تفسير سورة طه

نظم الدرر
تفسير سورة سورة طه من كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور المعروف بـنظم الدرر .
لمؤلفه برهان الدين البقاعي . المتوفي سنة 885 هـ
سورة طه١
عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم
مقصودها الإعلام بإمهال المدعوين [ والحلم عنهم -٢ ]والترفق بهم إلى أن يكونوا أكثر الأمم زيادة في شرف داعيهم صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا المقصد الشريف دل اسمها بطريق الرمز والإشارة، لتبين أهل الفطنة والبصارة. وذلك بما في أولها من الحروف المقطعة، وذلك أنه لما كان ختام سورة مريم حاملا على الخوف من أن تهلك أمته صلى الله عليه وسلم قبل ظهور أمره الذي أمره الله به واشتهار دعوته، لقلة من آمن به منهم، ابتدأه سبحانه بالطاء إشارة بمخرجها الذي هو من رأس اللسان وأصول الثنيتين العلييين إلى قوة أمره وانتشاره وعلوه وكثرة أتباعه، لأن هذا المخرج أكثر المخارج حروفا، وأشدها حركة، وأوسعها انتشارا، وبما فيها من صفات٣ الجهر والإطباق والاستعلاء وأوسعها والقلقلة إلى انقلاب ما هو فيه من الأسرار جهرا، وما هو فيه من الرقة فخامة، لأنها من حروف التفخيم وأنه يستعلى أمره، وينتشر ذكره، حتى يطبق جميع الوجود / ويقلقل٤ سائر الأمم، ولكن يكون ذلك – بما تشير إليه الهاء بمخرجها من أقصى الحلق – على [ حد - ٥ ] بعده من طرف اللسان مع طول كبير وتماد كثير، وبما فيها من صفات الهمس والرخاوة والانفتاح والاستفال والخفاء مع مخافته وضعف كبير، وهدوء وخفاء عظيم، ومقاساة شدائد كبار، مع نوع فخامة واشتهار، وهو وإن كان اشتهارا يسيرا يغلب هذا الضعف [ كله وإن كان قويا شديدا. وقراءة الإمالة للهاء تشير إلى شدة الضعف-٦ ] وقراءة التفخيم – وهي لأكثر القراء – مشيرة إلى فخامة القدر وقوة الأمر٧، بما لها من الانفتاح وإن رئي أنه٨ ليس كذلك " إنه ليخافه ملك بني الأصفر٩ " وإن كان معنى الحرفين : يا رجل، فهو إشارة إلى قوته وعلو قدره، وفخامة ذكره، وانتشار أتباعه وعموم أمره، وإن كانا إشارة إلى وطئ الأرض فهو إلاحة إلى١٠ قوة التمكن وعظيم القدرة وبعد الصيت حتى تصير١١ كلها ملكا له ولأتباعه، وملكا لأمرائه وأشياعه – والله أعلم. وذكر ابن الفرات١٢ في تاريخه أن هجرة الحبشة كانت في السنة الثامنة١٣ من المبعث فالظاهر – على ما يأتي في إسلام عمر رضي الله عنه – أن نزول هذه السورة أو أولها كان قرب هجرة الحبشة، فيكون سبحانه قد رمز له صلى الله عليه وسلم على ما هو ألذ في محادثة الأحباب، من صريح الخطاب بعدد مسمى الطاء١٤ إلى أن وهن الكفار – [ الوهن - ١٥ ] الشديد – يقع في السنة التاسعة من نزولها، وذلك في [ غزوة بدر الموعد في سنة أربع من الهجرة، وبعدد اسمها إلى ان الفتح الأول يكون في السنة الحادية عشرة من نزولها، وذلك في -١٦ ] عمرة الحديبية في ذي القعدة سنة ست من الهجرة عند نزول سورة الفتح، ، ورمز له بعدد مسمى الهاء إلى أن مبدأ النصرة بالهجرة في السنة الخامسة من نزولها، وبعدد اسمها إلى ان نصره بالفعل يقع في السنة السابعة من نزولها، وذلك في غزوة بدر الكبرى في السنة الثانية من الهجرة، وبعدد حرفي اسمها١٧ لا بعدد اسميهما إلى انه في السنة الثالثة عشرة من نزولها يكون بفتح الأكبر بالاستعلاء على مكة المشرفة التي كان سببا قريبا للاستعلاء على جميع الأرض، وذلك في أواخرها في رمضان سنة ثمان من الهجرة، وكان تمامه بفتح الطائف بإرسال وفدهم وإسلامهم وهدم طاغيتهم في سنة تسع، وهي السنة الرابعة عشرة، وبعدد اسميهما١٨ إلى ان تطبيق أكثر الأرض بالإسلام يكون في السنة الثامنة عشرة من نزولها، وذلك بخلافة عمر رضي الله عنه في السنة الثالثة عشرة من الهجرة – والله أعلم ( بسم١٩ ) الواسع الحلم التام القدرة ٢٠( الله ) الملك الأعظم٢١ ( الرحمان )الذي استوى في أصل نعمته جميع خلقه ( الرحيم ) الذي أتم النعمة على أهل توفيقه ولطفه.
١ العشرون من سورة القرآن مكية وآياتها – كما قال الداني: مائة وأربعون آية شامى وخمس وثلاثون كوفي، وأربع حجازي، وآيتان بصري – راجع روح المعاني ٥ / ٢١٨..
٢ زيد من ظ ومد..
٣ من ظ ومد: وفي الأصل: صفة..
٤ من ظ ومد وفي الأصل: تقليل..
٥ زيد من ظ ومد..
٦ زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد..
٧ من ظ ومد وفي الأصل: القدر..
٨ بهامش ظ: أي أن الأمر..
٩ أي الروم – كما في اللسان..
١٠ سقط من ظ..
١١ في مد: تكون..
١٢ هو محمد بن عبد الرحيم ابن علي ابن الحسن المصري المتوفي سنة ٨٠٧ ه راجع معجم المؤلفين ١٠ / ١٥٩..
١٣ من ظ ومد، وفي الأصل: الثانية..
١٤ بهامش ظ: أعني الحرف الأول منها والاسم الطاء مشتمل على ط ومد وهمزة فظهر أن المسمى الأول..
١٥ زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد..
١٦. زيد ما بين الحاجزين من ظ ومد..
١٧ بهامش ظ أي السورة..
١٨ بهامش ظ: أي الحرفين..
١٩ زيد في ظ: الله..
٢٠ سقط ما بين الرقمين من ظ..
٢١ سقط ما بين الرقمين من ظ.

﴿طه*﴾ أي تخلص بالغ من كل ما يخشى وظهر عظيم وطيب منتشر في كل قطر إلى نهاية الوطن الذي هو التاسع، ممن له الإحاطة التامة بكل غيب، وإليه يرجع الأمر كله، كما اجتمعت أسماؤه كلها في غيب هو الذي جعل العزة للمهتدين والهدى للمتقين.
هذه السورة والتي قبلها من أقدم السور المكية، قال هشام في تهذيب السيرة: قال ابن اسحاق: حدثني محمد بن مسلم الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام المخزومي عن أم سلمة بنت أم أمية بن المغيرة زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: قالت: لما نزلنا بأرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تبارك وتعالى لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا بينهم. فذكر إرسالهم إليه بهدايا ليردهم إليه، وأن بطارقته كلموه في ذلك، وأنه أبى حتى يسمع كلامهم، وأنه طلبهم فأجمع أمرهم على أن يقولوا الحق كائناً فيه ما كان، فدخلوا وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله فقال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم به
258
قومكم ولم تدخلوا به في دين أحد من هذه الملل. قالت: فكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه فقال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم. وقذف المحصنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. قالت: فعدد عليه أمور الإسلام. فصدقناه وآمنا به، فعدا علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان. فلما قهرونا وظلمونا خرجنا إلى بلادك، واخترناك على من سواك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك! فقال له النجاشي: هل معك مما جاء به عن الله شيء؟ فقال له جعفر: نعم! فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ فقرأ عليه صدراً من كهيعص، فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا
259
عليهم؛ ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة، ثم ذكر تأمينه لهم ورد هدايا قريش ورسلهم خائبين. وقال ابن هشام: وقال ابن إسحاق: فحدثني عبد الرحمن بن الحارث بن عبد الله بن عياش بن أبي ربيعة عن عبد العزيز بن عبد الله بن عامر بن ربيعة عن أمه أم عبد الله بنت أبي حثمة رضي الله عنها قالت: والله! إنا لنترحل إلى أرض الحبشة وقد ذهب عامر رضي الله عنه في بعض حاجاتنا إذ أقبل عمر بن الخطاب حتى وقف عليّ وهو على شركه، وكنا نلقى منه البلاء أذى لنا وشدة علينا، فقال: إنه الانطلاق يا أم عبد الله؟ قلت: نعم! والله لنخرجن في أرض الله، آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً، فقال: صحبكم الله، ورأيت له رقة لم أكن أراها، ثم انصرف وقد أحزنه فيما أرى خروجنا، فجاء عامر رضي الله عنه بحاجته تلك فقلت له: يا أبا عبد الله! لو رأيت عمر آنفاً ورقته وحزنه علينا! قال: أطمعت في إسلامه؟ قلت: نعم! قال: لايسلم الذي رأيت حتى يسلم حمار الخطاب.
يأساً منه. لما كان يرى من غلظته وقسوته عن الإسلام، قال ابن إسحاق: وكان إسلام عمر فيما بلغني أن أخته فاطمة بنت الخطاب، وكانت عند سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل رضي الله عنهم، وكانت قد أسلمت وأسلم زوجها سعيد بن زيد وهم مستخفون بإسلامهم من عمر، وكان نعيم بن عبد الله بن النحام. رجل من قومه بني عدي بن كعب. قد أسلم رضي الله عنه،
260
وكان أيضاً يستخفي بإسلامه فرقاً من قومه، وكان خباب بن الأرت رضي الله عنه يختلف إلى فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها يقرئها القرآن، فخرج عمر يوماً متوشحاً بسيفه يريد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ورهطاً من أصحابه رضي الله عنهم قد ذكروا له أنهم قد اجتمعوا في بيت عند الصفا وهم قريب من أربعين ما بين رجال ونساء، ومع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عمه حمزة بن عبد المطلب وأبو بكر بن أبي قحافة الصديق وعلي بن أبي طالب في رجال من المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ممن كان أقام مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة ولم يخرج فيمن خرج إلى أرض الحبشة، فلقيه نعيم بن عبد الله رضي الله عنه فقال: أين تريد يا عمر؟ قال أريد محمداً هذا الصابىء الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها وعاب دينها وسب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم رضي الله عنه: والله! لقد غرتك نفسك من نفسك ياعمر! أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً! أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم؟ قال: وأيّ أهل بيتي؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد بن عمرو وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمداً على دينه فعليك بهما فرجع عمر عامداً إلى أخته وختنه وعندهما خباب بن الأرت رضي الله عنه وعنهما، معه صحيفة فيها طه يقرئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر تغيب
261
خباب بن الأرت رضي الله عنه في مخدع لهم أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب رضي الله عنها الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر حين دنا من البيت قراءة خباب عليهما، فلما دخل قال: ما هذه الهينمة التي سمعت؟ قالا له: ما سمعت شيئاً؟ قال: بلى! والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه، وبطش بختنه سعيد بن زيد رضي الله عنه فقامت إليه أخته فاطمة بنت الخطاب لتكفه عن زوجها فضربها فشجها، فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه رضي الله عنهما: نعم! قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك! فلما رأى عمر ما بأخته من الدم ندم على ما صنع فارعوى وقال لأخته: أعطيني هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرؤون آنفاً أنظر ما هذا الذي جاء به محمد؟ وكان عمر كاتباً، فلما قال ذلك قالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال: لاتخافي، وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها إليها، فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت: يا أخي! إنك نجس على شركك، وإنه لا يمسها إلا الطاهر، فقام عمر فاغتسل فأعطته الصحيفة وفيها طه فقرأها، فلما قرأ منها صدراً قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع ذلك خباب رضي الله عنه خرج إليه فقال له: يا عمر! والله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فإني سمعته أمس وهو يقول: اللهم! أيد الإسلام بأبي الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطاب فالله الله يا عمر! فقال له عمر عند ذلك: فدلني
262
يا خباب على محمد حتى آتيه فأسلم، فقال له خباب: هو في بيت عند الصفا، معه فيه نفر من أصحابه، فأخذ عمر سيفه فتوحشه ثم عمد إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه فضرب عليهم الباب، فلما سمعوا صوته قام رجل من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر من خلال الباب فرآه متوحشاً السيف فرجع إلى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو فزع فقال: يا رسول الله! هذا عمر بن الخطاب متوحشاً السيف! فقال حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه: فأذن له، فإن كان جاء يريد خيراً بذلناه له، وإن كان جاء يريد شراً قتلناه بسيفه، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ائذن له، فأذن له الرجل ونهض إليه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى لقيه في الحجرة فأخذ بحجزته أو بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال: ما جاء بك يا ابن الخطاب! فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة، فقال عمر: يا رسول الله! جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله، فكبر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تكبيرة عرف أهل البيت من أصحاب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن عمر قد أسلم، فتفرق أصحاب الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكانهم، وقد عزّوا في أنفسهم حين أسلم عمر بن الخطاب مع إسلام حمزة رضي الله عنهما، وعرفوا أنهما سيمنعان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وينتصفون
263
بهما من عدوهم، فهذا حديث الرواة من أهل المدينة عن أسلام عمر رضي الله عنه حين أسلم.
وكان إسلام عمر بعد إسلام حمزة رضي الله عنهما بثلاثة أيام، كما ثبت ذلك في حاشية شرح العقائد عن فوائد تمام الرازي، وصفوة الصفوة لابن الجوزي؛ قال ابن هشام: قال ابن إسحاق: وحدثني نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: لما أسلم عمر قال: أي قريش أنقل للحديث؟ قال: قيل له: جميل بن معمر الجمحي، فغدا عليه، قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: وغدوت أتبع أثره وأنظر ما يفعل وأنا غلام أعقل كل ما رأيت حتى جاءه فقال له: أعلمت يا جميل أني أسلمت ودخلت في دين محمد؟ قال: فوالله ما راجعه حتى قام يجر رداءه. واتبعه عمر رضي الله عنه واتبعت أبي حتى إذا قام على باب المسجد صرخ بأعلى صوته: يا معشر قريش! وهم في أنديتهم حول الكعبة. ألا! إن ابن الخطاب قد صبأ قال: يقول عمر رضي الله عنه من خلفه: كذب ولكني قد أسلمت وشهدت أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على روؤسهم قال: وطلح فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم، فأحلف
264
بالله أن لو كنا ثلاثمائة رجل لقد تركناها أو تركتموها لنا، قال: فبينما هو على ذلك إذ أقبل شيخ من قريش عليه حلة حبرة وقميص موشى حتى وقف عليهم فقال: ما شأنكم؟ قالوا: صبأ عمر، قال: فمه! رجل اختار لنفسه أمراً فماذا تريدون؟ أترون بني عدي بن كعب يسلمون لكم صاحبهم؟ هكذا عن الرجل! قال: فوالله لكأنما كانوا ثوباً كشط عنه. وفي الروض الأنف للامام أبي القاسم السهيلي أن يونس روى عن ابن إسحاق أن عمر قال حين أسلم رضي الله عنه:
الحمد لله ذي المن الذي وجبت له علينا أياد ما لها غير
وقد بدأنا فكذبنا فقال لنا صدق الحديث نبي عنده الخبر
وقد ظلمت ابنة الخطاب ثم هدى ربي عشية قالوا قد صبا عمر
وقد ندمت على ما كان من زلل بظلمها حين تتلى عندها السور
لما دعت ربها ذا العرش جاهدة والدمع من عينها عجلان يبتدر
أيقنت أن الذي تدعوه خالقها فكاد يسبقني من عبرة درر
فقلت أشهد أن الله خالقنا وأن أحمد فينا اليوم مشتهر
نبي صدق أتى بالحق من ثقة وافى الأمانة ما في عوده خور
إذا تقرر هذا، علم أن المقصود من السورة - كما تقدم - تشريف
265
هذا النبي الكريم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإعلامه بالرفق بأمته، والإقبال بقلوبهم حتى يملؤوا الأرض كثرة، كما أنزل عليهم السكينة وهم في غاية الضعف والقلة، وحماهم ممن يريد قتلهم، ولين قلب عمر رضي الله عنه بعد ما كان فيه من الغلظة وجعله وزيراً، ثم حماه بعدوه، وتأمينه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يستأصلوا بعذاب، وبأنه يموت نبيهم قبلهم لا كما وقع للمهلكين من قوم نوح وهود عليهما السلام ومن بعدهم - بما دل عليه افتتاح هذه بنفي الشقاء وختم تلك بجعل الود وغير ذلك، والداعي إلى هذا التأمين أنه سبحانه لما ختم تلك بإهلاك القرون وإبادة الأمم بعد إنذار القوم اللد، ولم يختم سورة من السور الماضية بمثل ذلك، كان ربما أفهم أنه قد انقضت مدتهم، وحل بوارهم، وأتى دمارهم، وأنه لا يؤمن منهم - لما هم فيه من اللد - إلا من قد آمن، فحصل بذلك من الغم والحزن ما لا يعلم قدره إلا الله، لأن الأمر كان في ابتدائه، ولم يسلم منهم إلا نفر يسير جداً، فسكن سبحانه الروع بقوله: ﴿ما أنزلنا﴾ بعظمتنا ﴿عليك﴾ أي وأنت أعلم الخلق ﴿القرآن﴾ أي أعظم الكتب، الجامع لكل خير، والدافع لكل ضير، الذي يسرناه بلسانك ﴿لتشقى*﴾ أي بتعب قلبك بكونك من أقل المرسلين تابعاً بعد استئصال قومك وشقائهم بإنذارك ﴿إلا﴾ أي لكن أنزلناه
266
﴿تذكرة﴾ أي تذكيراً عظيماً ﴿لمن يخشى*﴾ ممن أشرنا في آخر التي قبلها إلى بشارته إيماء إلى أنه سيكون فيهم من المتقين من تناسب كثرته إعجاز هذا القرآن ودوامه، وما فيه من الجمع المشار إليه بالتعبير بالقرآن لجميع ما في الكتب السالفة من الأحكام أصولاً وفروعاً، والمواعظ والرقائق، والمعارف والآداب، وأخبار الأولين والآخرين، ومصالح الدارين، وزيادته عليها بما شاء الله، لأن كثرة الأمة على قدر جلالة الكتاب، والتعبير عن «لكن» بالإشارة إلى أنه يمكن أن يكون من باب:
ولاعيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب
وأشار بالمصدر الجاري على غير الفعل في قوله: ﴿تنزيلاً﴾ إلى أنه يتمهل عليهم ترفقاً بهم، ولا ينزل هذا القرآن إلا تدريجاً، إزالة لشبههم، وشرحاً لصدورهم، وتسكيناً لنفوسهم، ومداً لمدة البركة فيهم بتردد الملائكة الكرام إليهم، كما أنه لم يهلكهم بمعاصيهم اكتفاء ببينة ما في الصحف الأولى، بل أرسل إليهم رسولاً لئلا يقولوا: ربنا لولا - كما اقتضته حكمته وتمت به كلمته، ولما كان رجوعهم إلى الدين على ما يشاهد منهم من الشدة والأنفة والشماخة التي سماهم الله بها قوماً لدّاً في غاية البعد، شرع سبحانه يذكر بقدرته إشارة إلى أن القلوب بيده يقلبها كيف شاء كما صورها كيف شاء، وأن شأنه الرفق والأناة، فقال ملتفتاً من التكلم إلى الغيبة ليدل على ما اقتضته النون من العظمة
267
مقدماً ما اقتضى الحال تقديمه من سكن المدعوين المعتنى بتذكرتهم وهداية أريد منهم: ﴿ممن خلق الأرض﴾ المنخفضة.
ولما قدم الأرض إعلاماً بالاعتناء برحمها بالترفق بسكانها ليملأها بالإيمان منهم تحقيقاً لمقصود السورة تشريفاً للمنزل عليه، أتبعها محل الإنزال على سبيل الترقي من بيت العزة إلى ما كنزه في خزانة العرش فقال: ﴿والسماوات العلى*﴾ في ستة أيام، ولو شاء كانتا في لحظة.
ولما كان القادر قد لايكون ملكاً، قال دالاًّ على ملكه مادحاً له بالقطع خبراً لمبتدأ محذوف: ﴿الرحمن﴾ مفتتحاً بالوصف المفيض للنعم العامة للطائع والعاصي؛ ثم ذكر خبراً ثانياً دالاً على عموم الرحمة فقال: ﴿على العرش﴾ الحاوي لذلك كله ﴿استوى*﴾ أي أخذ في تدبير ذلك منفرداً، فخاطب العباد بما يفهمونه من قولهم: فلان استوى، أي جلس معتدلاً على سرير الملك، فانفرد بتدبيره وإن لم يكن هناك سرير ولا كون عليه أصلاً، هذا روح هذه العبارة، كما أن روح قوله عليه الصلاة والسلام الذي رواه مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما «القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبها كيف شاء» أنه سبحانه وتعالى عظيم القدرة على ذلك، وهو عليه يسير خفيف كخفته على من هذا
268
الحالة، وليس المراد أن هناك إصبعاً أصلاً - نبه على ذلك حجة الإسلام الغزالي، ومنه أخذ الزمخشري أن يد فلان مبسوطة كناية عن جواد وإن لم يكن هناك بد ولا بسط أصلاً.
ولما كان الملك قد لا يكون مالكاً، قال مقدماً الأشرف على العادة: ﴿له ما في السماوات﴾ أي كله من عاقل وغيره ﴿وما في الأرض﴾ جميعه ﴿وما بينهما﴾ أي السماوات والأرض ﴿وما تحت الثرى*﴾ وهو التراب النديّ، سواء قلنا: إنه آخر العالم فما تحته العدم المحض أم لا؟ فبكون تحته النور أو الحوت أو غيرهما.
269
ولما كان الملك لا ينتظم غاية الانتظام إلا بإحاطة العلم، وكان الملك من الآدميين قد لا يعلم أحوال أقصى ملكه كما يعلم أحوال أدناه لا سيما إذا كان واسعاً ولذلك يختل بعض أمره، اعلم أنه سبحانه بخلاف ذلك، فقال حثاً على مراقبته والإخلاص له: ﴿وإن تجهر بالقول﴾ أي بهذا القرآن للبشارة والنذارة أو لغير ذلك أو بغيره، فإنه علام به وغير محتاج إلى الجهر، فلا يتكلف ذلك في غير ما أمرت بالجهر به لغرض غير الإسماع ﴿فإنه يعلم السر﴾ وهو ما يناجي به الاثنان مخافتة ﴿وأخفى*﴾ من ذلك، وهو ما في الضمائر مما تخيلته الأفكار ولم يبرز إلى الخارج
269
وغيره من الغيب الذي لم يعلمه غيره تعالى بوجه من الوجوه، ومنه ما سيكون من الضمائر. ولما كان من هو بهذه الأوصاف من تمام العلم والقدرة ربما ظن أن له منازعاً، نفى ذلك بقوله معلماً أن هذا الظن باطل قطعاً لا شبهة له وأن ما مضى ينتج قطعاً: ﴿الله﴾ مفتتحاً بالاسم الأعظم الحاوي لصفات الكبر وغيرها ﴿لا إله إلا هو﴾ ثم علل ذلك بقوله: ﴿له﴾ أي وحده ﴿الأسماء الحسنى*﴾ أي صفات الكمال التي لا يصح ولا يتصور أن يشوبها نقص ما، بل هو متصف بها دائماً اتصافاً حقيقياً لا يمكن انفكاكه، كما يكون لغيره من الاتصاف ببعض المحاسن في بعض الأحايين ثم يعجز عنه في وقت آخر أو بالنسبة إلى زمان آخر.
ولما أتبع ذلك قصة موسى عليه السلام مصدرة باستفهام مقترن بواو عطف، وأرشد ذلك إلى أن المعنى: هل تعلم له سمياً، أي متصفاً بأوصافه أو بشيء منها له بذلك الوصف مثل فعله، ولما كان الجواب قطعاً: لا، ثبت أن لا متصف بشيء من أوصافه، فعطف على هذا المقدر قصة موسى عليه السلام، ويكون التقدير: هل علمت بما ذكرناك به في هذه الآيات أنا نريد ما هو علينا يسير بما لنا من القدرة التامة والعلم الشامل من إسعادك في الدارين تكثير أجرك، وتفخيم أمرك، بتكثير
270
أتباعك، وعطف عليه القصة شاهداً محسوساً على ما له من الاتصاف بما انتفى عن غيره من الأسماء الحسنى، ولاسيما ما ذكر هنا من الاتصاف بتمام القدرة والتفرد بالعظمة، وأنه يعلي هذا المصطفى بإنزال هذا الذكر عليه وإيصاله منه إليه النصرة على الملوك وسائر الأضداد، والتمكين في أقطار البلاد، وكثرة الأتباع، وإعزاز الأنصار والوزراء والأشياع، وغير ذلك بمقدار ما بين ابتداء أمرهما من التفاوت، فإن ابتداء أمر موسى عليه السلام أنه أتى النار ليُقبس أهله منها ناراً أو يجد عندها هدى.
فمنح بذلك من هدى الدارين والنصرة على الأعداء كما سيقص هنا ما منح، وهذا النبي الكريم كان ابتداء أمره أنه يذهب إلى غار حراء فيتعبد الليالي ذوات العدد، ويتزود لذلك اجتذاباً من الحق له قبل النبوة بمدد، تدريباً له وتقوية لقلبه، فأتته النبوة وهو في مضمارها سائر، وإلى أوجها بعزمه صائر بل طائر، وموسى عليه السلام رأى حين أتته النبوة آية العصا واليد، ومحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان قبل النبوة لا يمر بحجر ولا شجر إلا سلم عليه، كما أسنده ابن إسحاق في السيرة. وروى مسلم وغيره عن جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
271
قال: «إني لأعرف حجراً كان يسلم عليَّ قبل أن أبعث» فقال تعالى مقرراً تنبيهاً على أنه يذكر له منه ما يكفي في تسليته وتقوية قلبه، وتبكيت اليهود الذين توقفوا في أمره صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغشوا قريشاً حين تكلفوا طيّ شقة البين إليهم ورضوا بقولهم لهم وعليهم ليكون فائدة الاستفهام أن يفرغ أذنه الشريفة للسماع وقلبه للوعي العظيم: ﴿وهل أتاك﴾ أي يا أشرف الخلق! ﴿حديث موسى*﴾ نادباً إلى التأسي بموسى عليه السلام في تحمل أعباء النبوة وتكليف الرسالة والصبر على مقامات الشدائد، وشارحاً بذكر ما في هذه السورة من سياق قصة ما أجمل منها في سورة مريم، ومقرراً بما نظمه في أساليبها ما تقدم أنه مقصد السورة من أنه يسعده ولا يشقيه، ويعزه على جميع شانئيه بإعزازه على أهل بلده بعد إخراجهم له، كما أعز موسى عليه السلام من خرج من بلادهم خائفاً يترقب، ترغيباً في الهجرة ثالثاً بعد ما رغب فيها أولاً بقصة أصحاب الكهف وثانياً بقصة أبيه إبراهيم عليه السلام، وأنه يعلي قومه على جميع أهل الأرض، وينقذهم به بعد ضعفهم من كل شدة ويغني فقرهم ويجعلهم ملوك الأرض، يذل بهم الجبابرة، ويهلك من علم شقاوته منهم كما فعل بقوم موسى، وأشار بإنجاء موسى عليه السلام على
272
يد عدوه وإلقائه المحبة عليه وهداية السحرة دون فرعون وقومه، وعبادة بني إسرائيل العجل بعد ما رأوا من الآيات والنعم والنقم، ثم رجوعهم عنها إلى عظيم قدرته على التصرف في القلوب لمن كان يبخع نفسه لكفرهم بهذا الحديث أسفاً، وكذا ما في قصة آدم عليه السلام من قوله ﴿فنسي ولم نجد له عزماً﴾ [طه: ١١٥] وقوله ﴿ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى﴾ [طه: ١٢٢] ولعله أشار بقوله ﴿واحلل عقدة من لساني﴾ [طه: ٢٧] إلى ما أنعم الله به عليه من تيسير هذا الذكر بلسانه، وأرشد بدعاء موسى عليه السلام بشرح الصدر وتيسير الأمر وطلب وزيراً من أهله إلى الدعاء بمثل ذلك حتى دعا المنزل عليه هذا القرآن بأن يؤيد الله الدين بأحد الرجلين، فأيده بأعظم وزير: عمر بن الخطاب رضي الله عنه - كما مضى هذا إلى تمام ما اشتمل عليه سياق قصة موسى عليه السلام هنا، إتماماً لتبكيت اليهود على تعليمهم قريشاً أن يسألوا النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الروح، وما ذكر معها من دقائق، من أمر قصة نبيهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لا يعلمها أحد منهم أو إلا حذّاقهم، منها أن الموعد كان يوم الزينة، ومنها إيمان السحرة إيماناً كاملاً، ومنها التهديد بتصليبهم في جذوع النخل، ومنها إلقاء السامري لأثر الرسول، فإني لم أر أحداً من اليهود يعرف ذلك، وأخبرني بعض فضلائهم أنه لا ذكر لذلك عندهم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير في برهانه: لما ذكر سبحانه قصة إبراهيم عليه السلام وما منحه وأعطاه، وقصص الأنبياء بعده بما خصهم به،
273
وأعقب ذلك بقوله تعالى ﴿أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم﴾ [مريم: ٥٨] وكان ظاهر الكلام تخصيص هؤلاء بهذه المناصب العلية، والدرجات المنفية الجليلة لا سيما وقد اتبع ذلك بقوله ﴿فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً﴾ [مريم: ٥٩] كان هذا مظنة إشفاق وخوف فاتبعه تعالى بملاطفة نبيه محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملاطفة المحبوب المقرب المجتبى فقال ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ وأيضاً فقد ختمت سورة مريم يقوله ﴿وكم أهلكنا قبلهم من قرن هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً﴾ بعد قوله ﴿وتنذر به قوماً لداً﴾ وقد رأى عليه الصلاة والسلام من تأخر قريش عن الإسلام ولددها ما أوجب إشفاقه وخوفه عليهم. ولا شك أنه عليه الصلاة والسلام يحزنه تأخير إيمانهم، ولذلك قيل له ﴿فلا تحزن عليهم﴾ فكأنه عليه الصلاة والسلام ظن أنه يستصعب المقصود من استجابتهم، أو ينقطع الرجاء من إنابتهم فيطول العناء والمشقة، فبشره سبحانه وتعالى بقوله: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ فلا عليك من لدد هؤلاء وتوقفهم، فيستجيب من انطوى على الخشية إذا ذكر وحرك إلى النظر في آيات الله كما قيل له في موضع آخر ﴿فلا يحزنك قولهم﴾ [يونس: ٦٥] ثم تبع ذلك سبحانه تعريفاً وتأنيساً بقوله ﴿الرحمن على العرش استوى﴾ إلى أول قصص موسى عليه السلام، فأعلم سبحانه أن الكل خلقه ملكه، وتحت قهره وقبضته لا يشذ شيء عن ملكه.
274
فإذا شاهد آية من وفقه لم يصعب أمره، ثم اتبع ذلك بقصة موسى عليه السلام، وما كان منه في إلقائه صغيراً في اليم، وما جرى بعد ذلك من عجيب الصنع وهلاك فرعون وظهور بني إسرائيل، وكل هذا مما يؤكد القصد المتقدم، وهذا الوجه الثاني أولى من الأول - والله أعلم، انتهى. ﴿إذ﴾ أي حديثه حين ﴿رأى ناراً﴾ وهو راجع من بلاد مدين ﴿فقال لأهله امكثوا﴾ أي مكانكم واتركوا ما أنتم عليه من السير؛ ثم علل أمره بقوله: ﴿إني ءانست﴾ أي أبصرت في هذا الظلام إبصاراً بيناً لا شبهة فيه من إنسان العين الذي تبين به الأشياء، وهو مع ذلك مما يسر من الإنس الذين هم ظاهرون ما ترك بهم ﴿ناراً﴾ فكأنه قيل، فكان ماذا؟ فقال معبراً بأداة الترجي لتخصيصه الخبر الذي عبر به في النمل بالهدى: ﴿لعلي ءاتيكم﴾ أي أترجى أن أجيئكم ﴿منها بقبس﴾ أي بشعلة من النار في رأس حطبة فيها جمرة تعين على برد هذه الليلة ﴿أو أجد على﴾ مكان ﴿النار هدى*﴾ أي ما أهتدي به لأن الطريق كانت قد خفيت عليهم ﴿فلما أتاها﴾.
ولما كان في الإبهام ثم تعيين تشويق ثم تعظيم، بنى للمفعول قوله: ﴿نودي﴾ من الهدى الذي لا هدى غيره؛ ثم بين النداء بقوله:
275
﴿يا موسى*﴾ ولما كان المقام للتعريف بالأيادي تلطفاً، قال مؤكداً، تنبيهاً له على تعرف أنه كلامه سبحانه من جهة أنه يسمعه من غير جهة معينة وعلى غير الهيئة التي عهدها في مكالمة المخلوقين، مسقطاً الجار في قراءة ابن كثير وأبي عمرو وأبي حفص بالفتح، وحاكياً بقول مقدر عند الباقين: ﴿إني أنا ربك﴾ أي المحسن إليك بالخلق والرزق وغيرهما من مصالح الدارين ﴿فاخلع نعليك﴾ كما يفعل بحضرات الملوك أدباً، ولتنالك بركتها ولتكون مهيأً للإقامة غير ملتفت إلى ما وراءك من الأهل والولد، ولهذا قال أهل العبارة: النعل يدل على الولد.
ثم علل بما يرشد إلى أنه تعالى لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان فقال: ﴿إنك بالواد المقدس﴾ أي المطهر عن كل ما لا يليق بأفنية الملوك؛ ثم فسره بقوله: ﴿طوى*﴾ ولما كان المعنى: فإني اخترته تشريفاً له من بين البقاع لمناجاتك، عطف عليه قوله: ﴿وأنا اخترتك﴾ أي للنبوة ﴿فاستمع﴾ أي أنصت ملقياً سمعك معملاً قلبك للسماع ﴿لما﴾ أي اخترتك للذي، وقدم استمع اهتماماً به ﴿يوحى*﴾ أي يقال لك مني سراً مستوراً عن غيرك سماعه وإن كان في غاية الجهر، كما يفعل الحبيب مع حبيبه من صيانة حديثهما عن ثالث
276
بما يجعل له من الخلوة إعلاماً بعلو قدره وفخامة أمره؛ ثم فسر الموحى بأول الواجبات وهو معرفة الله تعالى؛ فقال مؤكداً لعظم الخبر وخروجه عن العادات: ﴿إنني أنا الله﴾ فذكر الاسم العلم لأن هذا مقامه إذ الأنسب للملطوف به - بعد التعرف إليه بالإكرام - الإقامة في مقام الجلال والجمال.
ولما كان هذا الاسم العلم جامعاً لجميع معاني الأسماء الحسنى التي علت عن أن يتصف بها أو بشيء منها حق الاتصاف غيره تعالى، حسن تعقيبه بقوله: ﴿لا إله إلا أنا﴾ ولما تسبب عن ذلك وجوب إفراده بالعبادة، قال: ﴿فاعبدني﴾ أي وحدي: ثم خص من بين العبادات معدن الأنس والخلوة، وآية الخضوع والمراقبة وروح الدين فقال: ﴿وأقم الصلاة﴾ أي التي أضاعها خلوف السوء، إشارة إلى أنها المقصود بالذات من الدين، لأنها أعلى شرائعه لأنها حاملة على المراقبة، بما فيها من دوام الذكر والإعراض عن كل سوء، وذلك معنى ﴿لذكري*﴾ وذلك أنسب الأشياء لمقام الجلال، بل هي الجامعة لمظهري الجمال والجلال؛ ثم علل الأمر بالعبادة بأنه لم يخلق الخلق سدى، بل لا بد من إماتتهم، ثم بعثهم لإظهار العظمة ونصب موازين العدل، فقال مؤكداً لإنكارهم معبراً بما يدل على سهولة ذلك عليه جداً: ﴿إن الساعة ءاتية﴾ أي لاريب في إتيانها، فهي أعظم باعث على الطاعة.
277
ولما كان بيان حقيقة الشيء مع إخفاء شخصه ووقته وجميع أحواله موجباً في الغالب لنسيانه والإعراض عنه، فكان غير بعيد من إخفائه أصلاً ورأساً، قال مشيراً إلى هذا المعنى: ﴿أكاد أخفيها﴾ أي أقرب من أن أجدد إخفاءها، فلذا يكذب بها الكافر بلسانه والعاصي بعصيانه فالكافر لا يصدق بكونها والمؤمن لا يستعد غفلة عنها، فراقبني فإن الأمر يكون بغتة، ما من لحظة إلا وهي صالحة للترقب؛ ثم بين سبب الإتيان بها بقوله: ﴿لتجزى﴾ أي بأيسر أمر وأنفذه ﴿كل نفس﴾ كائنة من كانت ﴿بما تسعى*﴾ أي توجد من السعي في كل وقت كما يفعل من أمر ناساً بعمل من النظر في أعمالهم ومجازاة كل بما يستحق.
278
ولما كانت - لما تقدم - في حكم المنسي عند أغلب الناس قال: ﴿فلا يصدنك عنها﴾ أي إدامة ذكرها ليثمر التشمير في الاستعداد لها ﴿من لا يؤمن بها﴾ بإعراضه عنها وحمله غيره على ذلك بتزيينه بما أوتي من المتاع الموجب للمكاثرة المثمرة لامتلاء القلب بالمباهاة والمفاخرة، فإن من انصد عن ذلك غير بعيد الحال ممن كذب بها،
278
والمقصود من العبارة نهي موسى عليه السلام عن التكذيب، فعبر عنه بنهي من لا يؤمن عن الصد إجلالاً لموسى عليه السلام، ولأن صد الكافر عن التصديق سبب للتكذيب فذكر السبب ليدل على المسبب، ولأن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته فذكر المسبب ليدل على السبب، فكأنه قيل: كن شديد الشكيمة صليب المعجم، لئلا يطمع أحد في صدك وإن كان الصاد هم الجم الغفير، فإن كثرتهم تصل إلى الهوى لا إلى البرهان، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله نبه عليه الكشاف. ثم بين العلة في التكذيب بها والكسل عن التشمير لها بقوله: ﴿واتبع﴾ أي بغاية جهده ﴿هواه﴾ فكان حاله حال البهائم التي لا عقل لها، تنفيراً عن مثل حاله؛ ثم أعظم التحذير بقوله مسبباً: ﴿فتردى*﴾ أي فتهلك، إشارة إلى أن من ترك المراقبة لحظة حاد عن الدليل، ومن حاد عن الدليل هلك.
ولما كان المقام مرشداً إلى أن يقال: ما جوابك يا موسى عما سمعت؟ وكان تعالى عالماً بأنه يبادر إلى الجواب بالطاعة في كل ما تقدم، طوى هذا المقال مومئاً إليه بأن عطف عليه قوله: ﴿وما تلك﴾ أي العالية المقدار
279
﴿بيمينك يا موسى*﴾ مريداً - بعد تأنيسه بسؤاله عما هو أعلم به منه - إقامة البينة لديه بما يكون دليلاً على الساعة من سرعة القدرة على إيجاد ما لم يكن، بقلب العصا حية بعد تحقق أنها عصاه يقرب النظر إليها عند السؤال عنها ليزداد بذلك ثباتاً ويثبت من يرسل إليهم ﴿قال هي﴾ أي ظاهراً وباطناً ﴿عصاي﴾ ثم وصل به مستأنساً بلذيذ المخاطبة قوله بياناً لمنافعها خوفاً من الأمر بإلقائها كالنعل: ﴿أتوكأ﴾ أي أعتمد وأرتفق وأتمكن ﴿عليها﴾ أي إذا أعييت أو أعرض لي ما يحوجني إلى ذلك من زلق أو هبوط أو صعود أو طفرة أو ظلام ونحو ذلك؛ ثم ثنى بعد مصلحة نفسه بأمر رعيته فقال: ﴿وأهشُّ﴾ أي أخبط الورق، قال ابن كثير: قال عبد الرحمن بن القاسم عن الإمام مالك: والهش أن يضع الرجب المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ولا يخبط فهذا الهش، قال: وكذا قال ميمون بن مهران، وقال أبو حيان: والأصل في هذه المادة الرخاوة.
يقال: رجل هش. ﴿بها على غنمي﴾.
ولما كان أكمل أهل ذلك الزمان، خاف التطويل على الملك فقطع على نفسه ما هو فيه من لذة المخاطبة كما قيل: اجلس على
280
البساط وإياك والانبساط، وطمعاً في سماع كلامه سبحانه وتعالى، فقال مجملاً: ﴿ولي فيها مآرب﴾ أي حوائج ومنافع يفهمها الألبّاء. ولما كان المحدث عنه لايعقل، وأخبر عنه بحمع كثرة، كان الأنسب معاملته معاملة الواحدة المؤنثة فقال: ﴿أخرى*﴾ تاركاً للتفصيل، فكأنه قيل: فماذا قيل له؟ فقيل: ﴿قال ألقها﴾ أي العصا، وأنسه بقوله سبحانه وتعالى: ﴿يا موسى * فألقاها﴾ أي فتسبب عن هذا الأمر المطاع أنه ألقاها ولم يتلعثم ﴿فإذا هي﴾ أي في الحال ظاهراً وباطناً ﴿حية﴾ عظيمة جداً يطلق عليها لعظمعا بنهاية أمرها اسم الثعبان، والحية اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير ﴿تسعى*﴾ سعياً خفيفاً يطلق عليها لأجله في أول أمرها اسم الجان، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها صارت حية صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورم حتى صارت ثعباناً - انتهى. فهي في عظم الثعبان وسرعة الجان.
ولما كان ذلك أمراً مخيفاً، استشرف السامع إلى ما يكون من حاله عند مثل هذا بعد ذلك، فاستأنف إخباره بقوله: ﴿قال﴾ أي الله تبارك وتعالى على ما يكون منها عند فرعون لأجل التدريب:
281
﴿خذها ولا تخف﴾ مشيراً إلى أنه خاف منها على عادة الطبع البشريّ؛ ثم علل له النهي عن الخوف بقوله ﴿سنعيدها﴾ أي بعظمتنا عند أخذك لها بوعد لا خلف فيه ﴿سيرتها﴾ أي طريقتها ﴿الأولى*﴾ من كونها عصا، فهذه آية بينة على أن الذي يخاطبك هو ربك الذي له الأسماء الحسنى، فنزلت عليه السكينة، وبلغ من طمأنينته أن أدخل يده في فمها وأخذ بلحيتها، فإذا هي عصاه، ويده بين شعبتيها.
ولما أراه آية في بعض الآفاق، أراد أن يريه آية في نفسه فقال: ﴿واضمم يدك﴾ من جيبك الذي يخرج منه عنقك ﴿إلى جناحك﴾ أي جنبك تحت العضد تنضم على ما هي عليه من لونها وما بها من الحريق، وأخرجها ﴿تخرج﴾ فالآية من باب الاحتباك، والجناح: اليد، والعضد، والأبط، والجانب - قاله في القاموس، فلا يعارض هذا ما في القصص لأنه أطلق الجناح هناك على اليد وهي أحق به، وهنا على الجنب الذي هو موضعها تسمية للمحل باسم الحال ﴿بيضاء﴾ بياضاً كالشمس تتعجب منه.
ولما كان البرص أبغض شيء إلى العرب، نافياً له ولغيره، ولم يسمه باسمه لأن أسماعهم له مجاجة، ولأن نفي الأعم من الشيء
282
أبلغ من نفيه بخصوصه: ﴿من غير سوء﴾ أي مرض لا برص ولا غيره، حال كونها ﴿آية أخرى*﴾ افعل ما أمرتك به من إلقاء العصا وضم اليد، أو فعلنا ذلك من إحالة العصا ولون اليد من مناداتك لمناجاتك ﴿لنريك﴾ في جميع أيام نبوتك ﴿من آياتنا الكبرى*﴾ ليثبت بذلك حنانك، ويزداد إتقانك، فكأنه قيل: لماذا يفعل بي هذا؟ فقيل: لنرسلك إلى بعض المهمات ﴿اذهب إلى فرعون﴾ أي لترده عن عتوه: ثم علل الإرسال إلية بقوله، مؤكداً لأن طغيان أحد بالنسبة إلى شيء مما للملك الأعلى مما يستبعد: ﴿إنه طغى*﴾ أي تجاوز حده من العبودية فادعى الربوبية، وأشار إلى ما حصل له من الضيق من ذلك بما عرف من أنه أمر عظيم، وخطب جسيم، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلا ذو جأش رابط وصدر فسيح قلب ضابط كما صرح به في سورة الشعراء - بقوله ﴿قال رب اشرح﴾ أي وسع ﴿لي﴾ ولما أبهم المشروح ليكون الكلام أوكد بتكرير المعنى في طريقي الإجمال والتفصيل، قال رافعاً لذلك الإبهام: ﴿صدري*﴾ للإقدام على ذلك، وإلى استصعابه بقوله: ﴿ويسر لي﴾ ثم بين ذلك الإبهام بقوله: ﴿أمري*﴾ وإلى استعجازه نفسه عن الإبانة لهم عن المراد بقوله:
283
﴿واحلل﴾ ولما كان المعنى هنا ما لا يحتمل غيره إذ إنه لم يسأل بقاءه في غير حال الدعوة، عدل عن طريق الكلام الماضي فقال: ﴿عقدة من لساني*﴾ أي مما فيه من الحبسة عن الإتيان بجميع المقاصد من الجمرة التي وضعها في فيه وهو عند فرعون، كما نقل عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولما كان سؤاله هذا إنما هو الله، ولذلك اقتصر على قدر الحاجة فلم يطلب زوال الحبسة كلها، أجابه بقوله: ﴿يفقهوا قولي*﴾ وإلى اعتقاد صعوبة المقام مع ذلك كله بطلب التأييد بنصير يهمه أمره بقوله: ﴿واجعل لي﴾ أي مما تخصني به؛ وبين اهتمامه بالإعانة كما يقتضيه الحال فقدم قوله: ﴿وزيراً﴾ أي ملجأ يحمل عني بعض الثقل ويعاونني ﴿من أهلي*﴾ لأني به أوثق لكونه عليّ أشفق، ثم أبدل منه قوله: ﴿هارون﴾ وبينه بقوله: ﴿أخي*﴾ أي لأنه أجدر أهلي بتمام مناصرتي؛ وأجاب الدعاء في قراءة ابن عامر فقال: ﴿اشدد﴾ بقطع الهمزة مفتوحة ﴿به أزري*﴾ أي قوتي وظهري ﴿وأشركه﴾ بضم الهمزة مسنداً الفعلين إلى ضميره على أنهما مضارعان،
284
وقراءة الباقين بوصل الأول وفتح همزة الثاني على أنهما أمران، مسندين إلى الله تعالى على الدعاء ﴿في أمري*﴾ أي النبوة.
285
ولما أفهم سؤاله هذا أن له فيه أغراضاً، أشار إلى أنها ليست مقصودة له لأمر يعود على نفسه بذكر العلة الحقيقية، فقال: ﴿كي نسبحك﴾ أي بالقول والفعل بالصلاة وغيرها ﴿كثيراً*﴾ فأفصح عن أن المراد بالمعاضدة إنما هو لتمهيد الطريق إليه سبحانه.
ولما كان التسبيح ذكراً خاصاً لكونه بالتنزيه الذي أعلاه التوحيد، أتبعه العام فقال: ﴿ونذكرك﴾ أي بالتسبيح والتحميد ﴿كثيراً﴾ فإن التعاون والتظاهر أعون على تزايد العبادة أنه مهيج للرغبات؛ ثم علل طلبه لأخيه لأجل هذا الغرض بقوله: ﴿إنك كنت بنا بصيراً*﴾ قبل الإقامة في هذا الأمر في أنك جبلتنا على ما يلائم ذكرك وشكرك، وأن التعاضد مما يصلحنا، وكل ذلك تدريب لمن أنزل عليه الذكر على مثله وتذكير بنعمة تيسيره بلسانه ليزداد ذكراً وشكراً.
ولما تم ذلك، كان موضع توقع الجواب، فأتبعه قوله: ﴿قال﴾ أي الله: ﴿قد أوتيت﴾ بأسهل أمر ﴿سؤلك﴾ أي ما سألته ﴿يا موسى﴾ من حل عقدة لسانك وغير ذلك ولو شئت لم أفعل ذلك ولكني فعلته منة مني عليك.
ولما كان إنجاؤه من فرعون يث ولد في السنة التي يذبح
285
فيها الأبناء - قالوا: وهي الرابعة من ولادة هارون عليه السلام - بيد فرعون وفي بيته أمراً عظيماً، التفت إلى مقام العظمة مذكراً له بذلك تنويراً لبصيرته وتقوية لقلبه، إعلاماً بأنه ينجيه منه الآن، كما أنجاه في ذلك الزمان، ويزيده بزيادة السن والنبوة خيراً، فيجعل عزه في هلاكه كما جعل إذ ذاك عزه في وجوده فقال: ﴿ولقد مننا﴾ أي أنعمنا إنعاماً مقطوعاً به على ما يليق بعظمتنا ﴿عليك﴾ فضلاً منا ﴿مرة أخرى*﴾ غير هذه؛ ثم ذكر وقت المنة فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿أوحينا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿إلى أمك﴾ أي بالإلهام ﴿ما﴾ يستحق لعظمته أن ﴿يوحى*﴾ به، ولا يعلمه إلا نبي أو من هو قريب من درجة النبوة؛ ثم فسره بقوله: ﴿أن اقذفيه﴾ أي ألقي ابنك ﴿في التابوت﴾ وهو الصندوق، فعلوت من التوب الذي معناه تفاؤلاً به، وقال الحرالي: هو وعاء ما يعز قدره، والقذف مجاز عن المسارعة إلى وضعه من غير تمهل لشيء أصلاً، إشارة إلى أنه فعل مضمون السلامة كيف ما كان، والتعريف لأنه نوع من الصناديق أشد الناس معرفة به بنو إسرائيل ﴿فاقذفيه﴾ أي
286
موسى عليه السلام عقب ذلك بتابوته، أو التابوت الذي فيه موسى عليه السلام ﴿في اليم﴾ أي البحر وهو النيل.
ولما كانت سلامته في البحر من العجائب، لتعرضه للغرق بقلب الريح للتابوت، أو بكسره في بعض الجدر أو غيرها، أو بجريه مستقيماً مع أقوى جرية من الماء إلى البحر الملح وغير ذلك من الآفات، أشار إلى تحتم تنجيته بلام الأمر عبارة عن معنى الخبر في قوله، جاعلاً البحر كأنه ذو تمييز ليطيع الأمر: ﴿فليلقه﴾ أي التابوت الذي فيه موسى عليه السلام أو موسى بتابوته ﴿اليم بالساحل﴾ أي شاطىء النيل، سمي بذلك لأن الماء يسحله، أي ينشره إلى جانب البيت الذي الفعل كله هرباً من شر صاحبه، وهو فرعون، وهو المراد بقوله: ﴿يأخذه﴾ جواباً للأمر، أي موسى ﴿عدو لي﴾ ونبه على محل العجب بإعادة لفظ العدو في قوله: ﴿وعدو له﴾ فإنه ما عادى بني إسرائيل بالتذبيح إلا من أجله ﴿وألقيت عليك محبة﴾ أي عظيمة؛ ثم زاد الأمر في تعظيمها إيضاحاً بقوله: ﴿مني﴾ أي ليحبك كل من رآك لما جبلتك عليه من الخلال الحميدة، والشيم السديدة، لتكون أهلاً لما أريدك له ﴿ولتصنع﴾ أي تربى بأيسر أمر تربية بمن هو ملازم لك لا ينفك عن الاعتناء بمصالحك عناية شديدة ﴿على عيني*﴾ أي مستعلياً على حافظيك غير مستخفى
287
في تربيتك من أحد ولا مخوف عليك منه، وأنا حافظ لك حفظ من يلاحظ الشيء بعينه لا يغيب عنها، فكان كل ما أردته، فلما رآك هذا العدو أحبك وطلب لك المراضع، فلما لم تقبل واحدة منهن بالغ في الطلب، كل ذلك إمضاء لأمري وإيقافاً لأمره به نفسه لا بغيره ليزداد العجب من إحكام السبب، ثم ذكر ظرف الصنع فقال: ﴿إذ﴾ أي حين ﴿تمشي أختك﴾ أي في الموضع الذي وضعوك به لينظروا لك مرضعة ﴿فتقول﴾ بعد إذ رأتك، لآل فرعون: ﴿هل أدلكم على من يكفله﴾ أي يقوم بمصالحه من الرضاع والخدمة، ناصحاً له، فقالوا: نعم! فجاءت بأمك فقبلت ثديها ﴿فرجعناك﴾ أي فتسبب عن قولها هذا أن رجعناك ﴿إلى أمك﴾ حين دلتهم عليها ﴿كي تقر﴾ أي تبرد وتسكن ﴿عينها﴾ وتربيك آمنة عليك غير خائفة، ظاهرة غير مستخفية ﴿ولا تحزن﴾ بفراقك أو بعدم تربيتها لك وبذلها الجهد في نفعك ﴿وقتلت نفساً﴾ أي بعد أن صرت رجلاً من القبط دفعاً عن رجل من قومك فطلبت بها وأرادوا قتلك ﴿فنجيناك﴾ بما لنا من العظمة ﴿من الغم﴾ الذي كان قد نالك بقتله خوفاً من جريرته، بأن أخرجناك مهاجراً لديارهم نحو مدين ﴿وفتناك فتوناً﴾ أي خلصناك من محنة بعد محنة مرة بعد مرة،
288
على أنه جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بالتاء، ويجوز أن يكون مصدراً كالشكور، إذن الفتون ولادته عام الذبح وإبقاؤه في البحر ثم منعه الرضاع من غير ثدي أمه ثم جره لحية فرعون، ثم تناوله الجمرة بدل الدرة، ثم قتله القبطي، ثم خروجه إلى مدين في الطريق الهيع خائفاً يترقب، ثم إيجار نفسه عشر سنين، ثم إضلاله الطريق، ثم تفرق غنمه في ليلة مظلمة ﴿فلبثت سنين﴾ أي كثيرة ﴿في أهل مدين﴾ مقيماً عند نبينا شعيب عليه السلام يربيك بآدابه، وصاهرته على ابنته ﴿ثم جئت﴾ أي الآن ﴿على قدر﴾ أي وقت قدّرته في الأزل لتكليمي لك، وهو بلوغ الأشد والاستواء، وإرسالك إلى فرعون لأمضي فيه قدري الذي ذبح أبناء بني اسرائيل خوفاً منه، فجئت غير مستقدم ولا مستأخر ﴿يا موسى * واصطنعتك﴾ أي ربيتك بصنائع المعروف تربية من يتكلف تكوين المربى على طريقة من الطرائق ﴿لنفسي *﴾ أي لتفعل من مرضاتي في تمهيد شرائعي وإنفاذ أوامري ما يفعله من يصنع للنفس من غير مشارك، فهو تمثيل لما حوله من منزلة التقريب والتكريم.
فلما تمهد ذلك كله بعد علم نتيجته، أعادها في قوله: ﴿اذهب أنت﴾ كما تقدم أمري لك به ﴿وأخوك﴾ كما سألت ﴿بآياتي﴾ التي أريتك
289
وغيرها مما أظهره على يديك ﴿ولا تنيا﴾ أي تفترا وتضعفا ﴿في ذكري*﴾ الذي تقدم أنك جعلته غاية دعائك، بل لتكن - مع كونه ظرفاً محيطاً بجميع أمرك - في غاية الاجتهاد فيه وإحضار القلب له، وليكن أكثر ما يكون عند لقاء فرعون أن عبدي كل عبدي للذي يذكرني عند لقاء قرنه، فإن ذلك أعون شيء على المراد، ثم بين المذهوب إليه بقوله، مؤكداً لنفس الذهاب لأنه لشدة الخطر لا يكاد طبع البشر يتحقق جزم الأمر به فقال: ﴿اذهبا إلى فرعون﴾ ثم علل الإرسال إليه بقوله، مؤكداً لما مضى، ولزيادة التعجيب من قلة عقله، فكيف بمن تبعه ﴿إنه طغى*﴾ ثم أمرهما بما ينبغي لكل آمر بالمعروف من الأخذ بالأحسن فالأحسن والأسهل فالأسهل، فقال مسبباً عن الانتهاء إليه ومعقباً: ﴿فقولا له قولاً ليناً﴾ لئلا يبقى له حجة، ولا يقبل له معذرة ﴿لعله يتذكر﴾ ما مر له من تطوير الله له في أطوار مختلفة، وحمله فيما يكره على ما لم يقدر على الخلاص منه بحيلة، فيعلم بذلك أن الله ربه، وأنه قادر على ما يريد منه، فيرجع عن غيّه فيؤمن ﴿أو يخشى*﴾ أي أو يصل إلى حال من يخاف عاقبة قولكما لتوهم الصدق
290
فيكون قولكما تذكرة له فيرسل معكما بني إسرائيل، ومعنى الترجي أن يكون حاله حال من يرجى منه ذلك، لأنها من ثمرة اللين في الدعاء، جرى الكلام في هذا وأمثاله على ما يتعارفه العباد في محاوراتهم، وجاء القرآن على لغتهم وعلى ما يعنون، فالمراد: اذهبا أنتما على رجائكما وطمعكما ومبلغكما من العلم، وليس لهما أكثر من ذا ما لم يعلما، وأما علمه تعالى فقد أتى من وراء ما يكون - قاله سيبويه في باب من النكرة يجري مجرى ما فيه الألف واللام من المصادر والأسماء.
291
ولما كان فرعون في غاية الجبروت، وكان حاله حال من يهلكهما إلا أن يمنعهما الله، وأراد علم ما يكون من ذلك ﴿قالا ربنا﴾ أي أيها المحسن إلينا. ولما كان مضمون إخبارهما بالخوف مع كونهما من جهة الله - من شأنه أن لا يكون وأن ينكر، أكد فقالا مبالغين فيه بإظهار النون الثالثة إبلاغاً في إظهار الشكوى ليأتي الجبر على قدر ما يظهر من الكسر: ﴿إننا نخاف﴾ لما هو فيه من المكنة ﴿أن يفرط﴾ أي يجعل ﴿علينا﴾ بالعقوبة قبل إتمام البلاغ عجلة من يطفر ويثب إلى الشيء ﴿أو أن يطغى*﴾ فيتجاوز إلى أعظم مما هو فيه من الاستكبار ﴿قال لا تخافا﴾ ثم علل ذلك بما هو مناط النصرة والحيطة للولي والإهلاك للعدو، فقال مؤكداً إشارة إلى عظم الخبر،
291
وتنبيهاً لمضمونه لأنه خارج عن العوائد، وأثبت النون الثالثة على وزان تأكيدهما: ﴿إنني معكما﴾ لا أغيب كما تغيب الملوك إذا أرسلوا رسلهم ﴿أسمع وأرى*﴾ أي لي هاتان الصفتان، لا يخفى عليَّ شيء من حال رسولي ولا حال عدوه، وأنتما تعلمان من قدرتي ما لا يعلمه غيركما.
ولما تمهد ذلك، تسبب عنه تعليمهما ما يقولان، فقال مؤكداً للذهاب أيضاً لما مضى: ﴿فأتياه فقولا﴾ أي له؛ ولما كان فرعون ينكر ما تضمنه قولهما، أكد سبحانه فقال: ﴿إنا﴾ ولما كان التنبيه على معنى المؤازرة هنا - كما تقدم مطلوباً، ثنى فقال: ﴿رسولا ربك﴾ الذي رباك فأحسن تربيتك بعد أن أوجدك من العدم، إشارة إلى تحقيره بأنه من جملة عبيد مرسلهما تكذيباً له في ادعائه الربوبية، ثم سبب عن إرسالكما إليه قولكما: ﴿فأرسل معنا﴾ عبيده ﴿بني إسرائيل﴾ ليعبدوه، فإنه لا يستحق العبادة غيره ﴿ولا تعذبهم﴾ بما تعذبهم به من الاستخدام والتذبيح؛ ثم علل دعوى الرسالة بما يثبتها، فقال مفتتحاً بالحرف التوقع لأن حال السامع لادعاء الرسالة أن يتوقع دلالة على الإرسال: ﴿قد جئناك بآية﴾ أي علامة عظيمة وحجة وبرهان
292
﴿من ربك﴾ الذي لا إحسان عليك إلا منه، موجبة لقبول ما ادعيناه من العصا واليد وغيرهما، فأسلم تسلم، وفي تكرير مخاطبته بذلك تأكيد لتبكيته في ادعاء الربوبية، ونسبته إلى كفران الإحسان، فسلام عليك خاصة إن قبلت هدى الله ﴿والسلام﴾ أي جنسه ﴿على﴾ جميع ﴿من اتبع﴾ بغاية جهده ﴿الهدى*﴾ عامة، وإذا كان هذا الجنس عليهم كان من المعلوم أن العطب على غيرهم، فالمعنى: وإن أبيت عذبت ﴿إنا﴾ أي لأنا ﴿قد أوحي إلينا﴾ من ربنا ﴿أن العذاب﴾ أي كله، لأن اللام للاستغراق أو الماهية، وعلى التقديرين يقتضي قدر ثبوت هذا الجنس ودوامه لما تفهمه الاسمية ﴿على﴾ كل ﴿من كذب وتولى*﴾ أي أوقع التكذيب والإعراض، وذلك يقتضي أنه إن كان منه شيء على مصدق منقضياً، وإذا انقضى كان كأن لم يوجد، وفي صرف الكلام عنه تنبيه على أنه ضال مكذب وتعليم للأدب.
ولما كان التقدير: فأتياه فقولا: إنا رسولا ربك - إلى آخر ما أمر به، وتضمن قولهما أن لمرسلهما القدرة التامة والعلم الشامل، فتسبب عنه سؤاله عن تعيينه، أستأنف الإخبار عن جوابه بقوله: ﴿قال﴾ أي فرعون مدافعاً لهما بالمناظرة لا بالبطش، لئلا ينسب إلى
293
السفه والجهل: ﴿فمن﴾ أي تسبب عن كلامكما هذا الذي لا يجترىء على مواجهتي به أحد من أهل الأرض أن أسألكما: من ﴿ربكما﴾ الذي أرسلكما، ولم يقل: ربي، حيدة عن سواء النظر وصرفاً للكلام على الوجه الموضح لخزيه.
ولما كان موسى عليه السلام هو الأصل في ذلك، وكان ربما طمع فرعون بمكره وسوء طريقه في حبسه تحصل في لسانه، أفرده بقوله: ﴿يا موسى * قال﴾ له موسى على الفور: ﴿ربنا﴾ أي موجدنا ومربينا ومولانا ﴿الذي أعطى كل شيء﴾ مما تراه في الوجود ﴿خلقه﴾ أي ما هو عليه مما هو به أليق في المنافع المنوطة به، والآثار التي تتأثر عنه من الصورة والشكل والمقدار واللون والطبع وغير ذلك مما يفوت الحصر، ويجل عن الوصف.
ولما كان في إفاضة الروح من الجلالة والعظم ما يضمحل عنده غيره من المفاوتة، أشار إلى ذلك بحرف التراخي فقال: ﴿ثم هدى *﴾ أي كل حيوان منه مع أن فيها العاقل وغيره إلى جميع منافعه فيسعى لها، ومضاره فيحذرها، فثبت بهذه المفاوتة والمفاصلة مع اتحاد نسبة الكل إلى الفاعل أنه واحد مختار، وأن ذلك لو كان بالطبيعة المستندة إلى النجوم أو غيرها كما كان يعتقده فرعون وغيره لم يكن هذا التفاوت.
294
ولما لم يكن لأحد بالطعن في هذا الجواب قبل لأنه لا زلل فيه ولا خلل مع رشاقته واختصاره وسبقه بالجمع إلى غاية مضماره - صرف الكلام بسرعة خوف من الاتضاح، بزيادة موسى عليه السلام في الإيضاح، فيظهر الفساد من الصلاح، إلى شيء يتسع فيه المجال، ولا يقوم عليه دليل، فيمكن فيه الرد، فأخبر عنه سبحانه على طريق الاستئناف بقوله: ﴿قال فما﴾ أي تسبب عما تضمن هذا من نسبة ربك إلى العلم بكل موجود أني أقول لك: فما ﴿بال﴾ أي خبر ﴿القرون الأولى*﴾ الذي هو في العظمة بحيث إنه ما خالط أحداً إلى أحاله وأماله، وهو وأن كان حيدة، هو من أمارات الانقطاع، غير أنه فعل راسخ القدم في المكر والخداع.
ولما فهم عنه موسى عليه السلام ما أراد أن ترتب على الخوض في ذلك مما لا طائل تحته من الرد والمطاولة، ولم تكن التوراة نزلت عليه إذ ذاك، وإنما نزلت بعد هلاك فرعون لم يمش معه في ذلك ﴿قال﴾ قاطعاً له عنه: ﴿علمها عند ربي﴾ أي المحسن إليّ بإرسالي وتلقيني الحجاج.
ولما كانت عادة المخلوقين إثبات الأخبار في الكتب، وكان تعالى قد وكل بعباده من ملائكته من يضبط ذلك، قال مخاطباً له بما يعرفون من أحوالهم: ﴿في كتاب﴾ أي اللوح المحفوظ. ولما كان ربما وقع
295
في وهم واهم أن الكتاب لا يكون إلاخوفاً من نسيان الشيء أو الجهل بالتوصل إليه مع ذكر عينه، نفى ذلك بقوله: ﴿لا يضل ربي﴾ أي الذي رباني كما علمت ونجاتي من جميع ما قصدتموه لي من الهلاك ولم يضل عن وجه من وجوهه، ولا نسي وجهاً يدخل منه شيء من خلل ﴿ولا ينسى*﴾ أي لا يقع منه نسيان لشيء أصلاً من أخباره ولا لغيرهم، وفي ذلك إشارة إلى تبكيت اليهود بأن ثبوت النبوة إن كان يتوقف على أن يخبر النبي عن كل ما يسأل عنه لزم أن يتوقفوا في نبوة نبيهم عليه السلام لأنه لم يخبر فرعون عما سأله عنه من أمر القرون؛ ثم وصل بذلك ما كان فيه قبل من الدليل العقلي على وحدة الصانع واختياره فقال: ﴿الذي جعل لكم﴾ أيها الخلائق ﴿الأرض﴾ أي أكثرها ﴿مهداً﴾ تفترشونها، وجعل بعضها جبالاً لا يمكن القرار عليها، وبعضها رخواً تسرح فيه الأقدام وبعضها جلداً - إلى غير ذلك مما تشاهدون فيها من الاختلاف ﴿وسلك لكم فيها سبلاً﴾ أي سهّل طرقاً تسلكونها في أراضي سهلة وحزنة وسطها بين الجبال والأودية والرمال، وهيأ لكم فيها من المنافع من المياه والمراعي ما يسهل ذلك، وجعل فيها ما لا يمكن استطراقه أصلاً، من أن نسبة الكل إلى الطبيعة واحدة، فلولا أن الفاعل واحد مختار لم يكن هذا التفاوت وعلى هذا النظام البديع ﴿وأنزل من السماء ماء﴾ تشاهدونه واحداً في اللون والطعم.
ولما كان ما ينشأ عنه أدل على العظمة وأجلى للناظر وأظهر للعقول.
296
استغرق صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في بحار الجلال، فاستحضر أن الآمر له بهذا الكلام هو المتكلم به في الحقيقة فانياً عن نفسه وعن جميع الأكوان، فعبر عن ذلك، عادلاً عن الغيبة إلى لفظ المتكلم المطاع بما له من العظمة بقوله: ﴿فأخرجنا﴾ أي بما لنا من العظمة التي تنقاد لها الأشياء المختلفة ﴿به أزواجاً﴾ أي أصنافاً متشاكلة ليس فيها شيء يكون واحداً لا شبيه له ﴿من نبات شتى*﴾ أي مختلفة جداً في الألوان والمقادير والمنافع والطبائع والطعوم؛ ثم أشار إلى تفصيل ما فيها من الحكمة بقوله حالاً من فاعل ﴿أخرجنا﴾ :﴿كلوا﴾ أي ما دبره لكم بحكمته منها ﴿وارعوا﴾ أي سرحوا في المراعي ﴿أنعامكم﴾ ما أحكمه لها ولا يصلح لكم، فكان من متقن تدبيره أن جعل أرزاق العباد بعملها تنعيماً لهم، وجعل علفها مما يفضل عن حاجتهم، ولا يقدرون على أكله، وقد دلت هذه الأوصاف على تحققه سبحانه قطعاً بأنه لا يضل ولا ينسى من حيث إنه تعالى أبدع هذا العالم شاملاً لكل ما يحتاجه من فيه لما خلقهم له من السفر إليه والعرض عليه في جميع تقلباتهم على اختلافها، وتباين أصنافها، وتباعد أوصافها، وعلى كثرتهم، وتنائي أمزجتهم، ولم يدعه ناقصاً من شيء من ذلك بخلاف غيره،
297
فإنه لو عمل شيئاً واجتهد كل الاجتهاد في تكميله فلا بد أن يظهر له فيه نقص ويصير يسعى في إزالته وقتاً بعد وقت.
ولما كمل هذا البرهان القويم، دالاً على العليم الحكيم، قال منبهاً على انتشار أنواره، وجلالة مقداره، مؤكداً لأجل إنكار المنكرين: ﴿إن في ذلك﴾ أي الإنشاء هذه الوجوه المختلفة ﴿لآيات﴾ على منشئه ﴿لأولي النهى *﴾ العقول التي من شأنها أن تنهى صاحبها عن الغيّ، ومن عمي عن ذلك فلا عقل له أصلاً لأن عقله لم ينفعه، وما لا ينفع في حكم العدم، وذكر ابن كثير هنا ما عزاه ابن إسحاق في السيرة لزيد بن عمرو بن نفيل، وابن هشام لأمية بن أبي الصلت:
298
ولما أخبر سبحانه وتعالى عما خلق في الأرض من المنافع الدالة
298
على تمام علمه وباهر قدرته، على وجه دالّ على خصوص القدرة على البعث، وكان من الفلاسفة تناسخيتهم وغيرهم من يقر الله بالوحدانية ولا يقر بقول أهل الإسلام: إن الروح جسم لطيف سار في الجسم سريان النار في الفحم، بل يقول: إنها ليست بجسم ولا قوة في جسم ولا صورة لجسم وليست متصلة به اتصال انطباع ولا حلول فيه، بل اتصال تدبير وتصرف، وأنها إذا فارقت البدن اتصلت بالروحانيين من العالم العقلي الذي هو عالم المجردات وانخرطت في سلك الملائكة المقربين، أو اتصلت ببعض الأجرام السماوية من كوكب أو غيره كاتصالها بالبدن الأول وانقطع تعلقها به فلم تعد إليه حتى ولا يوم البعث عند من يقول منهم بالحشر، وصل بذلك قوله تعالى، يرد عليهم، معبراً بالضمير الذي يعبر به الهيكل المجتمع من البدن والنفس: ﴿منها﴾ أي الأرض لا من غيرها ﴿خلقناكم﴾ إذ أخرجناكم منها بالعظمة الباهرة في النشأة الأولى بخلق أبيكم آدم عليه السلام ﴿وفيها﴾ لا في غيرها كما أنتم كذلك تشاهدون ﴿نعيدكم﴾ بالموت كذلك أجساماً وأرواحاً، فتصيرون تراباً كما كنتم، وللروح مع ذلك وأن كانت في عليين تعلق ببدنها بوجه ما، يدرك البدن به اللذة بالتذاذها والألم بتألهما، وقد صح أن الميت يقعد في قبره ويجيب سؤال الملكين عليهما السلام، لا يقدر أحد منكم أن يخلص من تلك العظمة
299
المحيطة بجليل عظمته ولا بدقيق حكمته ﴿ومنها﴾ لا من غيرها ﴿نخرجكم﴾ يوم البعث بتلك العظمة بعينها ﴿تارة أخرى*﴾ كما بدأناكم أول مرة مثل ما فعلنا في النبات سواء، فقد علم أن هذا فعل الواحد المختار، لا فعل الطبائع، فمرة جعلكم أحياء من شيء ليس له أصل في الحيوانية أصلاً، وكرة ردكم إلى ما كنتم عليه قبل الحياة تراباً لا روح فيه ولا ما يشبهها، فلا ريب أن فاعل ذلك قادر على أن يخرجكم منها أحياء كما ابتدأ ذلك، بل الإعادة أهون في مجاري العادة.
ولما كان ما ذكر مما علق بالأرض من المرافق وغيره على غاية من الوضوح، ليس وراءها مطمح، فكان المعنى: أرينا فرعون هذا الذي ذكرنا لكم من آياتنا وغيره، وكان المقام لتعظيم القدرة، عطف عليه قوله: ﴿ولقد أريناه﴾ أي بالعصا واليد وغيرهما مما تقدم من مقتضى عظمتنا ﴿آياتنا﴾ أي التي عظمتها من عظمتنا ﴿كلها﴾ بالعين والقلب لأن من قدر على مثل ذلك فهو قادر على غيره من أمثاله من خوارق العادات، لأن الممكنات بالنسبة إلى قدرته على حد سواء، لا سيما والذي ذكر أمهات الآيات كما سيومأ
300
إليه إن شاء الله تعالى في سورة الأنبياء ﴿فكذب﴾ أي بها ﴿وأبى*﴾ أي أن يرسل بني إسرائيل؛ وهذا أبلغ من تعديد ما ذكر في الأعراف، فكأنه قيل: كيف صنع في تكذيبه وإبائه؟ فقيل: ﴿قال﴾ حين لم يجد مطعناً مخيلاً للقبط بما يثيرهم حمية لأنفسهم لأنه علم حقية ما جاء به موسى وظهوره، وتقبل العقول له، فخاف أن يتبعه الناس ويتركوه، ووهن في نفسه وهناً عظيماً بتأمل كلماته مفردة ومركبة يعرف مقداره: ﴿أجئتنا لتخرجنا من أرضنا﴾ هذه التي نحن مالكوها ﴿بسحرك يا موسى*﴾ فخيل إلى أتباعه أن ذلك سحر، فكان ذلك - مع ما ألفوه من عادتهم في الضلال - صارفاً لهم عن اتباع ما رأوا من البيان، ثم وصل بالفاء السببية قوله مؤكداً إيذاناً بعلمه أن ما أتى به موسى ينكر كل من يراه أن يقدر غيره على معارضته: ﴿فلنأتينك﴾ أي والإله الأعظم! بوعد لا خلف فيه ﴿بسحر مثله﴾ تأكيداً لما خيل به؛ ثم أظهر النصفة والعدل إيثاقاً لربط قومه فقال: ﴿فاجعل بيننا وبينك موعداً﴾ أي من الزمان والمكان ﴿لا نخلفه﴾ أي لا نجعله خلفنا ﴿نحن ولا أنت﴾ بأن نقعد عن إتيانه.
ولما كان من الزمان والمكان لا ينفك عن الآخر قال: ﴿مكاناً﴾ وآثر ذكر المكان لأجل وصفه بقوله: ﴿سوى *﴾ أي
301
عدلاً بيننا، لا حرج على واحد منا في قصده أزيد من حرج الآخر، فانظر هذا الكلام الذي زوقه وصنعه ونمقه فأوقف به قومه عن السعادة واستمر يقودهم بأمثاله حتى أوردهم البحر فأغرقهم، ثم في غمرات النار أحرقهم، فعلى الكيس الفطن أن ينقد الأقوال والأفعال، والخواطر والأحول، ويعرضها على محك الشرع: الكتاب والسنة، فما وافق لزمه وما لا تركه.
ولما كان مجتمع سرورهم الذي اعتادوه حاوياً لهذه الأغراض زماناً ومكاناً وغيرهما، اختاره عليه السلام لذلك، فاستؤنف الخبر عنه في قوله تعالى: ﴿قال موعدكم﴾ أي الموصوف ﴿يوم الزينة﴾ أي عيدكم الذي اعدتم الاجتماع فيه في المكان الذي اعتدتموه، فآثر هنا ذكر الزمان وإن كان يتضمن المكان لما فيه من عادة الجمع كما آثر فيما تقدم المكان لوصفه بالعدل ﴿وأن يحشر﴾ بناه للمفعول لأن القصد الجمع، لا كونه من معين ﴿الناس﴾ أي إغراء ولو بكره ﴿ضحى*﴾ ليستقبل النهار من أوله، فيكون أظهر لما يعمل وأجلى، ولا يأتي الليل إلا وقد قضي الأمر، وعرف المحق من المبطل، وأنتم أجمع ما تكونون وأفرغ، فيكل حد المبطلين وأشياعهم، والمتكبرين
302
على الحق وأتباعهم، ويكثر المحدث بذلك الأمر العلم في كل بدو وحضر، ويشيع في جميع أهل الوبر والمدر ﴿فتولى فرعون﴾ عن موسى إلى تهيئة ما يريد من الكيد بعد توليه عن الانقياد لأمر الله ﴿فجمع كيده﴾ أي مكره وحيلته وخداعه، الذي دبره على موسى بجمع من يحصل بهم الكيد، وهم السحرة، حشرهم من كل أوب، وكان أهل مصر أسحر أهل الأرض وأكثرهم ساحراً، وكانوا في ذلك الزمان أشد اعتناء بالسحر وأمهر ما كانوا وأكثر ﴿ثم أتى *﴾ للميعاد الذي وقع القرار عليه بمن حشره من السحرة والجنود ومن تبعهم من الناس، مع توفر الدواعي على الإتيان للعيد، والنظر إلى تلك المغالبة التي لم يكن مثلها.
303
ولما تشوف السامع إلى ما كان من موسى عليه السلام عند ذلك، استأنف سبحانه الخبر عنه بقوله: ﴿قال لهم﴾ أي لأهل الكيد وهم السحرة وغيرهم ﴿موسى﴾ حين رأى اجتماعهم ناصحاً لهم: ﴿ويلكم﴾ يا أيها الناس الذين خلقهم الله لعبادته ﴿لا تفتروا﴾ أي لا تتعمدوا أن تصنعوا استعلاء ﴿على الله كذباً﴾ بجعلكم آياته العظام الثابتة سحراً لا حقيقة له، وادعائكم أن ما تخيلون به حق وليس بخيال، وإشراككم به؛
303
وسبب عنه قوله: ﴿فيسحتكم﴾ أي يهلككم؛ قال الرازي. وأصله الاستئصال ﴿بعذاب﴾ أي عظيم تظهر به خيبتكم ﴿وقد خاب﴾ كل ﴿من افترى *﴾ أي تعمد كذباً على الله أو على غيره ﴿فتنازعوا﴾ أي تجاذب السحرة ﴿أمرهم بينهم﴾ لما سمعوا هذا الكلام، علماً منهم بأنه لا يقدر أن يواجه فرعون بمثله في جميع جنوده وأتباعه لم يسلم منه إلا من الله معه ﴿وأسروا النجوى*﴾ أي كلامهم الذي تناجوا به وبالغوا في إخفائه، فإن النجوى الإسرار، لئلا يظهر فرعون وأتباعه على عوارهم في اختلافهم الذي اقتضاه لفظ التنازع، فكأنه قيل: ما قالوا حين انتهى تنازعهم؟ فقيل: ﴿قالوا﴾ أي السحرة بعد النظر وإجالة الرأي ما خيلهم به فرعون تلقناً منه وتقرباً إليه بما ينفر الناس عن موسى وهارون عليهما السلام ويثبطهم عن اتباعهما وإن غلبا، لأنه لا ينكر غلبة ساحر على ساحر آخر: ﴿إن هذان﴾ أي موسى وهارون وقرىء: هاذان - بالألف، على لغة من يجعل ألف المثنى لازمة في كل حال؛ قال أبو حيان: وهي لغة لطوائف من العرب لبني الحارث بن كعب وبعض كنانة خثعم وزبيد وبني العنبر
304
وبني الهجيم ومراد وعذره. ﴿لساحران﴾ لا شك في ذلك منهما ﴿يريدان﴾ أي بما يقولان من دعوى الرسالة وغيرها ﴿أن يخرجاكم﴾ أيها الناس ﴿من أرضكم﴾ هذه التي ألفتموها، وهي وطنكم خلفاً عن سلف ﴿بسحرهما﴾ الذي أظهراه لكم وغيره.
ولما كان كل حزب بما لديهم فرحون قالوا: ﴿ويذهبا بطريقتكم﴾ هذه السحرية التي تعبتم في تمهيدها، وأفنى فيها أسلافكم أعمارهم، حتى بلغ أمرها الغاية، وبدينكم الذي به قوامكم ﴿المثلى*﴾ أي التي هي أمثل الطرق، فيكونا آثر بما يظهرانه منها عند الناس منكم، ويصرفان وجوه الناس إليها عنكم، ويبطل ما لكم بذلك من الارزاق والعظمة عند الخاص والعام وغير ذلك من الأغراض ﴿فأجمعوا كيدكم﴾ أي لا تدعوا منه شيئاً إلا جئتم به ولا تختلفوا تضعفوا ﴿ثم ائتوا﴾ إلى لقاء موسى وهارون لمباراتهما ﴿صفاً﴾ أي متسابقين متساوين في السباق ليستعلي أمركم عليهما فتفلحوا، والاصطفاف أهيب في صدور الرائين.
ولما كان التقدير: فمن أتى كذلك فقد استعلى، عطف
305
عليه قولهم محققاً: ﴿وقد أفلح اليوم﴾ في هذا الجمع الذي ما اجتمع مثله قط ﴿من استعلى*﴾ أي غلب ووجد علوه، أي ففعلوا ما تقدم وأتوا صفاً، فلما أتوا وكانوا خبيرين بأن يقولوا ما ينفعهم في مناصبة موسى عليه السلام، استؤنف الإخبار عنه بقوله تعالى: ﴿قالوا﴾ أي السحرة منادين، لأن لين القول مع الخصم إن لم ينفع لم يضر: ﴿يا موسى إما أن تلقي﴾ ما معك مما تناظرنا به أولاً ﴿وإما أن نكون﴾ أي نحن ﴿أول من ألقى*﴾ ما معه ﴿قال﴾ أي موسى مقابلاً لأدبهم بأحسن منه ولأنه فهم أن مرادهم الابتداء، وليكون هو الآخر فيكون العاقبة بتسليط معجزته على سحرهم فلا يكون بعدها شك: لا ألقي أنا أولاً ﴿بل ألقوا﴾ أنتم أولاً، فانتهزوا الفرصة، لأن ذلك كان مرادهم بما أفهموه من تعبير السياق والتصريح بالأول، فألقوا ﴿فإذا حبالهم وعصيهم﴾ التي ألقوها ﴿يخيل إليه﴾ وهو صفينا تخييلاً مبتدئاً ﴿من سحرهم﴾ الذي كانوا قد فاقوا به أهل الأرض ﴿أنها﴾ لشدة اضطربها ﴿تسعى*﴾ سعياً، وإذا كان هذا حاله مع أنه أثبت الناس بصراً وأنفذهم بصيرة فما ظنك بغيرة! ﴿فأوجس﴾ أي أضمر بسبب ذلك، وحقيقته: أوقع واجساً أي خاطراً وضميراً.
306
ولما كان المقام لإظهار الخوارق على يديه، فكان ربما فهم أنه أوقعه في نفس أحد غيره، كان المقام للاهتمام بتقديم المتعلق، فقال لذلك لا لمراعاة الفواصل: ﴿في نفسه﴾ أي خاصة، وقدم ما المقام له والاهتمام به فقال: ﴿خيفة موسى*﴾ مثل ما خاف من عصاه أول ما رآها كذلك على ما هو طبع البشر، وللنظر إلى الطبع عبر بالنفس لا القلب مثلاً.
307
ولما كان ذلك، وكان المعلوم أن الله معه، وأنه جدير بإبطال سحرهم، استأنف الخبر عنه بقوله: ﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة: ﴿لا تخف﴾ من شيء من أمرهم ولا غيره، ثم علل ذلك بقوله، وأكده أنواعاً من التأكيد لاقتضاء الحال إنكار أن يغلب أحد ما أظهروا من سحرهم لعظمه: ﴿إنك أنت﴾ أي خاصة ﴿الأعلى*﴾ أي الغالب غلبة ظاهرة لا شبهة فيها ﴿وألق﴾ وأشار إلى يمن العصا وبركتها بقوله: ﴿ما في يمينك﴾ أي من هذه العصا التي قلنا لك أول ما شرفناك بالمناجاة ﴿وما تلك بيمينك يا موسى﴾ ثم أريناك منها ما أريناك ﴿تلقف﴾ بقوة واجتهاد مع سرعة لا تكاد تدرك - بما أشار إليه حذف التاء ﴿ما صنعوا﴾ أي فعلوه بعد تدرب كبير عليه
307
وممارسة طويلة؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إنما﴾ أي أن الذي ﴿صنعوا﴾ أي أن صنعهم مما رأيته وهالنا أمُره.
ولما كان المقصود تحقير هذا الجيش أفرد ونكر لتنكير المضاف وتحقيره فقال: ﴿كيد ساحر﴾ أي كيد سحري لا حقيقة له ولا ثبات، سواء كان واحداً أو جمعاً، ولو جمع لخيل أن المقصود العدد، ولما كان التقدير: فهم لا يفلحون، عطف عليه قوله: ﴿ولا يفلح الساحر﴾ أي هذا الجنس ﴿حيث أتى*﴾ أي كيف ما سار وأيّه ﴿سلك﴾ فإنه إنما يفعل ما لا حقيقة له، فامتثل ما أمره به ربه من إلقاء عصاه، فكان ما وعده به سبحانه من تلقفها لما صنعوا من غير أن يظهر عليها زيادة في ثخن ولا غيره مع أن حبالهم وعصيهم كانت شيئاً كثيراً، فعلم كل من رأى ذلك حقيته وبطلان ما فعل السحرة، فبادر السحرة منهم إلى الخضوع لأمر الله ساجدين مبادرة من كأنه ألقاه ملق على وجهه، ولذلك قال تعالى بعد أن ذكر مكرهم واجتهادهم في معارضة موسى عليه الصلاة والسلام وحذف ذكر الإلقاء وما سببه من
308
التلقف لأن مقصود السورة القدرة على تليين القلوب القاسية: ﴿فألقي السحرة﴾ أي فألقاهم ما رأوا من أمر الله بغاية السرعة وبأيسر أمر ﴿سجداً﴾ على وجوههم؛ قال الأصبهاني: سبحان الله! ما أعظم شأنهم! ألقوا حبالهم وعصيهم للكفر والجحود، ثم ألقوا رؤوسهم بعد ساعة الشكر والسجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين. فكأن قائلاً قال: هذا فعلهم فما قالوا؟ فقيل: ﴿قالوا آمنا﴾ أي صدقنا.
ولما كان سياق هذه السورة مقتضياً لتقديم هارون عليه السلام قال: ﴿برب هارون وموسى*﴾ بشارة للنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه سبحانه لا يشقيه بهذا القرآن بل يهدي الناس به ويذلهم له، فيجعل العرب على شماختها أذل شيء لوزرائه وأنصاره وخلفائه وإن كانوا أضعف الناس، وقبائلهم أقل القبائل، مع ما في ذلك من الدليل على صدق إيمانهم وخلوص ادعائهم بتقديم الوزير المترجم ترقياً في درج المعرفة ممن أوصل ذلك إليهم إلى من أمره بذلك ثم إلى من أرسله شكراً للمنعمين بالتدريج
«لا يشكر الله من لم يشكر الناس» وهذا لما أوجب تقديمه هنا لا لهذا فقط، وذكروا اسم الرب إشارة إلى أنه سبحانه أحسن إليهما بإعلاء شأنهما على السحرة، وعلى من كانوا يقرون بالربوبية، وهو فرعون الذي لم يغن عنهم شيئاً، فكانوا أول النهار سحرة، وآخر شهداء بررة، وهذه الآية في أمثالها من أي هذه السور
309
وغيرها مما قدم فيه ما يتبادر أن حقه التأخير وبالعكس لأنحاء من المعاني دقيقة، هي التي حملت بعض من لم يرسخ إلى أن يقول: إن القرآن يراعي الفواصل كما يتكلف بلغاء العرب السجع، وتبعه جمع من المتأخرين تقليداً، وقد عاب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك حين قال: «سجع كسجع الجاهلية أو قال: الكهان» وقد علم مما ذكرته أن المعنى الذي بنيت عليه السورة ما كان ينتظم إلا بتقديم هارون، ويؤيد ذلك أنه قال هنا ﴿إنا رسولا﴾ وفي الشعراء ﴿رسول﴾، وقد قال الإمام فخر الدين الرازي كما حكاه عنه الشيخ أبو حيان في سورة فاطر من النهر: لا يقال في شيء من القرآن: أنه قدم أو أخر لأجل السجع، لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل فيه وفي المعنى، وقال القاضي أبو بكر الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن: ذهب أصحابنا كلهم إلى نفي السجع من القرآن وذكره أبو الحسن الأشعري في غير موضع من كتبه، ثم رد على المخالف بأن قال: والذي يقدرونه أنه سجع فهو وهم، لأنه قد يكون الكلام على مثال السجع وإن لم يكن سجعاً لأن
310
السجع يتبع المعنى فيه اللفظ الذي يؤدي السجع. وليس كذلك ما اتفق مما هو في تقدير السجع من القرآن، لأن اللفظ يقع فيه تابعاً للمعنى، وفصل بين أن ينتظم الكلام في نفسه بألفاظه التي تؤدي المعنى المقصود فيه وبين أن يكون المعنى منتظماً دون اللفظ. ومتى ارتبط المعنى بالسجع كان إفادة السجع كإفادة غيره. ومتى انتظم المعنى بنفسه دون السجع كان مستجلباً لتحسين الكلام دون تصحيح المعنى، ثم استدل على ذلك بأشياء نفيسة أطال فيها وأجاد - رحمه الله، وقد تقدم في آخر سورة التوبة ما ينفع جداً في هذا المرام.
ولما كان موسى عليه السلام هو المقصود بالإرسال إلى فرعون، استأنف تعالى الإخبار عن فرعون عندما فجئه ذلك فقال: ﴿قال﴾ أي فرعون للسحرة منكراً عليهم، وأضمر اسمه هنا ولم يظهره كما في الأعراف لأن مقصود السورة الرفق بالمدعوين والحلم عنهم، وهو غير متأهل لذكر اسمه في هذا المقام: ﴿آمنتم﴾ أي بالله ﴿له﴾ أي مصدقين أو متبعين لموسى ﴿قبل أن ءاذن لكم﴾ في ذلك، إبهاماً بأنه سيأذن فيه ليقف الناس عن المبادرة إلى الاتباع بين خوف العقوبة ورجاء الإذن؛ ثم استأنف قوله معللاً مخيلاً لأتباعه صداً لهم عن الاقتداء بهم: ﴿إنه لكبيركم﴾ أي في العلم ﴿الذي علمكم السحر﴾ فلم تتبعوه لظهور الحق، بل لإرادتكم شيئاً من المكر وافقتموه عليه قبل حضوركم
311
في هذا الموطن، وهذا على عادته في تخييل أتباعه فيما يوقفهم عن اتباع الحق.
ولما خيلهم، شرع يزيدهم حيرة بتهديد السحرة فقال: ﴿فلأقطعن﴾ أي سبب ما فعلتم ﴿أيديكم﴾ على سبيل التوزيع ﴿وأرجلكم﴾ أي من كلٍّ يداً ورجلاً ﴿من خلاف﴾ فإذا قطعت اليد اليمنى قطعت الرجل اليسرى ﴿ولأصلبنكم﴾ وعبر عن الاستعلاء بالظرف إشارة إلى تمكينهم من المصلوب فيه تمكين المظروف في ظرفه فقال: ﴿في جذوع النخل﴾ تبشيعاً لقتلكم ردعاً لأمثالكم ﴿ولتعلمن أينا﴾ أنا أورب موسى الذي قال: إنه أوحى إليه أن العذاب على من كذب وتولى ﴿أشد عذاباً وأبقى*﴾ أي من جهة العذاب، أي أينا عذابه أشد وأطول زماناً.
312
ولما علموا ما خيل به على عقول الضعفاء، نبهوهم فأخبر تعالى عن ذلك بقوله مستأنفاً: ﴿قالوا لن نؤثرك﴾ أي نقدم أثرك بالاتباع لك لنسلم من عذابك الزائل ﴿على ما جاءنا﴾ به موسى عليه السلام ﴿من البينات﴾ التي عايناها وعلمنا أنه لا يقدر أحد على مضاهاتها. ولما بدؤوا بما يدل على الخالق من الفعل الخارق، ترقوا إلى ذكره بعد معرفته بفعله، إشارة إلى عليّ قدره فقالوا:
312
﴿والذي﴾ أي ولا نؤثرك بالاتباع على الذي ﴿فطرنا﴾ أي ابتدأ خلقنا، إشارة إلى شمول ربوبيته سبحانه وتعالى لهم وله ولجميع الناس، وتنبيهاً على عجز فرعون عند من استحقه، وفي جميع أقوالهم هذه من تعظيم الله تعالى عبارة وإشارة وتحقير فرعون أمر عظيم.
ولما تسبب عن ذلك أنهم لا يبالون به، علماً بأن ما فعله فهو بإذن الله، قالوا: ﴿فاقض ما﴾ أي فاصنع في حكمك الذي ﴿أنت قاض﴾ ثم عللوا ذلك بقولهم: ﴿إنما تقضي﴾ أي تصنع بنا ما تريد أن قدرك الله عليه ﴿هذه الحياة الدنيا*﴾ أي إنما حكمك في مدتها على الجسد خاصة، فهي ساعة تعقب راحة، ونحن لانخاف إلا ممن يحكم على الروح وإن فني الجسد، فذاك هو الشديد العذاب، الدائم الجزاء بالثواب أو العقاب، ولعلهم أسقطوا الجار تنزلاً إلى أن حكمه لو فرض أنه يمتد إلى آخر الدنيا لكان أهلاً لأن لا يخشى لأنه زائل وعذاب الله باق. ثم عللوا تعظيمهم لله واستهانتهم بفرعون بقولهم: ﴿إنا ءامنا بربنا﴾ أي المحسن إلينا طول أعمارنا مع إساءتنا بالكفر وغيره ﴿ليغفر لنا﴾ من غير نفع يلحقه بالفعل أو ضرر يدركه بالترك
313
﴿خطايانا﴾ التي قابلنا بها إحسانه: ثم خصوا بعد العموم فقالوا: ﴿وما أكرهتنا عليه﴾ وبينوا ذلك بقولهم: ﴿من السحر﴾ لتعارض به المعجزة، فإن كان الأكمل لنا عصيانك فيه لأن الله أحق بأن يتقى. روي أن الذي كان من القبط من السحرة اثنان فقط، والباقون من بني إسرائيل أكرههم فرعون على تعلم السحر، وروي أنهم رأوا موسى عليه السلام نائماً وعصاه تحرسه فقالوا لفرعون إن الساحر إذا نام بطل سحره، فهذا لا يقدر على معارضته، فأبى عليهم وأكرههم على المعارضة.
ولما كان التقدير: فربنا أهل التقوى وأهل المغفرة، عطفوا عليه مستحضرين لكماله: ﴿والله﴾ أي الجامع لصفات الكمال ﴿خير﴾ جزاء منك فيما وعدتنا به ﴿وأبقى*﴾ ثواباً وعقاباً، والظاهر أن الله تعالى سلمهم من فرعون، ويؤيده قوله تعالى ﴿أنتما ومن اتبعكما الغالبون﴾ [القصص: ٣٥]- قاله أبو حيان. وسيأتي في آخر الحديد ما هو صريح في نجاتهم؛ ثم عللوا هذا الختم بقولهم: ﴿إنه من يأت ربه﴾ أي الذي رباه وأحسن إليه بأن أوجده وجعل له جميع ما يصلحه ﴿مجرماً﴾ أي قاطعاً ما أمره به أن يوصل ﴿فإن له جهنم﴾ دار الإهانة ﴿لا يموت فيها﴾ أبداً مع شدة عذابها.
بخلاف عذابك الذي إن
314
اشتد أمات فزال سريعاً، وإن خف لم يُخِفْ وكان آخره الموت وإن طال ﴿ولا يحيى *﴾ فيها حياة ينتفع بها ﴿ومن يأته﴾ أي ربه الذي أوجده ورباه ﴿مؤمناً﴾ أي مصدقاً به.
ولما قدم أن مجرد الكفر يوجب العذاب. كان هذا محلاًّ يتوقع فيه الإخبار عن الإيمان بمثل ذلك فقال: ﴿قد﴾ أي ضم إلى ذلك تصديقاً لإيمانه أنه ﴿عمل﴾ أي في الدنيا ﴿الصالحات﴾ التي أمر بها فكأن صادق الإيمان مستلزم لصالح الأعمال ﴿فأولئك﴾ أي العالو الرتبة ﴿لهم﴾ أي لتداعي ذواتهم بمقتضى الجبلة ﴿الدرجات العلى*﴾ التي لا نسبة لدرجاتك التي وعدتنا بها منها؛ ثم بينوها بقولهم: ﴿جنات عدن﴾ أي أعدت للإقامة وهيئت فيها أسبابها ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي من تحت غرفها وأسرتها وأرضها؛ فلا يراد موضع منها لأن يجري فيه نهر إلا جرى؛ ثم بين بقوله: ﴿خالدين فيها﴾ أن أهلها هيئوا أيضاً للإقامة.
ولما أرشد السياق والعطف على غير معطوفٍ عليه ظاهر إلى أن التقدير: ذلك الجزاء العظيم والنعيم المقيم جزاء الموصوفين، لتزكيتهم أنفسهم، عطف عليه قوله: ﴿وذلك جزاء﴾ كل ﴿من تزكى*﴾ أي طهر نفسه بما ذكر من الإيمان والأعمال الصالحة، وفي هذا تسلية للصحابة رضوان الله عليهم فيما كان يفعل بهم عند نزول
315
هذه السورة إذ كانوا مستضعفين.
316
ولما بين سبحانه استكبار فرعون المدعى في قوله ﴿فكذب وأبى﴾ وختمه سبحانه بأنه يهلك العاصي كائناً من كان، وينجي الطائع، أتبع ذلك شاهداً محسوساً عليه كفيلاً ببيان أنه لم يغن عن فرعون شيء من قوته ولا استكباره، فقال عاطفاً على «ولقد أريناه آياتنا» :﴿ولقد أوحينا﴾ أي بعظمتنا لتسهيل ما يأتي من الأمور الكبار ﴿إلى موسى﴾ غير مكترثين لشيء من أقوال فرعون ولا أفعاله، وهذا الإيحاء بعد ما تقدم من أمر السحرة بمدة مديدة جرت فيها خطوب طوال كانت بسببها الآيات الكبار، وكأنها حذفت لما تدل عليه من قساوة القلوب، والمراد هنا الانتهاء لما تقدم من مقصود السورة ﴿أن أسر﴾ أي ليلاً، لأن السري سير الليل؛ وشرفهم بالإضافة إليه فقال: ﴿بعبادي﴾ أي بني إسرائيل الذين لفت قلب فرعون حتى أذن في مسيرهم بعد أن كان قد أبى أن يطلقهم أو يكف عنهم العذاب، فاقصد بهم ناحية بحر القلزم ﴿فاضرب لهم﴾ أي اعمل
316
بضرب البحر بعصاك، ولذلك سماه ضرباً.
ولما كان ضرب البحر بالعصا سبباً لوجود الطريق الموصوفة، أوقع الفعل عليها فقال: ﴿طريقاً في البحر﴾ ووصفها بالمصدر مبالغة فقال: ﴿يبساً﴾ حال كونها أو كونك ﴿لا تخاف﴾ والمراد بها الجنس، فإنه كان لكل سبط طريقاً ﴿دركاً﴾ أي أن يدركك شيء من طغيان البحر أو بأس العدو أو غير ذلك.
ولما كان الدرك مشتركاً بين اللحاق والتبعة، أتبعه بقوله: ﴿ولا تخشى*﴾ أي شيئاً غير ذلك أصلاً إنفاذاً لأمري وإنقاذاً لمن أرسلتك لاستنقاذهم، وسوقه على هذا الوجه من إظهار القدرة والاستهانة بالمعاند مع كبريائه ومكنته استدلالاً شهودياً على ما قرر أول السورة من شمول القدرة وإحاطة العلم للبشارة بإظهار هذا الدين بكثرة الأتباع وإبارة الخصوم والإسعاد برد الأضداد وجعل بغضهم وداً، وإن كانوا قوماً لداً؛ ثم أتبع ذلك قوله عطفاً على ما تقديره: فبادر
317
امتثال الأمر في الإسراء وغيره: ﴿فأتبعهم﴾ أي أوجد التبع والمسير وراء بني إسرائيل على ذلهم وضعفهم ﴿فرعون بجنوده﴾ على كثرتهم وقوتهم وعلوهم وعزتهم، فكانوا كالتابع الذي لا معنى له بدون متبوعه ﴿فغشيهم﴾ أي فرعون وقومه ﴿من اليم﴾ أي البحر الذي من شأنه أن يؤم؛ وأوجز فهول فقال: ﴿ما غشيهم *﴾ أي أمر لا تحتمل العقول وصفه حق وصفه، فأهلك أولهم وآخرهم؛ وقطع دابرهم، لم يبق منهم أحداً، وما شاكت أحداً من عبادنا المستضعفين شوكة ﴿وأضل فرعون﴾ على تحذلقه ﴿قومه﴾ مع ما لهم من قوة الأجساد ومعانيها.
ولما كان إثبات الفعل لا يفيد العموم، نفى ضده ليفيده مع كونه أوكد وأوقع في النفس وأروع لها فقال: ﴿وما هدى*﴾ أي ما وقع منه شيء من الهداية، لا لنفسه ولا لأحد من قومه، فتم الدليل الشهودي على تمام القدرة على إنجاء الطائع وإهلاك العاصي.
ولما كان هذا موجباً للتشوف إلى ما وقع لبني إسرائيل بعده، قال تعالى شافياً لهذا الغليل، أقبلنا على بني إسرائيل ممتنين بما مضى وما يأتي قائلين: ﴿يا بني إسرائيل﴾ معترفين لهم أنا نظرنا إلى السوابق فأكرمناهم
318
لأجل أبيهم.
ولما كان درء المفاسد وإزالة الموانع قبل جلب المصالح واستدرار المنافع قال: ﴿قد أنجيناكم﴾ بقدرتنا الباهرة ﴿من عدوكم﴾ الذي كنتم أحقر شيء عنده.
ولما تفرغوا لإنفاذ ما يراد منهم من الطاعة قال: ﴿وواعدناكم﴾ أي كلكم - كما مضى في البقرة عن نص التوراة - للمثول بحضرتنا والاعتزاز بمواطن رحمتنا ﴿جانب الطور الأيمن﴾ أي الذي على أيمانكم في توجهكم هذا الذي وجوهكم فيه إلى بيت أبيكم إبراهيم عليه السلام، وهو جانبه الذي يلي البحر وناحية مكة واليمن.
ولما بدأ بالمنفعة الدينية، ثنى بالمنفعة الدنيوية فقال: ﴿ونزلنا عليكم﴾ بعد إنزال هذا الكتاب في هذه المواعدة لإنعاش أرواحكم ﴿المن والسلوى*﴾ لإبقاء أشباحكم، فبدأ بالإنجاء الممكن من العبادة، ثم أتبعه بنعمة الكتاب الدال عليها، ثم بالرزق المقوي، ودل على نعمة الإذن فيه بقوله: ﴿كلوا﴾ ودل على سعته بقوله: ﴿من طيبات ما﴾ ودل على عظمته بقوله: ﴿رزقناكم﴾ من ذلك ومن غيره.
ولما كان الغنى والراحة سبب السماحة، قال: ﴿ولا تطغوا فيه﴾
319
بالادخار إلى غد في غير يوم الجمعة ولا بغير ذلك من البطر وإغفال الشكر بصرفه في غير الطاعة ﴿فيحل﴾ أي ينزل ويجب في حينه الذي هو أولى الأوقات به - على قراءة الجماعة بالكسر، ونزولاً عظيماً وبروكاً شديداً - على قراءة الكسائي بالضم ﴿عليكم غضبي﴾ فتهلكوا لذلك ﴿و﴾ كل ﴿من يحلل عليه غضبي﴾ منكم ومن غيركم ﴿فقد هوى*﴾ أي كان حاله حال من سقط من علو.
320
ولما كان الإنسان محل الزلل وإن اجتهد، رجاه واستعطفه بقوله: ﴿وإني لغفار﴾ أي ستار بإسبال ذيل العفو ﴿لمن تاب﴾ أي رجع عن ذنوبه من الشرك وما يقاربه ﴿وءامن﴾ بكل ما يجب الإيمان به ﴿وعمل صالحاً﴾ تصديقاً لإيمانه.
ولما كانت رتبة الاستمرار على الاستقامة في غاية العلو، عبر عنها بأداة التراخي فقال: ﴿ثم اهتدى*﴾ أي استمر على العمل الصالح متحرياً به إيقاعه على حسب أمرنا وعلى أقرب الوجوه المرضية لنا، له إلى ذلك غاية التوجه كما يدل عليه صيغة افتعل، وكأنه لما رتب الله سبحانه منازل قوم موسى عليه السلام عامة والسبعين المختارين منهم خاصة في الجبل - كما مضى عن نص التوراة في سورة البقرة، وواعده الكلام
320
بعد ثلاثين ليلة ولم يعين له أولها، وكأنه لاشتياقه إلى ما رأى من التعرف إليه بمقام الجمال لم يتوقف على خصوص إذن من الله تعالى في أول وقت الإتيان اكتفاء بمطلق الأمر السابق في الميعاد، فتعجل بعشرة أيام عن الوقت الذي علم الله أن الكلام يقع فيه بعد الثلاثين التي ضربها لذلك، وأمر موسى عليه السلام قومه عند نهوضه، وتقدم إليهم في اتباعه والكون في أثره للحلول في الأماكن التي حدها الله لهم وأمر السبعين المختارة بمثل ذلك، وكأنهم لما مضى تلبثوا لما رأوا من مقام الجلال، فلما مضت الثلاثون بعد ذهاب موسى لم يكن أتى الوقت الذي أراد الله أن تكون المناجاة فيه، فزاده عشراً فظن بنو اسرائيل الظنون في تلك العشرة، ووقع لهم ما وقع من اتخاذ العجل.
ولما كان ذلك - والله أعلم بما كان، وكان أعظم ما مضى في آية الامتنان عليهم والتعرف بالنعم إليهم المواعدة لهدايتهم بالآيات المرئية والمسموعة، وختم ذلك بالإشارة إلى الاجتهاد في الإقبال على الهدى، أتبع ذلك ذكر ضلالهم بعد رؤية ما يبعد معه كل البعد إلمام من رآه بشيء من الضلال، كل ذلك لإظهار القدرة التامة على التصرف في القلوب بضد ما يظن بها، وكان تنجز المواعيد ألذ شيء للقلوب وأشهاه إلى النفوس، وكان السياق مرشداً حتماً إلى أن
321
التقدير: فأتوا إلى الطور لميعادنا، وتيمموا جانبه الأيمن بأمرنا ومرادنا، وتعجل موسى صفينا الصعود فيه مبادراً لما عنده من الشوق إلى ذلك المقام الشريف وتأخر مجيء قومه عن الإتيان معه، فقلنا: ما أخر قومك عن الأتيان معك؟ فعطف عليه قوله: ﴿وما أعجلك﴾ أي أيّ شيء أوجب لك العجلة في المجيء ﴿عن قومك﴾ وإن كنت بادرت مبادرة المبالغ في الاسترضاء، أما علمت أن حدود الملوك لا ينبغي تجاوزها بتقدم أو تأخر؟ ﴿يا موسى*﴾ فهلا أتيتم جمله وانتظرتم أمراً أمراً جديداً بخصوص الوقت الذي استحضركم فيه ﴿قال﴾ موسى ظناً منه أنهم أسرعوا وراءه: ﴿هم﴾ وأتى باسم الإشارة وأسقط منه هاء التنبيه لأنه لا يليق بخطاب الله، قال ابن هبيرة: ولم أر أحداً من الأصفياء خاطب ربه بذلك، وإنما خاطب به الكفار لغباوتهم
﴿قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعو من دونك﴾ [النحل: ٨٦] في أمثالها وأما آخر الزخرف فقد ذكر التعبير بها في موضعه ﴿أولاء﴾ أي هم في القرب بحيث يسار إليهم، كائنين ﴿على أثري﴾ أي ماشين على آثار مشيي قبل أن ينطمس لم أسبقهم إلا بشيء جرت العادة في السبق بمثله بين الرفاق، هذا بناء منه على ما كان عهد إليهم، وأكد فيه عليهم: ثم اعتذر عن فعله فقال: ﴿وعجلت﴾
322
أنا بالمبادرة ﴿إليك﴾ وجرى على عادة أهل القرب كما يحق له فقال: ﴿رب﴾ أي أيها المسارع في إصلاح شأني والإصلاح إليّ ﴿لترضى*﴾ عني رضاً أعظم مما كان ﴿قال﴾ الرب سبحانه: ﴿فإنا﴾ أي قد تسبب عن عجلتك عنهم أنا ﴿قد فتنا﴾ أي خالطنا بعظمتنا مخالطة مميلة محيلة ﴿قومك﴾ بتعجلك.
ولما كانت الفتنة لم تستغرق جميع الزمن الذي كان بعده، وإنما كانت في بعضه، أدخل الجارّ فقال: ﴿من بعدك﴾ أي خالطناهم بأمر من أمرنا مخالطة أحالتهم عما عهدتهم عليه، وكان ذلك بعد تمام المدة التي ضربتها لهم، وهي الثلاثون بالفعل وبالقوة فقط، من أول ما فارقتهم بضربك لتلك المدة باعتبار أن أول إتيانك هو الذي كان سبب الفتنة لزيادة أيام الغيبة بسببه لأنا زدنا في آخر المدة بمقدار ما عجلت به في أولها، فلما تأخر رجوعك إليهم حصل لهم الفتون بالفعل، فظنوا مرجمات الظنون.
ولما عمتهم الفتنة إلا اثني عشر ألفاً من أكثر من ستمائة ألف،
323
أطلق الضلال على الكل فقال: ﴿وأضلهم السامري*﴾ أي عن طريق الرشد بما سبب لهم؟ روى النسائي في التفسير من سننه، وأبو يعلى في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون أن موسى عليه السلام لما وعده ربه أن يكلمه استخلف على قومه أخاه هارون عليه السلام، وأجلهم ثلاثين يوماً، وذهب فصامها ليلها ونهارها، ثم كره أن يكلم ربه وريح فمه متغير، فمضغ شيئاً من نبات الأرض فقال له ربه: أوما علمت أن ريح الصائم أطيب من ريح المسك؟ ارجع فصم عشراً، فلما رأى قوم موسى أنه لم يرجع إليهم ساءهم ذلك، وكان هارون قد خطبهم وقال: إنكم خرجتم من مصر، ولقوم فرعون عندكم عواريّ وودائع، ولكم فيها مثل ذلك، وأنا أرى أن تحسبوا ما لكم عندهم، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عاريّة، ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا، فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير، ثم أوقد النار فأحرقه
324
فقال: لا يكون لنا ولا لهم، وكان السامري من قوم يعبدون البقر، جيران لبني إسرائيل ولم يكن من بني إسرائيل، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا، فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون فقال له هارون عليه السلام: يا سامري! ألا تلقي ما في يدك - وهو قابض عليه لا يراه أحد طوال ذلك اليوم، فقال هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر، ولا ألقيها لشيء إلا أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يكون ما أريد، فألقاها ودعا له هارون، فقال: أريد أن يكون عجلاً، فاجتمع ما كان في الحفرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد، فصار عجلاً أجوف ليس فيه الروح، له خوار، قال ابن عباس رضي الله عنهما: لا والله! ما كان له صوت قط، إنما كانت الريح تدخل في دبره فتخرج من فيه، فكان ذلك الصوت من ذلك، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً، فقالت فرقة: يا سامري! ما هذا وأنت أعلم به؟ قال: هذا ربكم، ولكن موسى أضل الطريق، فقالت فرقة: لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى.
فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأيناه، وإن لم يكن ربنا فإنّا نتبع موسى، وقالت فرقة: هذا عمل الشيطان، وليس بربنا، ولن نؤمن
325
به ولن نصدق، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل وأعلنوا التكذيب به - الحديث.
ثم سبب عن إخباره سبحانه له بذلك قوله: ﴿فرجع موسى﴾ أي لما أخبره ربه بذلك ﴿إلى قومه﴾ أي الذين لهم قوة عظيمة على ما يحاولونه ﴿غضبان أسفاً*﴾ أي شديد الحزن أو الغضب؛ واستأنف قوله: ﴿قال﴾ لقومه لما رجع إليهم مستعطفاً لهم: ﴿يا قوم﴾ وأنكر عليهم بقوله: ﴿ألم يعدكم ربكم﴾ الذي طال إحسانه إليكم ﴿وعداً حسناً﴾ أي بأنه ينزل عليكم كتاباً حافظاً، ويكفر عنكم خطاياكم، وينصركم على أعدائكم - إلى غير ذلك من إكرامه.
ولما جرت العادة بأن طول الزمان ناقض للعزائم، مغير للعهود، كما قال أبو العلاء أحمد بن سليمان المعري في هذا البيت:
وأنت الذي من فضل منّ ورحمة بعثت إلى موسى رسولاً منادياً
فقلت ألا يا اذهب وهارون فادعوا إلى الله فرعون الذي كان باغيا
فقولا له آأنت سويت هذه بلا وتد حتى استقلت كما هيا
وقولا له آأنت رفعت هذه بلا عمد أرفق إذن بك بانيا
وقولا له آأنت سويت وسطها منيراً إذا ما جنه الليل هاديا
وقولا له من يخرج الشمس بكرة فيصبح ما مست من الزرع ضاحيا
وقولا له من ينبت الحب في الثرى فيخرج منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه وفي ذاك آيات لمن كان واعيا
لا أنسينك إن طال الزمان بنا وكم حبيب تمادى عهده فنسي
وكان عليه الصلاة والسلام قريب العهد بهم، أنكر طول العهد بقوله، مستأنفاً عما تقديره: هل ترك ربكم مواعيده لكم وقطع معروفه عنكم: ﴿أفطال عليكم العهد﴾ أي زمن لطفه بكم، فتغيرتم عما
326
فارقتكم عليه كما يعتري أهل الرذائل الانحلال في العزائم لضعف العقول وقلة التدبر ﴿أم أردتم﴾ بالنقض مع قرب العهد وذكر الميثاق ﴿أن يحل عليكم﴾ بسبب عبادة العجل ﴿غضب من ربكم﴾ أي المحسن إليكم، وكلا الأمرين لم يكن، أما الأول فواضح، وأما الثاني فلا يظن بأحد إرادته، والحاصل أنه يقول: إنكم فعلتم ما لا يفعله عاقل ﴿فأخلفتم﴾ أي فتسبب عن فعلكم ذلك أن أخلفتم ﴿موعدي*﴾ في إجلال الله والإتيان إلى الموضع الذي ضربه لكم لكلامه لي وإنزال كتابه عليّ إحساناً إليكم وإقبالاً عليكم، وكأنه أضاف الموعد إليه أدباً مع الله تعالى وإعظاماً له، أو أنه لما كان إخلاف الموعد المؤكد المعين الذي لا شبهة فيه، لما نصب عليه من الدلائل الباهرة، وأوضحه من البراهين الظاهرة، لا يكون إلا بنسيان لطول العهد، أو عناد بسوء قصد، وكان من أبلغ المقاصد وأوضح التقرير إلجاء الخصم بالسؤال إلى الاعتراف بالمراد، سألهم عن تعيين أحد الأمرين مع أن طول العهد لا يمكن ادعاؤه، فقال ما معناه: أطال عليكم العهد بزيادة عشرة أيام فنسيتم فلم يكن عليكم في الإخلاف جناح؟ أم أردتم أن يحل عليكم الغضب فعاندتم؟ فكانت الآية من الاحتباك: ذكر طول العهد الموجب للنسيان أولاً دليل
327
على حذف العناد ثانياً، وذكر حلول الغضب ثانياً دليل على انتفاء الجناح أولاً، وسر ذلك أن ذكر السبب الذي هو طول العهد أدل على النسيان الذي هو المسبب، وإثبات الغضب - وهو المسبب - أنكأ من إثبات سببه الذي هو العناد.
328
ولما تشوف السامع إلى جوابهم، استأنف ذكره فقال: ﴿قالوا﴾ : لم يكن شيء من ذلك.
ولما كان المقصود من هذا السياق كله إظهار عظيم القدرة، عبر عن ذلك بقوله، حكاية عنهم للاعتراف بما قررهم موسى عليه السلام به من العناد معتذرين عنه بالقدرة، والاعتذار به لا يدفع العقوبة المرتبة على الذنب: ﴿ما أخلفنا موعدك بملكنا﴾ أي لقد صدقت فيما قلت، ولكنا لم نفعل ذلك ونحن بملك أمرنا - هذا على قراءة الجماعة بالكسر، وعلى قراءة نافع وعاصم بالفتح المعنى: ولنا ملكة نتصرف بها في أنفسنا، وعلى قراءة حمزة والكسائي بالضم كأنهم قالوا: ولنا سلطان قاهر لأمورنا - على أنهم قد ذكروا أن القراءات الثلاث لغات لمعنى واحد، قال في القاموس: ملكه يملكه ملكاً مثلثة: احتواه قادراً
328
على الاستبداد به، والمعنى أن السامري زين لهم ذلك، ووسوس به الشيطان فما دورا إلا وقد تبعوه حتى كانوا كأنهم يقادون إليه بالسلاسل، وقيل هذا كلام من لم يعبده، اعتذروا بأنهم كانوا قليلاً، لا قدرة لهم على مقاومة من عبده، وهذا كله إشارة إلى أنه تعالى هو المتصرف في القلوب، فهو قادر على أن يرد كفار قريش والعرب من بعد عنادهم، ولددهم وفسادهم ﴿ولكنا﴾ كنا ﴿حملنا أوزاراً﴾ أي أثقالاً من النقدين هي أسباب الآثام، كما تقدم في الأعراف أن الله أمرهم في التوراة أن يستعيروها من القبط فخربوهم بها، وكأن هذا ما كان خيانة في ذلك الشرع، أو أن الله تعالى أباح لهم ذلك في القبط خاصة ﴿من زينة القوم﴾ الذين لم نكن نعرف قوماً غيرهم، وغيرهم ليس حقيقاً بإطلاق هذا اللفظ عليه وهم القبط، فقضى لنا أن نقذفها في النار، وتوفرت الدواعي على ذلك واشتدت بحيث لم نتمالك ﴿فقذفناها فكذلك﴾ أي فتعقب هذا أنه مثل ذلك الإلقاء
329
﴿ألقى السامري*﴾ وهو لصيق انضم إليهم من قبط مصر، ألقى ما كان معه، أما من المال وإما من أثر الرسول، كما مضى ويأتي، وكأن إلقاءه كان آخراً.
ولما كان خروج التمثال عقب إلقاءه، حعل كأنه المتسبب في ذلك، فقيل مع العدول عن أسلوب التكلم استهجاناً لنسبة أمر العجل إلى المتكلم: ﴿فأخرج لهم﴾ أي لمن شربه وعبده، وجعل الضمير للغيبة يؤيد قول من جعل هذا كلام من لم يعبد العجل، والمعنى عند من جعله من كلام العابدين أنهم دلوا بذلك على البراءة منه والاستقذار له.
ولما كان شديد الشبه للعجول، قيل: ﴿عجلاً﴾ وقدم قوله: ﴿جسداً﴾ لنعرف أن عجليته صورة لا معنى - على قوله: ﴿له خوار﴾ لئلا يسبق إلى وهم أنه حي، فتمر عليه لمحة على اعتقاد الباطل ﴿فقالوا﴾ أي فتسبب عن ذلك أن السامري قال فتابعه عليه من أسرع في الفتنة أول ما رآه: ﴿هذا﴾ مشرين إلى العجل الذي هو على صورة ما هو
330
مثل في الغباوة ﴿إلهكم وإله موسى * فنسى *﴾ أي فتسبب عن أنه إلهكم أن موسى نسي - بعدوله عن هذا المكان - موضعه فذهب يطلبه في مكان غيره، أو نسي أن يذكره لكم.
ولما كان هذا سبباً للإنكار على من قال هذا، قال: ﴿أفلا يرون﴾ أي أقالوا ذلك؟ فتسبب قولهم عن عماهم عن رؤية ﴿أن﴾ أي أنه ﴿لا يرجع إليهم قولاً*﴾ والإله لا يكون أبكم ﴿ولا يملك لهم ضراً﴾ فيخافوه كما كانوا يخافون فرعون فيقولوا ذلك خوفاً من ضره ﴿ولا نفعاً*﴾ فيقولوا ذلك رجاء له.
ولما كان الذنب مع العلم أبشع، والضلال بعد البيان أشنع، قال عاطفاً على قوله ﴿قال يا قوم ألم يعدكم﴾ أو على قوله «قالوا ما أخلفنا» :﴿ولقد قال لهم هارون﴾ أي مع أن من لم يعبده لم يملكوا رد من عبده.
ولما كان قولهم في بعض ذلك الزمان، قال: ﴿من قبل﴾ أي من قبل رجوع موسى، مستعطفاً لهم: ﴿يا قوم﴾ ثم حصر أمرهم ليجتمع فكرهم
331
ونظرهم فقال: ﴿إنما فتنتم﴾ أي وقع اختباركم فاختبرتم في صحة إيمانكم وصدقكم فيه وثباتكم عليه ﴿به﴾ أي بهذا التمثال في إخراجه لكم على هذه الهيئة الخارقة للعادة. وأكد لأجل إنكارهم فقال: ﴿وإن ربكم﴾ أي الذي أخرجكم من العدم ورباكم بالإحسان ﴿الرحمن﴾ وحده الذي فضله عام ونعمه شاملة، فليس على البر ولا فاجر نعمة إلا وهي منه قبل أن يوجد العجل، وهو كذلك بعده. ومن رحمته قبول التوبة، فخافوا نزع نعمه بمعصيته، وارجوا إسباغها بطاعته ﴿فاتبعوني﴾ بغاية جهدكم في الرجوع إليه ﴿وأطيعوا أمري*﴾ في دوام الشرف بالخضوع لديه، ودوام الإقبال عليه، بدفع عنكم ضيره، ويفض عليكم خيره.
ولما كان هذا موضع أن يسأل من جوابهم لهذا الأمر الواضح الذي لا غبار عليه، قيل: ﴿قالوا﴾ بفظاظة وجمود: ﴿لن نبرح عليه﴾ أي على هذا العجل ﴿عاكفين﴾ أي مقيمين مستديرين مجتمعين وإن حاربنا في ذلك ﴿حتى يرجع إلينا موسى*﴾ فدافعهم،
332
فهمّوا به، وكان معظمهم قد ضل، فلم يكن معه من يقوى بهم، فخاف أن يجاهد بهم الكافرين فلا يفيد ذلك شيئاً، ويقتل بعضهم فيحمى له آخرون من ذوي رحمة الأقربين، فيصير بين بني إسرائيل فرقة يبعد ضم شتاتها وتلافي دهمائها، وكانوا قد غيوا الرجوع برجوع موسى عليه السلام مع أنه لم يأمره بجهاد من ضل، إنما قال له ﴿وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ [الأعراف: ١٤٢] فرأى من الإصلاح اعتزلهم إلى أن يأتي، فلما ذكر ما قال هارون عليه السلام، التفتت النفس إلى علم ما قال له موسى عليه السلام لأنه خليفته عليهم، مع كونه راساً في نفسه، فدفع هذا العناء بقوله، مسقطاً أخذه برأس أخيه لما تقدم من ذكره ويأتي هنا من الدلالة عليه، ولم تدع إليه ضرورة في هذه السورة التي من أعظم مقاصدها الدلالة على تليين القلوب: ﴿قال﴾ أي موسى: ﴿يا هارون﴾ أنت نبي الله وأخي ووزيري وخليفتي فأنت أولى الناس بأن ألومه، وأحقهم بأن أعاتبه ﴿ما منعك إذ﴾ أي حين ﴿رأيتهم ضلوا*﴾ عن طريق الهدى، واتبعوا سبيل الردى، من اتباعي في سيرتي فيهم من الأخذ على يد الظالم طوعاً أو كرهاً،
333
اتباعاً لا تزيغ فيه عما نهجته لك بوجه من الوجوه شيئاً من زيغ، وعبر عن هذا التأكيد بزيادة «لا» في قوله: ﴿ألاَّ تتبعن﴾ كما تقدم غير مرة أن النافي إذا زيد في الكلام كان نافياً لضد مضمونه فيفيد إثباتاً للمضون ونفياً لضده، فيكون ذلك في غاية التأكيد ﴿أفعصيت﴾ أي أتكبرت عن اتباعي فتسبب عن ذلك أنك عصيت ﴿أمري*﴾ وأخذ بلحيته وبرأسه يجره إليه غضباً لله تعالى، فكأنه قيل: ما قال له؟ فقيل: ﴿قال﴾ مجيباً له مستعطفاً بذكر أول وطن ضمهما بعد نفخ الروح مع ما له من الرقة والشفقة: ﴿يبنؤم﴾ فذكره بها خاصة وإن كان شقيقه لأنه يسوءها ما يسوءه، وهي أرق من الأب ﴿لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي﴾ أي بشعره؛ ثم علل ذلك بقوله: ﴿إني خشيت أن تقول﴾ إن اشتددت عليهم حتى يصل الأمر إلى القتال ﴿فرقت بين بني إسرائيل﴾ بفعلك هذا الذي لم يُجْدِ شيئاً لقلة من كان معك وضعفكم عن ردهم ﴿ولم ترقب قولي*﴾ ﴿اخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين﴾ ولم تقل وارددهم ولو أدى الأمر إلى السيف، وهذا كما كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مأموراً بالصفح والحلم والمدافعة باللين عند ضعف الناصر وقلة المعين.
334
ولما فرغ من نصيحة أقرب الناس إليه وأحقهم بنصيحته وحفظه على الهدى إذ كان رأس الهداة، تشوف السامع إلى ما كان من غيره، فاستأنف تعالى ذكره بقوله: ﴿قال﴾ أي موسى عليه السلام لرأس أهل الضلال معرضاً عن أخيه بعد قبول عذره. جاعلاً ما نسب إليه سبباً لسؤاله عن الحامل له عليه: ﴿فما خطبك﴾ أي أمرك هذا العجيب العظيم الذي حملك على ما صنعت وأخبرني العزيز العليم أنك أنت أضللتهم به ﴿يا سامري * قال﴾ السامري مجيباً له: ﴿بصرت﴾ من البصر والبصيرة ﴿بما لم يبصروا به﴾ من أمر الرسول الذي أجاز بنا البحر ﴿فقبضت﴾ أي فكان ذلك سبباً لأن قبضت ﴿قبضة﴾ أي مرة من القبض، أطلقها على المقبوض تسمية للمفعول بالمصدر ﴿من أثر﴾ فرس ذلك ﴿الرسول﴾ أي المعهود ﴿فنبذتها﴾ في الحلي الملقى في النار، أو في العجل ﴿وكذلك﴾ أي وكما سولت لي نفسي أخذ اثره ﴿سولت﴾ أي حسنت وزينت ﴿لي نفسي﴾ نبذها في الحلي فنبذتها، فكان منها ما كان، ولم يدعني إلى ذلك داع ولا حملني عليه حامل غير التسويل.
ولما كان فعله هذا مفرقاً لبني إسرائيل عن طريق الحق
335
التي كانوا عليها، وجامعاً لهم على تمثال حيوان هو من أخس الحيوانات، وعلى نفسه بكونه صار متبوعاً في ذلك الضلال، لكونه كان سببه، عوقب بالنفرة من الإنسان الذي هو أشرف الحيوان، ليكون ذلك سبباً لضد ما تسبب عن فعله، فيعاقب بالدنيا بعقوبة لا شيء أشد منها وذلك أنه منع من مخالطة الناس منعاً كلياً فلا يتصل بأحد ولا يتصل به أحد، بل يكون وحيداً طريداً ما دام حياً، فلذلك استؤنف الإخبار عن هذا بقوله تعالى: ﴿قال﴾ أي له موسى عليه السلام: ﴿فاذهب﴾ أي تسبب عن فعلك أني أقول لك: اذهب من بيننا، أو حيث ذهبت ﴿فإن لك في الحياة﴾ أي ما دمت حياً ﴿أن تقول﴾ لكل من رأيته: ﴿لا مساس﴾ أي لا تمسني ولا أمسك، فلا تقدر أن تنفك عن ذلك لإرادة الإله الحق ذلك بك وترغيبك فيه - بما أفادته اللام، لتعلم أنت ومن تبعك أنكم كنتم على أعظم ضلال في ترك القادر على كل شيء، واتباع ما لا قدرة له على شيء ﴿وإن لك﴾ بعد الممات ﴿موعداً﴾ للثواب إن تبت، وللعقاب إن أبيت
336
﴿لن تخلفه﴾ مبنياً للفاعل وللمفعول، أي لا يكون خلفك ولا تكون أنت خلفه، بل يكون كل منكما مواجهاً لصاحبه، لا انفكاك له عنه، كما أنك في الحياة لا تقدر أن تنفك عن النفرة من الناس، فاختر لنفسك ما يحلو.
ولما ذكر ما للإله الحق من القدرة التامة في الدارين، أتبعه عجز العجل فقال: ﴿وانظر إلى إلهك﴾ أي بزعمك ﴿الذي ظلت﴾ أي دمت في مدة يسيرة جداً بما أشار إليه تخفيف التضعيف ﴿عليه عاكفاً﴾ أي مقبلاً مقارباً مواظباً جهاراً ﴿لنحرقنه﴾ أي بالنار وبالمبرد - كما سلف عن نص التوراة، وكان معنى ذلك أنه أحماه حتى لان فهان على المبارد ﴿ثم لننسفنه﴾ أي لنذرينه إذا صار سحالة ﴿في اليم﴾ أي البحر الذي أغرق الله فيه آل فرعون وهو أهل لأن يقصد فيجمع الله سحالته التي هي من حيلهم وأموالهم فيحميها في نار جهنم ويكويهم ويجعلها من أشد العذاب عليهم، وأكد الفعل إظهاراً لعظمة الله الذي أمره بذلك، وتحقيقاً للصدق في الوعد فقال: ﴿نسفاً﴾.
337
ولما أراهم بطلان ما هم عليه بالعيان، أخبرهم بالحق على وجه الحصر
337
فقال: ﴿إنما إلهكم﴾ جميعاً ﴿الله﴾ أي الجامع لصفات الكمال؛ ثم كشف المراد من ذلك وحققه بقوله: ﴿الذي لا إله إلا هو﴾ أي لا يصلح لهذا المنصب أحد غيره لأنه ﴿وسع كل شيء علماً*﴾ تمييز محول عن الفاعل، أي أحاط علمه بكل شيء، فكان على كل شيء ممكن قديراً، فكان كل شيء إليه فقيراً، وهو غني عن كل شيء، وجوده يباين وجود غيره، وذاته تباين ذات غيره، وصفاته تباين صفات غيره، وأما العجل الذي عبدوه فلو كان حياً كان مثلاً في الغباوة، فلا يصلح للإلهية بوجه ولا في عبادته شيء من حق، وكان القياس على ما يتبادر إلى الذهن حيث نفى عنه العلم بقوله ﴿ألا يرجع إليهم قولاً﴾ والقدرة بقوله ﴿ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً﴾ أن يثبتا هنا للاله الحق، ولكنه اعتنى بإثبات العلم الواسع لاستلزامه للقدرة على كل ما يمكن أن يتعلق به، بإفادة الأسباب لشيء المراد، ومنع الموانع عنه فيكون لا محالة، ولو لم يكن كذلك لكان التخلف للجهل إما بما يفيد مقتضياً أو يمنع مانعاً، وأدل دليل على ذلك قوله تعالى ﴿ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء﴾ [الأعراف: ١٨٨] ولا يستلزم إثبات القدرة المحيطة العلم الشامل لخروج قسم
338
المحال الذي ليس من شأن القدرة أن تتعلق به.
ولما تمت هذه القصة على هذا الأسلوب الأعظم، والسبيل الأقوم، متكفلة بالدلالة على القدرة على ما وقعت إليه الإشارة من البشارة أول السورة بتكثير هذه الأمة ورد العرب عن غيهم بعد طول التمادي في العناد، والتنكب عن سبيل الرشاد، إلى ما تخللها من التسلية بأحوال السلف الصالح والتأسية، مفصلة من أدلة التوحيد والبعث، وغير ذلك من الحكم، بما يبعث الهمم، على معالي الشيم، كان كأنه قيل: هل يعاد شيء من القصص على هذا الأسلوب البديع والمثال الرفيع؟ فقيل: نعم ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا القص العالي، في هذا النظم العزيز الغالي، لقصة موسى ومن ذكر معه ﴿نقص عليك﴾ أي بما لنا من العظمة التي لا يعجزها شيء؛ وأشار إلى جلالة علمه بقوله: ﴿من أنباء﴾ أي أخبار ﴿ما قد سبق﴾ من الأزمان والكوائن الجليلة، زيادة في علمك، وإجلالاً لمقدارك، وتسلية لقلبك، وإذهاباً لحزنك، بما اتفق للرسل من قبلك وتكثيراً لأتباعك وزيادة في معجزاتك، وليعتبر السامع ويزداد المستبصر في دينه بصيرة وتأكد الحجة على من عابه: ﴿وقد ءاتيناك﴾ من عظمتنا
339
تشريفاً لك وتعظيماً لقدرك ﴿من لدنا﴾ أي من عندنا من الأمر الشريف بمزيد خصوصيته بنا ولطيف اتصاله بحضرتنا من غيب غيباً ﴿ذكرا*﴾ عظيماً جليلاً جامعاً لما أظهرناه من أمرنا في التوراة، وما ابطنّاه من سرنا في الإنجيل، وما أودعناه من سكينتنا في الزبور، مع ما خصصناه به من لطائف المزايا، وعظائم الأسرار، يعرف بمجرد تلاوته أنه من عندنا لما يُشهد له من الروح، ويُذاق له من الإخبات والسكون، ويرى له من الجلالة في الصدور مع القطع بأن أحداً لا يقدر أن يعارضه، وضمناه تلك القصص مع ما زدنا فيه على ذلك من المواعظ والأحكام ودقائق اشارات الحقائق، متكفلاً بسعادة الدارين وحسنى الحسنيين، فمن أقبل عليه كان مذكراً له بكل ما يريد من العلوم النافعة.
ولما اشتمل هذا الذكر على جميع أبواب الخير، فكان كل مل ليس له فيه أصل شقاور محضة وضلالاً بعيداً، قال يقص عليه من أنباء ما يأتي كما قص من أنباء ما قد سبق: ﴿من أعرض عنه﴾ أي عن ذلك الذكر، وهو عام في جميع من يمكن دخوله في معنى «من» من العالمين ﴿فإنه يحمل﴾ ولما كان المراد استغراق الوقت قال:
340
﴿يوم القيامة وزراً*﴾ أي حملاً ثقيلاً من العذاب الذي سببه الوزر وهو الذنب، جزاء لإعراضه عنه واشتغاله بغيره ﴿خالدين فيه﴾ وجمع هنا حملاً على المعنى بعد الإفراد للفظ، تنبيهاً على العموم لئلا يغفل عنه بطول الفصل، أو يظن أن الجماعة يمكنهم المدافعة، ويمكن أن يراد بالوزر الحمل الثقيل من الإثم، ويكون الضمير في «فيه» للعذاب المسبب عنه فيكون استخداماً كقوله:
إذا نزل السماء بأرض قوم رعيناه وإن كانوا غضابا
ولما كانوا منكرين ليوم القيامة، صرح بذكره ثانياً مع قرب العهد، قارعاً لأسماعهم به، مجرياً له إجراء ما هو به جدير من أنه متحقق لا مرية فيه فقال: ﴿وساء﴾ أي وبئس؛ وبين أصحاب السوء فقال: ﴿لهم﴾ أي ذلك الحمل ﴿يوم القيامة حملاً﴾ ثم شرح لهم بعض أحوال ذلك اليوم من ابتدائه، فقال مبدلاً من «يوم القيامة» :﴿يوم ينفخ﴾ أي بعظمتنا - على قراءة أبي عمرو بالنون مبنياً لفاعل، ودل على تناهي العظمة بطريقة كلام القادرين في قراءة الباقين بالياء
341
مبنياً للمفعول ﴿في الصور﴾ فيقوم الموتى من القبور ﴿ونحشر﴾ أي بعظمتنا ﴿المجرمين﴾ منهم الذين قطعوا ما أمر الله به أن يوصل، وعدل عن أن يقول: ونحشرهم - لبيان الوصف الذي جره لهم: الإعراض عن الذكر ﴿يومئذ﴾ أي يوم القيامة، ويكون لهم ما تقدم ﴿زرقاً﴾ أي زرق العيون والجسوم على هيئة من ضرب فتغير جسمه، حال كونهم ﴿يتخافتون﴾.
ولما كان التخافت - وهو المسارّة بالكلام - قد يكون بين اثنين من قبيلتين، فيكون كل منهما خائفاً من قومه أقل عاراً مما لو كانا من قبيلة واحدة، لأنه يدل على أن ذلك الخوف طبع لازم، قال دالاً على لزومه وعمومه: ﴿بينهم﴾ أي يتكلمون خافضي أصواتهم من الهيبة والجزع.
ولما كانت الزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لعدم إلفهم لها، والمخافتة أبغض الأصوات إليهم لأنها تدل عندهم على سفول الهمة والجبن وكانوا من الزرقة أشد نفرة لأن المخافتة قد يتعلق بها غرض. رتبهما سبحانه كذلك، ثم بين ما يتخافتون به فقال:
342
﴿إن﴾ أي يقول بعضهم لبعض: ما ﴿لبثتم﴾ أي في الدنيا استقصاراً لمدة إقامتهم في غيب ما بدا لهم من المخاوف، أو غلطاً ودهشة ﴿إلا عشراً*﴾ أي عقداً واحداً، لم يزد على الآحاد إلا بواحد، وهو لو أنه سنون سن من لم يبلغ الحلم، فكيف إذا كان شهوراً أو أياماً فلم يعرفوا لذة العيش بأيّ تقدير كان.
343
ولما كان علم ما يأتي أخفى من علم ما سبق، أتى فيه بمظهر العظمة فقال: ﴿نحن أعلم﴾ من كل أحد ﴿بما يقولون﴾ أي في ذلك اليوم ﴿إذ يقول أمثلهم طريقة﴾ في الدنيا فيما يحسبون، أي أقربهم إلى أن تكون طريقته مثل ما يطلب منه: ﴿إن﴾ أي ما ﴿لبثتم﴾ ودل على أن المعدود المحذوف من الأول الأيام بقوله: ﴿إلا يوماً﴾ أي مبدأ الآحاد، لا مبدأ العقود كما قال في الاية الأخرى ﴿قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم﴾ [المؤمنون: ١١٣] ﴿يقسم المجرمون ما لبثوا غير ساعة كذلك كانوا يؤفكون﴾ [الروم: ٥٥] فلا يزالون في إفك وصرف عن الحق في الدارين، لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه، ويبعث على ما مات عليه، ويجوز أن يكون المراد أن من قال: إن لبثهم يوم واحد، أمثلهم في نفس الأمر، لأن الزمان وإن طال إنما هو يوم متكرر، ليس مراداً لنفسه، وإنما هو مراد
343
لما يكون فيه فإن كان خيراً كان صاحبه محموداً ولم يضره قصره، وإن كان شراً كان مذموماً ولم ينفعه طوله، ويجوز أن يكون أنث أولاً إرادة لليالي، لأنها محل الراحة المقصودة بالذات، فكان كأنهم قالوا: لم يكن لنا راحة إلا بزمن يسير جداً أكثر أول العقود، ونص الأمثل على اليوم الذي يكون الكد فيه للراحة في الليل إشارة إلى أنهم ما كان لهم في اللبث في الدنيا راحة أصلاً، ولم يكن سعيهم إلا نكداً كله كما يكون السعي في يوم لا ليلة يستراح فيها. وإن كانت فيه راحة فهي ضمنية لا أصلية.
ولما أخبر عن بعض ما سبق ثم عن بعض ما يأتي من أحوال المعرضين عن هذا الذكر فيما ينتجه لهم إعراضهم عنه، وختم ذلك باستقصارهم مدة لبثم في هذه الدار، أخبر عن بعض أحوالهم في الإعراض فقال: ﴿ويسألونك عن الجبال﴾ ما يكون حالها يوم يتفخ في الصور؟ شكا منهم في البعث وقوفاً مع الوهم في أنها تكون موجودة على قياس جمودهم لا محالة، لأنها أشد الأشياء قوة، وأطولها لبثاً، وأبعدها مكثاً، فتمنع بعض الناس من سماع النفخ في الصور، وتخيل للبعض بحكم رجع الهواء الحامل للصوت أنه آتٍ من غير جهته فلا يستقيم القصد إلى الداعي ﴿فقل﴾ أي فتسبب عن علمنا بأنهم يسألونك هذا
344
السؤال أنا نقول لك: قل، أو يكون على تقدير شرط، أي فإذا سألوك فقل لهم، وهذا بخلاف ما نزل بعد وقوع السؤال عنه مثل الروح وقصة ذي القرنين فإن الأمر بجوابه على طريق الاستئناف لما هناك من استشراف النفس للجواب ﴿ينسفها﴾ أي يقلعها من أماكنها ويذريها بالهواء ﴿ربي﴾ المحسن إليّ بنصري في يوم القيامة نصراً لا يبلغ كنهه ﴿نسفاً﴾ عند النفخة الأولى ﴿فيذرها﴾ أي أماكنها ﴿قاعاً﴾ أي أرضاً ملساء ﴿صفصفاً*﴾ أي مستوياً كأنه صف واحد لا اثر للجبال فيه ﴿لا ترى﴾ أي بالبصر ولا بالبصيرة ﴿فيها﴾ أي مواضع الجبال ﴿عوجاً﴾ بوجه من الوجوه، وعبر هنا بالكسر هو للمعاني، ولم يعبر بالفتح الذي يوصف به الأعيان، ومواضع الجبال أعيان لا معاني، نفياً للاعوجاج على أبلغ وجه، بمعنى أنك لو جمعت أهل الخبرة بتسوية الأراضي لا تفقوا على الحكم باستوائها، ثم لو جمعت أهل الهندسة فحكموا مقاييسهم العلمية فيها لحكموا بمثل ذلك ﴿ولا أمتاً*﴾ أي شيئاً مرتفعاً كالكدية أو نتوّاً يسيراً أو شقاً أو اختلافاً؛ وقال البيضاوي والزمخشري: الأمت النتوّ اليسير، قال الغزالي في الدرة الفاخرة:
345
ينفخ في الصور فتطاير الجبال، وتفجر الأنهار بعضها في بعض، فيمتلىء عالم الهواء ماء، وتنتثر الكواكب وتتغير السماء والأرض، ويموت العالمون فتخلو الأرض والسماء؛ قال: ثم يكشف سبحانه عن بيت في سقر فيخرج لهيب النار فيشتعل في البحور فتنشف، ويدع الأرض جمرة سوداء، والسماوات كأنها عكر الزيت والنحاس المذاب، ثم يفتح تعالى خزانة من خزائن العرش فيها بحر الحياة، فيمطر به الأرض، وهو كمنيّ الرجال فتنبت الأجسام على هيئتها، الصبى صبي، والشيخ شيخ، وما بينهما، ثم تهب من تحت العرش نار لطيفة فتبرز الأرض ليس فيها جبل ولا عوج ولا أمت، ثم يحيى الله إسرافيل فينفخ في الصور من صخرة القدس، فتخرج الأرواح من ثقب في الصور بعددها كل روح إلى جسدها حتى الوحش والطير فإذا هم بالساهرة.
ولما أخبر سبحانه بنزول ما يكون منه العوج في الصوت قال: ﴿يومئذ﴾ أي إذ ينفخ في الصور فتنسف الجبال ﴿يتبعون﴾ أي أهل المحشر بغاية جهدهم ﴿الداعي﴾ أي بالنفخ منتصبين إليه على الاستقامة ﴿لا عوج له﴾ أي الداعي في شيء من قصدهم إليه،
346
لأنه ليس في الأرض ما يحوجهم إلى التعريج ولا يمنع الصوت من النفوذ على السواء؛ وقال أبو حيان: أي لا عوج لدعائه، بل يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس.
ولما أخبر بخشوعهم في الحديث والانقياد للدعوة، أخبر بخشوع غير ذلك من الأصوات التي جرت العادة بكونها عن الاجتماع فقال: ﴿وخشعت الأصوات﴾ أي ارتخت وخفيت وخفضت وتطامنت لخشوع أهلها ﴿للرحمن﴾ أي الذي عمت نعمه، فيرجى كرمه، ويخشى نقمه ﴿فلا﴾ أي فيتسبب عن رخاوتها أنك ﴿تسمع إلا همساً*﴾ أخفى ما يكون من الأصوات، وقيل: أخفى شيء من أصوات الأقدام.
347
ولما تقرر ما للأصوات من الانخفات، وكان قد أشير فيما مضى إلى وقوع الشفاعة من بعض أخصائه بإذنه، وكان الحشر للحساب بمعرض التقريب لبعض والتبعيد لبعض، وكانت العادة جارية بأن المقرب يشفع للمبعد، لما بين أهل الجمع من الوصل والأسباب المقتضية لذلك، وكان الكفار يزعمون أن آلهتهم تشفع لهم
347
قال نافياً لأن تقع شفاعة بغير إذنه، معظماً ذلك اليوم بالإنذار منه مرة بعد مرة: ﴿يومئذ﴾ أي إذ كان ما تقدم ﴿لا تنفع الشفاعة﴾ أي لا تكون شفاعة ليكون لها نفع، لأنه قد ثبت بما مضى أنه لا صوت، وتقرر في تحقيق المحصورات من علم الميزان أن السالبة الحقيقية لا تستدعي وجود الموضوع في الخارج، وإنما حول العبارة لأن المقصود بالذات النفع، فنفيه بادىء بدا أفظع، وقرع السمع به أولاً أهول وأفزع ﴿إلا﴾ أي إلا شفاعة ﴿من أذن له الرحمن﴾ العام النعمة ﴿ورضي له قولاً*﴾ ولو الإيمان المجرد.
ولما نفي أن تقع الشفاعة بغير إذنه، علل ذلك - كما سلف في آية الكرسي - بقوله: ﴿يعلم ما بين أيديهم﴾ أي الخلائق وهو كل ما يعلمونه ﴿وما خلفهم﴾ وهو كل ما غاب عنهم علمه، أي علمه سبحانه محيط بهم، فهو يمنع قلوبهم في ذلك اليوم بما يوجد من الأسباب أن تهم بما لا يرضاه ﴿ولا يحيطون به علماً*﴾ ليحترزوا عما يقدره عليهم، و ﴿علماً﴾ تمييز منقول من الفاعل،
348
أي ولا يحيط علمهم به - قال أبو حيان. والأقرب عندي كونه منقولاً عن المفعول الذي تعدى إليه الفعل بحرف الجر، أي ولا يحيطون بعلمه، فيكون ذلك أقرب إلى ما في آية الكرسي. ولما ذكر خشوع الأصوات، أتبعه خضوع دونها فقال: ﴿وعنت الوجوه﴾ أي ذلت وخضعت واستسلمت وجوه الخلائق كلهم، وخصها لشرفها ولأنها أول ما يظهر فيه الذل ﴿للحي﴾ الذي هو مطلع على الدقائق والجلائل، وكل ما سواه جماد حيث ما نسبت حياته إلى حياته ﴿القيوم﴾ الذي لا يغفل عن التدبير ومجازاة كل نفس بما كسبت ﴿وقد خاب﴾ أي خسر خسارة ظاهرة ﴿من حمل﴾ منهم أو من غيرهم ﴿ظلماً*﴾.
ولما ذكر الظالم، أتبعه الحكيم فقال: ﴿ومن يعمل﴾ ولما كان الإنسان محل العجز وإن اجتهد، قال ﴿من الصالحات﴾ أي التي أمره الله بها بحسب استطاعته، لأنه «لن يقدر الله أحد حق قدره» «ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه» ﴿وهو مؤمن﴾ ليكون بناؤها على الأساس، وعبر بالفاء إشارة إلى قبول الأعمال وجعلها سبباً لذلك الحال فقال: ﴿فلا يخاف ظلماً﴾ بأن ينسب إليه سوء لم يقترفه
349
لأن الجزاء من جنس العمل، وقراءة ابن كثير بلفظ النهي محققة للمبالغة في النفي ﴿ولا هضماً﴾ أي نقصاً من جزائه وإن كان هو لم يوف المقام حقه لأنه لا يستطيع ذلك، وأصل الهضم الكسر، وأما غير المؤمن فلو عمل أمثال الجبال من الأعمال لم يكن لها وزر.
350
ولما اشتملت هذه الآية على الذروة من حسن المعاني، فبشرت ويسرت، وأنذرت وحذرت، وبينت الخفايا، وأظهرت الخبايا، مع ما لها من جلالة السبك وبراعة النظم، كان كأنه قيل تنبيهاً على جلالتها: أنزلناها على هذا المنوال العزيز المثال ﴿وكذلك﴾ أي ومثل هذا الإنزال ﴿أنزلناه﴾ أي هذا الذكر كله بعظمتنا ﴿قرآناً﴾ جامعاً لجميع المعاني المقصودة ﴿عربياً﴾ مبيناً لما أودع فيه لكل من له ذوق في أساليب العرب.
ولما كان أكثر هذه الآيات محذراً، قال: ﴿وصرفنا﴾ أي بما لنا من العظمة ﴿فيه من الوعيد﴾ أي ذكرناه مكررين له محولاً في أساليب مختلفة، وأفانين متنوعة مؤتلفة.
ولما ذكر الوعيد، أتبعه ثمرته فقال: ﴿لعلهم يتقون﴾ أي ليكون الناظر لهم بعد ذلك على رجاء من أن يتقوا ويكونوا به في عداد من يجدد التقوى كل حين، بأن تكون له وصفاً مستمراً، وهي الحذر الحامل
350
على اتخاذ الوقاية مما يحذر ﴿أو﴾ في عداد من ﴿يحدث﴾ أي يجدد هذا التصريف ﴿لهم ذكراً*﴾ أي ما يستحق أن يذكر من طرق الخير، فيكون سبباً للخوف الحامل على التقوى، فيردهم عن بعض ما تدعو إليه النفوس من النقائض والبؤس.
ولما بلغت هذه الجمل نهاية الإعجاز، فاشتملت على غاية الحكمة، دالة على أن لقائلها تمام العلم والقدرة والعدل في أحوال الدراين، تسبب عن سوقها كذلك أن بان له من العظمة ما أفهمه قوله، معظماً لنفسه الأقدس بما هو له أهل بعد تعظيم كتابه تعليماً لعباده ما يجب له من الحق دالاً بصيغة التفاعل على مزيد العلو: ﴿فتعالى الله﴾ أي بلغ الذي لا يبلغ الواصفون وصفه حق وصفه من العلو أمراً لاتحتمله العقول، فلا يلحقه شيء من إلحاد الملحدين ووصف المشركين ﴿الملك﴾ الذي لا يعجزه شيء، فلا ملك في الحقيقة غيره ﴿الحق﴾ أي الثابت الملك، فلا زوال لكونه ملكاً في زمن ما؛ ولعظمة ملكه وحقية ذاته وصفاته صرف خلقه على ما هم عليه من الأمور المتباينة.
351
ولما كانت هذه الآيات في ذم من أعرض عن هذا الذكر، كان تقدير: فلا تعرض عنه، بل أقبل عليه لتكون من المتقين الذاكرين، ولما كان هذا الحث العظيم ربما اقتضى للمسابق في التقوى المبالغة في المبادرة إليه فيستعجل بتلقفه قبل الفراغ من إيحائه، قال عاطفاً على هذا المقدر: ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ أي بتلاوته.
ولما كان النهي عاماً لجميع الأوقات القبلية، دل عليه بالجار لئلا يظن أنه خاص بما يستغرق زمان القبل جملة واحدة فقال: ﴿من قبل أن﴾ ولما كان النظر هنا إلى فراغ الإيحاء لا إلى موح معين، بنى للمجهول قوله: ﴿يقضى﴾ أي ينهى ﴿إليك وحيه﴾ من الملك النازل إليك من حضرتنا به كما أنا لم نعجل بإنزاله عليك جملة، بل رتلناه لك ترتيلاً، ونزلناه إليك تنزيلاً مفصلاً تفصيلاً، وموصلاً توصيلاً - كما أشرنا إليه أول السورة، فاستمع له ملقياً جميع تأملك إليه ولا تساوقه بالقراءة، فإذا فرغ فاقرأه فإنا نجمعه في قلبك ولا نسقيك بإنسائه وأنت مصغ إليه، ولا بتكليفك للمساوقة بتلاوته
352
﴿وقل رب﴾ أي المحسن إليّ بإفاضة العلوم عليّ ﴿زدني علماً*﴾ أي بتفهيم ما أنزلت إليّ منه وإنزال غيره كما زدتني بإنزاله وتحفيظه، لتتمكن من معرفة الأسباب المفيدة لتبع الخلق لك، فإنه كما تقدم على قدر إحاطة العلم يكون شمول القدرة، وفي هذا دليل على أن التأني في العلم بالتدبر وبإلقاء السمع أنفع من الاستعجال المتعب للبال المكدر للحال، وأعون على الحفظ، فمن وعى شيئاً حق الوعي حفظه غاية الحفظ؛ وروى الترمذي وابن ماجة والبزار عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول:
«اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال، وأعوذ بالله من حال أهل النار» أفاده ابن كثير في تفسيره.
ولما قرر سبحانه بقصة موسى عليه السلام ما أشار إليه أول السورة بما هو عليه من الحلم والتأني على عباده، والإمهال لهم فيما هم عليه من النقص بالنسيان للعهود والنقض للمواثيق، وأتبعها ذكر مدح
353
هذا الذكر الذي تأدت إلينا به، وذم من أعرض عنه، وختمه بما عهد إليه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أمره نهياً وأمراً، أتبع ذلك سبحانه قصة آدم عليه السلام تحذيراً من الركون إلى ما يسبب النسيان، وحثاً على رجوع من نسي إلى طاعة الرحمن، وبياناً لأن ذلك الذي قرره من حلمه وإمهاله عادته سبحانه من القدم، وصفته التي كانت ونحن في حيز العدم، وأنه جبل الإنسان على النقص، فلو أخذهم بذنوبهم ما ترك عليها من دابة، فقال عاطفاً على قوله ﴿وكذلك أنزلناه حكماً عربياً﴾ [الرعد: ٣٧] أو ﴿كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق﴾ مؤكداً لما تقدم فيه وعهد به من أمر القرآن، ومحذراً من الإخلال بذلك ولو على وجه النسيان، ومنجزاً لما وعد به من قص أنباء المتقدمين مما يوافق هذا السياق: ﴿ولقد عهدنا﴾ بما لنا من العظمة ﴿إلى آدم﴾ أبي البشر الذي أطلعناه على كثير منها في النهي عن الأكل من الشجرة ﴿من قبل﴾ أي في زمن من الأزمان الماضية قبل هؤلاء الذين تقدم في هذه السورة ذكر نسيانهم وإعراضهم ﴿فنسي﴾ عهدنا وأكل منها مع علمه من تلك العظمة بما لا ينبغي أن ينسى معه ذلك العهد المؤكد بذلك الجلال، فعددنا عليه وقوعه في ذلك المنهيّ ناسياً ذنباً لعلو رتبته عندنا، فهو
354
من باب «حسنات الأبرار سيئات المقربين» فكيف بما فوق ذلك! ﴿ولم نجد﴾ بالنظر إلى ما لنا من العظمة ﴿له عزماً*﴾ أي قصداً صلباً ماضياً وإرادة نافذة لا تردد فيها كإرادات الملائكة عليهم السلام، والمعنى أنه لم يتعلق علمنا بذلك موجوداً، ومع ذلك عفونا عنه ولم نزحزحه عن رتبة الاصطفاء.
355
ولما كان المقصود من السورة - كما سلف - الإعلام بالحلم والأناة والتلطف بالنائي والقدرة على المعرض، ذكر فعله آدم عليه السلام هذه في هذه السورة بلفظ المعصية مع التصريح بأنها على وجه النسيان، وذكر ذلك أولاً مجملاً ثم أتبعه تفصيله ليكون ذلك مذكوراً مرتين، تأكيداً للمعنى المشار إليه، تقريراً وتحذيراً من الوقوع في منهيّ، وإرشاداً لمن «غلب عليه» طبع النقص إلى المباردة إلى الندم وتعاطي أسباب التوبة ليتوب الله عليه ما فعل بآدم عليه السلام فقال: ﴿وإذ﴾ أي اذكر هذا واذكر حين ﴿قلنا﴾ بما لنا من العظمة، أي اذكر قولنا في ذلك الوقت ﴿للملائكة﴾ أي المجبولين على مضي العزم
355
والتصميم على القصد من غير مانع تردد ولا عائق فتور ﴿اسجدوا لآدم﴾ الذي خلقته بيدي، فلم نأمرهم بذلك إلا بعد أن اصطفيناه ونحن عالمون بما سيقع منه، وأنه لا يقدح في رتبة اصطفائه، فإن الحلم والكرم من صفاتنا، والرحمة من شأننا، فلا تيأس من عودنا بالفضل والرحمة على من بالغ في مقاطعتنا من قومك الذين وصفناهم باللدد ﴿فسجدوا﴾ أي الملائكة ﴿إلا إبليس﴾ الذي نسب الله إلى الجور والإخلال بالحكمة فكفر فأيس من الرحمة وسلب الخير فأصر على إضلال الخلق بالتلبيس، فكأنه قيل: ما كان من حاله في عدم سجوده؟ فقيل: ﴿أبى*﴾ أي تكبر على آدم فعصى أمر الله ﴿فقلنا﴾ بسبب ذلك بعد أن حلمنا عنه ولم نعاجله بالعقوبة: ﴿يا آدم إن هذا﴾ الشيطان الذي تكبر عليك ﴿عدو لك﴾ دائماً لأن الكبر الناشىء عن الحسد لا يزول ﴿ولزوجك﴾ لأنها منك ﴿فلا يخرجنكما﴾ أي لا تصغيا إليه بوجه فيخرجكما، ووجه النهي إليه والمراد: هما، تنبيهاً على أن لها من الجلالة ما ينبغي أن تصان عن أن يتوجه إليها نهي، وأسند الإخراج إليه لزيادة التحذير والإبلاغ في التنفير، وزاد في
356
التنبيه بقوله: ﴿من الجنة﴾ أي فإنه لا يقصر في ضركما وإرادة إنزالكما عنها.
ولما نص سبحانه على شركتها له في الإخراج فكان من المعلوم شركتها له في آثاره، وكانت المرأة تابعة للرجل، فكان هو المخصوص في هذه الدار بالكل في الكد والسعي، والذب والرعي، وكان أغلب تعبه في أمر المرأة، أفرد بالتحذير من التعب لذلك وعدّاً لتعبها بالنسبة إلى تعبه عدماً، وتعريفاً بأن أمرها بيده، وهو إن تصلب قادها إلى الخير، وإلا قادته إلى الضير، وعبر عن التعب بالشقاء زيادة في التحذير منه فقال: ﴿فتشقى﴾ أي فتتعب، ولم يرد شقاوة الآخر، لأنه لو أرادها ما دخل الجنة بعد ذلك، لأن الكلام المقدر بعد الفاء خبر، والخبر لا يخلف. ثم علل شقاوته على تقدير الإخراج بوصفها بما لا يوجد في غيرها من الأقطاب التي يدور علها كفاف الإنسان، وهي الشبع والريّ والكسوة والكن.
ذاكراً لها بلفظ النفي لنقائضها ليطرق سمعه بأسماء أصناف الشقوة التي حذره منها ليصير بحيث يتحامى السبب الموقع فيها كراهة لها، فإذا مضت عليه القدرة الباهرة علم أنه لا يغني حذر من قدر، فقال: ﴿إن لك﴾ أي علينا ﴿ألا تجوع فيها﴾ أي يوماً ما ﴿ولا تعرى*﴾ فلا يتجرد باطنك ولا ظاهرك ﴿وأنك لا تظمؤا﴾
357
بالتهاب القلب ﴿فيها ولا تضحى*﴾ أي لا يكون بحيث يصيبك حر الشمس، والمعنى أنه لا يصيبك حر في الباطن ولا في الظاهر ﴿فوسوس﴾ أي فتعقب تحذيرنا هذا من غير بعد في الزمان أن وسوس ﴿إليه الشيطان﴾ المحترق المطرود، وهو إبليس، أي ألقى إليه وجه الخفاء بما مكناه من الجري في هذا النوع مجرى الدم، وقذف المعاني في قلبه، وكأنه عبر ب «إلى»، لأن المقام لبيان سرعة قبول هذا النوع للنقائص وإن أتته من بعد، أو لأنه ما أنهى إليه ذلك إلا بواسطة زوجه، لذلك عدى الفعل عند ذكرهما بالام، وكأنه قيل: ما دس إليه؟ فقيل: ﴿قال يا آدم﴾ ثم ساق له الغش مساق العرض، إبعاداً لنفسه من التهمة والغرض؛ وشوقه إليه أولاً بقوله: ﴿هل أدلك﴾ فإن النفس شديدة الطلب لعلم ما تجهله؛ وثانياً بقوله: ﴿على شجرة الخلد﴾ أي التي من أكل منها خلد، فإن الإنسان أحب شيء في طول البقاء؛ وثالثاً بقوله: ﴿وملك لا يبلى*﴾ أي لا يخلق أصلاً، فكأنه قال له بلسان الحال أو القال: نعم، فقال: شجرة الخلد هذه - مشيراً إلى التي نهي عنها - ما بينك وبين الملك الدائم إلا أن تأكل منها.
﴿فأكلا﴾ أي فتسبب عن قوله وتعقب أن أكل ﴿منها﴾ هو وزوجه، متبعين لقوله ناسيين ما عهد إليهما ﴿فبدت لهما﴾ لما خرقا من ستر النهي وحرمته
358
﴿سوءاتهما﴾ وقوعاً لما حذرا منه من إخراجهما مما كانا فيه ﴿وطفقا﴾ أي شرعا ﴿يخصفان﴾ أي يخيطان أو يلصقان ﴿عليهما من ورق الجنة﴾ ليسترا عوراتهما ﴿وعصى آدم﴾ وإن كان إنما فعل المنهي نسياناً، لأن عظم مقامه وعلو رتبته يقتضيان له مزيد الاعتناء ودوام المراقبة مع ربط الجأش ويقظة الفكر ﴿ربه﴾ أي المحسن إليه بما لم ينله أحداً من بنيه من تصويره له بيده وإسجاد ملائكته له ومعاداة من عاداه ﴿فغوى*﴾ من الغواية وهي الضلال، ولذلك قالوا: المعنى: فضلّ عن طريق السداد، فأخطأ طريق التوصل إلى الخلد بمخالفة أمره، وهو صفيه، لم ينزله عن رتبة الاصطفاء، لأن رحمته واسعة، وحلمه عظيم، وعفوه شامل، فلا يهمنك أمر القوم اللد، فإنا قادرون على أن نقبل بقلوب من شئنا منهم فنجعلهم من أصفى الأصفياء، ونخرج من أصلاب من شئنا منهم من نجعل قلبه معدن الحكمة والعلم.
ولما كان الرضى عنه - مع هذا الفعل الذي أسرع فيه اتباع العدو وعصيان الولي بشيء لا حاجة به إليه - مستبعداً جداً، أثبت
359
ذلك تعالى مشيراً إليه بأداة التراخي فقال: ﴿ثم اجتباه ربه﴾ أي المحسن إليه ﴿فتاب عليه﴾ أي بسبب الاجتباء بالرجوع إلى ما كان عليه من طريق السداد ﴿وهدى*﴾ بالحفظ في ذلك كما هو الشأن في أهل الولاية والقرب.
360
ولما كانت دور الملوك لا تحتمل مثل ذلك، وكان قد قدم سبحانه عنايته بآدم عليه السلام اهتماماً به، وكان الخبر عن زوجه وعن إبليس لم يذكر، فكانت نفس السامع لم تسكن عن تشوفها إلى سماع بقية الخبر، أجاب عن ذلك بأنه أهبط من داره المقدسة الحامل على المخالفة والمحمول وإن كان قد هيأه بالاجتباء لها، فقال على طريق الاستئناف: ﴿قال﴾ أي الرب الذي انتهكت حرمة داره: ﴿اهبطا منها﴾ أيها الفريقان: آدم وتبعه، وإبليس ﴿جميعاً﴾.
ولما كان السياق لوقوع النسيان وانحلال العزم بعد أكيد العهد، حرك العزم وبعث الهم بإيقاع العداوة التي تنشأ عنها المغالبة، فتبعث الهمم وتثير العزائم، فقال في جواب من كأنه قال: على أيّ حال يكون الهبوط: ﴿بعضكم لبعض عدو﴾ وهو صادق بعداوة كل من الفريقين للفريق الآخر: فريق إبليس - الذين هم الجن - بالإضلال، وفريق
360
الإنس بالاحتراز منهم بالتعاويذ والرقى وغير ذلك، وبعداوة بعض كل فريق لبعضه ﴿فإما﴾ أي فتسبب عن ذلك العلم بأنه لا قدرة لأحد منكم على التحرز من عدوه إلا بي ولا حرز لكم من قبلي إلا اتباع أمري، فإما ﴿يأتينكم﴾ أي أيها الجماعة الذين هم أضلّ ذوي الشهوات من المكلفين ﴿مني هدى﴾ تحترزون به عن استهواء العدو واستزلاله ﴿فمن اتبع﴾ عبر بصيغة «افتعل» التي فيها تكلف وتتميم للتبع الناشىء عن شدة الاهتمام ﴿هداي﴾ الذي أسعفته به من أوامر الكتاب والرسول المؤيد بدلالة العقل، وللتعبير بصيغة «افتعل» قال: ﴿فلا يضل﴾ أي بسبب ذلك، عن طريق السداد في الدنيا ولا في الآخرة أصلاً ﴿ولا يشقى*﴾ أي في شيء من سعيه في واحدة منهما، فإن الشقاء عقاب الضلال، ويلزم من نفيه نفي الخوف والحزن بخلاف العكس، فهو أبلغ مما في البقرة، فإن المدعو إليه في تلك مطلق العبادة، والمقام في هذه للخشية والبعث على الجد بالعداوة ﴿إلا تذكرة لمن يخشى﴾ وللإقبال على الذكر ﴿من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً﴾ والتحفظ من المخالفة ولو بالنسيان ﴿فنسي ولم نجد له عزماً﴾. قال الرازي في اللوامع: والشقاء: فراق العبد من الله، والسعادة وصوله
361
إليه؛ وقال الأصبهاني عن ابن عباس رضي الله عنهما: ضمن الله عز وجل لمن اتبع القرآن أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة ﴿ومن أعرض﴾ أي فعل دون فعل الرضيع بتعمد الترك لما ينفعه بالمجاورة ﴿عن ذكري﴾ الذي هو الهدى ﴿فإن له﴾ ضد ذلك ﴿معيشة﴾ حقرها سبحانه بالتأنيث ثم وصفها بأفظع وصف وهو مصدر يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وغيره فقال: ﴿ضنكاً﴾ أي ذات ضنك أي ضيق، لكونه على ضلال وإن رأى أن حاله على غير ذلك في السعة والراحة، فإن ضلاله لا بد أن يرديه، فهو ضنك لكونه سبباً للضيق وآئلاً إليه، من تسمية السبب باسم المسبب، مع أن المعرض عن الله لا يشبع ولا يضل إلى أن يقنع، مستولٍ عليه الحرص الذي لا يزال أن يطيح ببال من يريد الازدياد من الدنيا، مسلط عليه الشح الذي يقبض يده عن الانفاق، عن مناوأة الخصوم، وتعاقب الهموم، مع أنه لا يرجو ثواباً، ولا يأمن عقاباً، فهو لذلك في أضيق الضيق، لا يزال همه أكبر من وجده
«لو كان لابن آدم واد من ذهب لابتغى إليه ثانياً، ولو أن له واديين لا بتغى لهما ثالثاً، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب» متفق عليه عن أنس رضي الله عنه، وهكذا حال من أتبع نفسه هواها، وأما المقبل على الذكر بكليته فهو قانع راض بما هو فيه، مستكثر من ذكر الله الشارح للصدور الجالي للقلوب فهو أوسع سعة، فلا تغتر بالصور وانظر إلى المعاني.
362
ولما ذكر حاله في الدنيا، أتبعه قوله: ﴿ونحشره يوم القيامة أعمى*﴾ وكان ذلك في بعض أوقات ذلك اليوم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: إذا خرج من القبر خرج بصيراً، فإذا سيق إلى المحشر عمي، أو يكون ذلك - وهو أقرب مفهوم العبارة - في بعض أهل الضلال ليجتمع مع قوله ﴿أسمع بهم وأبصر يوم يأتوننا﴾ [مريم: ٣٨] وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما في الصحيح من هذا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الظلم ظلمات يوم القيامة» ثم استأنف قوله: ﴿قال﴾ مذكراً بالنعمة السابقة استعطافاً لأن من شأن مسلف نعمة أن يربيها وإن قصر المنعم عليه، وغاية ذلك إنما يكون مهما بقي للصلح موضع: ﴿رب﴾ أي أيها المحسن إليّ المسبغ نعمه عليّ ﴿لم حشرتني﴾ في هذا اليوم ﴿أعمى وقد كنت﴾ أي في الدنيا، أو في أول هذا اليوم ﴿بصيراً*﴾ فكأنه قيل: بم أجيب؟ فقيل: ﴿قال﴾ له ربه: ﴿كذلك﴾ أي مثل هذا الفعل الشنيع فعلت في الدنيا، والمعنى: مثل ما قلت كان؛ ثم فسر على الأول، وعلل على الثاني، فقال: ﴿أتتك آياتنا﴾ على عظمتها التي هي من عظمتنا ﴿فنسيتها﴾ أي فعاملتها بإعراضك عنها معامله المنسي الذي لا يبصره صاحبه، فقد جعلت نفسك أعمى البصر
363
والبصيرة عنها، كما قال تعالى: ﴿الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكري﴾ [الكهف: ١٠١] ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك النسيان الفظيع، وقدم الظرف ليسد سوقه للمظروف ويعظم اختباره لفهمه فقال: ﴿اليوم تنسى*﴾ أي تترك على ما أنت عليه بالعمى والشقاء بالنار، فتكون كالشيء الذي لا يبصره أحد ولا يلتفت إليه ﴿وكذلك﴾ أي ومثل ذلك الجزاء الشديد ﴿نجزي من أسرف﴾ في متابعة هواه فتكبر عن متابعة أوامرنا ﴿ولم يؤمن بآيات ربه﴾ فكفر إحسانه إما بالتكذيب وإما بفعله فعل المكذب.
ولما ذكر أن هذا الضال كان في الدنيا معذباً بالضنك، وذكر بعض ما له في الآخرة، قال مقسماً لما له من التكذيب: ﴿ولعذاب الآخرة﴾ بأيّ نوع كان ﴿أشد﴾ من عذاب الدنيا ﴿وأبقى*﴾ منه، فإن الدنيا دار زوال، وموضع قلعة وارتحال.
364
ولما كان ما مضى من هذه السورة وما قبلها من ذكر مصارع الأقدمين، وأحاديث المكذبين، بسبب العصيان على الرسل، سبباً عظيماً للاستبصار والبيان، كانوا أهلاً لأن ينكر عليهم لزومهم لعماهم فقال تعالى: ﴿أفلم يهد﴾ أي يبين ﴿لهم كم أهلكنا قبلهم﴾ اي كثرة إهلاكنا
364
لمن تقدمهم ﴿من القرون﴾ بتكذيبهم لرسلنا، حال كونهم ﴿يمشون في مساكنهم﴾ ويعرفون خبرهم بالتوارث خلفاً عن سلف أنا ننصر أولياءنا ونهلك أعدائنا ونفعل ما شئنا! والأحسن أن لا يقدر مفعول، ويكون المعنى: أو لم يقع لهم البيان الهادي، ويكون ما بعده استئنافاً عيناً كما وقع البيان بقوله استئنافاً: ﴿إن في ذلك﴾ أي الإهلاك العظيم الشأن المتوالي في كل أمة ﴿لآيات﴾ عظيمات البيان ﴿لأولي النهى*﴾ أي العقول التي من شأنها النهي عما لا ينفع فضلاً عما يضر، فإنها تدل بتواليها على قدرة الفاعل، وبتخصيص الكافر بالهلاك والمؤمن بالنجاة على تمام العلم مع عموم القدرة، وعلى أنه تعالى لا يقر على الفساد وإن أمهل - إلى غير ذلك ممن له وازع من عقله.
ولما هددهم بإهلاك الماضين، ذكر سبب التأخير عنهم، عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق، وهو مثل أن يقال: فلو أراد سبحانه لعجل عذابهم: ﴿ولولا كلمة﴾ أي عظيمة ماضية نافذة ﴿سبقت﴾ أي في الأزل ﴿من ربك﴾ الذي عودك بالإحسان بأنه يعامل بالحلم والأناة، وأنه لا يستأصل مكذبيك، بل يمد لهم، ليرد من شاء
365
منهم ويخرج من أصلاب بعضهم من يعبده، وإنما ذلك إكراماً لك رحمة لأمتك لأنا كما قلنا أول السورة ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ بإهلاكهم وإن كانوا قوماً لداً، ولا بغير ذلك، وما أنزلناه إلا لتكثر أتباعك، فيعملوا الخيرات، فيكون ذلك زيادة في شرفك، وإلى ذلك الإشارة بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً» ﴿لكان﴾ أي العذاب ﴿لزاماً﴾ أي لازماً أعظم لزوم لكل من أذنب عند أول ذنب يقع منه لشرفك عنده وقربك لديه ﴿و﴾ لولا ﴿أجل مسمى*﴾ ضربه لكل شيء لكان الأمر كذلك أيضاً، لكنه سبقت رحمته غضبه فهو لا يعجل، وضرب الأجل فهو لا يأخذ قبله، وكل من سبق الكلمة وتسمية الأجل مستقل بالإمهال فكيف إذا اجتمعا، فتسبب عن العلم بأنه لا بد من استيفاء الأجل وإن زاد العاصي في العصيان تسليم الأمور إلى الله وعدم القلق في انتظار الفرج فقال: ﴿فاصبر على ما يقولون﴾ لك من الاستهزاء وغيره.
ولما كان الصبر شديداً على النفس منافراً للطبع، لأن النفس مجبولة على النقائص، مشحونة بالوسواس، أمر منه لأجل من يحتاج إلى الكمال بما ينهض بها من حضيض الجسم إلى أوج الروح بمقامي
366
التحلي بالكمالات والتخلي عن الرعونات، وبدأ بالأول لأنه العون على الثاني، وذكر أشرف الحلي فقال: ﴿وسبح بحمد ربك﴾ أي اشتغل بما ينجيك من عذابه، ويقربك من جنابه، بأن تنزه من أحسن إليك عن كل نفص، حال كونك حامداً له بإثبات كل كمال، وذلك بأن تصلي له خاصة وتذكره بالذاكرين، غير ملتفت إلى شيء سواه ﴿قبل طلوع الشمس﴾ صلاة الصبح ﴿وقبل غروبها﴾ صلاة العصر والظهر؛ وغير السياق في قوله: ﴿ومن آناء الّيل﴾ أي ساعاته، جمع إنو - بكسر ثم سكون، أي ساعة، لأن العبادة حينئذ أفضل لاجتماع القلب وهدوء الرجل والخلو بالرب، لأن العبادة إذ ذاك أشق وأدخل في التكليف فكانت أفضل عند الله ﴿فسبح﴾ أي بصلاة المغرب والعشاء، إيذاناً بعظمة صلاة الليل، وكرر الأمر بصلاتي الصبح والعصر إعلاماً بمزيد فضلهما، لأن ساعتيهما أثناء الطي والبعث فقال: ﴿وأطراف النهار﴾ ويؤيد ما فهمته من أن ذلك تكرير لهما ما في الصحيحين عن جرير ابن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال: كنا جلوساً عند
367
رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال:
«إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا»، ثم قرأ هذه الاية. وإلا لم يكن في الآية مزيد حث عليهما خاصة، على أن الفظ «آناء وأطراف» صالح لصلاة التطوع من الرواتب وغيرها ليلاً ونهاراً، وأفاد بذكر الجارّ في الآناء التبعيض، لأن الليل محل الراحة، ونزعه من الأطراف لتيسر استغراقها بالذكر، لأن النهار موضع النشاط واليقظة، ويجوز - وهو أحسن - أن يكون المراد بما قبل الطلوع الصبح، وما قبل الغروب العصر فقط، وببعض الآناء المغرب والعشاء، وأدخل الجار لكونهما وقتين، وبجميع الأطراف الصبح والظهر والعصر، لأن النهار له أربعة أطراف: أوله، وآخره وآخر نصفه الأول، وأول نصفه الثاني، والكل مستغرق بالتسبيح، ولذلك نزع الجار، أما الأول والآخر فبالصبح والعصر، وأما الآخران فبالتهيؤ للصلاة ثم الصلاة نفسها، وحينئذ تكون الدلالة على فضيلة الصبح والعصر من وجهين: التقديم والتكرير، وإلى ذلك الإشارة بالحديث، وإذا أريد إدخال النوافل حملت الأطراف على الساعات - والله الهادي.
368
ولما كان الغالب على الإنسان النسيان فكان الرجاء عنده أغلب، ذكر الجزاء بكلمة الإطماع لئلا يأمن فقال: ﴿لعلك ترضى *﴾ أي افعل هذا لتكون على رجاء من أن يرضاك ربك فيرضيك في الدنيا والآخرة، بإظهار دينك وأعلاء أمرك، ولا يجعلك في عيش ضنك في الدنيا ولا في الآخرة - هذا على قراءة الكسائي وأبي بكر عن عاصم بالبناء للمفعول، والمعنى على قراءة الجماعة بالبناء للفاعل: لتكون على رجاء من أن تكون راضياً دائماً في الدنيا والآخرة، ولا تكون كذلك إلا وقد أعطاك ربك جميع ما تؤمل.
ولما كانت النفس ميالة إلى الدنايا، مرهونة بالحاضر من فاني العطايا، وكان تخيلها عن ذلك هؤ الموصل إلى حريتها المؤذن بعلو همتها، قال مؤكداً إيذاناً بصعوبة ذلك: ﴿ولا تمدن﴾ مؤكداً له بالنون الثقيلة ﴿عينيك﴾ أي لا تطوّل نظرهما بعد النظرة الأولى المعفو عنها قاصداً للاستحسان ﴿إلى ما متعنا به﴾ بما لنا من العظمة التي لا ينقصها تعظم أعدائنا به في هذه الحياة الفانية ﴿أزواجاً﴾ أي أصنافاً متشاكلين ﴿منهم﴾ أي من الكفرة ﴿زهرة﴾ أي تمتيع
369
﴿الحياة الدنيا﴾ لا ينتفعون به في الآخرة لعدم صرفهم له في أوامر الله، فهو مصدر من المعنى مثل جلست قعوداً، ثم علل تمتيعهم بقوله تعالى: ﴿لنفتنهم فيه﴾ أي لنفعل بهم فعل المختبر، فيكون سبب عذابهم في الدنيا بالعيش الضنك لما مضى، وفي الآخرة بالعذاب الأليم، فصورته تغر من لم يتأمل معناها حق التأمل، فما أنت فيه خير مما هم فيه ﴿ورزق ربك﴾ الذي عود به أولياءه - وهو في دار السفر- الكفاف الطيب المقرون بالتوفيق ﴿خير﴾ من زهرتهم، لأنه يكفي ولا يطغي وزادك ما يدني إلى جنابه فيعلي ﴿وأبقى*﴾ فإنه وفقك لصرفه في الطاعة فكتب لك من أجره ما توفاه يوم الحاجة على وجه لا يمكن أحداً من الخلق حصره، وتكون الدنيا كلها فضلاً عما في أيديهم أقل من قطرة بالنسبة إلى بحره، وإضافة رزقه دون رزقهم إليه سبحانه - وإن كان الكل منه - للتشريف، وفي التعبير بالرب إيذان بالحل، وفيه إشارة إلى ظهوره عليهم وحياته بعدهم كما هو الشأن في الصالحين والطالحين.
370
ولما أمر بتزكية النفس أتبعه الإعلام بأن منها تزكية الغير، لأن ذلك أدل على الإخلاص، وأجدر بالخلاص، كما دل عليه مثل السفينة الذي ضربه رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن يأمر بالمعروف ومن يتركه فقال ﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ كما كان أبوك إسماعيل عليه السلام، ليقودهم إلى كل خير ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ [العنكبوت: ٤٥] ولم يذكر الزكاة لدخولها في التزهيد بالآية التي قبلها.
ولما كانت شديدة على النفس عظيمة النفع، قال ﴿واصطبر﴾ بصيغة الافتعال ﴿عليها﴾ أي على فعلها، مفرغاً نفسك لها وإن شغلتك عن بعض أمر المعاش، لأنا ﴿لا نسألك رزقاً﴾ أي نكلفك طلبه لنفسك ولا لغيرك، فإن ما لنا من العظمة يأبى أن نكلفك أمراً، ولا نكفيك ما يشغلك عنه.
ولما كانت النفس بكليتها مصروفة إلى أمر المعاش، كانت كأنها تقول: فمن أين يحصل الرزق؟ فقال: ﴿نحن﴾ بنون العظمة ﴿نرزقك﴾ لك ولهم ما قدرناه لكم من أيّ جهة شئنا من ملكنا الواسع وإن كان يظن أنها بعيدة، ولا ينفع في الرزق حول محتال، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب، ولا تدأبوا في تحصيله والسعي فيه، فإن كلاًّ من الجاد فيه والمتهاون به لا يناله أكثر مما قسمناه له في الأزل ولا أقل،
371
فالمتقي لله المقبل على ذكره واثق بوعده قانع راض فهو في أوسع سعة، والمعرض متوكل على سعيه فهو في كد وشقاء وجهد وعناء أبداً ﴿والعاقبة﴾ أي الكاملة، وهي التي لا عاقبة في الحقيقة غيرها، وهي الحالة الجميلة المحمودة التي تعقب الأمور، أي تكون بعدها ﴿للتقوى*﴾ أي لأهلها، ولا معولة على الرزق وغيره توازي الصلاة، فقد كان رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة - أخرجه أحمد عن حذيفة وعلقه البغوي في آخر سورة الحجر، وقال الطبراني في معجمه الأوسط: ثنا أحمد - هو ابن يحيى الحلواني - ثنا سعيد - هو ابن سليمان - عن عبد الله بن المبارك عن معمر عن محمد بن حمزة عن عبد الله بن سلام رضي الله عنه قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل بأهله الضيق أمرهم بالصلاة، ثم قرأ ﴿وأمر أهلك بالصلاة﴾ الآية.
لا يروى هذا الحديث عن عبد الله بن سلام إلا بهذا الإسناد، تفرد به معمر، وقال الحافظ عماد الدين إسماعيل بن كثير في تفسيره: وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي عبد الله بن أبي زياد القطران ناسيارنا جعفر عن ثابت قال: «كان الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
372
إذا أصابته خصاصة نادى أهله: يأهلاه! صلوا صلوا»، قال ثابت: وكان الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة، وقد روى الترمذي وابن ماجه كلاهما في الزهد - وقال الترمذي: حسن غريب - من حديث عمران بن زائدة عن أبيه عن أبي خالد الوالبي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يقول الله تعالى: تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك» وروى ابن ماجه من حديث الضحاك عن الأسود عن ابن مسعود رضي الله عنه: سمعت نبيكم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من جعل الهموم هماً واحداً هم المعاد، كفاه الله هم دنياه، ومن تشعبت به الهموم أحوال الدنيا لم يبال الله في أيّ أوديتها هلك» وروى أيضاً من حديث عمر بن سليمان عن عبد الرحمن بن أبان عن أبيه عن زيد بن ثابت رضي الله عنه: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته جمع الله له أمر، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة».
ولما قدم في هذه السورة ما ذكر من قصص الأولين وأخبار
373
الماضين، مبكتاً بذلك من أمر قريش بالتعنت من اليهود، فلم يقدروا على إنكار شيء منه ولا توجيه طعن إليه، وخلله ببدائع الحكم، وغرائب المواعظ في أرشق الكلم، وختم ذلك بأعظم داع إلى التقوى، عجب منهم في كونهم لا يذعنون للحق أنفة من المجاهرة بالباطل، أو خوفاً من سوء العواقب، فقال: ﴿وقالوا﴾ ولعله عطف على ما يقدر في حيز قوله ﴿أفلم يهد لهم إلى قوله: إن في ذلك لآيات﴾ من أن يقال: وقد أبوا ذلك ولم يعدوا شيئاً منه آية: ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿يأتينا﴾ أي محمد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ﴿بآية﴾ أي مثل آيات الأولين ﴿من ربه﴾ المحسن إليه، دالة على صدقه.
ولما تضمن هذا أنهم لم يعدوا شيئاً من هذه البينات - التي أدلى بها على من تقدمه - آية مكابرة، استحقوا الإنكار، فقال: ﴿أولم﴾ أي ألم يأتهم من الآيات في هذا القرآن مما خصصتك به من الأحكام والحكم في أبلغ المعاني بأرشق النظوم ما أعجز بلغاءهم، وأبكم فصحاءهم، فدل قطعاً على أنه كلامي، أو لم ﴿تأتهم بينة ما﴾ أي الأخبار التي ﴿في الصحف الأولى*﴾ من صحف إبراهيم وموسى وعيسى وداود عليهم السلام في التوارة والإنجيل والزبور وغير ذلك من الكتب الإلهية
374
كقصتي آدم وموسى المذكورتين في هذه السورة وغيرهما مما تقدم قصة لها كما هي عند أهلها على وجوه لا يعلمها إلا قليل من حذاقهم من غير أن يخالط عالماً منهم أو من غيرهم، ومن غير أن يقدر أحد منهم على معارضة ما أتى به في قصتها من النظم المنتج قطعاً أنه لا معلم له إلا الله المرسل له، وأن أتى به منها شاهد لما في الصحف الأولى من ذلك بالصدق، لأنه كلام الله، فهو بينة على غيره لإعجازه، فجميع الكتب الإلهية مفتقرة إلى شهادته افتقار المحتج عليه إلى شهادة الحجة، ولا افتقار له بعد العجز عنه إلى شيء أصلاً، فهو أعظم من آيات جميع الأنبياء اللاتي يطلبون مثلها بما لا يقايس.
ولما تبين بذلك أنهم يطعنون بما لا شبهة لهم فيه أصلاً، أتبعه ما كان لهم فيه نوع شبهة لو وقع، فقال عاطفاً على ﴿ولولا كلمة﴾ :﴿ولو أنا أهلكناهم﴾ معاملة لهم في عصيانهم بما يقتضيه مقام العظمة ﴿بعذاب من قبله﴾ أي من قبل هذا القرآن المذكور في الآية الماضية
375
وما قاربها، وفي قوله ﴿ولا تعجل بالقرآن﴾ صريحاً، وكذا في مبنى السورة ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ ﴿لقالوا﴾ يوم القيامة: ﴿ربنا﴾ يا من هو متصف بالإحسان إلينا ﴿لولا﴾ أي هلا ولم لا ﴿أرسلت﴾ ودلوا على عظمته وعلو رتبته بحرف الغاية فقالوا: ﴿إلينا رسولاً﴾ أي يأمرنا بطاعتك ﴿فنتبع﴾ أي فيتسبب عنه أن نتبع ﴿آياتك﴾ التي يجيئنا بها.
ولما كان اتباعهم لا يستغرق زمان القبل قالوا: ﴿من قبل أن نذل﴾ بالعذاب هذا الذل ﴿ونخزى*﴾ بالمعاصي التي عملناها على جهل هذا الخري فلأجل ذلك أرسلناك إليهم وأقمنا بك حجة عليهم، ونحن نترفق بهم، ونكشف عن قلوب من شئنا منهم ما عليها من الرين بما ننزل من الذكر ونجدد من الآيات حتى نصدق أمرك ونعلي شأنك ونكثر أتباعك وننصر أشياعك.
ولما علم بهذا أن إيمانهم كالمتنع، وجدالهم لا ينقطع، بل إن جاءهم الهدى طعنوا فيه، وإن عذبوا قبله تظلموا، كان كأنه قيل: فما الذي أفعل معهم؟ فقال: ﴿قل كل﴾ أي مني ومنكم ﴿متربص﴾ أي منتظر حسن عاقبة أمره ودوائر الزمان على عدوه ﴿فتربصوا﴾ فإنكم كالبهائم ليس لكم تأمل، ولا تجوزون
376
الجائز إلا عند وقوعه ﴿فستعلمون﴾ أي عما قريب بوعد لا خلف فيه عند كشف الغطاء ﴿من أصحاب الصراط﴾ أي الطريق الواضح الواسع ﴿السويّ﴾ أي الذي لا عوج فيه ولا نتوّ، فهو من شأنه أن يوصل إلى المقاصد.
ولما كان صاحب الشيء قد لا يكون عالماً بالشيء ولا عاملاً بما يعلم منه، قال ﴿ومن اهتدى*﴾ أي من الضلالة فحصل على جميع ما ينفعه واجتنب جميع ما يضره، نحن أم أنتم؟ ولقد علموا يقيناً ذلك يوم فتح مكة المشرفة، واشتد اغتباطهم بالإسلام، ودخلوا رغبة في الحلم والكرم، ورهبة من السيف والنقم، وكتنوا بعد ذلك يعجبون من توقفهم عنه ونفرتهم منه، وهذا معناه أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن اتبعه هم السعداء الأغنياء الراضون في الدنيا والآخرة، وهو عين قوله تعالى: ﴿ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى﴾ فقد انطبق الآخر على الأول، ودل على أن العظيم يعامل بالحلم فلا يعجل - والله أعلم.
377
مقصودها الاستدلال على تحقق الساعة وقربها ولو بالموت، ووقوع الحساب فيها على الجليل والحقير، لأن موجدها لا شريك له يعوقه عنها، وهن من لا يبدل القول لديه، والدال على ذلك أوضح دلالة مجموع قصص جماعة ممن ذكر فيها من الأنبياء عليهم السلام، ولا يستقل قصة منها استقلالا ظاهرا بجميع ذلك كما سنبين، ولا يخلو قصو من قصصهم من دلالة على شيء من ذلك فنسبت إلى الكل - والله الموفق.
سورة الأنبياء
378
Icon