولين له ومعه قتادة يقولان: كلاها مدنية، وفي قول آخر لابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات في أولها، فإنها نزلت بالمدينة في شأن من كان بمكة من المسلمين، وهو قول يحيى بن سلام. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: نزلت بين مكة والمدينة، وآياتها تسع وستون آية..
ﰡ
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة العنكبوتهذه السورة مكية. إلا الصدر منها العشر الآيات فإنها مدنية نزلت في شأن من كان من المسلمين بمكة، وفي هذا الفصل اختلاف وهذا أصح ما قيل فيه.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الم (١) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (٢) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (٣)تقدم القول في الحروف المقطعة في أوائل السور، وقرأ ورش «ألم احسب» بفتح الميم من غير همز بعدها وذلك على تخفيف الهمزة وإلقاء حركتها على الميم، وهذه الآية نزلت في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام، فكانت صدورهم تضيق لذلك، وربما استنكر أن يمكن الله الكفرة من المؤمنين قال مجاهد وغيره، فنزلت هذه الآية مسلية ومعلمة أن هذه هي سيرة الله تعالى في عباده اختبارا للمؤمنين وفتنة ليعلم الصادق ويري ثواب الله له ويعلم الكاذب ويري عقابه إياه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب وفي هذه الجماعة فهي بمعناها باقية في أمة محمد صلى الله عليه وسلم، موجود حكمها بقية الدهر، وذلك أن الفتنة من الله تعالى والاختبار باق في ثغور المسلمين بالأسر ونكاية العدو وغير ذلك، وإذا اعتبر أيضا كل موضع ففيه ذلك بالأمراض وأنواع المحن ولكن التي تشبه نازلة المؤمنين مع قريش هي ما ذكرناه من أمر العدو في كل ثغر، وقال عبد الله بن عبيد بن عمير: نزلت هذه الآية في عمار بن ياسر إذ كان يعذب في الله تعالى ونظرائه، وقال الشعبي: سبب الآية ما كلفه المؤمنون من الهجرة، فهي الفتنة التي لم يتركوا دونها، لا سيما وقد لحقهم بسببها أن اتبعهم الكفار وردوهم وقاتلوهم، فقتل من قتل ونجا من نجا، وقال السدي:
نزلت في مسلمين كانوا بمكة وكرهوا الجهاد والقتال حين فرض على النبي ﷺ في المدينة، و «حسب»، معناه ظن، وأَنْ نصب ب «حسب» وهي والجملة التي بعدها تسد مسد مفعولي «حسب» وأَنْ الثانية في موضع نصب على تقدير إسقاط حرف الخفض تقديره «بأن يقولوا»، ويحتمل أن يقدر «لأن يقولوا»، والمعنى في الباء واللام مختلف وذلك أنه في الباء كما تقول تركت زيدا بحاله،
وهي في اللام بمعنى من أجل أن حسبوا أن إيمانهم علة للترك، والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، يريد بهم المؤمنين مع الأنبياء في سالف الدهر، وقرأ الجمهور «فليعلمن» بفتح الياء واللام الثانية، ومعنى ذلك ليظهرن عليهم ويوجدن منهم ما علمه أزلا، وذلك أن علمه بذلك قديم وإنما هذه عبارة عن الإيجاد بالحالة التي تضمنها العلم القديم، والصدق والكذب على بابهما أي من صدق فعله قوله ومن كذبه ونظير هذا قول زهير:
[البسيط]
قال النقاش، قيل إن الإشارة ب صَدَقُوا هي إلى مهجع مولى عمر بن الخطاب لأنه أول قتيل قتل من المؤمنين يوم بدر، وقالت فرقة: إنما هي استعارة وإنما أراد بها الصلابة في الدين أو الاضطراب فيه وفي جهاد العدو ونحو هذا، وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه «فليعلمن» بضم الياء وكسر اللام، وهذه القراءة تحتمل ثلاثة معان أحدها أن يعلم في الآخرة هؤلاء الصادقين والكاذبين بمنازلهم من ثوابه وعقابه وبأعمالهم في الدنيا، بمعنى يوقفهم على ما كان منهم، والثاني أن يكون المفعول الأول محذوفا تقديره ليعلمن الناس أو العالم هؤلاء الصادقين والكاذبين، أي يفضحهم ويشهرهم، هؤلاء في الخير وهؤلاء في الشر، وذلك في الدنيا والآخرة، والثالث أي يكون ذلك من العلامة أي لكل طائفة علما تشهر به، فالآية على هذا ينظر إليها قول النبي ﷺ «من أسر سريرة ألبسه الله رداءها» وعلى كل معنى منها ففيها وعد للمؤمنين الصادقين ووعيد للكافرين، وقرأ الزهري الأولى كقراءة الجمهور والثانية كقراءة عليّ رضي الله عنه.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤ الى ٧]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
أَمْ معادلة للألف في قوله أَحَسِبَ [العنكبوت: ١] وكأنه عز وجل قرر الفريقين، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقاب الله ويعجزونه، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، وإن كان الكفار المراد الأول بحسب النازلة التي الكلام فيها فإن لفظ الآية يعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم، وقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ يجوز أن يكون ما بمعنى الذي فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير ساء حكما يحكمونه، وقال ابن كيسان: ما مع يَحْكُمُونَ في موضع المصدر كأنه قال: ساء حكمهم، وفي هذه الآية وعيد للكفرة الفاتنين، وتأنيس وعده بالنصر للمؤمنين
[البسيط]
ليث بعثّر يصطاد الرجال إذا | ما كذب الليث عن أقرانه صدقا |
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٤ الى ٧]
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (٤) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٥) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٦) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (٧)
أَمْ معادلة للألف في قوله أَحَسِبَ [العنكبوت: ١] وكأنه عز وجل قرر الفريقين، قرر المؤمنين على ظنهم أنهم لا يفتنون وقرر الكافرين الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ في تعذيب المؤمنين وغير ذلك على ظنهم أنهم يسبقون عقاب الله ويعجزونه، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، وإن كان الكفار المراد الأول بحسب النازلة التي الكلام فيها فإن لفظ الآية يعم كل عاص وعامل سيئة من المسلمين وغيرهم، وقوله ساءَ ما يَحْكُمُونَ يجوز أن يكون ما بمعنى الذي فهي في موضع رفع، ويجوز أن يكون في موضع نصب على تقدير ساء حكما يحكمونه، وقال ابن كيسان: ما مع يَحْكُمُونَ في موضع المصدر كأنه قال: ساء حكمهم، وفي هذه الآية وعيد للكفرة الفاتنين، وتأنيس وعده بالنصر للمؤمنين
المفتونين المغلوبين، ثم أخبر تعالى عن الحشر والرجوع إلى الله تعالى في القيامة بأنه آت إذ قد أجله الله تعالى وأخبر به، وفي قوله مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ، تثبيت، أي من كان على هذا الحق فليوقن بأنه آت وليتزيد بصيرة، وقال أبو عبيدة يَرْجُوا هاهنا بمعنى يخاف، والصحيح أن الرجاء هاهنا على بابه متمكنا، قال الزجاج: المعنى لقاء ثواب الله، وقوله تعالى: وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، معناه لأقوال كل فرقة، والْعَلِيمُ معناه بالمعتقدات التي لهم، وقوله تعالى: وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ، إعلام بأن كل واحد مجازى بفعله فهو إذا له، وهو حظه الذي ينبغي أن لا يفرط فيه فإن الله غني عن جهاده و «غني عن العالمين» بأسرهم، وهاتان الآيتان نبذ على سؤال الطائفة المرتابة المترددة في فتنة الكفار التي كانت تنكر أن ينال الكفار المؤمنين بمكروه وترتاب من أجل ذلك، فكأنهم قيل لهم من كان يؤمن بالبعث فإن الأمر حق في نفسه، والله تعالى بالمرصاد، أي هذه بصيرة لا ينبغي لأحد أن يعتقدها لوجه أحد، وكذلك من جاهد فثمرة جهاده له فلا يمن بذلك على أحد، وهذا كما يقول المناظر عند سوق حجته من أراد أن يرى الحق فإن الأمر كذا وكذا ونحو هذا فتأمله، وقيل: معنى الآية ومن جاهد المؤمنين ودفع في صدر الدين فإنما جهاده لنفسه لا لله فالله غني.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره المفسرون وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى رفع بهم عز وجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة ع و «السيئات»، الكفر وما اشتمل عليه ويدخل في ذلك المعاصي من المؤمنين مع الأعمال الصالحات واجتناب الكبائر، وفي قوله عز وجل وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ حذف مضاف تقديره ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١١]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ الآية، روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج هو في هجرته، ونزلت الآية، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وذلك أنه اعتراه في دينه نحو من هذا بعد أن خدعه أبو جهل ورده إلى أمه الحديث في كتاب السيرة، ولا مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا، لعظم الأمر
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ذكره المفسرون وهو ضعيف، وقوله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا الآية إخبار عن المؤمنين المهاجرين الذين هم في أعلى رتبة من البدار إلى الله تعالى رفع بهم عز وجل وبحالهم ليقيم نفوس المتخلفين عن الهجرة وهم الذين فتنهم الكفار إلى الحصول في هذه المرتبة ع و «السيئات»، الكفر وما اشتمل عليه ويدخل في ذلك المعاصي من المؤمنين مع الأعمال الصالحات واجتناب الكبائر، وفي قوله عز وجل وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ حذف مضاف تقديره ثواب أحسن الذي كانوا يعملون.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٨ الى ١١]
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٨) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (٩) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (١٠) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (١١)
قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ الآية، روي عن قتادة وغيره أنها نزلت في شأن سعد بن أبي وقاص، وذلك أنه هاجر فحلفت أمه أن لا تستظل بظل حتى يرجع إليها ويكفر بمحمد فلج هو في هجرته، ونزلت الآية، وقيل نزلت في عياش بن أبي ربيعة، وذلك أنه اعتراه في دينه نحو من هذا بعد أن خدعه أبو جهل ورده إلى أمه الحديث في كتاب السيرة، ولا مرية أنها نزلت فيمن كان من المؤمنين بمكة يشقى بجهاد أبويه في شأن الإسلام أو الهجرة فكان القصد بهذه الآية النهي عن طاعة الأبوين في مثل هذا، لعظم الأمر
307
وكثرة الخطر فيه مع الله تعالى، ثم إنه لما كان بر الوالدين وطاعتهما من الأمر الذي قررته الشريعة وأكدت فيه وكان من القوي عندهم الملتزم قدم الله تعالى النهي عن طاعتهما، وقوله وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً على معنى أنا لا نخلّ ببر الوالدين لكنا لا نسلطه على طاعة الله لا سيما في معنى الإيمان والكفر وقوله: حُسْناً يحتمل أن ينتصب على المفعول، وفي ذلك تجوز ويسهله كونه عاما لمعان، كما تقول وصيتك خيرا أو وصيتك شرا، عبر بذلك عن جملة ما قلت له، ويحسن ذلك دون حرف جر كون حرف الجر في قوله بِوالِدَيْهِ لأن المعنى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بالحسن في فعله، مع والديه، ونظير هذا قول الشاعر: [الرجز]
خيرا بها فكأننا جافونا ويحتمل أن يكون المفعول الثاني في قوله بِوالِدَيْهِ وينتصب حُسْناً بفعل مضمر تقديره يحسن حسنا، وينتصب انتصاب المصدر، والجمهور على ضم الحاء وسكون السين، وقرأ عيسى «حسنا» بفتحهما، وقال الجحدري في الإمام مكتوب «بوالديه إحسانا» قال أبو حاتم يعني «في الأحقاف»، وقال الثعلبي في مصحف أبي بن كعب «إحسانا»، ووجوه إعرابه كالذي تقدم في قراءة من قرأ «حسنا». وقوله تعالى: إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ وعيد في طاعة الوالدين في معنى الكفر، ثم كرر تعالى التمثيل بحالة المؤمنين العاملين، ليحرك النفوس إلى نيل مراتبهم، وقوله تعالى: لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ مبالغة على معنى في الذين هم في نهاية الصلاح وأبعد غاياته وإذا تحصل للمؤمنين هذا الحكم تحصل ثمره وجزاؤه وهو الجنة، وقوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ الآية إلى قوله الْمُنافِقِينَ نزلت في قوم من المسلمين كانوا بمكة مختفين بإسلامهم، قال ابن عباس: فلما خرج كفار قريش إلى بدر أخرجوا مع أنفسهم طائفة من هؤلاء فأصيب بعضهم فقال المسلمون كانوا أصحابنا وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧]، قال فكتبت لمن بقي بمكة بهذه الآية أي لا عذر لهم، فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم الفتنة وردوهم إلى مكة فنزلت فيهم هذه الآية، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ الآية، فكتب المسلمون إليهم بذلك فخرجوا ويئسوا من كل خير، ثم نزلت فيهم ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: ١١٠]، فكتب لهم بذلك أن الله قد جعل لكم مخرجا فخرجوا فلحقهم المشركون فقاتلوهم فنجا من نجا وقتل من قتل، وقال ابن زيد: نزل قوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ الآية في منافقين كفروا لما أوذوا، وقوله تعالى: جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ أي صعب عليه أذى الناس حين صده وكان حقه أن لا يلتفت إليه وأن يصبر له في جنب نجاته من عذاب الله، ثم أزال تعالى موضع تعلقهم ومغالطتهم أن جاء نصر، ثم قررهم على علم الله تعالى بما في صدورهم أي لو كان يقينا تاما وإسلاما خالصا لما توقفوا ساعة ولركبوا كل هول إلى هجرتهم ودار نبيهم وقوله تعالى: وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ، تفسيره على حد ما تقدم في نظيره، وهنا انتهى المدني في هذه السورة.
عجبت من دهماء إذ تشكونا | ومن أبي دهماء إذ يوصينا |
308
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
روي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة، وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش قالوا لأتباع النبي ﷺ ادخلوا في أمرنا وأقروا بآلهتنا واعبدوها معنا ونحن ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نتضمن لكم حمل خطاياكم فيما دعوناكم إليه إن كان في ذلك درك كما تزعمون، وقولهم وَلْنَحْمِلْ إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ولكنهم أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة وهذا نحو قال الشاعر [مدثار بن شيبان النمري] :
[الوافر]
ولكونه خبرا حسن تكذيبهم فيه، فأخبر الله عز وجل أن ذلك باطل وأنهم لو فعلوه لم ينحمل عن أحد من هؤلاء المغترين بهم شيء من خطاياه التي تختص به، وقرأ الجمهور «ولنحمل» بجزم اللام، وقرأ عيسى ونوح القاري «ولنحمل» بكسر اللام وقرأ داود بن أبي هند «من خطيهم» بفتح الطاء وكسر الياء وحكى عنه أبو عمرو أنه قرأ «من خطيئاتهم» بكسر الطاء وهمزة وتاء بعد الألف، وقال مجاهد: الحمل هو من الحمالة لا من الحمل على الظهر.
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم من كفرهم الذي يجترحونه ويتلبسون به، وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ يريد ما يلحقهم من إغوائهم لعامتهم وأتباعهم فأنه يلحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور، «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة» الحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهي وإن كانت من أَثْقالَهُمْ فلكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه فرق بينها وبين أَثْقالَهُمْ ولم ينسبها إلى غيرهم بل جعلها في رتبة أخرى فقط فهم فيها إنما يزرون بوزر أنفسهم، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي ﷺ «أنه يقتص للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه»، وقوله تعالى:
وَلَيُسْئَلُنَّ، يريد على جهة التوبيخ والتقريع لا على جهة الاستفهام والاستعلام، ويَفْتَرُونَ، معناه يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد لله تعالى وغير ذلك، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الآية
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٢ الى ١٥]
وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٢) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (١٣) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (١٤) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (١٥)
روي أن قائل هذه المقالة الوليد بن المغيرة، وقيل بل كانت شائعة من كفار قريش قالوا لأتباع النبي ﷺ ادخلوا في أمرنا وأقروا بآلهتنا واعبدوها معنا ونحن ليقيننا أنه لا بعث بعد الموت ولا رجوع نتضمن لكم حمل خطاياكم فيما دعوناكم إليه إن كان في ذلك درك كما تزعمون، وقولهم وَلْنَحْمِلْ إخبار أنهم يحملون خطاياهم على جهة التشبيه بالثقل ولكنهم أخرجوه في صيغة الأمر لأنها أوجب وأشد تأكيدا في نفس السامع من المجازاة وهذا نحو قال الشاعر [مدثار بن شيبان النمري] :
[الوافر]
فقلت ادعي وأدع فإن أندى | لصوت أن ينادي داعيان |
ثم أخبر تعالى عن أولئك الكفرة أنهم يحملون أثقالهم من كفرهم الذي يجترحونه ويتلبسون به، وأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ يريد ما يلحقهم من إغوائهم لعامتهم وأتباعهم فأنه يلحق كل داع إلى ضلالة كفل منها حسب الحديث المشهور، «أيما داع إلى هدى فاتبع عليه فله مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا وأيما داع دعا إلى ضلالة» الحديث.
قال القاضي أبو محمد: وهي وإن كانت من أَثْقالَهُمْ فلكونها بسبب غيرهم وعن غير كفر تلبسوه فرق بينها وبين أَثْقالَهُمْ ولم ينسبها إلى غيرهم بل جعلها في رتبة أخرى فقط فهم فيها إنما يزرون بوزر أنفسهم، وقد يترتب حمل أثقال الغير بما ورد عن النبي ﷺ «أنه يقتص للمظلوم بأن يعطى من حسنات ظالمه فإن لم يبق للظالم حسنة أخذ من سيئات المظلوم فطرحت عليه»، وقوله تعالى:
وَلَيُسْئَلُنَّ، يريد على جهة التوبيخ والتقريع لا على جهة الاستفهام والاستعلام، ويَفْتَرُونَ، معناه يختلقون من الكفر ودعوى الصاحبة والولد لله تعالى وغير ذلك، وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً الآية
قصة فيها تسلية لمحمد عليه السلام عما تضمنته الآيات قبلها من تعنت قومه وفتنتهم للمؤمنين وغير ذلك، وفيها وعيد لهم بتمثيل أمرهم بأمر قوم نوح، والواو في قوله وَلَقَدْ عاطفة جملة كلام على جملة، والقسم فيها بعيد، وقوله تعالى: أَرْسَلْنا، فَلَبِثَ، هذا العطف بالفاء يقتضي ظاهره أنه لبث هذه المدة رسولا يدعو، وقد يحتمل أن تكون المدة المذكورة مدة إقامته في قومه من لدن مولده إلى غرق قومه، وأما على التأويل الأول فاختلف في سنيه التي بعث عندها، فقيل أربعون، وقيل ثمانون، وقال عون بن أبي شداد:
ثلاثمائة وخمسون، وكذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير.
وقد روي أنه عمر بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاما وأنه عاش ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وقوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح، وقالت فرقة: هي الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو ظاهر الأمر لاتخاذه السفينة ولبعثه الطير يرتاد زوال الماء ولغير ذلك من الدلائل، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض، فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بأن لا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بأن لا يؤخذ بقتال غيرها ولا ببث العبادات فيهم، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة والناس حولها يعبدون الأوثان ولم يكن الناس يومئذ كثيرا بحكم القرب من آدم فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله كان قد بلغ الكل فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم، والطُّوفانُ العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت ومنه قول الشاعر:
فجاءهم طوفان موت جارف و «طوفان» وزنه فعلان بناء مبالغة من طاف يطوف إذا عم من كل جهة، ولكنه كثر استعماله في الماء خاصة وقوله تعالى: وَهُمْ ظالِمُونَ، يريد بالشرك، وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ قد تقدم في غير هذه السورة الاختلاف في عددهم، وهم بنوه وقوم آمنوا معه، والضمير في قوله وَجَعَلْناها يحتمل أن يعود على السَّفِينَةِ ويحتمل أن يعود على العقوبة، ويحتمل أن يعود على النجاة، والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، قال قتادة: أبقاها آية على الجودي.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)
يجوز أن يكون إِبْراهِيمَ معطوفا على «نوح»، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في «أنجيناه» [العنكبوت: ١٥]، ويجوز أن ينصبه فعل تقديره «واذكر إبراهيم». ، وهذه القصة أيضا تمثيل
ثلاثمائة وخمسون، وكذلك يحتمل أن تكون وفاته عليه السلام عند غرق قومه بعد ذلك بيسير.
وقد روي أنه عمر بعد ذلك ثلاثمائة وخمسين عاما وأنه عاش ألف سنة وستمائة وخمسين سنة، وقوله تعالى: فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ يقتضي أنه أخذ قومه فقط، وقد اختلف في ذلك فقالت فرقة: إنما غرق في الطوفان طائفة من الأرض وهي المختصة بقوم نوح، وقالت فرقة: هي الجمهور: إنما غرقت المعمورة كلها.
قال القاضي أبو محمد: وهذا هو ظاهر الأمر لاتخاذه السفينة ولبعثه الطير يرتاد زوال الماء ولغير ذلك من الدلائل، وبقي أن يعترض هذا بأن يقال كيف غرق الجميع والرسالة إلى البعض، فالوجه في ذلك أن يقال: إن اختصاص نبي بأمة ليس هو بأن لا يهدي غيرها ولا يدعوها إلى توحيد الله تعالى، وإنما هو بأن لا يؤخذ بقتال غيرها ولا ببث العبادات فيهم، لكن إذا كانت نبوة قائمة هذه المدة الطويلة والناس حولها يعبدون الأوثان ولم يكن الناس يومئذ كثيرا بحكم القرب من آدم فلا محالة أن دعاءه إلى توحيد الله كان قد بلغ الكل فنالهم الغرق لإعراضهم وتماديهم، والطُّوفانُ العظيم الطامي، ويقال ذلك لكل طام خرج عن العادة من ماء أو نار أو موت ومنه قول الشاعر:
فجاءهم طوفان موت جارف و «طوفان» وزنه فعلان بناء مبالغة من طاف يطوف إذا عم من كل جهة، ولكنه كثر استعماله في الماء خاصة وقوله تعالى: وَهُمْ ظالِمُونَ، يريد بالشرك، وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ قد تقدم في غير هذه السورة الاختلاف في عددهم، وهم بنوه وقوم آمنوا معه، والضمير في قوله وَجَعَلْناها يحتمل أن يعود على السَّفِينَةِ ويحتمل أن يعود على العقوبة، ويحتمل أن يعود على النجاة، والآية هنا العبرة على قدرة الله تعالى في شدة بطشه، قال قتادة: أبقاها آية على الجودي.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٦ الى ١٧]
وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٦) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (١٧)
يجوز أن يكون إِبْراهِيمَ معطوفا على «نوح»، ويجوز أن يكون معطوفا على الضمير في «أنجيناه» [العنكبوت: ١٥]، ويجوز أن ينصبه فعل تقديره «واذكر إبراهيم». ، وهذه القصة أيضا تمثيل
ﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
ﰑ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡ
ﰒ
ﮣﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖﯗﯘ
ﰓ
ﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢ
ﰔ
ﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯﯰﯱﯲﯳﯴﯵ
ﰕ
ﯷﯸﯹﯺﯻﯼﯽﯾﯿﰀﰁﰂﰃ
ﰖ
لقريش، وكان نمرود وأهل مدينته عبدة أصنام فدعاهم إبراهيم إلى توحيد الله تعالى وعبادته، ثم قرر لهم ما هم عليه من الضلال، وقرأ جمهور الناس، «تخلقون إفكا»، وقرأ ابن الزبير وفضيل «إفكا» على وزن فعل وهو مصدر كالكذب والضحك ونحوه، واختلف في معنى تَخْلُقُونَ فقال ابن عباس هو نحت الأصنام وخلقها. سماها إِفْكاً توسعا من حيث يفترون بها الإفك في أنها آلهة، وقال مجاهد: هو اختلاق الكذب في أمر الأوثان وغير ذلك، وقرأ عبد الرحمن السلمي وعون العقيلي وقتادة وابن أبي ليلى «وتخلّقون إفكا» بفتح الخاء وشد اللام وفتحها، و «الإفك» على هذه القراءة الكذب ثم وقفهم على جهة الاحتجاج عليهم بأمر تفهمه عامتهم وخاصتهم وهو أمر الرزق، فقرر أن الأصنام لا ترزق، وأمر بابتغاء الخير عند الله تعالى وخصص الرِّزْقَ لمكانته من الخلق فهو جزء يدل على جنسه كله، ويقال شكرت لك وشكرتك بمعنى واحد، ثم أخبرهم بالمعاد والحشر إليه.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
في قوله تعالى وَإِنْ تُكَذِّبُوا الآية وعيد، أي قد كذب غيركم وعذب وإنما على الرسول البلاغ، وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه «أو لم تروا» بالتاء، وقرأ الباقون «أو لم يروا» بالياء، الأولى على المخاطبة والثانية على الحكاية عن الغائب.
وقرأ الجمهور «يبدىء» وقرأ عيسى وأبو عمرو بخلاف والزهري «يبدأ» وهذه الإحالة على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور والحشر، ويحتمل أن يريد أَوَلَمْ يَرَوْا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعد الله الأجسام بعد الموت وهو تأويل قتادة، وقال الربيع ابن أنس: كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر حتى إلى التراب، وقال مقاتل الْخَلْقَ في هذه الآية الليل والنهار، ثم أمر تعالى نبيه، ويحتمل أن يكون إبراهيم، ويحتمل أن يكون محمدا، إن كان في قصة إبراهيم اعتراض بين كلامين بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرض والنظر في كل قطر وفي كل أمة قديما وحديثا، فإن ذلك يوجد أن لا خالق إلا الله تعالى ولا يبتدىء بالخلق سواه، ثم ساق على جهة الخبر أن الله تعالى يعيد وينشىء نشأة القيام من القبور، وقرأت فرقة «النشأة»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «النشاءة» على وزن الفعالة وهي قراءة الأعرج، وهذا كما تقول رأفة ورافة، وقرأ الباقون «النشأة» على وزن الفعلة، وقرأ الزهري «النشّة» بشين مشددة في جميع القرآن، والبعث من القبور يقوم دليل العقل على جوازه وأخبرت الشرائع وقوعه ووجوده.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ١٨ الى ٢٠]
وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٨) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (١٩) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
في قوله تعالى وَإِنْ تُكَذِّبُوا الآية وعيد، أي قد كذب غيركم وعذب وإنما على الرسول البلاغ، وكل أحد بعد ذلك مأخوذ بعمله، وقرأ حمزة والكسائي وعاصم بخلاف عنه «أو لم تروا» بالتاء، وقرأ الباقون «أو لم يروا» بالياء، الأولى على المخاطبة والثانية على الحكاية عن الغائب.
وقرأ الجمهور «يبدىء» وقرأ عيسى وأبو عمرو بخلاف والزهري «يبدأ» وهذه الإحالة على ما يظهر مع الأحيان من إحياء الأرض والنبات وإعادته ونحو ذلك مما هو دليل على البعث من القبور والحشر، ويحتمل أن يريد أَوَلَمْ يَرَوْا بالدلائل والنظر كيف يجوز أن يعد الله الأجسام بعد الموت وهو تأويل قتادة، وقال الربيع ابن أنس: كيف يبدأ خلق الإنسان ثم يعيده إلى أحوال أخر حتى إلى التراب، وقال مقاتل الْخَلْقَ في هذه الآية الليل والنهار، ثم أمر تعالى نبيه، ويحتمل أن يكون إبراهيم، ويحتمل أن يكون محمدا، إن كان في قصة إبراهيم اعتراض بين كلامين بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرض والنظر في كل قطر وفي كل أمة قديما وحديثا، فإن ذلك يوجد أن لا خالق إلا الله تعالى ولا يبتدىء بالخلق سواه، ثم ساق على جهة الخبر أن الله تعالى يعيد وينشىء نشأة القيام من القبور، وقرأت فرقة «النشأة»، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «النشاءة» على وزن الفعالة وهي قراءة الأعرج، وهذا كما تقول رأفة ورافة، وقرأ الباقون «النشأة» على وزن الفعلة، وقرأ الزهري «النشّة» بشين مشددة في جميع القرآن، والبعث من القبور يقوم دليل العقل على جوازه وأخبرت الشرائع وقوعه ووجوده.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢١ الى ٢٣]
يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (٢٢) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٣)
المعنى ييسر من يشاء لأعمال من حق عليه العذاب وييسر من يشاء لأعمال من سبقت له الرحمة فيتعلق الثواب والعقاب بالاكتساب المقترن بالاختراع الذي لله تعالى في أعمال العبد، ثم أخبر أن إليه المنقلب وأن البشر ليس بمعجز ولا مفلت فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ، ويحتمل أن يريد ب السَّماءِ الهواء علوا أي ليس للإنسان حيلة صعد أو نزل حكى نحوه الزهراوي ويحتمل أن يريد السَّماءِ المعروفة أي لستم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا ولو كنتم فِي السَّماءِ، وقال ابن زيد معناه ولا من في السماء معجز إن عصى ونظروه على هذا بقول حسان بن ثابت: [الوافر]
أمن يهجو رسول الله منا... ويمدحه وينصره سواء
والتأويل الأوسط أحسنها.
ونحوه قول الأعشى: [الطويل]
ولو كنت في جب ثمانين قامة... ولقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه... وتعلم أني لست عنك بمحرم
و «الولي» أخص من «النصير، وقرأ يحيى بن الحارث وابن القعقاع «ييسوا» من غير همز، قال قتادة ذم الله تعالى قوما هانوا عليه فقال أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم من قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ [العنكبوت: ١٩] إلى هذه الآية المستأنفة، يحتمل أن يكون خطابا لمحمد ويكون اعتراضا في قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم ومحاورة لقومه، وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
قرأ الجمهور «جواب» بالنصب، وقرأ الحسن «جواب» بالرفع، وكذلك قرأ سالم الأفطس، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم لما بين إبراهيم الحجج وأوضح أمر الدين رجعوا معه إلى الغلبة والقهر والغشم وعدوا عن طريق الاحتجاج حين لم يكن لهم قبل به فتأمروا في قتله أو تحريقه بالنار، وأنفذوا أمر تحريقه حسبما قد اقتص في غير هذا الموضع، «وأنجاه الله» تعالى من نارهم بأن جعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب
أمن يهجو رسول الله منا... ويمدحه وينصره سواء
والتأويل الأوسط أحسنها.
ونحوه قول الأعشى: [الطويل]
ولو كنت في جب ثمانين قامة... ولقيت أسباب السماء بسلم
ليعتورنك القول حتى تهزه... وتعلم أني لست عنك بمحرم
و «الولي» أخص من «النصير، وقرأ يحيى بن الحارث وابن القعقاع «ييسوا» من غير همز، قال قتادة ذم الله تعالى قوما هانوا عليه فقال أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي.
قال القاضي أبو محمد: وما تقدم من قوله تعالى أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ [العنكبوت: ١٩] إلى هذه الآية المستأنفة، يحتمل أن يكون خطابا لمحمد ويكون اعتراضا في قصة إبراهيم، ويحتمل أن يكون خطابا لإبراهيم ومحاورة لقومه، وعند آخر ذلك ذكر جواب قومه.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٢٤) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٥)
قرأ الجمهور «جواب» بالنصب، وقرأ الحسن «جواب» بالرفع، وكذلك قرأ سالم الأفطس، وأخبر الله تعالى عنهم أنهم لما بين إبراهيم الحجج وأوضح أمر الدين رجعوا معه إلى الغلبة والقهر والغشم وعدوا عن طريق الاحتجاج حين لم يكن لهم قبل به فتأمروا في قتله أو تحريقه بالنار، وأنفذوا أمر تحريقه حسبما قد اقتص في غير هذا الموضع، «وأنجاه الله» تعالى من نارهم بأن جعلها عليه بردا وسلاما، قال كعب
312
الأحبار: ولم تحرق النار إلا الحبل الذي أو ثقوه به، وجعل ذلك آية وعبرة ودليلا على وحدانيته لمن شرح صدره ويسره للإيمان أي هذا الصنف ينتفع بالآية والكفار هي عليهم عمى وإن كانت في نفسها آية للكل، ثم ذكر تعالى أن إبراهيم عليه السلام قررهم على أن اتخاذهم الأوثان والأنصاب إنما كان اتباعا من بعضهم لبعض وحفظا لموداتهم ومحباتهم الدنياوية، وأنهم يوم القيامة يجحد بعضهم بعضا ويتلاعنون لأن توادهم كان على غير تقوى، والأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، وقرأ عاصم في رواية الأعمش عن أبي بكر عنه «مودة» بالرفع «بينكم» بالنصب وهي قراءة الحسن وأبي حيوة.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي في رواية المفضل «مودة» بترك التنوين والرفع «بينكم» بالخفض، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية أبي زيد «مودة بينكم» بالتنوين والنصب ونصب «بين»، وقرأ حمزة «مودة» بالنصب وترك التنوين والإضافة إلى «بين»، فأما قراءتا الرفع في «مودة» فوجههما أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير عائد على الذي، وهذا الضمير هو مفعول أول ل اتَّخَذْتُمْ، وأَوْثاناً مفعول ثان، و «مودة» خبر «إن» في قراءة من نونها، وفي قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما» كافة ولا يكون في قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير ويكون قوله أَوْثاناً مفعولا لقوله اتَّخَذْتُمْ ثم يقتصر عليه، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه، كما يقدر قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [الأعراف: ١٥٢] أي إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف: ١٥٢]، ويكون قوله «مودة» خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في تسمية الأوثان «مودة» أو يكون ذلك على حذف مضاف، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما» كافة وعلى خلو اتَّخَذْتُمْ من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون نصب «المودة» على المفعول من أجله، ومن أضاف «المودة» إلى «البين» في القراءتين بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء، ومن نصب «بينكم» في قراءتي الرفع والنصب في «مودة» فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقا ب «مودة» وكذلك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف أيضا متعلق ب «مودة» وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز ذلك، تقول رأيت زيدا أمس في السوق ولا تقول رأيت زيدا أمس البارحة اللهم إلا أن يكون أحد الظرفين جزءا للآخر، رأيت زيدا أمس عشية، ويجوز أن ينتصب «بينكم» على أنه صفة ل «مودة»، فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة» ثابتة «بينكم»، وفي الظرف ضمير عائد على «مودة» لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه، وقوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في بَيْنِكُمْ بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة» وجاز تعلقها بها، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا في المفعول، فأما في الظرف والحال فيعمل، قال مكي: ويجوز أن يكون فِي الْحَياةِ صفة ثابتة ل «مودة» ويكون فيها مقدر مستقرة وفيها ضمير ثان عائد إلى «مودة» فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون قوله «مودة» في قراءة من نصب مفعولا ثانيا لقوله اتَّخَذْتُمْ ويكون في ذلك اتساع فتأمله، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة بينهم» بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم».
وقرأ أبو عمرو وابن كثير والكسائي في رواية المفضل «مودة» بترك التنوين والرفع «بينكم» بالخفض، وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية أبي بكر وأبو عمرو في رواية أبي زيد «مودة بينكم» بالتنوين والنصب ونصب «بين»، وقرأ حمزة «مودة» بالنصب وترك التنوين والإضافة إلى «بين»، فأما قراءتا الرفع في «مودة» فوجههما أن يكون «ما» بمعنى الذي وفي قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير عائد على الذي، وهذا الضمير هو مفعول أول ل اتَّخَذْتُمْ، وأَوْثاناً مفعول ثان، و «مودة» خبر «إن» في قراءة من نونها، وفي قراءة من لم ينونها ويجوز أن تكون «ما» كافة ولا يكون في قوله اتَّخَذْتُمْ ضمير ويكون قوله أَوْثاناً مفعولا لقوله اتَّخَذْتُمْ ثم يقتصر عليه، ويقدر الثاني آلهة أو نحوه، كما يقدر قوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ [الأعراف: ١٥٢] أي إلها سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ [الأعراف: ١٥٢]، ويكون قوله «مودة» خبر ابتداء تقديره هو مودة وفي هذه التأويلات مجاز واتساع في تسمية الأوثان «مودة» أو يكون ذلك على حذف مضاف، وأما من نصب مودة فعلى أن «ما» كافة وعلى خلو اتَّخَذْتُمْ من الضمير والاقتصار على المفعول الواحد كما تقدم ويكون نصب «المودة» على المفعول من أجله، ومن أضاف «المودة» إلى «البين» في القراءتين بالنصب والرفع تجوز في ذلك وأجرى الظرف مجرى الأسماء، ومن نصب «بينكم» في قراءتي الرفع والنصب في «مودة» فكذلك يحتمل أن ينتصب انتصاب الظروف ويكون معلقا ب «مودة» وكذلك فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف أيضا متعلق ب «مودة» وهو مصدر عمل في ظرفين من حيث افترقا بالمكان والزمان ولو كانا لواحد منهما لم يجز ذلك، تقول رأيت زيدا أمس في السوق ولا تقول رأيت زيدا أمس البارحة اللهم إلا أن يكون أحد الظرفين جزءا للآخر، رأيت زيدا أمس عشية، ويجوز أن ينتصب «بينكم» على أنه صفة ل «مودة»، فهنا محذوف مقدر تقديره «مودة» ثابتة «بينكم»، وفي الظرف ضمير عائد على «مودة» لما حذفت ثابتة استقر الضمير في الظرف نفسه، وقوله فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ظرف في موضع الحال من الضمير الكائن في بَيْنِكُمْ بعد حذف ثابتة فهذه الحال متعلقة ب «مودة» وجاز تعلقها بها، وهي قد وصفت لأن معنى الفعل فيها، وإن وصفت فلا يمتنع أن يعمل معنى الفعل إلا في المفعول، فأما في الظرف والحال فيعمل، قال مكي: ويجوز أن يكون فِي الْحَياةِ صفة ثابتة ل «مودة» ويكون فيها مقدر مستقرة وفيها ضمير ثان عائد إلى «مودة» فالتقدير على هذا مودة ثابتة بينكم مستقرة في الحياة الدنيا.
قال القاضي أبو محمد: ويصح أن يكون قوله «مودة» في قراءة من نصب مفعولا ثانيا لقوله اتَّخَذْتُمْ ويكون في ذلك اتساع فتأمله، وفي مصحف أبي بن كعب «مودة بينهم» بالهاء وفي مصحف ابن مسعود «إنما مودّة بينكم».
313
ﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐﮑﮒ
ﰙ
ﮔﮕﮖﮗﮘﮙﮚﮛﮜﮝﮞﮟﮠﮡﮢﮣﮤﮥﮦ
ﰚ
ﮨﮩﮪﮫﮬﮭﮮﮯﮰﮱﯓﯔﯕﯖ
ﰛ
ﯘﯙﯚﯛﯜﯝﯞﯟﯠﯡﯢﯣﯤﯥﯦﯧﯨﯩﯪﯫﯬﯭﯮﯯ
ﰜ
ﯱﯲﯳﯴﯵﯶ
ﰝ
ﭑﭒﭓﭔﭕﭖﭗﭘﭙﭚﭛﭜﭝﭞﭟﭠ
ﰞ
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨)
فَآمَنَ معناه فصدق وهو فعل يتعدى بالباء وباللام والقائل إِنِّي مُهاجِرٌ هو إبراهيم عليه السلام قاله قتادة والنخعي.
وقالت فرقة: هو لوط عليه السلام، ومما صح من القصص أن إبراهيم ولوطا هاجرا من قريتهما كوثا وهي في سواد الكوفة من أرض بابل إلى بلاد الشام فلسطين وغيرها، وقال ابن جريج: إلى حران، ثم أمرا بعد إلى الشام وفي هذه الهجرة كانت سارة في صحبة إبراهيم واعتراهما أمر الملك، والمهاجر، النازع عن الأمر وهو في عرف الشريعة من ترك وطنه رغبة في رضى الله تعالى، وقد ذهب بهذا الاسم أصحاب رسول الله ﷺ قبل الفتح، وقوله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مع الهجرة إليه، صفتان بليغتان يقتضي استحقاق التوكل عليه، وفي قوله إِلى رَبِّي، حذف مضاف كأنه يقول إلى رضى ربي أو نحو هذا، وإِسْحاقَ بن إبراهيم هو الذي بشر به في شيخه، وبشر ب يَعْقُوبَ من ورائه فهو ولد إسحاق، وَالْكِتابَ اسم الجنس أي جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وعيسى عليه السلام من ذريته، وقوله أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، يريد في حياته وبحيث أدرك ذلك وسر به، والأجر الذي آتاه الله هو العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح والثناء الحسن قاله مجاهد، وأن كل أمة تتولاه، قاله ابن جريج، والولد الذي قرت به العين بحسب طاعة الله، قاله الحسن ثم أخبر عنه أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضى الله وفازوا برحمته وكرامته العليا، وقوله تعالى وَلُوطاً نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطا، والْفاحِشَةَ إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١)
تقدم القول في القرآن في أَإِنَّكُمْ، واختلف الناس في قطع السبيل المشار إليه هاهنا، فقالت فرقة:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٦ الى ٢٨]
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨)
فَآمَنَ معناه فصدق وهو فعل يتعدى بالباء وباللام والقائل إِنِّي مُهاجِرٌ هو إبراهيم عليه السلام قاله قتادة والنخعي.
وقالت فرقة: هو لوط عليه السلام، ومما صح من القصص أن إبراهيم ولوطا هاجرا من قريتهما كوثا وهي في سواد الكوفة من أرض بابل إلى بلاد الشام فلسطين وغيرها، وقال ابن جريج: إلى حران، ثم أمرا بعد إلى الشام وفي هذه الهجرة كانت سارة في صحبة إبراهيم واعتراهما أمر الملك، والمهاجر، النازع عن الأمر وهو في عرف الشريعة من ترك وطنه رغبة في رضى الله تعالى، وقد ذهب بهذا الاسم أصحاب رسول الله ﷺ قبل الفتح، وقوله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مع الهجرة إليه، صفتان بليغتان يقتضي استحقاق التوكل عليه، وفي قوله إِلى رَبِّي، حذف مضاف كأنه يقول إلى رضى ربي أو نحو هذا، وإِسْحاقَ بن إبراهيم هو الذي بشر به في شيخه، وبشر ب يَعْقُوبَ من ورائه فهو ولد إسحاق، وَالْكِتابَ اسم الجنس أي جعل الله تعالى في ذرية إبراهيم جميع الكتب المنزلة التوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وعيسى عليه السلام من ذريته، وقوله أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا، يريد في حياته وبحيث أدرك ذلك وسر به، والأجر الذي آتاه الله هو العافية من النار ومن الملك الجائر والعمل الصالح والثناء الحسن قاله مجاهد، وأن كل أمة تتولاه، قاله ابن جريج، والولد الذي قرت به العين بحسب طاعة الله، قاله الحسن ثم أخبر عنه أنه في الآخرة في عداد الصالحين الذين نالوا رضى الله وفازوا برحمته وكرامته العليا، وقوله تعالى وَلُوطاً نصب بفعل مضمر تقديره واذكر لوطا، والْفاحِشَةَ إتيان الرجال في الأدبار وهي معصية ابتدعها قوم لوط.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٢٩ الى ٣١]
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١)
تقدم القول في القرآن في أَإِنَّكُمْ، واختلف الناس في قطع السبيل المشار إليه هاهنا، فقالت فرقة:
كان قطع الطريق بالسلب فاشيا فيهم، وقال ابن زيد: كانوا يقطعون الطرق على الناس لطلب الفاحشة فكانوا يخيفون، وقالت فرقة: بل أراد قطع سبيل النسل في ترك النساء وإتيان الرجال، وقالت فرقة: أراد أنهم لقبح الأحدوثة عنهم يقطعون سبل الناس عن قصدهم في التجارات وغيرها، و «النادي» المجلس الذي يجتمع فيه الناس وهو اسم جنس لأن الأندية في المدن كثيرة فكأنه قال وتأتون في اجتماعكم حيث اجتمعتم.
واختلف الناس في الْمُنْكَرَ، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هاني عن النبي ﷺ وكانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة، وقال مجاهد ومنصور: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا، وقال القاسم بن محمد:
منكرهم أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم، ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم، وقال مجاهد أيضا: كان أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والحذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد ﷺ فالتناهي واجب، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا ائْتِنا بالعذاب، أي أن ذلك لا يكون ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه، وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا، ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم، فبعث ملائكة لعذابهم ورجمهم بالحاصب فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بإسحاق ومبشرين بنصرة لوط على قومه، وكان لقاؤهم لإبراهيم على الصورة التي بينت في غير هذه الآية، فلفظة «البشرى» في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق ونصرة لوط، ولما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط فعارضهم بأمره حسبما يأتي.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
روي عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على المؤمنين فجادل الملائكة وقال لهم: أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أتتركونهم، قالوا ليس فيهم ذلك، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقال له الملائكة ليس فيهم عشرة ولا خمسة ولا ثلاثة ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً فراجعوه حينئذ بأنا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «لننجّينّه» بفتح النون الوسطى وشد الجيم و «منجّوك» بفتح النون وشد الجيم.
واختلف الناس في الْمُنْكَرَ، فقالت فرقة كانوا يحذفون الناس بالحصباء ويستخفون بالغريب والخاطر عليهم وروته أم هاني عن النبي ﷺ وكانت حلقهم مهملة لا يربطهم دين ولا مروءة، وقال مجاهد ومنصور: كانوا يأتون الرجال في مجالسهم وبعضهم يرى بعضا، وقال القاسم بن محمد:
منكرهم أنهم كانوا يتفاعلون في مجالسهم، ذكره الزهراوي، وقال ابن عباس كانوا يتضارطون ويتصافعون في مجالسهم، وقال مجاهد أيضا: كان أمرهم لعب الحمام وتطريف الأصابع بالحناء والصفير والحذف ونبذ الحياء في جميع أمورهم وقد توجد هذه الأمور في بعض عصاة أمة محمد ﷺ فالتناهي واجب، فلما وقفهم لوط على هذه القبائح رجعوا إلى التكذيب واللجاج فقالوا ائْتِنا بالعذاب، أي أن ذلك لا يكون ولا تقدر عليه، وهم لم يقولوا هذا إلا وهم مصممون على اعتقاد كذبه، وليس يصح في الفطرة أن يكون معاند يقول هذا، ثم استنصر لوط عليه السلام ربه عليهم، فبعث ملائكة لعذابهم ورجمهم بالحاصب فجاؤوا إبراهيم أولا مبشرين بإسحاق ومبشرين بنصرة لوط على قومه، وكان لقاؤهم لإبراهيم على الصورة التي بينت في غير هذه الآية، فلفظة «البشرى» في هذه الآية تتضمن أمر إسحاق ونصرة لوط، ولما أخبره بإهلاك القرية على ظلمهم أشفق إبراهيم على لوط فعارضهم بأمره حسبما يأتي.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٢ الى ٣٥]
قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥)
روي عن ابن عباس أن إبراهيم عليه السلام لما علم من قبل الملائكة أن قرية لوط تعذب أشفق على المؤمنين فجادل الملائكة وقال لهم: أرأيتم إن كان فيهم مائة بيت من المؤمنين أتتركونهم، قالوا ليس فيهم ذلك، فجعل ينحدر حتى انتهى إلى عشرة أبيات، فقال له الملائكة ليس فيهم عشرة ولا خمسة ولا ثلاثة ولا اثنان، فحينئذ قال إبراهيم إِنَّ فِيها لُوطاً فراجعوه حينئذ بأنا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها أي لا تخف أن يقع حيف على مؤمن، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر «لننجّينّه» بفتح النون الوسطى وشد الجيم و «منجّوك» بفتح النون وشد الجيم.
وقرأ حمزة والكسائي «لننجينه» بسكون النون وتخفيف الجيم، «ومنجوك»، بسكون النون وتخفيف الجيم، وقرأ ابن كثير وعاصم في رواية أبي بكر «لننجّينه» بالتشديد و «منجوك» بالتخفيف، وقرأت فرقة «لننجينه» بسكون النون الأخيرة من الكلمة وهذا إنما يجيء على أنه خفف النون المشددة وهو يريدها، وامرأة لوط هذه كانت كافرة تعين عليه وتنبه على أضيافه، و «الغابر» الباقي ومعناه مِنَ الْغابِرِينَ في العذاب، وقالت فرقة مِنَ الْغابِرِينَ أي ممن عمر وبقي من الناس وعسا في كفره، والضمير في بِهِمْ في الموضعين عائد على الأضياف الرسل، وذلك من تخوفه لقومه عليهم فلما أخبروه بما هم فيه فرج عنه، وقرأ عامة القراء «سيء» بكسر السين، وقرأ عيسى وطلحة بضمها، و «الرجز»، العذاب، وقوله: بِما كانُوا يَفْسُقُونَ، أي عذابهم بسبب فسقهم، وكذلك كل أمة عذبها الله، فإنما عذبها على الفسوق والمعصية لكن بأن يقترن ذلك بالكفر الذي يوجب عذاب الآخرة، وقرأ أبو حيوة والأعمش «يفسقون» بكسر السين، وقوله تعالى: وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها أي من خبرها وما بقي من أثرها، ف «من» لابتداء الغاية ويصح أن تكون للتبعيض على أن يريد ما ترك من بقايا بناء القرية ومنظرها، و «الآية» موضع العبرة وعلامة القدرة ومزدجر النفوس عن الوقوع في سخط الله تعالى، وقرأ جمهور القراء «منزلون» بتخفيف الزاي، وقرأ ابن عامر «منزّلون» بشد الزاي وهي قراءة الحسن وعاصم بخلاف عنهما، وقرأ الأعمش «إنا مرسلون» بدل مُنْزِلُونَ، وقرأ ابن محيصن «رجزا» بضم الراء.
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)
نصب شُعَيْباً بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا، فأمر شعيب بعبادة الله تعالى والإيمان بالبعث واليوم الآخر ومع الإيمان به يصح رجاؤه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى وخافوا، وتَعْثَوْا، معناه تفسدون، يقال عثا يعثو وعث يعث وعاث يعيث وعثى يعثي إذا فسد، وأهل مَدْيَنَ قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة، وقيل مَدْيَنَ اسم القبيلة وأصحاب الأيكة وغيرهم، وقيل هم بعضهم ومنهم وذلك أن معصيتهم في أمر الموازين والمكاييل كانت واحدة.
والرَّجْفَةُ ميد الأرض بهم وزلزلتها عليهم وتداعيها بهم وذلك نحو من الخسف، ومنه الإرجاف بالأخبار، و «الجثوم» في هذا الموضع تشبيه، أي كان همودهم على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر والحيوان، ومنه قول لبيد: [الكامل]
قوله عز وجل:
[سورة العنكبوت (٢٩) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨)
نصب شُعَيْباً بفعل مضمر يحسن مع إلى تقديره بعثنا أو أرسلنا، فأمر شعيب بعبادة الله تعالى والإيمان بالبعث واليوم الآخر ومع الإيمان به يصح رجاؤه، وذهب أبو عبيدة إلى أن المعنى وخافوا، وتَعْثَوْا، معناه تفسدون، يقال عثا يعثو وعث يعث وعاث يعيث وعثى يعثي إذا فسد، وأهل مَدْيَنَ قوم شعيب هذا على أنها اسم البلدة، وقيل مَدْيَنَ اسم القبيلة وأصحاب الأيكة وغيرهم، وقيل هم بعضهم ومنهم وذلك أن معصيتهم في أمر الموازين والمكاييل كانت واحدة.
والرَّجْفَةُ ميد الأرض بهم وزلزلتها عليهم وتداعيها بهم وذلك نحو من الخسف، ومنه الإرجاف بالأخبار، و «الجثوم» في هذا الموضع تشبيه، أي كان همودهم على الأرض كالجثوم الذي هو للطائر والحيوان، ومنه قول لبيد: [الكامل]