تفسير سورة الحديد

التفسير القيم
تفسير سورة سورة الحديد من كتاب التفسير القيم .
لمؤلفه ابن القيم . المتوفي سنة 751 هـ

﴿ رهبانية ﴾ منصوب ب ﴿ ابتدعوها ﴾ على الاشتغال، إما بنفس الفعل المذكور، على قول الكوفيين. وإما بمقدر محذوف، مفسر بهذا المذكور، على قول البصريين. أي : وابتدعوا رهبانية، وليس منصوبا بوقوع الجعل عليه.
فالوقف التام عند قوله :﴿ ورحمة ﴾ ثم يبتدئ ﴿ ورهبانية ابتدعوها ﴾ أي : لم نشرعها لهم، ولم نكتبها عليهم، بل هم ابتدعوها من عند أنفسهم.
وفي نصب قوله :﴿ إلا ابتغاء رضوان الله ﴾ ثلاثة أوجه :
أحدها : أنه مفعول له، أي لم نكتبها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله. وهذا فاسد. فإنه لم يكتبها عليهم سبحانه. كيف وقد أخبر أنهم هم ابتدعوها ؟ فهي مبتدعة غير مكتوبة. وأيضا : فإن المفعول لأجله يجب أن يكون علة لفعل الفاعل المذكور معه فيتحد السبب والغاية. نحو : قمت إكراما. فالقائم هو المكرم، وفعل الفاعل المعلل هاهنا : هو الكتابة، و﴿ ابتغاء رضوان الله ﴾ : فعلهم لا فعل الله. فلا يصلح أن يكون علة لفعل الله. لاختلاف الفاعل.
وقيل : بدل من مفعول ﴿ كتبناها ﴾ أي : ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.
وهو فاسد أيضا، إذ ليس ابتغاء رضوان الله عين الرهبانية. فتكون بدل الشيء من الشيء، ولا بعضها، فتكون بدل بعض من كل، ولا أحدهما مشتمل على الآخر، فيكون بدل اشتمال. وليس ببدل غلط.
فالصواب : أنه منصوب نصب الاستثناء المنقطع، أي : لم يفعلوها ولم يبتدعوها إلا لطلب رضوان الله.
ودل على هذا قوله :﴿ ابتدعوها ﴾ ثم ذكر الحامل لهم والباعث على ابتداع هذه الرهبانية، وأنه هو طلب رضوان الله، ثم ذمهم بترك رعايتها، إذ من التزم لله شيئا لم يلزمه الله إياه من أنواع القرب، لزمه رعايته وإقامته، حتى ألزم كثير من الفقهاء من شرع في طاعة مستحبة بإتمامها، وجعلوا التزامها بالشروع، كالتزامها بالنذر، كما قال : أبو حنيفة ومالك وأحمد في إحدى الروايتين عنه. وهو إجماع، أو كالإجماع في أحد النسكين.
قالوا : والالتزام بالشروع أقوى من الالتزام بالقول. فكما يجب عليه رعاية ما التزمه بالنذر وفاء، يجب عليه رعاية ما التزمه بالفعل إتماما. وليس هذا موضع استقصاء هذه المسألة.
والقصد : أن الله سبحانه وتعالى ذم من لم يرع قربة ابتدعها لله تعالى حق رعايتها. فكيف بمن لم يرع قربة شرعها الله لعباده، وأذن بها، وحث عليها ؟
وفي قوله :﴿ تمشون به ﴾ إعلام بأن تصرفهم، وتقلبهم الذي ينفعهم : إنما هو بالنور، وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم. ولا نافع لهم، بل ضرره أكثر من نفعه.
وفيه : أن أهل النور هم أهل المشي في الناس، ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع. فلا مشي لقلوبهم، ولا لأحوالهم، ولا لأقوالهم، ولا لأقدامهم إلى الطاعات. وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم.
وفي قوله :﴿ تمشون به ﴾ نكتة بديعة، وهي : أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم، كما يمشون بها بين الناس في الدنيا. ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه.
Icon