ﰡ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١)الأصل إنّنا حذفت النون لاجتماع النونات. والنون والألف في «إنّا» في موضع نصب، وفي «فتحنا» في موضع رفع وعلامات المضمر تتّفق كثيرا إذا كانت متصلة، والفتح هاهنا فتح الحديبيّة. وقد توهّم قوم أنه فتح مكّة ممّن لا علم لهم بالآثار. وقد صحّ عن ابن عباس والبرآء وسهل بن حنيف أنّهم قالوا: هو فتح الحديبيّة وهو صحيح عن أنس بن مالك كما قرئ على أحمد بن شعيب عن عمرو بن علي قال: حدّثنا يحيى قال: حدّثنا شعبة قال: حدّثنا قتادة عن أنس بن مالك إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قال: الحديبية. وصحّ عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه قال عند منصرفه من الحديبيّة «لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها» ثمّ تلا إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) «١» الآية فإن قيل:
لم يكن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يحب الدنيا، فكيف قال في هذا الفضل العظيم الخطير أحبّ إليّ من الدنيا؟ وإنما تقول العرب: هذا في الشيء الجليل فيقولون: هو أسخى من حاتم طيّئ، والدنيا لا مقدار لها. وقد قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حين مرّ بشاة ميّتة «والله للدّنيا أهون على الله جلّ وعزّ من هذه على أهلها» «٢» ففي ذلك غير جواب منها أنّ المعنى لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا وما فيها لو كانت لي فأنفقتها في سبيل الله جلّ وعزّ. وقيل: خوطبوا بما يعرفون «فتحا» مصدر «مبينا» من نعته.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢]
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢)
لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ لام كي، والمعنى لأن. قال مجاهد ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ قبل النّبوة. وَما تَأَخَّرَ بعد النبوة، وقال الشعبي مثله إلّا أنه قال: إلى أن مات. وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ
(٢) أخرجه الترمذي في سننه- الزهد ٩/ ١٩٨، وابن ماجة في سننه رقم الحديث (٤١١٠).
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٣]
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)
وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ عطف. نَصْراً عَزِيزاً مصدر «عزيزا» من نعته.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ روى ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال:
السكينة الرحمة، قال محمد بن يزيد: السكينة فعيلة من السكون، ومن السكينة الحلم والوقار وترك ما لا يعني. وروى مالك بن أنس عن الزهري عن علي بن الحسين وبعضهم يقول عن الحسين رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه» «١»، ومن الرحمة الحديث أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قبّل الحسن بن علي رضي الله عنهما فقال له الأقرع بن حابس: إنّ لي لعشرة أولاد ما قبّلت واحدا منهم قطّ فقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «من لا يرحم لا يرحم» «٢». وفي بعض الحديث «أرأيت إن كان الله سبحانه قلع الرحمة من قلبك فما ذنبي» «٣». وفي ابن أبي طلحة عن ابن عباس لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ قال: بعث النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بشهادة أن لا إله إلا الله ثم زاد الصلاة ثمّ زاد الصيام ثم أكمل لهم دينهم.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٥ الى ٦]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ مفعولان خالِدِينَ على الحال وَيُكَفِّرَ عطف، كذا وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ نعت.
وقرأ مجاهد وأبو عمرو دائرة السوء «٤» بضم السين، وفتح السين، وإن كانت القراءة به أكثر فإنّ ضمّها فيما زعم الفراء في هذا أكثر. والسّوء اسم الفعل، والسّوء الشيء بعينه.
(٢) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/ ١٧٠.
(٣) أخرجه الحاكم في المستدرك ٣/ ١٧٠.
(٤) انظر تيسير الداني ١٦٣، ومعاني الفراء ٣/ ٦٥. [.....]
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٨]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨)حال مقدّرة.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٩]
لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ليؤمنوا «١» مردودة على هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ ليؤمنوا. والقراءة بالتاء على معنى قل لهم، وقيل إنّ المخاطبة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم مخاطبة لأمته، وَتُعَزِّرُوهُ على التكثير، ويقال عزره يعزره. قال الحسن والضحاك:
«وتعزّروه» أي تنصروه وتعظّموه. وَتُسَبِّحُوهُ أي تسبّحوا الله عزّ وجلّ. وقال قتادة:
«تعزّروه» تعظّموه وَتُوَقِّرُوهُ تسوّدوه وتشرّفوه، وتأوّله محمد بن يزيد على أنه للمبالغة قال: ومنه عزّر السلطان الإنسان أي بالغ في أدبه فيما دون الحدّ. قال أبو جعفر:
ورأيت علي بن سليمان يتأوّله بمعنى المنع، قال: فعزّرت الرجل الجليل منعت منه ونصرته، وعزّرت الرجل ضربته دون الحدّ. واشتقاقه منعته من أن يعود إلى ما ضربته من أجله.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ اسم «إنّ» ويجوز أن يكون الخبر إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ ويجوز أن يكون الخبر يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وقرأ ابن أبي إسحاق وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ «٢» جاء به على الأصل ويجوز فسنؤتيه أجرا عظيما كالأول، فسنؤتيه بإثبات الواو في الإدراج، ويجوز فسنؤتيهي بإثبات الياء في الإدراج تبدل من الواو ياء. حكى هذا كلّه سيبويه وغيره.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١١]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ ويجوز إدغام اللام وإن كان فيه جمع بين ساكنين لأن الأول منهما حرف مدّ ولين، ولا يجوز الإدغام في فَاسْتَغْفِرْ لَنا عند الخليل وسيبويه لأن في الراء تكريرا فإن أدغمتها في اللام ذهب التكرير. يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ جمع على أنّ اللسان مذكّر ومن أنّثه قال: ألسن. قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا هذه قراءة أكثر القراء، وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي
(٢) انظر كتاب السبعة لابن مجاهد ٦٠٣.
ففرّق بينهما جماعة من أصحاب الغريب منهم أبو عبيد فقال: الضّرّ: ضدّ النفع والضرّ: البؤس كما قال: أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ [الأنبياء: ٨٣] فعلى هذا يجب أن يكون الضرّ هنا أولى ولكن حكى النحويّون أنّ ضرّه ضرّا وضرّا جائز مثل شرب شربا وشربا.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٢ الى ١٤]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)
وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً يقال: إنّ البور في لغة أزد عمان الفاسد، وحكى الفراء: أن البور في كلام العرب لا شيء، وأنه يقال: أصبحت أعمالهم بورا أي لا شيء.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٥ الى ١٦]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ وقرأ يحيى بن وثاب والأعمش وحمزة والكسائي كلم الله «٢» جمع كلمة، وقول سيبويه «هذا باب علم ما الكلم من العربيّة» يريد به جمع كلمة يريد ثلاثة أنحاء من الكلام اسما وفعلا وحرفا. والكلام اسم للجنس، وقد أجاز بعض النحويين أن يكون الكلام بمعنى التكليم، وأجاز: سمعت كلام زيد عمرا. قال أبو جعفر: وحقيقة الفرق بين الكلام والتكليم أن الكلام قد يسمع بغير متكلّم به، والتكليم لا يسمع إلّا من متكلّم به. قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ وهو قوله جلّ وعزّ: وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التوبة: ٨٣] ثم قال جلّ ثناؤه بعد هذا قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يقال: كيف تدعون إلى القتال، وقد قال وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا وردّ عليهم قولهم ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ؟ فالجواب عن هذا أنه إنما قال: لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا وهؤلاء لم يدعوا في وقت النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدلك على ذلك أنّ بعده. وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ ويعضد هذا الجواب جماعة الحجّة أن أبا بكر وعمر رحمهما الله هما اللذان دعيا الأعراب إلى القتال، كما قال ابن عباس في قوله جلّ وعزّ: سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ قال: إلى بني حنيفة أصحاب مسيلمة، قال: ويقال إلى فارس
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٣.
أو نموت فنعذرا
«٢»
[سورة الفتح (٤٨) : آية ١٧]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ أصل الحرج في اللغة الضيق. وعن ابن عباس: أن هذا في الجهاد، وأنه كان في وقعة الحديبية فيمن تخلّف عنها.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ١٨ الى ١٩]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قال جابر كنا ألفا وأربع مائة بايعنا على أن لا نفرّ. وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً أكثر أهل التفسير على أنه خيبر كانت لأهل الحديبية، وقيل: هو فتح الحديبية. قال الزهري: وكان فتحا عظيما.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٠]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ فأهل التفسير على أنها خيبر وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ عن ابن عباس والحسن قال: هو عيينة بن حصن الفزاري وقومه وعوف بن مالك النضري ومن معه جاءوا لينصروا أهل خيبر، ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم محاصر لهم فألقى في قلوبهم الرعب قال جلّ وعزّ: وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وقيل: المعنى: ولتكون المغانم آية أي دلالة على صدق النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإخباره بالغيب.
(٢) مرّ الشاهد رقم ١٤٨.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢١]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)وَأُخْرى في موضع نصب أي وعدكم أخرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أي علم أنها ستكون.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٢]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢)
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ عن ابن عباس والحسن أيضا أنه في عيينة وعوف.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٣]
سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
سُنَّةَ اللَّهِ مصدر لأن معنى لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ سنّ الله عزّ وجلّ ذلك. قال أبو إسحاق: ويجوز «سنّة الله» بالرفع أي تلك سنة الله.
[سورة الفتح (٤٨) : الآيات ٢٤ الى ٢٥]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ رويت فيه روايات فمن أحسنها أنه في يوم فتح مكّة كفّ الله جلّ وعزّ أيدي الكفار بالرعب الذي ألقاه في قلوبهم وكفّ أيدي المؤمنين بأنه لم يأمرهم بقتالهم يدلّ على هذا قوله عزّ وجلّ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ولم تنصرف مكة لأنها معرفة اسم للمؤنث ثم بيّن جلّ وعزّ أنه لم يترك أمرهم بقتالهم لأنهم مؤمنون وأخبر أنّهم كفار فقال: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ معطوف على الكاف والميم وصدّوا الهدي مَعْكُوفاً على الحال. أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ «أن» في موضع نصب أي عن أن يبلغ محلّه ثم بيّن جلّ وعزّ لم لم يأمرهم بقتالهم فقال: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «أن» في موضع رفع بدل والمعنى ولولا أن تطئوهم أي تقتلوهم بالوطء، وقيل: لأذن لكم في دخول مكة ولكنه حال بينكم وبين ذلك لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ من أهل مكة بالوطء، وقيل: المعنى أنّ الله سبحانه علم أنّ هؤلاء الكفّار من يسلم ومن يولد له من يسلم فلم يأمر بقتلهم ويقال: إنّ على هذا نهى الله جلّ وعزّ عن قتل أهل الكتاب إذا أدّوا الجزية قال الله جلّ وعزّ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ. فأما معنى فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ فقيل لئلا يقتل المسلمون خطأ فتؤخذ الديات وقيل: معرّة أي عيب فيقال: لم يتقوا إذ قتلوا أهل دينهم قال الله سبحانه: لَوْ تَزَيَّلُوا
أي لو انمازوا لأمرناكم أن تعذبوهم بالقتل.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٦]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ روي عن ابن عباس قال: هم المشركون صدّوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدي أن يبلغ محلّه فأما حقيقة الحميّة في اللغة فهي الأنفة والإنكار فإن كانت لما يجب فهي حسنة ويقال فاعلها حامي الذمار، كما قال: [الكامل] ٤٢٩-
حامي الذّمار على محافظة | الجليّ أمين مغيّب الصّدر |
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ ثم بيّن الرؤيا بقوله عزّ وجلّ: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ وتكلّم العلماء في معنى «إن شاء الله» هنا لأن الاستثناء لا يكون في البشارة فيكون فيه فائدة إنما الاستثناء من المخلوقين لأنهم لا يعرفون عواقب الأمور فقيل الاستثناء من امنين.
وقيل: إنما حكي ما كان من الرؤيا وقيل خوطب الناس بما يعرفون ومن حسن ما فيه
وغودر البقل ملويّ ومحصود
«٢»
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قيل: بالحجج والبراهين، وقيل: لا بد أن يكون هذا، وقيل: وقد كان لأن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بعث والأديان أربعة فقهرت كلّها في وقته، وفي خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما. وفي علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أن المعنى ليظهره على أمر الدّين كلّه أي ليبينه له.
قال أبو جعفر: هذا من أحسن ما قيل في الآية لأنه لا معارضة فيه.
[سورة الفتح (٤٨) : آية ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ مبتدأ وخبره وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ مثله. وروى قرّة عن الحسن أنه قرأ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ «٣» بالنصب على الحال وخبر «الذين» «تراهم»، ويجوز أن يكون الذين في موضع نصب بإضمار فعل يفسّره تراهم. رُكَّعاً سُجَّداً على الحال. سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ أي علامتهم.
وأصحّ ما قيل فيه أنّهم يوم القيامة يعرفون بالنور الّذي في وجوههم. وفي الحديث «تأتي أمتي غرّا محجّلين» «٤» ذلِكَ مَثَلُهُمْ مبتدأ وخبره فِي التَّوْراةِ تمام الكلام على
(٢) مرّ الشاهد رقم (٣٨٤).
(٣) انظر البحر المحيط ٨/ ١٠٠، ومختصر ابن خالويه ١٤٢.
(٤) أخرجه مالك في الموطأ باب- الحديث ٢٨، وابن ماجة في سننه- الطهارة باب ٦ الحديث (٢٨٣).
(٢) انظر تيسير الداني ١٦٤.