تفسير سورة النّاس

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد
تفسير سورة سورة الناس من كتاب البحر المديد في تفسير القرآن المجيد .
لمؤلفه ابن عجيبة . المتوفي سنة 1224 هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

بقلم الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى نحمدك اللهم، فاتح كنوز الغيب للصفوة من عبادك، مانح فيض علمك للخلاصة من خلقك، فاستودعت قلوبهم خفىّ سرك، وأشهدت أرواحهم حقيقة أمرك، فكانوا أعرف عبادك بمضمرات إشاراتك، وأفهمهم لمعانى كلامك، فإن نطقوا فهم تراجمة لوحيك، وإن عبّروا فهم ألسنتك تخبر بمرادك، وإن فاهوا فإنما يفصحون عن بديع حكمك. أعززتهم بما توجتهم من العلم والعرفان، فعزّوا على الناس بما خصوا به من أسرار معجم القرآن، وحلّهم لطلاسم ورموز الفرقان.
ولمّا لم يسعف العقل بعض الناس بفهم تلك الإشارات، ولم يحيطوا بإدراك تلك المذاقات، أنكروا مقالهم، وجحدوا حالهم، وغاب عنهم اختصاصهم، وفاتهم أن الحق هو المتكلم فيهم، وأنهم مشيرون به، أو هو المشير بهم، «فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، وإن سألنى أعطيته، ولئن استعاذنى لأعيذنّه» «١»، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ «٢».
ونصلى ونسلم عليك يا عين الحقائق، ويا قرآن جمع العلم والمعلوم، ويا فرقان الشرائع والعلوم، أنزل عليك ربك كتابا فى عالم الظهور، أنت سره وحقيقته، فكنت تعاجل جبريل به قبل النزول، كتابا منه آيات محكمات، هن أم الكتاب، يفهمها الخصوص والعموم، وأخر متشابهات، يختص بفهمها أولو العلم الراسخون. صلى الله عليك وعلى آلك وأحبابك مشارق شموس العرفان، ومطالع كواكب الحقائق. المتبرءون من الأوهام والظنون، ما كرّت الأيام ومرت الدهور والسنون.
(أما بعد) : فإن القرآن كلام الله، وكلام الله صفته النفسية، والصفة تدل دلالة واضحة على الموصوف، وكما أن الموصوف- وهو الحق سبحانه- لا تدرك حقيقته فكذلك صفته.. لهذا وقفنا أمام كلام الله حائرين، لا نجزم بتحديد مراميه، ولا نقطع بأن ذلك التفسير عين مراد الحق منه لأن كلام الله القديم، إنما يفسره المفسرون بلغتنا
(١) الحديث أخرجه بطوله البخاري فى (الرقاق، باب التواضع) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.
(٢) من الآية ٢٦٩ من سورة البقرة.
7
العربية المحدثة، بناء على مدركات عقولهم البشرية. واللغة العربية من صنع المخلوق، وكلام المخلوق محدود لأنه يعبّر عن محدود، ومحال أن يحيط بالتعبير صنع المخلوق المحدود عن كلام الله وصفته، التي لا تحدها الحدود.
وإذا كان أساطين اللغة والأدب يرون أن اللغة العربية على كثرة مترادفاتها، وضخامة معاجمها، وغزارة ما تحتويه من ألفاظ، واحتشاد تراثها بالمجازات والكنايات، عاجزة عن التعبير عن مشاعر الإنسان وأحاسيس البشر، فإنها- والقياس غير جائز- لعن تحديد المراد من كلام الله وقرآنه أعيى وأعجز.
ومن هنا كان القرآن حمالا لوجوه عدة من المعاني، وكان أمرا طبيعيا ما يتجدد فيه كل يوم من فهوم، وستظل تلك المعاني تتجدد إلى ما شاء الله، وسيبقى القرآن معها كما هو، لا تبلى جدته، ولا يكشف عن حقيقة مراده.
وليس غريبا بعد ذلك أن يذهب المسلمون مذاهب شتى فى تأويله، فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ، وما دل عليه الكلام من الأمر والنهي، والقصص والأخبار، والتوحيد وغير ذلك. وأهل التحقيق، أو الصوفية، يقرون تفسيرهم هذا، ويرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن. ولكن لهم فى كلام الله- مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري- مذاقات لا يمكنهم إغفالها لأنها بمثابة واردات، أو هواتف من الحق لهم.
فلا ينبغى أن نقف القرآن على تفسير معين على أنه المراد، فلا نقول كما يقول البعض: إن التفسير الظاهري وحده هو المقصود، كما لا يرى أهل التحقيق أن تفسيرهم وحده هو المراد، لأن القول بالتفسير الظاهري وحسب، تحديد (لكلام الله) غير المحدود، وإخضاع القرآن للغة التي مقياسها العقل المحدود، والوقوف فى تفسير كلام الله عند العقل المحدود عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها، لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشىء آخر فوقه، وتدرك بلطيفة أخرى سواه.
إذن فهناك ما فوق العقل، ألا وهو القلب.
وليس المقصود بالقلب قطعة اللحم الصنوبرية، وإنما المراد به تلك اللطيفة النورانية الربانية.
إنه القلب الذي لا تحده الحدود، لأنه عرش استواء تجليات الرب على مملكة الجسم. قال رب العزة فى حديثه القدسي: «ما وسعني سمائى ولا أرضى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن» «١» وهو القلب الذي اختصه الله
(١) أخرجه الديلمي (الفردوس ٣/ ١٧٤ ح ٤٤٦٦) من حديث أنس بن مالك، بلفظ: «لا يسعنى شىء، ووسعني قلب عبدي المؤمن اللين... » الحديث، وانظر: إتحاف السادة المتقين، للزبيدى (٧/ ٢٣٤) وكشف الخفاء للعجلونى: (٢/ ١٩٥ ح ٢٢٥٧).
8
بالأسرار، والذي يجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار. سأل وابصة بن معبد رسول الله صلى الله عليه وسلّم عن البر والإثم، فقال:
«يا وابصة استفت قلبلك، البر ما اطمأنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، والإثم ما حاك في القلب وتردد فى الصدر، وإن أفتاك الناس وأفتوك» «١».
ذلك هو القلب المراد، وله لغته، كما أن للعقل لغته. وإذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ، ويعبّر عنها بالكلمات، فلغة القلب تدرك بالذوق لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ. ولنقرب إلى الفهم فلغة القلب مثل التفاحة.. فلن يستطيع من أكلها وأحس حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبّر بالوصف لمن لم يأكلها قبل عن طعمها ومذاقها. وهكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ، وإنما يدركها ذو قلب متذوق. ولذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة، وإنما يعبّر عنها بالإشارة. فالإشارة ترجمان لما يقع فى القلوب من تجليات ومشاهدات، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته وأحبابه، من أسرار فى كلام الله وكلام رسوله.
ومن هنا كانت مذاقات الصوفية وأهل التحقيق فى قرآن الله الكريم وكلامه القديم.. وهم لا يرون أن تلك المذاقات وحدها هى المرادة، وإنما يأخذونها إشارات من الله لهم، بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير باعتباره أصل التشريع.
وجلى بعد ذلك أنه لا مجال لمعترض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم، ويراها ميلا بكلام الله عن مجراه، ماداموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها، وإنما يأخذون بها مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع. فلا يعنينا من ذى جدل أن يقول عن هذه الإشارات: إنها إحالة لكلام الله عز وجل، وتغيير لسياقه ومجراه لأن ذلك يصدق لو قالوا: إنه لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك، بل يقرون الظواهر على ظواهرها، ويفهمون عن الله ما أفهمهم.
وذلك مصداق الحديث الشريف: «لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحدّ ومُطلع» «٢» فالباطن لا يعارض الظاهر، والظاهر لا يعارض الباطن... وذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به (الباطنية) من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره، وقصرهم معانى القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره، لأنهم بذلك لا يقرون الشريعة ويبطلون العمل بها. وهم لا يخضعون دعواهم للنص القرآنى، بل يخضعون النص القرآنى لدعواهم.
وهنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية فى القرآن الكريم نزعة باطنية، فبينهم وبينها آماد وأبعاد، بل إنهم لبريئون منها، وينكرونها كل الإنكار، وواضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر،
(١) أخرج حديث وابصة، الإمام أحمد فى المسند (٤/ ٢٢٨).
(٢) أخرجه الطبري فى تفسيره (١/ ٢٢) وابن حبان (الإحسان ١/ ١٤٦ ح ٧٥) والبزار (كشف الأستار، باب كم أنزل القرآن فى حرف ٣/ ٩٠ ح ١٣١٢) من حديث عبد الله بن مسعود. وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٢٧٢٧) للطبرانى فى الكبير.
وأخرجه البغوي فى شرح السنة (ح ١٢٢) عن الحسن البصري مرسلا.
9
ويقرون الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة. ويرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة، فالفرق ثمة كبير، والبون شاسع وعظيم.
ولا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم فى الإشارات، وما يختصهم الله به فى كلامه وكلام رسوله ﷺ من الأسرار والفيوضات.
على أن تلك الإشارات أمر مشروع، أقره الحديث المذكور آنفا: «لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحدّ ومُطلع»، فأربابها متبعون لا مبتدعون، اختصهم الله بأسراره فى آياته، ليكونوا مصابيح الهدى فى غسق الدجى، كما أقره عمد الدين، وذوو العلم من المؤلفين.
قال سعد الدين فى شرح العقائد النسفية: «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك فهى إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». وقال الشيخ زروق رضى الله تعالى عنه: «نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى، ليس إلا، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه».
فإذا دار المفسرون فى حدود اللفظ القرآنى، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام، فلأولى الألباب وذوى البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار والحقائق، ما لا ينكشف لسواهم، ولا يدركه غيرهم. وذلك لتجدد واردات الحق عليهم، ودوام تنزل الفيوضات على قلوبهم، لأنهم أهله ومحبوه.
ثم إن فيض الله المتجدد فى كلامه لهم لمما يزيد فى كمال إعجاز القرآن، ويؤكد أن إعجازه أسمى من أن يكون في فصاحة لفظه، وقوة أسره، وبلاغة أسلوبه، وإنما إعجازه فوق ذلك فى أسراره ومعانيه، ومراده ومراميه. وأهل الله أولى الناس بتفهم مراده ومعرفة مرامى كلامه، ومن ثمّ كان ما ينكشف لهم فى كلام الله من أسرار بمثابة إشارات لهم- وحدهم لأن الإشارة لغة المحب مع المحبوب، والإشارة بعد ذلك تلويح للمراد، لا إفصاح عنه، لعدم قدرة الألفاظ على تحمل المراد؟ لأن العبارة تحدد ما يشيرون إليه، وما يشيرون إليه إنما يكون عن مشاهدة. وما يشاهدونه ليس بمحدود إذ هو من عالم الغيوب، فلا اللفظ قادر على تحديد المراد، ولا قابليات العقول تطيق ذلك. ومن ثمّ سميت مذاقاتهم فى القرآن إشارات، ولم تسم تفسيرا.
وقد تحلى القرآن الكريم بمثل تلك الإشارات من رموز الحواميم و «الم» و «طسم»... إلخ، وهى إشارات بين الحق ورسوله، أو «شفرات» - بالتعبير الحديث- بين المحبوب وحبيبه، ولا يعرف حلها إلا من لديه مفتاحها.
ومفتاح تلك «الشفرات» وفهم تلك الإشارات فى حوزة من لديه الفهم لمراد المشير، وهم- بعد الرسول صلى الله عليه وسلّم- ورثته
10
من العلماء بالله وأوليائه. نقل عن الصالحين أنّ الله تعالى لَمَّا أنزل على سيد العالمين صلى الله عليه وسلّم قوله تعالى: (كهيعص) قال جبريل عليه السلام: (ك) قال النبي- اللهم صلى عليه-: عرفت قال جبريل عليه السلام: (هـ)، قال: - اللهم صلى عليه وآله- عرفت، قال جبريل: (ى)، قال: عرفت، قال: جبريل: (ع) قال: عرفت، قال جبريل: (ص)، قال النبي:
عرفت، قال جبريل: عرفت وأنا لم أعرف، سبحان من أعطاك. ومن هنا فهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه وحده مقالة الرسول- عليه الصلاة والسلام- حين نظر إليه، وقال: (أتذكر يوم لا يوم) ؟ فقال نعم، ولم يفهمها غيره من الصحابة الحاضرين. ولما سئل الصديق رضى الله عنه عن ذلك، قال: «إنه يوم الميثاق».
ولا عجب فيما ينكشف لأرباب الإشارات من فيوض فى قرآن الله، أو حديث رسوله- صلى الله عليه وسلم-، فمازال المفسرون يتجدد لهم فى كلام الله كل يوم معان لم تسبق، لا ينكرها الناس، بل إليها يستريحون، ففيم الإنكار على أرباب الإشارات، وهم عن الله مشاهدون، ولهم منازلات ومقامات، فيتكلمون بما يشاهدون فى منازلاتهم، وينطقون عما يرون فى مقاماتهم؟
أجل: معذور من ينكر عليهم، لأنه لم يذق ما ذاقوا، فلو ذاق لعرف، وينبغى ألا يغيب عنه أن تلك الإشارات بمثابة اصطلاح يفهمه أهل التحقيق، ولا يجدر أن يعارضهم فى اصطلاحهم اصطلاح جماعة أخرى مادام لكلّ اصطلاحه.
فالحق أن كلام الله نور يرسل إلى القلوب، وهى أوعية يتلون ذلك النور بلونها.. وكلّ يرسل بتفسيره شعاعا حسب استعداده وقابليته وما استودع فيه.
على أن أهل التحقيق لا يدعون أنه محال على غيرهم ما يفاض به عليهم، ولكنهم يعتقدون أن كل إنسان لديه الاستعداد لما عندهم، غير أنهم فتحوا عيون قلوبهم، فاطلعوا على ما اطلعوا من أسرار، وغيرهم فتحوا نوافذ تفكيرهم فوقعوا فى الحيرة والوهم، وقاسوا بعقولهم مذاقات تلك القلوب فأنكروها، ولو أن عيون قلوبهم كأهل الله، لكان ما استغربوه أمرا عاديا، بل لاعتقدوا اعتقادا جازما ما أنكروه.
فليع كلّ ذى لب قدر هؤلاء الصفوة من أهل التحقيق، وليدرك أنهم ملهمون إن نطقوا فلا ينطقون بأنفسهم، وإن أشاروا فمحرّك الإشارة فيهم مولاهم. وارجع إلى الصدر الأول من عصر المسلمين الزاهر، تجد أن من أئمة هؤلاء الملهمين سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، والذي قال فيه رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: «إن من أمتى مكلمين ومحدثين، وإن عمر منهم».
ومنهم الإمام عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه، الذي أشار إلى صدره بعد أن تأوه مرتين، ثم قال: «إن هاهنا علوما جمة.. لو وجدت لها حملة!!». ويروى عنه أنه قال: (لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيرا)، أولئك هم
11
علماء الله بحق، الذين عناهم رسول الله صلى الله عليه وسلّم بقوله: «إن من العلم كهيئة المكنون، لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عز وجل».
ذلك نذر يسير مما عليه أهل الإشارات من مكانة، وقدر ضئيل مما شرفهم الله به من منزلة. ونستطيع بعد ذلك أن نعرض من مميزات وخصائص علم الإشارات ما يأتى:
١- علم الإشارات لا ينظر إلى قصص الأنبياء فى القرآن الكريم على أنها قصص انتهت بانتهاء أممهم، وأن تلاوتها الآن للعظة والاعتبار، فحسب، وإنما يرون مع ذلك أن الخطاب بها مازال قائما، يوجه إلى الإنسان في كُلَّ عصر وأوان، باعتباره مملكة الله الصغرى، التي انطوى فيها العالم كله، فمثلا يرمزون لموسى بالقلب أو الروح، وإلى فرعون بالنفس.
وبذلك يكون القرآن فى حالة تجدد نزول، لم ينته الخطاب بانتهاء زمانه، باعتباره كلام الله وصفته القائمة بذاته، وتظل بذلك صفة الكلام قائمة غير معطلة، لم تنته بنزول الكتب السماوية، فمازال الحق سبحانه متكلما أبدا.
٢- علم الإشارات يكشف عن صدق أهله مع ربهم، وأمانتهم عند الحديث عن كلامه، فكل ما قاله القرآن وما تناولته ألفاظه من أداء، هو فى مذهبهم حقيقة، لا يعرفون مجازا، ولا يلجئون إلى كناية، لأنهم بما شاهدوا وذاقوا يدركون هذه الحقائق. ولمّا كانت تلك مواجيد وأذواق لا يمكن نقلها إلى الغير بعبارة رمزوا لها وأشاروا، ومن هنا أنكر عليهم من أنكر، أمّا من شاهد مثلهم فقد عرف ما عرفوا، بل ربما تجدد له من ذلك مشهد أو حقيقة أو مذاق.
وهكذا نرى أن أهل الله أمناء على كلامه دفعتهم غيرتهم على محبوبهم، وعظيم احترامهم لجنابه، وإكبارهم لكلامه، ألا يميلوا عن منطوق ألفاظه إلى مجاز أو كناية، خشية البعد عن مراده. ولم اللجوء إلى المجاز مادام للحقيقة عندهم مخلص؟ فهم لا يرون فى قوله سبحانه: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «١» أن السؤال لأهلها فحسب، بتقدير مضاف، كما قيل، أي: واسأل أهل القرية، وإنما السؤال للقرية بكل ما فيها، ومن فيها، ماداموا يشاهدون تسبيح الجماد ونطق الحيوان. واقرأ إن شئت قوله تعالى: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «٢» وقوله: يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ «٣» وقوله فى حق السماء والأرض: قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ «٤» فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ «٥» إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. وعلى ذلك فلا يكون سؤال القرية قاصرا على أهلها، لأنه سؤال لما فيها ومن فيها. والمخاطب بذلك لو كانت لديه الخصوصية لخاطب القرية بكل ما تحتويه من كائنات.
(١) من الآية ٨٢ من سورة يوسف.
(٢) من الآية ٤٢ من سورة الإسراء.
(٣) من الآية ١٠ من سورة سبأ.
(٤) من الآية ١١ من سورة فصلت.
(٥) من الآية ٢٩ من سورة الدخان.
12
وثمة مثال ثان: فهم لا يعترفون بأن كلمة فى القرآن وضعت مكان كلمة أخرى أو بمعناها ففى قوله جل شأنه:
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ «١» لا يرون أن «عن» بمعنى «من» تمشيا مع إنابة حروف الجر بعضها عن بعض، وإنما ينظرون إلى منطوق اللفظ نفسه، وهو «عن،» ففى اللغة تفيد معنى المجاوزة، ويكون المراد- والله أعلم-: أن الحق يقبل التوبة متجاوزا عن عباده فى توبتهم لعدم خلوصها، رحمة منه بهم، وذلك المعنى لا شك أبلغ وأفصح.
على أن فى مذهب أهل الإشارات حلا لكل العقد، وحسما للخلافات، وزوالا للشبه والريب من مسائل الكسب والاكتساب، والجبر والاختيار، والنعيم والعذاب للجسم أو للروح.. إلخ.
كل هذا وغيره من خلافات أهل علم الكلام والعقائد لا ظل له عندهم، لأنهم اطلعوا على سر الله فى أقضيته ومقدراته، وتحققوا بذلك، فاستراحوا، وملأت قلوبهم السكينة، وأفئدتهم الطمأنينة، فاستشعروا فى حياتهم من السعادة ما لم يذقه غيرهم. ذلك لأنهم فتحوا عيون قلوبهم، ولم يقيسوا بعقولهم، لأن العقل مجاله محدود، لا يكشف مهما كانت قدرته عما وراء الغيوب، وإلا فبم يعلل العقل رؤية نبينا لموسى- عليهما الصلاة والسلام- مرتين فى قصة الإسراء والمعراج مرة ببيت المقدس، وهو يصلى وراءه، وأخرى فى السماء، وهو يراجعه فى أمر الصلاة، مع أن موسى لم يترك قبره، ولم يفارق مثواه. والعقل يحار أيضا أمام حديث سجود الشمس تحت العرش كل يوم، وأنها لا تطلع حتى يؤذن لها بالطلوع، مع أنها لا تغيب عن الكون لحظة. وشبه ذلك كثير من الأمثلة.
هذا وفى سوق الواقعة الآتية ما يجعلك تلمس أن أهل التحقيق هم الذين يفهمون عن الله ورسوله ما لا يفهمه غيرهم، وأنّ من رحمة الله بعباده أن يكونوا بينهم، وإليك الواقعة:
اشتكى رجل مرضا حار فيه «نطس» الأطباء، فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلّم يرشده إلى أن يأخذ من ثمرة شجرة (لا ولا) ويستعملها ففيها شفاؤه. وحار الرجل فى تفسير رؤياه، وحار معه فى حل رمزها علماء العصر، حتى شاء الله له الخير، فالتقى برجل من أهل التحقيق، فأجابه على الفور: أمرك يسير، علاجك فى شجرة الزيتون فهى التي يقول الله فيها: لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ «٢».
تلك- أيها القارئ- ومضة خاطفة من قبس أنوار أهل التحقيق، ومكانتهم عند ربهم، وجولة سريعة فى علم الإشارات، ومذهب أهله، عرضناها عليك. ألمعنا بها إليك كتمهيد للسفر الجليل والكنز الثمين الذي نحن بصدد الحديث عنه، والذي ظل طىّ الكتمان ودفين النسيان، حتى قيّض الله له باحثنا أمينا، له فى هذا العمل، من الشباب القوة، ومن الشيوخ الخبرة، فأخرجه إلى النور، وهيأه للنشر والظهور.
والآن يسعدنى أن أقدم للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها عامة، ولذوى الألباب والبصائر خاصة، ولكل باحث متصوف: تفسير القرآن، للعالم والداعية الكبير «ابن عجيبة» وهو نموذج من نماذج فيوضات أهل التحقيق،
(١) من الآية ٢٥ من سورة الشورى.
(٢) من الآية ٣٥ من سورة النور.
13
ومذاق من مذاقات أولى الإشارات، وأرباب السلوك، وأصحاب الطريق. ففيه تذكير بأن ما عزب عن الأفهام دركه من أسرار التفاسير الصوفية الأخرى الدسمة، لا يمسها بالعيب والطعن لقصور العقل عن النهوض باستشراق ما أطلع عليه أهلها من أسرار، فكم من مذاقات تناولها بالعقل متناولوها فمسخوها، ووصلوا بأهلها إلى الحلول والإلحاد، وهم بعقائدهم النقية أبعد الناس عن ذلك، ومن الجور الفادح أن نلبسهم بذلك ثياب الملحدين، ونرميهم بالكفر أو الانحراف عن سواء السبيل.
ومن مميزات ذلك التفسير أنه يكشف عن مشارب القوم، ونهج الصوفية فى استمدادهم من الحق تعالى، في كل ما يأتون من مواجيد، فهو يدلّل خلال قراءته- فى وعى- على أن كل صغيرة وكبيرة من مفاهيم الصوفية لها أصل من القرآن أو سند من السنّة لأن قلوبهم مرايا صافية، يسطع عليها نور الحق، ومحال أن تعكس ما لا يرضى الحق. فليس الصوفية فى الواقع إلا روافد تستقى من ينبوع الشريعة ومعينها الطيب، غاية الأمر أنهم ملهمون بتجلى الله عليهم فى كلامه، بالجديد من أسرار، وتجليات الله لا تتناهى. ووقف غيرهم عند المسطور المتوارث، فداروا فى نطاقه، ولم يتجاوزوا حدوده.
هذه نبذة عاجلة عن الكتاب وبعض مميزاته. أما عن المؤلف فقد تناول محقق التفسير ما فيه الكفاية والغنى عن البيان. وأبرز استعداده الفطري وحافظته الواعية، وذكاءه النادر، ما كان سبيلا إلى أن يحصل من دراسته الأدب والعلوم العقلية والنقلية، دينية وغير دينية، ما جعله كنزا للعلوم والآداب، عدا موهبة سخية فى نظم الشعر، وتذوق الأسلوب العربي، وعقيدة نقية فى تمسكه بمذهب أهل السنة، لم يشبها ما خاض فيه من علم الكلام وخلافات أهله.
فالمؤلف- رحمه الله كان مؤهلا أن يدرس الأسلوب القرآنى، ويستخرج منه ما يستخرج من إشاراته. والحق أن تلك الإشارات ليست وليدة دراسة العقول، وإنما هى وليدة الإلهامات بعد فتح عيون القلوب. وفيما سبق من توضيح ذلك ما يغنى عن تكرار التبيان.
فإن كان لإمامنا ابن عجيبة ما سبق من شهرة علمية ودينية وأدبية ولغوية وعقيدية، فذلك سمة من السمات الدالة على أن رجال الله يعدّهم قبل أن يختارهم لحضرته، ليعزهم بعزته، ويكونوا خلفاءه- بحق- فى أرضه، يخاطبون كلّا حسب استعداده، فتملأ هيبتهم كلّ فراغ، ويكونون فرسان الحلبة فى كل ميدان ومجال.
على أن تلك الكنوز العلمية المكتسبة التي اشتهر بها إمامنا «ابن عجيبة» ليست شرطا فيمن يختارهم الله من رجاله، فمن شاءه وليا، وأراده له حبيبا علّمه من علمه اللدني، حتى ولو كان أميا. وسيدى «عبد العزيز التباغ» صاحب الإبريز المشهور، وسيدى «على الخواص» شيخ الإمام الشعراني وغيرهما من فحول الصوفية، خير مثال لذلك، وبذلك تصدق المقولة المشهورة: (ما اتخذَ الله من ولى جاهل، ولو اتخذه لعلمه).
والآن أعدك أيها القارئ الكريم لذلك الكتاب العظيم لتدرك بنفسك نفائسه... وأختم حديثى تيمنا- بترديد الكلمة المباركة التي كانت أول خطاب من الله لرسوله- عليه الصلاة السلام- أول بعثته فأقول لك: اقْرَأْ.
د. حسن عباس زكى
14
كلمة أ. د. / جودة محمد أبو اليزيد المهدى
عميد كلية القرآن الكريم بطنطا الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَنزَلَ من حضرة ربوبيته على قلب أعظم رسله هذا القرآن العظيم، هدى ونورا، وجعله معجزة المعجزات، وجامع حقائق حضرات الذات والصفات والأسماء والأفعال، فسطرت فيه أسرار الوجود تسطيرا.
والصلاة والسلام على أكمل خلق الله، سيدنا محمد، الذي تجلى عليه مولاه باسم (الرحمن)، فعلّمه القرآن، وأرسله بالحق بشيرا ونذيرا، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وأصحابه، وورثته القرآنيّين، الذين أشربوا حب القرآن، وتدبروا آياته، وغاصوا فى بحار معانيه، واستخرجوا جواهر حقائقه، ودرر أسراره، فنالوا فضلا كبيرا. رضى الله عنهم، وسلك بنا مسلكهم، وحشرنا فى زمرتهم، ولقّانا بهم نضرة وسرورا.
أما بعد:
فقد أدرك الفقهون عن الله تعالى إِن ذروة الفضل، وذؤابة الشرف، وجوهر السعادة فى التعلق بكتاب الله تعالى، الذي هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وهو مأدبة الله تعالى، ودستوره الخالد، والمحيط الجامع لأنواع العلوم والمعارف، والمنهاج الأعظم للتربية والتحقق، ومن ثمّ تبتلت قلوبهم فى محراب التنزيل، وعكفوا على تدبر آياته واستكناه أسراره لاستخلاص حقائق الوجود من مشكاة عرفانه.
لقد أذعنوا لقول الحق تعالى: مَّا فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «١». ولقوله عز من قائل: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «٢». وأيقنوا بمقولة حبر الأمة، سيدنا عبد الله بن عباس- رضى الله تعالى عنهما-:
«جمع الله فى هذا الكتاب علوم الأولين وعلوم الآخرين، وعلم ما كان وعلم ما يكون، والعلم بالخالق- جل جلاله- فى أمره وخلقه» «٣».
وقد تعددت وتنوعت منازع ومناهج المشتغلين بتفسير كتاب الله تعالى.
(١) سورة الأنعام/ ٣٨.
(٢) سورة النحل/ ٨٩. [.....]
(٣) انظر: جامع الأصول لابن الأثير: ٨/ ٤٦٤: حديث رقم/ ٦٢٣٣.
15
فمنهم من توفرت هممهم على جمع المأثور فى تفسيره من السنة النبوية، وأقوال السلف الصالح، من الصحابة والتابعين وتابعيهم، دون إعمال للرأى، أو مع إعماله بضوابطه. ومنهم من صرف وكده فى تفسيره إلى الجانب اللغوي، فبرزت إلى الصعيد التفسيري مدارس التفسير اللغوي، والنحوي، والبلاغى، والبياني بألوانها الشائعة المعطاءة. ومنهم من آثر المتجه الكلامى العقدى، فحفل تفسيره بخوض عباب المباحث العقدية، ونصرة مذهبه على المذاهب الأخرى، فى شتى القضايا الكلامية، فكانت موسوعات تفسيرية فى هذا الجانب. ومنهم من جنح فى تفسيره إلى الجانب الفقهي المذهبى، فكان اللون المعروف بتفاسير الأحكام، وكل منها فى مذهب بعينه، وقد استخدمت فيه القواعد الأصولية. ومنهم من غلب عليه الطابع القصصى، فتوسع فى الروايات والآثار فى معالجة قصص القرآن الكريم، ما بين صحيح ودخيل.
وهكذا اتخذ المشتغلون بالتفسير طرائق قددا، ومنازع شتى، ومناهج متنوعة، ما بين تحليلي، وموضوعى، ومقارن، وتاريخى، واستقرائى. وكلها حقق للمكتبة التفسيرية ثراء حافلا فى تناول كتاب الله الخاتم، لم ينله ولم يدن منه فى تاريخ الوجود توفر على كتاب سواه، وذاك من لوازم حقيّته ومصداقيته وإعجازه.
بيد أنه- مع كل ذلك- لا يبلغ البناء التفسيري كماله وتمام مصداقيته فى تحقيق وفاء معانى التنزيل بتفسير حقائق الوجود بأسرها إلا بإعمال المنهج الصوفي الإشارى فى التفسير، وإحراز نتاج (علم الموهبة) الذي اعتده أساطين علوم القرآن الكريم وتفسيره علما أساسيا ومصدرا رئيسا للمفسر، ضمن العلوم الخمسة عشر التي يحتاج إليها المفسر، حيث ذكره الإمام السيوطي- رضى الله تعالى عنه- فى ختامها- بالإتقان- قائلا: (الخامس عشر:
علم الموهبة: وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم، وإليه الإشارة بحديث «١» :«من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم» - ثم قال: قال ابن أبى الدنيا: وعلوم القرآن وما يستنبط منه: بحر لا ساحل له.
قال: فهذه العلوم- التي كالآلة للمفسر- لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها، فمن فسر بدونها: كان مفسرا بالرأى المنهي عنه، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأى المنهي عنه) «٢».
أجل: إن التفسير القرآنى بدون الوقوف على الجانب الإشارى، الذي يسبر باطن العبارة القرآنية بالكشف الذوقى العرفانى، ليفتقد تلك الثمرة اليانعة، والروعة الرائعة، التي يمتن بها الحق تعالى على أوليائه العارفين، الذين طهرت قلوبهم وأرواحهم، بعد إماتة نفوسهم بسيف الجهاد الأكبر، فعلمهم الحق من لدنه علما، وأتاح لطلاب
(١) أخرجه الحافظ أبو نعيم، عن سيدنا أنس رضى الله عنه، وخرّجه عنه العجلونى فى كشف الخفاء ص ٣٦٥.
(٢) الإمام الحافظ: سيدى جلال الدين السيوطي- رضى الله تعالى عنه: الإتقان فى علوم القرآن. بتحقيق: محمد أبى الفضل إبراهيم: (٤/ ١٨٨) ط/ المشهد الحسيني.
16
المعرفة وعشاق الحقيقة أن ينهلوا من رحيقه، بالمثول فى رحابهم، واقتطاف الأزاهير من بساتينهم، فيكتمل المفاد التفسيري بإحراز التعرف إلى الباطن القرآنى- بالمفهوم السنّى لا الشيعي للباطن- إلى جانب معرفة الظاهر والحد والمطلع، فتلك روافد العطاء المعرفى للقرآن الكريم، كما بيّنها الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلّم بقوله: «إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا» «١».
فالمراد بالظهر: ما يظهر من معانى التنزيل لأهل العلم بالظاهر. والمراد بالباطن: ما يتضمنه من الأسرار التي اطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق. فالبطن روح الألفاظ، أي: الكلام المعتلى على المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية. والحد: مراد به: أن لكل حرف من القرآن منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه. والحد: إما بين الظهر والبطن، وإما بين البطن والمطلع، فيرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم، واستهلاك صفة العبد تحت تجليات صفة المتكلم جل شأنه. والمطّلع- بضم الميم وفتح الطاء المشددة واللام-: هو مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم، المشار إليه بقول الصادق: «لقد تجلّى الله تعالى فى كتابه لعباده ولكن لا يبصرون» ومن ثمّ فالمطلع: ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام «٢». جعلنا الله تعالى من أهل ذاك المقام، بجاه سيد الأنام، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.
وهكذا نجد أن السنة النبوية الشريفة- بحديث: «إن للقرآن ظهرا وبطنا» ونظائره «٣» - تعاضد القرآن العظيم فى تأصيل التفسير الفيضي، أو الإشارى فى نحو قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «٤» وقوله سبحانه: فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً «٥»، ففيهما الإشارة الثاقبة إلى التفسير الإشارى. ومن ثمّ روى عن باب مدينة العلم. سيدنا علي كرّم الله وجهه أنه قال: «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من فاتحة الكتاب» وقال: «من فهم القرآن فسر به جمل العلم» «٦».
ولتجسّد أصالة التفسير الصوفي الإشارى وحتمية وجوده لتجلية حقائق القرآن المستنبطة منه بفهم أهل الله تعالى: فقد اعتد أساطين علماء التنزيل به، وضمنوه تفاسيرهم، ووضعوا له التعريف العلمي بضوابطه التي تخرج عنه ما يلتبس به عند غير ذوى العلم، مما يعرف بالتفسير الباطني الذي يقصر دلالة النص القرآنى على تأويلات الباطنية من الشيعة المنحرفة، فهذا لا علاقة له بالتفسير الصوفي على الحقيقة.
من ثمّ عرف التفسير الصوفي الفيضي الإشارى بأنه: تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية، تظهر لأهل السلوك، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة «٧».
(١) أخرجه ابن حبان، فى صحيحه، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه، وأخرجه عنه الحافظ العراقي فى (المغني عن حمل الأسفار. بتحقيق ما فى الإحياء من الأخبار) بحاشية الإحياء (١/ ٨٨).
(٢) انظر روح المعاني لشيخنا الإمام الآلوسى النقشبندي، عليه رضوان الله تعالى (١/ ٧).
(٣) من نظائر هذا الحديث الشريف: ما أخرجه الديلمي عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلّم أنه قال:
(القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد).
(٤) سورة (محمد) صلى الله عليه وسلّم: الآية/ ٢٤.
(٥) سورة النساء/ ٧٨.
(٦) انظر إحياء علوم الدين، للإمام الغزالي رضى الله عنه، (١/ ٢٦٠) ط/ العثمانية.
(٧) انظر- مع الإتقان للإمام السيوطي ٤/ ١٩٨-: التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي ٣/ ١٨.
17
وعلى ذلك: فقد اعتمد علماء القرآن الكريم التفسير الصوفي الإشارى بشروط أربعة لقبوله:
أولها: عدم منافاته لمقتضى اللغة ولظاهر النظم القرآنى الكريم.
وثانيها: أن يكون له شاهد شرعى يؤيده من الكتاب أو السنّة أو سائر الأصول المعتمدة.
وثالثها: ألّا يكون له معارض شرعى قطعى.
ورابعها: ألّا يدعى أن هذا التفسير الإشارى هو وحده المراد دون الظاهر، بل لا بد من إقرار التفسير العبارى الظاهر أولا ثم الأخذ بالمعنى الإشارى «١».
هذا: ومن المفسرين الأعلام من جرد همته للتفسير الظاهر- كالزمخشرى مثلا- ولم يعن بالتفسير الإشارى، وليس كذلك البيضاوي، خلافا لما ذكره الدكتور الذهبي، حيث قرنه بالزمخشرى فى الاقتصار على الظاهر. وقد حققنا الاتجاه الصوفي عند القاضي البيضاوي فى بحث مستقل «٢».
ومن أعلام المفسرين من صرف جل وكده للتفسير الظاهر، مع تعرضه للجانب الإشارى بقدر، كما نراه فى تفاسير الإمام الفخر الرازي والإمامين النيسابورى والآلوسى- رضى الله تعالى عنهم أجمعين.
ومنهم من غلب عليه الطابع الإشارى، ولم يحفل بالتفسير إلا قليلا، كالإمام سهل بن عبد الله التستري (ت سنة ٢٠٠ هـ) رضى الله تعالى عنه، وتفسيره وجيز جليل القدر.
ومنهم من اقتصر على الجانب الإشارى تماما كالإمام أبى عبد الرحمن السلمى (ت ٤١٢ هـ) - رضوان الله عليه- فى كتابه: (حقائق التفسير).
ومنهم من جمع بين التفسير الظاهر وبين التفسير الإشارى، فى توازن بينهما، وإشباع علمى فى كلا الجانبين، فجاء تفسيره متكاملا بالجواهر والدرر، كالعلامة إسماعيل حقى الإسلامبولى الحنفي (ت ١١٣٧ هـ) رضى الله عنه فى تفسيره (روح البيان)، وكالإمام العلامة العارف بالله تعالى الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى (١١٦٠- ١٢٢٤ هـ) رضى الله عنه صاحب هذا التفسير الفريد المسمى (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد)، وهو الذي نقدم له بهذه السطور، فقد جاء هذا التفسير آية رائعة فى التفسير القرآنى، الجامع بين تفسير أهل الظاهر بمعطياته وملكاته وأدواته، وإشارة أهل الباطن- بالمدلول السنّى للباطن- مستوفيا ضوابطه وشروطه، حافلا بأزهاره وثماره، حتى إنه ليعد موسوعة قرآنية فى الحقائق وعلم السلوك.
وأسأل الله- عزّ وجل- إِنَّ يتقبل هذا العمل، وأن يحشرنا به فى زمرة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
وصلى الله تعالى على أعظم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم.
أ. د. جودة محمد أبو اليزيد المهدى عميد كلية القرآن الكريم بطنطا وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية
(١) انظر: المرجع الأخير مع زيادة تحرير فى العبارة: ٣/ ٤٣.
(٢) حوليه كلية أصول الدين والدعوة الاسلامية بطنطا: العدد الثالث سنة ١٤١٢ هـ سنة ١٩٩١ م ص ٧- ٥٧.
18
ترجمة الإمام ابن عجيبة «١»
اسمه:
هو الإمام العلامة المفسر «أحمد بن محمد بن المهدى بن الحسين بن محمد» المعروف بابن عجيبة، والمكنى بأبى عباس، الحسنى نسبا، التطوانى دارا، الفاسى تعلما، المالكي مذهبا، الشاذلى طريقة، أعجوبة زمانه، وعديم النظير فى أمثاله، مؤلف التآليف العديدة، ومفيد العلوم المفيدة. العالم العلامة، والصوفي الفهامة، والعارف المحقق، الشيخ الكامل الجليل، الشريف البركة.
مولده
ولد الإمام ابن عجيبة فى قرية (أعجبيش)، من قبيلة (أنجرة)، التي تسكن الجبال المحيطة بمدينة تطوان «٢»، الواقعة فى أقصى شمال المغرب، على مسافة عشرة كيلومترات، من ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان مولده رحمه الله، حسبما أورد فى فهرسته- سنة ستين أو إحدى وستين ومائة وألف هجرية «٣» ولا خلاف بين المصادر الأخرى التي أوردت تاريخ ولادته، وإن كانت قد اقتصرت على ذكر إحدى السنتين. ويرجع عدم جزم شيخنا بإحدى السنتين إلى أن مولده لم يؤرخ بالسنين، بل أرخ بحادث حصار (المستضيء بن إسماعيل) لتطوان، وكان ذلك بين سنتى ستين وإحدى وستين «٤».
أسرته: ولد الشيخ من أبوين صالحين، كلاهما من آل بيت النبوة، يرجع نسبهما إلى الإمام الحسن بن على رضى الله عنه والسيدة فاطمة- رضى الله عنها- بنت سيد الكونين، وصخرة العالمين، حبيب الرحمن، من قدمه فوق رؤوسنا شرف لنا، ومن إذا انتسب إليه أحد نسبا فاز بالمنى.
والمستطلع لتاريخ آبائه يدرك صلاحهم وتقواهم، ومدى ما كانوا عليه من خشية لله وشرف هاشمى. فجد جده «عبد الله بن عجيبة» ولى مشهور، وقبره مزار بقبيلة أنجرة، كما أن جد والده «الحسين الحجوجى» صاحب كرامات عديدة ومآثر حميدة، أما جده «المهدى» فكان كما يقول شيخنا: (رجلا صالحا صموتا خلويا- أي:
يحب الخلوة- مغفلا عن أمور الدنيا، ولا نجده إلا وحده، تاليا، أو مصليا، أو مشتغلا بما يعنيه) «٥» وأبوه
(١) أخذت ترجمة الشيخ ابن عجيبة عن (العسكري، مخطوط طبقات أصحاب الدرقاوى) ورقة ١٤٢ وما بعدها، عبد القادر الكوهن مخطوط: (إمداد ذوى الاستعداد) ورقة ٢٠، مخلوف: شجرة النور الزكية ص ٤٠٠، الأزهرى اليواقيت الثمنية ج ١/ ص ٧٠، الكتاني: فهرس الفهارس ج ٢/ ص ٨٥٤، الحسن الكوهن: طبقات الشاذلية ص ١٦٤ وما بعدها، سركيس: معجم المطبوعات ١/ ١٦٩ الزركلى: الأعلام ج ١/ ص ٢٤٥، رضا كحالة: معجم المؤلفين ١/ ٦٣، تيمور: فهرس التيمورية ٣/ ١٩٧، د/ درنيقة:
الطريقة الشاذلية وأعلامها/ ٩٢- ٩٤ وذلك فضلا عن الفهرسة للشيخ المفسر.
(٢) عبد المجيد الصغير، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي ١/ ١٢٦. [.....]
(٣) ابن عجيبة: الفهرسة ص ١٦.
(٤) انظر المصدرين السابقين.
(٥) الفهرسة ص ٢٧.
19
«محمد بن المهدى» كان رجلا صالحا، لا يجلس فى الغالب إلا وحده، فقيرا من الدنيا، يبت يقرأ القرآن. توفى رحمه الله سنة «١١٩٦ هـ» - «١».
نشأته العلمية:
نشأ الشيخ ابن عجيبة فى بيت صلاح وتقوى، وأقبل على حفظ القرآن وهو فى سن مبكرة، وقد تميز الشيخ بالقدرة على التركيز العلمي، وتوقد القريحة، ورحل إلى مدينة القصر الكبير، وأقام فيها نحوا من عامين، اجتهد خلالهما فى تحصيل العلم، حتى قال عن نفسه: (أهملت نفسى، ونسيت أمرها، وكنت أقرأ سبعة مجالس، بين الليل والنهار) «٢».
ولم يقنع الطالب بما حصّل فى مدينة القصر الكبير، بل زاده شغفا فى القدوم إلى تطوان، وهى موئلا للعلم والحكمة، ومهبط كثير من العلماء، فقدمها ابن عجيبة وهو ابن العشرين، وأقام فيها، وأقبل على تحصيل العلم فى شتى الأبواب بكل جد، وتنوعت مجالسه بين أئمة الفقه، والتفسير، والحديث، واللغة، والنحو، والصرف، والمنطق، أقبل على هؤلاء وهؤلاء، يستمع منهم، ويقرأ عليهم، ويأخذ عنهم، وأقبلوا عليه يعطونه كل ما عندهم لما وجدوا فيه من حسن الإعداد والاستعداد، فواصل الليل بالنهار.
وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الجد والاجتهاد، فلم يبلغ شيخنا تسعا وعشرين سنة، حتى بزغ نجمه وعلا شأنه، وجلس للتدريس فى مساجد تطوان ومدارسها، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة العلم فى مظانه، فالظمآن إلى المعارف لا يرتوى مهما نهل، ولعله كلما نهل استطاب العلم فازداد إليه ظمأ، والعلم ليس له نهاية له وليس له حدود. يقول شيخنا بعد جلوسه للتدريس: (فكنت فى العلم الظاهر نتعلم ونعلّم فما تركت العلم قط بعد التصدر للتعليم، نعلم من تحتنا ونأخذ عمن فوقنا) «٣».
ولهذا شدّ الرحال إلى فاس، وهو فى سن الأربعين، فسمع من علمائها، وأخذ عنهم، وقد توفر له فيها أساطين العلم فى مختلف الفروع، فأخذ علم الحديث عن محدث عصره (التاودى بن سودة)، ودرس التفسير والفرائض واللغة، ومكث كذلك سنتين، عاد بعدهما إلى تطوان ليتابع تدريسه وتأليفه.
يتحدث رضى الله عنه عما حصّله من علوم، فيقول: و (الذي حصّلناه من علوم الأذهان (العقلية) : علم المنطق، والكلام على مذهب أهل السنة، والمهم من علم الهيأة (الفلك)، ومن علم الأديان: علوم القرآن، خصوصا التفسير..
وحصّلنا الفقه بأنواعه، وأصول الفقه، وأصول الدين، وحصّلت أيضا علم الحديث، وعلم السير، وعلم المغازي، والتاريخ، والشمائل، ومن علم اللسان: علم اللغة والتصريف، والنحو، والبيان، بأنواعه، أما التصوف فهو علمى ومحط رحلى، فلى فيه القدم الفالج، واليد الطولى) «٤» وهكذا كان حظه من ثقافة عصره حظا وافرا، فقد أحاط بسائر علوم وقته، وانعكس ذلك على تفسيره، فجاء بحره مرآة لثقافته الواسعة.
(١) المصدر السابق ص ٢٣.
(٢) الفهرسة/ ٢٩.
(٣) الفهرسة ٧٦.
(٤) الفهرسة/ ١٠١
20
شيوخه:
تتلمذ شيخنا أبو العباس على كثير من علماء عصره، وأثبت هنا تعريفا بأهم شيوخه، الذين اتصل بهم أكثر من غيرهم، واشتهر بالأخذ عنهم.
١- الفقيه القاضي عبد الكريم بن قريش [ت- ١١٩٧ هـ] «١» أول من تتلمذ عليه ابن عجيبة بتطوان، ترجم له داود فى تاريخه قائلا: (الإمام العالم، الفقيه المدرس، الخطيب، كان رحمه الله مشاركا فى كثير من الفنون، وكان يستظهر مختصر خليل حفظا، ودارت عليه الفتوى فى زمانه بتطوان. تولى قضاء طنجة قهرا، فأظهر العدل وحمدت سيرته، وكان كما يقول تلميذه ابن عجيبة: (ملجأ الناس فى الفتوى والشفاعة عند الولاة) مات فى الحجاز سنة (١١٩٧ هـ) ويعتبر ابن قريش أحد الأساتذة الذين أكثر مفسرنا الأخذ عنهم «٢».
٢- الفقيه الشيخ (أبو الحسن علي بن أحمد بن شطير الحسني) [ت- ١١٩١ هـ] «٣» نعته داود نقلا عن أزهار البستان، فقال: (الفقيه الإمام المحدث العالم النحرير، كان رحمه الله فقيها نحويا محدثا ذا ورع تام) درّس البخاري والألفية، ومختصر خليل، وشمائل الترمذي، بتطوان، وكان كما يقول ابن عجيبة: (صابرا لإلقاء الدرس، ذا عناية بالعلم، متواضعا متقشفا، يلبس الخشن من الثياب، على طريقة السلف الصالح). أخذ عنه مفسرنا بتطوان ألفية ابن مالك ومختصر خليل، وغير ذلك.
٣- الفقيه العلامة (أبو عبد الله محمد بن الحسن الجنوي الحسني) [١١٣٥- ١٢٠٠ هـ] »
أحد أعلام تطوان وزهادها، وأشهر أساتذة ابن عجيبة، (الشيخ الإمام، المحقق، المتفنن، الفهامة، العارف بالله الأمين المعروف بالصلاح والدين المتين)، هكذا حلّاه مخلوف فى (شجرة النور)، ووصفه تلميذه ابن عجيبة (بالإمام الحبر الهمام مفتى الأنام، وأحد أئمة الإسلام، وخاتمة المحققين، وشمس المدققين). كان مشاركا فى الأصول والفروع يحرر المسائل ويدققها، ولا يرضى بالتقليد فى شىء من علومه، وكان ملجأ الناس فى حل المشكلات، تأتى الفتاوى إليه من أقطار المغرب، كما كان متبحرا فى علوم التصوف، مطلعا على غالب فروعه ومسائله، وكان يفر من الشهرة وملاقاة السلطان- لازمه شيخنا ابن عجيبة ملازمة تامة، حتى توفى الجنوى سنة ١٢٠٠ هـ، بعد أن أخذ عنه تفسير القرآن، والبخاري مرتين، سماعا، وبعضه شرحا، وكذلك مسلم ومختصر خليل السبكى، وورقات الخطاب فى أصول الفقه للإمام الجويني، وفى علوم التصوف أخذ عنه الرسالة القشيرية، وحكم ابن عطاء، وأصول الطريقة، والنصيحة الكافية، للشيخ زروق.
(١) انظر في ترجمته: تاريخ تطوان ٣/ ٩٦ ومخطوط أزهار البستان في طبقات الأعيان، لابن عجيبة/ ٢١٣، والفهرسة، لابن عجيبة/ ١١.
(٢) راجع الفهرسة، لابن عجيبة/ ١١.
(٣) انظر في ترجمته: تاريخ تطوان (٣/ ٩٥- ٩٦) والفهرسة/ ٣١.
(٤) انظر: شجرة النور الزكية/ ٧٧٥، تاريخ تطوان (٣/ ٩٦) مخطوط أزهار البستان/ ٢١٧.
21
٤- العلامة المحدث (أبو عبد الله محمد التاود بن الطالب بن سودة المري) [١١١- ١٢٠٩ هـ] «١» الإمام الهمام، شيخ الإسلام، وعمدة الأنام، وخاتمة المحققين الأعلام، وهلال المغرب وقدوته وبركته. هكذا حلّاه صاحب شجرة النور، وقال عنه الحافظ الزبيدي:
ومنهم محمد بن الطالب... التاودى العدل ذو المواهب
رئيس فاس، كاشف الغيوم... وعالم المنطوق والمفهوم
إليه فى بلاده يشار... عليه فى المعارف المدار
انفرد بالإمامة فى الحديث، كما كان مقدّما فى التفسير، والفقه، والتصوف، ، والكلام، والمنطق، ، والأصول، قال عنه الكتاني فى فهرسته: (لا أعلم أحدا ممن ينتمى إلى العلم بالمغرب، إلا وله عليه منة التعليم، إما بواسطة أو بغير واسطة أو بهما معا)، وحلّاه تلميذه ابن عجيبة فى أزهاره (بشيخ الجماعة، وملحق الحفداء والأجداد) أخذ عن أحمد مبارك اللمطى، وابن عبد السلام بنانى، ومحمد جسوس، وغيرهم، ومن شيوخه بمصر، الشيخ العيدروس، وحسن الجبرتى، وأبو الحسن العدوى. وكانت له رحلات لتدريس العلم بمصر والحجاز، فأقرا بالأزهر الموطأ، فتسارع- كما يقول كنون- الناس للأخذ عنه لما رأوا من حفظه وإتقانه، وحضره أعيان المذاهب الأربعة، وكبار مصر وصلحاؤها، كالشيخ الدردير والحافظ الزبيدي.
ومن تآليفه المفيدة: (زاد المجد الساري إلى قراءة صحيح البخاري) فى نحو أربعة مجلدات، وحاشية على تفسير ابن جزى، وشرح الأربعين النووية و (المنحة الثابتة فى الصلاة الفائتة) و (طالع الأمانى على مختصر الشيخ الزرقانى) وغير ذلك كثير. أخذ عنه شيخنا ابن عجيبة صحيح البخاري وصحيح مسلم، وحصل منه على إجازة مطلقة عامة «٢».
٥- الحافظ أبو عبد الله الطيب بن عبد المجيد بن كيران (١١٧٢- ١٢٢٧ هـ) «٣» أحد أساتذة ابن عجيبة بفأس، قال عنه مخلوف فى شجرة النور: (الإمام، الحامل لواء المعارف والعرفان، العلامة المتفنن فى العلوم، الحامل راية المنثور والمفهوم)، وقال عنه صاحب إمداد ذوى الاستعداد: (أعجوبة الزمان في الحفظ والتحصيل والإتقان)، أخذ عن محدث عصره التاودى بن سودة، وبنانى، وجسوس، وعنه أخذ عبد القادر الكوهن وغيره كثير، وكان يحضر مجلسه السلطان فمن دونه، درّس التفسير فى القرويين، فكان يستحضر أقوال المفسرين جميعا، ويقابل بينها ويناقشها، ويرد الزائف منها بالدلائل القوية والحجج البينة، كما كان له فى العربية باع طويل، ونظم سديد، له
(١) انظر: شجرة النور/ ٣٧٥، فهرس الفهارس ١/ ٢٥٨ مخطوط أزهار البستان/ ٢١٨.
(٢) نص الإجازة فى الفهرسة ص ٣٥- ٣٦.
(٣) انظر (فهرس الفهارس للكتانى (٢/ ٨٤٨)، النبوغ المغربي لكنون ١/ ٢٢٥، شجرة النور الزكية/ ٣٧٦، مخطوط إمداد ذوى الاستعداد للكوهن/ ٥. [.....]
22
تآليف مختلفة منها: تفسير القرآن، غير أنه لم يتمه، قال عن تفسيره عبد القادر الكوهن: لو تم لكان تمام الأمنية، لكن أخرمت مؤلفه المنية. له أيضا حاشية على كل من صحيح البخاري وصحيح مسلم وسنن النسائي، وله شرح ألفية العراقي فى علم الحديث، وشرح حكم ابن عطاء الله، له كتب أخرى تنيف على العشرين.
٦- العلامة أبو عبد الله محمد بن أحمد بن بنيس الفاسى (دارا ومنشأ) [١١٦٠- ١٢١٣ هـ] «١» (الحافظ العمدة المحقق، الجامع لشتات العلوم والمعارف والمنطوق والمفهوم) هكذا حلّاه صاحب شجرة النور، وقال عنه تلميذه ابن عجيبة فى أزهاره: (له مشاركة فى الفنون، واختص بعلم الفرائض، وكان الملجأ بفأس فى حل مشكلاته) أخذ عن الشيخ محمد جسوس، وعبد الرحمن المنجرة ومحمد عبد السلام الفاسى، وحج ولقى أعلاما واستفاد وأفاد، وأخذ عنه السلطان «سليمان» وحمدون بن الحاج، وعبد القادر الكوهن، وغيرهم كثير. له مؤلفات طيبة منها: (بهجة البصير فى شرح فرائض مختصر خليل) و (لوامع أنوار الكوكب الدري فى شرح همزية البوصيرى). و (تحصيل ما للأئمة الأعلام فى مسائل الحيازة الدائرة بين الحكام). أخذ عنه شيخنا ابن عجيبة علم الفرائض وكتاب التسهيل لابن مالك، وحصل منه على إجازة عامة «٢».
٧- العامة الصالح أبو عبد الله محمد بن علي الورزازي «٣» من شيوخ ابن عجيبة بتطوان ترجم له صاحب فهرس الفهارس قائلا: (الفقيه العلامة الحجة البركة العارف بالله). أخذ عنه شيخنا تلخيص المفتاح فى البيان، وجامع الجوامع فى الأصول، وقد حصل منه ابن عجيبة على إجازة مطلقة «٤» ولم تذكر المصادر تاريخ وفاته إلا أن إجازته لابن عجيبة مؤرخة فى سنة ١٢١٤ هـ.
عقيدة ابن عجيبة:
قيّض الله- عز وجل- لشيخنا له بيئة طيبة، نشأ فيها على عقائد أهل السنة والجماعة، فشيخنا سنى العقيدة، يؤمن بكل ما كان عليه السلف الصالح، ويبرأ من كل ما يخالف ما كانوا عليه. وفى أكثر من موضع من مؤلفاته يقرر رضى الله عنه: (أن أحسن المذاهب فى الاعتقاد هو مذهب السلف، من اعتقاد التنزيه، ونفى التشبيه، وتفويض المتشابه، والوقوف مع ما ورد كما ورد، ما لم يحتج إلى تقييد، بما ينفى شبهته من غير زائد) «٥».
(١) انظر: اليواقيت الثمنية للأزهرى/ ٢٥٤ سلوة الأنفاس ١/ ٢٠٤. شجرة النور/ ٣٧٤ أعلام الزركلى ٦/ ١٥. مخطوط أزهار البستان/ ٢١٩.
(٢) نص الإجازة فى الفهرسة ص/ ٣٦.
(٣) انظر فهرس الفهارس ٢/ ١١١٢.
(٤) نص الإجازة فى الفهرسة/ ٣٧.
(٥) الفتوحات الإلهية فى شرح المباحث الأصلية- ٨٣.
23
وفى تفسيره مواقف تبرز عقيدته السنية، ومن ذلك رده القوى على الفرق المخالفة، ودحض آرائهم، كلما عرضت مسألة من المسائل الخلافية، وإبراز رأى أهل السنة فيها.
وقد خص رضى الله عنه إحدى رسائله ببيان ما يدين به، وهى (رسالة العقائد)، ومن أقواله فى هذه الرسالة لأحد مريديه: (عليك أن تعتقد أن الله موجود قبل الأكوان، قديم لا أول له، أزلى لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له، أبدى لا نهاية له.. وأنه ليس بجسم مصور، ولا جوهر محدود مقدر، وأنه لا يماثل الأجسام، لا فى التقدير ولا فى قبول الانقسام، وأنه ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر، ولا بعرض، ولا تحله الأعراض، بل لا يماثل موجودا، ولا يماثله موجود، وليس كمثله شىء، ولا هو مثل شىء، وأنه لا يحده المقدار ولا تحويه الأنظار، ولا تحيط به الجهات. هو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شهيدٌ، لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذوات الأجسام، وأنه لا يحل فيه شىء، ولا يحل فيه شىء، تعالى عن أن يحويه مكان، كما تقدس عن أن يحده زمان..) «١» وفى قضية الاستواء على العرش يقول: (عليك أن تعتقد أن الله مستو على العرش، على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزها عن المماسة والاستقرار، والتمكن والحلول والاشتغال، لا يحمله العرش بل العرش، وحملته محمولون بلطائف قدرته، ومقهورون فى قبضته، وهو فوق العرش وفوق كل شىء) «٢».
تصوفه
بعد أن نال الشيخ ابن عجيبة الحظ الأوفر، والنصيب الأكبر من علوم عصره العقلية والنقلية، وحصّل منها ما جعله حائزا لرئاسة العلم فى بلاده، حبب إليه سلوك طريق التصوف، وواكب فى هذا الوقت ظهور حركة الشيخ العربي الدرقاوى، مجدد الطريق الشاذلى فى الألف الثاني، ووجد الشيخ ابن عجيبة فى الدرقاوى شيخا استجمع آداب الرائد المربى، فاتصل بالشيخ محمد البوزيدى الغمارى، التلميذ للشيخ الدرقاوى، وأخذ عنه الطريقة الدرقاوية الشاذلية. وقد عقد شيخنا رضى الله عنه فصلا كاملا فى فهرسته «٣»، سجل فيه تجربته الفريدة فى تصوفه ومجاهداته، وهى مجاهدات لا يطيقها إلا الصادقون المخلصون، وسرعان ما أثمرت مجاهداته المخلصة. وفاضت بحار علومه، وأشرقت فى صدره أنوار العرفان، ووقع له الفتح الكبير، والمدد الصافي الغزير.
وأعطى شيخنا مرتبة الإمامة والاقتداء، والتربية، والتكميل، وكان له فى ذلك باع طويل. يقول عنه الشيخ الكوهن: (كان نظره إكسيرا، إذا أتاه أو التقى معه من يعرفه، يرقيه فى ميدان حسنات الأبرار سيئات المقربين، حتى كثرت على يديه الأتباع والمريدون، وحصل لهم تنوير الباطن، ونالوا مقامات العارفين) «٤». ويقول عنه العسكري: (كان حجة الطائفة الدرقاوية مبينا لأحكامها، وناشرا لأعلامها، سبر على علومها حتى صار ينبوعا لشموسها، وأقمارها ونجومها) «٥».
(١، ٢) مخطوط رسالة العقائد ص ٨١- ٨٢.
(٣) انظر الفهرسة ص ٥٣ وما بعدها.
(٤) جامع الكرامات العلية- ١٦٣.
(٥) م. طبقات أصحاب الدرقاوى- ١٤٢.
24
ويقول الكوهن أيضا: (لقد نال ما نال وتكلم على أسرار أهل الكمال، فأبدى علوما غريبة، وأسرارا عجيبة، وأجمعت على ولايته أهل المغرب بأسرها،) «١» وفى موضع آخر يقول: (.. أعطى ناطقة أسرار أهل الله، وأدرك مقامات العارفين بربهم حتى عد قطب الزمان، وأوحد الأوان، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان..) «٢».
شيوخ ابن عجيبة في التصوف:
سلك ابن عجيبة الطريق الصوفي على يد رجلين:
الأول: الشيخ الدرقاوى «٣» : وهو (أبو المعالي العرب بن أحمد الحسنى) الشهير (بالدرقاوى) نسبة إلى جده محمد بن يوسف الملقب بأبى درقة (لدرقة كبيرة كانت له يتوقى بها فى الحروب). وصفه الكوهن (بقدوة أهل الكمال ومرشد السالكين إلى أعلى المقامات والأحوال، الإمام الهمام)، وحلّاه العسكري (بالعارف الأكبر، والقطب الأشهر) وقال عنه صاحب السلوة: (كان من العارفين بالله، الدالين بأقوالهم وأفعالهم وجميع أحوالهم على الله، جامعا لمحاسن الشيم والأخلاق). وقال عنه الأزهرى: (وكان آية فى المعرفة بالله) ولد رضى الله عنه عام «١٥٥٠ هـ» بقبيلة بنى زروال بشمال المغرب، واشتغل بقراءة العلم بفأس، ثم لقى الشيخ على الجمل وسلك على يديه.
أسس الطريقة الدرقاوية الشاذلية، وتخرج على يديه عدد لا يحصى من الشيوخ، أرباب التمكين والرسوخ، قال الشيخ (ابن سودة المري) : ما توفى مولانا العربي، حتى خلف نحوا من الأربعين ألف تلميذ، كلهم متأهلون للدلالة على الله سبحانه). توفى رحمه الله فى صفر الخير من عام ١٢٣٩ هـ وله من المؤلفات:
- الرسالة، وتسمى (بشور الهدية فى مذهب الصوفية) قال عنها ابن إدريس الكتاني: (رسائله نفعنا الله به من أنفع الرسائل للمريد، وأدلها على كيفية السلوك والتجريد، لا يستغنى عن مطالعتها سالك).
- جواهر القرطاس. - مناقب الشيخ على الجمل.
الثاني: الشيخ البوزيدى «٤» : هو «محمد بن الحبيب أحمد البوزيدي الحسنى» من قبيلة غمارة، بشمال المغرب، والتي ينتسب إليها أيضا. أبو الحسن الشاذلى، التقى بالدرقاوى، ولازمه مدة ست عشرة سنة، ويعد البوزيدى أقرب أتباع الدرقاوى إليه. كان رضى الله عنه أُميًّا لا يكتب ولا يقرأ، ومع ذلك أعطاه الله ما لا يخطر بالبال من العلوم والأسرار، وله كتاب «الآداب المرضية فى طريق الصوفية»، يقول الكوهن عن كتابه هذا «من يطلع عليه
(١، ٢) الحسن الكوهن، طبقات الشاذلية/ ٢٤٠.
(٣) انظر: فى ترجمته (مخطوط سلوة الأنفاس ١/ ١٧٢ اليواقيت الثمينة/ ٢٥٤ مخطوط، أصحاب الدرقاوى ص ٦١، طبقات الشاذلية/ ٢٠٣، الطريقة الشاذلية وأعلامها/ ١٢٩).
(٤) انظر فى ترجمته: طبقات الشاذلية للكوهن/ ٢٤٠، مخطوط أصحاب الدرقاوى/ ١٢٥، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي ١/ ٤٨.
25
يحكم بأن البوزيدى واحد الزمان، وشيخ أهل العرفان» وله أيضا القصيدة التائية فى السلوك، والتي شرحها تلميذه ابن عجيبة، توفى رحمه الله فى (١٢٢٩ هـ) ومقامه فى (مستغانم) من بلاد وهران بالجزائر.
تخرج على يديه عدد كثير من فضلاء أهل الله، يقول الكوهن: «ولو لم يكن من تلاميذه إلا سيدى ابن عجيبة الحسن لكفى. مع أنه تخرج من تلاميذه جملة فضلاء من أهل الله، لا يحصرهم عدد، كلهم على قدم المعرفة وفى غاية التمكى» ومن أقواله رضى الله عنه لاكرامة أعظم من الاستقامة ظاهرا وباطنا لأن الكرامات الحسية تكون عند استقامة الظاهر دون استقامة الباطن، أما بعد استقامة الباطن والظاهر، فلا يكون إلا الكرامات المعنوية، وكل من ظن أن الولاية شىء زائد على الاستقامة فهو جاهل بالولاية) «١».
على مثل هذه التعاليم نشأ شيخنا أو العباس، وبين الدرقاوى والبوزيدى عاش حياته الصوفية العملية، حتى فتح له على أيديها، ونال ما نالت الرجال، وفى ذلك يقول: (والله ما عرفنا قلوبنا ولا ذقنا حلاوة المعاني حتى صحبنا الرجال أهل المعاني) «٢».
ثناء العلماء عليه:
يحظى شيخنا فيما كتب عنه من تراجم بألقاب وأوصاف، تنم عن تقدير له، عرفان بفضله، وتشير إلى ما بلغه من مقام رفيع فى العلم، ومرتبة عالية فى المعرفة بالله، وتشهد بما رزقه الله من معارف إلهامية، أدهشت العقول وأثارت الإعجاب، فيصفه الكوهن فى جامع المرامات ب (الشريف الحسيب، قطب دائرة الولاية الكبرى، ومنبع أسرار أهل الحقيقة، شيخ الطريقين، وعمدة الفريقين، ولى الله الأكبر، وغوثه الأشهر، كان رضى الله عنه من أهل التمكين) «٣».
أما العسكري فيصفه ب (العلم المفرد، يتيمة هذا العقد، عديم النظير فى أمثاله. جبل النية والصحبة والصدق، وخرق العادات والسير الحميدة، الذي لا يوجد فى وقته من نسيج- والله- على منواله، مؤلف التآليف العديدة، ومقيد العلوم الغربية المفيدة، العالم العلامة، الصوفي المشارك، الفهامة العارف المحقق الجليل، الشيخ الكامل الجليل، الشريف البركة، ولى الله تعالى..) «٤».
وذكره الأزهرى فى (اليواقيت الثمينة فى أعيان مذهب عالم المدينة) وحلاه بقوله: (العالم الحجة الفهامة البارع الصوفي، الجامع بين الشريعة والحقيقة) «٥» كذلك ذكره مخلوف فى (شجرة النور الزكية فى طبقات المالكية)، وأعلى شأنه، ووصفه بقوله: (العلامة، المؤلف، المحقق، الفهامة، البارع، المدقق) «٦».
(١) إشكالية إصلاح الفكر ١/ ٤٩.
(٢) إيقاظ الهمم/ ٤١٣. [.....]
(٣) جامع الكرامات العلية ١٦٣.
(٤) مخطوط طبقات أصحاب الدرقاوى ورقة ١٤٢.
(٥) اليواقيت الثمينة ١/ ٧٠.
(٦) شجرة النور/ ٤٠٠.
26
مؤلفاته
يقول الكوهن عن مؤلفات ابن عجيبة: (تآليفه- عليها لوائح نفثات أهل المعرفة الكمّل، فإنه أعطى ناطقة أسرار أهل الله، وكلامه عال، أحل مشكلات القوم، وفك طلاسم أسرارهم، وتكلم بما أبهر عقول الأعيان) «١».
وقد ألف رضى الله عنه فى التفسير والحديث والفقه واللغة، أما أكثر مؤلفاته ففى التصوف. وتبلغ حصيلة ما كتبه ما يزيد على خمسة وأربعين تأليفا، بعضها كبير فى مجلدات، وبعضها متوسط، وبعضها صغير الحجم غزير العلم، وجل ذلك لا زال مخطوطا، لم يعرف نور الطباعة بعد.
وأورد فيما يلى ثبتا بأسماء مؤلفاته، مرتبة حسب الموضوع الرئيس للكتاب، مع تعريف موجز به، وأماكن وجوده، وتاريخ تأليفه، ما أمكن ذلك «٢».
أولا- التفسير والقراءات:
١- البحر المديد في تفسير القرآن المجيد. وسأفرد له الكلام فيما بعد.
٢- التفسير الكبير للفاتحة: يقع فى (٢٦٨) صفحة، وقد صنف هذا التفسير قبل تصنيفه للبحر المديد، كما هو واضح من كلامه، فى آخر تفسير الفاتحة الكبير، حيث قال: (ويتلو إن شاء الله تفسير سورة البقرة)، ولكن ناسخ المخطوطة قال فى تعقيبه: قد جعل صاحب هذا التفسير رضى الله عنه تفسيره هذا- أي: التفسير الكبير للفاتحة- تفسيرا مستقلا، ثم أنشأ تفسيرا آخر مختصرا، بنى عليه تفسيره (البحر المديد). وقد انتهى نسخه فى عام ١٢٣٣ هـ، على يد عبد الغفور بن التهامي.
٣- التفسير الوسيط للفاتحة: ذكر صاحب الإصلاح «٣» أنه يقع فى ١٧ صفحة، وتوجد منه نسخة تحت رقم (١٤٨ ك) خزانة الرباط، تم تحريرها سنة ١٢١٣ هـ.
٤- التفسير المختصر للفاتحة: توجد منه مخطوطة بدار الكتب المصرية، ويقع فى ورقتين، وانتهى ابن عجيبة منه فى يوم الثلاثاء، خامس ربيع الثاني سنة ١٢١٩ هـ.
٥- الدرر المتناثرة في توجيه القراءات المتواترة: وهو تأليف- كما قال ابن عجيبة- «٤» يشتمل على آداب القراءة، والتعريف بالشيوخ العشرة ورواتهم، وتوجيه قراءة كل واحد منهم، وفيه عشرون كراسة.
(١) الحسن الكوهن: جامع الكرامات العلية/ ١٦٤.
(٢) اعتمدت فى حصر مؤلفات الشيخ ابن عجيبة على المصادر الآتية: الفهرسة/ ٣٨- ٣٩، التصور والتصديق للشيخ أحمد الصديق/ ٢١، فهرس المخطوطات العربية المحفوظة فى الخزانة العامة بالمغرب (القسم الثالث، الجزء الأول)، الموسوعة المغربية للأعلام البشرية والحضارية، لعبد العزيز بن عبد الله (٢/ ٤٥، وما بعدها)، إصلاح الفكر الصوفي للأستاذ/ محمد الصغير (١/ ١٧٤- ١٨٤) فهرس المخطوطات بدار الكتب المصرية، فهرس معهد المخطوطات (٢/ ٤٥) (١/ ١٧٧).
(٣) إصلاح الفكر الصوفي ١/ ١٧٧.
(٤) الفهرسة/ ٣٨.
27
٦- الكشف والبيان في متشابه القرآن: قال العلامة داود- الذي وقف على أوراق من هذا الكتاب- إنه آخر كتاب ألفه ابن عجيبة، بناء على ما ذكره ناسخ المخطوط، ولذلك لم يتم تأليفه.
ثانيا- الحديث والأذكار النبوية:
٧- حاشية على الجامع الصغير للسيوطي: فرغ من تأليفها: أواسط شعبان عام ١٢٢٤ هـ، وتوجد منه نسخة خطية بالخزانة العامة بالمغرب، تحت رقم (١٨٣١ د) تم كتابتها فى عام ١٢٥١ هـ.
٨- أربعون حديثا في الأصول والفروع والرقائق: ذكره فى الفهرسة.
٩- الأنوار السنية في الأذكار النبوية: فرغ من تحريرها سنة ١٢٠٥ هـ ومنها مخطوطة بمكتبة تطوان تحت رقم ٨٥٣ م، ونسخة أخرى بالخزانة العامة بالمغرب تحت رقم (٢١٣٤ د).
١٠- الأدعية والأذكار الممحقة للذنوب والأوزار: فرغ من تحريرها سنة (١٢٢٢ هـ) ومنها مخطوطة بتطوان تحت رقم (٢٧٤ ق. م).
ثالثا- الفقه والعقائد:
١١- حاشية على مختصر خليل: ذكر ابن عجيبة أنه لم يتمه.
١٢- رسالة في العقائد والصلاة: منها مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت (مجاميع شنقيطى ٧/ ٤)، فرغ منها سنة (١١٩٩ هـ)، وهى رسالة صغيرة الحجم، لا تتعدى عشر صفحات، ولكنها غزيرة العلم.
١٣- تسهيل المدخل لتنمية الأعمال بالنية الصالحة عند الإقبال: وهو تأليف فى النية وأحكامها. فرغ منه سنة (١١٩٦ هـ) منه نسخة بتطوان تحت (٨٧٢ ق. م).
١٤- سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر: ألفه الشيخ زمن الوباء الذي اجتاح تطوان فى عام (١٢١٤ هـ) ويقع فى ٢٨ صفحة، وانتهى الشيخ من تأليفه: زوال يوم الجمعة، ثالث شوال (١٢١٤ هـ.) ومنه مخطوطة بالخزانة العامة بالمغرب تحت (١١٤٨ ك).
رابعا- اللغة:
١٥- الفتوحات القدوسية في شرح المقدمة الأجرومية: وهو مؤلف شرح فيه شيخنا مقدمة ابن آجروم النحوية، شرحا جمع فيه بين النحو والتصوف، فيذكر عبارة المؤلف، ويشرحها بمقتضى علم النحو ويتبعها بالمعنى
28
الإشارى، فيندهش القارئ- كما يقول العلّامة (عبد الله الصديق) «١» - لحسن تنزيل عبارة المتن على المعاني الصوفية، ويخيل إليه أن ابن آجروم، ألف مقدمته فى علم التصوف. توجد منه نسخة تحت رقم (٢٠٠٤ د/ ١: ق. م الخزانة العامة بالرباط، عدد صفحاتها (٢١٩) ووافق الفراغ من تأليفه بعد ظهر الإثنين (١٨ ربيع النبوي عام ١٢٢٣ هـ).
وقد قام الشيخ عبد القادر بن أحمد الكوهن، المتوفى بالمدينة عام (١٢٥٤ هـ) بتجريده مما يتعلق بالنحو، واقتصر على الإشارات الصوفية، وسماه: (منية الفقير المتجرد وسمير المريد المتفرد) وقد طبع هذا التجريد بإستانبول عام ١٣١٥ هـ.
خامسا- التراجم:
١٦- أزهار البستان في طبقات الأعيان: ذكره مخلوف فى شجرة النور تحت عنوان: (أزهار رياض الزمان فى طبقات الأعيان)، وذكره صاحب الإصلاح تحت عنوان: (أزهار البستان فى طبقات العلماء والصلحاء والأعيان)، وقد ترجم فيه الشيخ لأرباب المذاهب الفقهية، والتعريف بمشاهير أصحاب مذهب الإمام مالك، من زمانه إلى زمان ابن عجيبة، على ترتيب وجودهم، كل قرن على حدة، ثم أتبعهم بذكر النحويين والمحدثين وبعض الصوفية. وقد ذكر ابن عجيبة أنه لم يتمه رغم حجمه الكبير، وهو مؤلف جدير بالنشر، توجد منه نسخة مخطوطة فى خزانة الرباط تحت رقم (٢٨٦ ك) ومنه صورة فى معهد إحياء المخطوطات بالقاهرة، تحت رقم (١٣٥٢ تاريخ).
وقد استفدت كثيرا من هذه الصورة فى ترجمة بعض أساتذة المفسر، إلا أن كثيرا من صفحاتها فاسدة التصوير لا تقرا.
١٧- الفهرسة: وهى سيرة الشيخ الذاتية، انتهى من تنقيحها سنة (١٢٢٤ هـ) وإن كان قد بدأ تأليفها قبل ذلك بمدة. رأت نور الطباعة أول مرة باللغة الفرنسية، حيث ترجمها المستشرق الفرنسى المسلم «جان لوى ميشون»، ثم صدرت بمصر باللغة العربية سنة ١٩٩٠ م، بتحقيق د/ عبد الحميد صالح.
سادسا- التصوف:
١٨- الأنوار السنية في شرح القصيدة الهمزية: منها نسخة مخطوطة بتطوان تحت رقم (١٣١) وتتكون من (٢٣٠) صفحة، وفرغ من تأليفها عام (١١٩٩ هـ).
١٩- الفتوحات الإلهية في شرح المباحث الأصلية: وهو شرح كبير لمنظومة ابن البنا السرقسطي، فى آداب وقواعد الصوفية، فرغ من تبييضه أواسط رمضان سنة (١٢١١ هـ). وقد طبع الكتاب أكثر من مرة، آخرها طبعة عالم الفكر ١٩٨٣ م. بتحقيق الأستاذ عبد الرحمن حسن محمود.
(١) فى كتابه بدع التفاسير، ص ٢٢٢.
29
٢٠- اللوائح القدسية في شرح الوظيفة الزروقية: فرغ من تأليفها سنة (١١٩٦ هـ) ومنها نسخة مخطوطة تحت (٣٠١ م تطوان)، وفى الهيئة العامة للكتاب بمصر نسخة مخطوطة كتبت سنة (١٢٠٠ هـ) تحت رقم (٨١٦/ ١ م مجاميع) باسم اللوافح القدسية.
٢١- إيقاظ الهمم فى شرح الحكم: أشهر كتب الشيخ، وأشهر شروح حكم ابن عطاء الله، انتهى من تبييضه:
ثامن جمادى الأولى سنة (١٢١١ هـ) وقد طبع أكثر من مرة فى مصر وسوريا، ومنها طبعة دار المعارف بمصر سنة ١٩٨٥ م بمراجعة وتقديم محمد أحمد حسب الله.
٢٢- ديوان قصائد في التصوف: فيه ما يقرب من خمسمائة بيت، ما بين قصائد طويلة ومقطوعات، والديوان ملحق بكتاب الفهرسة المطبوع بتحقيق د/ عبد الحميد صالح.
٢٣- رسالة في ذم الغيبة ومدح العزلة والصمت: توجد منها نسخة مخطوطة بالهيئة العامة للكتاب بمصر تحت رقم (٣٢٩٩ ج) فرغ من تأليفها سنة (١١٩٨ هـ).
٢٤- شرح أسماء الله الحسنى: ذكرها ابن عجيبة فى فهرسته وقال: (أفردت لكل اسم بابا كما فعل القشيري فى التحبير، توجد منه نسخة خطية بخزانة القرويين تحت رقم (١٥١١).
٢٥- شرح بردة الأبوصيري: فرغ منه سنة (١٢٠٣ هـ)، وذكر العلامة داود، أنه يقع فى ٢٣٨ صفحة.
٢٦- شرح الحزب الكبير للشاذلي: منه نسخة مخطوطة بتطوان، ضمن مجموعة رقم (٣٠١)، ويقع فى ١٤٥ صفحة، وفرغ منه فى عام ١٢٠٠. هـ.
٢٧- شرح كتاب الحصن الحصين من كلام سيد المرسلين: لابن الجزري، المتوفى سنة ٧٣٩ هـ، ذكر ابن عجيبة أنه لم يكمله.
٢٨- شرح القصيدة الخمرية لابن الفارض: أولها: (شَرِبْنَا على ذِكْر الحبيبِ مدامة)، منه نسخة مخطوطة، بالخط المعتاد، بالهيئة العامة للكتاب بمصر ضمن مجموعة رقم (٣٢٩٩ ج)، وكان الفراغ من تبييضه: يوم الإثنين، أواسط رمضان سنة (١٢١٣ هـ).
٢٩- شرح القصيدة المنفرجة لابن النحوي: تاريخ التحرير (١٢٠١ هـ) مخطوطة تحت (٤٥٧/ ٦ م تطوان) ويقع فى ٤٠ صفحة) ٣٠- شرح القصيدة الهائية في التصوف للرفاعي:
وأولها:
30
منه نسخة مخطوطة تحت رقم (١٩٧٤ د/ ٩ ق) الرباط، فرغ منه عام (١٢١٣ هـ.)، ويقع فى ٣١ صفحة.
٣١- شرح الكواكب الدرية في مدح خير البرية: منه نسخة مخطوطة بدار الكتب المصرية تحت (١١١٧/ شعر تيمور).
٣٢- شرح تائية البوزيدي: منه نسخة تحت (١٧٣٦ د/ ١١ ق/ الرباط)، وأيضا تطوان (٨٤٥) ويقع فى ٩٥ صفحة، وفرع منه فى يوم الجمعة سادس عشر رمضان (١٢٢١ هـ) وأول القصيدة.
(يا من تعاظم حتّى رقّ معناه ولا تردّى رداء الكبر إلّا هو)
أيا من فى بهاء جماله وسرّ كماله وعزّ ورفعة.
٣٣- شرح آخر (مطول) علي تائية البوزيدي: كان الفراغ من تمامه صحوة: يوم الأربعاء ١٤ من ذى القعدة الحرام سنة (١٢٢٢ هـ) نسخه فى جمادى الأولى سنة (١٢٣٥ هـ.) على يد عبد الغفور التهامي. ويقع فى ١٢٥ صفحة.
٣٤- شرح على تائية الشيخ علي بن مسعود الجعيدي التطواني:
وأول القصيدة:
(بدأت باسم الله من بعد حمده على نعم لا تحصى جلت ودقت)
ألفه سنة (١١٩٦ هـ)، ويقع فى ٣٥ صفحة، كما ذكر صاحب الإصلاح، نقلا عن داود فى تاريخ تطوان.
٣٥- شرح رائية البوزيدي فى السلوك:
فرغ منه سنة (١٢١٤ هـ) كما ذكر صاحب الإصلاح، نقلا عن داود ويقع فى حوالى ٣٠ صفحة.
٣٦- شرح صلاة ابن العربي الحاتمي: منه نسخة خطية بمكتبة د/ حسن عباس زكى، ويقع فى عشر صفحات، وكان الفراغ من تبييضه: يوم الخميس خاتمة جمادى الأولى سنة (١٢١٩ هـ) وقد طبع هذا الشرح بالمغرب سنة ١٤٠٢ هـ.
٣٧- شرح صلاة عبد السلام بن مَشِيش: توجد نسخ منه تحت أرقام (١٧٣٦ د/ الرباط).
٣٨- شرح على أبيات (تَوَضَّأ بماءِ الغَيبِ إن كنت ذا سر) : المنسوبة للإمام الجنيد، وتنسب أيضا إلى الشيخ ابن عربى الحاتمي. منه نسخة خطية تحت رقم (١٧٣٦/ د الرباط) وهذا الشرح مثبت فى كتاب (إيقاظ الهمم فى شرح الحكم). ص ٤٥: ٤٨ ٣٩- شرح على مقطعة في محبة الله، للششتري: مطلع المقطعة: (صحّ عندى الخبر وسرى فى سرى) منه نسخة خطية بدار الكتب المصرية ضمن مجموعة رقم (٣٢٩٩ ج) فرع منها فى صفر ١٢١٤ هـ.
31
٤٠- شرح نظم ما يدل عليه لفظ الجلالة للششتري:
أوله:
ألف قبل لامين... وهاء قرة العين
منه نسخة خطية بالهيئة العامة للكتاب، ضمن مجموعة رقم (٣٢٩٩ ج). انتهى منه يوم الخميس أواسط صفر (١٢١٤ هـ).
٤١- شرح نونية الششتري:
مطلع القصيدة:
(أرى طالبا منّا الزيادة لا الحسنى... بفكر رمى سهما فعدّى به عدنا)
منه نسخة خطية بالرباط تحت رقم (١٧٣٦ د/ ٧) ويقع فى ٦٣ صفحة. فرغ منه الشيخ سنة (١٢٢٠ هـ).
٤٢- كشف النقاب عن سر لب الألباب:
فرغ من تبييضه فى (١٨ من ذى القعدة سنة ١٢١٩ هـ) يقع فى ٩ صفحات. منه نسخة خطية فى دار الكتب، ضمن مجموعة (٣٢٩٩/ ح)، كتبت سنة ١٣٣٥ هـ.
٤٣- معراج التشوف إلى حقائق التصوف: وهو فى مصطلحات الصوفية جمع فيه الشيخ نحوا من مائة مصطلح، وفصّل موضوعاتها، فرغ منه ١٢٢١ هـ، وقد طبع الكتاب فى دمشق عام ١٣٥٥ هـ ١٩٣٧ م بمطبعة الاعتدال، بتعليق محمد بن أحمد الحسنى، كما ترجمه المسيو (ج. ل. ميشون) إلى الفرنسية.
وفاته:
بعد عمر قضاه فى العلم والعمل، توفى الشيخ- رحمه الله- فى السابع من شوال سنة ١٢٢٤ هـ.
وكانت وفاته فى قبيلة (بنى سلمان) بغمارة، حيث كان ابن عجيبة فى زيارة لشيخه البوزيدى، فأصابه وباء الطاعون، فتوفى فى دار شيخه، متأثرا بهذا الوباء فغسله شيخه وصلى عليه ودفن بغمارة، ثم نقل إلى تطوان. ولئن وارى القبر جسده الطاهر الكريم، فما وارى علمه وفضله ومعارفه، فلمثل هذا فليعمل العاملون.
32
منهج ابن عجيبة فى التفسير
سار ابن عجيبة فى تفسيره على منهج واضح المعالم، فهو يبدأ فى تفسير السورة ببيان مكان نزولها، وعدد آياتها، ويذكر الاختلاف فى عدد الآيات- إن وجد- مع ذكر مناسبة السورة لما قبلها، وسبب نزولها، - إن وجد- وفضائلها، ومضمونها الإجمالى، ثم يشرع فى تفسير الآيات فيبدأ بالشرح اللغوي للكلمات الغريبة، ذاكرا الإعراب، ثم يبين المعنى المراد معتمدا فى ذلك على القرآن والأحاديث والآثار، وأقوال المفسرين المتقدمين.
وهذه أهم معالم منهج الإمام ابن عجيبة فى تفسيره بإيجاز:
١- تفسير القرآن بالقرآن:
ومن ذلك ما جاء عند تفسيره لقوله تعالى: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ.. «١» فينقل الشيخ- أن الكلمات التي تلقاها آدم هى قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «٢» ٢- القراءات:
اهتم الشيخ ابن عجيبة بذكر القراءات المختلفة فى الآية، مسجلا المعنى المترتب على ذلك، وهو فى أغلب ذلك ينسب القراءة لصاحبها، وأحيانا يغفل ذلك، فيبهم، ويقول: «وقرئ بكذا». كما أنه يذكر أحيانا بعض القراءات الشاذة.
٣- أسباب النزول:
من الواضح فى تفسير ابن عجيبة استناده إلى أسباب النزول، ليستعين بها على فهم الآيات. انظر ما ذكره عند تفسير قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ «٣»، وكذلك قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.. «٤» والأمثلة كثيرة جدا مما يجعل هذا التفسير من أمهات المراجع فى علم أسباب النزول.
٤- السنة والآثار:
اعتماد ابن عجيبة على السنة الشريفة فى تفسيره للقرآن الكريم سمة واضحة، ومن ذلك ما جاء عند تفسير قوله تعالى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ.. «٥» يستشهد الشيخ على أن إسماعيل عدّ من آباء يعقوب مع أنه عمه، بقوله صلى الله عليه وسلّم: «عَمُّ الرُجلِ صِنْوُ أبيه»، وقال في العباس: «هذا بقية آبائي».
كذلك جاء تفسير ابن عجيبة حافلا بنقل الأجلاء من الصحابة والتابعين- رضى الله عنهم-، وحين تتعدد الروايات عن الصحابة فى تفسير كلمة أو آية، فإنه يذكرها، ولا يرجح بعضها على بعض، أو يقدح فى شىء منها، وذلك إشارة منه إلى أن معنى الآية يحتمل جميع المعاني.
(١) الآية ٣٧ من سورة البقرة.
(٢) الآية ٢٣ من سورة الأعراف.
(٣) الآية ١٩٨ من سورة البقرة.
(٤) الآية ٢٠٤ من سورة البقرة.
(٥) الآية ١٣٣ من سورة البقرة. [.....]
33
والمتتبع لما أورده المفسر فى تفسيره من أحاديث وآثار يتبين:
- أن المفسر لا يلتزم غالبا بتخريج الأحاديث ونسبتها إلى مصادرها.
- من الأحاديث ما أدرجه فى سياق الكلام دون أن ينبه إلى أنه من السنّة.
- يكتفى أحيانا بالقول: وقد ثبت فى الصحيح. ويأتى بمعنى الحديث.
- يذكر أحيانا بعض الإسرائيليات، مثل ما ذكره عند تفسير قصة هاروت وماروت. وقد نقل الشيخ هذه الأخبار تأسيا بمن نقلها من المفسرين السابقين، وهو مقل منها بالنسبة لغيره، وما يذكره من ذلك يصدره غالبا بلفظ «روى» أو «قيل» مما يشعر بضعف الرواية، وبعدها عن الصحة، وحبذا خلوّ تفسيره من هذه الأخبار.
٥- اللغة والنحو: يلاحظ فى البحر المديد- عناية المفسر بالإعراب. وإذا كانت الآية تحتمل أوجها من الإعراب، فإنه يذكرها، ويذكر المعنى على اختلاف الأعاريب.
- كثيرا ما يتوسع المفسر فى الكلام على مسألة نحوية يوضح ويبين، ومن ذلك كلامه الذي عقده لبيان الفرق بين (بلى) و (نعم) عند تفسير قوله تعالى: بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً... ».
- عنايته ببيان معنى المفردات القرآنية.
- الاستشهاد بالشعر: اعتمد ابن عجيبة كثيرا على الشعر فى بيان المعاني اللغوية، مثل ما جاء عند تفسير قوله تعالى: وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ «٢». يقول الشيخ: والأسباب العهود والوُصَل التي كانت بينهم في الدنيا، يتوادُّون عليها، وأصل السبب: كل شيء يتوصل به إلى شيء، ومنه قيل للحبل الذي يُصعد به: سبب، وللطريق: سبب، قال الشاعر:
ومَنْ هَابَ أَسْبابَ المَنِيِّةِ يلْقَها... ولَوْ رَامَ أسباب السماء بسلم
ويلاحظ فى البحر المديد أن الشيخ يذكر النص الشعرى مجردا من اسم قائله، باستثناء بعض الأبيات.
٦- الفقه:
نلحظ أن الشيخ يتعرض للأحكام الفقهية، إذا مر فى تفسيره بآيات الأحكام، وهو فى ذلك.
- لا يكتفى غالبا بذكر رأى مذهبه المالكي، بل يقدم رأيا يخالف مذهبه، بناء على قوة الأدلة والحجج.
- أحيانا يكتفى برأى الإمام مالك، ولا يذكر رأى المذاهب الأخرى.
(١) الآية ٨١ من سورة البقرة.
(٢) الآية ١٦٦ من سورة البقرة.
34
مصادره فى التفسير:
تعد المصادر التي يعتمد عليها المفسر اللبنة الأولى لوضع تفسيره، وأهم مصادر الشيخ ابن عجيبة فى تفسيره هى:
- تفسير: أنوار التنزيل للإمام البيضاوي. - تفسير الكشف والبيان لأبى إسحاق الثعلبي.
- تفسير مدارك التنزيل لأبى البركات النسفي. - تفسير المحرر الوجيز للإمام ابن عطية.
- تفسير التسهيل لعلوم التنزيل لابن جزى الأندلسى. - تفسير إرشاد العقل السليم للعلامة أبى السعود.
- حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي، المسماة «نواهد الأبكار وشوارد الأفكار».
- حاشية أبى زيد الفاسى على تفسير الجلالين.
مصادره فى الحديث:
- صحيحا البخاري ومسلم. سنن أبى داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وغير ذلك من كتب السنن.
- شروح كتب السنة كفتح الباري، وشرح مختصر ابن جمرة وغيرهما
مصادره فى اللغة:
- الألفية، والكافية الشافية لابن مالك، والتسهيل لابن هشام.
- كتب معانى القرآن، ككتاب معانى للفراء والزجاج.
- كتب المعاجم كالصحاح للجوهرى والأساس للزمخشرى.
التفسير الإشارى
يعرف الشيخ الزرقانى التفسير الإشارى بأنه: (تأويل آيات القرآن بغير ظاهره، بإشارات خفية تظهر لأرباب السلوك والتصوف، ويمكن التطبيق بينها وبين الظاهر) «١».
مفاهيم القرآن لا تتناهى:
يرتكز السادة الصوفية فى ذكرهم لهذا الإشارات والأذواق على أن القرآن الكريم فيه أسرار لا تتناهى، ومعان لا تحد، وإشارات وراء الظاهر، يفتح الله بها على مَن يشاء من عباده، ببركة العمل بكتابه، فإنّ من عَمِلَ بِمَا عَلِمَ ورثه الله عَلْمَ ما لم يعلم. ومن المنقول عن الشيخ سهل بن عبد الله- رضى الله عنه- قوله: لو أعطى العبد لكل حرف من القرآن ألف فهم لما بلغ نهاية ما جعل الله فى آيةً من كتاب الله تعالى من الفهم لأنه كلام الله، وكلام الله صفته «٢». وكما أن صفات الله لا تتناهى، فكذلك مفاهيم كلماته لا تتناهى ولا يمكن أن يحيط بها مخلوق. قال تعالى: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ.. الآية «٣» كما
(١) مناهد العرفان ٢/ ٧٨.
(٢) انظر اللمع للطوسى/ ١٠٧.
(٣) الآية ٢٧ من سورة لقمان.
35
يستند الصوفية فى ذكرهم لهذا الإشارات إلى الحديث النبوي الشريف: «لكل آية ظهر وبطن ولكل حرف حد ولكل حد مطلع».
وتعددت أقوال العلماء فى معنى الظاهر والباطن «١» وكلها لا تشير إلى أن للقرآن حقيقتين، إحداهما ظاهرة، والأخرى باطنة، بل تعنى أن القرآن له حقيقة واحدة، ولكن هذه الحقيقة تتنوع وتختلف بالنسبة للناس. فالناس طبقات منهم الكافر الذي لا يزيده القرآن إلا خسارا، ومنهم المنافق الذي لا يزداد إلا مرضا، ومنهم المسلم الذي يواجه القرآن الفهم بسيط، ومنهم المؤمن الذي يقرأه بفكر دقيق ووعى عميق، ومنهم المحسن الذي يعبد الله كأنه يراه، فيقرأ القرآن كأنه يسمعه من ربه. وهناك من يقف عند ظاهر اللفظ، وهناك من يطلعه الله على ما تضمنه هذا الظاهر من أسرار وإشارات.
ولقد كان باطن اللفظ القرآنى المخزون فى ظاهر اللفظ شيئا معروفا لدى الصحابة، فى زمن الرسول، صلى الله عليه وسلّم، ومن ذلك: قصة سيدنا عمر بن الخطاب، مع سيدنا عبد الله بن عباس وجلة الصحابة- رضى الله عنهم أجمعين- فى سؤاله لهم تفسير سورة النصر، وفهم ابن عباس أن ذلك فيه إشارة إلى نعى الرسول- ﷺ «٢».
الفرق بين مذهب الباطنية ومذهب الصوفية:
فرق كبير جدا بين مذهب السادة الصوفية الراشدين، فى فهم إشارات القرآن، وبين ما يقول الباطنية، فالباطنية ومن والاهم يجعلون المراد من النص ليس لفظه الظاهر بمعناه القريب، ولكنهم يعتقدون أن المراد بالذات من النص إنما هو الإشارة التي ينطوى عليها النص، وبذلك تأولوا القرآن، واستخرجوا لأنفسهم أحكاما وعقائد ليست من الإسلام فى شىء على الإطلاق.
أما (السادة الصوفية فهم يعتقدون أن النص على ظاهره مرادا به حقيقته الظاهرة، ولا يحيلون كلام الله تعالى عن وجهه المجمع عليه من الأمة، ولكنهم يرون أن الله يفتح على بعض خواصه بأسرار ودقائق، تزيد على المفهوم العام من النص، ولا تتعارض معه، بل هى تؤيده، وتعتبر إضافة من شرائف المعاني التي تزيد من شرف الظاهر، فهى فتوحات، لا تبطل شيئا من الأمر والنهى، ولكنها تضفى عليه زينة وجمالا) «٣».
ولنستمع إلى صوت حجة الإسلام الغزالي فى هذا الشأن إذ يقول: (فالنقل والسماع لا بد منه فى ظاهر التفسير أولا، ليتقى به مواضع الغلط، ثم بعد ذلك يتسع التفهم والاستنباط... ولا يجوز التهاون بحفظ الظاهر أولا، ولا مطمع فى الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر فهو كمن يدعى البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب..) «٤».
(١) انظر فى بيان معانى الظاهر والباطن (تفسير الآلوسى ١/ ٧، التفسير والمفسرون للدكتور الذهبي ٢/ ٢٤٠)
(٢) أخرج القصة البخاري فى (التفسير، سورة وإذا جاء نصر الله والفتح).
(٣) مجلة المسلم عدد ربيع الأول عام ١٣٩٥ هـ. مقال «معالم التفسير الصوفي» للإمام الرائد محمد زكى إبراهيم.
(٤) إحياء علوم الدين ١/ ٣٤٣.
36
ويقول العلامة الآلوسى عند تفسير قوله تعالى: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ.. «١» ليس ما نحن فيه- أي:
التفسير الإشارى- من هذا القبيل- أي: من قبيل التفاسير الباطنية- كما يزعمه المحجوبون لأن ذلك إنما يكون بإنكار أن يكون الظاهر مرادا لله تعالى، وقصر مراده سبحانه على هذه التأويلات، ونحن نبرأ إلى الله عزَّ وجَلَّ من ذلك، فإنه كفر صريح، وإنما نقول: المراد هو الظاهر، وبه تعبد الله تعالى خلقه، لكن فيه إشارة إلى أشياء أخر لا يكاد يحيط بها نطاق الحصر، يوشك أن يكون ما ذكر بعضا منها) «٢». وسنقرأ فى مقدمة تفسير البحر المديد قول الشيخ ابن عجيبة (ولا يصح ذكره- أي التفسير الإشارى- إلا بعد تقرير الظاهر..).
هل الإشارات تفسير؟
التفسير بالمصطلح العلمي التقليدى لا يمكن تطبيقه على إشارات السادة الصوفية لأن الإشارات غير مرتبطة بالخط المنهجى للتفسير، والصوفي نفسه لا يقول بأن ما وقع له من مواجيد ومعان هو تفسير للقرآن، ولكنه قبس من إشراق، وفيض من فتح، لا يتعلق به حكم ولا يرتبط به واجب، ومن ثمّ فقد أطلق الصوفية على هذه المعاني (إشارات) كما فعل العلامة (ابن عجيبة) والعلامة الآلوسى. وإطلاق تسمية (التفسير) عليها يعتبر من قبيل العرف والمجاز. يقول الزركشي فى البرهان: (كلام الصوفية فى تفسير القرآن، قيل: إنه ليس بتفسير، وإنما هو معان ومواجيد يجدونها عند التلاوة) «٣».
الإشارات في البحر المديد:
أفصح الشيخ عن مراده من تفسيره حين قال: (مرادنا تربية اليقين بكلام رب العالمين). وقد بسط المفسر الحديث فى إشاراته عن آداب السلوك، والأخلاق، والمقامات، والثمرات، وقدّم لنا من خلال ذلك منهجا تربويا صوفيا إسلاميا متكاملا، يسلكه من أراد أن تصفو روحه، وتزكو نفسه، ويحيا قلبه بنور معرفة الحق تعالى.
- ويلاحظ أن الشيخ ابن عجيبة لا ينظر إلى الخطابات الواردة فى القرآن على أنها موجهة إلى أقوام مخصوصين فحسب، وإنما يرى مع ذلك أن الخطاب بهذه الآيات مازال قائما، يوجه إلى الإنسان في كُلَّ عصر وأوان، يقول الشيخ رضى الله عنه: (إذا توجَّه الخطاب إلى طائفة مخصوصة، حمله أهل الفهم عن الله على عمومه، فإن الملك إذا عاتب قوماً بمحضر آخرين كان المراد بذلك تحذير لكل سامع).
- والشيخ ابن عجيبة باعتباره صوفى يدعو إلى مقام الإحسان، فإن له قاعدة فى إشارته، يقول الشيخ عنها:
(اعلم أن قاعدة تفسير أهل الإشارة هي أن كل عتاب توجه لمن ترك طريق الإيمان، وأنكر على أهله، يتوجه مثله لمن ترك طريق مقام الإحسان، وأنكر على أهله).
(١) الآية ٤١ من سورة المائدة.
(٢) روح المعاني ٦/ ١٤٧.
(٣) راجع مناهل العرفان للزرقانى ٢/ ٧٨.
37
وهاكم بعض الأمثلة من إشارات الشيخ:
عند قوله تعالى وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ «١». يقول الشيخ فى إشارة الآية: اعلم أن كثيراً من الناس يعتمدون على صحبة الأولياء، ويُطلقون عنان أنفسهم في المعاصي والشهوات، ويقولون: سمعنا من سيدي فلان يقول: مَن رآنا لا تمسه النار، وهذا غلط وغرور، وقد قال عليه الصلاة والسلام لابنته: «يا فاطمةَ بنتَ مُحمَّد لا أُغْنِي عَنْكِ من الله شيئاً اشتر نفسك من الله» وقال للذي قال: ادع الله أن أكون رفيقك في الجنة، فقال له «أعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بكَثْرةِ السُّجُود».
وعند قوله تعالى: قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ «٢».
يقول الشيخ فى إشارة الآية: كل من أقامه الحقّ في وجهه، ووجهه إليها، فهو عامل لله فيها، قائم بمراد الله منها، وما اختلفت الأعمال إلا من جهة المقاصد، وما تفاوت الناس إلا من جهة الإخلاص، فالخلق كلهم عبيد للملك المجيد، وما وقع الاختصاص إلا من جهة الإخلاص، فمن كان أكثر إخلاصاً لله كان أولى من غيره بالله، وبقدر ما يقع للعبد من الصفاء يكون له من الاصطفاء، فالصوفية والعلماء والعباد والزهاد وأهل الأسباب على اختلاف أنواعهم، كلهم عاملون لله، ليس أحد منهم بأولى من غيره بالله، إلا من جهة الإخلاص وإفراد القلب لله. فمن ادعى الاختصاص بالله من غير هذه الوجهة فهو كاذب، ومن اعتمد على عمل غيره فهو مغرور، يقال له: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ.
وقد جاءت إشارات الإمام ابن عجيبة جامعة لدرر من المنظوم والمنثور، فقد ضمنها الشيخ أقوال مجموعة كبيرة من كبار الصوفية، كأبى يزيد البسطامي، والجنيد، والقشيري، والشاذلى، وأبى العباس المرسى، وابن عطاء السكندرى، وزروق، والدرقاوى، والبوزيدى، وغيرهم. كما أنه ذكر كثيرا من أشعارهم، كشعر ابن الفارض والجيلي والششترى، ونقل حكما كثيرة من حكم ابن عطاء السكندرى وغيره، كما نقل فى مواضع عديدة عن لطائف الإشارات للقشيرى، وعرائس البيان للشيرازى، وإحياء علوم الدين للغزالى، وغيث المواهب العلية لابن عباد، وبالتالى فقد حفل هذا التفسير بتراث جم من الفكر الصوفي.
(١) الآية ٨ من سورة البقرة.
(٢) الآية ١٣٩ من سورة البقرة. [.....]
38
وصف النسخ
اعتمدت فى التحقيق على ثلاث نسخ:
النسخة الأولى: محفوظة فى مكتبة السيد الفريق/ حسن التهامي. ومنها صورة بدار الكتب المصرية تحت رقم (٢٦٢٤٦) مصورات خارج الدار، وهى نسخة قيمة، وتقع فى (٢٠٠٩) صفحة. وتتكون من أربعة أجزاء كبيرة:
الأول: من أول مقدمة المفسر حتى آخر تفسير سورة الأنفال- ويقع فى (٥٢٠) صفحة، وسقطت من هذا الجزء ملزمة من تفسير سورة الأعراف من (ص ١٥٦) إلى (ص ١٨٧). ورقم ميكروفيلم هذا الجزء بدار الكتب:
(٤٣١٨٨).
الثاني: من أول تفسير سورة التوبة حتى آخر تفسير سورة المؤمنون. ويقع فى (٥٣٧) صفحة، ورقم ميكروفيلم هذا الجزء (٤٣١٨٥).
الثالث: من أول تفسير سورة النور حتى آخر تفسير سورة فصلت. ويقع فى (٤٥٤) صفحة ورقم الميكروفيلم (٤٣١٨٧).
الرابع: من أول تفسير سورة الشورى حتى تفسير سورة الناس. وعدد صفحاته (٤٩٨) ورقم الميكروفيلم (٤٣١٨٧).
وتعتبر هذه النسخة الأم لكل النسخ الأخرى، فقد كتبت فى عهد المفسر، وكان الفراغ من تبييضها كاملة فى:
السادس من ربيع الأول عام (١٢٢١ هـ). ووردت استدراكات على هامش هذه النسخة، مما يفيد أن الشيخ المفسر قد راجعها، وقد أدرجت هذه الاستدراكات فى صلب النسخ الأخرى.
وناسخ هذه المخطوطة هو الشيخ «عبد الغفور التهامي» ناسخ جل كتب الشيخ المفسر. والمخطوطة بخط مغربى حسن وواضح، ومقاس صفحتها ٢٠ ٣٠ سم. والصفحة تشتمل على ٣١ سطرا.
النسخة الثانية: محفوظة فى مكتبة الأستاذ الدكتور/ حسن عباس زكى. وتتكون من أربعة أجزاء كاملة.
الأول: من أول مقدمة المفسر حتى آخر تفسير سورة الأنعام، ويقع فى ٤٢٩ صفحة.
الثاني: من أول تفسير سورة الأعراف حتى آخر تفسير سورة الكهف. ويقع فى ٤١٨ صفحة.
الثالث: من أول تفسير سورة مريم حتى آخر تفسير سورة الصافات. ويقع فى ٤١١ صفحة.
الرابع: من أول تفسير سورة «ص» حتى آخر سورة الناس. ويقع فى ٤٩٠ صفحة.
39
وهذه النسخة أقل وضوحا من النسخة الأولى. وقد تعددت فيها مواطن التحريف وسقوط الكلمات، وغير ذلك من تصحيف وتحريف.
النسخة الثالثة: محفوظة فى دار الكتب المصرية تحت رقم (٥٤١) تفسير تيمور، وتتكون من أربعة أجزاء، إلا أن الجزء الرابع غير كامل.
الجزء الأول: من أول مقدمة المفسر حتى تفسير قوله تعالى: مَّا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ..
الآية ١٤٧ من سورة النساء. ويقع هذا الجزء فى (٢٤١) لوحة، وكل لوحة تشتمل على صفحتين. ورقم ميكرو فيلم هذا الجزء بدار الكتب (٢٧٢٨٦).
الجزء الثاني: أوله: تفسير قوله تعالى: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ.. الآية ١٤٨ من سورة النساء، وآخره:
تفسير قوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى.. الآيتان ٩١- ٩٢ من سورة التوبة، ويقع هذا الجزء فى (٢٠٠) لوحة. ورقم الميكروفيلم (٣٨٠٦٦).
الجزء الثالث: أوله تفسير قوله تعالى: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ.. الآية ٩٣ من سورة التوبة. وآخره: آخر تفسير سورة الكهف ويقع فى (٢٤٧) لوحة. ورقم الميكروفيلم (٣٧٢٨٦).
الجزء الرابع: أوله: تفسير قوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ.. الآية ٤٦ من سورة العنكبوت إلى آخر سورة الصافات. ثم من أول سورة الشورى، حتى تفسير قوله تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الآية ٩ من سورة الزخرف. وبين هذا الجزء وبين سابقه سقط كبير وملازم مفقودة.
ويقع الموجود من هذا الجزء فى (١٦١) لوحة. ورقم الميكروفيلم (٢٩١٧٢) ونسخت هذه المخطوطة عام (١٢٩٩ هـ)، ومقاس صفحتها ١٢ ١٨ سم، والصفحة تشتمل على ٢٨ سطرا. وكتبت بخط مغربى. كما كتبت الآيات وأسماء الأعلام بلون مخالف. لم يظهر فى التصوير. وهذه النسخة مثل سابقتها فى تعدد مواطن التحريف والنقص والتصحيف.
40
منهج التحقيق
(١) اعتمدت فى التحقيق على ثلاث نسخ. وبعد دراستها، والتزام المقابلة بينها جميعا بكل دقة، اعتمدت النسخة المحفوظة بمكتبة السيد الفريق/ حسن التهامي أصلا، وذلك للاعتبارين الآتيين:
- أنها نسخة المؤلف. - أنها أكثر النسخ ضبطا ودقة ووضوحا وتماما.
ومن ثم حررت النص، بحيث يظهر على صورة مطابقة للنسخة المذكورة.
(٢) تغاضيت عن الإشارة إلى الفروق الموجودة فى النسخ الأخرى، كالسقط والتصحيف، وذلك لئلا أثقل الكتاب بكثرة الهوامش التي لا ضرورة لها، ولئلا يتضخم حجم الكتاب. أما الفروق الجوهرية فأشرت إليها، وهى قليلة جدا.
(٣) حرصت أشد الحرص على تدبر النص، مستعينا بأصول المؤلف ومصادره فى تفسيره. ونبهت فى الهامش على ما إذا كان النقل بالمعنى، أو كان هناك اختلاف فى بعض العبارات.
(٤) راعيت إثبات قراءة حفص فى الهامش، فى كل موضع جاءت القراءة فيه على غير هذه القراءة، مع تخريج القراءات من مصادرها.
(٥) بداية من المجلد الثاني خرّجت الآيات القرآنية، بإرجاعها إلى سورها، وذكر أرقامها فى تلك السور كما عملت على تخريج ما أومأ إليه المفسر من آيات، وحرصت على ذكر نص الآيات بالهامش.
(٦) بداية من المجلد الثاني خرّجت الأحاديث النبوية والآثار، بإرجاعها إلى مصادرها. فإن كان الحديث فى الصحيحين أو أحدهما اقتصرت عليه، وإن كان فى غيرها توسعت فى التخريج قدر الإمكان، ونبهت إلى النص الأصلى للحديث، كلما كان إيراده بالمعنى. كما عزوت أسباب النزول إلى مظانها، من كتب الحديث وكتب التفسير الأخرى، كالطبرى والبغوي والدر المنثور للسيوطى.
(٧) ضبطت بالشكل ما يشتبه من الألفاظ والأسماء وغيرها.
(٨) شرحت بعض الألفاظ بالرجوع إلى معاجم اللغة المشهورة.
(٩) علّقت باختصار على بعض المسائل التي تحتاج إلى تعليق.
(١٠) وزعت النص توزيعا فنيا، ييسر الاطلاع عليه والانتفاع منه.
(١١) أثبت فى أعلى كل صفحة اسم السورة، ورقم الآية، ورقم الجزء، تيسيرا للاستفادة، وتوفيرا للوقت على القارئ، عند البحث عن تفسير آية معينة.
41
ولا يفوتنى فى هذا المقام أن أذكر: أنه ولا بد وأن يوجد فى هذا العمل بعض النقص والهفوات، التي يسبق إليها القلم، أو يذهل عنها الفكر، والكمال لله وحده.
وأسأل الله أن يتقبل هذا العمل، ويجعله خالصا لوجهه الكريم، وأن يثيبنى عليه بما يثيب به عباده الصالحين... والحمد لله رب العالمين.
أحمد عبد الله القرشي رسلان المدرس المساعد بقسم التفسير بكلية أصول الدين- بطنطا جامعة الأزهر بنها فى ٢٧- رمضان- ١٤١٩ هـ
42
الصفة الأولى من المجلد الأول، من النسخة المحفوظة بمكتبة السيد/ حسن التهامي «مصورات خارج الدار بالهيئة العامة للكتاب تحت رقم ٢٢٦٢٤٦»
43
الصفحة الأخيرة من المجلد الرابع، من النسخة المحفوظة بمكتبة السيد/ حسن التهامي
44
الصفحة الأولى من المجلد الأول، من النسخة المحفوظة بمكتبة الدكتور/ حسن عباس زكى
45
اللوحة الأولى من المجلد الأول، من النسخة التيمورية
46
الصفحة الأخيرة من المجلد الرابع، من النسخة المحفوظة بمكتبة الدكتور/ حسن عباس زكى
47
بسم الله الرحمن الرحيم (وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلّم) قال الشيخ الإمام الحبر الهمام، العارف الرباني والقطب الصمداني، قدوة السالكين ومنار الواصلين، بحر العرفان، ومشرق شمس العيان، مهيع الطريقة، الجامع بين الشريعة وبحر الحقيقة، أبو العباس أحمد بن محمد بن عجيبة الحسنى- رضى الله عنه وأرضاه- آمين:
نحمدك يا من تجلّى لعباده فى كلامه، بكمال بهائه وجماله، وفتق ألسنة العلماء النحارير لاستخراج درره ولآلئه، وفجّر قلوبهم بينابيع الحكم المؤيدة بأصوله ومبانيه، واستفادوا عند غوصهم فى تياره من فرائده ومثانيه، فدحضوا بآياته الباهرة، وحججه الظاهرة القاهرة شبه من يناويه ويعانيه، والكلّ معترف بالتقصير، مغترف على حسب الفهم والتيسير، من بحر أسراره ومعانيه، فهو البحر الطام الذي لا يدرك له قعر، والروض المونق الذي لا يعدم منه زهر ولا نور، وكيف لا، وهو كلام مولانا العالم بالخفيات، وبما كان وما هو الآن وما هو آت؟!.
والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد، مظهر الرحمات، المبعوث بخوارق العادات ولوامع البينات، وعلى آله وأصحابه أولى النّدى والسماحة، وجبال اليقين فى اشتداد الأزمات وتفاقم المعضلات.
وبعد... فإن علم تفسير القرآن من أجلّ العلوم، وأفضل ما ينفق فيه نتائج الأفكار وقرائح الفهوم، ولكن لا يتقدم لهذا الخطر الكبير إلا العالم النّحرير، الذي رسخت أقدامه فى العلوم الظاهرة، وجالت أفكاره فى معانى القرآن الباهرة، بعد أن تضلّع من العلم الظاهر، عربية وتصريفا ولغة وبيانا، وفقها وحديثا وتاريخا، يكون أخذ ذلك من أفواه الرجال، ثم غاص فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما، بصحبة أهل الأذواق من أهل الكمال، وإلا فسكوته عن هذا الأمر العظيم أسلم، واشتغاله بما يقدر عليه من علم الشريعة الظاهرة أتم.
واعلم أن القرآن العظيم له ظاهر لأهل الظاهر، وباطن لأهل الباطن، وتفسير أهل الباطن لا يذوقه إلا أهل الباطن، لا يفهمه غيرهم ولا يذوقه سواهم، ولا يصح ذكره إلا بعد تقرير الظاهر، ثم يشير إلى علم الباطن بعبارة رقيقة وإشارة دقيقة، فمن لم يبلغ فهمه لذوق تلك الأسرار فليسلّم، ولا يبادر بالإنكار فإنّ علم الأذواق من وراء طور العقول، ولا يدرك بتواتر النقول.
قال في لطائف المنن: اعلم أن تفسير هذه الطائفة- يعنى الصوفية- لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم بالمعاني الغريبة ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكن ظاهر الآية مفهوم منه ما جاءت الآية له ودلت عليه فى حرف اللسان،
49
وثمّ أفهام باطنة تفهم عند الآية والحديث لمن فتح الله قلبه، وقد جاء أنه- عليه الصلاة والسلام- قال: «لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحدّ ومُطلع». فلا يصدّنك عن تلقى المعاني الغريبة منهم أن يقول لك ذو جدل ومعارضة: هذا إحالة لكلام الله- عزّ وجل- وكلام رسوله صلى الله عليه وسلّم فليس بإحالة، وإنما يكون إحالة لكلام الله لو قالوا: لا معنى للآية إلا هذا، وهم لا يقولون ذلك. بل يقرّون الظواهر على ظواهرها ومراداتها وموضوعاتها، ويفهمون عن الله ما أفهمهم. هـ.
وقال سعد الدين فى شرح عقائد النسفي- بعد إبطال الإلحاد-: (وأمّا ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها، ومع ذلك ففيها إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة، فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان) وقوله: يمكن التطبيق... إلخ، أي: يمكن أن يشار إليها فى باطن الخطاب بحيث لا ينبو عنها سرّ الخطاب، ولا يبعد اللفظ عنها كل البعد حتى يكون تحريفا.
وقال الشيخ زرّوق رضى الله عنه: نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ليس إلا وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه. وإلّا فهو باطني خارج عن الشريعة فضلا عن المتصوفة. والله أعلم. هـ.
وقوله عليه الصلاة والسلام: «لِكلِّ آيةٍ ظَاهرٌ وبَاطِنٌ وحدّ ومُطلع» فالظاهر لمن اعتنى بظاهر اللفظ، كالنحاة وأهل اللغة والتصريف، والباطن لمن اعتنى بمعنى اللفظ، وما دلّ عليه الكلام من الأمر والنهى والقصص والأخبار والتوحيد، وغير ذلك من علوم القرآن، وهو نظر المفسرين. والحدّ لمن اعتنى باستنباط الأحكام منه، وهم الفقهاء، فهم ينتهون إلى ما يدل عليه اللفظ وسيق لأجله، دون زيادة عليه. والمطّلع لأهل الحقائق من أكابر الصوفية، لأنهم يطلعون من ظاهر الآية إلى باطنها، فيكشف لهم عن أسرار وعلوم وغوامض، تتجلى لهم عند استعمال الفكرة فيها.
قال فى الصّحاح: فى الحديث: «من هول المطّلع»، شبّه ما أشرف عليه من أمر الآخرة بالمطّلع وهو المأتى.
يقال: أين مطلع هذا الأمر؟ أي: مأتاه، وهو موضع الاطلاع من إشراف إلى انحدار. هـ لأن أهل الحقائق يشرفون من ظاهر الآية إلى أسرار باطنها، ويغوصون فى لجج بحرها. والله تعالى أعلم.
هذا... وقد ندبنى شيخى العارف الرباني سيدي محمد البوزيدي الحسني، وكذلك شيخه القطب الجامع شيخ المشايخ مولاي العربي الدرقاوي الحسني، أن أضع تفسيرا يكون جامعا بين تفسير أهل الظاهر وإشارة أهل الباطن، فأجبت سؤالهم وأسعفت طلبتهم، رجاء أن يعمّ به الانتفاع، ويكون ممتعا للقلوب والأسماع. مقدّما في كل آية ما يتعلق بمهمّ العربية واللغة، ثم بمعاني الألفاظ الظاهرة، ثم بالإشارات الباطنة. متوسطا فى ذلك بين الإطناب
50
والاختصار. منتظرا فى ذلك كله ما يفتح علىّ من خزائن الكريم الغفار.. وسميته (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) نسأل الله أن يكسوه جلباب القبول، وأن يبلغ فيه القصد المأمول، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
وقد ذكرت في تفسير الفاتحة الكبير عشر مقدمات تتعلق بأصول العلوم وتفاريعها، وعلوم القرآن وأصل منابعها، فلينظرها من أرادها. وبالله التوفيق.
51
Icon