تفسير سورة لقمان

النهر الماد من البحر المحيط
تفسير سورة سورة لقمان من كتاب النهر الماد من البحر المحيط .
لمؤلفه أبو حيان الأندلسي . المتوفي سنة 745 هـ

﴿ بِسمِ ٱلله الرَّحْمٰنِ الرَّحِيـمِ * الۤـمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ٱلْحَكِيمِ ﴾ هذه السورة مكية قال ابن عباس: إلا ثلاث آيات أولهن ولو ان ما في الأرض وسبب نزولها أن قريشاً سألت عن قصة لقمان مع ابنه وعن بر والديه فنزلت * ومناسبتها لما قبلها أنه قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ ﴾[الروم: ٥٨] فأشار هنا إلى ذلك بقوله: ﴿ الۤـمۤ * تِلْكَ آيَاتُ ٱلْكِتَابِ ﴾ الخ وكان في آخر تلك ولئن جئتهم بآية وهنا وإذا تتلى عليه وتلك إشارة إلى البعيد فاحتمل أن يكون ذلك البعد غايته وعلو شأنه وآيات الكتاب أي القرآن أو اللوح المحفوظ. ولما ذكر من صفات القرآن الحكمة وأنه هدى ورحمة وان متبعه فائز ذكر حال من بدل بطلب الحكمة اللهو وذكر مبالغته في ارتكابه حتى جعله مشترياً له وباذلاً فيه رأس عقله وذكر علته وأنها الإِضلال عن طريق الله تعالى ونزلت هذه الآية في النضر بن الحارث كان يتجر إلى فارس ويشتري كتب الأعاجم فيحدث قريشاً بحديث رسم واسفندار يقول: أنا أحسن حديثاً ومن قوله: من يشتري موصولة بدأ أولاً بالحمل على اللفظ فأفرد في قوله: وإذا تتلى إلى آخر الضمائر وضمن هذه الآية ذم المشتري من وجوه التولي عن الحكمة ثم الاستكثار ثم عدم الالتفات إلى سماعها كأنه غافل عنها ثم الإِيغال في الإِعراض بكون أذنيه كان فيهما صمماً يصده عن السماع. و ﴿ كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا ﴾ حال من الضمير في مستكبراً أي مشبهاً حال من لم يسمعها لكونه لا يجعل لها بالاً ولا يلتفت إليها وكأن هي المخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشأن واجب الحذف وكان في أذنيه حال من لم يسمعها وانتصب.﴿ وَعْدَ ٱللَّهِ ﴾ على أنه مصدر مؤكد والعامل فيه محذوف تقديره وعد الله وحقاً منصوب بمحذوف تقديره أحق حقاً وكلاهما مؤكد لما قبلهما.﴿ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ ﴾ تقدم الكلام عليه والزوج الصنف ومعنى كريم مدحه بكرم جوهره ونفاسته وحسن منظره.﴿ هَـٰذَا خَلْقُ ٱللَّهِ ﴾ إشارة إلى ما ذكر من مخلوقاته وبخ بذلك الكفار وأظهر حجته عليهم والخلق بمعنى المخلوق كقولهم: درهم ضرب الأمير أي مضروبه.﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ ٱلْحِكْمَةَ ﴾ اختلف في لقمان هل كان حراً أم عبداً أم نبياً أم رجلاً صالحاً إختلافاً كثيراً مذكوراً في البحر والحكمة المنطق الذي يتعظ به ويتنبه وتتناقله الناس.﴿ أَنِ ٱشْكُرْ ﴾ هي المخففة من الثقيلة أو مفسرة ولنفسه أي ثواب الشكر لا يحصل إلا للشاكر وكفر من كفر لا يضره وحميد مستحق الحمد لذاته وصفاته * وإذ قال الناصب لأن أذكر محذوفة واختلف في إسم ابنه إختلافاً كثيراً.﴿ وَهُوَ يَعِظُهُ ﴾ جملة حالية قيل كان ابنه وامرأته كافرين فما زال يعظهما حتى أسلما والظاهر أن قوله:﴿ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴾ من كلام لقمان وقيل هو خبر من الله منقطع عن كلام لقمان متصل به في تأكيد المعنى وفي صحيح مسلم ما ظاهره أنه من كلام لقمان.﴿ وَوَصَّيْنَا ٱلإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ ﴾ هذه الآية إعتراض بين أثناء وصية لقمان وفيها تشديد وتوكيد لاتباع الولد والده وامتثال أمره في طاعة الله تعالى والصحيح أن هذه الآية وآية العنكبوت نزلتا في سعد بن أبي وقاص وعليه جماعة من المفسرين ولما خص الأم بالمشقات من الحمل والنفاس والرضاع والتربية نبه على السبب الموجب للإِيصاء بها ولذلك جاء في الحديث الأمر ببر الأم ثلاث مرات ثم ذكر الأب فجعل له مرة الربع من المبرة.﴿ وَهْناً عَلَىٰ وَهْنٍ ﴾ قال ابن عباس: شدة بعد شدة وخلقاً بعد خلق.﴿ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ ﴾ ومعناه فصاله في تمام عامين عبر عنه بنهايته وأجمعوا على اعتبار العامين في مدة الرضاع في باب الإِحكام والنفقات وأما في تحريم اللبن في الرضاع فخلاف مذكور في الفقه.﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ ﴾ تقدّم الكلام عليه في العنكبوت وانتصب معروفاً على أنه صفة لمصدر محذوف أي صحاباً أو مصاحباً معروفاً وعشرة جميلة وهو إطعامهما وكسوتهما وعدم جفائهما وانتهارهما وعيادتهما إذا مرضا ومواراتهما إذا ماتا.﴿ وَٱتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ﴾ أي رجع إلى الله تعالى وهو سبيل الرسول صلى الله عليه وسلم لا سبيلهما.﴿ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ أي مرجعك ومرجعهما فأجازي كلاً منكم بعمله ولما نهى لقمان ابنه عن الشرك نبه على قدرة الله تعالى وأنه لا يمكن أن يتأخر عن مقدوره شىء. فقال ﴿ يٰبُنَيَّ إِنَّهَآ إِن تَكُ ﴾ والظاهر ان الضمير في انها ضمير القصة وتك مضارع كان حذفت نونها وهي تامة ومثقال فاعل بتك وأنث الفعل لإِضافة الفاعل إلى مؤنث كما قالوا تواضعت سور المدينة.﴿ مِّنْ خَرْدَلٍ ﴾ في موضع الصفة لحبة فتكن معطوف على تك وهي تامة اسمها مضمر فيها أي فتكن هي والخبر في صخرة وبدأ أولاً بما يتعقله الإِنسان وهي كينونة الشىء في صخرة وهو ما صلب من الحجر وعسر إخراجه منها ثم اتبعه بالعالم العلوي وهو أغرب للسامع ثم أتبعه بما يكون مقر الأشياء للشاهد وهو الأرض * يأت بها الله جواب الشرط لما نهاه أولاً عن الشرك أمر بما يتوسل به إليه من الطاعات فبدأ بأشرفها وهو الصلاة ثم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ثم بالصبر على ما يصبه من المحن.﴿ إِنَّ ذَلِكَ ﴾ إشارة إلى ما تقدّم مما نهاه عنه وأمره به والعزم مصدر فاحتمل أن يكون يراد به المفعول أي من معزوم الأمور واحتمل أن يراد به الفاعل أي عازم الأمور كقوله: فإِذا عزم الأمر وقرىء:﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ ﴾ ولا تصاعر معناه لا تولهم شق وجهك كفعل المتكبر وأقبل على الناس بوجهك من غير تكبر ولا إعجاب.﴿ وَلاَ تَمْشِ ﴾ تقدم الكلام عليه في سبحان.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ﴾ تقدّم الكلام عليه في النساء.﴿ وَٱقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَٱغْضُضْ مِن صَوْتِكَ ﴾ لما نهاه عن الخلق الذميم أمره بالخلق الكريم وهو القصد في المشي بحيث لا يبطىء كما يفعل المتنامسون والمتعاجبون يتباطؤون في نقل خطواتهم المتنامس للرياء والمتعاجب للترفع ولا تسرع كما يفعل الخرق المشهور * والغض من الصوت التنقيص من رفعه وجهارته والغض رد طموح الشىء كالصوت والنظر والزمام وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت وتمدح به في الجاهلية والظاهر أن قوله:﴿ إِنَّ أَنكَرَ ٱلأَصْوَاتِ ﴾ من كلام لقمان لابنه تنفيراً له عن رفع الصوت وقيل هو من كلام الله تعالى ردّ الله به على المشركين الذين كانوا يتفاخرون بجهارة الصوت وقيل واقصد في مشيك إشارة إلى الأفعال واغضض من صوتك إشارة إلى الأقوال فنبه على التوسط في الأفعال وعلى الإِقلال من فضول الكلام.
﴿ أَلَمْ تَرَوْاْ أَنَّ ٱللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ﴾ تنبيه على الصفة الدالة على الصانع.﴿ وَمِنَ ٱلنَّاسِ ﴾ تقدم الكلام عليه.﴿ وَمَن يُسْلِمْ ﴾ تقدم أيضاً ولما ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم وأخبر بأن منتهى الأمور صائر إليه تعالى.﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي ٱلأَرْضِ ﴾ قالت اليهود ان الله أنزل التوراة على موسى عليه السلام وخلفها فينا ومعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: التوراة وما فيها من الأنباء قليل في علم الله تعالى فنزلت هذه الآية ولما ذكر تعالى كمال قدرته وعلمه ذكر ما يبطل استبعادهم للحشر إلا كنفس واحدة أي إلا كخلق نفس واحدة وبعثها. و ﴿ مِن شَجَرَةٍ ﴾ تبيين لما الموصولة له. و ﴿ أَقْلاَمٌ ﴾ خبر لأن وقرىء والبحر بالنصب على الاشتغال أو عطفاً على ما وبالرفع على الإِبتداء والجملة الحالية ما نفرت جواب لو.﴿ مِن بَعْدِهِ ﴾ أي من بعد نفاد ما فيه.﴿ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ﴾ لا يراد به الإِقتصار على هذا العدد بل جيء به للكثرة كقوله: المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء لا يراد به العدد بل ذلك إشارة إلى القلة والكثرة ولما كان لفظ سبعة ليس موضوعاً في الأصل للتكثير وإن كان مراداً به هنا التكثير جاء مميزاً بلفظ القلة وهو أبحر ولم يقل بحور وإن كان لا يراد به أيضاً إلا التكثير ليناسب بين اللفظين فكما تجوز في سبعة واستعمل للتكثير كذلك تجوز في أبحر واستعمل للتكثير وفي الكلام جملة محذوفة يدل عليها المعنى تقديره وكتب بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفدت والمعنى ولو أن أشجار الأرض أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله ما نفذت ونفذ الاقلام والمداد الذي في البحر وما يمده كما قال الله تعالى:﴿ قُل لَّوْ كَانَ ٱلْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي ﴾[الكهف: ١٠٩] الآية.﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلْلَّيْلَ فِي ٱلنَّهَارِ ﴾ جاء هنا إلى أجل ويدل على الانتهاء أي يبلغه وينتهي إليه وفي الزمر لأجل ويدل على الإِختصاص فجعل الجزي مختصاً بإِدراك أجل مسمى وجري الشمس مختص باجزاء السنة وجري القمر بأجزاء الشهر فكلا المعنيين مناسب لجريهما فلذلك عدى بهما.﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ ﴾ تقدم الكلام عليه وصبار شكور بنيتا مبالغة وفعال أبلغ لزيادة حروفه.﴿ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ ﴾ أي مؤمن يعرف حق الله تعالى في هذه النعم وختم هنا ببنيتي مبالغة وهما ختار وكفور فالصبار الشكور معترف بآيات الله تعالى والختار الكفور يجحد بها وتوازنت هذه الكلمات لفظاً ومعنىً أما لفظاً فظاهر وأما معنى فالختار هو الشديد الغدر والغدر لا يكون إلا من قلة الصبر لأن الصابر يفوض أمره إلى الله تعالى وأما الغدار فيعهد ويغدر فلا يصبر على العهد وأما الكفور فمقابلة معنى الشكور واضحة ولما ذكر تعالى الدلائل على وحدانيته والحشر من أول السورة أمر بالتقوى على سبيل الموعظة والتذكير بهذا اليوم العظيم.﴿ لاَّ يَجْزِي ﴾ لا يقضي ومنه قيل للمتقاضي المتجازى ولما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه بدأ به أولاً وأتى في الإِسناد إلى الواو بالفعل المقتضى للتجدد لأن شفقته متحددة على الولد في كل حال وأتى في الإِسناد إلى الولد باسم الفاعل لأنه يدل على الثبوت والثبوت يصدق بالمرة الواحدة والجملة من لا يجزي صفة ليوم والضمير محذوف أي فيه فإِما أن يحذف برمته وإما على التدريج حذف حرف الجر فتعدى الفعل إلى الضمير وهو منصوب فحذف.﴿ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ ٱلسَّاعَةِ ﴾ روي أن الحارث بن عمارة المحاربي قال: يا رسول الله أخبرني عن الساعة متى قيامها وإني قد ألقيت حباتي في الأرض وقد أبطأت عني السماء فمتى تمطر وأخبرني عن امرأتي فقد اشتملت على ما في بطنها أذكر أم أنثى وعلمت ما عملت أمس فما أعمل غداً وهذا مولدي قد عرفته فأين أموت فنزلت وفي الحديث" خمس لا يعلمهن إلا الله "وتلا هذه الآية وعلم مصدر أضيف إلى الساعة والمعنى علم تعيين وقتها وينزل الغيث في إبانه من غير تقدم ولا تأخير * ما في الأرحام من ذكر أم أنثى أم ناقص.﴿ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ﴾ برة أو فاجرة.﴿ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً ﴾ من خير أو شر وربما عزمت على أحدهما فعملت بضده.﴿ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ﴾ ربما أقامت بمكان ناوية أن لا تفارقه إلى أن تدفن به ثم تدفن بمكان لم يخطر لها ببال قط وأسند العلم لله تعالى والدراية للنفس من معنى الختل والحيلة ولذلك وصف الله تعالى بالعالم ولا يوصف بالداري وبأي متعلق بتموت والباء ظرفية أي من أي أرض فالجملة في موضع نصب بتدري ووقع الاخبار بأن الله تعالى استأثر بعلم هذه الخمس لأنها جواب لسائل سأل وهو سبحانه وتعالى مستأثر بعلم أشياء لا يحصيها إلا هو تعالى وتقدس.
Icon