﴿الر﴾ فخم الراء ابن كثير ونافع وحفص عن عاصم، وأمالها ورش عن نافع بين بين، والباقون بالإمالة المحضة، والأصل في ذلك الفتح، وكذا ما كان من أمثالها مما ألفاتها ليست منقلبة عن ياء نحو ما ولا، وإمالتها للتنبيه على أنها أسماء للحروف وليست حروفاً - نقل ذلك عن الواحدي.
لما قدم في أول الأعراف الحث على إبلاغ النصيحة بهذا الكتاب وفرغ مما اقتضاه السياق من التحذير من مثل وقائع الأولين ومصارع الماضين ومما استتبع ذلك من توصيل القول قي ترجمة هذا النبي الكريم مع قومه في أول أمره وأثنائه وآخر في سورتي الأنفال وبراءة، وختم ذلك بأن سور الكتاب تزيد كل أحد مما هو ملائم له متهيىء
62
لقبوله وتبعده عما هو منافر له بعيد من قبول ملاءمته. وأن الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بذلك قد حوى من الأوصاف والحلي والأخلاق العلى ما يوجب الإقبال عليه والإسراع إليه. والإخبار بأن توليهم عنه لا يضره شيئاً لأن ربه كافيه لأنه لامثل له وأنه ذو العرش العظيم؛ لما كان ذلك كذلك، أعاد سبحانه القول في شأن الكتاب الذي افتتح به الأعراف وختم سورة التوبة، وزاده وصف الحكمه وأشار بأداة البعد إلى أن رتبته فيها بعيدة المنال بديعة المثال فقال:
﴿تلك﴾ أي الآيات العظيمة جداً التي اشتملت عليها هذه السورة، أو السور التي تقدمت هذه السورة أو هذه الحروف المقطعة المشيرة إلى أن القرآن كلام الله وإلا لما أعجز القادرين على التلفظ بهذه الأحرف
﴿آيات الكتاب﴾ أي الذكر الجامع لكل خير، وهو هذا القرآن الذي وافق كل ما فيه من القصص كل ما في التوارة والإنجيل من ذلك، فدل ذلك على صدق الآتي به قطعاً لأنه لم يكن يعرف شيئاً مما في الكاتبين ولا جالس أحداً يعلمه
﴿الحكيم*﴾ فكان فيما مضى - أن كونه من عند الله كاف في وجوب اتباعه - وفيما هنا تأكيد الوجوب بكونه مع ذلك حكيماً والآية: العلامة التي تنبىء عن مقطع الكلام من جهة مخصوصة، والحكيم: الناطق بالحكمة. وهي المعروف بما يجتمع عليه مما يمنع الفعل من الفساد
63
والنقص، استعير له ذلك لأنه دليل كالناطق بالحكمة لأنه يؤدي إلى المعرفة التي يميز بها طريق النجاة من طريق الهلاك، وهو حاكم يبين الحق من الباطل في الأصول والفروع ويحكم بالعدل الذي لا جور فيه بوجه في كل نازلة، ومحكم لما أتى به، مانع له من الفساد، لا يمحوه الماء ولا تحرقه النار ولا تغيره الدهور، وهذا ما ظهر لي في التحامها بما قبلها؛ وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تضمنت سورة براءة قوله تعالى
﴿إلا تنصروه فقد نصره الله﴾ [براءة: ٤٠] وقوله
﴿عفا الله عنك لما أذنت لهم﴾ [براءة: ٤٣] وقوله
﴿ورحمة للذين آمنوا منكم والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم﴾ [براءة: ٦١] وقوله:
﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم﴾ [براءة: ١٢٨] إلى آخر السورة إلى ما تخلل أثناء آي هذه السورة الكريمة مما شهد لرسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بتخصيصه بمزايا السبق والقرب والاختصاص والملاطفة في الخطاب ووصفه بالرأفة والرحمة، هذا ما انطوت هي والأنفال عليه من قهره أعداءه وتأييده ونصره عليهم وظهوره دينه وعلو دعوته وإعلاء كلمته إلى غير هذا من نعم الله سبحانه عليه، وكان ذلك كله مظنة لتعجب المرتاب وتوقف الشاك ومثيراً لتحرك ساكن الحسد من العدو العظيم ما منحه عيه السلام، قال تعالى
﴿أكان للناس عجباً أن أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس﴾ إلى قوله:
64
﴿لسحر مبين﴾ ثم قال
﴿إن ربكم الله﴾ الآيات، فبين انفراده تعالى بالربوبية والخلق والاختراع والتدبير، فكيف تعترض أفعاله أو يطلع البشر على وجه الحكمة في كل ما يفعله ويبديه، وإذا كان الكل ملكه وخلقه فيفعل في ملكه ما يشاء ويحكم في خلقه بما يريد
﴿ذلكم الله ربكم فاعبدوه﴾ ﴿ما خلق الله ذلك إلا بالحق﴾ ثم توعد سبحانه الغافلين عن التفكر في عظيم آياته حتى أدتهم الغفلة إلى مرتكب سلفهم في العجب والإنكار حتى قالوا
﴿مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق﴾ [الفرقان: ٧] وقالوا
﴿لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا﴾ [الفرقان: ٢١] وهذه مقالات الأمم المتقدمة
﴿قالوا ما أنتم إلا بشر مثلنا﴾ [يس: ١٥]
﴿قالوا أنؤمن لبشرين مثلنا﴾ [المؤمنون: ٤٧]
﴿ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد آباؤكم﴾ [سبأ: ٤٣] فقال تعالى متوعداً للغافلين
﴿إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا﴾، ثم وعد المعتبرين فقال
﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم﴾، وكل هذا بيّن الالتحام جليل الالتئام، تناسجت آي السور - انتهى.
ولما كان كونه من عند الله مع كونه حكيماً - موجباً لقبوله بادىء بدء والسرور به لما تقرر في العقول وجبلت عليه الفطر من أنه تعالى
65
الخالق الرازق كاشف الضر ومدبر الأمر، كان ذلك موضع أن يقال: ما كان حال من تلي عليهم؟ فقيل: لم يؤمنوا، فقيل: ماشبهتهم؟ هل قدروا على معارضته والطعن في حكمته؟ فقيل: لا! بل تعجبوا من إنزاله على محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وليس بأكثرهم مالاً ولا بأقدمهم سناً، فرجع حاصل تعجبهم إلى ما قاله تعالى إنكاراً عليهم. فإنه لو أرسل ذا سن قالوا مثل ذلك، وهل مثل ذلك محل العجب!
﴿أكان﴾ أي بوجه من الوجوه
﴿للناس عجباً﴾ أي الذين فيهم أهلية التحرك إلى المعالي، والعجب: تغير النفس بما لا يعرف سببه مما خرج عن العادة؛ ثم ذكر الحامل على العجب وهو اسم
«كان» فقال بعد ما حصل لهم شوق إليه:
﴿أن أوحينا﴾ أي ألقينا أوامرنا بما لنا من العظمة بواسطة رسلنا في خفاء منهين
﴿إلى رجل﴾ أي هو في غاية الرجولية، وهو مع ذلك
﴿منهم﴾ بحيث إنهم يعرفون جميع أمره كما فعلنا بمن قبلهم والملك العظيم المُلك المالك التام الملك لا اعتراض عليه فيما به تظهر خصوصيته من إعلاء من شاء.
ولما كان في الإيحاء معنى القول، فسره بقوله
﴿أن أنذر الناس﴾ أي عامة، وهم الذين تقدم نداءهم أول البقرة، ما أمامهم من البعث وغيره إن لم يؤمنوا أصلاً أو إيماناً خالصاً ينفي كل معصية صغيرة أو كبيرة وكل هفوة جليلة أو حقيرة على اختلاف الرتب وتباين المقامات
﴿وبشر﴾ أي خص
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا
66
الوصف وعملوا تصديقاً لدعواهم له الصالحات، أي من الأعمال اللسانية وغيرها، بالبشارة بقبول حسناتهم وتكفير سيئاتهم والتجاوز عن هفواتهم وترفع درجاتهم كما كان إرسال الرسل قبله وكما هو مقتضى العدل في إثابة الطائع الطائع وعتاب العاصي، والإنذار: الإعلام بما ينبغي أن يحذر منه، والتبشير: التعريف بما فيه السرور، واضاف القدم - الذي هو السابقة بالطاعة - إلى الصدق في قوله تعالى موصلاً لفعل البشارة إلى المبشر به دون حرف جر:
﴿أن لهم﴾ أي خاصة
﴿قدم صدق﴾ أي أعمالاً حقة ثابته قدموها لأنفسهم صدقوا فيها وأخلصوا فيما يسّروا له لأنهم خلقوا له وكان مما يسعى إليه بالأقدام، وزاد في البشارة بقوله:
﴿عند ربهم﴾ ففي إضافة القدم تنبيه على أنه يجب أن يخلص له الطاعة كإخلاص الصدق من شوائب الكذب، وفي التعبير بصفة الإحسان إشارة إلى المضاعفة.
ولما ثبت أن الرسول وما أرسل به على وفق العادة، انتفى أن يكون عجباً من هذه الجهة، فصار المحل قابلاً لأن يتعجب منهم فيقال: ما قالوا حين أظهروا العجب؟ ومن أيّ وجه رأوه عجباً؟ فقيل:
﴿قال الكافرون﴾ أي الراسخون في هذا الوصف منهم وتبعهم غيرهم مؤكدين ما يحق لقولهم من الإنكار
﴿إن هذا﴾ أي القول وما تضمنه من الإخبار بما لا يعرف من البعث وغيره
67
﴿لسحر﴾ أي محمد لساحر - كما في قراءة ابن كثير وحمزة والكسائي
﴿مبين*﴾ أي ظاهر في نفسه، وهو من شدة ظهوره مظهر لكل شيء أنه كذلك، فجاؤوا بما هو في غاية البعد عن وصفه، فإن السحر قد تقرر لكل ذي لب أنه - مع كونه تمويهاً لا حقيقة له - شر محض ليس فيه شيء من الحكمة فضلاَ عن أن يمتطي الذروة منه مع أن في ذلك ادعاءهم أمراً متناقضاً، وهو أنه من قول البشر كما هي العادة في السحر، وأنهم عاجزون عنه، لأن السحر فعل تخفى الحيلة فيه حتى يتوهم الإعجاز به، فقد اعترفوا بالعجز عنه وكذبوا في ادعاء أنه لسحر لأن الآتي به منهم لم يفارقهم قط وما خالط عالماً لا بسحر ولا غيره حتى يخالطهم فيه شبهة، فهم يعلمون أن قولهم في غاية الفساد، فشرع سبحانه يقيم الدليل على بطلان قولهم من أنه - مع ما تضمنه من البعث - سحر، وعلى حقيقة أنه من عنده من غير شبهة، وعلى أن الرسالة لا عجب فيها، لأنه سبحانه خلق الوجود كله وهو نافذ الأمر فيه وقد ابتلى من فيه من العقلاء ليردهم إليه ويحاسبهم فإنه لم يخلقهم سدى لأنه حكيم، فلا بد من رسول يخبرهم بما يرضيه وما يغضبه لتقوم بذلك الحجة فقال:
﴿إن ربكم﴾ أي الموجد لكم والمربي والمحسن
﴿الله﴾ أي من ربى شيئاً ينبغي أن يكون حكيماً وقادراً على أسباب
68
صلاحه، فأيقظوا أنفسكم من سنة غفلتها تعلموا أن هذا الكتاب من عند الذي له العظمة كلها قطعاً، وأنه قادر على بعثكم لأنه ربكم
﴿الذي﴾ بدأ الخلق بأن
﴿خلق﴾ أي قدر وأوجد
﴿السماوات والأرض﴾ على اتساعهما وكثرة ما فيهما من المنافع
﴿في ستة أيام﴾ لحكمة أرادها على أن ذلك وقت يسير لا يفعل مثل ذلك في مثله إلا من لا يعجزه شيء.
ولما أوجد سبحانه هذا الخلق الكثير المتباعد الأقطار الواسع الانتشار المفتقر إلى عظيم التدبير ولطيف التصريف والتقدير، عبر سبحانه عن عمله فيه عمل الملوك في ممالكهم بقوله مشيراً إلى عظمته بأداة التراخي:
﴿ثم استوى﴾ أي عمل في تدبيره وإتقان ما فيه وإحكامه عمل المعتني بذلك
﴿على العرش﴾ المتقدم وصفه بالعظمة، وليست
«ثم» للترتيب بل كناية عن علو الرتبة وبعد منالها؛ ثم بين ذلك الاستواء بقوله:
﴿يدبر﴾ لأن التدبير أعدل أحوال الملك فالاستواء كناية عنه
﴿الأمر﴾ كله فلا يخفي عليه عاقبة أمر من الأمور، فحصل الأمن بهذا من أن يفعل شيء بغير علمه، لأن التدبير تنزيل الأمور في مراتبها على إحكام عواقبها، وهو مع ذلك منزه عما تعرفونه من أحوال الملوك من أنه يكون في ممالكهم من يقضي بعض الأمور بغير إذن منهم وإن علموا به لعجزهم عن المجاهرة بإدامة دفعه،
69
بل هو متصف بأنه
﴿ما من شفيع﴾ أي وإن كان بليغ الاتصاف بذلك.
ولما كان تمام قهره وعظيم سلطانه لا يفيد أحداً عند إذنه له إذناً عاماً لجميع الأزمان والأماكن، أتى بالجار فقال:
﴿إلا من بعد إذنه﴾ فإذا لم يقدر شفيع على الكلام في الشفاعة إلا بإذنه فكيف يقدر أحد أن يأتي بشيء من الأشياء بغير إذنه فكيف يأتي بكتاب حكيم ليس من عنده يعجز الخلق عن معارضته، فحصل الأمن أن يكون غيره قاله أو شفع فيمن أبلغه فأبلغه من غير إرادة منه سبحانه، فتحرر أنه ليس إلا من عنده وأنه أمر بإبلاغه، وقد عرف من هذا أن
﴿ما من شفيع﴾ في موضع الدلالة على أنه لا يخرج عن تدبيره أمر من الأمور ولا يغلبه شيء اصلاً فبطل ما كانوا يقولون في الأصنام من الشفاعة وغيرها والشفيع: السائل في غيره بتبليغ منزلته من عفو أو زيادة منزلة، وقد وقع ذكر الكتاب والرسول والعرش مرتباً في أول هذه على ما رتب آخر تلك؛ فلما تقرر ما وصف به من العظمة التي لا يشاركه فيها أحد، وجب أن يعبد عبادة لا يشاركه فيها شيء، فنبه على ذلك بقوله:
﴿ذلكم﴾ أي العظيم الشأن العالي المراتب
﴿الله﴾ أي
70
الملك الأعلى
﴿ربكم﴾ الذي تقرر له من العظمة والإحسان بالإيجاد والتربية ما لا يبلغه وصف
﴿فاعبدوه﴾ أي فخصُّوه بالعبادة فإن عبادتكم مع الإشراك ليست عبادة، ولولا فضله لم يكن لمن زل أدنى زلة طاعة.
ولما سبب سبحانه عن أوصافه العلى ما وجب له من الأمر بالعبادة، تسبب عن ذلك الإنكار عليهم في التوقف عنها والاحتياج فيها إلى بروز الأمر بها قام على استحقاقه للأفراد بها من الأدلة التي فيهم شواهدها فقال:
﴿أفلا تذكرون*﴾ أي ولو بأدنى أنواع التذكر بما أشار إليه الإدغام، ما أخبركم سبحانه به ونبهكم عليه بما يعلمه كل أحد من نفسه من أنه لا يقدر أحد أن يعمل كل ما يريد، ويعمل كثيراً مما لا غرض له فيه ويعلم أنه يضره إلى غير ذلك من الأمور ليعلم قطعاً أن الفاعل الحقيقي غيره وأنه لا بد لهذا الوجود من مؤثر فيه هو في غاية العظمة لا يصح بوجه أن يشاركه شيء ولو كان أعظم ما يعرف من الأشياء فكيف بجماد لا يضر ولا ينفع!.
71
فلما تقرر أنه هو الذي بدأ الخلق، تقرر بذلك أنه قادر على إعادته فقال:
﴿إليه﴾ أي خاصة
﴿مرجعكم﴾ أي رجوعكم وموضع رجوعكم ووقته حال كونكم
﴿جميعاً﴾ لا يتخلف منكم أحد، تقدم وعده لكم بذلك
﴿وعد الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿حقاً﴾
71
فهو تعليل لعبادته لوحدانيته، فيحيون بعد الموت ويحشرون إلى موضع جزاء الله تعالى لهم زمانه الذي قدره له، ويرفع ما كان لهم من المكنة في الدنيا، فعلم قطعاً أنه لا بد من الرسول، فاستعدوا للقاء هذا الملك الأعظم بكل ما أمركم به الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ ثم أوضح التنبيه على قدرته مضمناً له بيان حكمته فقال معللاً لوجوب المرجع إليه مؤكداً عداً لهم في عداد المنكر للابتداء لأجل إنكارهم ما يلزم عنه من تمام القدرة على البعث وغيره:
﴿إنه يبدأ الخلق﴾ أي ينشئه النشأة الأولى، له هذه الصفة متجددة التعلق على سبيل الاستمرار
﴿ثم يعيده﴾ ليقيم العدل في خلقه بأن ينجز لمن عبده، وعده بأن يعزه ويذل عدوه وذلك معنى قوله:
﴿ليجزي﴾.
ولما كان في سياق البعث، قدم أهل الجزاء وبدأ بأشرافهم فقال:
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف الذي هو الأساس المتقن لكل عمل صالح
﴿وعملوا﴾ أي وصدقوا إيمانهم بأن عملوا
﴿الصالحات﴾ جزاء كائناً
﴿بالقسط﴾، واقتصر على العدل دون الفضل ليفهم أن ترك الحشو مخل بالعمل الذي هو محط الحكمة التي هي أعظم مصالح السورة، والجزاء: الإعطاء بالعمل ما يقتضيه من خير أو شر، فلو كان الإعطاء ابتداء لم يكن جزاء، ولو كان
72
ما لا يقتضيه العمل لم يكن جزاء مطلقاً والقسط: العدل
﴿والذين كفروا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف
﴿لهم﴾ أي في الجزاء على جهة الاستحقاق
﴿شراب من حميم﴾ أي مسخن بالنار أشد الإسخان
﴿وعذاب أليم﴾ أي بالغ الإيلام
﴿بما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يكفرون*﴾ فإن عذابهم من أعظم نعيم المؤمنين الذين عادوهم فيه سبحانه
﴿فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون هل ثوب الكفار ما كانوا يفعلون﴾ [سورة المطففين: ٣٤-٣٦] وكأنه قال:
﴿يبدأ﴾ مضارعاً لا كما قال في آية أخرى
﴿كما بدأكم تعودون﴾ [الأنفال: ٢٩] حكاية للحال وتصويراً لها تنبيهاً على تأمل ما يتجدد إنشاءه ليكون أدعى لهم إلى تصور القدرة على الإعادة؛ قال الرماني: وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه التمكين في الدنيا من تجديد النشأة للجزاء لأنه لا بد - مع التمكين من الحسن والقبيح - من ترغيب وترهيب لا يؤمن معه العذاب على الخلود ليخرج المكلف بالزجر عن القبيح عن حال الإباحة له يرفع التبعة عليه - انتهى. فقد لاح بما ذكر ما تعين في أثناء السورة بتكريره لتوضيحه وتقريره - أن مقصودها وصف الكتاب بما يدل قطعاً على أنه من عنده سبحانه وبإذنه، لأنه لا غائب عن علمه ولا مداني لقدرته ولا مجترىء على عظمته، وأنه تام القدرة متفرد بالخلق والأمر فهو قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء،
73
وأن المراد بالكتاب البشارة والنذارة للفوز عند البعث والنجاة من غوائل يوم الحشر مع أنه سبحانه نافذ القضاء، فلا تغني الآيات والدلالات البينات عمن حكم بشقاوته وقضى بغوايته، وأن ذلك من حكمته وعدله فيجب التسليم لأمره وقطع الهمم عن سواه؛ ثم شرع سبحانه يقرر أمر بدئه للخلق وإعادته في سياق مذكر بالنعم التي يجب شكرها، ويسمى المعرض عن شكره كافراً فقال:
﴿هو﴾ أي غيره
﴿الذي جعل﴾ أي بما هيأ من الأسباب
﴿الشمس﴾.
ولما كان النور كيفية قابلة للشدة والضعف، خالف سبحانه في الأسماء مما يدل على ذلك فقال نور الشمس:
﴿ضياء﴾ أي ذات نور قوي ساطع وقدرها منازل، هكذا التقدير، لكن لما كانت في تقلبها بطيئة بالنسبة إلى القمر ذكره دونها فقال:
﴿والقمر﴾ أي وجعل القمر
﴿نوراً﴾ أي ذا نور من نورها
﴿وقدره﴾ أي وزاده عليها بأن قدره مسيرة
﴿منازل﴾ سريعاً يقلبه فيها، وباختلاف حاله في زيادة نوره ونقصانه تختلف أحوال الرطوبات والحرارات التي دبر الله بها هذا الوجود - إلى غير ذلك من الأسرار التي هي فرع وجود الليل والنهار
﴿لتعلموا﴾ بذلك علماً سهلاً
﴿عدد السنين﴾ أي المنقسمة إلى الفصول الأربعة وما يتصل بذلك من الشهور وغيرها
74
ليمكن لكم تدبير المعاش في أحوال الفصول وغيرها
﴿والحساب﴾ أي غير ذلك مما يدل على بعض تدبيره سبحانه.
ولما كان ذلك مشاهداً لا مرية فيه، وصل به قوله:
﴿ما خلق الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿ذلك﴾ أي الأمر العظيم جداً
﴿إلا بالحق﴾ أي خلقاً ملتبساً بالحق الكامل في الحقية لا مرية فيه، فعلم أنه قادر على إيجاد الساعة كذلك إذ لا فرق، وإذا كان خلقه كذلك فكيف يكون أمره الناشىء عنه الخلق غير الخلق بأن يكون من السحر الذي مبناه على التمويه والتخييل الذي هو عين الباطل، أو ما خلقه إلا بسبب إظهار الحق من العدل بين العباد بإعزاز الطائع وإذلال العاصي، فإنه لا نعيم كالانتصار على المعادي والانتقام من المشانىء، والجعل: وجود ما به يكون الشيء على صفة لم يكن عليها، والشمس: جسم عظيم النور فإنه يكون ضياء النهار؛ والقمر: جسم نير يبسط نوره على جميع الظاهر من الأرض ويكسفه نور الشمس؛ والنور: شعاع فيه ما ينافي الظلام؛ والحساب: عدد يحصل به مقدار الشيء من غيره.
ولما كان النظر في هذه الآيات من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى كثير من الاتصاف بقابلية العلم، ختم الآية بقوله:
﴿يفصل﴾ أي الله
75
في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وحفص عن عاصم بالياء التحتية، وبالالتفات إلى أسلوب العظمة تعظيماً للبيان في قراءة الباقين بالنون
﴿الآيات﴾ أي يبين الدلائل الباهرة واحدة في إثر واحدة متفاصلة بياناً شافياً. ولما كان البيان لمن لا علم له كالعدم، قال:
﴿لقوم﴾ أي لهم قوة المحاولة لما يريدون
﴿يعلمون﴾ أي لهم هذا الوصف على سبيل التجدد والاستمرار؛ ولما كانت لهم المعرفة التامة والنظر الثاقب في منازل القمر عدت من الجلي.
76
ولما أشار سبحانه إلى الاستدلال على فناء العالم بتغيره وإلى القدرة على البعث بإيجاد كل من الملوين بعد إعدامه في قوله - مؤكداً له لإنكارهم أن يكون في ذلك دلالة:
﴿إن في اختلاف الليل﴾ أي على تباين أوصافه
﴿والنهار﴾ أي كذلك
﴿وما﴾ أي وفيما
﴿خلق الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿في السماوات والأرض﴾ من أحوال السحاب والأمطار وما يحدث من ذلك الخسف والزلازل والمعادن والنبات والحيونات وغير ذلك من أحوال الكل التي لا يحيط البشر بإحصائها؛ لما أشار إلى ذلك ختمها بقوله:
﴿لآيات﴾ أي دلالات بينة جداً
﴿لقوم يتقون*﴾ أي أن من نظر في هذا الاختلاف وتأمل تغير الأجرام الكبار كان جديراً بأن يخاف من أن تغير أحواله وتضطرب أموره فيتقي الله لعلمه قطعاً بأن أهل هذه الدار غير مهملين،
76
فلا بد لهم من أمر ونهي وثواب وعقاب؛ والاختلاف: ذهاب كل من الشيئين في غير جهة الآخر، فاختلاف الملوين: ذهاب هذا في جهة الضياء وذاك في جهة الظلام؛ والليل: ظلام من غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني، هو جمع ليلة كتمر وتمرة؛ والنهار: اتساع الضياء من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس؛ والخلق: فعل الشيء على ما تقتضيه الحكمة، وأصله التقدير؛ ونبه بما خلق في السماوات والأرض على وجوه الدلالات. لأن الدلالة في الشيء قد تكون من جهة خلقه أو اختلاف صورته أو حسن منظره أو كثرة نفعه أو عظم أمره أو غير ذلك.
ولما أُشير بالآية إلى أنقراض الدنيا بأن الحادث لا ثبات له، وقام الدليل القطعي على المعاد، ناسب تعقيبها بعيب من اطمأن إليها في سياق مبين أن سبب الطمأنينة إنكار الطمأنينة اعتقاداً أو حالاً؛ ولما كانت ختم تلك ب
﴿يتقون﴾ لاح أن ثمّ من يتقي ومن لا يتقي؛ ولما كان الغرور أكثر، بدأ به تنفيراً عن حاله، لأن درء المفاسد أولى من جلب المصالح، فقال مؤكداً لأجل إنكارهم:
﴿إن الذين﴾ ولما كان الخوف والرجاء معدن السعادة، وكان الرجاء أقرب إلى الحث على الإقبال، قال مصرحاً بالرجاء ملوحاً إلى الخوف:
﴿لا يرجون لقاءنا﴾ بالبعث بعد الموت ولا يخافون ما لنا من العظمة
﴿ورضوا﴾ أي عوضاً
77
عن الاخرة
﴿بالحياة الدنيا﴾ أي فعملوا لها عمل المقيم فيها مع ما إشتملت عليه مما يدل على حقارتها
﴿واطمأنوا﴾ إليها مع الرضى
﴿بها﴾ طمأنينة من لا يزعج عنها مع ما يشاهدونه مع سرعة زوالها
﴿والذين هم﴾ أي خاصة
﴿عن آياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة لا عن غيرها من الأحوال الدنيّة الفانية
﴿غافلون﴾ أي غريقون في الغفلة، وتضمن قوله تعالى استئنافاً:
﴿أولئك﴾ أي البعداء البغضاء
﴿مأواهم النار بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿يكسبون*﴾ فإن كسبهم كله ضلال - أنه لا يعاجلهم بالعقاب على تأخير المتاب، وجعلت ملاقاة ما لا يقدر إلا الله ملاقاة الله تفخيماً لشأنها كما جعل إتيان جلائل آيات الله في قوله:
﴿إلا أن يأتيهم الله في ظِلل من الغمام﴾ [البقرة: ٢١٠] ونحوه، والاطمئنان: الركون إلى الشيء على تمكن فيه، فهؤلاء مكنوا الأحوال للدنيا فصار فرحهم وسخطهم لها؛ والغفلة: ذهاب المعنى عن القلب بما يضاد حضوره إياه، واليقظة نقيضها.
ولما أنقضى هذا القسم حالاً ومآلاً، أتبعه سبحانه القسم الآخر بقوله مؤكداً لإنكار الكفار هدايتهم:
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف بما لهم من القوة النظرية التي كمالها معرفة الأشياء وسلطانها معرفة الله تعالى
﴿وعملوا﴾ أي وصدقوا دعواهم الإيمان بأن عملوا
﴿الصالحات﴾ بالقوة العملية التي سلطانها عبودية الله تعالى، والصالح: ما جاء بالحث عليه الأنبياء عليهم السلام
﴿يهديهم﴾ أي على
78
سبيل التجدد والاستمرار
﴿ربهم﴾ أي المحسن إليهم
﴿بإيمانهم﴾ أي بسبب تصديقهم وإذعانهم لمعرفة الآيات التي غفل عنها الذين يأملون البقاء ولا يرجون اللقاء، فقادتهم إلى دار السلام، وهذا كما كان كثير من الصحابة رضي الله عنهم بعد إسلامهم يشتد تعجبهم مما كان من تباطئهم عن الإسلام، وكما ترى أنك تخنق على بعض الكملة فلا يدعك حظ النفس ترى له حسنة، ثم أنك قد ترضى عنه فتراه كله محاسن.
ولما ذكر أم مآل القسم الأول النار، ذكر مآل هذا القسم في معرض سؤال من يقول: ماذا تورثهم هدايتهم؟ فقيل له:
﴿تجري﴾ وأشار إلى قرب منال المياه وانكشافها عن كل ما ينتفع به في غير ذلك بإثبات الجار فقال:
﴿من تحتهم﴾ أي تحت غرفهم وأسرّتهم وغير ذلك من مشتهياتهم كقوله تعالى
﴿قد جعل ربك تحتك سرياً﴾ [مريم: ١٤] وكذا قول فرعون
﴿وهذه الأنهار تجري من تحتي﴾ [الزخرف: ٥١]
﴿الأنهار﴾ كائنين
﴿في جنّات النعيم﴾ أي التي ليس فيها من غيره.
79
ولما كان الواجب على العباد أولاً تنزيهه تعالى عن النقائض التي أعظمها الإشراك. وكان من فعل ذلك سلم من غوائل الضلال فربح نفسه فعرف ربه وفاز في شهود حضرته بمشاهدة أوصاف الكمال، أشار التسليك في ذلك بقوله:
﴿دعواهم﴾ أي دعاؤهم العظيم الثابت
79
الكثير الذي يقولونه فيها لا على وجه التكليف، بل يلهمونه إلهام النفس في الدنيا
﴿فيها﴾ وأشار إلى مجامع التنزيه عن كل شائبة نقص فقال:
﴿سبحانك اللهم﴾ إشارة إلى الأمر الأول هو الأساس وهو المعراج في الآخرة
﴿وتحيتهم﴾ أي لله وفيما بينهم
﴿فيها سلام﴾ إشارة إلى أول نتائج الأساس بأنه لا عطب معه بوجه وهو نزول عن المعراج بالنظر في أحوال الخلق
﴿وآخر دعواهم﴾ أي دعائهم العظيم وهو المعراج الكمالي
﴿أن الحمد﴾ أي الكمال
﴿لله﴾ أي المحيط بجميع أوصاف الجلال والجمال يعني أن التنزيه عن النقص أوجب لهم السلامة؛ ولما سلموا من كل نقص وصلوا إلى الحضرة فغرقوا في بحار الجلال وانكشفت لهم سمات الكمال؛ والدعوى: قول يدعى به إلى أمر؛ والتحية: التكرمة بالحال الجليلة، وأصله من قولهم: أحياك الله حياة طيبة، وأشار بقوله:
﴿رب العالمين﴾ إلى نعمة الإيجاد إرشاداً بذلك إلى القدرة على المعاد، وفيه هبوط عن المعراج الكمالي إلى الخلق، وذلك إشارة إلى أن الإنسان لا ينفك عن الحاجة والنقصان.
ولما أشير في هذه الآية إلى تنزهه تعالى وعلوه وتفرده بنعوت الكمال، ودل بختمها بالحمدِ على إحاطته وبرب العالمين على تمام قدرته وحسن تدبيره في ابتدائه وإعادته، اتبعت بما يدل على ذلك من لطفه
80
في معاملته من أنه لا يفعل شيئاً قبل أوانه لأن الاستعجال من سمات الاحتياج. بل وروى أبو يعلى وأحمد بن منيع عن أنس رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال
«التأني من الله والعجلة من الشيطان» قال شيخنا ابن حجر: وفي الباب عن سهل وسعد رضي الله عنهما فقال تعالى عاطفاً على قوله
﴿يدبر الأمر﴾ ما معناه أنه تعالى يفعل فعل من ينظر في ادبار الأمور فلا يفعل إلاّ ما هو في غاية الإحكام، فهو لا يعاجل العصاة بل يمهلهم ويسبغ عليهم النعم وهم في حال عصيانهم له أضل من النِّعم يطلبون خيراته ويستعجلونه بها:
﴿ولو يعجل الله﴾ أي المحيط بصفات الكمال
﴿للناس﴾ أي الذين اتخذوا القرآن عجباً لما لهم من صفة الاضطراب
﴿الشر استعجالهم﴾ أي عاملاً في إرادته لإيقاع الشر بهم مثل عملهم في إرادتهم وطلبهم العجلة
﴿بالخير لقضي﴾ أي حُتم وبت وأدى، بناه للمفعول في قراءة الجماعة دلالة على هوانه عنده، ولأن المحذور مجرد فراغه لا كونه من معين.
وبناه ابن عامر للفاعل ونصب الأجل
﴿إليهم﴾ أي الناس خاصة
﴿أجلهم﴾ أي عمرهم أو آخر لحظة تكون منه، فأهلك من في الأرض فاختل النظام الذي دبره، ولكنه لا يفعل إلاّ ما تقدم من إمهاله لهم إلى ما سمي من الآجال المتفاوتة. وذلك سبب إضلال من يريد ضلاله. ولعل التعبير بنون العظمة في
﴿فنذر﴾ إشارة إلى أن الأمر في غاية الظهور؛ فكان القياس هداهم لكثرة ما عليه من الدلائل الظاهرة ولكنه تعالى أراد ضلالهم
81
وهو من العظمة بحيث لا يعجزه شيء. ويجوز أن يكون معطوفاً على قوله
﴿أولئك مأواهم النار﴾ لأن معناه: أولئك يمهلهم الله إلى انقضاء ما ضرب لهم من الآجال مع مبالغتهم في الإعراض. ثم يكون مأواهم النار ولا يعجل لهم ما يستحقونه من الشر
﴿ولو يعجل الله للناس الشر﴾ أي ولو يريد عجلة الشر للناس إذا خالفوه أو إذا استعجلوه به في نحو قولهم
﴿فأمطر علينا حجارة من السماء﴾ [الأنفال: ٣٢] ودعاء الإنسان على ولده وعبده، مثل استعجالهم أي مثل إرادتهم تعجيل الخير. وعدل عن أن يقال: ولو يستعجل الله للناس الشر
﴿استعجالهم بالخير﴾ أي يعجل، دفعاً لإيهام النقص بأن من يستعجل الشيء ربما يكون طالباً عجلته من غير لعدم قدرته، وتنبيهاً على أن الأمر ليس إلاّ بيده
﴿لقضي إليهم أجلهم﴾ فإنه إذا أراد شيئاً كان ولم يتخلف أصلاً.
ولما كان التقدير لأن
«لو» امتناعية: ولكنه سبحانه لا يفعل ذلك لأنه لا يفوته شيء بل يمهل الظالمين ويدر لهم النعم ويضربهم بشيء من النقم حتى يقولوا: هذه عادة الدهر، قد مس آباءنا الضراء والسراء، سبب عن قوله:
﴿فنذر﴾ أي على أيّ حالة كانت، ووضع موضع الضمير تخصيصاً وتنبيهاً على ما أوجب لهم الإعراض والجرأة قوله:
﴿الذين﴾ وأشار بنفي الرجاء إلى نفي الخوف على الوجه الأبلغ فقال:
﴿لا يرجون لقآءنا﴾ أي بعد الموت بهذا الاستدراج على ما لنا
82
من العظمة التي من أمنها كان أضل من الأنعام
﴿في طغيانهم﴾ أي تجاوزهم للحدود تجاوزاً لا يفعله من له أدنى روية
﴿يعمهون﴾ أي يحكم مشيئتنا السابقة في الأزل عمياً عن رؤية الآيات صماً عن سماع البينات؛ والتعجيل: تقديم الشيء على وقته الذي هو أولى به؛ والشر: ظهور ما فيه الضر، وأصله الإظهار من قولهم: شررت الثوب - إذا أظهرته للشمس، ومنه شرر النار -لظهوره بانتشاره؛ والطغيان: الغلو في ظلم العباد؛ والعمه، شدةُ الحيرة.
83
ولما بين تعالى أن دأبهم استعجالهم بالخير، وكان منه استكشاف الضر، بينَ أن حالهم عنده الاعتراف، وشكرهم على النجاة منه الإنكار فدأبهم الطغيان والعمه، وذلك في غاية المنافاة لما يدعونه من رجاحة العقول وإصالة الآراء وسلامة الطباع، فالحاصل أن الانسان عند البلاء غير صابر، وعند الرجاء غير شاكر، فكأنه قيل: فإذا مس الإنسان منهم الخير كان في غفلة بالفرح والأشر والمرح
﴿وإذا مسَّ الإنسان﴾ منهم
﴿الضر﴾ وإن كان من جهة يتوقعها لطغيان هو فيه ولا ينزع عنه خوفاً مما يتوقعه من حلول الضر لشدة طغيانه وجهله
﴿دعانا﴾ مخلصاً معترفاً بحقنا عالماً بما لنا من كمال العظمة عاملاً بذلك معرضاً عما ادعاه شريكاً لنا كائناً
﴿لجنبه﴾ أي مضطجعاً حال إرادته للراحة، وكأنه عبر باللام إشارة إلى أن ذلك أسر أحواله إليه
﴿أو قاعداً﴾ أي متوسطاً في أحواله
﴿أو قآئماً﴾ أي في غاية السعي في
83
مهماته، لا يشغله عن ذلك شيء في حال من الأحوال، بل يكون ظرف المس بالضر ظرف الدعاء بالكشف، ويجوز أن يكون عبر بالأحوال الثلاثة عن مراتب الضر، وقال: لجنبه، إشارة إلى استحكام الضر وغلبته بحيث لا يستطيع جلوساً كما يقال: فلان لما به، وأشار بالفاء إلى قرب زمن الكشف فقال:
﴿فلما كشفنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿عنه ضره﴾ أي الذي دعانا لأجله
﴿مرّ﴾ أي في كل ما يريده لاهياً عنا بكل اعتبار
﴿كأن﴾ أي كأنه
﴿لم يدعنآ﴾ أي على ما كان يعترف به وقت الدعاء من عظمتنا؛ ولما كان المدعو يأتي إلى الداعي فيعمل ما دعاه لأجله قال:
﴿إلى﴾ أي كشف
﴿ضر مسه﴾ أي كأن لم يكن له بنا معرفة أصلاً فضلاً عن أن يعترف بأنا نحن كشفنا عنه ضره، فهذه الآية في بيان ضعف الإنسان وسوء عبوديته، والتي قبلها في بيان قدرة الله وحسن ربوبيته؛ والمسُ: لقاء من غير فصل؛ والدعاء: طلب الفعل من القادر عليه؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو السبب المؤدي إليه.
ولما كان هذا من فعل الإنسان من أعجب العجب. كان كأنه قيل: لم يفعل ذلك؟ فقيل: لما يزين له من الأمور التي يقع بها الاستدراج لإسرافه. وهذا دأبنا أبداً
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التزيين العظيم الرتبة؛ ولما كان الضار مطلق التزيين، بنى للمفعول قوله:
﴿زين للمسرفين﴾
84
أي كلهم العريقين في هذا الوصف
﴿ما كانوا﴾ أي بجبلاتهم
﴿يعملون﴾ أي يقبلون عليه على سبيل التجديد والاستمرار من المعصية بالكفر وغيره مع ظهور فساده ووضوح ضرره؛ والإسراف: الإكثار من الخروج عن العدل.
ولما كان محط نظرهم الدنيا، وكان هذا صريحاً في الإمهال للظالمين والإحسان إلى المجرمين، أتبعه بقوله تعالى مهدداً لهم رادعاً عما هم فيه من اتباع الزينة مؤكداً لأنهم ينكرون أن هلاكهم لأجل ظلمهم:
﴿ولقد أهلكنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿القرون﴾ أي على ما لهم من الشدة والقوة؛ ولما كان المهلكون هلاك العذاب المستأصل بعض من تقدم، أثبت الجار فقال:
﴿من قبلكم لما ظلموا﴾ أي تكامل ظلمهم إهلاكاً عم آخرهم وأولهم كنفس واحدة دفعاً لتوهم أنه سبحانه لا يعم بالهلاك، وقال تعالى عطفاً على
﴿أهلكنا﴾ :
﴿وجآءتهم رسلهم﴾ أي إلى كل أمة رسولها
﴿بالبينات﴾ أي التي بينت بمثلها الرسالة
﴿وما﴾ أي والحال أنهم ما
﴿كانوا﴾ أي بجبلاتهم، وأكد النفي بمن ينكر أن يتأخر إيمانهم عن البيان فقال:
﴿ليؤمنوا﴾ ولو جاءتهم كل آية، تنبيهاً لمن قد يطلب أنه سبحانه يريهم بوادر العذاب أو ما اقترحوه من الآيات ليؤمنوا، فبين سبحانه أن ذلك لا يكون سبباً لإيمان من قضى بكفره، بل يستوي في التكذيب حاله قبل مجيء الآيات وبعدها ليكون سبباً لهلاكه.
فكأنه قيل: هل يختص ذلك بالأمم
85
الماضية؟ فقيل: بل
﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الجزاء العظيم
﴿نجزي القوم﴾ أي الذين لهم قوة على محاولة ما يريدونه
﴿المجرمين﴾ لأن السبب هو العراقة الإجرام وهو قطع ما ينبغي وصله، فحيث ما وجد جزاؤه؛ والإهلاك: الإيقاع فيما لا يتخلص منه من العذاب؛ والقرن: أهل العصر لمقارنة بعضهم لبعض.
ولما صرح بأن ذلك عام لكل مجرم، أتبعه قوله:
﴿ثم جعلناكم﴾ أي أيها المرسل إليهم أشرف رسلنا
﴿خلائف في الأرض﴾ أي لا في خصوص ما كانوا فيه: ولما كان زماننا لم يستغرق ما بعد زمان المهلكين أدخل الجار فقال:
﴿من بعدهم﴾ أي القرون المهلكة إهلاك الاستئصال
﴿لننظر﴾ ونحن - بما لنا من العظمة - أعلم بكم من أنفسكم، وإنما ذلك لنراه في عالم الشهادة لإقامة الحجة
﴿كيف تعملون﴾ فيتعلق نظرنا بأعمالكم موجودة تخويفاً للمخاطبين من أن يجرموا فيصيبهم ما أصاب من قبلهم.
86
ولما تقدم أن من قضى بشقاوته لا يتأتى إيمانه بآية من الآيات حتى تنزل به سطوته وتذيقه بأسه ونقمته. وكان القرآن أعظم آية أنزلت إلى الناس لما لا يخفى. أتبع ذلك عطفاً على قوله
﴿قال الكافرون إن هذا لسحر مبين﴾ بقوله بياناً لذلك:
﴿وإذا تتلى﴾ بناه للمفعول إيذاناً بتكذيبهم عند تلاوة أي تالٍ كان. وأبداه مضارعاً
86
إشارة إلى أنهم يقولون ذلك ولو تكررت التلاوة
﴿عليهم﴾ أي على هؤلاء الناس
﴿آياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة بإسنادها إلينا
﴿بينات﴾ فإنه مع ما اشتمل عليه مما لزمهم به الإقرار بحقيقته قالوا فيه ما لا معنى له إلا التلاعب والعناد، ويجوز عطفه على
﴿ثم جعلناكم خلائف﴾ - الآية - والالتفات إلى مقام الغيبة للإيذان بأنهم للإعراض لإساءتهم الخلافة، والموصول بصلته في قوله:
﴿قال الذين لا يرجون لقآءنا﴾ في موضع الضمير تنبيهاً على أن هذا الوصف علة قولهم، ولعله عبر بالرجاء ترغيباً لهم لأن الرجاء محط أمرهم في طلب تعجيله للخير ودفعه للضمير. فكان من حقهم أن يرجوا لقاءه تعالى رغبة في مثل ما أعده لمن أجابه، ولوح إلى الخوف بنون العظمة ليكون ذلك أدعى لهم إلى الإقبال
﴿ائت﴾ أي من عندك
﴿بقرآن﴾ أي كلام مجموع جامع لما تريد
﴿غير هذا﴾ في نظمه ومعناه
﴿أو بدله﴾ أي بألفاظ أخرى والمعاني باقية وقد كانوا عالمين صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مثلهم في العجز عن ذلك ولكنهم قصدوا أنه يأخذ في التعبير حرصاً على إجابة مطلوبهم فيبطل مدعاه أو يهلك.
ولما كان كأنه قيل: فماذا أقول لهم؟ قال:
﴿قل ما يكون﴾ أي يصح ويتصور بوجه من الوجوه
﴿لي﴾ ولما كان التبديل يعم القسمين الماضيين قال:
﴿أن أبدله﴾ وقال:
﴿من تلقاء﴾ أي عند وقِبَل
87
﴿نفسي﴾ إشارة إلى الرد عليهم في إنكار تبديل الذي أنزله بالنسخ بحسب المصالح كما أنزل أصله لمصلحة العباد مع نسخ الشرائع الماضية به، فأنتج ذلك قطعاً قوله:
﴿إن أتبع﴾ أي بغاية جهدي
﴿إلاّ ما﴾ ولما كان قد علم أن الموحي إليه الله قال
﴿يوحى إلي﴾ أي سواء كان بدلاً أو أصلاً؛ ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم مضمونه:
﴿إني أخاف﴾ أي على سبيل التجدد والاستمرار
﴿إن عصيت ربي﴾ أي المحسن إليّ والموجد لي والمربي والمدبر بفعل غير ما شرع لي
﴿عذاب يوم عظيم﴾ فإني مؤمن به غير مكذب ولا شاك كغيري ممن يتكلم من الهذيان بما لا يخاف عاقبته في ذلك اليوم، وإذا خفته - مع استحضار صفة الإحسان - هذا الخوف فكيف يكون خوفي مع استحضار صفة الجلال. ولما تم ما دفع به مكرهم في طعنهم، اتبعه بعذره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الإبلاغ على وجه يدل قطعاً على أنه كلام الله وما تلاه إلاّ بإذنه فيجتث طعنهم من أصله ويزيله بحذافيره فقال:
﴿قل﴾ أي لهم معلماً أنه سبحانه إما أن يشاء الفعل وإما أن يشاء عدمه وليست ثَمّ حالة سكوت أصلاً
﴿لو شآء الله﴾ أي الذي له العظمة كلها أن لا أتلوه عليكم
﴿ما تلوته﴾ أي تابعت قراءته
﴿عليكم ولآ أدراكم﴾ أي أعلمكم على وجه المعالجة هو سبحانه
﴿به﴾ على لساني؛ ولما كان ذكر ذلك أتبعه السبب المعرف به فقال:
﴿فقد لبثت فيكم عمراً﴾
88
ولما كان عمره لم يستغرق زمان القبل قال:
﴿من قبله﴾ مقدار أربعين سنة بغير واحد من الأمرين لكون الله لم يشأ واحداً منهما إذ ذاك، ثم أتيتكم بهذا الكتاب الأحكم المشتمل على حقائق علم الأصول ودقائق علم الفروع ولطائف علم الأخلاق وأسرار قصص الأولين في عبارة قد عجزتم - وأنتم أفصح الناس وأبلغهم - عن معارضة آية منها، فوقع بذلك العلم القطعي الظاهر جداً أنه من عند الله فلذلك سبب عنه إنكار العقل فقال:
﴿أفلا تعقلون﴾ إشارة إلى أنه يكفي - في معرفة أن القرآن من عند الله وأن غيره عاجز عنه - كون الناظر في أمره وأمري من أهل العقل، أي أفلا يكون لكم عقل فتعرفوا به حقيقة القرآن بما أرشدكم إليه في هذه الآية من هذا البرهان الظاهر والسلطان القاهر القائم على أنه ما يصح لي بوجه أن أبدله من قبل نفسي لأني مثلكم وقد عرفتم أنكم عاجزون عن ذلك مع التظاهر، فأنا وحدي - مع كوني أمياً - أعجز، ومن أنه تعالى لو شاء ما بلغكم، ومن أني مكثت فيكم إتياني به زمناً طويلاً لا أتلو عليكم شيئاً ولا أدعي فيكم علماً ولا أتردد إلى عالم؛ وتعرفوا أن قائل ما قلتم مكذب بآيات الله، وفاعل ما طلبتم كاذب على الله، وكل من ذلك أظلم الظلم
﴿فمن﴾ أي فهو سبب لأن يقال: من
﴿أظلم ممن افترى﴾ أي تعمد
﴿على الله﴾ أي الذي حاز جميع العظمة
﴿كذباً﴾ أي أيّ كذب كان، وكان الأصل: مني، على تقدير أن لا يكون هذا القرآن
89
من عند الله كما زعمتم، ولكنه وضع هذا الظاهر مكانه تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف
﴿أو كذب بآياته﴾ كما فعلتم أنتم، وذلك من أعظم الكذب.
ولما كان التقدير: لا أحد أظلم منه فهو لا يفلح لأنه مجرم، علله بقوله مؤكداً لأجل إنكارهم:
﴿إنه لا يفلح﴾ أي بوجه من الوجوه
﴿المجرمون﴾ فد وضح أن المقصود نفي الكذب عن نفسه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلحاق الوعيد حيث كذبوا بالآيات بعد ثبوت أنها من عند الله والإعلام بأنه لا أحد أظلم منهم لأنهم كذبوا على الله في كل ما ينسبونه إليه مما نهى عنه وكذبوا بآياته، والإتيان بالغير قد يكون مع وجود الأول والتبديل لا يكون إلاّ برفع الأول ووضع غيره مكانه؛ والتلقاء: جهة مقابلة الشيء، أتبعه بمجيئه بعده؛ والمشيئة خاصة تكون سبباً مؤدياً إلى وقوع الشيء، ومرتباً له على وجه قد يمكن أن يقع خلافه، والإرادة نظيرها؛ والعقل: العلم الغريزي الذي يمكن به الاستدلال بالشاهد على الغائب، ويجوز أن يكون
﴿ويعبدون﴾ حالاً من
﴿الذين لا يرجون لقاءنا﴾ أي قالوا ذلك عابدين
﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له جميع صفات الكمال الذي ثبت عندهم أن هذا القرآن كلامه لعجزهم عن معارضة شيء منه وهو ينهاهم عن عبادة غيره وهم يعلمون قدرته على الضر والنفع.
90
ولما كان السياق للتهديد والتخويف، قدم الضر لذلك وتنبيهاً لهم على أنهم مغمورون في نعمه التي لا قدرة لغيره على منع شيء منها، فعليهم أن يقيدوها بالشكر فقال:
﴿ما لا يضرهم﴾ أي أصلاً من الأصنام وغيرها
﴿ولا ينفعهم﴾ في معارضة القرآن بتبديل أو غيره ولا في شيء من الأشياء، ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية وإلا كانت عبادته عبثاً، معرضين عما جاءهم من الآيات البينات من عند من يعلمون أنه يضرهم وينفعهم ولا يملك شيئاً من ذلك أحد سواه، وقد أقام الأدلة على ذلك غير مرة، وفي هذا غاية التبكيت لهم بمنابذة العقل مع ادعائهم رسوخ الأقدام فيه وتمكن المجال منه؛ والعبادة: خضوع بالقلب في أعلى مراتب الخضوع؛ ثم عجب منهم تعجيباً آخر فقال:
﴿ويقولون﴾ أي لم يكفهم قوله ذلك مرة من الدهر حتى يجددوا قوله مستمرين عليه:
﴿هؤلاء﴾ أي الأصنام أو غيرهم
﴿شفعاؤنا﴾ أي ثابته شفاعتهم لنا
﴿عند الله﴾ أي الملك الأعظم الذي لا يمكن الدنو من شيء من حضرته إلا بإذنه، وقد مضى إبطال ما تضمنته هذه المقالة في قوله تعالى
﴿ما من شفيع إلا من بعد إذنه﴾ وفيه تخجيلهم في العجز عن تبديل القرآن أو الإتيان بشيء من مثله حيث لم تنفعهم في ذلك فصاحتهم ولا أغنت عنهم شيئاً بلاغتهم، وأعوزهم في شأنه فصحاءهم، وضل عنهم شفعاءهم، فدل ذلك قطعاً على أنه ما من شفيع إلا بإذنه
91
من بعد، فكأنه قال: بماذا أجيبهم؟ فقال:
﴿قل﴾ منكراً عليهم هذا العلم
﴿أتنبئون﴾ أي تخبرون إخباراً عظيماً
﴿الله﴾ وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كمال
﴿بما لا يعلم﴾ أي لا يوجد له به علم في وقت من الأوقات
﴿في السماوات﴾ ولما كان الحال مقتضياً لغاية الإيضاح، كرر النافي تصريحاً فقال:
﴿ولا في الأرض﴾ وفي ذلك من الاستخفاف بعقولهم مما لا يقدرون على الطعن فيه بوجه ما يخجل الجماد، فإن ما لا يكون معلوماً لله لا يكون له وجود أصلاً، فلا نفي أبلغ من هذا كما أنك إذا بالغت في نفي شيء عن نفسك تقول: هذا شيء ما عمله الله مني.
ولما بين تعالى هنا ما هم عليه من سخافة العقول وركاكة الآراء، ختم ذلك بتنزيه نفسه بقوله:
﴿سبحانه﴾ أي تنزه عن كل شائبة نقص تنزهاً لا يحاط به
﴿وتعالى﴾ أي وفعل بما له من الإحاطة بأوصاف الكمال فعل المبالغ في التنزه
﴿عما يشركون*﴾ أي يوجدون الإشراك به.
92
ولما بين شرارتهم بعبادة غير الله وختم بتنزيهه وكماله، بين أن هذا الدين الباطل حادث، وين نزاهته وكماله ببيان أن الناس كانوا أولاً مجتمعين على طاعته ثم خالفوا أمره فلم يقطع إحسانه إليهم بل استمر
92
في إمهالهم مع تماديهم في سوء أعمالهم ما سبق في عمله ومضى به قضاءه فقال تعالى:
﴿وما كان الناس﴾ أي كلهم مع ما لهم من الاضطراب
﴿إلا أُمة﴾ ولما أفهم ذلك وحدتهم في القصد حققه وأكده فقال:
﴿واحدة﴾ أي حنفاء متفقين على طاعة الله
﴿فاختلفوا﴾ في ذلك على عهد نوح عليه السلام - كما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما - عقب وحدتهم بسبب ما لهم من النوس فاستحق كافرهم تنجيز العقاب
﴿ولولا كلمة﴾ أي عظيمة
﴿سبقت﴾ أي في الأزل
﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك برحمة أمتك بإمهالهم، وبين التأكيد بما دل على القسم لأجل إنكارهم أن يكون تأخيرهم لأجل ذلك فقال:
﴿لقضي بينهم﴾ أي عاجلاً بأيسر أمر
﴿فيما﴾ ولما لم يبين الكلام على الاتخاذ الذي محط أمره معالجة بالباطن، لم يذكر الضمير بخلاف الزمر فقال:
﴿فيه﴾ أي لا في غيره بأن يعجل جزاءهم عليه:
﴿يختلفون*﴾ وأشار ذلك إلى أن هذا الأمر الذي دعوا إليه ليس أمراً طارئاً حادثاً فيكون بحيث يتوقف فيه للنظر في عواقبه والتأمل في مصادره وموارده، بل هو - مع ظهور دلائله واستقامة مناهجه وصحة مذاهبه وإلقاء الفطر أزمة الانقياد إليه - أصل ما كان العباد عليه، وما هم فيه الآن هو الطارىء الحادث مع ظهور فساده ووضوح سقمه، وهو ناظر إلى قوله تعالى
﴿أكان للناس عجباً﴾ لأن قوله {قال
93
الكافرون إن هذا لسحر مبين} دال على أنهم قسمان: كافر ومؤمن؛ والأمة: الجماعة على معنى واحد في خلق واحد كأنها تؤم - أي تقصد - شيئاً واحداً؛ ثم قال تعالى عطفاً على قوله
﴿ويعبدون﴾ :
﴿ويقولون﴾ أي أنهم لما أتتهم البينات قالوا: ائت بقرآن غير هذا، كافرين بمنزلها عابدين من دونه ما لا يرضى عاقل بتسويته بنفسه فكيف بعبادته قائلين بفرط عنادهم وتماديهم في التمرد
﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا
﴿أنزل﴾ أي بأيّ وجه كان
﴿عليه آية﴾ أي واحدة كائنة وآتية
﴿من ربه﴾ أي المحسن إليه غير ماجاء به وذلك إما لطلبهم آية ملجئة لهم إلى الإيمان أو لكونهم لم يعدوا ما أنزل عليه عداد الآيات فضلاً عن كونها بينات، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة في الآيات دقيقة المسلك بين المعجزات مع عجزهم عن معارضته بتبديل أو غيره، فأيّ عناد أعظم من هذا.
ولما كان في ذلك شوب من الاستفهام، قال مسبباً عن قولهم:
﴿فقل﴾ قاصراً قصراً حقيقياً
﴿إنما الغيب﴾ أي الذي عناه عيسى عليه السلام بقوله
﴿ولا أعلم ما في نفسك﴾ [المائدة: ١١٦] وهو ما لم يطلع عليه مخلوق أصلاً
﴿لله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة وحده، لا علم لي بعلة عدم إنزال ما تريدون، وهل تجابون إليه أو لا.
94
ولما خصه سبحانه بالعلم. وكان إنزال الآيات من الممكنات. سبب عنه قوله:
﴿فانتظروا﴾ ثم أجاب من كأنه يقول له: فما تعمل أنت؟ بقوله:
﴿إني معكم﴾ أي في هذا الأمر غير مخالف لكم في التشوف إلى آية تحصل بها هدايتكم، ثم حقق المعنى وأكده فقال:
﴿من المنتظرين*﴾ أي لما يرد علي من آية وغيرها.
95
ولما كان طلبهم محركاً لنفوس الخيّرين إلى ترجى إجابة سؤالهم، أتبعه سبحانه بما يبين أن ذلك غير نافع لهم لأنه محض تعنت. فقال تعالى عاطفاً على قوله
﴿قال الكافرون إن هذا لسحر مبين﴾ أو
﴿وإذا مسَّ الإنسان الضر﴾ مبيناً أن رحمته محققة الوجود كثيرة الورود إليهم مبيناً أن لهم آية عظمى من أنفسهم لا يحتاجون معها إلى التعنت بطلب آية وهي دالة على نتيجة مقصود السورة الذي هو الوحدانية وأن إشراكهم إنما هو بما لهم من نقص الغرائز الموجب لكفران الإحسان، وذلك أنهم عامة إذا أكرموا بنعمة قابلوها بكفر جعلوا ظرفه على مقدار ظرف تلك النعمة بما أشار إليه التعبير ب
«إذا» ثم إذا مسهم الضر ألجأهم إلى الحق فأخلصوا، لم يختلف حالهم في هذا قط، وهذا الإجماع من الجانبين دليل واضح على كلا الأمرين؛ الكفر ظلماً بما جر إليه من البطر. والتوحيد حقاً بما دعا إليه من الفطرة القويمة الكائنة في أحسن تقويم بما زال عنها إلحاق الضرر من الحظوظ والشهوات والفتور، وهذا كما وقع في سورة الروم المافقة لهذه في الدلالة على
95
الوحدانية فلذا عبر في كل منهما بالناس ليكون إجماعهم دليلاً كافياً عليها وسلطاناً جليلاً مضطراً إليها - والله الهادي:
﴿وإذا أذقنا﴾ أي على ما لنا من العظمة
﴿الناس﴾ أي الذين لهم وصف الاضطراب
﴿رحمة﴾ أي نعمة رحمناهم بها من غير استحقاق.
ولما كان كان وجود النعمة لا يستغرق الزمان الذي يتعقب النقمة، أدخل الجار فقال:
﴿من بعد ضراء﴾ أي قحط وغيره
﴿مستهم﴾ فاجأوا المكر وهو معنى
﴿إذا لهم مكر﴾ أي عظيم بالمعاصي التي يفعلون في الاستخفاء بأغلبها فعل الماكر
﴿في آياتنا﴾ إشارة إلى أنهم لا ينفكون عن آياته العظام، فلو كانوا منتفعين بالآيات اهتدوا بها، فإذا أتتهم رحمة من بعد نقمة لم يعدوها آية دالة على من أرسلها لهم لخرقها لما كانوا فيه من عادة النقمة مع أنهم يعترفون بأنه لا يقدر على إرسالها وصرف الشدة إلا هو سبحانه، بل يعملون فيها عمل الماكرين بأن يصرفوها عن ذلك بأنواع الصوارف كأن ينسبوها إلى الأسباب كنسبة المطر للأنواء ونحو ذلك غير خائفين من إعادة مثل تلك الضراء أو ما هو أشد منها.
ولما كانت هذه الجملة دالة على إسراعهم بالمكر من ثلاثة أوجه: التعبير بالذوق الذي هو أول المخالطة ولفظ
«من» التي هي للابتداء و
«إذا» الفجائية، كان كأنه قيل: أسرعوا جهدهم في المكر، فقيل:
﴿قل الله﴾ أي الذي له له الإحاطة الكاملة بكل شيء
﴿أسرع مكراً﴾
96
ومعنى اوصف بالأسرعية أنه قضى بعقابهم قبل تدبيرهم مكايدهم - نبه عليه أبو حيان ولما كان المكر إخفاء الكيد، بين لهم سبحانه أنهم غير قادرين على مطلق المكر في جهته عز شأنه وتعالى كبرياءه وسلطانه، لأنه عالم بالسر وأخفى، بل لا يمكرون مكراً إلا ورسله سبحانه مطلعون عليه فكيف به سبحانه! فقال تعالى مؤكداً لأجل إنكارهم:
﴿إن رسلنا﴾ أي على ما لهم من العظمة بإضافتهم إلينا
﴿يكتبون﴾ أي كتابة متجددة على سبيل الاستمرار باستمرار المكتوب
﴿ما تمكرون*﴾ لأنهم قد وكلوا بكم قبل كونكم نطفاً ولم يوكلوا بكم إلا بعد علم موكلهم بكل ما يفعلونه ولا يكتبون مكركم إلا بعد اطلاعهم عليه، وأما هو سبحانه فإذا قضى لا يمكن أن يطلع عليه رسله إلا باطلاعه فكيف بغيرهم! وإذا تبين أنه عالم بأمورهم وهم جاهلون بأموره، علمَ أنه لا يدعهم يدبرون كيداً إلا وقد سبب له ما يجعله في نحورهم؛ والمكر: فتل الشيء إلى غير وجهه على طريق الحيلة فيه؛ والسرعة؛ الشيء في وقته الذي هو أحق به، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه حال الجاهل من تضييع حق النعمة والمكر فيها وإن جلت منزلتها وأتت على فاقة إليها وشدة حاجة إلى نزولها مع الوعيد بعائد
97
الوبال على الماكر فيها، ثم أخذ سبحانه يبين ما يتضح به أسرعية مكره في مثال دال على ما في الاية قبلها من نقله سبحانه لعباده من الضر إلى النعمة ومن سرعة تقلبهم فقال:
﴿هو﴾ أي لا غيره
﴿الذي يسيركم﴾ أي في كل وقت تسيرون فيه سيراً عظيماً لا تقدرون على الانفكاك عنه
﴿في البر والبحر﴾ أي يسبب لكم أسباباً توجب سيركم فيهما ويقدركم على ذلك ويهديكم من بين سائر الحيونات إلى ما فيه من أصناف المنافع مع قدرته على إصابتكم في البر بالخسف وما بالخسف وما دونه وفي البحر بالغرق وما أشبهه.
ولما كان العطب بأحوال البحر أظهر مع أن السير فيه من أكبر الآيات وأوضح البينات، بينه معرضاً عن ذكر البر فقال:
﴿حتى إذا كنتم﴾ أي كوناً لا براح لكم منه
﴿في الفلك﴾ أي السفن، يكون واحداً وجمعاً؛ وأعرض عنهم بعد الإقبال لما سيأتي فقال:
﴿وجرين﴾ أي الفلك؛
﴿بهم﴾ ولما ذكر جريها وهم فيها، ذكر سببه فقال:
﴿بريح طيبة﴾ ثم أوضح لهم عدم علمهم بالعواقب بقوله:
﴿وفرحوا بها﴾ أي بتلك الريح وبالفلك الجارية بها
﴿جاءتها ريح عاصف﴾ فأزعجت سفنهم وساءتهم
﴿وجاءهم الموج﴾ أي المعروف لكل أحد بالرؤية أو الوصف
﴿من كل مكان﴾ أي يعتاد الإتيان منه فأرجف قلوبهم
﴿وظنوا أنهم﴾ ولما كان المخوف الهلاك، لا كونه من معين، بني للمفعول ما هو كناية عنه لأن العدو إذا أحاط بعدوه أيقن بالهلاك فقال:
﴿أحيط بهم﴾.
98
ولما كان ما تقدم من حالهم الغريبة التي تجب لها القلوب وتضعف عندها القوى - مقتضياً لأن يسأل عما يكون منهم عند ذلك، أتى المقال على مقتضى هذا السؤال مخبراً عن تركهم العناد وإخلاصهم الدال على جزعهم عند سطواته وانحلال عزائمهم في مشاهدة ضرباته، وعبارة لرماني: اتصال دعوى الأجوبة، كأنه قيل: لما ظنوا أنهم أحيط بهم
﴿دعوا الله﴾ أي الذي له صفات الكمال بالرغبة إليه في الخلاص والعبادة له بالإخلاص
﴿مخلصين﴾ أي عن كل شرك
﴿له الدين *﴾ أي التوحيد والتصديق بالظاهر والباطن، وقد تضمنت الآية البيان عما يوجبه بديهة العقل من الفزع عند الشدة إلى واهب السلامة ومسبغ النعمة في كشف تلك البلية؛ ثم أتبع سبحانه ذلك حكاية حالهم في وعدهم الشكر على النجاة ثم كذبهم في ذلك مع ادعائهم أنهم أطهر الناس ذيولاً عن الكذب وأشدهم استقباحاً له وأبعد الناس من كفران الإحسان، فقال تعالى حاكياً قولهم الذي دلُّوا بتأكيدهم له أنهم قالوه بغاية الرغبة نافين ما يظن بهم من الرجوع إلى ما كانوا فيه قبل تلك الحال من الكفر:
﴿لئن أنجيتنا﴾ أي أيها الملك الذي لا سلطان لغيره
﴿من هذه﴾ أي الفادحه
﴿لنكونن﴾ أي كوناً لا ننفك عنه
﴿من الشاكرين*﴾ أي المديمين لشكرك العريقين في الاتصاف به.
99
ولما أعلم سبحانه أنهم اكدوا هذا الوعد هذا التأكيد، أتبعه بيان أنهم أسرعوا في نقضه غاية الإسراع فقال:
﴿فلما أنجاهم﴾ ولما أبانت الفاء عن الإسراع في النقض، أكد مناجاتهم لذلك بقوله:
﴿إذا هم يبغون﴾ أي يتجاوزون الحدود
﴿في الأرض﴾ أي جنسها
﴿بغير الحق﴾ أي الكامل، فلا يزال الباغي مذموماً حتى يكون على الحق الكامل الذي لا باطل فيه بوجه، وجاء الخطاب أولاً في
﴿يسيركم﴾ ليعم المؤمنين لأن التسيير يصلح للامتنان، ثم التفت إلى الغيبة عند صدور ما لا يليق بهم - نبه على ذلك أبو حيان، وأحسن منه أن يقال: إنه سبحانه أقبل عليهم تنبيهاً على أنه جعلهم - بما هيأ فيهم من القوى - أهلاً لخطابه ثم أعرض عنهم إشارة إلى أنهم استحقوا الإعراض لإعراضهم اغتراراً بما أتاحهم من الريح الطيبة في محل يجب فيه الإقبال عليه والغنى عن كل ما سواه لعظم الخطر وشدة الأمر، وكأنه يذكر لغيرهم من حالهم ما يعجبه منه لينكر عليهم ويقبح حالهم؛ والتسيير: التحريك في جهة تمتد كالسير؛ والبر: الأرض الواسعة التي تقطع من بلد، ومنه البر لاتساع الخير به؛ والبحر: مستقر الماء الواسع حتى لا يرى من وسطه حافتاه؛ والفلك: السفن التي تدور في الماء، وأصله الدور، فمنه فلكة المغزل، والفلك الذي يدور فيه النجوم؛ والنجاة: التخليص من الهلاك؛ والبغي: قصد الاستعلاء بالظلم، وأصله الطلب؛ والحق: وضع الشيء في موضعه على ما يدعو إليه العقل؛
100
ثم بين أن ما هم فيه من الإمهال إنما هو متاع الدنيا وأنها دار زوال فقال تعالى:
﴿يا أيها الناس﴾ أي الذي غلب عليهم وصف الاضطراب
﴿إنما بغيكم﴾ أي كل بغي يكون منكم
﴿على أنفسكم﴾ لعود الوبال عليها خاصة وهو على تقدير انتفاعكم به عرض زائل
﴿متاع الحياة الدنيا﴾ ثم يبقى عاره وخزيه بعد الموت
﴿ثم إلينا﴾ أي خاصة
﴿مرجعكم﴾ بعد البعث
﴿فننبئكم﴾ على ما لنا من العظمة إنباء عظيماً
﴿بما كنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة
﴿تعملون*﴾ ونجازيكم عليه.
101
ولما كان السياق لإثبات البعث وتخويفهم به وكانوا ينكرونه ويعتقدون بقاء الدنيا وأنها إنما هي أرحام تدفع وأرض تبلغ دائماً بلا انقضاء فهي دار يرضى بها فيطمئن إليها، وللتنفير من البغي والتعزز بغير الحق، وكانت الأمثال أجلى لمحال الأشكال، قال تعالى ممثلاً لمتاعها قاصراً أمرها على الفناء رداً عليهم في اعتقاد دوامها من غير بعث:
﴿إنما﴾ فهو قصر قلب
﴿مثل الحياة الدنيا﴾ التي تتنافسون فيها في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله
﴿كماء أنزلناه﴾ أي بما لنا من العظمة وحقق أمره وبينه بقوله:
﴿من السماء﴾ فشبهه بأمر النبات وأنه قليل يبلغ منتهاه فتصبح الأرض منه بلاقع بعد ذلك الاخضرار والينوع، وفي ذلك إشارة إلى البعث وإلى أنه تعالى قادر على ضربة قبل نهايته أو بعدها
101
ببعض الآفات كما يوجد في بعض السنين، فيقفرون منه ويفتقرون إليه، وفي ذلك تحذيرعظيم
﴿فاختلط﴾ أي بسبب إنزالنا له
﴿به﴾ أي بسبب تليينه ولطافته
﴿نبات الأرض﴾ عموماً في بطنها
﴿مما يأكل الناس﴾ أي كافة
﴿والأنعام﴾ من الحبوب والثمار والبقول فظهر على وجهها
﴿حتى﴾ ولم يزل كذلك ينمو ويزيد في الحسن والجرم؛ ولما كان الخصب هو الأصل، عبر عنه بأداة التحقيق فقال:
﴿إذا﴾ ولما كانت بهجة النبات تابعة للخصب، فكان الماء كأنه يعطيها إياها فتأخذه، قال:
﴿أخذت الأرض﴾ أي التي لها أهلية النبات
﴿زخرفها وازينت﴾ بأنواع ذلك النبات زينة منها الجلي ومنها الخفي - بما يفهمه الإدغام
﴿وظن أهلها﴾ أي ظناً مؤكداً جداً بما أفاده العدول عن
«قدرتهم» إلى
﴿أنهم قادرون﴾ أي ثابته قدرتهم
﴿عليها﴾ باجتناء الثمرة من ذلك النبات وغاب عنهم لجهلهم علم العاقبة، فلما كان ذلك
﴿أتاها أمرنا﴾ أي الذي لا يرد من البرد أو الحر المفرطين
﴿ليلاً أو نهاراً فجعلناها﴾ أي زرعها وزينتها بعظمتها بسبب ذلك الأمر وتعقيبه بالإهلاك
﴿حصيداً﴾ وعبر بما فهمه فعيل من المبالغة والثبات بقوله:
﴿كأن﴾ أي كأنها
﴿لم تغن﴾ أي لم تكن غانية أي ساكنة حسنة غنية ذات وفر مطلوبة مرغوباً فيها أي زرعها وزينتها
﴿بالأمس﴾ فكان
102
حال الدنيا في سرعة انقضائها وانقراض نعيمها بعد عظيم إقباله كحال نبات الأرض في جفافه وذهابه حطاماً بعد ما التف وزين الأرض بخضرته وألوانه وبهجته.
ولما كان هذا المثل في غاية المطابقة للساعة، هز السامع له فازداد عجبه من حسن تفصيله بعد تأصيله فقيل جواباً له:
﴿كذلك﴾ أي مثل هذا التفصيل الباهر
﴿نفصل﴾ أي تفصيلاً عظيماً
﴿الآيات لقوم﴾ أي ناس أقوياء فيهم قوة المحاولة لما يريدون
﴿يتفكرون*﴾ أي يجددون الفكر على وجه الاستمرار والمبالغة؛ والمثل: قول سائر يشبه فيه الحال الثاني بالأول؛ والاختلاط: تداخل الأشياء بعضها في بعض؛ والزخرف: حسن الألوان.
103
ولما قرر سبحانه هذه الآيات التي حذر فيها من أنواع الآفات، بين أن الدار التي رضوا بها وأطمأنوا إليها دار المصائب ومعدن الهلكات والمعاطب وأنها ظل زائل تحذيراً منها وتنفيراً عنها، بين تعالى أن الدار التي دعا إليها سالمة من كل نصب وهم ووصب، ثابته بلا زوال، فقال تعالى عاطفاً على قوله
﴿إن ربكم الله الذي خلق السماوات والأرض﴾ ترغيباً في الآخرة وحثاً عيها:
﴿والله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام
﴿يدعوا﴾ أي يعلق دعاءه على سبيل التجدد والاستمرار بالمدعوين
﴿إلى دار السلام﴾ عن قتادة أنه سبحانه أضافها إلى اسمه تعظيماً لها وترغيباً فيها، يعني بأناه لا عطب فيها أصلاً، والسلامة فيها دائمة،
103
والسلام فيها فاش من بعضهم على بعض ومن الملائكة وغيرهم؛ والدعاء: طلب الفعل بما يقع لأجله، والدواعي إلى الفعل خلاف الصوارف عنه.
ولما أعلم - بالدعوة بالهداية بالبيان وأفهم ختم الآية بقوله:
﴿ويهدي من يشاء﴾ أي بما يخلق في قلبه من الهداية
﴿إلى صراط مستقيم*﴾ أن من الناس من يهديه ومنهم من يضله. وأن الكل فاعلون لما يشاء - كان موضع أن يقال: هل هم واحد في جزائه كما هم واحد في الانقياد لمراده؟ فقيل: لا، بل هم فريقان:
﴿للذين أحسنوا﴾ أي الأعمال في الدنيا منهم وهم من هداه
﴿الحسنى﴾ أي الخصلة التي هي في غاية الحسن من الجزاء
﴿وزيادة﴾ أي عظيمة من فضل الله فالناس: مزيد خرجت هدايته من الجهاد
﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ [العنكبوت: ٦٩]، ومراد خرجت هدايته من المشيئة، فالدعوة إلى الجنة بالبيان عامة، والهداية إلى الصراط خاصة لأنها الطريق إلى المنعم.
ولما كان النعيم لا يتم إلاّ بالدوام بالأمن من المضار قال:
﴿ولا يرهق﴾ أي يغشي ويلحق
﴿وجوههم قتر﴾ أي غبرة كغبره الموت وكربة، وهو تغير في الوجه معه سواد وعبوسة تركبهما غلبة
﴿ولا ذلة﴾ أي كآبة وكسوف يظهر منه الانكسار والهوان.
ولما كان هذا واضحاً في أنهم أهل السعادة، وصل به قوله:
104
﴿أولئك﴾ أي العالو الرتبة
﴿أصحاب الجنة﴾ ولما كانت الصحبة جديرة بالملازمة، صرح بها في قوله:
﴿هم﴾ أي لا غيرهم
﴿فيها﴾ أي خاصة
﴿خالدون﴾ أي مقيمون لا يبرحون، لأنهم لا يريدون ذلك لطيبها ولا يراد بهم.
ولما بين حال الفضل فيمن أحسن، بين حال العدل فيمن أساء فقال:
﴿والذين كسبوا﴾ أي منهم
﴿السيئات﴾ أي المحيطة بهم
﴿جزآء سيئة﴾ أي منهم
﴿بمثلها﴾ بعدل الله من غير زيادة
﴿وترهقهم ذلة﴾ أي من جملة جزائهم، فكأنه قيل: أما لهم انفكاك عن ذلك؟ فقيل جواباً:
﴿ما لهم من الله﴾ أي الملك الأعظم؛ وأغرق في النفي فقال:
﴿من عاصم﴾ أي يمنعهم من شيء يريده بهم.
ولما كان من المعلوم أن ذلك مغير لأحوالهم، وصل به قوله:
﴿كأنما﴾ ولما كان المكروه مطلق كونها بالمنظر السيىء، بني للمفعول قوله:
﴿أغشيت وجوههم﴾ أي أغشاها مغش لشدة سوادها لما هي فيه من السوء
﴿قطعاً﴾ ولما كان القطع بوزن عنب مشتركاً بين ظلمة آخر الليل وجمع القطعة من الشيء. بين وأكد فقال:
﴿من الليل﴾ أي هذا الجنس حال كونه
﴿مظلماً﴾ ولما كان ذلك ظاهراً في أنهم أهل الشقاوة، وصل به قوله:
﴿أولئك﴾ أي البعداء
105
البغضاء
﴿أصحاب النار﴾ ولما كانت الصحبة الملازمة، بينها بقوله:
﴿هم فيها﴾ أي خاصة
﴿خالدون﴾ أي لا يمكنون من مفارقتها؛ والرهق: لحق الأمر، ومنه: راهق الغلام - إذا لحق حال الرجال؛ والقتر: الغبار، ومنه الإقتار في الإنفاق لقتله؛ والذلة: صغر النفس بالإهانة؛ والكسب: الفعل لاجتلاب النفع إلى النفس أو النفس أو استدفاع الضر.
ولما بين سبحانه مآل الفريقين، نبه على بعض مقدمات ذلك المانعة أن يشفع أحد من غير إذنه بقوله:
﴿ويوم﴾ أي وفرقنا بينهم لأنه لا أنساب هناك ولا أسباب فلا تناصر يوم
﴿نحشرهم﴾ أي الفريقين: الناجين والهالكين العابدين منهم والمعبودين حال كونهم
﴿جميعاً﴾ ثم يقطع ما بين المشركين وشركائهم فلا يشفع فيهم شيء مما يعتقدون شفاعته ولا ينفعهم بنافعة، بل يظهرون الخصومة ويبارزون بالعداوة وهو ناظر إلى قوله تعالى
﴿إنه يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ [يونس: ٤] وإلى قوله
﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم﴾ [يونس: ١٨] والحشر: الجمع بكره من كل جانب إلى موقف واحد؛ وأشار سبحانه إلى طول وقوفهم بقوله:
﴿ثم نقول للذين أشركوا﴾ أي بنا من لم يشارك في خلقهم؛ وقوله:
﴿مكانكم﴾ نقل أبو حيان عن النحوين أنهم جعلوه اسماً لأثبتوا، ورد
106
على الزمخشري تقديره بألزموا لأنه متعد ويجب أن يساوي بين الاسم والمسمى في التعدي واللزوم، أي نقول لهم: قفوا وقوف الذل
﴿أنتم وشركآؤكم﴾ حتى ينفذ فيكم أمرنا إظهار لضعف معبوداتهم التي كانوا يترجونها وتحسيراً لهم، فلا يمكنهم مخالفة ذلك.
ولما كان التقدير: فوقفوا موافقة للأمر على حسب الإرادة، عطف عليه مسبباً عنه قوله:
﴿فزيلنا﴾ أي أزلنا إزالة كثيرة مفرقة ما كان
﴿بينهم﴾ في الدنيا من الوصلة والألفة حتى صارت عداوة ونفرة فقال الكفار: ربنا هؤلاء الذين أضلونا، وكنا ندعو من دونك
﴿وقال شركاؤهم﴾ لهم متبرئين منهم بما خلق لهم سبحانه من النطق
﴿ما كنتم﴾ أي أيها المشركون، وأضاف الشركاء إليهم لأنهم هم الذين نصبوهم بغير أمر ولا دليل ولأنهم جعلوا لهم نصيباً من أموالهم
﴿إيانا تعبدون﴾ أي تخصوننا بالعبادة لأنا لا نستحق ذلك إشارة لى أنه لا يعبد إلاّ من يستحق الإخلاص في ذلك بأن يعبد وحده من غير شريك، ومن لا يستحق ذلك لا يستحق مطلق العبادة ولا يصلح لها، وكل عبادة فيها شرك لا تعد أصلاً ولا يرضى بها جماد لو نطق، فمتى نفي المقيد بالخلوص نفي المطلق لأنه لا اعتداد به أصلاً، ومن المعلوم أن ما كان بهذه الصفة لا يقدم عليه أحد، فنحن نظن أنه لم يعبدنا عابد فضلاً عن أن يخصنا بذلك، والشخص يجوز له أن ينفي ما
107
يظن نفيه ونحن لم نعلم شيئاً من ذلك.
ولما نفوا ذلك عطفوا عليه مسببين عنه قولهم:
﴿فكفى بالله﴾ أي المحيط علماً وقدرة
﴿شهيداً﴾ أي هو يكفينا كفاية عظيمة جداً من جهة الشهادة التي لا غيبة فيه بوجه ولا ميل أصلاً
﴿بيننا وبينكم﴾ في ذلك يشهد لنا وعلينا؛ ثم استأنفوا خبراً يصحح نفيهم فقالوا مؤكدين لأنهم كانوا يعتقدون علمهم:
﴿إن﴾ أي إنا
﴿كنا﴾ أي كوناً هو جبلة لنا
﴿عن عبادتكم﴾ لنا أو لغيرنا مخلصة أو مشوبة؛ ولما كانت
«إن» هي المخففة من الثقيلة تلقيت باللام الفارقة بينها وبين النافية فقيل:
﴿لغافلين﴾ لأنه لا أرواح فينا، فلم تكن بحيث نأمر بالعبادة ولانرضاها فاللوم عليكم دوننا، وذلك افتداء من موقف الذل أو أنهم لما تخيلوا في الشركاء صفات عبدوها لأجلها وكانت خالية عنها صح النفي لأنهم عبدوا ذوات موصوفة بصفات لا وجود لها في الأعيان، وأيضاً فإنهم ما عبدوا إلاّ الشياطين التي كانت تزين لهم ذلك وتغويهم، ويكون التقدير على ما دل عليه السياق:
﴿فزيلنا بينهم﴾ أي منعناهم مما كانونا فيه من التواصل والتواد المقتضي للتناصر بعبادة الأوثان، فقال المشركون لشركائهم لما أبطأ عنهم نصرهم: إنا كنا نعبدكم من دون الله فأغنوا عنا كما كنا نذب عنكم وننصر دينكم
﴿وقال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون﴾
108
أي كُشِف لنا اليوم بتفهيم الله أنه ليس الأمر كما زعمتم وأنكم لم تخصونا بالعبادة حتى يلزمنا منعكم على أنكم لو خصصتمونا ما قدرنا على ذلك قال الشيطان
﴿ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي﴾ [إبراهيم: ٢٢]
﴿فكفى﴾ أي فتسبب عن نفينا لذلك على ما كشف لنا من العلم أن نقول: كفى
﴿بالله شهيداً بيننا وبينكم﴾ في ذلك، يشهد أنكم لم تخصوا أحداً منه ومنا بعبادة بل كنتم مذبذبين، وهذا كله إشارة إلى أن العبادة المشوبة لا اعتداد بها ولا يرضاها جماد لو نطق، وإن من استحق العبادة استحق الإخلاص فيها وأن لا يشرك به أحد وأنه لا يستحق ذلك إلاّ القادر على كشف الكرب والمنع من أن يقطع بينه وبين متوليه وعابده قاطع؛ ولما كانت فائدة الشاهد ضبط ما قد ينساه المتشاهدان، عللوا اكتفاءهم بشهادة الله بقوله:
﴿إن كنا عن عبادتكم﴾ في تلك الأزمان
﴿لغافلين﴾ فأقروا لهم بما هو الحق مما كان يعلمه كل من له تأمل صحيح أنهم لم يشعروا بعبادتهم ساعة من الدهر قبل ساعتهم هذه، فهم أجدر الخلق بالاكتفاء بشهادة الشهيد لأنهم أسوأ حالاً ممن يعلم المشهود به ويخشى النسيان، أو يقال: فقال المشركون لشركائهم: إنا كنا نعبدكم فهل أنتم ناصرونا أو شافعون لنا فنجونا مما وقعنا فيه {وقال شركاؤهم
109
ما كنتم إيانا} وحدنا
﴿تعبدون﴾ أي ما كنتم تخلصون لنا العبادة حتى يلزمنا أن نخلصكم كما أعلمنا بذلك الله ربنا وربكم المحيط بكل شيء علماً
﴿فكفى﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه كفى
﴿بالله شهيداً بيننا وبينكم﴾ في ذلك، فكأن المشركين قالوا: قد تضمن كلامكم أن عبدناكم على غير منهج الإخلاص، أفليس قد عبدناكم؟ أفلا تغنون عنا شيئاً؟ فأجاب الشركاء بقولهم:
﴿إن كنا عن عبادتكم﴾ خالصة كانت أو مشوبة
﴿لغافلين﴾ فلا نقر لكم بعبادة أصلاً وإن تيقنا الإخلاص لسلب العلم عنا بما كنا فيه من الجمادية فضلاً عن أن نأمركم أو نرضى بعبادتكم على أنه لا غناء عندنا على تقدير من التقادير؛ أو يقال - وهو أحسن مما مضى -:
﴿وقال شركاؤهم﴾ لما تحققوا العذاب طلباً لأن يخفف عنهم منه بتوزيعه عليهم وعلى كل من عبدوه من غيرهم
﴿ما كنتم﴾ أيها العابدون لنا
﴿إيانا﴾ أي خاصة
﴿تعبدون﴾ بل كنتم تعبدون أيضاً غيرنا، وهذا يعم والله كل من يرائيه غيره بعمل وهو يعلم أنه يرائيه فيقره ولا ينكره عليه؛ ولما أفهموا بنفي العبادة بقيد الخصوص أنهم كانوا يعبدون معهم غيرهم، وكان المخلوق قاصر العلم غير محيطه بوجه بأحوال نفسه فكيف يعبدون بأحوال غيره، سببوا عن ذلك قولهم:
﴿فكفى بالله شهيداً بيننا وبينكم إن﴾ أي في أنا
﴿كنا عن عبادتكم﴾ أي في الجملة
﴿لغافلين﴾ والحاصل أن هذا ترجمة كلام الكفار وهو ناشىء منهم عن محض غلبة ودهش وفرط غم وندم وقلق،
110
فلا يشترط أن يكون معناه على الوجه الأسدّ والطريق الأبلغ، فالإعجاز في نظمه، ومرادهم به أن يخفف عنهم من العذاب ولو بمشاركة من كانوا يعبدونهم معهم، فهو من وادي قوله تعالى
﴿فهل أنتم مغنون عنا من عذاب الله من شيء﴾ [إبراهيم: ٢١]،
﴿فهل أنتم مغنون عنا نصيباً من النار﴾ [غافر: ٤٧]
﴿فآتاهم عذاباً ضعفاً من النار﴾ [الأعراف: ٣٨] ونحوه
﴿فما كان لكم علينا من فضل فذوقوا العذاب﴾ [الأعراف: ٣٩]- والله أعلم.
111
ولما أخبر عن حال المشركين، تشوفت النفس إلى الاطلاع على حال غيرهم فقال مستأنفاً مخبراً عن كِلا الفريقين:
﴿هنالك﴾ أي في ذلك الموقف من المكان والزمان العظيم الأهوال المتوالي الزلزال
﴿تبلوا﴾ أي تخبر وتخالط مخالطة مميلة محلية
﴿كل نفس﴾ طائعة وعاصية
﴿مآ أسلفت﴾ أي قدمت من العمل فيعرف هل كان خيراً أو شراً وهل كان يؤدي إلى سعادة أو شقاوة.
ولما كان مطلق الرد - وهو صرف الشيء إلى الموضع الذي ابتدأ منه - كافياً في الرهبة لمن له اب، بُني للمفعول قوله:
﴿وردوآ﴾ أي بالبعث بالإحياء كما كانوا أولاً
﴿إلى الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿مولاهم الحق﴾ فلم يكن لهم قدرة على قصدِ غيره ولا الالتفات إلى سواه من تلك الأباطيل، بل انقطع رجاءهم من كل ما كانوا يدعونه
111
في الدنيا، وهو المراد بقوله:
﴿وضَلَّ عنهم﴾ أي بطل وذهب وضاع
﴿ما كانوا﴾ أي كوناً هو جبلة لهم
﴿يفترون﴾ أي يتعمدون كذبه من أن معبوداتهم شركاء، وتيقنوا في ذلك المقام أن توليهم لغير الله كان باطلاً غير حق؛ والتزييل: تفريق يزول به كل واحد عن مكانه، وهو من تفريق الجثث، وليس من الواوي، بل من اليائي، يقال: زلته عن الشيء أزيله - إذا فرقت بينه وبينه؛ والكفاية: بلوغ مقدار الحاجة في دفع الأذية أو حصول المنفعة؛ والإسلاف: تقديم أمر لما بعده؛ والرد: الذهاب إلى الشيء بعد الذهاب عنه كالرجع؛ والمولى: من يملك تولى أمر مولاه.
ولما قدم سبحانه أن شركاءهم مربوبون مقهورون، لا قدرة لهم إلاّ على ما يقدرهم الله عليه، وأنه وحده المولى الحق، وبانت بذلك فضائحهم، أتبعه ذكر الدلائل على فساد مذهبهم، فوبخهم بأن وجه السؤال إليهم عما هم معترفون بأنه مختص به ويدل قطعاً على تفرده بجميع الأمر الموجب من غير وقفة لاعتقاد تفرده بالإلهية فقال:
﴿قل﴾ أي يا أكرم خلقنا وأرفقهم بالعباد
﴿من يرزقكم﴾ أي يجلب لكم الخيرات أيها المنكرون للبعث المدعون للشركة
﴿من السمآء﴾ أي بالمطر وغيره من المنافع
﴿والأرض﴾ بالنبات وغيره لتعيشوا
﴿أمّن يملك السمع﴾ أي الذي تسمعون به الآيات، ووحده للتساوي فيه في الغالب
112
﴿والأبصار﴾ التي تبصرون بها ما أنعم عليكم به في خلقها ثم حفظها في المدد الطوال على كثرة الآفات فيفيضها عليكم لتكمل حياتكم الحسية ببقاء الروح، والمعنوية بوجود العلم؛ روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظم، وأنطق بلحم.
فلما سألهم عن أوضح ما هم فيه وأقربه، نبههم على ما قبله من بدء الخلق فقال:
﴿ومن يخرج الحي﴾ من الحيوان والنبات
﴿من الميت﴾ أي من النطفة ونحوها
﴿ويخرج الميت﴾ أي من النطفة ونحوها مما لا ينمو
﴿من الحي﴾ أي فينقل من النقص إلى الكمال؛ ثم عم فقال:
﴿ومن يدبر الأمر﴾ أي كله التدبير العام.
ولما كانوا مقرين بالرزق وما معه من الخلق والتدبير، أخبر عن جوابهم إذا سئلوا عنه بقوله:
﴿فسيقولون الله﴾ أي مسمى هذا الاسم الذي له الكمال كله بالحياة والقيومية بخلاف ما سيأتي من الإعادة والهداية
﴿فقل﴾ أي فتسبب عن ذلك أنا نقول لك: قل لهم مسبباً عن جوابهم هذا الإنكار عليهم في عدم التقوى:
﴿أفلا تتقون﴾ أي تجعلون وقاية بينكم وبين عقابه على اعترافكم بتوحده في ربوبيته وإشراككم غيره في إلهيته؛ ثم علل إنكار عدم تقواهم بقوله:
﴿فذلكم﴾ أي العظيم الشأن
﴿الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام، فكانت هذه قدرته وأفعاله
﴿ربكم﴾ أي الموجد لكم المدبر لأموركم الذي لا إحسان
113
عندكم لغيره
﴿الحق﴾ أي الثابته ربوبيته ثباتاً لا ريب فيه لاجتماع الصفات الماضية له لا لغيره لأنه لا تكون الربوبية حقيقة لمن لم تجتمع له تلك الصفات
﴿فما﴾ أي فتسبب عن ذلك أن يقال لكم: ما
﴿ذا بعد الحق﴾ أي الذي له أكمل الثبات
﴿إلاّ الضلال﴾ فإنه لا واسطة بينهما - بما أنبأ عنه إسقاط الجار، ولا يعدل عاقل عن الحق إلى الضلال فانّى تصرفون أنتم عن الحق إلى الضلال؛ ولذلك سبب عنه قوله:
﴿فأنى﴾ أي فكيف ومن أيّ جهة
﴿تصرفون﴾ أي أنتم من صارف ما كائناً ما كان، عن الحق إلى الضلال.
ولما كانوا جديرين عند تقريرهم بهذه الآية وإقرارهم بمضمونها بأن يقولوا: سلمنا فأسلمنا ولا نصرف عن الحق أبداً، فلم يقولوا، كانوا حقيقين بأن يقال لهم: حقت عليكم كلمة الله لفسقكم وزوغانكم عن الحق. فقيل: هل خصوا بذلك؟ فقيل: بل
﴿كذلك﴾ أي مثل ذلك الحقوق العظيم
﴿حقت كلمت ربك﴾ أي المحسن إليك بإهلاك أعدائك: الكلمة الواحدة النافذة التي لا تردد فيها، ومعنى الجمع في قراءة نافع وابن عامر أنه لا شيء من كلماته يناقض الكلمة التي أوجبت عذابهم، بل كلها توافقها فالمراد واحد، أو يكون ذلك كناية عن أن عذابهم دائم فإن كلماته لا تنفذ
﴿على﴾ كل
﴿الذين﴾ فعلوا فعلهم لأنهم
﴿فسقوا﴾ أي أوقعوا الترك لأمر الله وأوجدوا عصيانه وفعلوا الخروج عن طريق الحق والخروج عن دائرة الصلاح، وهو كونهم أمة واحدة إلى دين أبيهم آدم صَفيُ الله عليه السلام؛
114
ثم علل ذلك الحقوق بقوله:
﴿أنهم لا يؤمنون*﴾ أي لا يتجدد منهم إيمان أصلاً، وعبر بالفسق المراد به الكفر لأن السياق للخروج عن دائرة الدين الحق في قوله
﴿وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا﴾ وهذا المعنى أحق بالتعبير للفسق الذي أصله الخروج عن محيط في قولهم: فسقت الرطبة عن قشرها - أي خرجت، أو يكون المعنى: حقت الربوبية له سبحانه بهذا الليل، وهو فعل هذه الأمور المختتمة بالتدبير المقتضي للوحدانية له سبحانه قطعاً لأنه لو كان قادر يساويه في مقدوره لأمكن أن يمانعه، وبطل أن يكون قادراً، وحق أن من زاغ عن الحق كان في الضلال كما حق هذا
﴿كذلك حقت﴾ أي ثبتت ثباتاً عظيماً
﴿كلمت ربك على﴾ كل
﴿الذين﴾ قضى بفسقهم منهم. و
﴿أنهم لا يؤمنون﴾ تفسير لكلمته التي حقت؛ والرزق: جعل العطاء الجاري.
115
ولما علم أنهم معترفون بأمر الهداية وما يتبعها من الرزق والتدبير أعاد سبحانه السؤال عنها مقرونة بالإعادة تنبيهاً لهم على ما يتعارفونه من أن الإعادة أهون، فإنكارها مع ذلك إما جمود أو عناد، وإنكار المسلمات كلها هكذا، وسوقه على الطريق الاستفهام أبلغ وأوقع في القلب فقال:
﴿قل﴾ أي على سبيل الإنكار عليهم
115
والتوبيخ لهم
﴿هل من شركائكم﴾ أي الذين زعمتموهم شركاء لي وأشركتموهم في أموالكم من أنعامكم وزروعكم
﴿من يبدأ الخلق﴾ كما بدأته ليصح لهم ما ادعيتم من الشركة
﴿ثم يعيده﴾.
ولما كان الجواب قطعاً من غير توقف. ليس فيهم من يفعل شيئاً من ذلك، وكان لجاجهم في إنكار الإعادة وعنادهم لا يدعهم انة يجيبوا بالحق، أمره بجوابهم بقوله:
﴿قل الله﴾ أي الذي له الأمر كله
﴿يبدأ الخلق﴾ أي مهما أراد
﴿ثم يعيده﴾ وأتى هنا بجزئي الاستفهام وكذا ما يأتي في السؤال عن الهداية تأكيداً للأمر بخلاف ما اعترفوا به، فإنه اكتفى فيه بأحد الجزأين في قوله
﴿فسيقولون الله﴾ ولم يقل: يرزقنا - إلى آخره؛ ثم زاد في تبكيتهم على عدم الإذعان لذلك بالتعجيب منهم في قوله:
﴿فأنى تؤفكون*﴾ أي كيف ومن أي جهة تصرفون بأقبح الكذب عن وجه الصواب من صارف ما، وقد استنارت جميع الجهات، ورتب هذه الجمل أحسن ترتيب، وذلك أنه سألهم أولاً عن سبب دوام حياتهم وكمالها بالرزق والسمع والبصر وعن بدء الخلق في إخراج الحي من الميت وما بعده، وكل ذلك تنبيهاً على النظر في أحوال أنفسهم مرتباً على الأوضح فالأوضح، فلما اعترفوا به كله أعاد السؤال عن بدء الخلق ليقرن به الإعادة تنبيهاً على أنهما بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، فلما فرغ مما يتعلق بأحوال
116
الجسد أمره أن يسألهم عن غاية ذلك، والمقصود منه من أحوال الروح في الهداية التي في سبب السعادة إمعاناً في الاستدلال بالمصنوع على الصانع على وجه مشير إلى التفضيل فقال:
﴿قل﴾ أي يا أفهم العباد وأعرفهم بالمعبود
﴿هل من شركائكم﴾ أي الذين زعمتم أنهم شركاء لله، فلم تكن شركتهم إلا لكم لأنكم جعلتم لهم حظاً من أموالكم وأولادكم
﴿من يهدي﴾ أي بالبيان أو التوفيق ولو بعد حين
﴿إلى الحق﴾ فضلاً عن أن يهدي للحق على أقرب ما يكون من الوجود إعلاماً.
ولما كانوا جاهلين بالجواب الحق في ذلك أو معاندين، أمره أن يجيبهم معرضاً عن انتظار جوابهم آتياً بجزئي الاستفهام أيضاً فقال:
﴿قل الله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة
﴿يهدي﴾ ولما كان قادراً على غاية الإسراع، عبر باللام فقال:
﴿للحق﴾ إن أراد، ويهدي إلى الحق من يشاء، لا أحد ممن زعموهم شركاء، فالاشتغال بشيء منها بعبادة أو غيرها جهل محض واختلال في المزاج كبير، فالآية من الاحتباك: ذكر
﴿إلى الحق﴾ أولاً دليلاً على حذفه ثانياً، و
﴿للحق﴾ ثانياً دليلاً على حذفه أولاً، فتسبب عن ذلك إنكار أتباعهم لهم فقال:
﴿أفمن يهدي﴾ أي منتهياً في هداه ولو على بعد
﴿إلى الحق﴾ أي الكامل الذي لا زيغ فيه بوجه ولو على أبعد الوجوه
117
﴿أحق أن يتبع﴾ أي بغاية الجهد
﴿أم من لا يهدي﴾ أي يهتدي فضلاً عن أن يهدي غيره إلى شيء من الأشياء أصلاً ورأساً؛ وإدغام تاء الافتعال للإيماء إلى انتفاء جميع أسباب الهداية حتى أدانيها، فإن التاء عند أرباب القلوب معناها انتهاء التسبب إلى أدناه
﴿إلا أن يهدى﴾ أي يهديه هاد غيره كائناً من كان، وهذا يعم كل ما عبد من دون الله من يعقل وممن لا يعقل؛ فلما أتم ذلك على هذا النهج القويم كان كأنه قيل: أتجيبون أم تسكتون؟ وإذا أجبتم أتؤثرون الحق فترجعوا عن الضلال أم تعاندون، تسبب عن ذلك سؤالهم عى وجه التوبيخ بقوله:
﴿فما﴾ اي أيّ شيء ثبت
﴿لكم﴾ في فعل غير الحق من كلام أو سكوت؛ ثم استأنف تبكيتاً آخر فقال:
﴿كيف تحكمون*﴾ فيما سألناكم عنه مما لا ينبغي أن يخفى على عاقل، أبالباطل أم بالحق؟ فقد تبين الرشد من الغي؛ والبدء: العقل الأول؛ والإعادة: إيجاد الشيء ثانياً؛ والهداية: التعريف بطريق الرشد من الغي.
ولما أخبر بإقرارهم عن بعض ما يسألون عنه ثم عقبه بما لوح إلى إنكارهم أو سكوتهم عن بعضه مما يتعلق بشركائهم، عطف على ما صرح به من قولهم
﴿فسيقولون﴾ وما لوح إليه من
«فسينكرون» أو
«فسيسكتون» قوله:
﴿وما يتبع﴾ أي بغاية الجهد
﴿أكثرهم﴾ أي نطقه أو سكوته في عبادته للأصنام وقوله: إنها شفعاء، وغير ذلك
118
﴿إلا ظناً﴾ تنبيهاً على أنهم إنما هم مقلدون وتابعون للأهواء.
ولما كان الظن لا ينكر استعماله في الشرائع، نبه على أن محله إنما هو حيث لا يوجد نص على المقصود، فيقاس حينئذ على النصوص بطريقة، وأما إذا وجد القاطع في حكم فإنه لا يجوز العدول عنه بوجه من الوجوه فقال تعالى في جواب من يقول: أو ليس الظن مستعملاً في كثير من الأحكام؟ :
﴿إن الظن لا يغني﴾ أي أصلاً
﴿من الحق﴾ أي الكامل
﴿شيئاً﴾ أي بدله، ولايكون بدل الحق إلا إذا كان تابعه مخالفاً فيه لقاطع يعمله.
ولما صار ظهور الفرق ضرورياً، أوقع تهديد المتمادي في غيه في جواب من كأنه قال: إن ذلك غير خفي عنهم ولكنهم يستكبرون فلا يرجعون، فقال:
﴿إن الله﴾ أي المحيط بكل شيء
﴿عليم﴾ أي بالغ العلم
﴿بما يفعلون*﴾ فاصبر فلسوف يعملون.
119
ولما قدم في هذه السورة قولهم
﴿لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ وأتى فيها رداً عليهم ووعظاً لهم من الآيات البالغة في الحكمة جداً يتجاوز قوى البشر ويضمحل دونه من الخلق القدر، وكان آخر ذلك التنبيه على أن شركاءهم لا يهتدون إلا أن هداهم الهادي فضلاً عن أن يهدوا، وإقامة الدليل على أن مذاهبهم ليست مستندة إلى علم بل هى تابعة للهوى، أتبع ذلك دليلاً قطعياً في أمر القرآن من أنه لا يصح أصلاً أن يؤتى به من دون أمره سبحانه رداً لقولهم: إنه مفترى، لأنه
119
من وادي ما ختم به هذه الآيات من اتباعهم للظنون لأنه لا سند لهم في ذلك بل ولا شبهة أصلاً، وإنما هو مجرد هوى بل وأكثرهم عالم بالحق في أمره، فنفى ذلك بما يزيح الظنون ويدمغ الخصوم ولا يدع شبهة لمفتون، وأثبت أنه هو الآية الكبرى والحقيق بالاتباع لأنه هدى، فقال تعالى:
﴿وما كان﴾ عاطفاً له على قوله
﴿ما يكون لي أن أبدله﴾ إلى آخره، فهو حينئذ مقول القول، أي قل لهم ذاك الكلام وقل لهم
﴿ما كان﴾ أي قط بوجه من الوجوه، وعينه تعييناً لا يمكن معه لبس، فقال:
﴿هذا القرآن﴾ أي الجامع لكل خير مع التأدية بأساليب الحكمة المعجزة لجميع الخلق
﴿أن يفترى﴾ أي أن يقع في وقت من الأوقات تعمد نسبته كذباً إلى الله من أحد من الخلق كائناً من كان؛ وعرف بتضاؤل رتبتهم دون شامخ رتبته سبحانه بقوله:
﴿من دون الله﴾ أي الذي تقرر أنه يدبر الأمر كله، فما من شفيع إلا من بعد إذنه وما يعزب عنه شيء فسبحان المتفضل على عباده بإيضاح الحجج وإزالة الشكوك والدعاء إلى سبيل الرشاد مع غناه عنهم وقدرته عليهم؛ والافتراء: الإخبار على القطع بالكذب، لأنه من فرى الأديم وهو قطعه بعد تفزيره.
ولما كان إتيان الأمي - الذي لم يجالس عالماً - بالأخبار والقصص الماضية على التحرير دليلاً قطعاً على صدق الآتي في ادعائه أنه لا معلم
120
له إلا الله، عبر بأداة العناد فقال:
﴿ولكن﴾ أي كان كوناً لا يجوز غيره
﴿تصديق الذي﴾ أي تقدم
﴿بين يديه﴾ أي قبله من الكتب، والدليل على تصادقه شاهد الوجود مع أن القوم كانوا في غاية العدواة له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان أهل الكتابين عندهم في جزيرة العرب على غاية القرب منهم مع أنهم كانوا يتجرون إلى بلاد الشام وهم متمكنون من السؤال عن كل ما يأتي به، فلو وجدوا مغمزاً ما لقدحوا به، فدل عدم قدحهم على التصادق قطعاً.
ولما كان ذلك سلطاناً قاهراً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زاده ظهوراً بما اشتمل الكتاب الآتي به عليه من التفصيل الذي هو نهاية العلم فقال:
﴿وتفصيل الكتاب﴾ أي الجامع المجموع فيه الحكم والأحكام وجوامع الكلام من جميع الكتب السماوية في بيان مجملاتها وإيضاح مشكلاتها، فهو ناظر إلى قوله
﴿أفمن يهدي إلى الحق﴾، فهو برهان على أنه هو الهادي وحده، فهو الحقيق بالاتباع والتفصيل بتبيين الفصل بين المعاني الملتبسة حتى تظهر كل معنى على حقه، ونظيره التقسيم، ونقضيه التخليط والتلبيس، وبيان تفصيله أنه أتى من العلوم العلمية الاعتقادية من معرفة الذات والصفات بأقسامها، والعملية التكليفية المتعلقة بالظاهر وهي علم الفقه وعلم الباطن ورياضة النفوس بما لا مزيد عليه ولا يدانيه فيه كتاب، وعلم الأخلاق كثير في القرآن مثل
121
﴿خذ العفو﴾ [الأعراف: ١٩٩]
﴿إن الله يأمر بالعدل﴾ [النحل: ٩٠] وأمثالهما.
ولما كان - مع الشهادة بالصدق بتصديق ما ثبت حقيقة - معجزاً بالجمع والتفصيل لجميع العلوم الشريفة: عقليها ونقليها إعجازاً لم يثبت لغيره، ثبت أنه مناقض للافتراء حال كونه
﴿لا ريب فيه﴾ وأنه
﴿من رب العالمين*﴾ أي موجدهم ومدبر أمرهم والمحسن إليهم لأنه - مع الجمع لجميع ذلك - لا اختلاف فيه بوجه، وذلك خارج عن طوق البشر.
ولما كان هذا موضع أن يذعنوا لأن هذا القرآن ليس إلا من عند الله وبأمره قطعاً، كان كأنه قيل: ارجعوا عن غيهم فآمنوا واستقاموا
﴿أم﴾ استمروا على ضلالهم
﴿يقولون﴾ على سبيل التجديد والاستمرار عناداً
﴿افتراه﴾ أي تعمد نسبته كذباً إلى الله، فكأنه قيل، تمادوا على عتوهم فقالوا ذلك فكانوا كالباحث عن حتفه بظلفه، لأنهم أصلوا أصلاً فاسداً لزم عليه قطعاً إمكان أن يأتوا بمثله لأنهم عرب مثله، بل منهم من قرأ وكتب وخالط العلماء واشتد اعتناءه بأنواع البلاغة من النظم والنثر والخطب وتمرنه فيها بخلافه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في جميع ذلك، فلهذا أمره في جوابهم بقوله
﴿قل﴾ أي لهم يا أبلغ خلقنا وأعرفهم بمواقع الكلام لجميع أنواعه، أتى بالفاء
122
السببية في قوله:
﴿فأتوا﴾ أي أنتم تصديقاً لقولكم هذا الذي تبين وأنكم فيه معاندون؛ ولما كانوا قد جزموا في هذه السورة بأنه افتراه، وكان مفصلاً إلى سور كل واحدة منها لها مقصد معين يستدل فيها عليه، وتكون خاتمتها مرتبطة بفاتحتها متحدة بها، اكتفى في تحديهم بالإتيان بقطعة واحدة غير مفصلة إلى مثل سورة لكن تكون مثل جميع القرآن في الطول والبيان وانتظام العبارة والتئام المعاني فلذلك قال:
﴿بسورة﴾ قال الرماني: والسورة منزلة محيطة بآيات من أجل الفاتحة والخاتمة كإحاطة سور البناء، وهذا نظراً إلى أن المتحدي به سورة اصطلاحية والصواب أنها لغوية، وهي كما قال الحرالي تمام جملة من المسموع تحيط بمعنى تام بمنزلة إحاطة السور بالمدنية؛ ووصفها بقوله:
﴿مثله﴾ أي قي البلاغة وحسن النظم وصحة المعاني ومصادقة الكتب وتفصيل العلوم لأنكم مثلي في العربية وتزيدون بالكتابة ومخالطة العلماء - من غير إتيان ب
«من» لما تقدم من أن المراد كونها مثل القرآن كله، ولذلك وسع لهم في الاستعانة بجميع من قدروا عليه ووصلت طاقتهم إليه ولم يقصرهم على من بحضرتهم فقال:
﴿وادعوا﴾ أي لمعاونتكم
﴿من استطعتم﴾ أي قدرتم على طاعته ولو ببذل الجهد من الجن والإنس وغيرهم للمعاونة، وحقق أن هذا القرآن من عنده سبحانه
123
باستثنائه في قوله:
﴿من دون الله﴾ أي الذي له الكمال كله، ونبه على أنهم متعمدون لما نسبوه إليه - وحاشاه من تعمد الكذب - وأنهم معاندون بقوله:
﴿إن كنتم﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿صادقين*﴾ أي في أنه أتى به من عنده، لأن العاقل لا يجزم بشيء إلا إذا كان عنده منه مخرج، وذلك لا يكون إلا عن دليل ظاهر وسلطان قاهر باهر، وقد مضى في البقرة ويأتي في هود إن شاء الله تعالى ما يوضح هذا المعنى؛ والاستطاعة: حالة تتطاوع بها الجروح والقوى للفعل لأنه مأخوذ من الطوع؛ ثم كان كأنه قيل: فقال لهم ذلك فلم يأتوا لقومهم بشبهة توجب شكاً فضلاً عن مصدق، لأنه معجز لكونه كلاماً في أعلى طبقات البلاغة بحسن النظام والجزالة منزلاً من عند الله المحيط علماً وقدرة، فهو مشتمل من كل معنى على ما علا كل العلو عن مدان
﴿بل﴾.
وأحسن من ذلك أنه لما أقام الدليل على أن القرآن كلامه، وكان الدليل إنما من شأنه أن يقام على من عرض له غلط أو شبهة، وكان قولهم
﴿افتراه﴾ لا عن شبهة وإنما هو مجرد عناد، نبه سبحانه على ذلك وعلى أنه إنما أقام الدليل لإظهار عنادهم لا لأن عندهم شبهة في كونه حقاً بالإضراب عن قولهم فقال:
﴿بل﴾ أي لم يقولوا
﴿افتراه﴾ عن اعتقاد منهم لذلك بل
﴿كذبوا﴾ أي أوقعوا التكذيب الذي لا تكذيب أشنع منه مسرعين في ذلك من غير أن يتفهموه مستهينين
﴿بما لم يحيطوا بعلمه﴾ اي في نظمه أو معناه من غير شبهة أصلاً بل
124
عناداً وطغياناً ونفوراً مما يخالف دينهم وشراداً، فهو من باب
«من جهل شيئاً عاداه» والإحاطة: إرادة ما هو كالحائط حول الشيء، فإحاطة العلم بالشيء العلم به من جميع وجوهه.
ولما كان لا بد من وقوع تأويله، وهو إتيان ما فيه من الإخبار بالمغيبات على ما هي عليه، قال:
﴿ولما يأتهم﴾ أي إلى زمن تكذيبهم
﴿تأويله﴾ أي ترجيعنا لأخباره إلى مراجعها وغاياتها حتى يعلموا أصدق هي أم كذب، فإنه معجز من جهة نظمه ومن جهة صدقه في أخباره؛ والتأويل: المعنى الذي يؤول إليه التفسير، وهو منتهى التصريح من التضمين.
ولما كان كأنه قيل: إن فعلهم هذا لعجب، فما حملهم على التمادي فيه؟ فقيل: تبعوا في ذلك من قبلهم لموافقتهم في سوء الطبع، قال مهدداً لهم ومسلياً له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
﴿كذلك﴾ أي مثل تكذيبهم هذا التكذيب العظيم في الشناعة قبل تدبير المعجز
﴿كذب الذين﴾ ولما كان المكذبون بعض السالفين، أثبت الجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ أي من كفار الأمم الخالية فظلموا فأهلكناهم بظلمهم؛ ولما كان التكذيب خطراً لما يثير من السرور، سبب عنه - تحذيراً منه - النظر في عاقبة أمره فقال:
﴿فانظر﴾ أي بعينك ديارهم وبقلبك أخبارهم.
ولما كان من نظر هذا النظر وجد فيه أجل معتبر وأعلى مزدجر، وجه السؤال إليه بقوله:
﴿كيف كان عاقبة﴾ أي آخر أمر
﴿الظالمين*﴾
125
أي الذين رسخت أقدامهم في وضع الأشياء في غير مواضعها حتى كذبوا من لا يجوز عليه الكذب بوجه، ومن المقطوع به أن هذا المسؤول يقول من غير تعلثم ولا تردد: عاقبة وخيمة قاصمة ذميمة؛ والعاقبة سبب تؤدي إليه البادئة، فالذي أدى إلى إلى هلاكهم بعذاب الاستئصال ما تقدم من ظلمهم لأنفسهم وعتوهم في كفرهم.
ولما ذكر سبحانه تكذيبهم، كان ذلك ربما أيأس من إذعانهم وتصديقهم، وآذن باستئصالهم لتكمل المشابهة للأولين، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شديد الشفقة عليهم والحرص على إيمانهم، فأتبعه تعالى بقوله بياناً لأن علمه بانقسامهم أوجب عدم استئصالهم عاطفاً على
﴿كذبوا﴾ :
﴿ومنهم﴾ أي قومك
﴿من يؤمن به﴾ أي في المستقبل
﴿ومنهم من لا يؤمن به﴾ أي القرآن أصلاً ولو رأى كل آية
﴿وربك﴾ أي المحسن إليك بالرفق بأمتك
﴿أعلم بالمفسدين*﴾ أي الذين هم عريقون في الإفساد فسيعاملهم بما يشفي صدرك.
126
ولما قسمتهم هذه الآية قسمين، وتليت بذكر القسم الثاني بالواو، عرف أنه معطوف على مطوى القسم الأول، فكان كأنه قيل: فإن صدقوك فقل: الله ولي هدايتكم ولي مثل أجوركم بنسبتي فيها فضلاً من ربي:
﴿وإن كذبوك فقل﴾ أي قول منصف معتمد على قادر عالم
﴿لي علمي﴾ بالإيمان والطاعة
﴿ولكم عملكم﴾
126
ما لأحد من ولا عليه من جزاء الآخر شيء؛ ثم صرح بالمقصود من ذلك بقوله محذراً لهم:
﴿أنتم بريئون مما أعمل﴾ أي فإن كان خيراً لم يكن لكم منه شيء وإن كان غيره لم يكن عليكم منه شيء
﴿وأنا بريء مما تعملون*﴾ لا جناح عليّ في شيء منه لأني لا أقدر على ردكم عنه؛ والبراءة: قطع العلقة الذي يوجب رفع المطالبة، ولا حاجة إلى ادعاء نسخ هذه الآية بآية السيف، فإنه لا منافاة بينهما، لأن هذه في رفع لحاق الإثم وهو لا ينافي الجهاد.
ولما قسمهم إلى هذين القسمين، قسم القسم الأخير إلى قسمين فقال:
﴿ومنهم﴾ أي المكذبين
﴿من﴾ ولما كان المستمع إليه أكثر لأنهم أشهى الناس إلى تعرف حاله، وكان طريق ذلك السمع والبصر، وكان تحديق العين إليه لا يخفى، فكان أكثرهم يتركه إظهاراً لبغضه وخوفاً من إنكار من يراه عليه، وكان إلقاء السمع بغاية الجهد يمكن إخفاءه بخلاف الإبصار، عبر هنا بالافتعال، وجمع دالاً على كثرتهم نظراً إلى معنى
«من» وأفرد في النظر اعتباراً للفظها ودالاً على قلة الناظر بما ذكر فقال:
﴿يستمعون﴾ وضمن الاستماع الإصغاء ليؤدي مؤدي الفعلين، ودل على الإصغاء بصلته معلقة بحال انتزعت منه فكأنه: قال مصغين
﴿إليك﴾ أي عند قراءة القرآن وبيانه بالسنة، ولكنهم وإن كانوا قسمين بالنسبة إلى الاستماع والنظر فهم
127
قسم واحد بالنسبة إلى الضلال، فكان تعقيب ذلك بحشرهم بعد قصر الهداية عليه سبحانه كذكر حشرهم فيما مضى تقسيمهم إلى قسمين بعد قوله
﴿ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم﴾.
ولما كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يريد - بإسماعه لهم ما أنزل الله - هدايتهم به، سبب عن استماعهم إنكار إسماعهم الإسماع المترتب عليه الهدى فقال:
﴿أفأنت﴾ أي وحدك
﴿تسمع الصم﴾ أي في آذان قلوبهم لأنهم يستمعون إليك وقد ختم على أسماعهم فهم لا ينتفعون باستماعهم لأنهم يطلبون السمع للرد لا للفهم؛ والسمع إدراك الشيء بما يكون به مسموعاً، فكانوا بعدم انتفاعهم كأنهم هم مجانين، لأن الأصم العاقل ربما فهم بالتفرس في تحريك الشفاه وغيرها فلذا قال:
﴿ولو كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿لا يعقلون*﴾ أي لا يتجدد لهم عقل أصلاً فصاروا بحيث لا يمكن إسماعهم لأنه لا يمكن إلا بسماع الصوت الدال على المعنى وبفهم المعنى، والمانع من الأول الصمم، ومن الثاني عدم العقل، فصاروا شراً من البهائم لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع، والأصم: المنسد السمع بما يمنع من إدراك الصوت
﴿ومنهم من ينظر﴾ محدقاً أو رامياً ببصره من بعيد
﴿إليك﴾ فهو من التضمين كما سبق في
﴿يستمعون﴾ ؛ نقل عن التفتازاني أنه قال في حاشية الكشاف: وحقيقة التضمين أن يقصد بالفعل معناه الحقيقي مع فعل آخر يناسبه
128
وهو كثير في كلام العرب، وذلك مع حذف حال مأخوذ من الفعل الآخر بمعونة القرينة اللفظية، ويتعين جعل الفعل المذكرو أصلاً والمذكور حاله تبعاً، لأن حذفه والدلالة عليه بصلته يدل على اعتباره في الجملة لا على زيادة القصد إليه، ومن أمثلته: أحمد إليك الله، أي منهياً إليك حمده، ويقلب كفيه على كذا، أي نادماً عليه،
﴿ولا تعد عيناك عنهم﴾ [الكهف: ٢٨] أي مجاوزتين عنهم إلى غيرهم،
﴿ولا تأكلوا أموالهم﴾ -ضاميها
﴿إلى أموالكم﴾ [النساء: ٢]،
﴿الرفث - مفضين - إلى نسائكم﴾ [البقرة: ١٨٧]،
﴿ولا تعزموا﴾ [البقرة: ٢٣٥] أي على النكاح وأنتم تنوون عقدته
﴿ولا يسمعون﴾ مصغين
﴿إلى الملإ الأعلى﴾ [الصافات: ٨]، سمع الله - أي مستجيباً - لمن حمده،
﴿والله يعلم المفسد﴾ [البقرة: ٢٢٠] مميزاً له -
﴿من المصلح﴾،
﴿والذين يؤلون﴾ - ممتنعين
﴿من﴾ وطء
﴿نسائهم﴾ [البقرة: ٢٢٦].
ولما كان المعنى أنك يا أكرم الخلق تريد بنظر هذا الناظر إليك ان ينظر إلى ما تأتي به من باهر الآيات فيهتدي وهو غير منتفع بنظره لما جعل عليه من الغشاوة فكان كالأعمى الذي زاد على عدم بصره عدم العقل فلا بصر ولا بصيرة، قال منكراً لذلك:
﴿أفأنت تهدي العمي﴾
129
أي عيوناً وقلوباً
﴿ولو كانوا﴾ أي بما جبلوا عليه
﴿لا يبصرون*﴾ أي لا يتجدد لهم بصر ولا بصيرة، فلا تمكن هدايتهم، لأن هداية الطريق الحسي لا تمكن إلا بالبصر، وهداية الطريق المعنوي لا تمكن إلا بالبصيرة؛ والنظر: طلب الرؤية بتقليب البصر، ونظر القلب طلب العلم بالفكر؛ والعمى: آفة تمنع الرؤية عن العين والقلب؛ والإبصار: إدراك الشيء بما به يكون مبصراً، فكأنه قيل: ما له فعل بهم هذا والأمر بيده؟ فقيل: لأنه تام المُلك والمِلك وهو متفضل في جميع نعمة لا يجب عليه لأحد شيء فهو لا يسأل عما يفعل، وبنى عليه قوله:
﴿إن الله﴾ وأحسن منه أن يقال: ولما كان التقدير: إذا علمت ذلك فخفف عنك بعض ما أنت فيه، فإنك لا تقدر على إسماعهم ولا هدايتهم لأن الله تعالى أراد ما هم عليه منهم لاستحقاقهم ذلك لظلمهم أنفسهم، علله بقوله:
﴿إن الله﴾ أي المحيط بجميع الكمال
﴿لا يظلم الناس شيئاً﴾ وإن كان هو الذي جبلهم على الشر
﴿ولكن الناس﴾ أي لما عندهم من شدة الاضطراب والتقلب
﴿أنفسهم﴾ أي خاصة
﴿يظلمون*﴾ بحملهم لها على الشر وصرف قواهم فيه باختيارهم مع زجرهم عن ذلك وحجبهم عما جبلوا عليه وإن كان الكل بيده سبحانه ولا يكون إلا بخلقه.
130
ولما كان في هذه الآيات ما ذكر من أفانين جدالهم في أباطيلهم وضلالهم، وكان فعل ذلك - ممن لا يرى حشراً ولا جزاء ولا نعيماً وراء نعيم هذه الدار - فعل فارغ السر مستطيل للزمان آمن من نوازل الحدثان، حسن تعقيبه بأنهم يرون يوم الحشر من الأهوال ما يستقصرون معه مدة لبثهم في الدنيا، فقد خسروا إذن دنياهم بالنزاع، وآخرتهم بالعذاب الذي لا يستطاع، وليس له انقطاع، فقال تعالى مهدداً لهؤلاء الكفار الذين يعاندون فلا يسمعون ولا يبصرون عاطفاً على
﴿ويوم نحشرهم﴾ الأولى:
﴿ويوم يحشرهم﴾ أي واستقصروا مدة لبثهم في الدنيا يوم الحشر لما يستقبلهم من الأهوال والزلازل الطوال، فكأنه قيل: إلى أي غاية؟ فقيل:
﴿كأن﴾ أي كأنهم
﴿لم يلبثوا﴾ في دنياهم، والجملة في موضع الحال من ضمير
﴿يحشرهم﴾ البارز أي مشبهين بمن لم يلبثوا
﴿إلا ساعة﴾ أي حقيرة
﴿من النهار﴾ وقوله:
﴿يتعارفون بينهم﴾ حال ثانية، أي لم يفدهم تلك الساعة أكثر من أن عرف فيها بعضهم بعضاً ليزدادوا بذلك حسرة في ذلك اليوم بعدم القدرة على التناصر والتعاون والتظافر كما كانوا يفعلون في الدنيا.
ولما كانت حالهم هذه هي الخسارة التي ليس معها تجارة، فكان السامع متوقعاً للخبر عنها، قال متعجباً منهم موضع: ما أخسرهم:
131
﴿قد خسر﴾ أي حقاً
﴿الذين كذبوا﴾ أظهر موضع الإضمار تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف مستهينين
﴿بلقاء الله﴾ أي الملك الأعلى بما أخذوا من الدنيا من الخسيس الفاني وتركوا مما كشف لهم عنه البعث من النعيم الشريف الباقي؛ ولما كان الذي وقع منه تكذيب مرة في الدهر قد يفيق بعد ذلك فيهتدي، قال عاطفاً على الصلة:
﴿وما كانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿مهتدين*﴾ مشيراً إلى تسفيههم فيما يدعون البصر فيه من أمر المتجر والمعرفة بأنواع الهداية.
132
ولما كان إخبار الصادق بهلاك الأعداء مقراً لعين، وكانت مشاهدة هلاكهم أقر لها، عطف على قوله
﴿قد خسر﴾ :
﴿وإما نرينك﴾ أي إراءة عظيمة قبل وفاتك
﴿بعض الذي نعدهم﴾ أي في الدنيا بما لنا من العظمة فهو أقر لعينك
﴿أو نتوفينك﴾ قبل ذلك
﴿فإلينا مرجعهم﴾ فنريك فيما هنالك ما هو أقر لعينك وأسر لقلبك، فالآية من الاحتباك: ذكر أولاً الإراءة دليلاً على حذفها ثانياً، والوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً؛ و
«ثم» في قوله:
﴿ثم الله﴾ أي المحيط بكل شيء
﴿شهيد﴾ أي بالغ الشهادة
﴿على ما يفعلون*﴾ في الدارين - يمكن أن يكون على بابها، فتكون مشيرة إلى التراخي بين ابتداء رجوعهم بالموت وآخره بالقيامة، ليس المراد بقوله
﴿شهيد﴾ ظاهره، بل العذاب الناشىء عن الشهادة في الآخرة إلى أن الله يعاقبهم بعد مرجعهم، فيريك ما بعدهم لأنه عالم بما يفعلون.
132
ولما كان في هذه الآية التهديد بالعذاب إما في الدنيا أو في الآخرة غير معين له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واحدةً منهما، أتبعها بما هو صالح للأمرين بالنسبة إلى كل رسول إشارة إلى أن أحوال الأمم على غير نظام فلذلك لم يجزم بتعيين واحدة من الدارين للجزاء، وجعل الأمر منوطاً بالقسط، ففي أي دار أحكم جعله فيها، فقال تعالى: دالاً على أنه نشر ذكر الإسلام وهو الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسوله واليوم الآخر من عهد آدم عليه السلام إلى آخر الدهر على وجه لم يحصل له اندراس في دهر من الدهور، فمن تركه استحق العذاب سواء كان ممن بين عيسى ومحمد عليهما السلام أم لا، فلا تغتر بما يقال من غير هذا:
﴿ولكل أمة﴾ أي من الأمم التي خلت قبلك
﴿رسول﴾ يدعوهم إلى الله؛ ثم سبب عن إتيان رسولهم بيان القضاء فيهم فقال:
﴿فإذا جاء﴾ أي إليهم
﴿رسولهم﴾ في الدنيا بالبينات والهدى؛ وفي الآخرة في الموقف بالإخبار بما صنعوا به في الدنيا من تكذيب أو تصديق
﴿قضي بينهم﴾ أي في جميع الأمور بما أفاده نزع الخافض على أسهل وجه من غير شك بما أفاده البناء للمفعول؛ ولما كان السياق بالترهيب أجدر، قال
﴿بالقسط﴾ أي أظهر خفياً من استحقاقهم في القضاء بالعدل والقسمة المنصفة بينهم كلهم بالسوية فأعطى كل أحد منهم مقدار ما يخصه من تعجيل العذاب وتأخيره كما فعل معك؛ ولما كان ذلك لا يستلزم الدوام، قال:
﴿وهم لا يظلمون*﴾
133
أي لا يتجدد لهم ظلم منه سبحانه ولا من غيره.
ولما تقدم في هذه الآيات تهديدهم بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، حكى سبحانه جوابهم عن ذلك عطفاً على قوله:
﴿ويقولون لولا أنزل عليه آية من ربه﴾ فقال:
﴿ويقولون﴾ أي هؤلاء المشركون مجددين لهذا القول مستمرين على ذلك استهزاء:
﴿متى هذا الوعد﴾ أي بالعذاب في الدنيا أو في الآخرة، وألهبوا وهيجوا بقولهم:
﴿إن كنتم﴾ أي أنت ومن قال بقولك
﴿صادقين*﴾ والقول كلام مضمن في ذكره بالحكاية وقد يكون كلام لا يعبر عنه فلا يكون له ذكر مضمن بالحكاية، فلا يكون قولاً لأنه إنما يكون قولاً من أجل تضمن ذكره بالحكاية - قاله الرماني، ولتضمين جعل الشيء في وعاء؛ والوعد: خبر بما يعطي من الخير، والوعيد: خبر بما يعطى من الشر، وقد يراد الإجمال كما هنا فيطلق الوعد على المعنيين: وعد المحسن بالثواب والمسيء بالعقاب؛ والصدق: الخبر عن الشيء على ما هو به؛ والكذب: الخبر عنه على خلاف ما هو به.
ولما تضمن قولهم هذا استعجاله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يتوعدهم به، أمره بأن يتبرأ من القدرة على شيء لم يقدره الله عليه بقوله:
﴿قل﴾ أي لقومك المستهزئين
﴿لا أملك لنفسي﴾ فضلاً عن غيري؛ ولما كان السياق للنقمة، قدم الضر منبهاً على أن نعمه أكثر من نقمة؛
134
وأنهم في نعمه، عليهم أن يقيدوها بالشكر خوفاً من زوالها فضلاً عن أن يتمنوه فقال:
﴿ضراً ولا نفعاً﴾.
ولما كان من المشاهد أن كل حيوان يتصرف في نفسه وغيره ببعض ذلك قال:
﴿إلا ما شاء الله﴾ أي المحيط علماً وقدرة أن أملكه من ذلك، فكأنه قيل: فما لك لا تدعوه بأن يشاء ذلك ويقدرك عليه؟ فقيل:
﴿لكل أمة أجل﴾ فكأنه قيل: وماذا يكون فيه؟ فقيل:
﴿إذا جاء أجلهم﴾ هلكوا؛ ولما كان قطع رجائهم من الفسحة في الأجل من أشد عذابهم، قدم قوله:
﴿فلا يستأخرون﴾ أي عنه
﴿ساعة﴾ ثم عطف على الجملة الشرطية بكمالها
﴿ولا يستقدمون*﴾ فلا تستعجلوه فإن الوفاء بالوعد لا بد منه. والسين فيهما بمعنى الوجدان، أي لا يوجد لهم المعنى الذي صيغ منه الفعل مثل: استشكل الشيء واستثقله، ويجوز كون المعنى: لا يوجدون التأخر ولا التقدم وإن اجتهدوا في الطلب، فيكون في السين معنى الطلب والملك قوة يتمكن بها من تصريف الشيء أتم تصريف، والنفع: إيجاب اللذة بفعلها والتسبب المؤدي إليها؛ والضر: إيجاب الألم بفعله أو التسبب إليه؛ والأجل: الوقت المضروب لوقوع أمر.
135
ولما كان جل قصدهم بذلك الاستهزاء، وكان وقوعه أمراً ممكناً، وكان من شأن العاقل أن يبعد عن كل خطر ممكن، أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
135
بجواب آخر حذف منه واو العطف لئلا يظن أنه لا يكفي في كونه جواباً إلا بضمنه إلى ما عطف عليه فقال:
﴿قل﴾ أي لمن استبطأ وعيدنا بالعذاب في الدنيا أو في الأخرى، وهو لا يكون إلا بعد الأخذ في الدنيا إعلاماً بأن الذي يطلبونه ضرر لهم محض لا نفع فيه بوجه، فهو مما لا يتوجه إليه قصد عاقل
﴿أرءيتم﴾ وهي من رؤية القلب لأنها دخلت على الجملة من الاستفهام
﴿إن أتاكم عذابه﴾ في الدنيا.
ولما كان أخذ الليل أنكى وأسرع، قدمه فقال:
﴿بياتاً﴾ أي في الليل بغتة وأنتم نائمون كما يفعل العدو؛ ولما كان الظفر ليلاً لا يستلزم الظفر نهاراً مجاهرة قال:
﴿أو نهاراً﴾ أي مكاشفة وأنتم مستيقظون، أتستمرون على عنادكم فلا تؤمنوا؟ فكأنهم قالوا: لا، فليجعل به ليرى، فقيل: إنكم لا تدرون ما تطلبون! إنه لا لمخلوق بنوع منه، ولا يجترىء على مثل هذا الكلام إلا مجرم
﴿ماذا﴾ أي ما الذي؟ ويجوز أن يكون هذا جواب الشرط
﴿يستعجل﴾ أي يطلب العجله
﴿منه﴾ أي من عذابه، وعذابه كله مكروه لا يحتمل شيء منه
﴿المجرمون*﴾ إذ سنة الله قد استمرت بأن المكذب لا يثبت إلا عند مخايله، وأما إذا برك بكلكه وأناخ بثقله فإنه يؤمن حيث لا ينفعه الإيمان
﴿ولن تجد لسنةِ الله تحويلاً﴾ [فاطر: ٤٣] وهذا معنى التراخي في قوله:
﴿أثُمَّ إذا ما وقع﴾
136
أي عذابه وانتفى كل ما يضاده
﴿آمنتم به﴾ وذلك أنه كانت عادتهم كمن قبلهم الاستعجال بالعذاب عند التوعد به، وكانت سنة الله قد جرت بأن المكذبين إذا أتاهم العذاب يتراخى إيمانهم بعد مجىء مقدماته وقبل اجتثاثهم بعظائم صدماته لشدة معاندتهم فيه وتوطنهم عليه كما وقع للأولين من الأمم بغياً وعتواً كقوم صالح لما تغيرت وجوههم بألوان مختلفة في اليوم الأول ثم الثاني ثم الثالث وأيقنوا بالهلكة وودع بعضهم بعضاً ولم يؤمنوا. وجرت بأنهم إذا ذاقوا مس العذاب وأخذتهم فواجئه الصعاب شغلتهم دواهيه عن العناد واضطرتهم أهواله إلى سهل الانقياد، فكان في غاية الحسن وضع تقريعهم على الاستعجال عقب الوعيد، ثم وضع التراخي عن الإيمان بالعناد بعد الإشراف على الهلاك ومعاينة التلف، فكان كأنه قيل: أخبروني على تقدير أان يأتيكم عذابه الذي لا عذاب أعظم منه - كما دل ذلك إضافته إليه - فبيتكم أو كاشفكم، ما تفعلون؟ ألا تؤمنون؟ فقالوا لا، فليعجل به ليرى، فناسب لما كان استعجالهم بعد هذا الإنذار تسفيههم على ذلك فقيل
﴿ماذا﴾ أي أي نوع منه يطلب عجلته
﴿المجرمون﴾، ولا نوع منه الإ وهو فوق الطاقة ووراء الوسع، إن هذا لمنكر من الآراء، أفبعد تراخي إيمانكم عن مخايل صدمته ومشاهدة مبادىء عظمته وشدته أوجدتم الإيمان به عند وقوعه؟ يقال لكم حين اضطرتكم فواجئه إلى الإيمان وحملتكم
137
قوارعه على صيورة الإذعان:
﴿آلآن﴾ تؤمنون به - أي بسببه - بعد أن أزال بطشاً قواكم وحل عزائم هممكم وأوهاكم
﴿وقد كنتم﴾ أي كوناً كأنكم مجبولون عليه
﴿به تستعجلون*﴾ أي تطلبون تعجيله طلباً عظيماً حتى كأنكم لاتطلبون عجلة شيء غيره تكذيباً وعزماً على الثبات على العناد، لو وقع فلم نقبل إيمانكم هذا منكم ولا كف عذابنا عنكم، بل صيركم كأمس الدابر.
ولما كان ما ذكر هو العذاب الدنيوي، أتبعه ما بعده إعلاماً بأنه لا يقتصر عليه في جزائهم فقال:
﴿ثم قيل﴾ أي من أيّ قائل كان استهانة
﴿للذين ظلموا﴾ أي وبعد أزّكم في الدنيا والبرزخ بالعذاب وهزّكم بشديد العقاب قيل لكم يوم الدين بظلمكم بالآيات وبما أمرتم به فيها بوضعكم كلاًّ من ذلك في غير موضعه:
﴿ذوقوا عذاب الخلد﴾ فالإتيان ب
«ثم» إشارة إلى تراخي ذلك عن الإهلاك في الدنيا بالمكث في البرزخ أو إلى أن عذابه أدنى من عذاب يوم الدين
﴿هل تجزون﴾ بناه للمفعول لأن المخيف مطلق الجزاء؛ ولما كان الاستفهام الإنكاري بمعنى النفي، وكان المعنى: بشيء، استثنى منه فقال:
﴿إلا بما كنتم﴾ أي بجبلاتكم
﴿تكسبون*﴾ أي في الدنيا من العزم على الاستمرار على الكفر
138
ولو طال المدى لاتنفكون عنه بشيء من الأشياء وإن عظم، فكان جزاءكم الخلود في العذاب طبق النعل بالنعل؛ والعذاب: الألم المستمر، وأصله الاستمرار، ومنه العذوبة لاستمرارها في الحلق؛ والبيات: إتيان الشيء ليلاً؛ والذوق: طلب الطعم بالفم في ابتداء الأخذ.
ولما انقضى ما اشتملت عليه الآية من التهديد وصادع الوعيد، أخبر تعالى أنهم صاروا إلى ما هو جدير بسامع ذلك من النزول عن ذلك العناد إلى مبادىء الانقياد بقوله تعالى:
﴿ويستنبئونك﴾ عطفاً على قوله
«ويقولون متى هذا الوعد» أي ويطلبون منك الإنباء وهو الإخبار العظيم عن حقيقة هذا الوعد الجسيم، ويمكن أن يكون ذلك منهم على طريق الاستهزاء كالأول، فيكون التعجيب والتوبيخ فيه بعد ما مضى من الأدلة أشد
﴿أحق هو﴾ أي أثابت هذا الذي تتوعدنا به أم هو كالسحر لا حقيقية له كما تقدم أنهم قالوه
﴿قل﴾ أي في جوابهم
﴿إي وربي﴾ أي المحسن إليّ المدبر لي والمصدق لجميع ما آتي به؛ ولما كانوا منكرين، أكد قوله:
﴿إنه لحق﴾ أي كائن ثابت لا بد من نزوله بكم.
ولما كان الشيء قد يكون حقاً، ويكون الإنسان قادراً على دفعه فلا يهوله، قال نفياً ذلك:
﴿وما أنتم﴾ أي لمن توعدكم
﴿بمعجزين*﴾ فيما يراد بكم.
139
ولما أخبرهم بحقيقته، أخبرهم بما يكون منهم من الظلم أيضاً عند معياينته بالسماح ببذل جميع ما في الأرض حيث لا ينفع البذل بعد ترك المأمور به
139
وهو من أيسر الأشياء وأحسنها فقال:
﴿ولو أن لكل نفس ظلمت﴾ أي عند المعاينة
﴿ما في الأرض﴾ أي كلها من خزائنها ونفائسها
﴿لافتدت به﴾ أي جعلت فدية لها من العذاب لكنه ليس لهم ذلك، ولو كان من قبل منهم، فإذا وقع ما يوعدون استسلموا
﴿وأسروا الندامة﴾ أي اشتد ندمهم ولم يقدروا على الكلام
﴿لما رأوا العذاب﴾ لأنهم بهتوا لعظم ما دهمهم فكان فعلهم فعل المسر، لأنهم لم يطيقوا بكاء ولا شكاية ولا شيئاً مما يفعله الجازع؛ والاستنباء: طلب النبأ كما أن الاستفهام طلب الفهم؛ والنبأ: خبر عن يقين في أمر كبير؛ والحق: عقد على المعنى على ماهو به تدعو لحكمة إليه، وكل ما بنى على هذا العقد فهو حق لأجله، والحق في الدين ما شهد به الدليل على الثقة فيما طريقه العلم، والقوة فيما طريقة غالب الأمر، وذلك فيما يحتمل أمرين أحدهما أشبه بألاصل الذي جاء به النص؛ والافتداء: إيقاع الشيء بدل غيره لرفع المكروه، فداه فدية وأفداه وافتداه افتداء وفاداه مفاداة وفداه تفدية وتفادى منه تفادياً؛ والإسرار: إخفاء الشيء في النفس؛ والندامة: الحسرة على ما كان يتمنى أنه لم يكن أوقعها، وهي حال معقولة يتأسف صاحبها على ما وقع منها ويود أنه لم يكن أوقعها.
ولما اشتملت الآيات الماضيات على تحتم إنجاز الوعد والعدل في الحكم، وختمت بقوه:
﴿وقضي﴾ أي وأوقع القضاء على أيسر وجه وأسهله؛
140
ولما استغرق القضاء جميع وقائعهم. دل بنزع الجار فقال:
﴿بينهم﴾ أي الظالمين والمظلومين والظالمين والأظلمين
﴿بالقسط﴾ أي العدل؛ ولما كان وقوع ذلك لا ينفي وقوع الظلم في وقت آخر قال:
﴿وهم﴾ أي والحال أنهم
﴿لا يظلمون*﴾ أي لا يقع فيهم ظلم من أحد أصلاً كائناً من كان في وقت ما.
ولما كان السبب الحامل لملوك الدنيا على الكذب والجور والظلم العجز أو طلب التزيد في الملك، أشار إلى تنزهه عن ذلك بقوله مؤكداً سوقاً لهم مساق المنكر لأن فعلهم في عبادة الأصنام فعل من ينكر مضمون الكلام:
﴿ألا إن لله﴾ أي الملك الأعظم وحده
﴿ما في السماوات﴾ بدأ بها لعلوها معنى وحساً وعظمتها؛ ولما كان المقام للغنى عن الظلم لم يحوج الحال إلى تأكيد بإعادة النافي فقال:
﴿والأرض﴾ أي من جوهر وعرض صامت وناطق، فلا شيء خارج عن ملك يحوجه إلى ظلم أو إخلاف وعد لحيازته، والحاصل أنه لا يظلم إلا ناقص الملك وأما من له الملك كله فهو الحكم العدل: لأن جميع الأشياء بالنسبة إليه على حد سواء، ولا يخلف الوعد إلا ناقص القدرة وأما من له كل شيء ولا يخرج عن قبضته شيء فهو المحق في الوعد العدل في الحكم، وفي الآية زيادة تحسير وتنديم للنفس الظالمة حيث أخبرت بأن ما تود أن تفتدي به ليس لها منه شيء ولا تقدر على التوصل إليه، ولو قدرت ما قبل
141
منها، وإنما هو لمن رضي منها بالقليل منه فضلاً منه عليها على ما أمر به على لسان رسله، وعلى هذا فيجوز أن يكون التقدير: لو أن لها ذلك لافتدت به، لكنه ليس لها بل لله؛ فلما ثبت بذلك حكمه بالعدل وتنزهه عن إخلاف الوعد.
صرح بمضمون ذلك بقوله مؤكداً لإنكارهم:
﴿ألا إن وعد الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿حق﴾ لأنه تام القدرة والغنى، فلا حامل له على الإخلاف
﴿ولكن أكثرهم﴾ أي الذين تدعوهم وهم يدعون دقة الأفهام وسعة العقول
﴿لا يعلمون*﴾ أي لا علم لهم فهم لا يتدبرون ما نصبنا من الأدلة فلا ينقادون لما أمرنا به من الشريعة فهم باقون على الجهل معدودون مع البهائم؛ و
﴿ألا﴾ مركبة من همزة الاستفهام و
«لا» وكانت تقريراً وتذكيراً فصارت تنبيهاً، وكسرت إن بعدها لأنها استئنافيه ينبه بها على معنى يبتدأ به ولذا يقع بعدها الأمر والدعاء بخلاف
«لو» و
«إلا» للاستقبال فلم يجز بعدها إلا كسر
«إن» «أما» قد تكون بمعنى
«حقاً» في قولهم: أما إنه منطلق، وهي للحال فجاز في
«أن» بعدها الوجهان - ذكره الرماني؛ والسماوات طبقات مرفوعه أولها سقف مزين بالكواكب. وهي من سما بمعنى علا.
ولما تقرر أنه لا شيء خارج عن ملكه، وأنه تام القدرة لأنه لا منجي من عذابه، شامل العلم لقضائه بالعدل، صادق الوعد لأنه
142
لا حامل له على غيره، وثبت تفرده بأنه يحي ويميت؛ ثبت أنه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، فثبت أنه لا يكون الرد إلا إليه فنبه على ذلك بقوله:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿يحيي﴾ أي كما أنتم به مقرون
﴿ويميت﴾ كما أنتم له مشاهدون
﴿وإليه﴾ أي لا إلى غيره
﴿ترجعون*﴾ لأنه وعد بذلك في قوله:
﴿إليه مرجعكم جميعاً وعد الله حقاً﴾ [يونس: ٤] وفي قوله:
﴿فإلينا مرجعهم﴾ [يونس: ٤٦] وفي قوله
﴿إي وربي إنه لحق﴾ [يونس: ٥٣] وغير ذلك ولا مانع له منه؛ والحياة معنى يوجب صحة العلم والقدرة ويضاد الموت، وهو يحل سائر أجزاء الحيوان فيكون بجميعه حياً واحداً، والحي هو الذي يصح أن يكون قادراً، والقادر هو الذي يصح أن يذم ويحمد بما فعل، والموت معنى يضاد الحياة على البنية الحيوانية، وليس كذلك الجمادية.
ولما ثبت أن ذلك كله حق مباين للسحر الذي مبناه على التخييل، أقبل على الذين تقدم الإخبار عنهم في أول السورة في قوله: أكان للناس عجباً أنهم قالوا إنه سحر، فقال:
﴿يا أيها الناس﴾ أي الذين قالوا: إن وعدنا والإخبار به سحر؛ ولما كان بين الأرواح والأبدان حب غريزي بالتعلق، والتذ الروح لذلك بمشتهيات هذه الحياة الدنيا بما انطبع فيه بمظاهر الحس فلم يأته نور العقل حتى تعود النقائص بقوة التعلق
143
فحدثت له أخلاق ذميمة هي أمراض روحانية، فأرسل ربه الذي أوجده ودبره وأحسن إليه طبيباً حاذقاً هو الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلاج هذه الأمراض.
وأنزل كتابه العزيز لوصف الأدوية، فكان أحكم الطب منع المريض عن أسباب المرض، قال تعالى:
﴿قد جاءتكم موعظة﴾ أي زاجر عظيم عن التخلي عن كل ما يشغل القلب عن الله من المحظورات وغيرها من كل ما لا ينبغي، وذلك هو الشريعة.
ولما كان تناول المؤذي شديد الخطر، وهو لذيذ إلى النفس بينهما من ملاءمة النقص، وكان الانكفاف عنه أشق شيء عليها، رغبها في القبول بقوله:
﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم المدبر لمصالحكم بهذا القرآن؛ ولما كان أليق ما يعمل بعد الحمية تعاطي الدواء المزيل للأخلاط الفاسدة من الباطن، قال:
﴿وشفاء﴾ أي عظيم جداً
﴿لما في الصدور﴾ من أدواء الجهل، وذلك الشفاء يحصل بتطهير الباطن بعد التخلي عن الأخلاق الذميمة بالتحلي بالصفات الحميدة ليصير الباطن سالماً عن العقائد الفاسدة والأخلاق الناقصة كما سلم البدن من الأفعال الدنية، وهذا هو الطريق.
ولما كانت الروح إذا انصقلت مرآتها فصارت قابلة لتجلي الأنوار عليها بفيض البروق الإلهية والنفخات القدسية والمواهب الملكوتية لأنها دائمة اللمعان كما قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما رواه الطبراني عن محمد بن مسلمة رضي الله عنه:
«إن لربكم أيام دهركم نفحات، ألا فتعرضوا له» الحديث.
144
وليس المانع من نزولها في كل قلب إلا عدم القابلية من بعضها لتراكم الظلمات فيها من صداء المخالفة ودين الإعراض والغفلة، فيكون بذلك كالمرايا الصديئة لا تقبل انطباع الصور بها، قال تعالى:
﴿وهدى﴾ إلى الحق لأنه نور عظيم يقود صاحبه - ولابد - إلى الطريق الأقوم، وهذا للصديقين وهو الحقيقة.
ولما كان هذا النور إذا زاد عظمة وانتشر إشراقه يفيض - بعد الوصول إلى هذه الدرجات الروحانية والمعارج الربانية - على أرواح الناقصين فيض النور من جوهر الشمس على أجرام العالم فينير كل قابل له مقبل عليه، قال تعالى:
﴿ورحمة﴾ أي إكرام عظيم بالإمامية بالغ في الكمال والإشراق إلى حد لا مزيد عليه، وهذا للأنبياء عليهم السلام؛ ولما كان لا ينتفع بأنوارهم إلا من توجه إليهم، ثم إن الانتفاع بهم يتفاوت بتفاوت درجات التوجه إليهم والإقبال عليهم، قال:
﴿للمؤمنين*﴾ الذين اتبعوه وهم راسخون في التوجه إلى المرشدين والاستسلام لهم فكان ذلك سبباً لنجاتهم - أشار إلى هذا الإمام وقال: فهذه درجات عقلية ومراتب برهانية مدلول عليها بهذه الكلمات الأربع القرآنية على وجه لا يمكن تأخير شيء منها عن موضعه ولا تقديمه، وهذا بخلاف ما نسبوه إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السحر فإنه داء كله وضلال يجر إلى الشقاء، والموعظة: إبانة تدعو إلى الصلاح بطريق الرغبة والرهبة،
145
والوعظ ما دعا إلى الخشوع والنسك وصرف عن الفسوق والإثم؛ والشفاء: إزالة الداء، وداء الجهل أضر من داء البدن وعلاجه أعسر وأطباؤه أقل، والشفاء منه أجل؛ والصدر: موضع القلب، وهو أجل موضع في الحي لشرف القلب؛ والهدى: بيان عن معنى يؤدي إلى الحق، وهو دلالة تؤدي إلى المعرفة؛ والرحمة: نعمة على المحتاج.
146
ولما ثبت ذلك، حثهم عليه لبعده عن السحر بثباته وعدم القدرة على زلزلته فضلاً عن إزالته وبأن شفاء وموعظة وهدى ورحمة فهو جامع لمراتب القرب الإلهي كلها، وزهدهم فيما هم عليه مقبلون من الحطام: لمشاركته للسحر في سرعة التحول والتبدل بالفناء والاضمحلال فهو أهل للزهد فيه والإعراض عنه فقال تعالى:
﴿قل بفضل الله﴾ الآية، وحسن كل الحسن تعقيب ذلك لقوله:
﴿هو يحيي ويميت﴾ لما ذكر من سرعة الرحيل عنه، ولأن القرآن محيي لميت الجهل، من أقبل عليه أفاده العلم والحكمة، فكان للقلب كالحياة للجسد، ومن أعرض عنه صار في ضلال وخبط فوصل إلى الهلاك الدائم، فكان إعراضه عنه مميتاً له، وجعل أبو حيان متعلق الباء في بفضل محذوفاً تقديره:
﴿قل﴾ ليفرحوا
﴿بفضل الله﴾ أي الملك الأعلى
﴿وبرحمته﴾ ثم عطف قصر الفرح على ذلك
﴿فبذلك﴾ أي الأمر العظيم جداً وحده إن فرحوا يوماً ما بشيء
﴿فليفرحوا﴾ فهما جملتان وقال: إن ذلك أظهر، وفائدة الثانية قصر الفرح على ذلك دون ما يسرون به من الحطام
146
فإن السعادات الروحانية أفضل من السعادات الجسمانية. ثم صرح بسبب الفرح فقال:
﴿هو﴾ أي المحدث عنه من الفضل والرحمة
﴿خير مما يجمعون*﴾ أي من حطام الدنيا وإن كان أشرف ما فيها من المتاع دائبين فيه على تعاقب الأوقات، والعاقل يختار لتعبه الأفضل؛ والفضل: الزيادة في النعمة؛ والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى.
ولما وصف القرآن العظيم بالشفاء وما معه المقتضي لاستقامة المناهج وسداد الشرائع ووضوح المذاهب، وأشار إلى أن العاقل ينبغي له أن يخصه بالفرح لبقاء آثاره وما يدعو إليه وزهده فيما يجمعون لفنائه ولأنه يدعو إلى رذائل الأخلاق فيحط من أوج المعالي، أشار إلى أنهم كما خبطوا في الفرح فخصوه بما يفني معرضين عما يبقى فكذلك خبطوا في طريق الجمع فوعدوها على أنفسهم بأن حرموا بعض ما أحله، فمنعوا أنفسهم ما هم به فرحون دون أمر من الله تعالى فنقصوا بذلك حظهم في الدنيا بهذا المنع وفي الآخرة بكذبهم على ربهم في تحريمه حيث جعلوه شرعاً مرضياً وهو في غاية الفساد والبعد عن الصواب والقصور عن مراقي السداد فقال تعالى:
﴿قل﴾ أي لهؤلاء الذين يستهزئون بك استهزاء قاضياً عليهم بأنهم لا عقول لهم مستهزئاً بهم وموبخاً لهم توبيخاً هو في أحكم مواضعه، وساقه على طريق السؤال بحيث إنهم
147
لا يقدرون على الجواب أصلاً بغير الإقرار بالافتراء فقال:
﴿أرءيتم﴾ أي أخبروني، وعبر عن الخلق بالإنزال تنبيهاً على أنه شيء لا يمكن ادعاءه لأصنامهم لنزول أسبابه من موضع لا تعلق لهم به بوجه فقال:
﴿ما أنزل الله﴾ أي الذي له صفات الكمال التي منها الغنى المطلق
﴿لكم﴾ أي خاصاً بكم
﴿من رزق﴾ أي أيّ رزق كان
﴿فجعلتم منه﴾ أي ذلك الرزق الذي خصكم به
﴿حراماً وحلالاً﴾ على النحو الذي تقدم في الأنعام وغيرها قصته وبيان فساده على أنه جلي الفساد ظاهر العوج؛ ثم ابتدأ أمراً آخر تأكيداً للإنكار عليهم فقال:
﴿قل﴾ أي من أذن لكم في ذلك؟
﴿الله﴾ أي الملك الأعلى
﴿أذن لكم﴾ فتوضحوا المستند به
﴿أم﴾ لم يأذن لكم فيه مع نسبتكم إياه إليه لأنكم فصلتموه إلى حرام وحلال ولا محلل ومحرم إلا الله، فأنتم
﴿على الله﴾ أي المحيط بكل شيء عظمة وعلماً
﴿تفترون*﴾ مع نسبتكم الافتراء إلي في هذا القرآن الذي أعجز الأفكار والشرع الذي بهر العقول وادعائكم أنكم أبعد الناس عن مطلق الكذب وأطهرهم ذيولاً منه، وتقديم الجار للإشارة إلى زيادة التشنيع عليهم من حيث إنهم أشد الناس تبرؤاً من الكذب وقد خصوا الله - على تقدير التسليم لهم - بأن تعمدوا الكذب عليه.
ولما كان قد مضى من أدلة المعاد ما صيره كالشمس، وكان افتراءهم قد ثبت بعدم قدرتهم على مستند بإذن الله لهم في ذلك، قال مشيراً
148
إلى أن القيامة مما هو معلوم لا يسوغ إنكاره:
﴿وما ظن الذين يفترون﴾ أي يتعمدون
﴿على الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿الكذب﴾ أي أنه نازل بهم
﴿يوم القيامة﴾ أي هب أنكم لم تستحيوا منه ولم تخافوا عواقبه في الدنيا فما تظنون أنه يكون ذلك اليوم؟ أتظنون أنه لا يحاسبكم فيكون حينئذ قد فعل ما لا يفعله رب مع مربوبه.
ولما كان تعالى يعاملهم بالحلم وهم يتمادون في هذا العقوق، قال:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿لذو فضل﴾ أي عظيم
﴿على الناس﴾ أي بنعم منها إنزال الكتب مفصلاً فيها ما يرضاه وما يسخطه وإرسال الرسل عليهم السلام لبيانها بما يحتمله عقول الخلق منها، ومنها طول إمهالهم على سوء أعمالهم فكان شكره واجباً عليهم
﴿ولكن أكثرهم﴾ أي الناس لاضطراب ضمائرهم
﴿لا يشكرون﴾ أي لا يتجدد منهم شكر فهم لا يتبعون رسله ولا كتبه، فهم يخبطون خبط عشواء فيفعلون ما يغضبه سبحانه؛ والتحريم: عقد معنى النهي عن الفعل؛ والتحليل: حل معنى النهي بالإذن؛ والشكر: حق يجب بالنعمة من الاعتراف به والقيام فيما تدعو إليه على قدرها؛ وافتراء الكذب: تزويره وتنميقه فهو أفحش من مطلق الكذب.
149
ولما وصف القرآن بما وصفه به من الشفاء وما معه بعد إقامة الدليل
149
على إعجازه، وأشار إلى أن ما تدينوا به في غاية الخبط وأنه مع كونه كذباً يقدر كل واحد على تغييره بأحسن منه لكونه غير مبني على الحكمة، وختم ذلك بتهديدهم على افتراء الكذب في شرع ما لم يأذن به مع ادعائهم أن القرآن مفترى وهم عاجزون عن معارضته، وبأنهم لم يشكروه على نعمه التي أجلّها تخصيصهم بهذا الذكر الحكيم والشرع القويم، وكان قد أكثر في ذلك كله من الأمر له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمحاجتهم
﴿قل لا أملك لنفسي﴾،
﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه﴾،
﴿قل إي وربي إنه لحق﴾،
﴿قل بفضل الله﴾ - الآية،
﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم﴾،
﴿قل الله أذن لكم﴾، قال تعالى ناظراً إلى قوله:
﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى﴾ الآية، تسلية له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتقوية لهمته وزيادة في تهديدهم عطفاً على ما تقديره: فقد أنزلت إليهم على لسانك ما هو شرف لهم ونعمة عليهم وهو في غاية البعد عن مطلق الكذب فإن كل شيء منه في أحكم مواضعه وأحسنها لا يتطرق إليه الباطل بوجه وهم يقابلون نعمته بالكفر:
﴿وما تكون﴾ أنت
﴿في شأن﴾ أي أيّ شأن كان
﴿وما تتلوا منه﴾ أي من القرآن المحدث عنه في جميع هذه السورة، الذي تقدم أنهم كذبوا به من غير شبهة لهم
﴿من قرآن﴾ أي قليل أو كثير
﴿ولا تعملون﴾ أي كلكم طائعكم وعاصيكم، وأغرق في النفي فقال:
﴿من عمل﴾
150
صغير أو كبير
﴿إلا كنا﴾ أي بما لنا من العظمة
﴿عليكم شهوداً﴾ أي عاملين بإحاطة علمنا ووكالة جنودنا عمل الشاهد
﴿إذ تفيضون فيه﴾ الآية إيذاناً بأنك بعيني في جميع هذه المراجعات وغيرها من شؤونك وأنا العالم بتدبيرك والقادر على نصرتك، وهي كلها من كتابي الذي تتضاءل القوى دونه وتقف الأفكار عن مجاراته لأنه حكيم لكونه من عندي فجل عن مطلق المعارضة لفظاً أو معنى فضلاً عن التغيير فضلاً عن الإتيان بما هو مثله فكيف بما هو أحسن منه، لاستقامة أمره وتناسب أحكامه كونها شفاء وهدى ورحمة، وما كان كذلك فهو من عندي قطعاً وبإذني جزماً لأني عالم بالإفاضة فيه والانفصال عنه وجميع الأمور الواقعة منك ومنهم ومن غيرهم.
ولما كان ربما ظن ظان من إفهام
﴿كنا﴾ و
﴿شهوداً﴾ للجنود أنه سبحانه محتاج إليهم، نفى ذلك بقوله:
﴿وما﴾ أي والحال أنه ما
﴿يعزب﴾ أي يغيب ويخفى
﴿عن ربك﴾ أي المربي لكل مخلوق بعام أفضاله ولك بخاص نعمه وأشرف نواله، وأغرق في النفي فقال:
﴿من مثقال ذرة﴾ أي وزن نملة صغيرة جداً وموضع وزنها وزمانه؛ ولما كان
«في» بمزون أهل الأرض كان تقديمها أولى فقال:
﴿في الأرض﴾ ولما لم يدع السياق إلى الجمع - كما سيأتي في سبأ - قال اكتفاء بالمفرد الدال على الجنس:
﴿ولا في السماء﴾
151
أي ما علا عن الأرض كائناً ما كان.
ولما كان ربما أدى الجمود بعض الأغبياء إلى أن يحمل المثقال على حقيقته ويجهل أن المراد به المبالغة، قال عاطفاً على الجملة من أولها وهو على الابتداء سواء رفعنا الراءين على قراءة حمزة ويعقوب أو نصبناهما عند الباقين:
﴿ولا أصغر من ذلك﴾ أي من مثقال الذرة
﴿ولا أكبر﴾ ولما أتى بهذا الابتداء الشامل الحاصر، أخبر عنه بقوله:
﴿إلا﴾ أي لا شيء من ذلك إلا موجود
﴿في كتاب﴾ أي جامع
﴿مبين*﴾ أي ظاهر في نفسه مظهر لكل ما فيه، وسيأتي في سبأ ما يتم به هذا المكان، وفي ذلك تهديداً لهم وتثبيت له صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولاح بهذا أن ما بعد
﴿إلا﴾ حال من الفاعل، أي ما يفعل شيئاً إلا وأنت بأعيننا فثبت أن القرآن بعلمه، فلو افتراه أحد عليه لأمكن منه؛ والإفاضة: الدخول في العمل على جهة الانصباب إليه وهو الانبساط في العمل أخذاً من فيض الإناء إذا انصب ما فيه من جوانبه، وأفضتم: تفرقتم كتفرق الماء الذي يتصبب من الإناء؛ والعزوب: ذهاب المعنى عن العلم، وضده الحضور؛ والذر: صغار النمل وهو خفيف الوزن جداً، ومثقاله: وزنه.
ولما تقدم أنه سبحانه شامل العلم، وعلم - من وضع الأحوال
152
ما لا يتسع ومن لا تسع مجرد أسمائهم الأرض في كتاب مبين أي مهما كشف منه وجد من غير خفاء ولا احتياج إلى تفتيش - أنه كامل القدرة بعد أن تقدم أنهم فريقان: صادق في أمره، ومفتر عليه، وأنه متفضل على الناس بعدم المعاجلة والتأخير إلى القيامة، وخوّف المفتري عواقب أمره عاجلاً وآجلاً، ورجىّ المطيع، كان موضع أن يقال: ليت شعري ماذا يكون تفصيل حال الفريقين في الدارين على الجزم؟ فأجيب بأن الأولياء فائزون والأعداء هالكون ليشمر كل مطيع عن ساعد جده ويبذل غاية جهده في لحاق المخلصين وتحامي جانب المفترين بقوله تعالى مؤكداً لاعتقادهم أنهم يهلكون حزب الله وإنكارهم غاية الإنكار أن يفوتوهم:
﴿ألا إن أولياء الله﴾ أي الذين يتولون بالطاعة من لا شيء أعز منه ولا أعظم ويتولاهم
﴿لا خوف﴾ أي ثابت عال
﴿عليهم﴾ أي من شيء يستقبلهم
﴿ولا هم﴾ أي بضمائرهم
﴿يحزنون﴾ أي يتجدد لهم حزن على فائت لأن قلوبهم معلقة بالله سبحانه فلا يؤثر فيهم لذلك خوف ولا حزن أثراً يقطع قلوبهم كما يعرض لغيرهم، وفسرهم بقوله:
﴿الذين آمنوا﴾ أي أوجدوا هذا الوصف المصحح للأعمال وبه كمال القوة العلمية
﴿وكانوا﴾ أي كوناً صار لهم جبلة وخلقاً
﴿يتقون﴾ أي يوجدون التقوى، وهي كمال القوة العملية في الإيمان والأعمال ويجددونها فإنه لا يقدر أحد أن يقدر الله حق
153
قدره؛ وانتهى الجواب بقوله:
﴿إن الذين يفترون على الله الكذب﴾ - الآية، وهذا الذي فسر الله به الأولياء لا مزيد على حسنه، وعن علي رضي الله عنه
«هم قوم صفر الوجوه من السهر عمش العيون من العبر خمص البطون من الخوى» وقيل: الولي من لا يرائي ولا ينافق، وما أقل صديق من كان هذا خلقه، وصح عن الإمامين: أبي حنيفة والتبيان أن كلاًّ منهما قال: إن لم يكن العلماء أولياء الله فليس لله ولي.
وهذا في العالم العامل بعلمه كما بينته عند قوله في سورة الزمر
﴿قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون﴾ [الزمر: ٩].
154
ولما نفىعنهم الخوف والحزن، زادهم فقال مبيناً لتوليه لهم بعد أن شرح توليهم له:
﴿لهم﴾ أي خاصة
﴿البشرى﴾ أي الكاملة
﴿في الحياة الدنيا﴾ أي بأن دينهم يظهر وحالهم يشتهر وعدوهم يخذل وعمله لا يقبل وبالرؤية الصالحة
﴿وفي الآخرة﴾ بأنهم هم السعداء وأعداؤهم الأشقياء وتتلقاهم الملائكة
﴿هذا يومكم الذي كنتم توعدون﴾ [الأنبياء: ١٠٣]. وما كان الغالب على أحوال أهل الله في الدنيا الضيق ولا سيما في أول الإسلام، كان السامع لذلك بمعرض أن يقول: يا ليت شعري هل يتم هذا السرور! فقيل: نعم، وأكد بنفي الجنس لأن الجبابرة ينكرون ذلك لهم لما يرون من أن عزهم من
154
وراء ذل ليس فيه سوء ما لباطل المتكبرين من السورة والإرجاف والصولة:
﴿لا تبديل﴾ أي بوجه من الوجوه
﴿لكلمات الله﴾ أي الملك الأعلى الذي له الإحاطة بكل شيء علماً وقدرة؛ وقوله -:
﴿ذلك﴾ أي الأمر العالي الرتبة
﴿هو﴾ أي خاصة
﴿الفوز العظيم﴾ في موضع البيان والكشف لمضمون هذه البشرى؛ والخوف: انزعاج القلب بما يتوقع من المكروه، ونظيره الجزع والفزع، ونقيضه الأمن؛ والحزن: انزعاجه وغلظ همه مما وقع من المكروه، من الحزن للأرض الغليظة، ونقيضه السرور، وهما يتعاقبان على حال الحي الذاكر للمحبوب؛ والبشرى: الخبر الأول بما يظهر سروره في بشرة الوجه.
ولما تقدمت البشرى بنفي الخوف والحزن معاً عن الأولياء، علم أن المعنى: هذه البشرى للأولياء وأنت رأسهم فلا تخف، فعطف عليه قوله:
﴿ولا يحزنك قولهم﴾ أي في نحو قولهم: إنهم يغلبون، وفي تكذيبك والاستهزاء بك وتهديدك، فإن ذلك قول يراد به تبديل كلمات الله الغني القدير، وهيهات ذلك من الضعيف الفقير فكيف بالعلي الكبير! وإلى هذا يرشد التعليل لهذا النهي بقوله:
﴿إن العزة﴾ أي الغلبة والقهر وتمام العظمة
﴿لله﴾ أي الملك الأعلى حال كونها
﴿جميعاً﴾ أي فسيذلهم ويعز دينه، والمراد بذلك التسلية عن قولهم الذي يؤذونه به.
155
ولما بدئت الآية بقولهم، ختمها بالسمع له والعلم به وقصرهما عليه لأن صفات كل موصوف متلاشية بالنسبة إلى صفاته فقال:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿السميع﴾ أي البليغ السميع لأقوالهم
﴿العليم﴾ أي المحيط العلم بضمائرهم وجميع أحوالهم فهو البالغ القدرة على كل شيء فيجازيهم بما تقتضيه، وهو تعليل لتفرده بالعزة لأنه تفرد بهذين الوصفين فانتفيا عن غيره، ومن انتفيا عنه كان دون الحيوانات العجم فأنى يكون له عزة! والعزة: قدرة على كل جبار بما لا يرام ولا يضام، والمعنى أنه يعزك على من ناواك، والنهي في
﴿ولا يحزنك﴾ في اللفظ للقول وفي المعنى للسبب المؤدي إلى التأذي بالقول، وكسرت
«إن» هاهنا للاستئناف بالتذكر بما ينفي الحزن، لا لأنها بعد القول لأنها ليست حكاية عنهم، وقرىء بفتحها على معنى
«لأن».
ولما ختمت بعموم سمعه وعلمه بعد قصر العزة عليه، كان كأنه قيل: إن العزة لا تتم إلاّ بالقدرة فأثبت اختصاصه بالملك الذي لا يكون إلاّ بها، فقال مؤكداً لما يستلزمه إشراكهم من الإنكار لمضمون هذا الكلام:
﴿ألآ إن لله﴾ أي الذي له الإحاطة الكاملة؛ ولما كان بعض الناس قد أشركوا ببعض النجوم، جمع فقال معبراً بأداة العقلاء تصريحاً بما أفهمه التعبير سابقاً بأداة غيرهم:
﴿من في السماوات﴾ أي كلها، وابتدأ بها لأن ملكها يدل على ملك الأرض بطريق الأولى، ثم صرح بها في قوله مؤكداً لما تقدم:
﴿ومن في الأرض﴾ أي كلهم
156
عبيده ملوكهم ومن دونهم، نافذ فيهم تصريفه، منقادون لما يريده، وهو أيضاً تعليل ثان لقوله
﴿ولا يحزنك قولهم﴾ أو للتفرد بالعزة، وعبر ب
«من» التي للعقلاء والمراد كل ما في الكون لأن السياق لنفي العزة عن غيره، والعقلاء بها أجدر، فنفيها عنهم نفي عن غيرهم بطريق الأولى، ثم غلبوا لشرفهم على غيرهم، ولذا تطلق
«ما» التي هي لغيرهم في سياق هو بها أحق ثم يراد بها العموم تغليباً للأكثر الذي لا يعقل على الأقل؛ ثم نفى أن يكون له في ذلك شريك بقوله عاطفاً على ما تقديره: فما له شريك مما ادعاه المشركون منهما أو من إحداهما:
﴿وما يتبع﴾ أي بغاية الجهد
﴿الذين يدعون﴾ أي على سبيل العبادة
﴿من دون الله﴾ أي الذي له العظمة كلها
﴿شركآء﴾ على الحقيقة؛ ويجوز أن تكون
«ما» موصولة تحقيراً للشركاء بالتعبير بأداة ما لا يعقل ومعطوفه على
«من» ﴿إن﴾ أي ما
﴿يتبعون﴾ في ذلك الذي هو أصل أصول الدين يجب فيه القطع وهو دعاءهم له شركاء
﴿إلاّ الظن﴾ أي المخطىء على أنه لو كان صواباً كانوا مخطئين فيه حيث قنعوا في الأصل بالظن، ثم نبه على الخطأ بقوله:
﴿وإن﴾ أي وما
﴿هم إلاّ يخرصون﴾ أي يحزرون ذلك ويقولون ما لا حقيقة له أصلاً؛ والاتباع: طلب اللحاق بالأول على تصرف الحال، فهؤلاء اتبعوا الداعي إلى عبادة الوثن وتصرفوا معه
157
فيما دعا إليه، وظنهم في عبادتها إنما هو بشبيهة ضعيفة كقصد زيادة التعظيم لله وتعظيم تقليد الأسلاف، ويجوز أن يكون
﴿شركاء﴾ مفعولاً تنازعه
﴿يتبع﴾ و
﴿يدعون﴾ ؛ ثم أثبت سبحانه اختصاصه بشيء جامع للعلم والقدرة تأكيداً لاختصاصه بالعزة وتفرده بالوحدانية، وأن من أشرك به خارص لا علم له بوجه لكثرة الدلائل على وحدانيته ووضوحها فقال:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الذي جعل﴾ أي بسبب دوران الأفلاك الذي أتقنه
﴿لكم﴾ أي نعمة منه
﴿الليل﴾ أي مظلماً
﴿لتسكنوا فيه﴾ راحة لكم ودلالة على قدرته سبحانه على الإيجاد والإعدام وأُنساً للمحبين لربهم
﴿والنهار﴾ وأعار السبب وصف المسبب فقال:
﴿مبصراً﴾ أي لتنتشروا فيه، حذف وصف الليل وذكرت علته عكس ما فعل بالنهار ليدل ما ثبت على ما حذف، فالآية من الاحتباك.
ولما كانت هذه الآيات من الظهور بحيث لا يحتاج إلى أكثر من سماعها، قال:
﴿إن في ذلك﴾ أي الأمر العظيم
﴿لآيات لقوم﴾ أي لهم قوة المحاولة على ما يريدونه
﴿يسمعون﴾ أي لهم سمع صحيح، وفي ذلك أدلة واضحات على أنه مختص بالعزة فلا شريك له، لأن الشريك لا بد وأن يقاسم شريكه شيئاً من الأفعال أو الأحوال أو الملك، وأما عند انتفاء جميع ذلك فانتفاء الشركة أوضح من أن يحتاج فيه إلى دليل، ويجوز أن يكون المعنى: لآيات لقوم يبصرون إبصار اعتبار
158
ويسمعون سماع تأمل وإدكار، ولكنه حذف
«يبصرون» لدلالة
﴿مبصراً﴾ عليه، ويزيد ذلك وضوحاً وحسناً كون السياق لنفي الشركاء، فهو إشارة إلى أنها لا تسمع ولا تبصر أصلاً فكيف بالاعتبار والافتكار؟ فالذين عبدوهم أكمل حالاً منهم.
159
ولما لم يكن شبهة على ادعاء الولد لله سبحانه ولا لهم اطلاع عليه بوجه، ساق قوله:
﴿قالوا اتخذ﴾ أي تكلف الأخذ بالتسبب على ما نعهد
﴿الله﴾ أي المسمى بهذا الاسم الذي يقتضي تسميته به أن يكون له الكمال كله، فلا يكون محتاجاً إلى شيء بوجه
﴿ولداً﴾ مساق البيان لقوله
﴿إن يتبعون إلاّ الظن﴾ وهذا صالح لأن يكون تعجيباً ممن ادعى في الملائكة أو عزير أو المسيح وغيرهم.
ولما عجب منهم في ذلك لمنافاته بما يدل عليه من النقص لما ثبت لله تعالى من الكمال كما مرّ، نزه نفسه الشريفة عنه فقال:
﴿سبحانه﴾ أي تنزه عن كل شائبة نقص التنزه كله؛ ثم علل تنزهه عنه وبينه بقوله:
﴿هو﴾ أي وحده
﴿الغني﴾ أي عن الولد وغيره لأنه فرد منزه عن الإبعاض والأجزاء والمجانسة؛ ثم بين غناه بقوله:
﴿له ما في السماوات﴾ ولما كان سياق الاستدلال يقتضي التأكيد، أعاد
«ما» فقال:
﴿وما في الأرض﴾ من صامت وناطق، فهو غني بالملك ذلك عن أن يكون شيء منه ولداً له لأن الولد لا يملك، وعدم ملكه نقص مناف للغنى،
159
ولعله عبر ب
«ما» لأن الغني محط نظره الصامت مع شمولها للناطق.
ولما بين بالبرهان القاطع والدليل الباهر الساطع امتناع أن يكون له ولد، بكتهم بنفي أن يكون لهم بذلك نوع حجة فقال:
﴿إن﴾ أي ما
﴿عندكم﴾ وأغرق في النفي فقال:
﴿من سلطان﴾ أي حجة
﴿بهذا﴾ أي الاتخاذ، وسميت الحجة سلطاناً لاعتلاء يد المتمسك بها؛ ثم زادهم بها تبكيتاً بالإنكار عليهم بقوله:
﴿أتقولون﴾ أي على سبيل التكرير
﴿على الله﴾ أي الملك الأعظم على سبيل الاستعلاء
﴿ما لا تعلمون﴾ لأن ما لا برهان عليه في الأصول فهو جهل، فكيف بما قام الدليل على خلافه؛ والسلطان: البرهان القاهر لأنه يتسلط به على صحة الأمر ويقهر به الخصم، وأصله القاهر للرعية بعقد الولاية.
ولما قدم أن قولهم كذب، وبكتهم عليه مواجهة، أتبعه بما يشير إلى أنهم أهل للإعراض في سياق مهدد على الكذب، فقال معرضاً عن خطابهم مؤكداً لأن اجتراءهم على ذلك دال على التكذيب بالمؤاخذة عليه:
﴿قل﴾ أي للذين ادعوا الولد لله وحرموا ما رزقهم من السائبة ونحوها
﴿إن الذين يفترون﴾ أي يتعمدون
﴿على الله﴾ أي الملك الأعلى
﴿الكذب لا يفلحون﴾ ثم بين عدم الفلاح بقوله:
﴿متاع﴾
160
أي لهم، ونكره إشارة إلى قلته كما قال في الآية الأخرى
﴿متاع قليل﴾ وأكد ذلك بقوله:
﴿في الدنيا﴾ لأنها دار ارتحال، وما كان إلى زوال وتلاش واضمحلال كان قليلاً وإن تباعد مدّه وتطاولت مُدَده وجل مَدَده، وزاد على الحصر عَدده؛ وبين حالهم بعد النقلة بقوله:
﴿ثم﴾ أي بعد ذلك الإملاء لهم وإن طال
﴿إلينا﴾ أي على ما لنا من العظمة لا إلى غيرنا
﴿مرجعهم﴾ بالموت فنذيقهم عذاباً شديداً لكنه دون عذاب الآخرة
﴿ثم نذيقهم﴾ يوم القيامة
﴿العذاب الشديد بما﴾ أي بسبب ما
﴿كانوا﴾ أي كوناً هو جبلة لهم
﴿يكفرون﴾ ووجب كسر
«إن» بعد القول لأنه حكاية عما يستأنف الإخبار به كما فعل في لام الابتداء لذلك.
ولما تقدم سؤالهم الإتيان بما يقترحون من الآيات، ومضت الإشارة إلى أن تسييرهم في الفلك من أعظم الآيات وإن كانوا لإلفهم له قد نسوا ذلك، وتناسجت الآي كما سلف إلى أن بين هذا أن متاع المفترين الكذبَ قليل تخويفاً من شديد السطوة وعظيم الأخذ، عقب ذلك بقصة قوم نوح لأنهم كانوا أطول الأمم الظالمة مدة وأكثرهم عدة، ثم أخذوا أشد أخذ فزالت آثارهم وانطمست أعلامهم ومنارهم فصاروا كأنهم لم يكونوا أصلاً ولا أظهروا قولاً
161
ولا فعلاً، فقال تعالى عاطفاً على قوله
﴿قل إن الذين﴾ مسلياً لنبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضي الله عنهم لأن المصيبة إذا عمت خفت، وتخويفاً للكفار ليرجعوا أو يخفوا من أذاهم:
﴿واتل﴾ أي اقرأ قراءة متتابعة مستعلية
﴿عليهم نبأ نوح﴾ أي خبره العظيم مذكراً بأول كون الفلك وأنه كان إذ ذاك آية غريبة خارقة للعادة عجيبة، وأن قوم نوح لم ينفعهم ذلك ولا أغنى عنهم افتراءهم وعنادهم مع تطاول الأمد وتباعد المدد، بل صار أمرهم إلى زوال، وأخذ عنيف ونكال
﴿كأن لم يلبثوا إلاّ ساعة من النهار يتعارفون بينهم﴾ [يونس: ٤٥] مع نجاة رسولهم وخيبة مأمولهم، قد لبث فيهم ما لم يلبثه نبي في قولهم ولا رسول في أمته ألف سنة إلاّ خمسبن عاماً، وما آمن معه إلاّ قليل
﴿إذ قال لقومه﴾ أي بعد أن دعاهم إلى الله فأطال دعاءهم ومتعوا في الدنيا كثيراً وأملى لهم طويلاً فما زادهم ذلك إلا نفوراً
﴿يا قوم﴾ أي يا من يعز عليّ خلافهم ويشق عليّ ما يسوءهم لتهاونهم بحق ربهم مع قوتهم على الطاعة
﴿إن كان كبر﴾ أي شق وعظم مشقة صارت جبلة
﴿عليكم﴾ ولما كانت عادة الوعاظ والخطباء أن يكونوا حال الخطبة واقفين، قال:
﴿مقامي﴾ أي قيامي، ولعله خص هذا المصدر لصلاحيته لموضع القيام وزمانه فيكون
162
الإخبار بكراهته لأجل ما وقع فيه من القيام أدل على كراهة القيام
﴿وتذكيري﴾ أي بكم
﴿بآيات الله﴾ أي الذي له الجلال والإكرام، فإن ذلك لا يصدني عن مجاهدتي بما يكبر عليكم من ذلك خوفاً منكم لأن الله أمرني به وأنا أخاف عذابه إن تركت، ولا أبالي بكراهيتكم لذلك خوف عاقبة قصدكم لي بالأذى
﴿فعلى﴾ أي فإني على
﴿الله﴾ أي الذي له العزة كلها وحده
﴿توكلت﴾ فإقامة ذلك المقام الجزاء من إطلاق السبب - الذي هو التوكل - على المسبب - الذي هو انتفاء الخوف - مجازاً مرسلاً، إعلاماً لهم بعظمة الله وحقارتهم بسبب أنهم أعرضوا عن الآيات وهم يعرفونها، بما دل عليه التعبير بالتذكير، فدل ذلك على عنادهم بالباطل، والمبطل لا يخشى أمره لأن الباطل لا ثبات له، ودل على ذلك بقوله:
﴿فأجمعوا أمركم﴾ أي في أذاي بالإهلاك وغيره، أعزموا عليه وانووه واجزموا به، والواو بمعنى
«مع» في قوله:
﴿وشركآءكم﴾ ليدل على أنه لا يخافهم وإن كانوا شركاءهم أحياء كائنين من كانوا وكانت كلمتهم واحدة لا فرقة فيها بوجه.
ولما كان الذي يتستر بالأمور بما يفوته بعض المقاصد لاشتراط التستر، أخبرهم أنه لا يمانعهم سواء أبدوا أو أخفوا فقال:
﴿ثم لا يكن﴾ أي بعد التأبي وطول زمان المجاوزة في المشاورة
﴿أمركم﴾ أي الذي تقصدونه بي
﴿عليكم غمة﴾ أي خفياً يستتر عليكم شيء منه بسبب ستر ذلك عني لئلا أسعى في معارضتكم، فلا تفعلوا ذلك بل جاهروني به
163
مجاهرة فإنه لا معارضة لي بغير الله الذي يستوي عنده السر والعلانية؛ والتعبير ب
﴿ثم﴾ إشارة إلى التأني وإتقان الأمر للأمان من معارضته بشيء من حول منه أو قوة
﴿ثم اقضوا﴾ ما تريدون، أي بتوه بتة المقضي إليه واصلاً
﴿إلي﴾.
ولما كان ذلك ظاهراً في الإنجاز وليس صريحاً، صرح به في قوله:
﴿ولا تنظرون*﴾ أي ساعة ما، وكل ذلك لإظهار قلة المبالاة بهم للاعتماد على الله لأنه لا يعجزه شيء ومعبوداتهم لا تغني شيئاً؛ ثم سبب عن ذلك قوله:
﴿فإن توليتم﴾ أي كلفتم أنفسكم الإعراض عن الحق بعد عجزكم عن إهلاكي ولم ينفعكم علمكم بأن الذي منعني - وأنا وحدي - منكم وأنتم ملء الأرض له العزة جميعاً وأن من أوليائه الذين تقدم وعده الصادق بأنهم لا خوف عليهم ولا هم يحزنون
﴿فما﴾ أي فلم يكن توليكم عن تفريط مني لأني سقت الأمر على ما يحب، ما
﴿سألتكم﴾ أي ساعة من الدهر، وأغرق في النفي فقال:
﴿من أجر﴾ أي على دعائي لكم يفوتني بتوليكم ولا تتهموني به في دعائكم.
ولما كان من المحال أن يفعل عاقل شيئاً لا لغرض، بين غرضه بقوله مستأنفاً:
﴿إن﴾ أي ما
﴿أجري إلا على الله﴾ أي الذي له صفات الكمال؛ ثم عطف عليه غرضاً آخر وهو اتباع الأمر خوفاً من حصول
164
الضر فقال:
﴿وأمرت﴾ أي من الملك الأعلى الذي لا أمر لغيره، وبناه للمفعول للعلم بأنه هو الآمر وليزيد في الترغيب في المأمور به وتغطية بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال
﴿أن أكون﴾ أي كوناً أتخلق به فلا أنفك عنه؛ ولما كان في مقام الاعتذار عن مفاجأته لهم بالإنذار، عبر بالإسلام الذي هو الأفعال الظاهرة فقال:
﴿من المسلمين*﴾ أي الراسخين في صفة الانقياد بغاية الإخلاص، لي ما لهم وعليّ ما عليهم، أنا وهم في الإسلام سواء، لا مرية لي فيه أتهم بها، أن أستسلم لكل ما يصيبني في الله، لا يردني ذلك عن إنفاذ أمره، والحاصل أنه لم يكن بدعائه إياهم في موضع تهمة، لا سألهم غرضاً دنيوياً يزيده إن أقبلوا ولا ينقصه إن أدبروا، ولا أتى بشيء من عند نفسه ليظن أنه أخطأ فيه ولا سلك به مسلكاً يظن به استعباده إياهم في اتباعه، بل أعلمهم بأنه أول مؤتمر بما أمرهم به مستسلم لما دعاهم إليه ولكل ما يصيبه في الله، ولما لم يردهم كلامه هذا عن غيهم، سبب عنه قوله مخبراً بتماديهم:
﴿فكذبوه﴾ أي ولم يزدهم شيء من هذه البراهين الساطعة والدلائل القاطعة إلا إدباراً، وكانوا في آخر المدة على مثل ما كانوا عليه من التكذيب
﴿فنجيناه﴾ أي تنجية عظيمة بما لنا من العظمة الباهرة بسبب امتثاله لأوامرنا وصدق اعتماده علينا
﴿ومن معه﴾ أي من العقلاء وغيرهم
﴿في الفلكِ﴾ كما وعدنا أولياءنا، وجعلنا
165
ذلك آية للعالمين
﴿وجعلناهم﴾ أي على ضعفهم بما لنا من العظمة
﴿خلائف﴾ أي في الأرض بعد من أغرقناهم، فمن فعل في الطاعة فعلهم كان جديراً بأن نجازيه بما جازيناهم
﴿وأغرقنا﴾ أي بما لنا من كمال العزة
﴿الذين كذبوا﴾ أي مستخفين مستهينين
﴿بآياتنا﴾ كما توعدنا يفترون على الله الكذب.
ولما كان هذا أمراً باهراً يتعظ به من له بصيرة، سبب عنه أمر أعلى الخلق فهما بنظره إشارة إلى أنه لا يعتبر به حق الاعتبار غيره فقال:
﴿فانظر﴾ وأشار إلى أنه أهل لأن يبحث عن شأنه بأداة الاستفهام، وزاد الأمر عظمة بذكر الكون فقال:
﴿كيف كان﴾ أي كوناً كان كأنه جبلة
﴿عاقبة﴾ أي آخر أمر
﴿المنذرين*﴾ أي الغريقين في هذا الوصف وهم الذين أنذرتهم الرسل، فلم يكونوا أهلاً للبشارة لأنهم لم يؤمنوا لنعلم أن من ننذرهم كذلك، لا ينفع من أردنا شقاوته منهم إنزال آية ولا إيضاح حجة؛ والتوكل: تعمد جعل الأمر إلى من يدبره للتقدير في تدبيره؛ والغمة: ضيق الأمر الذي يوجب الحزن؛ والتولي: الذهاب عن الشيء؛ والأجر: النفع المستحق بالعمل؛ والإسلام الاستسلام لأمر الله بطاعته بأنها خير ما يكتسبه العباد.
166
ولما لم يكن في قصص من بينه وبين موسى عليهم السلام مما يناسب
166
مقصود هذه السورة إلا ما شاركوا فيه قوم نوح من أنهم لم تنفع الآيات من أريدت شقاوته منهم، ذكره سبحانه طاوياً لما عداه فقال تعالى:
﴿ثم﴾ أي بعد مدة طويلة
﴿بعثنا﴾ أي على عظمتنا؛ ولما كان البعث لم يستغرق زمان البعد، أدخل الجار فقال:
﴿من بعده﴾ أي قوم نوح
﴿رسلاً﴾ كهود وصالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم الصلاة والسلام.
ولما كان ربما ظن أن قوم الإنسان لا يكذبونه، وإن كذبوه لم يتمادوا على التكذيب لا سيما إن أتاهم بما يقترحونه من الخوارق قال:
﴿إلى قومهم﴾ أي ففاجأهم قومهم بالتكذيب
﴿فجاءوهم﴾ أي فتسبب عن استنادهم إلى عظمتنا أن جاؤوهم
﴿بالبينات﴾ ليزول تكذيبهم فيؤمنوا
﴿فما﴾ أي فتسبب عن ذلك ضد ما أمروا به وقامت دلائله وهو أنهم ما
﴿كانوا﴾ أي بوجه من وجوه الكون
﴿ليؤمنوا﴾ أي مقرين
﴿بما كذبوا﴾ أي مستهينين
﴿به﴾ أول ما جاؤوهم. ولما كان تكذيبهم في بعض الزمن الماضي، أدخل الجار فقال:
﴿من قبل﴾ أي قبل مجيء البينات لأنا طبعنا على قلوبهم؛ قال أبو حيان: وجاء النفي مصحوباً بلام الحجود ليدل على أن إيمانهم في حيز الاستحالة والامتناع - انتهى. ويجوز أن يكون التقدير: من قبل مجيء الرسل إليهم، ويكون التكذيب أسند إليهم لأن أباهم كذبوا لما بدلوا ما كان عندهم من الدين الصحيح
167
الذي أتتهم به الرسل ورضوا هم بما أحدث آباؤهم استحساناً له، أو لأنه كان بين أظهرهم بقايا على بقايا مما شرعته الرسل فكانوا يعظونهم فيما يبتدعون فلا يعون ولا يسمعون كما كان قس بن ساعدة وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل وغيرهم قبل بعث النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لكن المعنى الأول أولى - والله أعلم.
ولما قرر عدم انتفاعهم بالآيات، بنى ما يليه على سؤاله من لعله يقول: هل استمر الخلق فيمن بعدهم؟ فكأنه قيل: نعم!
﴿كذلك﴾ أي مثل ما طبعنا على قلوبهم هذا الطبع العظيم
﴿نطبع﴾ أي نوجد الطبع ونجدده متى شئنا بما لنا من العظمة
﴿على قلوب المعتدين*﴾ في كل زمن لكل من تعمد العدو فيما لا يحل له، وهذا كما أتى موسى عليه السلام إلى فرعون فدعاه إلى الله فكذبه فأخبره أن معه آية تصدقه فقال له: إن كنت جئت بآية فائت بها إن كنت من الصادقين، فلما أتاه بها استمرعلى تكذيبه وكان كلما رأى آية ازداد تكذيباً، وكان فرعون قد قوي ملكه وعظم سلطانه وعلا في كبريائه وطال تجبره على الضعفاء، فطمست أمواله وآثاره، وبقيت أحاديثه وأخباره، ولهذا أفصح سبحانه بقصته فقال: دالاً على الطبع:
﴿ثم بعثنا﴾ أي وبعد زمن طويل من إهلاكنا إياهم بعثنا، ولعدم استغراق زمن البعد أدخل الجار فقال:
﴿من بعدهم﴾ أي من بعد أولئك الرسل
168
﴿موسى و﴾ كذا بعثنا
﴿هاورن﴾ تأييداً له لأن اتفاق اثنين أقوى لما يقررانه وأوكد لما يذكرانه؛ ولما استقر في الأذهان بما مضى أن ديدن الأمم تكذيب من هو منهم حداً له ونفاسة عليه.
كان ربما ظن أن الرسول لو أتى غير قومه كان الأمر على غير ذلك، فبين أن الحال واحد في القريب والغريب، فقال مقدماً لقوله:
﴿إلى فرعون وملئه﴾ أي الأشراف من قومه، فإن الأطراف تبع لهم
﴿بآياتنا﴾ أي التي لا تكتنه عظمتها لنسبتها إلينا، فطبعنا على قلوبهم
﴿فاستكبروا﴾ أي طلبوا الكبر على قبول الآيات وأوجدوا ما يدل عليه من الرد بسبب انبعاثه إليهم عقب ذلك
﴿وكانوا﴾ أي جبلة وطبعاً
﴿قوماً مجرمين*﴾ أي طبعهم قطع ما ينبغي وصله ووصل ما ينبغي قطعه، فلذلك اجترؤوا على الاستكبار مع ما فيها أيضاً من شديد المناسبة لما تقدم من قول الكافرين
﴿هذا سحر مبين﴾ في نسبة موسى عليه السلام إليه وبيان حقيقة السحر في زواله وخيبته متعاطية لإفساده إلى غير ذلك من الأسرار التي تدق عن الأفكار، هذا إلى ما ينظم إليه من مناسبة ما بين إهلاك القبط وقوم نوح بآية الغرق، وأنه لم ينفع أحداً من الفريقين معاينة الآيات ومشاهدة الدلالات البينات، بل ما آمن لموسى إلا ذرية من قومه بعد تلك المعجزات الباهرة والبراهين الظاهرة، ثم اتبعهم فرعون بعد أن كانت انحلت عن حبسهم عراه، وتلاشت من تجبره قواه، وشاهد من الضربات ما يهد الجبال،
169
ودخل في طلبهم البحر بحزات لا يقرب ساحتها الأبطال، لما قدره عليه ذو الجلال، ولم يؤمن حتى أتاه البأس حيث يفوت الإيمان بالغيب الذي هو شرط الإيمان، فلم ينفعه إيمانه مع اجتهاده فيه وتكريره لفوات شرطه إجابة لدعوة موسى عليه السلام، ثم إن بني إسرائيل كانوا قبل مجيء موسى عليه السلام على منهاج واحد. فما اختلفوا إلا بعد مجيء العلم إليهم وبيان الطريق واضحة لديهم، ولهذا المراد ذكر هنا هارون عليه السلام لأن من أعظم مقاصد السورة المنع من طلب الآيات لمن بعد الإيمان عند الإتيان بها، إشارة إلى أن القول من الاثنين أوكد، ومع ذلك فلم يصدق من حكم القدير بشقاوته، كل ذلك حثاً على الرضا والتسليم، ووكل الأمر إلى الرب الحكيم، فمهما أمر به قبل، وما أعرض عنه ترك السؤال فيه رجاء تدبيره بأحسن التدبير وتقديره ألطف المقادير؛ ولما أخبر سبحانه باستكبارهم، بين أنه تسبب عنه طعنهم في معجزاته من غير تأمل، بل بغاية المبادرة والإسراع بما أشعرت به الفاء والسياق، فقال تعالى:
﴿فلما جاءهم﴾ أي فرعون وملؤه
﴿الحق﴾ أي البالغ في الحقية، ثم زاد في عظمته بقوله:
﴿من عندنا﴾ أي على ما لنا من العظمة التي عرفوا بها أنه منا، لا من الرسولين
﴿قالوا﴾ أي غير متأملين له ولا ناظرين في أمره بل
170
عناداً ودلالة على استكبارهم مؤكدين لما علموا من تصديق الناس به
﴿إن هذا لسحر مبين*﴾ كما قال الناس الذين أخبر عنهم سبحانه في أول السورة في هذا القرآن وما إبانه من البعث.
فلما قالوا كان كأنه قيل: فماذا أجابهم؟ فأخبر أنه أنكر عليهم، بقوله:
﴿قال موسى﴾ ولما كان تكريرهم لذلك القول أجدر بالإنكار، عبر بالمضارع الدال على أنهم كرروه لينسخوا ما ثبت في قلوب الناس من عظمته
﴿أتقولون للحق﴾ ونبه على أنهم بادروا إلى التكذيب من غير نظر ولا توقف بقوله:
﴿لما جاءكم﴾ أي هذا القول الذي قلتموه وهو أنه سحر، فإن القول يطلق على المكروه، تقول: فلان قال في فلان، أي ذمه، وفلان يخاف القالة، وبين الناس تقاول؛ ثم كرر الإنكار بقوله:
﴿أسحر هذا﴾ أي الذي هو في غاية الثبات والمخالفة للسحر في جميع الصفات حتى تقولون فيه ذلك. فالآية من الاحتباك: ذكر القول في الأول دال على حذف مثله في الثاني، وذكر السحر الثاني دال على حذف مثله في الأول.
ولما كان التقدير: أتقولون هذا والحال أنكم قد رأيتم فلاحه، بني عليه قوله:
﴿ولا يفلح﴾ أي يظفر بما يريد في وقت من الأوقات
﴿الساحرون*﴾ أي العريقون فيه لأن حاصل أمرهم تخييل وتمويه في الأباطيل، فالظفر بعيد عنهم، ويجوز أن تجعل هذه الجملة معطوفه
171
على قوله:
﴿أسحر هذا﴾ لأنه إنكاري بمعنى النفي، فلما أنكر عليهم عليه السلام ما ظهر به الفرق الجلي بين ما أتى به في كونه أثبت الأشياء وبين السحر، لأنه لا ثبات له أصلاً، عدلوا عن جوابه إلى الإخبار بما يتضمن أنهم لا يقرون بحقيته لأنه يلزم عن ذلك ترك ما هم عليه من العلو وهم لا يتركونه، وأوهموا الضعفاء أن مراده عليه السلام الاستكبار معللين لاستكبارهم عن اتباعه بما دل على أنهم لا مانع أنهم منه إلا الكبر، فقال تعالى حكاية عنهم:
﴿قالوا﴾ أي منكرين عليه معللين بأمرين: التقليد، والحرص على الرئاسة.
ولما كان هو الأصل في الرسالة. وكان أخوه له تبعاً، وحدوا الضمير فقالوا:
﴿أجئتنا﴾ أي أنت يا موسى
﴿لتلفتنا﴾ أي لتقتلنا وتصرفنا
﴿عما وجدنا عليه﴾ وقالوا مستندين إلى التقليد غير مستحيين من ترك الدليل
﴿آباءنا﴾ من عبادة الأصنام والقول بالطبيعة لنقل نحن بذلك
﴿وتكون لكما﴾ أي لك أنت ولأخيك دوننا
﴿الكبرياء﴾ أي بالملك
﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر التي هي - لما فيها من المنافع - كأنها الأرض كلها
﴿وما﴾ أي وقالوا أيضاً: ما
﴿نحن لكما﴾ وبالغوا في النفي وغلب عليهم الدهش فعبروا بما دل على أنهم غلبهم الأمر فعرفوا أنه صدق ولم يذعنوا فقالوا:
﴿بمؤمنين*﴾
172
أي عريقين في الإيمان، فهو عطف على
﴿أجئتنا﴾ أي قالوا ذاك وقالوا هذا، أو يكون عطفاً على نحو: فما نحن بموصليك إلى هذا الغرض، أفردوه أولاً بالإنكار عليه في المجيء ليضعف ويكف أخوه عن مساعدته، وأشركوه معه ثانياً تأكيداً لذلك الغرض وقطعاً لطمعه؛ والبعث: الإطلاق في أمر يمضي فيه، وهو خلاف الإطلاق من عقال؛ والملأ: الجماعة الذين هم وجوه القبيلة، لأن هيبتهم تملأ الصدور عند منظرهم؛ والاستكبار: طلب الكبر من غير استحقاق؛ والمجرم من اكتسب سيئة كبيرة، من جرم التمر - إذا قطعه، فالجرم يوجب قطع الخير عن صاحبه؛ والسحر: إيهام المعجزة على طريق الجيلة، ويشبه به البيان في خفاء السبب؛ والحق: ما يجب الحمد عليه ويشتد دعاء الحكمة إليه ويعظم النفع به والضرر بتركه؛ والكبرياء: استحقاق صفة الكبر في أعلى المراتب، وهي صفة مدح لله وذم للعباد لأنها منافية لصفة العبودية.
173
ولما لبسوا بوصفه بما هم به متصفون، أرادوا الزيادة في التلبيس بما يوهم أن ما أتى به سحر تمكن معارضته إيقافاً للناس عن تباعه، فقال تعالى حكاية عطفاً على قوله:
﴿قالوا أجئتنا﴾ :
﴿وقال فرعون﴾ إرادة المناظرة لما أتى به موسى عليه السلام
﴿ائتوني بكل ساحر عليم*﴾
173
أي بالغ في علم السحر لئلا يفوت شيء من السحر بتأخر البعض، وقراءة حمزة والكسائي بصيغة فعال دالة على زيادة لزعمه أقل من سياق الشعراء كما مضى في الأعراف.
ولما كان التقدير: فامتثلوا أمره وجمعوهم، دل على قرب اجتماعهم بالفاء في قوله:
﴿فلما جاء السحرة﴾ أي كل من في أرض مصر منهم
﴿قال لهم موسى﴾ مزيلاً لهذا الإيهام
﴿ألقوا﴾ جميع
﴿ما أنتم ملقون*﴾ أي راسخون في صنعة إلقائه، إشارة إلى أن ما جاؤوا به ليس أهلاً لأن يلقى إليه بال
﴿فلما ألقوا﴾ أي وقع منهم الإلقاء بحبالهم وعصيهم على إثر مقالاته وخيلوا بسحرهم لعيون الناس ما زلزل عقولهم
﴿قال موسى﴾ منكراً عليهم
﴿ما جئتم به﴾ ثم بين أنه ما استفهم عنه جهلاً بل احتقاراً وإنكاراً، وزاد في بيان كل من الأمرين بقوله:
﴿السحر﴾ لأنه استفهام أيضاً سواء قطعت الهمزة ومدت كما في قراءة أبي عمرو وأبي جعفر أوجعلت همزة وصل كما في قراءة الباقين، فإن همزة الاستفهام مقدرة، والتعريف إما للعهد وإما للحقيقة وهو أقرب، ويجوز في قراءة الجماعة أن يكون خبراً لما يقصد به الحصر، أي هو السحر لا ما نسبتموه إليّ؛ ثم استأنف بيان ما حقره به فقال:
﴿إن الله﴾ أي الذي له إحاطة العلم والقدرة
﴿سيبطله﴾ أي عن قريب بوعد لا خلف فيه؛ ثم علل ذلك بما بين
174
أنه فساد فقال:
﴿إن الله﴾ أي الذي له الكمال كله
﴿لا يصلح﴾ أي وفي وقت من الأوقات
﴿عمل المفسدين*﴾ أي العريقين في الفساد بأن لا ينفع بعملهم ولا يديمه؛ ثم عطف عليه بيان إصلاحه عمل المصلحين فقال:
﴿ويحق﴾ أي يثبت إثباتاً عظيماً
﴿الله﴾ أي الملك الأعظم
﴿الحق﴾ أي الشيء الذي له الثبات صفة لازمة؛ ولما كان في مقام تحقيرهم، دل على ذلك بتكرير الاسم الجامع الأعظم. وأشار إلى ما له من الصفات العلى بقوله:
﴿بكلماته﴾ أي الأزلية التي لها ثبات الأعظم، وزاد في العظمة بقوله:
﴿ولو كره المجرمون﴾ أي العريقون في قطع ما أمر الله به أن يوصل، فكان كما قال عليه السلام بطل سحرهم، واضمحل مكرهم، وحق الحق - كما بين في سورة الأعراف.
ولما حكى سبحانه أن موسى عليه السلام أبان ما أبان من بطلان السحر وكونه إفساداً، فثبت ما أتى به لمخالفته له، أخبر تعالى - تسلية للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وفطماً عن طلب الإجابة للمقترحات - أنه ما تسبب عن ذلك في أول الأمر عقب إبطال سحرهم من غير مهلة إلا إيمان ناس ضعفاء غير كثير، فقال تعالى:
﴿فما آمن﴾ أي متبعاً
﴿لموسى﴾ أي بسبب ما فعل، ليعلم أن الآيات ليست سبباً للهداية إلا لمن أردنا ذلك منه؛ وبين أن الصغار أسرع إلى القبول بقوله:
﴿إلا ذرية﴾ أي شبانهم هم أهل لأن تذر فيهم البركة
﴿من قومه﴾ أي قوم موسى الذين لهم القدرة
175
على القيام في المحاولة لما يريدونه، والظاهر أنهم كانوا أيتاماً وأكثرهم - كما قاله مجاهد
﴿على خوف﴾ أي عظيم
﴿من فرعون وملئهم﴾ أي أشراف قوم الذرية؛ ولما كان إنكار الملأ إنما هو بسبب فرعون أن يسلبهم رئاستهم، انحصر الخوف فيه فأشار إلى ذلك بوحدة الضمير فقال:
﴿أن يفتنهم﴾ وأتبعه ما يوضح عذرهم بقوله مؤكداً تنزيلاً لقريش منزلة من يكذب بعلو فرعون لتكذيبهم لأن ينصر عليهم الضعفاء من أصحاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعلوهم:
﴿وإن فرعون لعال﴾ أي غالب قاهر متمكن بما فتناه به من طاعة الناس له
﴿في الأرض﴾ أي أرض مصر التي هي بكثرة ما فيها من المرافق كأنها جميع الأرض
﴿وإنه لمن المسرفين*﴾ أي العريقين في مجاوزة الحدود بظاهره وباطنه، وإذا ضممت هذه الآية إلى قوله تعالى:
﴿وإن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣] كان قياساً بديهياً منتجاً إنتاجاً صريحاً قطعياً أن فرعون من أصحاب النار، تكذبياً لأهل الوحدة في قولهم: إنه آمن، ليهونوا المعاصي عند الناس فيحلوا بذلك عقائد أهل الدين.
176
ولما ذكر خوفهم وعذرهم، أتبعه ما يوجب طمأنينتهم، وهو التوكل على الله الذي من راقبه تلاشى عنده كل عظيم، فقال:
﴿وقال موسى﴾ أي لمن آمن به موطناً لهم على أن الجنة لا تنال إلا بمشقة عظيمة «يبتلى
176
الناس على قدر إيمانهم»
﴿يا قوم﴾ فاستعطفهم بالتذكير بالقرب وهزهم إلى المعالي به فيهم من القوة ثم هيجهم وألهبهم على الثبات بقوله:
﴿إن كنتم﴾ أي كوناً هو في ثباته كالخلق الذي لا يزول
﴿آمنتم بالله﴾ وثبتهم بذكر الاسم الأعظم وما دل عليه من الصفات، وأجاب الشرط بقوله:
﴿فعليه﴾ أي وحده لما علمتم من عظمته التي لا يداينها شيء سواه
﴿توكلوا﴾ وليظهر عليكم أثر التوكل من الطمأنينة والثبات والسكينة
﴿إن كنتم﴾ أي كوناً ثابتاً
﴿مسلمين*﴾ جامعين إلى تصديق القلب إذعان الجوارح؛ وجواب هذا الشرط ما دل عليه الماضي من قوله:
﴿فعليه توكلوا﴾ ﴿فقالوا﴾ أي على الفور كما يقتضيه الفاء
﴿على الله﴾ أي الذي له العظمة كلها وحده
﴿توكلنا﴾ أي فوضنا أمورنا كلها إليه
﴿ربنا﴾ أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا
﴿لا تجعلنا فتنة﴾ أي موضع مخالطة بما يميل ويحيل
﴿للقوم الظالمين*﴾ أي لا تصبنا أنت بما يظنون به تهاونك بنا فيزدادوا نفرة عن دينك لظنهم أنا على الباطل ولا تسلطهم علينا مما يفتننا عن ديننا فيظنوا أنهم على الحق
﴿ونجنا برحمتك﴾ أي إكرامك لنا
﴿من القوم﴾ أي الأقوياء
﴿الكافرين*﴾ أي العريقين في تغطية الأدلة، وفي دعائهم هذا إشارة إلى أن أمر الدين أهم من أمر النفس.
177
ولما أجابوه إلى إظهار الاعتماد عليه سبحانه وفوضوا الأمور إليه، أتبعه ما يزيدهم طمأنينة من التوطن في أرض العدو إشارة إلى عدم المبالاة به، لأنه روي أنه كانت لهم متعبدات يجتمعون فيها، فلما بعث موسى عليه السلام أخربها فرعون، فأمر الله تعالى أن تجعل في بيوتهم لئلا يطلع عليهم الكفرة فقال تعالى عاطفاً على قوله:
﴿وقال موسى﴾ ﴿وأوحينا﴾ أي بما لنا من العظمة البالغة
﴿إلى موسى وأخيه﴾ أي الذي طلب مؤازرته ومعارضته
﴿أن تبوءا﴾ أي اتخذا
﴿لقومكما بمصر﴾ وهي ما بين البحر إلى أقصى أسوان والإسكندرية منها
﴿بيوتاً﴾ تكون لهم مرجعاً يرجعون إليه ويأوون إليه
﴿واجعلوا﴾ أي أنتما ومن معكما من قومكما
﴿بيوتكم قبلة﴾ أي مصلى لتتعبدوا فيها مستترين عن الأعداء تخفيفاً من أسباب الخلاف
﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم جمعاً بين آلتي النصر: الصبر والصلاة، وتمرناً على الدين وتثبيتاً له في القلب.
ولما كان الاجتماع فيما تقدم أضخم وأعز وأعظم، وكان واجب على الأمة كوجوبه على الإمام جمع فيه، وكان إسناده البشارة عن الملك إلى صاحب الشريعة أثبت لأمره وأظهر لعظمته وأثبت في قلوب أصحابه وأقر لأعينهم، أفرد في قوله:
﴿وبشر المؤمنين*﴾
178
أي الراسخين في الإيمان من أخيك وغيره.
179
ولما ختم ببشارة من دل على إيمانهم إسلامهم بفعل ما يدل على هوان أمر العدو، وكان هلاك المشانىء من أعظم البشائر، وكان ضلال فرعون وقومه بالزينة والمال إضلالاً لغيرهم، سأل موسى عليه السلام إزاله ذلك كله للراحة من شره، فقال تعالى حاكياً عنه:
﴿وقال موسى﴾ أي بعد طول دعائه لفرعون وإظهار المعجزات لديه وطول تكبره على أمر الله وتجبره على المستضعفين من عباده، ولما كان من أعظم أهل الاصطفاء، أسقط الأداة تسنناً بهم، وأشار بصفة الإحسان إلى أن هلاك أعدائهم أعظم إحسان إليهم فقال:
﴿ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا
﴿إنك﴾ أكد لما للجهال من إنكار أن يكون عطاء الملك الأعظم سبباً للإهانة
﴿آتيت فرعون وملأه﴾ أي أشراف قومه على ما هم فيه من الكفر والكبر
﴿زينة﴾ أي عظيمة يتزينون بها من الحلية واللباس وغيرهما
﴿وأموالاً﴾ أي كثيرة من الذهب والفضة وغيرهما
﴿في الحياة الدنيا﴾ روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان لهم من فسطاط مصر إلى أرض الحبشة جبال فيها معادن من ذهب وفضة وزبرجد وياقوت؛ ثم بين غايتها لهم فقال مفتتحاً بالنداء باسم الرب ليعيذه وأتباعه من مثل حالهم:
﴿ربنا﴾ أي أيها الموجد لنا المحسن إلينا والمدبر لأمورنا
﴿ليضلوا﴾ في
179
أنفسهم ويضلوا غيرهم
﴿عن سبيلك﴾ أي الطريق الواسعة التي نهجتها للوصول إلى رحمتك.
ولما بين أن مآلهم الضلال، دعا عليهم فقال مفتتحاً أيضاً بالنداء باسم الرب ثالثاً لأن ذلك من أمارات الإجابة كما أُشير إليه في آخر آل عمران وإشارة إلى أنهم لا صلاح لهم بدون هلاكهم وهلاكها:
﴿ربنا اطمس﴾ أي أوقع الطمس وهو التسوية بين المطموس وبين غيره مما ليس له نفعه
﴿على أموالهم﴾.
ولما كان قد رأى منهم من التكبر على الله والتكذيب لآياته والتعذيب لأوليائه ما لا يشفي غيظه منه إلا إدامة شقائهم دنيا وأخرى، وكان عالماً بأن قدرة الله على إبقائهم على الكفر مع تحسيرهم بسلب المال كقدرته على ذلك باستدراجهم إليه بالمال، قال:
﴿واشدد﴾ أي شداً ظاهراً لكل أحد - بما أشار إليه الفك مستعلياً
﴿على قلوبهم﴾ قال ابن عباس: اطبع عليها وامنعها من الإيمان، وأجاب الدعاء بقوله:
﴿فلا يؤمنوا﴾ أي ليتسبب عن ذلك الشد عدم إيمانهم إذا رأوا مبادىء العذاب الطمس
﴿حتى يروا﴾ أي بأعينهم
﴿العذاب الأليم*﴾ حيث لا ينفعهم الإيمان فيكونوا جامعين ذل النفوس المطلوب منهم اليوم ليفيدهم العز الدائم إلى شدة الغضب بوضع الشيء في غير موضعه المنتج لدوام ذلهم بالعقاب؛ وهذه الآية منبهة على أن الرضى بكفر خاص
180
لا يستلزم استحسان الكفر من حيث هو كفر؛ قال الإمام الحليمي في كتاب شعب الإيمان المسمى بالمنهاج: وإذا تمنى مسلم كفر مسلم فهذا على وجهين: أحدهما أن يتمناه له كما يتمنى الصديق لصديقه الشيء يستحسنه فيحب أن يكون له فيه نصيب، فهذا كفر لأن استحسان الكفر كفر، والآخر أن يتمناه له كما يتمنى لعدوه الشيء يستفظعه - فيجب أن يقع فيه، فهذا ليس بكفر، تمنى موسى صلوات الله عليه وسلامه بعد أن أجهده فرعون ألا يؤمن فرعون وملأه ليحق عليهم العذاب، وزاد على ذلك أن دعا الله تبارك وتعالى فلم ينكر تعالى ذلك عليه لعلمه أن شدته على فرعون وغلظته عليه لما رآه من عتوه وتجبره هي التي حملته على ذلك، فمن كان في معناه فله حكمه؛ وقد نقل ذلك عنه الزركشي في حرف الثاء من قواعده مرتضياً له، ونقل عنه أيضاً أنه قال: ولو كان في قلب مسلم على كافر فأسلم فحزن المسلم لذلك وتمنى لو عاد إلى الكفر لا يكفر، لأن استقباحه الكفر هو الذي حمله على تمنيه واستحسانه الإسلام هو الحامل لله على كراهته؛ ونقل عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام أنه لو قتل عدو للإنسان ظلماً ففرح هل يأثم! إن فرح بكونه عصى الله فيه فنعم، وإن فرح بكونه خلص
181
من شره فلا بأس لاختلاف سببي الفرح - انتهى.
ويؤيده ما روى البيهقي في دلائل النبوة بسنده عن مقسم مرسلاً أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عل عتبة بن أبي وقاص يوم أحد حين كسر رباعيته ودمي وجهه فقال:
«اللهم لا تحل عليه الحول حتى يموت كافراً!» فما حال عليه الحول حتى مات كافراً إلى النار، ومسألة أن الرضى بالكفر كفر نقلها الشيخان عن المتولي وسكتا عليها، ولكن قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب: إن ذلك إفراط، فما تقدم من التفصيل عن الحليمي وابن عبد السلام هو المعتمد، والمسألة في أصل الروضة. فإنه قال: لو قال لمسلم: سلبه الله الإيمان، أو لكافر: رزقه الله الإيمان، فليس بكفر لأنه ليس رضى بالكفر لكنه دعاء عليه بتشديد الأمر والعقوبة؛ قلت: ذكر القاضي حسين في الفتاوى وجهاً ضعيفاً أنه لو قال مسلم: سلبه الله الإيمان، كفر - والله أعلم، وحكى الوجهين عن القاضي في الأذكار وقال: إن الدعاء بذلك معصية.
182
ولما أخبر سبحانه عن دعائه عليه السلام أخبر بإجابته بقوله مستأنفاً:
﴿قال﴾ ولما كان الموضع محل التوقع للإجابة، افتتحه بحرفه فقال:
﴿قد أجيبت دعوتكما﴾ والبناء للمفعول أدل على القدرة وأوقع في النفس من جهة الدلالة على الفاعل بالاستدلال، وثنى للإعلام بأن هارون عليه السلام مع موسى عليه السلام في هذا الدعاء، لأنه معه كالشيء الواحد لا خلاف منه له أصلاً وإن كان غائباً، وذلك
182
كما بايع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن عثمان رضي الله عنه في عمرة الحديبية فضرب بإحدى يديه على الأخرى وهو غائب في حاجة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكذا ضرب له في غزوة بدر بسهمه وأجره وكان غائباً.
ولما كانت الطاعة وانتظار الفرج وإن طال زمنه أعظم أسباب الإجابة، سبب عن ذلك قوله:
﴿فاستقيما﴾ أي فاثبتا على التعبد والتذلل والخضوع لربكما كما أن نوحاً عليه السلام ثبت على ذلك وطال زمنه جداً واشتد أذاه ولم يضجر؛ ولما كان الصبر شديداً. أكد قوله:
﴿ولا تتبِّعان﴾ بالاستعجال أو الفترة عن الشكر
﴿سبيل الذين لا يعلمون*﴾ ولما أمر بالتأني الذي هو نتيجة العلم، عطف على ذلك الإخبار بالاستجابة قوله:
﴿وجاوزنا﴾ أي فعلنا بعظمتنا في إجازتهم فعل المناظر للآخر المباري له، ودل بإلصاق الباء بهم على مصاحبته سبحانه لهم دلالة على رضاه بفعلهم فقال:
﴿ببني إسراءيل﴾ أي عبدنا المخلص لنا
﴿البحر﴾ إعلاماً بأنه أمرهم بالخروج من مصر وأنجز لهم ما وعد فأهلك فرعون وملأه باتباعهم سبيل من لا يعلم بطيشهم وعدم صبرهم، ونجى بني إسرائيل بصبرهم وخضوعهم؛ والالتفات من الغيبة إلى التكلم لما في هذه المجاوزة ومقدماتها ولواحقها من مظاهر العظمة ونفوذ الأوامر ومضاء الأحكام؛ وبين سبحانه كيفية إظهار استجابة الدعوة بقوله مسبباً عن المجاوزة:
183
﴿فأتبعهم﴾ أي بني إسرائيل
﴿فرعون وجنوده﴾ أي أوقعوا تبعهم أي حملوا نفوسهم على تبعهم، وهو السير في أثرهم، واتبعه - إذا سبقه فلحقه، ويقال: تبعه في الخير واتبعه في الشر. ولما أفهم ذلك، صرح به فقال:
﴿بغياً﴾ أي تعدياً للحق واستهانة بهم
﴿وعدواً﴾ أي ظلماً وتجاوزاً للحد.
ولما كان فاعل ذلك جديراً بأن يرجع عما سلكه من الوعورة، عجب منه في تماديه فقال - عاطفاً على ما تقديره: واستمر يتمادى في ذلك -:
﴿حتى﴾ ولما كانت رؤية انفراج البحر عن مواضع سيرهم مظنة تحقق رجوع الماء إلى مواضعه فيغرق، عبر بأداة التحقق فقال:
﴿إذا أدركه﴾ أي قهره وأحاط به
﴿الغرق﴾ أي الموت بالماء كما سأل موسى في أنه لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم
﴿قال آمنت﴾ أي أوقعت إيمان الداعي لي من التكذيب؛ ثم علل إيمانه بقوله مبدلاً من
﴿آمنت﴾ في قراءة حمزة والكسائي بالكسر مؤكداً من شدة الجزع:
﴿أنه﴾ وعلى تقدير الباء تعليلاً في قراءة الجماعة أي معترفاً بأنه
﴿لا إله إلا الذي﴾ ويجوز أن يكون أوقع
﴿آمنت﴾ على
﴿أنه﴾ وما بعدها - أي
﴿آمنت﴾ نفي الإلهية عن كل شيء غير من استثنيه من أن أعبره أو أرجع عنه.
ولما كان قد تحقق الهالك وعلم أنه لا نجاة إلا بالصدق، اراد الإعلام
184
بغاية صدقه فقال:
﴿آمنت﴾ أي أوقعت التصديق معترفة
﴿به بنو إسراءيل﴾ فعينه تعييناً أزال الاحتمال؛ ثم قال:
﴿وأنا من المسلمين*﴾ فكرر قبول ما كان دعي إليه فأباه استكباراً، وعبر بما دل على ادعاء الرسوخ فيه بياناً لأنه ذل ذلاً لم يبق معه شيء من ذلك الكبر ولم ينفعه ذلك لفوات شرطه، فاتصل ذله ذلك بذل الخزي في البرزخ وما بعده، وقد كانت المرة الواحدة كافية له عند وجود الشرط، وزاده تعالى ذلاً بالإيئاس من الفلاح بقوله على لسان الحال أو جبريل عليه السلام أو ملك الموت أو غيره من الجنود عليهم السلام:
﴿آلآن﴾ أي أتجيب إلى ما دعيت إليه في هذا الحين الذي لا ينفع فيه الإجابة لفوات الإيمان بالغيب الذي لا يصح أن يقع اسم الإيمان إلا عليه
﴿وقد﴾ أي والحال أنك قد
﴿عصيت﴾ أي بالكفر
﴿قبل﴾ أي في جميع زمان الدعوة الذي قبل هذا الوقت، ومعصية الملك توجب الأخذ والغضب كيف كانت، فكيف وهي بالكفر!
﴿وكنت﴾ أي كوناً جبلياً
﴿من المفسدين*﴾ أي العريقين في الفساد والإفساد؛ ثم أكده - بدل شماتة الأعداء به الذين كانوا عنده أقل شيء وأحقره - بقوله مسبباً عما تضمنه ذلك الإنكار من الإذلال بالإهلاك إشارة إلى أن الماء أحاط به وصار يرتفع قليلاً قليلاً حتى امتد زمن التوبيخ:
﴿فاليوم ننجيك﴾ أي تنجية عظيمة.
185
ولما كان ذلك ساراً وكانت المساءة بما يفهم السرور إنكاء، قال دالاً على أن ذلك يعد نزع روحه:
﴿ببدنك﴾ أي من غير روح وهو كامل لم ينقص منه شيء حتى لا يدخل في معرفتك لبس
﴿لتكون﴾ أي كوناً هو في غاية الثبات
﴿لمن خلفك﴾ أي يتأخر عنك في الحياة من بني إسرائيل وغيرهم
﴿آية﴾ في أنك عبد ضعيف حقير، لست برب فضلاً عن أن تكون أعلى ويعرفوا أن من عصى الملك أخذ وأن كان أقوى الناس وأكثرهم جنوداً، وقد ادعى بعض الملحدين إيمانه بهذه الآية إرادة لما يعيذ الله منه من حل العقد الواجب من أن فرعون من أكفر الكفرة بإجماع أهل الملل ليهون للناس الاجتراء على المعاصي، وادعى أنه لا نص في القرآن على أنه من أهل النار وضل عن الصرائح التي في القرآن في ذلك في غير موضع وعن أن قوله تعالى:
﴿وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ [يونس: ٨٣] مع قوله تعالى:
﴿وأن المسرفين هم أصحاب النار﴾ [غافر: ٤٣] قياس قطعي الدلالة بديهي النص على أنه من أهل النار، والآية - كما ترى - دليل على قوله:
﴿قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتاً أو نهاراً﴾ - الآية، لو كان فرعون مثل قريش، فكيف ولا نسبة لهم منه في شدة الاستكبار التابعة لكثرة الجموع ونفوذ
186
الكلمة بضخامة الملك وعز السلطان والقوة بالأموال والأعوان، وقد وري أن جبريل عليه السلام كان أتاه بفتيا في عبد نشأ في نعمة سيده فكفر نعمته وجحد حقه وادعى السيادة دونه، فكتب فرعون جزاء العبد الخارج عن طاعة سيده الكافر نعماءه أن يغرق في البحر، فلما ألجمه الغرق ناوله جبريل عليه السلام خطه فعرفه.
ولما لم يعمل فرعون وآله بمقتضى ما رأوا من الآيات، كان حكمهم حكم الغافلين عنها، فكان التقدير: ولقد غفلوا عما جاءهم من الآيات
﴿وإن كثيراً﴾ أكده لأن مثله ينبغي - لبعده عن الصواب - أن لا يصدق أن أحداً يقع فيه
﴿من الناس﴾ أي وهم من لم يصل إلى حد أول أسنان أهل الإيمان لما عندهم من النوس - وهو الاضطراب - والأنس بأنفسهم
﴿عن آياتنا﴾ أي على ما لها من العظمة
﴿لغافلون﴾ والإصلاح: تقويم العمل على ما ينفع بدلاً مما يضر؛ وإحقاق الحق: إظهاره وتمكينه بالدلائل الواضحة حتى يرجع الطاعن عنه حسيراً والمناصب له مفلولاً؛ والإسراف: الإبعاد في مجاوزة الحق؛ والفتنة: البلية، وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة؛ والنجاة: الخلاص مما فيه المخافة، ونظيرها السلامة، وعلقوا النجاة بالرحمة لأنها إنعام على المحتاج بما تطلع إليه النفوس العباد، فهو على أوكد ما يكون
187
من الدعاء إلى الصلاح؛ والوحي: إلقاء المعنى إلى النفس في خفاء، والإيحاء والإيماء والإشارة نظائر، ولا يجوز أن تطلق الصفة بالوحي إلا لنبي؛ وتبوأ: اتخذ، وأصله الرجوع، فالمتبوأ: المنزل، لأنه يرجع إليه للمقام فيه: والطمس: محو الأثر فهو تغير إلى الدثور والدروس؛ والإجابة: موافقة الدعوة فيما طلب بها لوقوعها على تلك الصفة؛ والدعوة: طلب الفعل بصيغة الأمر، وقد تكون بالماضي؛ والمجاوزة: الخروج عن الحد من إحدى الجهات؛ والبحر: مستقر الماء الواسع بحيث لا يدرك طرفيه من كان في وسطه، وهو مأخوذ من الاتساع؛ والاتباع: اللحاق بالأول؛ والبغي: طلب الاستعلاء بغير حق؛ والآن: فصل الزمانين الماضي والمستقبل، ومع أنه إشارة إلى الحاضر، ولهذا بنى كما بنى
«ذا» ؛ والبدن: مسكن روح الحيوان على صورته.
188
ولما ذكر تعالى عاقبة أمر فرعون وقومه وأنهم لم ينتفعوا بما جاءهم من البينات مع ما كان فيها من جلي البيان وفي بعضها من الشدائد والامتحان حتى كان آخرها أنه لما رأى مبدأ الهلاك من انفراق البحر لم يزعه عن لجاجه غفلة منه عن عاقبته. وختمها بالإخبار بكثرة الغفلة إشارة إلى أن هذا الخلق في غير القبط أيضاً، أتبع ذلك ذكر خاتمة أمر بني إسرائيل فيما خولهم فيه بعد الإنجاء من النعم المقتضي للعلم القطعي بأنه لا إله غيره، وأن من خالفه كان على خطر الهلاك،
188
وأنهم - مع مشاهدتهم الآيات الآتيه بسببهم إلى فرعون - آتاهم من الآيات الخاصة بهم المنجزة لصدق وعده سبحانه لآبائهم ما فيه غاية الإحسان إليهم والإكرام لهم، وأنهم كانوا تحت يد فرعون على طريق واحد، ليس بينهم خلاف، وما اختلفوا فصاروا فرقاً في الاعتقادات وأحزاباً في الديانات حتى جاءهم العلم الموضح من الله، فكان المقتضي لاجتماعهم على الله مفرقاً لهم على سبيل الشيطان لخبث سرائرهم وسوء ضمائرهم وقوفاً مع الشاهد الزائل وجموداً مع المحسوس الفاني ونسياناً للغائب الثابت والمعلوم المتيقن، كل ذلك لأنا قضينا به فالأمر تابع لما نريد، لا لما يأمر به وينهى عنه، فكان أعظم زاجر عن طلب الآيات وظن أنها توجب له الرد على الغوايات، فقال تعالى:
﴿ولقد بوأنا﴾ أي أسكنا بما لنا من العظمة التي تنقطع الأعناق دون عليائها وتتضاءل ثواقب الأفكار عن إحصائها
﴿بني إسراءيل﴾ مسكناً هو أهل لأن يرجع إليه من خرج عنه، وهو المراد بقوله:
﴿مبوأ صدق﴾ أي في الأرض المقدسة لأن وعدنا كان قد تقدم لهم بها وعادة العرب أنها إذا مدحت الشيء أضافته إلى الصدق لأنه مع ثباته حبيب إلى كل نفس ويصدق ما يظن به من الخير.
ولما كان المنزل لا يطيب إلا بالرزق، وكان التعبير عنه بالمبوإ دالاً على الرزق بدلالة الالتزام، صرح به فقال:
﴿ورزقناهم﴾ أي
189
بما لنا من العظمة
﴿من الطيبات﴾ أي الحسية حلاء واشتهاء من الفواكة والحبوب والألبان والأعسال وغيرها. والمعنوية من الشريعة والكتاب والمعارف كما تقدم وعدنا لآبائهم بذلك. ولما كانوا كغيرهم إذا كانوا على أمور يتواضعون عليها تقاربوا فيها وتوافقوا، وإذا كانوا على حدود حدها لهم المحسن إليهم وحده لم يلبثوا أن يختلفوا عابهم الله بذلك فقال:
﴿فما﴾ أي فتسبب عن صدقنا لهم في الوعد أنهم ما
﴿اختلفوا﴾ أي أوقعوا الخلف المفضي إلى جعل كل منهم صاحبه خلفه ووراء ظهره. واستهان به
﴿حتى جاءهم العلم﴾ الموجب لاجتماعهم على كلمة واحدة لما له من الضبط حتى يكون أتباعه على قلب واحد. فكأنه قيل: فماذا يفعل بهم؟ لا هم بعقولهم ينتفعون ولا بما جاءهم من الحق يرجعون؟ فقيل مؤكداً لإنكار العرب البعث:
﴿إن ربك﴾ أي المحسن إليك بإصاء الأنبياء بك ووصفك في كتبهم وجعلك صاحب لواء الحمد في القيامة
﴿يقضي بينهم﴾.
ولما كان هذا تهديداً عظيماً، زاده هولاً وعظمة بقوله:
﴿يوم القيامة﴾ أي الذي هو أعظم الأيام
﴿فيما كانوا﴾ أي بأفعالهم الجبلية
﴿فيه يختلفون*﴾ فيميز الحق من الباطل، والصديق من الزنديق، ويسكن كلاًّ داره.
ذكر بعض ما في التوراة من المن عليهم بالأرض المقدسة:
190
قال قي أثناء السفر الخامس: قد رأت أعينكم جميع أعمال الله العظيمة التي عمل، فاحفظوا جميع الوصايا التي أمركم الله بها اليوم لتدخلوا الأرض التي تجوزون إليها لترثوها وتطول أعماركم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم ويرثها نسلهم الأرض التي تغل السمن والعسل. لأن الأرض التي تدخلونها لترثوها ليست مثل أرض مصر التي خرجتم منها التي كنتم تحتاجون فيها أن تستقوا بأرجلكم وتسقوها مثل بساتين السقي، ولكن الأرض التي تجوزون إليها لترثوها هي أرض الجبال والصحارى، وإنما تشرب من مطر السماء. يتعاهدها الله ربكم في كل حين، وعينا الله ربنا فيها منذ أول السنة إلى آخر السنة. فإن أنتم سمعتم الأحكام التي آمركم بها اليوم وتتقون الله ربكم وتعبدونه من كل قلوبكم وأنفسكم يديم نظره إليكم، ويمطر لكم في الخريف والربيع جميعاً، وتستغلون طعاماً وشراباً وزيتاً، وينبت في حرثكم عشباً لمواشيكم، وتأكلون وتشبعون، احفظوا أن لا تخدع قلوبكم وتروغوا إلى الآلهة الأخرى وتسجدوا لها وتعبدوها فيشتد غضب الرب عليكم، ويمنع السماء من المطر والأرض من غلاتها، وتهلكوا سريعاً من الأرض التي يعطيكم الله ربكم، بل اجعلوا هذه الآيات في قلوبكم، وصيروها ميسماً بين أعينكم، وعلموها بينكم أن يتكلموا بها في حضوركم وفي سفركم، وإذا
191
رقدتم وإذا قمتم، واكتبوها على معاقم بيوتكم وأبوابكم لتطول أعماركم وأعمار أولادكم في الأرض التي أقسم الله لآبائكم أن يعطيهم. وإن أنتم حفظتم هذه الوصايا كلها وعملتم بها وأحببتم الله ربكم وسرتم في طرقه ولحقتم بعبادته يهلك الرب الملوك كلها من بين أيديكم وترثون شعوباً أعظم وأعز منكم، وكل بلاد تطأها أقدامكم تكون لكم بين البرية ولبنان ومن النهر إلى الفرات: النهر الأكبر، وتكون تخومكم عند البحر الآخر، ولا يقدر أحد أن يقاومكم، ويلقي الله ربكم خوفكم وفزعكم على كل الأرض التي تطؤونها كما قال لكم الرب: انظروا! إني أتلوا عليكم دعاء ولعناً، أما الدعاء فتصيرون إليه إن أنتم حفظتم وصايا الله ربكم، وأما اللعن فيدرككم إن أنتم لم تسمعوا وصايا الله ربكم وزغتم عن الطريق الذي أمركم به اليوم وتبعتم آلهة أخرى لم تعرفوها، وإذا أدخلكم الله ربكم إلى الأرض التي تدخلونها لترثوها اتلوا الدعاء على جبل حوريب واللعن على جبل من حيالها في مجاز الأردن خلف الطريق عند مغارب الشمس في أرض الكنعانين الذين يسكنون المغرب بإزاء الجبال وجبال بلوط - وفي نسخة: مرج ممري، لأنكم تجوزون الأردن لتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله ربكم وتسكنونها وتحفظون وتعملون بجميع الوصايا التي آمركم بها اليوم - انتهى.
وفي سفر يوشع بن نون عليه السلام: ولما كان بعد موسى
192
عبد الله قال الله ليوشع ابن نون خادم موسى عليهما السلام: موسى عبدي مات، والآن فقم فاعبر هذا الأردن أنت، وكل هذا الشعب إلى الأرض التي أنا معطيها لبني إسرائيل، كل موضع تطؤه أرجلكم لكم أعطيته، كما قلت لموسى عبدي. من البر وهذه للبنان وإلى النهر الكبير نهر الفرات كل أرض الذاعرين، لا يقف أحد قدامك طول ايام حياتك، كما كنت مع موسى أكون معك، لا أدعك ولا أتركك، اشتد وتأيد، فإنك أنت تنحل هذا الشعب الأرض التي قسمت لآبائهم لإعطاء ذلك لهم، لا يزول درس كتاب هذا الشريعة من فيك. وتلهج به نهاراً وليلاً لكي تحفظ للعمل بجميع المكتوب. فحينئذ تنجح طرقك. وحينئذ ترشد، أليس قد أوصيتك؟ اشتد وتأيد، ولا ترهب ولا تنذعر، لأن معك الله ربك في جميع ما تسير فيه، ووصى بوضع يوشع عرفاء القوم قائلاً: جوزوا في وسط العسكر ووصّوا القوم قائلين لهم: أعدوا لكم زاداً فإنكم بعد ثلاثة أيام عابرون هذا الأردن للدخول لإرث الأرض التي الله ربكم معطيها لكم، اذكروا ذكر القول الذي أمركم به موسى عبد الله قائلاً: الله ربكم مريحكم بما أعطاكم هذه الأرض، نساءكم وأطفالكم ومواشيكم تجلسون في مدنكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن وأنتم تجورون محزومي الخواطر إلى أن يريح الله إخوتكم كما أراحكم فترثوا أيضاً الأرض التي ربكم معطيكم، حينئذ ترجعون إلى أرض حوزكم التي أعطاكم موسى عبد الله في مجاز الأردن مشرق الشمس، فأجابوا يوشع قائلين: جميع
193
ما أوصيتنا به نعمل، كل موضع ترسلنا نمضي كجميع ما قبلنا من موسى كذاك نقبل منك. إذا كان الله معك كما كان مع موسى، كل إنسان يخالف أمرك ولا يقبل كلامك كجميع ما تأمره به يقتل. فاشتد وتأيد، فبعث يوشع بن نون من الكافرين رجلين جاسوسين في خفية قائلاً: امضيا! انظرا الأرض كلها مع أريحا، فمضيا ودخلا إلى بيت امرأة سواقة اسمها راحاب واضطجعا ثمَّ، فقيل لملك أريحا: هو ذا أناس من بني إسرائيل قد جاؤوا إلى هنا الليلة لجس البلد. فأرسل ملك أريحا إلى راحاب قائلاً: أخرجي القوم الجائين إليك الذين دخلوا دارك. فإنهم لجس جميع البلد جاؤوا. فأخذت المرأة الرجلين فأخفت أمرهما وقالت: كذاك كان القوم جاؤوا إليّ ولم أعلم من أين هم؟ وكان عند إغلاق الباب في الظلام.
ثم خرج القوم ولم أعلم أين مضوا؟ اطلبوهم بسرعة فإنكم تلحقونهم؛ ثم أصعدتهما إلى السطح وظهرتهما في فش الكتان. والقوم طلبوهما في طريق الأردن إلى المعابر - وفي نسخة: إلى المخاضات - ولباب أغلقوا بعد ما خرج الطالبون خلفهما. وهما قبل أن يناما صعدت إليهما راحاب إلى السطح فقالت لهما: قد علمت أن الله سلم إليكم البلد، وأنه قد وقعت هيبتكم علينا. وقد ماج جميع سكان البلد من قبلكم. وإنا قد سمعنا أن الله أيبس لكم
194
بحر القلزم عقب خروجكم من مصر وما عملتم بملكي الأمورانيين الذي في مجاز الأردن: سيحون وعوج اللذين اصطلمتموهما، فعند ما سمعنا ذابت قلوبنا ولم يثبت أيضاً روح في واحد منا من جهتكم، فإن الله ربكم هو إله من في السماوات من فوق ومن على الأرض من تحت، والآن فاحلفوا باسم الله إذ قد عملت معكما فضلاً، فتعملاً أيضاً أنتما مع أهل أبي فضلاَ، وتعطياني علامة هي حق. لتستبقوا أبي وأمي وإخوتي وجميع من التصق بهم، وتخلصوا أنفسنا من القتل. فقالا لها: نبذل أنفسنا دونكم للموت إن لم تخبروا بخبرنا هذا. فيكون عند التسليم الله لنا البلد نعمل معك فضلاً وأمانة فأحدرتهما بالحبل من داخل الطاقة إذ منزلها في حائط السور. وفي السور هي ساكنة. وقالت لهما: سيرا إلى الجبل كيلا يلقاكما الطالبون، وبعد ذلك سيرا: لطريقكما، فقالا لها: أبرياء نحن من قسمك هذا الذي استقسمتنا إن لم تفعلي ما نقول لك، هو ذا نحن داخلون إلى البلد فاعقدي خصلة خيط من القرمز في الطاقة التي أخبرتنا منها. وأبوك وأمك وإخوتك وكل بيت أبيك تضمين إليك المنزل، فيكون كل من يخرج من أبواب منزلك إلى خارج دمه في عنقه ونحن أبرياء، وكل من يكون معك في المنزل دمه في أعناقنا إن بطشت به يد. وإن أخبرت بخبرنا
195
هذا فنحن أبرياء من قسمك الذي استقسمتنا، فقالت: كما قلتما، فأطلقتهما ومضيا، وعقدت خصلة القرمز في الطاقة، فمضيا إلى الجبل وجلسا ثم ثلاثة أيام إلى أن رجع الطالبون ولم يجدوهما. ورجع الرسولان وانحدرا من الجبل وجازا الأردن وجاءا إلى يوشع بن نون وقصا له كل ما وافاهما وقالا ليوشع: إن الله دفع بأيدينا كل الأرض، وقد ماج جميع ساكنها منا؛ وأدلج يوشع بالغداة ورحلوا من الكفرين، وجاؤوا إلى الأردن هو وجميع بني إسرائيل وباتوا ثم قبل أن يجوزوا. فلما كان بعد ثلاثة أيام جاز النقباء في وسط العسكر وأمروا القوم قائلين لهم: عند نظركم صندوق عهد الله ربكم والأئمة اللاويين حاملين له أنتم ترحلون من موضعكم وتمشون خلفه، لكن بينكم وبينه بعد مقدار ألفي ذارع بالمساحة، لا تقربوا منه لأجل أن تعرفوا الطريق التي تمشون فيها إذ لم تمشوا فيها أمس وأول أمس.
وقال يوشع للقوم: استعدوا فإن غداً يعمل الله في وسطكم عجائب، وقال يوشع للأئمة: احملوا صندوق العهد وجوزوا قدام القوم. فحملوا صندوق العهد وساروا قدام القوم، وقال الله ليوشع: هذا اليوم ابتدىء بتعظيم اسمك بحضرة جميع إسرائيل لكي يعلموا أنني كما كنت مع موسى أكون معك؛ وقال يوشع لبني إسرائيل: تقدموا
196
هاهنا وأسمعوا الله ربكم؛ قال يوشع: بهذه الخلة تعرفون أن قادراً حياً لذاته في وسطكم، وأن قارضاً يقرض من قدامكم قبائل الأمم: الكنعانيين والذاعرين - وفي نسخة: الحاثبين المنسوبين إلى حاث جدهم - والحويين أي الفصحاء البلغاء - وفي نسخة: المجتمعين إلى الحي - والربضيين والفلاحين والأمورانيين - أي الرؤساء - واليبوسيين - أي الجبارين القاهرين، ها هو ذا صندوق العهد، سيد كل الأرض جائز قدامكم في الأردن والآن خذوا لكم اثني عشر رجلاً من أسباط إسرائيل: رجلاً واحداً من كل سبط، ويكون عند قرار أقدام أرجل الأئمة حاملي صندوق العهد سيد كل الأرض في مياه الأردن من الأمر العظيم أنه تنقطع مياه الأردن المنحدرة من فوق وتقف طوداً واحداً كأنها في زق محصورة.
ولما ارتحل الشعب وقطعوا خيمه ليجوزوا الأردن سار الكهنة الذين حملوا التابوت أمام الشعب، فلما انتهوا إلى الأردن وكان ممتلئاً يفيض كل أيام الحصاد انشق الأردن وقام الماء الذي كان ينحدر من فوق كأنه في زق ناحيته، وتباعد عن قرية إدام التي عند صريم
197
جداً، والذي كان يجري إلى البحر العربي الذي يدعى بحر الملح انشق وحار وانقطع، وجاز الشعب حيال أريحا، وقام الكهنة الذيم حملوا تابوت العهد في الأردن يابساً حتى عبر جميع الشعب بحر الأردن؛ فلما جاز الشعب جميعاً قال الرب ليوشع: اعمد إلى اثني عشر رجلاً من الشعب: من كل سبط رجل واحد، وقل لهم: خذوا من هاهنا من جوف الأردن من تحت أقدام الكهنة اثني عشر حجراً وعبروها معكم وانصبوها في موضع المبيت الذي تبيتون فيه الليلة، فأمرهم يوشع بذلك وأن يحمل كل رجل حجره على عاتقه، فأخذوها إلى موضع مبيتهم ونصبوها هناك، فمكثت الحجارة - التي أخذوها من الأردن من تحت أقدام الكهنة الذين حملوا التابوت - موضوعة هناك إلى اليوم؛ والكهنة الذين حملوا التابوت كانوا قياماً حتى تمت جميع الأقوال التي أمر الرب يشوع أن يقص على الشعب كما أوصى موسى يشوع، وعجل الشعب على المجاز وجازوا، فما جاز جميع الشعب وجاز الكهنة الذين كانوا حاملين التابوت أمام الشعب وجاز بنو روبال وبنو جاد ونصف سبط منسا، وهم متسلخون أمام إخوتهم - كما أمر موسى - أربعون ألفاً ذوو قوة، جازوا أمام الرب إلى قاع أريحا للمحاربة.
في ذلك
198
اليوم عظم يشوع عند جميع بني إسرائيل وفرقوه كفرقهم من موسى طول أيام حياته، وقال الرب ليشوع: مر الكهنة الذين حملوا تابوت الشهادة يصعدوا من الأردن، فأمرهم، فلما صعدوا رجع ماء الأردن إلى مواضعه أول ما استقرت أقدام الكهنة في الشط وجرى في سواحل الأردن كما كان أولاً، فصعدوا من الأردن في عشر خلت من الشهر الأول - قلت: وهو نيسان على ما قال بعض فضلاء اليهود - ونزلوا الجلجال أقصى مشارق أريحا، فأما الاثنا عشر حجراً التي أخذوها من الأردن فنصبها يشوع في الجلجال، وقال يشوع لبني إسرائيل: إذا سألكم بنوكم غداً وقالوا لكم: ما هذه الحجارة؟ قولوا لهم: إن بني إسرائيل فلق له هذا الأردن فجازوه يابساً، لأن الله ربكم يبَّس ما الأردن أمامهم حتى جازوه كما فعل الله ربكم ببحر سوف الذي يبسه أمامنا حتى جزناه ليعلم جميع شعوب الأرض أن يد الرب قوية، وتتقوا الله ربكم كل الأيام.
فلما سمع جميع ملوك الأمورانيين الذين في جانب الأردن الغربي وجميع ملوك الكنعانيين الذين على شاطىء البحر أن الرب يبس ماء الأردن أمام بني إسرائيل حتى جازوا، فزعت قلوبهم ولم يبق فيهم رمق فزعاً من بني إسرائيل وفي ذلك الزمان قال الرب ليشوع: اتخذ سيفاً من طوران واختن بني إسرائيل ثانية، فختن بني إسرائيل ثانية في أكمة
199
الغلف، والذي ختن يشوع جميع الذكورة الذين كانوا ولدوا في البرية حين خرجوا من أرض مصر، لأن جميع الرجال الأبطال المقاتلة هلكوا في البرية لأنهم لم يطيعوا الله ربهم وكانوا كلهم مختتنين، فأقسم الرب عليهم أن لا يريهم الأرض التي وعد آباءهم أن يعطيهموها الأرض التي تغل السمن والعسل، فبنوهم الذين كانوا من بعدهم هم الذين ختن يشوع لأنهم كانوا غلفاً. فلما ختن جميع الشعب مكثوا مواضعهم في المعسكر حتى برئوا، وقال الرب ليشوع: اليوم صرفت عنكم عار أهل مصر، ودعا اسم ذلك الموضع جلجالاً، ونزل بنو إسرائيل الجلجال وعلموا فصحاً في أربعة عشر يوماً من الشهر الأول عند المساء في قاع أريحا وأكلوا من بر الأرض بعد الفصح وأكلوا في ذلك اليوم فطيراً وسنبلاً مقلواً. وارتفع المن عن بني إسرائيل منذ ذلك اليوم حيث أكلوا من بر الأرض ولم ينزل المن لبني إسرائيل بعد ذلك اليوم وأكلوا من بر الأرض وغلات أرض كنعان في تلك السنة. وبينا كان يشوع في قاع أريحا قائماً إذ نظر رجلاً قائماً إزاءه مخترطاً سيفه ممسكه بيده، فاقبل يشوع إليه وقال له: أنت منا أم من أعدائنا؟ قال: أنا سيد أجناد الرب، الآن أتيتك، فخر يشوع ساجداً على وجهه على الأرض وقال: ما الذي يقول السيد
200
لعبده؟ قال: اخلع خفيك عن قدميك، فإن الموضع الذي أنت قائم فيه طاهر، ففعل يشوع ذلك؛ وكان بنو إسرائيل قد حاصروا أريحا، ولم يكن يقدر أحد من أهلها يدخل ولا يخرج، قال الرب ليوشع: انظر! إني قد دفعت في يدك أريحا وملكها وكل أجنادها، فليحط بالمدينة جميع رجال المقاتلة، ودوروا حول المدينة مرة في اليوم، وافعلوا ذلك ستة أيام، ويحمل سبعة من الكهنة سبعة أبواق ويهتفون أمام التابوت، حتى إذا كان اليوم السابع دوروا حول المدينة سبع مرات ويهتف الكهنة بالقرون، فإذا هتفت الأبواق وسمعتهم أصواتها يهتف جميع الشعب بأعلى أصواتهم صوتاً شديداً، فيقع سور المدينة مكانه، ويصعد الشعب كل إنسان حياله، فدعا يشوع الكهنة وقال لهم: احملوا تابوت الرب عهد الرب ويحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وينفخون فيها أمام تابوت الرب، ثم قال للشعب: دوروا حول المدينة، والمتسلخون يجوزون أمام تابوت الرب، فحمل سبعة من الكهنة سبعة قرون وهتفوا أمام تابوت الرب فلم يزالوا ينفخون في القرون، والذين كانوا يحملون التابوت يتبعون أصحاب الأبواق والمتسلخون يسيرون أمام الكهنة الذي يهتفون بالقون ويسيرون أمام التابوت.
وقال يشوع للشعب: لا تهتفوا، ولا تسمعوا أصواتكم، ولا تخرج كلمة من أفواهكم إلى اليوم الذي آمركم أن تهتفوا. فدارت الجماعة بالتابوت كل يوم مرة
201
كما أمرهم يشوع، فلما كان اليوم السابع أدلجوا سحراً وأحاطوا بالمدينة كسنتهم ولكن في ذلك اليوم السابع داروا حولها سبع مرات، وفي المرة السابعة هتف الكهنة بالقرون وقال يشوع للشعب: اهتفوا لأن الرب قد دفع المدينة في أيديكم، ولكن صيروا هذه المدينة وكل ما فيها حريمة للرب، لا يمسه إنسان منكم، وأبقوا على راحاب الزانية - يعني القندقانية كما أخبرني بعض فضلائهم، ويؤيده التعبير عنها فيما مضى بالسواقة والله أعلم - وعلى كل من معها في بيتها لأنها غيبت الدسيسين اللذين أرسلنا، فأما أنتم فاحتفظوا من الحرام، ولا تنجسوا أنفسكم بأكل الحرام، فتصيروا عسكر بني إسرائيل حراماً، فنفخوا في القرون فلما سمع الشعب صوت الأبواق ضجوا كلهم واحدة شديدة جداً، فوقع سور المدينة فصعد الشعب إلى المدينة كل إنسان حياله، فافتتحوها وقتلوا كل من فيها رجالها ونساءها والمشيخة والصبيان والثيران والحمير والغنم، قتلوها بالسيف، وأما الرجلان اللذان اجتسا الأرض فقال لهم يشوع: ادخلا إلى بيت المرأة الزانية - يعني الفندقانية كما مضى - فأخرجاها وأخرجا كل من معها في البيت كما حلفتما لها، ففعلوا وأنزلوهم خارج عسكر بني إسرائيل وأحرقوا المدينة وكل من فيها بالنار، وأحيى يشوع الزانية ووالديها وكل من معها، وأقسم يشوع في ذلك الزمان ولعن وقال: ملعوناً يكون
202
أمام الرب الرجل الذي يقوم يبني مدينة أريحا هذه، وكان الرب بعونه مع يشوع ونصره، وشاع خبره في الأرض كلها، وأثم بنو إسرائيل وتناولوا من الحرام، وذلك لأن عاجار ابن كرمي بن زبدي بن زرح من قبيلة يهودا نحر وأخذ من الحرام وغيب في خيمته، فاشتد غضب الرب على بني إسرائيل، ثم أرسل يشوع رجالاً إلى عاي التي عند بيت آون من مشارق بيت إل ليجتسوها، فقالوا له: إنه يجزىء في أخذها ألفان أو ثلاثة لأن أهلها قليل، فصعدوا فحاربوهم عند باب المدينة فانهزم بنو إسرائيل وجرح منهم جرحى كثير - فذكر القصة في سجود يشوع وانزعاجه وإخبار الله تعالى إياه أن قومه غلّوا، ثم أمره بالقرعة حتى خرج الذي عنده الغلول وهو عاجار، وكان غلوله طنفسة بابلية ومائتي مثقال فضة وسبيكة من ذهب فيها خمسون مثقالاً، فأخرجه يشوع مع كل شيء هو له، وقد مضى ذلك في البقرة عند
﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة﴾ [البقرة: ٩٨] وتقدم في المائدة فتح بعض بلاد بيت المقدس بأعجوبة أخرى واستمروا هكذا يفتحونها بلداً بعد بلد، ويقتلون من جبابرتها عدداً بعد عدد، ويرون في ذلك من عجائب الأمور وبدائع المقدور ما يبقي على كر الآباد ومَر الدهور، وهم في أثناء ذلك كل قليل يكفرون
203
وينقضون العهود ولا يشكرون كما هو مبين في سفر يوشع بن نون، وقد مضى شيء منه في المائدة عند قوله تعالى
﴿فعموا وصموا﴾ [المائدة: ٧١]- الآية، كل ذلك بعد أن جاءهم من العلم ما لا تدخله مرية لا يخالطه شك ولا يدنو منه لبس، فتبارك من له الأمر كله، لا مضل لمن هدى ولا هادي لمن يضله.
204
ولما كان ما مضى - من الآيات هذه السورة المبينة أن من أريدت شقاوته لا ينفعه مشاهدة الآيات - سبباً لنفي الشك عنها وإثبات اليقين بمضامينها بما سلف من الأدلة على تلك المضامين غلى أن ختم ذلك بذم من عمل عمل الشاك بعد أن جاء ما يوجب اليقين من العلم، وكان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما مضى في آخر التي قبلها أشفق الخلق لا سيما على العرب لا سيما على قومه منهم، وكانت الوصية قد برزت من الجناب الإلهي له بما يوافق طبعه من بذل الجهد في ملاطفتهم، كان ذلك جديراً بأن يحرك طبع البشر لتمني الإجابة لما يقترحون، وكان طلب ذلك بعد الفطام عنه من أفعال الشك في الجملة فأريد صرف النفس عنه بالكلية ولو بالخطور في البال فقيل مسبباً عما قبله:
﴿فإن كنت﴾ أي يا أرحم الخلق
﴿في شك﴾ ولم يرد بهذا الكلام حقيقته - والله أعلم - بل تقوية اليقين وتأكيده ورسوخه وتأييده بأن هذا أمر قد عزم عليه وفرغ منه فلا يحتمل مراجعة، وذلك لأن المعنى أن ثباتهم على
204
الشقاوة أمر لا يعلم إلاّ من قبلنا، وذلك بأحد أمرين: إما بواسطة الأمين جبرئيل بما يأتي به من الوحي عنا غضاً طرياً محفوظاً من الغير فلا تحريف فيه ولا تبديل، وإما بواسطة أهل الكتاب عن أنبيائهم - وفي ذلك نزول درجتين مع تجويز التخويف والتبديل، وهذا ما لا يرضاه ذو همة علية ونفس أبية - فالمعنى: أنا قد أخبرتك بأن الآيات لا تزيد المقضي بشقائه إلاّ ضلالاً وأنا خبير بذلك
﴿ولا ينبئك مثل خبير﴾ فلا تطلب إجابتي إياهم إلى ما يقترحون عليك رجاء إيمانهم فإنهم لا يؤمنون بذلك
﴿فإن كنت﴾ أي في وقت من الأوقات
﴿في شك﴾ أي ولو قل
﴿ممآ أنزلنآ﴾ أي بعظمتنا واصلاً على لسان الواسطة
﴿إليك﴾ في ذلك
﴿فسئل﴾ أي بسبب ذلك الشك
﴿الذين يقرءون﴾ أي متتابعين لذلك
﴿الكتاب﴾ أي السماوي من اليهود والنصارى، فإنهم من الإحاطة بصحة ما أنزلنا إليك على حد عظيم. ومن آمن منهم أو كان منصفاً جدير بأن يزداد من فاوضه في ذلك إيماناً؛ ولما كانوا بعض من أوتي الكتاب في الزمن السالف، أثبت الجار فقال:
﴿من قبلك﴾ وهم عن ذلك الخبر بمراحل، فلا تجنح إلى سؤال غيري، وهذا مضمون قوله تعالى مؤكداً آتياً بحرف التوقع
205
لأن كلاًّ من الأمرين في أحق مواضعه:
﴿لقد جآءك الحق﴾ أي الثابت الكامل ثباته وهو إمضاء العدل فيهم؛ وزاده تشريفاً وترغيباً فيه بقوله:
﴿من ربك﴾ أي المحسن إليك باصطفائك لذلك، فلذا سيق مساق البيان له من غير واو، فإذا ثبت أنه الحق أي الثابت أعلى الثبات تسبب عنه البعد من تزلزل من جاءه، فناسب اتباعه بقوله:
﴿فلا تكونن﴾ أكده لأنه حقيق بأن لا ينثني عنه أحد بوجه من الوجوه
﴿من الممترين﴾ أي الغافلين عن آيات الله فتطلب الفضل لأهل العدل؛ قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما شك طرفة عين ولا سأل أحداً منهم.
ولما نهى عن ذلك لم يبق مما اقتضته القسمة العقلية إلاّ العناد ممن يمكن منه كما فعل بنو إسرائيل بعد مجيء العلم فأتبعه النهي عن مثل حالهم بقوله:
﴿ولا تكونن﴾ أي بوجه من الوجوه، والمراد بهذا أتباعه
﴿من الذين كذبوا﴾ أي فعلوا فعل المكذب مستهينين
﴿بآيات الله﴾ أي التي لا أعظم منها بإضافتها إلى من لا أعظم منه
﴿فتكون﴾ أي كوناً راسخاً
﴿من الخاسرين﴾ بل اثبت على ما أنت عليه من اليقين والطمأنينة والثقة بالله والسكينة، وهذا ونحوه مما غلظت فيه العبارة دلالة على مزيد قرب المخاطب وإن كان المراد غيره وعظيم منزلته ولطيف خصوصيته كما مضى بيانه عن الإمام أبي الحسن الحرالي رحمه الله في سورة براءة عند قوله تعالى
﴿عفا الله عنك﴾ [براءة: ٤٣]- الآية، وتغليظ
206
العبارة فيه تأديب عظيم لتابعيه؛ والشك: الوقوف بين النقيضين، وهو من شك العود فيما ينفذ فيه، لأنه يقف بذلك الشك بين جهتيه؛ والإنزال: نقل الشيء من علو إلى سفل؛ والامتراء؛ طلب التشكك مع ظهور الدليل، من مري الضرع وهو مسحه ليدر.
ولما كان ما مضى من هذه الآيات وما كان من طرازها قاضياً بأنه لا تغني الآيات عنهم. صرح به قوله تعالى:
﴿إن الذين حقت﴾ أي وجبت وثبتت
﴿عليهم﴾ أي بأنهم أشقياء، وعبر بالاسم المفهم للإحسان إعلاماً بأنه ما أوجب عليهم العذاب إلاّ إحساناً إليه بما يقاسي من معالجتهم وغير ذلك من الحكمة فقال:
﴿كلمت ربك﴾ أي المحسن إليك في جميع أمرك
﴿لا يؤمنون﴾ أي لا قبول لهم لتجدد الإيمان
﴿ولو جآءتهم كل آية﴾ ونسبتها إلى قوله
﴿لقد جاءك الحق﴾ نسبة
﴿لقد جاءك الحق﴾ إلى
﴿فإن كنت في شك﴾ الآية في البيان المستفاد من حذف العاطف، وإذا كان الكلام في معنى واحد كان بمنزلة الكلمة الواحدة فسمي بها
﴿حتى يروا العذاب الأليم﴾ أي حين لا ينفعهم الإيمان لفوات شرطه كما لم ينفع فرعون لذلك
﴿سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تحويلاً﴾ [الأحزاب: ٩٢].
207
ولما كان هذا موضع أن يقال: إنما تطلب الآيات لما يرجى من تسبب الإيمان عنها، تسبب عنه أن يجاب بقوله تعالى:
﴿فلولا﴾ أي فهلا
﴿كانت قرية﴾ أي واحدة من قرى الأمم الماضية التي أهلكناها
﴿آمنت﴾ أي آمن قومها عند إتيان الآيات أو عند رؤية أسباب العذاب
﴿فنفعهآ﴾ أي فتسبب عن إيمانها ذلك أنه نفعها -
﴿إيمانها﴾ ولما كان المعنى
«لولا» النفي، كان التقدير: لكن لم تؤمن قرية منهم إلاّ عند صدم العذاب كما فعل فرعون، لو آمن عند رؤية البحر على حال الفلق أو عند توسطه وقبل انسيابه عليه قُبِل، ولكنه ما آمن إلا بعد انهماره ومسه. وذلك حين لا ينفع لفوات شرطه من الإيمان بالغيب
﴿إلاّ قوم يونس﴾ فإنهم آمنوا عند المخايل وقت بقاء التكليف فنفعهم ذلك فإنهم
﴿لمآ آمنوا﴾ ودل على أنه قد كان أظلهم بقوله:
﴿كشفنا﴾ أي بعظمتنا
﴿عنهم﴾ أي حين إيمانهم، روي أنه لم يبق بينهم وبين العذاب إلاّ قدر ميل
﴿عذاب الخزي﴾ أي الذي كان يوجب لهم لو برك عليهم هوان الدارين
﴿في الحياة الدنيا﴾ أي فلم يأخذهم وقت رؤيتهم له
﴿ومتعناهم﴾ أي تمتيعاً عظيماً
﴿إلى حين﴾ وهو انقضاء آجالهم مفرقة كل واحد منهم في وقته المضروب له، وما ذكرته في معنى الآية نقله القاضي أبو محمد إسحاق بن إبراهيم البستي في تفسيره المسند عن ابن أبي عمر قال: قال سفيان الثوري:
208
﴿فلولا كانت قرية آمنت﴾ قال: فلم تكن قرية آمنت، وهذا تفسير معنى الكلام، وأما
«لولا» فهو بمعنى هلا، وهي على وجوه تحضيض وتأنيث، أي توبيخ، وهي هنا للتوبيخ. ويجوز أن تكون استفهامية بمعنى
«لولا»، ويلزم كلا من المعنيين النفي؛ والنفع: إيجاب اللذة بفعلها أو ما يؤدي إليها كالدواء الكريه المؤدي إلى اللذة؛ والخزي هو أن يفضح صاحبه، وهو وضع من القدر للغم الذي يلحق به، وأصله التعب.
ولما كان ما مضى ربما أوجب اعتقاد أن إيمان مثل أولئك محال جاءت هذه الآية في مقام الاحتراس منه مع البيان لأن حرص الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على إيمانهم لا ينفع ومبالغته في إزالة الشبهات وتقرير الدلائل لا تفيد إلاّ بمشيئة الله تعالى لتوفيقهم وهدايتهم، ولو كان ذلك وحده كافياً لآمنوا بهذا السورة فإنها أزالت شبهاتهم وبينت ضلالاتهم وحققت بقصتي نوح وموسى عليهما السلام ضعفهم ووهن مدافعاتهم فقال تعالى:
﴿ولو شآء﴾ أي إيمان الناس
﴿ربك﴾ أي المحسن إليك بإقبال من أقبل لعلمه الخير فيه وإدبار من أدبر لعدم قابليته للخير
﴿لأمن من في الأرض﴾ من الكفار.
ولما كان هذا ظاهراً في الكل، صرح به مؤكداً لأن المقام يقتضيه فقال:
209
﴿كلهم جميعاً﴾ أي مجتمعين في آن واحد لا يختلفون في شيء منه، ولكن لم يشأ ذلك وأنت لحرصك على امتثال أوامري ووصيتي لك باللطف بخلقي الموافق لما جبلتك عليه من الخير تريد ذلك
﴿أفأنت تكره الناس﴾ أي الذين لم يرد الله إيمانهم مع ما طبعهم عليه من الاضطراب
﴿حتى يكونوا﴾ أي كوناً جبلياً
﴿مؤمنين﴾ أي راسخين في الإيمان، وإيلاء الاستفهام الاسم مقدماً على الفعل للإعلام بأن الفعل - وهو هنا الإكراه - ممكن من غير ذلك الاسم وهو هنا الله وحده القادر على تحويل الطباع فإن قدرته قاهرة لكل شيء ومشيئته نافذة في كل شيء مع الدلالة على أن وقوع خلاف المشيئة مستحيل لا يمكن لغيره تعالى بإكراه ولا غيره، والمشيئة معنى يكون به الفعل مراداً أخذت من الشيء، والمراد بالآية تخفيف ما يلحق النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من التحسر للحرص على إيمانهم
﴿وما كان﴾ أي وما ينبغي ولا يتأتى
﴿لنفس﴾ أي واحدة فما فوقها
﴿أن تؤمن﴾ أي يقع منها إيمان في وقت ما
﴿إلاّ بإذن الله﴾ أي بإرادة الملك الأعلى الذي له الخلق والأمر وتمكينه، فيجعل الثبات والطمأنينة - اللازمين للإيمان الذي هو أبعد شيء عن السحر - على الذين ينتفعون بعقولهم فيلزمون معالي الأخلاق التي هي ثمرات للإيمان
﴿ويجعل الرجس﴾ أي الاضطراب والتزلزل الذي يلزمه التكذيب الذي هو أشبه شيء بالسحر لأنه تخييل ما
210
لا حقيقة له والقذر والقباحة والغضب والعقاب الناشىء عنه.
ولما كان ما في هذه السورة من الدلائل قد وصل في البيان إلى حد لا يحتاج فيه إلى غير مجرد العقل قال:
﴿على الذين لا يعقلون﴾ أي لا يوجد لهم عقل، فهم لذلك لا ينتفعون بالآيات وهم يدعون أنهم أعقل الناس فيتساقطون في مساوىء الأخلاق وهم يدعون أنهم أبعد الناس عنها، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات؛ والنفس: خاصة الشيء التي لو بطل ما سواها لم يبطل ذلك الشيء، ونفسه وذاته واحد.
211
ولما تقرر ما مضى من النهي عن الإصغاء إليهم في طلب الآيات، وختم بتعليق الأمر بمجرد المشيئة، كان كأنه قيل: فماذا يقال لهم إذا طلبوا؟ فقال:
﴿قل﴾ أي يا أشرف الخلق لهم غير مهتم بأمرهم ومنبهاً لهم على إبطال مذهب الجبر المتعلق أصحابه بنحو هذه الآية، لأن المشيئة مغيبة والعبد مأمور ببذل الجهد في الطاعة بما له من القدرة والاختبار.
ولما أمر بهذا الفكر فكان ربما ظن لأجله أن للإنسان قدرة مستقلة، نبه على مذهب أهل السنة القائل بالكسب الذي هو - كما قال الإمام علي رضي الله عنه - أمر بين أمرين لا جبر ولا تفويض، فقال معلماً أن من حكم بشقائه لا ينفعه شيء:
﴿انظروا﴾ أي بأبصاركم وبصائركم لتخرجوا بالانتفاع بالعقل عن عداد البهائم؛ قال الإمام: ولو أن الإنسان تفكر في كيفية حكمة الله تعالى في خلق جناح بعوضة لانقطاع
211
فكره قبل أن يصل إلى أول مرتبة من مراتب تلك الحكم والفوائد، فلذلك أبهم في قوله:
﴿ماذا﴾ أي الذي
﴿في السماوات والأرض﴾ أي من الآيات وواضح الدلالات التي أخرجتموها - بإلفكم لها - عن عداد الآيات، وهي عند التأمل من أعظم خوارق العادات، وقال الإمام: فكأنه سبحانه نبه على القاعدة الكليه حتى ينتبه لأقسامها، وقال أبو حيان أخذاً من الإمام: السبيل إلى معرفته تعالى هو بالتفكر في مصنوعاته، ففي العالم العلوي في حركات الأفلاك ومقاديرها وأوضاعها والكواكب وما يختص بذلك من المنافع والفوائد، وفي العالم السفلي في أحوال العناصر والمعادن والنبات والحيوان وخصوصاً حال الإنسان - انتهى.
ولما كان ما فيها من الآيات في غايه الدلالة، نبه سبحانه على أن التوقف عن الإيمان بعد التنبيه على كيفية الاستدلال معاندة فقال:
﴿وما﴾ وهي نافية أو استفهامية
﴿تغني الآيات﴾ أي وإن كانت في غاية الوضوح
﴿والنذر﴾ أي والإنذارات أو الرسل المنذرون
﴿عن قوم﴾ أي وإن كانت فيهم قوة
﴿لا يؤمنون*﴾ أي للحكم بشقائهم، فكان ذلك سبباً لتهديدهم بقوله:
﴿فهل ينتظرون﴾ أي بجميع قواهم في تكذيبهم للرسول وتخلفهم عن الإيمان
﴿إلا﴾
212
أي أياماً أي وقائع
﴿مثل أيام﴾ أي وقائع
﴿الذين خلوا﴾ ولما كان أهل الأيام الهائلة بعض من كان قبل، أتى بالجار فقال:
﴿من قبلهم﴾ أي من مكذبي الأمم وهم القبط وقوم نوح ومن طوي بينهما من الأمم، أي من حقوق الكلمة عليهم فنحل بهم بأسنا ثم ننجيكم لإيمانكم كما كنا نحل بأولئك إذا كذبوا رسلنا، ثم ننجي الرسل ومن آمن بهم حقاً علينا ذلك للعدل بين العباد.
ولما تقدمت الإشارة إلى أن الكلمة حقت على الكافرين بعدم الإيمان والرجس الذي هو العقاب، زاد في تهديدهم بالاعتراض بما سببه عن فعلهم فعل من ينتظر العذاب بقوله:
﴿قل فانتظروا﴾ أي بجميع جهدكم ما ترونه واقعاً بكم بسبب ما تقرر عندكم مما كان يقع بالماضين في أيام الله، وزاد التحذير استئنافه قوله مؤكداً لما لهم من التكذيب:
﴿إني﴾ وأعلمهم بالنصفة بقوله:
﴿معكم من المنتظرين*﴾.
ولما كان التقدير: فإنا كنا في أيام الذين خلوا نوقع الرجس بالمكذبين، عطف عليه بياناً لم كان يفعل بالرسل وأتباعهم إذا أهلك الظالمين قوله:
﴿ثم ننجي﴾ أي تنجية عظيمة وننجيهم إنجاء عظيماً وجاء به مضارعاً حكاية للأحوال الماضية وتصويراً لها تحذيراً لهم من مثلها وإعلاماً بأنه كذلك يفعل بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأتباعه رضي الله عنهم، وأشار بأداة التراخي إلى طول زمان الابتلاء وعظيم رتبة التنجية، وحذف مقابل الإنجاء لأن المقام بعد آية
213
﴿ألا إن أولياء الله﴾ ناظر إلى البشارة أكثر من النظر إلى النذارة
﴿رسلنا﴾ أي الذين عظمتهم من عظمتنا
﴿والذين آمنوا﴾ أي بالرسل وهم معهم في زمانهم ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان تشريفاً للرسل فإنهم بصدد الرسوخ بملازمتهم؛ ثم وصل بذلك تشريفاً للراسخين وترغيباً في مثل حالهم قوله:
﴿كذلك﴾ أي كما حق علينا إهلاك الكافرين هذا الإهلاك العظيم
﴿حقاً علينا﴾ أي بما أوجبناه على جنابنا الأعظم
﴿ننج المؤمنين﴾ أي العريقين في الإيمان ولو كانوا بعد موت الرسل تنجية عظيمة وتنجيهم إنجاء عظيماً، فالآية من الاحتباك لما أشارت إليه القراءتان بالتخفيف والتثقيل، أو يكون ذلك بني على سؤال من لعله يقول: هل حقوق النجاة مختص بالرسل ومن معهم؟ فقيل: لا، بل
﴿كذلك﴾ أي الحقوق
﴿حقاً علينا﴾ على ما لنا من العظمة
﴿ننج المؤمنين﴾ في كل زمن وإن لم يكن بين ظهرانيهم رسول، لأن العلة الاتصاف بالإيمان الثابت، فيكون الكاف مبتدأ
«وننج» خبره؛ والنظر: طلب المعنى بالقلب من جهة الذكر كما يطلب إدراك المحسوس بالعين؛ والغنى: حصول ما ينافي الضر وصفة النقص، ونقيضه الحاجة؛ والنذر: جمع نذير، من النذارة وهي الإعلام بموضع المخافة ليقع به السلامة؛ والانتظار: الثبات لتوقع ما يكون من الحال؛ والمثل إن كان من الجنس فهو ما سد مسد غيره
214
في الحس، وإن كان من غيره فالمراد ما كان فيه معنى يقرب به من غيره كقربه من جنسه كتشبيه أعمال الكافر بالسراب؛ والنجاة من النجوة وهي الارتفاع من الهلاك.
ولما تقدم الفطام عن الميل يطلب الآيات، وكان طلبهم لها إنما هو على وجه الشك، وإن لم يكن على ذلك الوجه فإنه فعل الشاك غالباً وتقدمت أجوبة لهم، وختم ذلك بتهديدهم وبشارة المؤمنين الموجبة لثباتهم، ناسبه كل المناسبة أن اتبعت الأمر بجواب آخر دال على ثباته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنه مظهر دينه رضي من رضي وسخط من سخط، لأن البيان قد وصل إلى غايته في قوله تعالى:
﴿قل يا أيها الناس﴾ أي الذين هم في حيز الاضطراب، لم ترقهم هممهم إلى رتبة الثبات
﴿إن كنتم﴾ أي كوناً هو كالجبلة منغمسين
﴿في شك﴾ كائن
﴿من﴾ جهة
﴿ديني﴾ تطلبون لنزوله - بعد تكفل العقل بالدلالة عليه - إنزال الآيات، فأنا لست على شك من صحة ديني وبطلان دينكم فاعرضوه على عقلوكم وانظروا ما فيه من الحكم مستحضرين ما لدينكم من الوهي الذي تقدم بيانه في قوله تعالى
﴿قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق﴾ [يونس: ٥٩] ونحوه
﴿فلا أعبد﴾ أي الآن ولا في المستقبل الزمان
﴿الذين تعبدون﴾ أي الآن أو بعد الآن
﴿من دون الله﴾ أي الملك الأعظم لعدم قدرتهم على شيء من ضري، فلا تطمعوا في أنه يحصل لي شك بسبب حصول الشك
215
لكم، فإذاً لا أعبد غير الله أصلاً.
ولما كان سلب عبادته عن غيره ليس صريحاً في إثباتها له قال:
﴿ولكن أعبد الله﴾ أي الجامع لأوصاف الكمال عبادة مستمرة؛ ثم وصفه بما يوجب الحذر منه ويدل على كمال قدرته
﴿الذي يتوفاكم﴾ بانتزاع أرواحكم التي لا شيء عندكم يعدلها. فلا تطمعون - عند إرادنه لنزعها - في المحاولة لتوجيه دفاع عن ذلك. وفي هذا الوصف - مع ما فيه من الترهيب - إشارة إلى الدلالة على الإبداء والإعادة، فكأنه قيل: الذي أوجدكم من عدم كما أنتم به مقرون بعدمكم بعد هذا الإيجاد وأنتم صاغرون، فثبت قطعاً أنه قادر على إعادتكم بعد هذا الإعدام بطريق الأولي فاحذروه لتعبدوه كما أعبده فإنه قد أمرني بذلك وأنتم تعرفون غائلة الملك إذا خولف، وقال
﴿إن كنتم في شك﴾ مع أنهم يصرحون ببطلان دينه، لأنهم في حكم الشاك لاضطرابهم عند ورود الآيات، أو لأن فيهم الشاك فغلب لأنه أقرب إلى الحيز؛ والشك: وقوف بين المعنى ونقيضه، وضده الاعتقاد فإنه قطع بصحة المعنى دون نقيضه، وعبر ب
«من» إشارة إلى أن فعلهم ذلك ابتدأ من الدين، ولو عبر ب
«في» لأفهم أنهم دخلوا فيه لأنهم في الشك والشك في الدين، والظرف لظرف الشيء ظرف لذلك الشيء، وترك العطف إشارة إلى أن كل جواب منها كاف على حياله.
216
ولما قرر ما هو الحقيق بطريق العقل، أتبعه بما رود من النقل بتأييده وإيجابه بقوله:
﴿وأمرت﴾ أي بأمر جازم ماض ممن لا أمر لأحد معه، وعظم المأمور به بجعله عمدة الكلام بإقامته مقام الفاعل فقال:
﴿أن أكون﴾ أي دائماً كوناً جبلياً، ولما كان السياق لما يحتمل الشك من الأمر الباطن، عبر بالإيمان الذي هو للقلب فقال:
﴿من المؤمنين﴾ أي الراسخين في هذا الوصف
﴿وأن أقم﴾ أي أيها الرسول
﴿وجهك﴾ أي كليتك على سبيل الإخلاص الذي لا شوب فيه
﴿للدين﴾ فوصل أولاً كلمه
«أن» بمعنى الأمر أي
﴿أن أكون﴾ دون
«أكن» وثانياً بلفظه وهو
﴿أقم﴾ جمعاً بين الأسلوبين، وكلاهما بمعنى المصدر، وخص الثاني بذلك لطوله لأنه كالتفصيل للأول فالخطاب فيه أوكد وألذ، وقوله:
﴿حنيفاً﴾ حال من فاعل
«أقم» ومعناه: مسلماً ميالاً مع الدليل - كما أوضحته في البقرة، أي أجمع بين الإيمان بالقلب والإسلام بالجوارح
﴿ولا تكونن﴾ أي في وقت من الأوقات
﴿من المشركين*﴾ الذين هم على ضد صفة الإسلام من الجفاء والغلظة والجمود والقسوة.
217
ولما نهاه عن الشرك، أكده بما هو كالتعليل له بما يلزمه من العبث بالخضوع لما لا ضر فيه ولا نفع بقوله تعالى:
﴿ولا تدع﴾ أي في رتبة من الرتب الكائنة
﴿من دون الله﴾ أي الذي
217
بيده كل شيء
﴿ما لا ينفعك﴾ أي إن فعلت شيئاً من ذلك فأتاك بأسنا
﴿ولا يضرك﴾ أي إن أقمت على طاعتنا مع نصرنا
﴿فإن فعلت﴾ أي شيئاً مما نهيناك عنه
﴿فإنك إذاً﴾ إذا دعوت ذلك الغير بسبب ذلك
﴿من الظالمين*﴾ أي العريقين في وضع الدعوة في غير محلها لأن ما هو كذلك في غاية البعد عن منصب الإلهية؛ ثم قال تعالى عاطفاً على قوله
﴿فإن فعلت﴾ :
﴿وإن يمسسك الله﴾ أي الذي لا راد لأمره
﴿بضر﴾ أي أيّ ضر كان على أي وجه كان وإن كان ظاهراً جداً بما أنبأ عنه الإظهار
﴿فلا كاشف له﴾ أي أصلاً بوجه من الوجوه
﴿إلا هو﴾ لأنه أراده وما أراده لا يكون غيره فلا ترج سواه في أن يبذله بخير، وعبر بالمس لأنه أخوف
﴿وإن يردك﴾ أي مطلق إرادة
﴿بخير فلا﴾ أي أصابك لا محالة فإنه لا
﴿رآد﴾ ونبه على أنه لا يجب عليه سبحانه شيء بأن وضع مكان الضمير قوله:
﴿لفضله﴾ أي عمن يريده به كما يفعل بعض العاتين من أتباع ملوك الدنيا في رد بعض ما يريدون، بل هو بحيث لا ينطق أحد إلا بإذنه فلا تخش غيره، فالآيه من الاحتباك: ذكر المس أولاً دليلاً على إرادته ثانياً، والإرادة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً، ولم يستثن في الإرادة كما استثنى في الكشف لأن دفع المراد محال، وعبر بالإرادة في الخير
218
وبالمس في الضير تنبيهاً على أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد بالخير بالذات وبالضر بالعرض تطييباً لقلبه لما تكرر في هذه السورة من الإخبار بإحقاق العذاب على الفاسقين والإيئاس من الظالمين، فلما تقرر ذلك حسن موقع قوله مبيناً لحال ذلك الفضل:
﴿يصيب به﴾ أي بذلك الفضل أو بالذي تقدم من الخير والضير
﴿من يشاء﴾ أي كائناً من كان من أدنى وأعلى، وبين العلة في كونهم مقهورين بقوله:
﴿من عباده﴾ وهذا كله إشارة إلى أن ما أوجب الإعراض عن معبوداتهم بانسلاله عنها أوجب الإقبال عليه بثبوته له واختصاصه به، وختم الآية بقوله:
﴿وهو الغفور﴾ أي البليغ الستر للذنوب
﴿الرحيم*﴾ أي البالغ في الإكرام إشارة إلى أن إصابته بالخير لا يمكن أن يكون إلا فضلاً منه بعد الستر للذنوب والرحمة للضعف، فهو الحقيق بأن يعبد؛ والمس: اجتماع التباين من غير نقص، ونظيره المطابقة، والمجامعة نقيضها المباينة؛ والكشف: رفع الستار، جعل الضر كأنه مانع من إدراك الإنسان وساتر له.
ولما كثرت في هذه السورة الأوامر والنواهي والأجوبة بسبب ما يقترحونه على وجه التعنت، وختم بأن من دعا غيره كان راسخاً في الظلم لا مجير له منه، ختم ذلك بجواب معلم بأن فائدة الطاعة ليست راجعة إلا إليهم، وضرر النفور ليس عائداً إلا عليهم فقال تعالى:
﴿قل يا أيها الناس﴾ أي غاية كل من له قابلية التحرك والاضطراب
219
﴿قد جاءكم الحق﴾ أي الكامل بهذا الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهذا الكتاب، وذلكم خير عظيم أصابكم الله به، وزاد الرغبة فيه بقوله:
﴿من ربكم﴾ أي المحسن إليكم
﴿فمن﴾ أي فتسبب عن ذلك أنه من
﴿اهتدى﴾ أي آمن بمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعمل بما في الكتاب
﴿فإنما يهتدي لنفسه﴾ أي لأنه تبع الحق الثابت وترك الباطل الزائل فأنقذ نفسه من النار وأوجب لها الجنة
﴿ومن ضل﴾ أي كفر بهما أو بشيء منهما
﴿فإنما يضل عليها﴾ لأنه ترك الباقي وتمسك بما ليس في يده منه شيء لأنه فانٍ فقد غر نفسه
﴿وما أنا﴾ ولما كان السياق لنفي تصرفه فيهم وأن ذلك إنما هو إلى الله تعالى، كان تقديم ضميرهم أهم فقال:
﴿عليكم بوكيل*﴾ فيطلب مني حفظكم مما يؤدي إلى الهلاك ومنعه عنكم كما يطلب من الوكيل.
ولما كان أكثر ذلك وعظاً لهم وتذكيراً ختمه بأمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بما يفعله في خاصة نفسه أجابوا أو لمن يجيبوا، فقال عطفاً على قوله
﴿قل يا أيها الناس﴾ :
﴿واتبع﴾ أي بجميع جهدك
﴿ما يوحى إليك﴾ وبناه للمفعول لأن ذلك كان بعد أن تقررت عصمته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلم أن كل ما يأتيه من عند الله، فكان ذلك أمكن في أمره باتباع كل ما يأتيه منه سبحانه وفي الإيذان بأنه لا ينطق عن الهوى
﴿واصبر﴾ في تبليغ الرسالة على ما أصابك في ذلك من عظيم الضرر وبليغ الخطر
220
من ضلال من لم يهتد وإعراضه وجفوته وأذاه
﴿حتى يحكم الله﴾ أي الملك الأعظم بين من ضل من أمتك ومن اهتدى
﴿وهو﴾ أي وحده
﴿خير الحاكمين﴾ لأنه يوقع الحكم في أولى مواقعه وأحقها وأحسنها وأعدلها، وهو المطلع على السرائر فاعمل أنت بما تؤمر به وبشر وأنذر وأخبر وادع إلى الله بجميع ما أمرك به واترك المدعوين حتى يأمرك فيهم بأمره؛ قال الزمخشري: وروى أنها لما نزلت هذه الآية جمع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار قال:
«إنكم ستجدون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» وتبعه على ذلك أبو حيان وغيره، فإن صح فالسر فيه - والله أعلم - أنه لما أعلمت هذه الآية أن من اتبع الوحي ابتلى بما ينبغي الصبر عليه وأفهمت أن من كان له أشد اتباعاً كان أشد بلاء، وكان الأنصار رضي الله عنهم أجمعين أحق بهذا الوصف من غيرهم من حيث إنهم كانوا أول قبيلة جمعها الإيمان ومن حيث كانوا له أسهل قياداً وألين عريكة مع كونهم لم يتقدم لهم عشرة بالنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا خبرة بأحواله توجب لهم من اتباعه ما يوجب لمن كان من بني عمه قريش يخالطه ويأنس به ويرى منه معالي الأخلاق وكريم الشمائل ما يوفر داعيته على اتباعه، فلما كان ذلك كذلك، خص النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الأنصار رضي الله عنهم لهذا الأمر، فتفضيلهم في ذلك من الجهتين المذكورتين فلا يتوهم
221
تفضيلهم على المهاجرين بل المهاجرون أفضل لأنهم جمعوا إلى النصرة الهجرة مع أن أكثرهم له من قرب النسب من رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والسبق في الإسلام حظ وافر.
هذا ما ظهر لي من مناسبته على تقدير الصحة. والذي في الصحيح عن أنس رضي الله عنه
«أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد أن يقطع للأنصار من البحرين فقالت الأنصار: حتى تقطع لإخواننا من المهاجرين مثل الذي تقطع لنا، وقال: سترون بعدي أثرة فاصبروا حتى تلقوني» فهذا فيه أن السبب حرصهم على الإنصاف وهو يدل على أن المنصف يقل إنصاف الناس له وهو أمر مستقرى: والوحي: إلقاء المعنى غلى النفس في خفاء. وهو هنا ما يجيء به الملك إلى النبي عليهما السلام عن الله تعالى فيلقيه إليه على اختصاصه به من غير أن يرى ذلك سواه من الناس؛ والصبر: تجرع مرارة الامتناع من المشتهي إلى الوقت الذي ينبغي فيه تعاطيه ويعين عليه العلم بعاقبته وكثرة الفكر في الخبر الذي ينال به، واعتياد الصبر في خصلة يسهل الصبر في خصلة أخرى لأن الخير يدعو إلى الخير فتمكن الإنسان في خصلة يصير له ملكة تدعوه إلى ماشاكلها، وقد ختم سبحانه السورة بما ابتدأها به من أمر الكتاب والإشارة إلى الإرشاد لما ينفع من ثمرة إنزاله وهو العمل بما دل
222
عليه أو أشار إليه إلى أن ينجلي الحكيم الذي انزله للحكم في الدنيا أو في الآخرة بما لا مرد له مما برزت به مواعيده الصادقة في كلماته التامة، وهذا لعينه هو أول التي بعدها، فكان ختم هذه السورة وسطاً بين أولها وأول التي تليها، ففيه رد المقطع على المطلع وتتبع لما استتبع والله الموفق.
223
سورة هود
مقصودها وصف الكتاب بالإحكام والتفصيل في حالتي البشارة والنذارة المقتضي ذلك لمنزلة سبحانه وضع كل شيء في أتم محاله وإنفاذه مهما أريد الموجب للقدرة على كل شيء، وأنسب ما فيها لهذاالمقصد ما ذكر في سياق قصة هو عليه السلام من أحكام البشارة والنذارة بالعاجل والآجل والتصريح بالجزم بالمعالجة بالمبادرة الناظر إلى أعظم مدارات السورة (فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك) والعناية بكل دابة والقدرة على كل شيء من البعث وغيره المقتضي للعلم بكل معلوم اللازم منه التفرد بالملك.
وسيأتي في الأحاف وجه اختصاص كل منهما باسمهما (بسم الله) أي الذي له تمام العلم وكمال الحكمة وجميه القدرة) الرحمن (لجميع خلقه بعموم البشارة والنذارة (الرحيم) لأهل ولايته بالحفظ في سلوك سبيله (الر).
224