ﰡ
وواضح ما بين بدء هذه السورة، وبدء سورة الأنبياء وخاتمتها، وما بين بدئها وختامها من تلاق وتلاحم.. بحيث يمكن أن تقرأ سورة الحج فى أعقاب سورة الأنبياء، من غير فاصل بالبسملة، وكأنها بعض منها، وتعقيب على مقرراتها.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الآيات: (١- ٢) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١ الى ٢]بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (١) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (٢)التفسير:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ... »
بهذا الإعلام الصارخ المدوى تبدأ السورة الكريمة، منذرة الناس بهذا اليوم العظيم، يوم القيامة، منبهة لهم من غفلتهم، ملفتة لهم إلى ما هنالك من أهوال تشيب منها الولدان..
والإعلان عام للناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، المنتبه لهذا اليوم، والمعدّ نفسه له، ومن أنكره وكفر به، أو كان فى غفلة عنه..
وقوله تعالى: «إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ» هو عرض لهذا اليوم العظيم، وما يقع فيه من أهوال، وما يطلع به على الناس من مفزعات.. والزلزلة، الهزّة والرّعدة، وهى الإرهاصات التي تقوم بين يدى هذا اليوم.
قوله تعالى:
«يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».
هو «لقطات» من مشاهد هذا اليوم.. فمجرد رؤية ما يطلع فى هذا اليوم، يأخذ على الناس عقولهم، وأسماعهم وأبصارهم.. فتذهل كلّ مرضعة عمّا أرضعت، وتضع كلّ ذات حمل حملها.. حيث لا يملك أحد- مع هذا البلاء- شيئا من نفسه، فتتعطل فيه الأجهزة «العاملة» الإرادية منها وغير الإرادية..
ويصبح مجرد شبح يتحرك كما تتحرك الأشباح! والصورة هنا مجازية، فليس هناك مرضع حتى تذهل عن رضيعها، ولا حامل
ويمكن أن تكون هذه الصورة حقيقية، وأن من يشهد من الناس إرهاصات الساعة، ونذرها، قبل أن تقع، يقع لهم هذا.. فكيف بالساعة نفسها، حين ينكشف أمرها كله؟.
وقوله تعالى: «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ».
هو عرض لصورة من صور الساعة بين يدى نذرها.. فهذه النذر تقلب أوضاع الحياة، وتطلع على الناس بما لم يروه فى حياتهم من مذهلات.. وهذا ما بشير إليه قوله تعالى: «وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا.. يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا.. بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ» (٩٧: الأنبياء)
الآيات: (٣- ٥) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣ الى ٥]
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (٣) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٥)
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها. أنها تعرض وجها من وجوه المشركين، المكذبين بيوم القيامة، التي جاءت الآيتان السابقتان منذرتين بها، محذرتين من أهوالها.. ومع هذه الأهوال العظيمة، والأحداث المزلزلة التي تلقى الناس يوم القيامة، فإن كثيرا من الناس لاهون عنها، مستخفّون بها، يأخذون كل حديث عنها مأخذ السخرية والعبث، بهذا الجدل العقيم، الذي يسلم المرء فيه عقله لهواه، فيرمى بالكلام على أي وجه يقع..
- وفى قوله تعالى: «وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس، لا يسعى إلى تحصيل علم فى الأمر الذي يجادل فيه، وهو البعث، وكأنه أمر لا يعنيه، ولا يريد أن يدخل على نفسه أىّ شعور به، يزحزح تلك المشاعر التي ارتبط بها بالدنيا.. فهو منقاد لهواه، متبع لشيطانه.. وهو شيطان قوى بالنسبة لهذا الإنسان الأحمق، الذي التقى هواه مع هوى الشيطان! قوله تعالى:
«كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ».
هو وصف للشيطان، وهو أنه قد كتب عليه، أي حكم عليه من الله سبحانه وتعالى ألا يتولاه، ويستجيب له، إلا الضالّون الخاسرون من عباده:
الحياة.. وخالق الحياة
قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ».
أكثر ما يكون الجدل فى قضية الإيمان يدور حول «البعث» حتى إن كثيرا من الذين يعترفون بوجود الإله الخالق، الذي بيده ملكوت السموات والأرض، يكذبون، أو يشكّون فى إمكان البعث ووقوعه. وهذا ناشىء عن فساد فى العقيدة، وعن قصور فى إدراك بعض ما لله سبحانه وتعالى من كمال مطلق، فى ذاته وصفاته.. وأن قدرته سبحانه مطلقة من كل حد وقيد..
وإذا كان للشك فى البعث ما يبرره عند الذين ينكرون الله، ولا يؤمنون بوجوده، فإنه ليس له وجه يقبل عليه من الذين يقولون إنهم يؤمنون بإله واحد!! وهذا شان اليهود، فإنهم مع إيمانهم بالله، فإن تصورهم المريض لجلال الألوهية وعظمتها، جعلهم ينظرون إلى الله، وكأنه كائن مادىّ محدود، لا يقدر على إعادة الأجسام بعد البلى والدثور.. ثم كان حبهم للحياة، وتعلقهم بها مباعدا
فهم كما وصفهم الله سبحانه وتعالى فى قوله: «وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ» (٩٦: البقرة)..
فهم ومشركو العرب على سواء، فى تصورهم للبعث، فقد كان مشركو الجاهلية يؤمنون بالله، ولكنه إيمان باهت مختلط بكثير من الضلالات، الأمر الذي جعلهم ينكرون البعث ويقولون: «ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ» (٢٤: الجاثية).
وهذه الآية الكريمة تشرح قضية البعث، وتعرضها هذا العرض المحسوس الواضح، الذي تكاد تمسك به اليد، ومن هنا كان العرض عاما، يدعى إليه الناس جميعا، مؤمنهم وكافرهم، عالمهم وجاهلهم:
- «يا أَيُّهَا النَّاسُ».. اسمعوا هذا النداء، واشهدوا هذا العرض.. ثم احكموا بما ترون..
- «إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ».. فانظروا أولا فى هذه الصورة، وتابعوا سيرها، خطوة خطوة، لتروا كيف بدأت، وكيف انتهت، ثم كيف كان البدء.. وكيف كانت النهاية:
- «فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ».. هكذا..
- «مِنْ تُرابٍ..» حيث كنتم بعض هذا التراب الذي ترون. لا وجود لكم ولا أثر يدلّ عليكم..
«ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ..» أي ومن هذا التراب نبتت شجرة إنسانية، هى الإنسان الأول.. ثم كان تناسلكم وتوالدكم، كما تتوالد، وتتناسل
«ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ».. وهى صورة أولى من صور النطفة، حيث تنعقد النطفة.
«ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ» هى صورة أولى من صور العلقة، حيث تتحول إلى قطعة من اللّحم، أشبه بلقمة مضغت حتى أصبحت أشبه بقطعة من العجين.. وهذه المضغة قد تكون مهيأة لاستقبال الحياة، فتعلق بالرحم، وتستقر فيه، حتى تستوفى مراحل نموّها، وتصبح جنينا، ثم وليدا يخرج إلى الحياة، وقد تكون غير مهيأة للحياة، فيلفظها الرحم..
- «لِنُبَيِّنَ لَكُمْ..» أي هذه المراحل التي تحول بها التراب، إلى مادة تأكلونها، ثم تخلّق من هذا المادّة «النطفة» التي هى بذرة الحياة، ثم تحولت النطفة إلى علقة، والعلقة إلى مضغة.. وهذه المضغة تقف على عتبة الحياة، وتطرق بابها.. فإما أن يؤذن لها بالدخول، فتأخذ طريقها حتى تخرج من الباب الآخر كائنا حيّا، وإما أن تردّ، وتعود إلى عالم التراب، الذي جاءت منه- هذه المراحل الأولى هى إعداد للحياة، وتمهيد للأرض التي تنبت فيها..
تماما كالبذرة من الحبّ، تمهدّ لها الأرض، ثم تودع فى التراب، ثم يساق إليها الماء..
وإلى هنا تكون كل وسائل الإنبات مستكملة مستوفاة فى ظاهر الأمر..
وهذا هو المطلوب من الإنسان أن يعمله، وأن يستكمل أسبابه حتى يجىء المسبّب..!
ولكن بين الأسباب والمسبب، نظر لناظر، وعبرة لمعتبر!
وكل سبب من هذه الأسباب، مسبب عن أسباب أخرى.. وهكذا- نقول:
هل له يد يمكن أن يمدّها إلى تلك الأسباب، فيخرج منها النبات الذي بذر بذرته، وانتظر ثمرته؟
وإذا كان الإنسان يملك أن يجد فى كيانه النطفة، ثم يهيئ المكان الذي يقذفها فيه، ثم يقذف بالنطفة فى هذا المكان المهيأ لها- فهل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة التي نزلت بمكانها المهيأ لها، ثم جهدت جهدها، فكانت علقة، ثم كانت العلقة مضغة- نقول: هل له مجال هنا فى أن يزحزح تلك النطفة- وقد أصبحت مضغة- إلى أبعد من هذا، وأن ينفخ فيها نفخة الحياة، وأن يمسك بها فى الرّحم؟
جواب واحد، ينطق به الحال، ويشهد له الواقع، وهو: «لا» ! إنه لا حول للإنسان ولا طول له، فى هذا الأمر أو ذاك، وإنه ليس إلا العجز، والتسليم، ليد قادرة، خالقة، مبدعة.. لا حدود لقدرتها، ولا نهاية لإبداعها.
واستمع إلى قوله تعالى:
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ؟» (٥٨- ٥٩:
الواقعة).
هذا، عن النطفة، وعن آيات القدرة القادرة، وآثارها فيها..
«أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ؟ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ» (٦٣- ٦٧:
الواقعة)..
فهل له فى هذا أو ذاك يدان؟
وإلى هنا ونحن ما زلنا بعد على شاطىء الحياة، بعيدا عن أعماقها وأغوارها.!
فإذا غرق الإنسان وهو ما زال على اليبس، فكيف به إذا خاض الماء، أو غاص فى أعماقه؟
إنه لأسلم للإنسان إذن أن يقف حيث هو، وأن يظلّ على الشاطئ، يشهد ببصره، أو ببصيرته ما يرى من آيات الله، وآثار قدرته ورحمته فى تلك «المضغة» !.
وأيّة مضغة؟ إنها المضغة، المخلّقة، التي نفخ فيها الخالق النفخة الأولى للحياة..
أمّا المضغة غير المخلقة، فقد وقفت عند الشاطئ.. ترابا مع هذا التراب.
فلنبدأ إذن فى متابعة هذه النطفة «المخلقة»، ولنرصد مسيرتها..
مرحلة مرحلة..
«وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ»..
فها هى ذى النطفة الآن فى سفينة الحياة.. وها هى ذى السفينة تتحرك رويدا على صدر هذا المحيط العظيم..
«ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا»..
وها هى ذى السّفينة تضرب فى ثبج المحيط، وتختفى رويدا رويدا عن
إنه تلك النطفة، أو المضغة التي أقلعت بها من الشاطئ.. ثم دارت بها تلك الدورة الطويلة، فتخلّق من هذه المضغة هذا «الطفل» الذي هو صورة كاملة مصغرة من هذا الإنسان الذي دفع به إلى السفينة نطفة، ثم ها هو ذا يستقبله إنسانا! وما أبعد ما بين النطفة والإنسان، فيما ترى العين، ويشهد العقل.. وما أقرب ما بين النطفة والإنسان فى يد الخالق، المبدع، المصوّر!.
ثم ما هذا الطفل، أو ذلك الإنسان المصغر؟
إنه كائن لا يملك من أمره شيئا..
ولكن مهلا، فإن يد القدرة ممسكة بيده.. فانظر كيف تجعل من هذا الطفل رجلا، كما جعلت من النطفة طفلا! «ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ».
فها هو ذا الطفل فى يد القدرة القادرة، تمدّه بأسباب النّماء والقوة، يوما بعد يوم وحالا بعد حال.. وإذا هذه الكومة من اللحم المتحركة فى كيانها المحدود، تحبو، ثم تقفز كما تقفز الضفدع، ثم تمشى على أربع كما تمشى الدواب، ثم تقوم منتصبة القامة، تمشى على رجلين.. ثم.. وثم، وثم.. حتى يبلغ أشده وبصير رجلا..
وبلغ أشدّه.
واللام فى قوله تعالى: «لِتَبْلُغُوا» هى لام العاقبة والغاية.. أي غاية النضج الإنسانى..
وهنا تبدأ لهذا الكائن مسيرة أخرى..
«وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى، وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً».
وإذ يبلغ الإنسان- مرحلة الشيخوخة- من العمر، يقف وقفة على عتبة الموت، أشبه بتلك الوقفة، التي وقفتها المضغة، على باب الحياة! فكما كانت المضغة هناك مخلّقة أو غير مخلّقة، يكون «الشيخ» هنا مخلّقا من حصاد الموت، أو غير مخلّف..
وهذا يعنى..
أولا: أن حدود الحياة الإنسانية، تنتهى غالبا عند مرحلة الشيخوخة..
حيث يستوفى الإنسان غايته، ويعطى الحياة كلّ ما عنده، ويأخذ منها كلّ ما هو قادر على أخذه منها.
وثانيا: أن هذا لا يمنع من أن يسقط على هذا الطريق كثير من الناس، قبل أن يبلغوا هذه المرحلة.. من أجنّة، وأطفال، وصبيان، وغلمان، وشباب.. تماما كما تتساقط بعض ثمار الفاكهة، زهرا، أو حصرما، أو رطبا.
كما لا يمنع أيضا من أن يجاوز الإنسان مرحلة الشيخوخة، فيكون من مخلفات الحياة.. تماما كمخلفات الثمر، الذي يجفّ، وهو لا يزال ممسكا بغصن الشجرة..
إنها دورة فى نصف دائرة.. أشبه بالشمس فى شروقها وغروبها..
ثم لا بد أن تتم هذه الدورة لتكون دائرة كاملة، فهذا هو نظام الكون فى أفلاكه جميعا، إنها تدور فى دائرة كاملة.. والإنسان ما هو إلا كون من هذه الأكوان.. يشرق، ثمّ يغرب، وبذلك يتم نصف دورته.. أما النصف الآخر فيقطعه وراء هذا العالم- عالم الظاهر- ثم يعود ليطلع من جديد فى عالم الظهور!.
وفى التعبير القرآنى عن امتداد العمر إلى ما بعد الشيخوخة بقوله تعالى:
«أَرْذَلِ الْعُمُرِ» إشارة إلى أن هذه النهاية التي ينتهى إليها الإنسان فى مسيرة حياته، هى أرذل مرحلة، وأخسّها، وأسوؤها فى حياته.. إذ بها يتحول الإنسان إلى كائن هو مسخ لهذا الإنسان.. حيث تأخذ منه الحياة كل يوم شيئا، وتستردّ شيئا فشيئا ممّا كانت قد أعطته..
لقد استقبلته الحياة وليدا، فأرضعته من ثديها، النّماء، والقوة، والإدراك، والعلم، والمعرفة.. وما يزال هذا دأبها به حتى يبلغ غايته، ويستوفى كل ما يمكن أن تعطيه طبيعته.. وهنا تدعه الحياة ينفق مما أخذ منها، وفى كل يوم ينقص رصيده الذي ادخره، من النماء والقوة والإدراك والعلم والمعرفة.. وهكذا يتقلّص
وشتّان بين بدء الحياة وختامها.. بين وهج الطفولة وتوقدها، وخمود الشيخوخة وبرودتها.. بين إقبال الحياة وإدبارها.. بين الشروق والغروب، بين رحلة الحياة ورحلة الموت!! - وفى قوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً» هو عرض لصورة الحياة والموت معا، فى هذا الإنسان الذي ردّ إلى أرذل العمر، ونكّس فى الخلق..
هو حىّ ميت، أو ميت حىّ.. إنه يعود من حيث بدأ، فقد جاء إلى الحياة لا يعلم شيئا، كما يقول سبحانه: «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً..» (٧٨: النحل) وها هو ذا يعود طفلا «لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً»..
والتعليل بقوله تعالى: «لِكَيْلا يَعْلَمَ» لا يتوّجه به إلى إنسان بعينه، وإنما هو موجّه إلى الناس عامة، وإلى منكرى البعث خاصة، ليروا فى هذا الإنسان، الشاهد الحىّ، الذي ينطق بأن الحياة والموت وجهان متقابلان، وأنه كما يموت الحىّ، يحيا الميّت..
وفى نظرة مشرقة صافية يمكن أن تتجلّى فى قوله تعالى: «يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ» (٩٥: الأنعام) صورة من صور إخراج الحىّ من الميت، وإخراج الميت من الحىّ، فى مسيرة الإنسان على طريق الحياة، من مولده إلى مماته.. أي من طفولته إلى أرذل عمره وتنكيسه فى الخلق..
وكالنّار الحياة.. فمن رماد | أواخرها وأولها دخان |
وفى قوله تعالى: «وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ»..
عرض لصورة من صور الإحياء، والبعث، يراها أولو الأبصار، حالا بعد حال، فيما يسفر عنه وجه الأرض، من حياة متجددة عليها، ومن أثواب تلبسها، وحلى تتحلى بها، بعد أن كانت أرضا مواتا، لا معلم من معالم الحياة فيها..
فهذه الأرض الجديب القفر، يأخذها الإنسان بنظره اليوم، فإذا هى- كما يرى- موات فى موات، وصمت موحش رهيب، كصمت القبور.. ثم إذا أصابها الماء، وغاثها الغيث، «اهْتَزَّتْ» هزّة الحياة، ونبضت عروقها، وسرت الروح فى أوصالها.. «وَرَبَتْ» ونمت كما ينمو الطفل.. «وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ» فإذا كرّ الناظر إليها بصره كرّة أخرى، رأى هذا الموات قد أصبح حياة مزهرة مثمرة، تملأ العين بهجة ومسرّة.
فماذا إذن ينكره المنكرون من بعث الموتى؟ وهل هذه القبور وما ضمّت عليه من جثث وأشلاء ورفات، تتراءى فيها صور الآدميين الذين عمروها- هل هذه القبور أبعد من بعث الحياة فيها، وإخراج خبئها- من الأرض الجديب الميتة، التي أحياها الله، فاهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج؟ ذلك ما لا يقبله عقل، ولا يرضاه منطق!.
فإن ذلك العمى من عمى القلب، الذي ليس لمصاب به شفاء، والله سبحانه وتعالى يقول: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» (٤٦: الحج)..
وهنا نحبّ أن نقف وقفة مع عملية «الخلق» وبعث الحياة فى المخلوقات.
فهذه العملية، عملية «الخلق»، هى مما استأثر الله سبحانه وتعالى به، ليس لأحد من مخلوقاته أن يكون له معه شركة فيه.. وفى هذا يقول الله تعالى:
«أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ» (٥٤: الأعراف).. هكذا على سبيل القصر..
فلله وجه- بلا مشاركة- «الْخَلْقُ» وهو الإيجاد، والتصوير، وبعث الحياة فى الموجودات والمصوّرات.. «وَالْأَمْرُ» وهو التقدير، لخلق ما يخلق وتصوير ما يصور.. «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ».
هذا، وتتطلع الإنسانية دائما إلى كشف هذا السرّ- سرّ الحياة- ويحاول العلماء والباحثون أن يصلوا إلى تلك الحقيقة، وأن يضبطوا قوانينها، وأن يضعوا أيديهم عليها، حتى يكون لهم أن يخلقوا ما يشاءون من مخلوقات، وأن يتحكموا فيما يخلقون.. من إناث أو ذكور، على اختلاف الألوان والصور!.
وقد أجرى كثير من العلماء تجارب عديدة فى هذا المجال، وزرعوا واستنبتوا فى مخابرهم خمائر للحياة.. ولكن ذلك كلّه لم يصل بهم إلى شىء
إن كلّ ما يجريه العلماء من بحوث، وما يضعونه من موادّ فى مخابيرهم وأنابيبهم، هو من عناصر الحياة نفسها، التي خلقها الخالق جلّ وعلا.. وأن هذه الأطياف من الحياة التي تطلّ على العلماء من مخابيرهم وأنابيبهم، إنما هى من بذور الحياة التي أوجدها الخالق، وقدّر لها سبلا تسلكها، لتثمر ثمر الحياة، فغيّر العلماء سبيلها، وعدلوا بها عن طريقها المرسوم، الذي خطّته لها القدرة الإلهية..!
فإذا نجح العلم فى هذا التدبير، واستطاع أن يصل إلى شىء من صور الخلق- وهيهات- فإن ذلك لا يعدو أن يكون نبتة من نبات تلك البذرة التي أوجدها الخالق، وكل ما كان من العلم والعلماء، هو أشبه بنقل نبات من تربة غير تربته، واستنبات نوع من النبات فى غير موطنه.
والذي نحبّ أن ننبه إليه هنا، هو أن الإسلام- شريعة وعقيدة- لا ينظر إلى تلك المحاولات التي يحاولها العلم فى حقل الحياة- نظرة متكرهة أو معادية، بل إنه يزكّى هذا البحث العلمي، ويطلق للإنسان العنان فى البحث والدرس، وإجراء ما يشاء من التجارب فى عملية الخلق، فهذا كله قراءة فى كتاب الكون، وتأمل وتدبّر فى آيات الله.. وما يصل إليه الإنسان من كشوف علمية، وحقائق كونية، هو منظور إليه من جانب الإسلام على أنّه رسالة العلم، فى الكشف عن قدرة الله، وعلمه، وحكمته.. الأمر الذي يفتح للناس الطريق إلى الإيمان بالله، ويجلّى عن عقولهم وقلوبهم غياهب الشك والشرك
ومن جهة أخرى، فإن العلماء الذين يبلغ بهم علمهم هذا المدى الذي يطلعون منه على الناس بهذه الآيات المعجزة- هؤلاء العلماء هم فى الواقع آية من آيات الله.. فما هم إلا صنعة الخالق، الذي خلق فسوّى، فجعل من ابن الماء والطين، هذه القوة القادرة على أن تجىء بهذا الإعجاز العظيم..
فمر حى بالعلم، ومزيدا من آياته ومعجزاته.. فحصاد هذا كلّه، وثمر هذا كله، عائد إلى الإنسان، فى حياته المادية والعقلية والروحية.. وما كان لدين- أي دين- أن يعطل ملكات الإنسان، أو يقيد يديه عن العمل فى كل مجال يستطيع العمل فيه- سواء أخطأ أم أصاب، مادام يطلب الخير، ويلقى إليه، بشباكه فى الأرض أو فى السماء..!
على أن هناك حقيقة، نودّ أن نضعها بين يدى العلماء، دون أن نقطع الطريق عليهم فيما هم سائرون إليه، نحو البحث عن الحياة، واستيلاد الأحياء، أو خلقهم، ودون أن ندخل اليأس عليهم، ونوصد فى وجههم هذا الباب..
فنحن وإن كنا على يقين بأن العلم- فى عالم البشر- لن يخلق الحياة أبدا، فإننا ندعو إلى مزيد من البحث والانطلاق فى هذا المجال إلى أبعد غاية، فإن هذا البحث- فى الواقع- لن يضيع هباء، بل إنه سينمّى معارف الإنسان، ويزيده علما إلى علم..
ومن يدرى؟ فلعل العلماء إذا أخطأهم الوصول إلى «الحياة» وفاتهم الحصول على سرّها، لعلهم يجدون فى طريقهم أسرارا أخرى، هى أجدى على
أما الحقيقة التي أريد أن أصارح العلماء بها، فهى ما صرّح به القرآن الكريم فى الجزء الأخير من هذه السورة، وهو قوله تعالى:
«يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».
فهذه آية متحدّية، للناس، ولما يعبد الناس من مخلوقين يرونهم آلهة، بما فى أيديهم من سلطان مادى أو روحى..
فالناس، فردا فردا، وجماعة جماعة.. «لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً».. وهو أضأل المخلوقات وأضعفها.. «وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ».. واحتشدوا له من أقطار لأرض كلها، وجاءوا بكل ما معهم من علم..
والذباب لا يعدو أن يكون دودة متخلّقة من مخلقات المواد القذرة والمتعفنة، فهو- بهذه الصورة- أدنى مراتب الحياة، وأنزل منازلها.. ومع هذا فإن الناس كلهم لن يخرج من أيديهم بكل ما معهم من علم، أن يخلقوا ذبابة واحدة! وأكثر من هذا، فإن هذا الذباب الذي عجزوا عن خلقه، هو- فى حال من أحواله- أقوى منهم، وأقدر على الكيد لهم.. وأنه إذا سلبهم سيئا لا يستنقذونه منه، ولا يستطيعون له ردّا..
والذباب أنواع كثيرة.. منه الذباب المعروف، ومنه ذباب الفاكهة، ومنه الزنابير وغيرها..
وفى التعبير عن أكل الذباب «بالسلب» إشارة إلى أن ما أكله لم يكن عن رضى من أصحاب هذا المأكول.. فهو أشبه بالسلب والغصب، وفى هذا إظهار لضعف الإنسان، ووقوعه تحت بأس هذا المخلوق الضعيف، الذي يعدّ أضعف ما خلق الله، فى عالم الأحياء! وفى قوله تعالى: «ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ» تعريض بالإنسان، وبغروره الذي يخيّل إليه أنه يخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولا.. إنه والذباب على سواء، كلاهما عاجر ضعيف.. وإن كان الذباب- فى بعض الأحوال- أقوى منه، وأقدر على الكيد له! وليس هذا التصوير لضعف الإنسان، استخفافا به، وإطفاء لجذوة الطموح المتّقدة فى كيانه، وإنما هو استشفاء للإنسان من داء الغرور، الذي كثيرا ما يستبدّ به، ويفسد عليه وجوده، فإذا هو- وقد استوى على ظهر الغرور- قوة غاشمة، وإعصار مجنون، وعاصفة هو جاء، تهلك الحرث والنسل، حتى إذا انطلقت إلى غايتها دارت حول نفسها دورة، ثم هوت كما تهوى الصاعقة فى الوحل والطين! إن الإسلام ليستقبل كل ما يفتح به العلم للناس من أسرار الوجود، فى حفاوة وإعزاز، إذ كان ذلك- كما قلنا- هو الطريق المستقيم إلى الله، وهو الذي يقيم العقول والقلوب على الإيمان بالله، إيمانا مصفّى من كل ريب، مبرأ من كل ضعف.. فهذا الكون هو كتاب مفتوح لكل ناظر، وآيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، هى مراد لأنظار العلماء، ومسبح لخواطرهم ومداركهم..
العنكبوت).
ومرة أخرى.. مرحّى بالعلم، ومزيدا من جهاد العلماء، ومن فتوحاتهم فى آفاق هذا الوجود، الذي على الرغم من هذا السعى الجادّ لكشف أسراره، وعلى الرغم مما يبذل العلماء فى كل عصر، وفى كل أمة من جهود مضنية وتضحيات سخية فى هذا المجال- فإن الإنسانية ما زالت على الشاطئ بعد، لم تكد تبتلّ أقدمها من بحر المعرفة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا» (٨٥: الاسراء).
الآيات: (٦- ١٤) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦ الى ١٤]
ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٦) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٧) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (٨) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (٩) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٠)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (١١) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (١٢) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (١٣) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (١٤)
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ».
الإشارة هنا، إلى هذا العرض الرائع المعجز، الذي كشف عن آيات الله المبثوثة فى هذا الوجود، والتي تتجلى فيها عجائب قدرة الله، وحكمته، وعلمه، وذلك فيما تحدثت به الآية السابقة عن خلق الإنسان، وتطوره فى الخلق، من تراب ثم من نطفة، ثم من، علقة، ثم من مضغة مخلّقة وغير مخلقة، ثم الميلاد، والطفولة، والصّبا، والشباب، والكهولة والشيخوخة، وما بعد الشيخوخة..
فذلك البيان، إنما هو ليرى منه الناس دلائل الإيمان بأن الله هو الإله الحقّ، وما سواه باطل وضلال، وأنه- سبحانه- يحيى الموتى، وأنه على كل شىء قدير، لا يعجزه شىء، ولا تقف أمام قدرته حدود أو سدود.. فإذا أخبر- سبحانه- أن الساعة آتية، فذلك وعد حقّ، لا بدّ من أن يتحقق، وليس لمؤمن بالله هذا الإيمان الذي قام على النظر فى عجائب صنع الله- ليس لمؤمن عندئذ أن يسأل بعد هذا، عن إمكانية البعث، وعن الصورة التي يكون عليها.. وإنما عليه أن يؤمن إيمانا مطلقا بأن الساعة آتية، وأن الله يبعث من
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ».
تحدّثت الآيات السابقة عن صنف من المجادلين بغير علم حيث يتصدّى الواحد منهم بجهله، لكل رأى، ويدخل فى كل قضية، آخذا الطّرف المنحرف منها، دون أن يكون له رأى نظر فيه بعقله، وهدى إليه بتفكيره.
وإنما هو الخلاف عن هوى وعمى، ليثبت وجوده أمام نفسه، ويعلن عن ذاته بأنه من أصحاب الرأى، وأنه إذا كان للعلماء ما يقولون، فإن له هو ما يقول!! وفى هذه الآية أصناف من الناس، يجادلون بغير علم من أنفسهم، أو بهدى من غيرهم، أو عن كتاب صحيح فى أيديهم، ليجمع الواحد منهم هذه الضلالات كلها.. فيكون جاهلا فى نفسه، ثم يكون متأبّيا على من يدعوه إلى العلم، ثم يكون مع هذا غير ناظر فى كتاب صحيح.. ومع هذا فهو يجادل فى الحق، ويدفعه بيديه دفعا.
وقد يجادل أحدهم وهو جاهل لا علم عنده، ولكنّه يردّد كلمات سمعها من غيره دون أن يعقلها، ويتعرف إلى ما فيها من هدى وضلال.. ثم يتخذ من هذه الكلمات مادة للجدل.. وقد يستند أحدهم فى جدله إلى كتاب قد دخل عليه الافتراء والكذب، فاختلط فيه الحق بالباطل.. وفى ذلك تعريض بأهل الكتاب- وخاصة اليهود- الذين زيّفوا التوراة، ثم استقبلوا بها النبىّ يجادلونه، ويجاجّونه بما فيها من أحكام وأخبار، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:
«وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ».. فالكتاب الذي كان منحرفا، غير ملتزم طريق الحق، كان قوة عاتية من قوى الضلال والفساد. إنه يقود إلى الضلال والظلام..
«ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ».
أي أن هذا المجادل الجهول، يجادل، وهو ثان عطفه، أي مائل بجنبه، تيها وكبرا، واستنكافا عن أن يسمع دعوة الحقّ، وهو مقبل عليها بوجهه، بل يعطيها ظهره، أو يلقاها بجنبه، إمعانا فى الكبر، ومبالغة فى العناد.
وفى قوله تعالى: «لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ» - إشارة إلى أنه بفعله هذا قد أراد أمرا، هو إضلال نفسه، وإبعادها عن الخير.. إنه يحسب أنه يكيد بهذا لمن يدعوه إلى الله، وهو فى الواقع إنما يكيد لنفسه، ويوردها موارد الهلال، كما يورد الذين اتبعوه هذا المورد.
«لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ» وذلك بما يرى من إعزاز الله للنبىّ والمؤمنين، ومن خذلانه سبحانه وإذلاله لجبهة الكافرين والمشركين، الذين كان هذا الضالّ مظاهرا لهم، ومحاربا فى جبهتهم..
«وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ» وكما أنه لم يكن يقع فى حسابه أن يجىء اليوم الذي تنهار جبهة الكفر، وتتعفّر فيه جباه الكافرين بالتراب، وقد جاء هذا اليوم الذي أخزاه وأذله- كذلك لم يكن يقع فى تقديره أن يبعث، وأن يجىء يوم القيامة، وأن يحاسب على ما قدم من آثام- ألا فليعلم أن هذا اليوم آيات لا ريب فيه، وسيلقى العذاب المهين فى الآخرة، كما لقى الخزي والهوان فى الدنيا..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ».
وفى نفى المبالغة فى الظلم عن الله فى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ» - إشارة إلى أن ما يلقى الضالون، والآثمون من عذاب فى الآخرة، جزاء ما عملوا- هو عذاب شديد، وبلاء عظيم، لم يعرفه الناس فى حياتهم الدنيا.. وحتى أن الناظر إلى سوء هذا العذاب- ليستكثره، ويرى أن لا ذنب- وإن عظم- يستحق به صاحبه بغض هذا العذاب، وحتى ليقع فى نفسه أن ظلما شديدا وقع على هذا الإنسان المنكود، الذي يشوى بنار جهنم، هكذا على مدى السنين والدهور.. لا يموت فيها ولا يحيا.. وكلا، فإنه لا ظلم، ولا مبالغة فى ظلم، وإنما هو الحق، والعدل، وإن كان عذاب السعير، والخلود فى هذا العذاب..
قوله تعالى:
«وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ.. ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ».
وهذا صنف آخر من الناس..
وهذا الصنف، يقف على مفارق الطريق بين الإيمان والكفر.. يضع إحدى رجليه على طريق الإيمان، ويضع الأخرى على طريق الكفر.. إنه
فإن أصابه فى دنياه خير ومسّته عافية، اطمأن، ووضع رجليه معا على طريق الإيمان..
وإن أصابه شىء ابتلى به فى ماله، أو ولده أو نفسه «انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ» أي أعطى الإيمان ظهره.. وأنكر الله، وتنكّر له، ونسى نعمته عليه، وإحسانه إليه.
وهذا نفاق مع الله، أقبح وجها، وأشد نكرا من النفاق الذي يعيش به المنافقون فى الناس.. إنه مكر بالله، واستخفاف به- وفى قوله تعالى: «خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ» إشارة إلى أن هذا النفاق مع الله يقضى على صاحبه بخسران الدنيا والآخرة جميعا.. فهو قد خسر الدنيا، لأن ما ابتلاه الله، لا يدفعه عنه هذا الكفر بالله، الذي لقى به ابتلاء الله له..
وهو قد خسر الآخرة، لأنه سيلقى الله على كفره هذا، وللكافرين عذاب أليم.
وقوله تعالى: «ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ» أي الخسران العظيم الواضح، الذي ليس فيه شبهة.. إذ كانت خسارة الدنيا فيه محققة، لأنها وقعت فعلا، ولو كان مؤمنا بالله، لوجد فى التسليم له والرضا بقضائه، عزاء يخفف من مصابه، ويهوّن من مصيبته.. وخسارة الآخرة ستتحقق أيضا، لأنها واقعة لا شك فيها، إذ هكذا سيعلم هذا الذي يعبد الله على حرف، وإن فتنه الابتلاء، وأضلّه عن سواء السبيل..
قوله تعالى:
«يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ».
إنه جهد ضائع، وعمل فاسد.. وذلك هو الضلال البعيد..
وفى تقديم الضرّ على النّفع، إشارة إلى أن هذه المعبودات التي تعبد من دون الله، لا تملك الضرّ، الذي يملكه لله وحده، والذي يفرّ منه هذا الضال الذي إن شاء الله ضاعف عليه البلاء، ورماه بالضرّ بعد الضرّ.. ففى هذا تهديد لهذا الضال، أن يأخذه الله، بابتلاء آخر، يتبع هذا الابتلاء الذي ابتلى به، وكفر بالله من أجله..
قوله تعالى:
«يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ».
أي أن هذا الضال الذي دعا غير الله لكشف ضرّه، إنما يدعو من يضرّ ولا ينفع، وفيه يصدق قول القائل:
المستجير بعمرو عند كربته | كالمستجير من الرمضاء بالنّار |
«وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ» (١٠٧: يونس).
وهؤلاء الذين يلجأ إليهم المكروبون، من أصنام، أو حيوان، أو إنسان، إنما ضرّهم أقرب وأكثر من نفعهم.. ذلك أنهم إن وجد فيها عابدوهم بعض الراحة النفسية بما يداعب خيالهم من آمال كاذبة، وهم يفزعون إليهم،
وهكذا شأن كثير من الذين يفزعون إلى الأضرحة، ويتعلقون بأبوابها، وأستارها، ويتمسحون بأعتابها وترابها، كلما مسّهم ضر، أو كربهم كرب..
فتراهم هناك يقضون أيامهم ولياليهم فى ترديد عبارات الرجاء، وطلب الغوث، غير ناظرين إلى ما طرفهم من أحداث، وما جلّ بهم من ضرّ، فلا يعاجلونه بالجدّ والعمل، ولا يلقونه بالأسباب العاملة فى دفعه، أو تخفيف أثره، منتظرين هذه القوى الخفية التي يلمحونها من وراء تلك الأضرحة أن تقوم عنهم بما كان يجب أن يقوموا هم به، وأن تتولى عنهم ما كان ينبغى أن يتولوه هم بأنفسهم..
ومن غير دخول أو تعرّض إلى ما تضمّ هذه الأضرحة من صلاح وتقوى فيمن أودعوا فيها من عباد الله الصالحين.. ومن غير اعتراض أو تعرض لما ولأولياء الله من كرامات فى الدنيا. ومن غير بحث أو جدل فيما قد يكون أو لا يكون من اتصال كراماتهم فى حياتهم، وبعد موتهم- فإن الذي يقضى به العقل، وتوجيه سنن الحياة، هو أن تعالج الأمور بأسبابها، وأن يؤتى إليها من أبوابها، وأن يلقاها الأحياء بواقع الحياة، وألّا يسلموها إلى تلك الغيبيّات التي لا يرون مجرياتها، ولا يدرون ما تأتى وما تدع من أمور..
هذا ما يقضى به العقل، وما تفرضه سنن الحياة..! وهو عين ما يقضى به الإيمان بالله.. حيث أوجب الإيمان على المؤمنين أن يعملوا، وأن يواجهوا الحياة بعقولهم، وحواسّهم، وقواهم العقلية والجسدية معا، وأن يتقبلوا بعد هذا
هذا هو سبيل المؤمنين، الذين يمتثلون أمر الله سبحانه بالعمل، كما يقول سبحانه: «وَقُلِ اعْمَلُوا» ثم يسلمون أمورهم كلّها له سبحانه.. غير ناظرين إلى غيره، أو طامعين فى غير فضل من فضله أو رحمة من رحمته..!
هذا وقد أشرنا إلى هذا فى مبحث خاص، تحت عنوان: «الوسيلة والتوسل» فليرجع إليه من شاء «١».
وفى قوله تعالى: «لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ» هو ذمّ لهؤلاء المعبودين لا من حيث ذواتهم وأشخاصهم، وإنما من حيث العون الذي ينتظره العابدون منهم.. فهم لا يملكون لهم من الله شيئا، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ» (١٤: فاطر)..
فالذمّ متجه إلى الثمرة المرجوّة من هؤلاء المعبودين.. إنها سراب ينخدع له أولئك الذين تتعلق أبصارهم به، وتنعقد آمالهم عليه..
والمولى: هو القريب، والسيد.. الذي يرجى عونه ونصرنه.
والعشير: المعاشر من أهل وأقارب..
ويجوز أن يكون الذم متوجها إلى المعبودين، من أصنام أو ناس يدعون الناس إلى عبادتهم..
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ».
هو صورة مقابلة للمشركين والكافرين، وما حصلوه من التعبد لغير الله.. فقد كان جزاؤهم الخزي فى الدنيا، والعذاب الأليم فى الآخرة..
أما الذين تعبدوا لله، وأعطوه ولاءهم، ودانوا له بالطاعة، وتقربوا إليه بالأعمال الصالحة، فقد ربحوا ربحا عظيما، حيث أعزهم الله فى الدنيا، وأنزلهم فى الآخرة منازل الرضوان، فى جنات تجرى من تحتها الأنهار.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ» إشارة إلى سلطان الله وقدرته ومشيئته المطلقة، وأنه يفعل ما يريد، دون معترض أو معوق، أو معقب..
وفى هذا تعريض بالآلهة التي يعبدها الضالون من دون الله، حيث هى فى قيد العجز، لا تملك ضرّا ولا نفعا..
الآيات: (١٥- ١٨) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٥ الى ١٨]
مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (١٥) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (١٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (١٧) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (١٨)
قوله تعالى:
«مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ».
هذه الآية تعرض تجربة عملية، تدعو إليها أولئك الذين يعبدون الله على حرف فيؤمنون به إن أصابهم خير، ويكفرون به إن مسهم ضر..
وهذه التجربة وإن لم يمكن إجراؤها إجراء واقعيا، فإنه يمكن أن تمثّل وتتصور تصورا..
وهو أن يمد الإنسان سببا، أي حبلا إلى السماء وأن يتخذ من هذا الحبل سلّما يصعد به إلى أعلى، ويرقى إلى منازل العزة والسيادة- فإن فعل هذا، وحدثته نفسه أن هذا لا يحقق له شيئا مما يريد، فليقطع هذا الحبل، ثم لينظر هل ينفعه كيده.. هذا فى قطع الحبل؟ إنه قطع السبب الذي كان من الممكن أن يصعد به، وإنه ليس من وسيلة إلى ذلك إلا بمثل هذا الحبل الممدود.. وأما وقد قطع الحبل، فإنه سيهوى إلى الأرض، ويسقط جثة هامدة لاصقا بالأرض، لا يبرحها أبدا..
والصورة- كما قلنا- قائمة على التمثيل، والتخيل..
فالذى يؤمن بالله، هو كمن مدّ حبلا بينه وبين ربه، وأمسك بالسبب الذي
فإذا شك هذا المؤمن فى أن ينال من الله ما وعده، وهو ممسك بهذا السبب الذي بينه وبين ربه، فليقطع هذا السبب، وليخل يده منه.. ثم لينظر ماذا يكون من أمره؟ أنه سيجد نفسه قد سقط على هذا التراب، ولصق به، ثم لا يكون له بعد ذلك سبيل إلى أن يتحرك نحو هذا الخير القائم على طريق هذا السبب الممدود بينه وبين السماء!..
إن الإيمان بالله هو السبب- ولا سبب غيره- الذي يمكن أن ينال به الإنسان القرب من ربه، والتعرض لفضله وإحسانه.. فإذا قطع هذا السبب، فقد قطع كل سبب يدنيه من الله، ويفتح له مغالق السعادة والرضوان..
فإذا وقع لهذا المؤمن بالله، ما تضيق به نفسه من البلاء، وما يظنّ به الظنون بربّه، فليكفر بالله، ثم لينظر ماذا يجدى عليه كفره؟ هل يكشف عنه البلاء الذي نزل؟ وهل يدفع عنه الضرّ الذي وقع به؟ إن يكن قد نفعه ذلك- وهذا محال- فليمسك بكفره، وإلا فليعد إلى الإيمان، وليشدّ يده عليه، وإن أضرّه الضرّ، وكربه الكرب.. إنه ممسك بحبل النجاة فى متلاطم الموج، وإن من الضلال أن يقطع هذا الحبل مختارا، ففى ذلك ضلال محقق، على حين أنه يكون فى معرض النجاة ما دام ممسكا بحبل النجاة! قوله تعالى:
«وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ».
الإشارة هنا إلى هذه الآية الكريمة، وما فيها من حجة قاطعة، ومثل واضح بيّن، على أن طريق النجاة هو الإيمان بالله، وأن هذا الإيمان هو حبل النجاة،
والضمير فى «أَنْزَلْناهُ» يعود إلى القرآن الكريم، وأن آياته كلّها آيات بيّنات كهذه الآية البيّنة، التي صورت الإيمان بالله هذا التصوير الواضح البين.
وفى قوله تعالى: «وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ» - إشارة إلى أن آيات الله مع وضوحها وبيانها، لا يهتدى بها، إلا من أراد الله له الهداية، وفتح بصره وقلبه إليها، وأراه الهدى والنّور منها.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (١٧: الكهف).
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا.. إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ.. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ».
هذا بيان للناس جميعا، على اختلاف معتقدهم فى الله.. وهم:
الذين آمنوا إيمانا خالصا بالله. وهم المؤمنون.
والذين هادوا.. وهم اليهود.
والصابئون.. وهم من أنكروا وجود الخالق أصلا..
والنصارى.. وهم الذين عبدوا المسيح من دون الله.
والمجوس.. وهم الذين عبدوا النّار، تقربا إلى الله، كما عبد المشركون الأصنام، تقربا إلى الله.
- هؤلاء هم الناس جميعا، وهؤلاء جميعا يفصل الله بينهم يوم القيامة، ويميز المهتدين من الضالين منهم، ويجزى كلّا بما كسب.. «إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ» فهو- سبحانه- عالم بكل فريق منهم، وبكل فرد من كل طائفة فيهم، لا تخفى عليه خافية، من كبير أعمالهم وصغيرها.
أولا: «أن الذين هادوا والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا.. هؤلاء جميعا ليسوا فى عداد المؤمنين بالله.. وذلك لما شاب إيمانهم من قليل أو كثير، من الضلال والفساد.. ولهذا جاء ذكرهم كأصناف أخرى، خارجة عن صنف المؤمنين.
وثانيا: جاء نظم هذه الآية فى سورة المائدة هكذا:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» (الآية: ٦٩).
والناظر فى الآيتين يرى:
أولا: أن الآية الأولى- آية الحج- لم تعتدّ بإيمان غير إيمان المؤمنين بالله. وأن الآية الثانية- آية المائدة- قد دعت المؤمنين وغير المؤمنين من هؤلاء الطوائف إلى الإيمان بالله والعمل الصالح، وأن من آمن منهم بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. وذلك لأن الإيمان- لكى يكون إيمانا صحيحا- لا بد أن يصحبه عمل، فالإيمان بلا عمل، كلا إيمان..
ومن هنا كان على المؤمنين لكى يدخلوا فى الحكم الذي قضت به الآية، وهو قوله تعالى: «فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ» - كان عليهم أن يكملوا إيمانهم بالعمل الصالح، فهم بغير العمل الصالح مؤمنون، وغير مؤمنين!.
وثانيا: أن الآية الأولى- آية الحج- عطفت «الصَّابِئِينَ» عطف نسق على ما قبلها، كما عطفت ما بعدها عطف نسق عليها، حيث دخل الجميع تحت حكم النصب بأداة النصب «إن».. على خلاف ما جاء فى آية المائدة، حيث انقطع «الصابئون» قبلهم ومن بعدهم.. فما السرّ فى هذا؟
والسرّ- والله أعلم- أن آية المائدة تدعو المؤمنين وغير المؤمنين إلى
والمؤمنون.. مؤمنون ولا شبهة فى إيمانهم.
واليهود.. مؤمنون، وفى إيمانهم شبهة، وهى أنهم يؤمنون بالله، ولا يؤمنون باليوم الآخر.
والنصارى مؤمنون بالمسيح ابنا لله، فهو إيمان مشبوه.
أما «الصَّابِئُونَ» فهم لا يعترفون بإله قائم على هذا الوجود، بل هم دهريّون، أو طبيعيون.
ولهذا، عزلوا عن هذه الطوائف الثلاث، لأنهم أبعد الناس عن الإيمان، ومع هذا فإن شأنهم شأن هؤلاء المؤمنين على اختلاف وضعهم من الإيمان، وأنهم إذا آمنوا بالله وعملوا الصالحات- دخلوا فى هذا الحكم العام:
«فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ».. أما من ذكروا فى آية الحجّ فهم على منزلة واحدة فى الحكم الذي يؤخذون به يوم القيامة، وهو أن الله يفصل بينهم، على الحال التي يكون عليها كل منهم..
وثالثا: لم تذكر آية المائدة، المجوس، ولا المشركين، على حين ذكرتهم آية الحج..
والسرّ فى هذا- والله أعلم- أن المجوس والذين أشركوا، هم على صورة مشابهة لليهود والنصارى فى إيمانهم إيمانا مشوبا بالضلال.. فلم يذكروا عند الدعوة إلى تصحيح إيمانهم، لأن فساد إيمانهم أظهر من فساد إيمان اليهود والنصارى، إذ كان مع اليهود والنصارى شبهة إيمان بالكتب السماوية التي معهم، على حين لم يكن المجوس والمشركين شىء من هذا، فهم مطالبون- من باب أولى- بتصحيح إيمانهم، بصورة ألزم من مطالبة اليهود والنصارى
أما فى موقف الفصل والحساب والجزاء، فكل طائفة على منزلتها..
فكان لا بدّ من ذكر المؤمنين، ومن ذكر من معهم شبهة من الإيمان، وهم اليهود، والنصارى، والمجوس، ومن لا شبهة من إيمان معهم، وهم الصابئة والمشركون.. وذلك حتى لا يقع فى وهم المجوس والذين أشركوا، أنهم غير مأخوذين بهذا الحكم، وأنهم ناجون من الحساب والجزاء..
ففى موقف الفصل والجزاء يأخذ كلّ مكانه، لا مع الطائفة التي ينتمى إليها وحسب، بل سيأخذ مكانه الخاصّ به فى الطائفة التي هو منها قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ».
فى هذه الآية تعريض بالكافرين والمشركين، وغيرهم، ممن لا يعطون ولاءهم خالصا لله.. فعلى حين أن الوجود كلّه قائم على هذا الولاء المطلق الخالص لله- فإن كثيرا من الناس- والناس وحدهم فى عالمنا- يخرجون على هذا الولاء العام المطلق لله، ويأبون أن يسجدوا له، فإن سجدوا كان سجودهم لغير الله.. وهذا فوق أنه كفر بالله، وجحود بآلائه ونعمه، هو شرود وضلال عن الاتجاه العام، الذي يتجه إليه الكون كلّه، وسباحة متحدية للتيار الهادر الذي لا يغالب، والذي لا يلبث أن يغرق فيه كلّ من سبح فى غير مجراه!
فالمجتمع كله حرب عليهم، وإنهم لن يفلتوا من عقابه!.
وتسبيح الكائنات بحمد الله، هو فى جريانها على سنن الله التي أقامها عليها.. فهى لا تخرج أبدا عن هذه السّنن، ولا تفلت من عقد الوجود الذي انتظمت فى سلكه، وكانت حبّة من حبّاته.. «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ!» (٤٠: يس) وفى هذا انقياد لله، وولاء له..
والإنسان وحده- فيما يظهر لنا- هو الذي منحه الله إرادة عاملة، ومشيئة تسمح له بأن يختار الطريق الذي يرضاه، دون قهر أو إلزام..
وليست كذلك الكائنات الأخرى، التي لا تملك هذه الإرادة، ولا تجد تلك المشيئة، إنها مسخّرة، على حين أن الإنسان مخيّر ومريد.. إنها لا تملك من أمرها شيئا، على حين أن الإنسان هو سيد نفسه، ومالك أمره.. وهذا تكريم من الله له، إذ جعله سبحانه وتعالى على صورة أقرب إلى صورته، فجعله مريدا، عالما، مختارا.. كما يشير إلى ذلك الحديث: «خلق الله آدم على صورته».
وهذا التكريم، هو ابتلاء لآدم، وهو الأمانة التي حملها، وأبت السموات والأرض أن يحملنها وأشفقن منها.. وكان عليه أن يثبت لهذا الامتحان، وأن يؤدى الأمانة التي حملها، حتى يكون أهلا لهذا التكريم،
- قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ» معطوف على قوله سبحانه: «يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ».. أي ويسجد له كثير من الناس..
- وفى قوله تعالى: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ» هو استئناف، أي وكثير من الناس لا يسجدون لله، فحق عليهم العذاب.. أي وجب ولزم..
وفى قوله تعالى: «عَلَيْهِ» بدلا من «عليهم» إشارة إلى أن هذا الصنف من الناس الذي أبى السجود لله، هو فى عداد غير العقلاء.. «أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ» (١٧٩: الأعراف) فهم وإن كانوا أعدادا كثيرة، أشبه بكيان واحد يجمع كتلة متضخمة من الضلال والفساد..
قوله تعالى: «وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» - هو موجّه إلى تلك الجماعات التي شردت عن الحق، وضلّت عن سواء السبيل، وهى كلّ الطوائف غير المؤمنة التي أشار إليها سبحانه وتعالى فى قوله: «وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ».. فهؤلاء ممن أهانهم الله، إذ لم يدعهم إليه، ولم ينزلهم منازل رضوانه، فشردوا وضلّوا.. فالكفر بالله هو أمارة الإهانة من الله للكافر، إذ لم يكن أهلا لأن يدعى إلى جناب الله، مع من دعوا إليه من عباده الذين آمنوا، لما اشتمل عليه كيانه من داء خبيث، لا ينبغى له أن يخالطه الأصحّاء ومعه هذا المرض، الذي يفتال إنسانيته، ويفسد معالمها.
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» هو ردّ على سؤال أو تساؤل،
فكان الجواب: «إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» ! فمن كان له حيلة فليحتل، ومن كان له مع الله شىء فليأت به!.. فلتخرس الألسنة إذن، وليحمد المؤمنون الله أن هداهم إلى الإيمان، وليدع الضالون ربّهم أن يهديهم.. «مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً» (١٧: الكهف)
الآيات: (١٩- ٢٥) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ١٩ الى ٢٥]
هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (١٩) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (٢٠) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (٢١) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٢٢) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (٢٣)
وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (٢٤) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٢٥)
التفسير:
قوله تعالى:
«هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ.. فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ
بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ..».
الخصمان: هما المؤمنون، والكافرون على اختلاف ضلالاتهم..
واختصامهم فى ربهم، هو اختلافهم فيه.. فالمؤمنون على طريق إلى الله، والمشركون والكافرون ومن على شاكلتهم، على طرق شتى تختلف عن هذا الطريق.. فهذا الاختلاف، هو أشبه بالخصام الذي يفرّق بين المتخاصمين..
ثم بينت الآيات بعد هذا، ما أعدّ الله لكل من هذين الخصمين المختصمين فى الله، من عذاب، أو نعيم.
- «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ» أي أنهم يلبسون النار، أو تلبسهم النار، فيكونون كيانا واحدا معها، بحيث تشتمل على الجسد كلّه، وتغطيه، كما يغطى بالثوب! ثم مازال هناك شىء من الجسد لا تغطيه الثياب، وهو الرأس، الذي يغطى بالعمائم، والتيجان، ونحو هذا..
وإذن فلتتوج رءوسهم، ولكن بتيجان من نار، وبعمائم من جهنم.
- «يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ»، وهو الماء الذي يغلى فيشوى وجوههم ثم يتخلل تلك الثياب، فيصهر ما فى بطونهم من أمعاء، وأكباد، وقلوب، وغيرها مما تحويه البطون.. كما يصهر الجلود، ويذيبها فتكون كتلة مذابة مع اللحم والعظم..
وليس هذا فحسب.. بل إن لهم طرائف يطرفون بها، كما كانوا
وهذه الصور من ألوان العذاب، هو مما يتصوره الناس فى الدنيا، بل ومما يأخذون به بعضهم بعضا.. فكم من صور هذا العذاب الجهنّمى استخدمه الجبابرة والظلمة فى تعذيب من يخرج على سلطانهم، ويتحدّى تسلطهم وجبروتهم..
فهذا العذاب الدنيوي يجده المجرمون يوم القيامة حاضرا عتيدا، فيما يجدون من صور شتى من عذاب الآخرة، وذلك ليذوقوا ما أذاقوه للناس فى دنياهم، وليسقوا بكأس كانوا يجدون اللذة فى أن يتجرع الناس مرارتها، سواء أكان عذاب الآخرة حسيا أو معنويا، جسديا أو نفسيا، وليست هذه الصور الحسيّة التي ذكرها القرآن لعذاب الآخرة، من ثياب من نار، ومن مقامع من حديد، ومن سلاسل وأغلال، ليست بالتي تتنافى مع العذاب النفسي، فما أكثر ما تتجسد صور العذاب فى النفس، ويجد الإنسان للآلام النفسية وقعا مثل ما يجده من الآلام الجسدية.. وأقرب مثل لهذا ما يقع للإنسان فى حال النوم من رؤى وأحلام مزعجة، أو مسعدة.. إنه يعيش فيها بكيانه كله، جسدا وروحا، وإن كان الواقع أن الروح هى التي تتلقى هذه الرؤى وتلك الأحلام، وتتعامل بها، وهى فى انطلاقها بعيدا أو قريبا من الجسد..
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا
فى ذكر الله سبحانه وتعالى هنا، هذا الذكر المؤكد، تكريم للمؤمنين، واحتفاء بهم، وأن الله تبارك وتعالى هو الذي يتولى إدخالهم الجنة، ولا يدع هذا لملائكته.. مبالغة فى تكريمهم، فضلا منه، وكرما، ورحمة..
«إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ»..
فإذا أدخلهم الله سبحانه وتعالى الجنة، حلّوا فيها بأساور من ذهب، ولؤلؤا، فى مواضع شتّى، من أجسامهم، كأن يكون لهم من اللؤلؤ قلائد، أو تيجان، ونحو هذا، هذا إلى ما يلبسون من ملابس رقيقة، من حرير..
وهذه الحلىّ، وتلك الملابس، هى مما كان يشتهيه المؤمنون فى الدنيا، وقد فاتهم أن ينالوه فيها. فكان مما ينعمون به فى الجنة أن ينالوا ما كانت نفوسهم متطلعة إليه.. فهو غائب ينتظرهم.. وليس هذا كل ما يلبسون، أو يتزينون..
بل هناك ما لا حصر له من ألوان الملابس والزينة، مما لم يخطر على قلب بشر..
فهذه الألوان من صنوف الطعام والشراب، والملابس، والأنهار، والظلال، والقصور وغيرها، مما جاء ذكره فى القرآن، مما يلقاه أهل الجنة- هو مما كانوا يطلبونه فى الدنيا، ولا يأخذون حظهم منه، أو ينالون منه شيئا.. وكان من تمام الإحسان إليهم، أن يعرض عليهم كل هذا فى صورته الكاملة، كمالا مطلقا..
قوله تعالى:
«وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ».
أي أنهم كما طاب وحسن ظاهرهم، طاب وحسن كذلك باطنهم..
والصراط الحميد، هو صراط الله.. وقد هدوا إلى أن يحمدوه حمدا دائما متصلا، لأنه هو سبحانه المستأهل للحمد، ولأن نعمه التي أفاضها عليهم تستوجب منهم أن يلزموا هذا الصراط، ولا يحيدوا عنه لحظة..
قوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ».
خبر إن محذوف دل عليه قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ».. أي أن هؤلاء الذين كفروا، ولم يقفوا عند كفرهم، بل وقفوا للناس بالمرصاد، يصدونهم عن سبيل الله، ويحولون بينهم وبين الاتصال بالمسجد الحرام، الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، وجعل فيه للبادين- وهم أهل البادية- مثل ما للعاكفين- وهم المقيمون من أهل مكة- من حقّ فى الاتصال بهذا البيت، والطواف به، والصلاة فيه..
هؤلاء الذين كفروا، ويصدّون عن سبيل الله والمسجد الحرام.. هم أشنع الناس جرما، وأغلظهم إثما.. إنهم ليسوا كافرين وحسب، بل إنهم أضافوا إلى كفرهم الوقوف فى وجه المتجهين إلى الله، وإلى بيت الله- هؤلاء لهم عذاب مضاعف، فوق عذاب الكافرين.. أما هذا العذاب فقد عرفوا بعضا منه، وهو ما أعد للكافرين، كما بيّنه سبحانه وتعالى فى قوله: «فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ» يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ
.. فهم أولا مأخوذون بهذا العذاب الذي يؤخذ به الكافرون.. أما ما فوق هذا، فعلمه عند الله.. وهو شىء فوق المدارك والتصورات.
وفى قوله تعالى: «وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ» جاء فيه الفعل: «يرد» متضمنا معنى «يسعى»، ولهذا عدّى بحرف الجرّ فى، وهذا التضمين للدلالة على أن الإرادة هنا لا يقع عليها هذا الوعيد، حتى تكون عملا وسعيا.
الآيات: (٢٦- ٣٣) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٢٦ الى ٣٣]
وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (٢٦) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (٢٧) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (٢٨) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٢٩) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (٣٠)
حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (٣١) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (٣٢) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (٣٣)
[مناسك الحج.. ومشاهد القيامة]
قوله تعالى:
«وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».
بوأنا: أي هيأنا، وأعددنا.. وأصل البوء الرجوع إلى المنزل، والسّكن إليه..
- وقوله تعالى: «وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ» أي هيّأناه له، وأعددناه.. وقد عدّى الفعل باللام، لأنه تضمن معنى الإعداد، والتمكن..
والأصل فى الفعل أنه يتعدّى بنفسه لمفعولين.. تقول: بوأنك المنزل، بمعنى أسكنتك إياه.
- وفى قوله تعالى: «مَكانَ الْبَيْتِ» إشارة إلى أن الإعداد كان المكان لا للبناء الذي أقيم على المكان، وهو البيت.. وهذا يعنى أن الله سبحانه وتعالى قد أعدّ هذا المكان، وهيأه، وأضفى عليه، ما شاء سبحانه من البركة والرحمة.. أما البناء، فقد أقامه إبراهيم، ومعه إسماعيل على هذا المكان المبارك..
فالبركة أصلا فى المكان.. ثم شملت البناء الذي أقيم عليه وهو البيت فصار البيت مباركا فى المكان المبارك.
- وقوله تعالى: «أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً».. المصدر المؤول متعلق بمحذوف، تقديره: وأمرناه، أو قلنا له.. أن لا تشرك بي شيئا،.. فإن هذا المكان الطاهر المبارك، لا ينزله إلا طاهر مبارك، مبرأ من الشرك..
- وقوله تعالى: «وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ».. أي
- وفى قوله تعالى: «وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ» إشارة إلى أن هذا البيت سيكون لتلك الأمة الإسلامية، التي سيكون السجود معلما من معالم صلاتها، وحدها دون غيرها من أصحاب الديانات السماوية كاليهود والنصارى، ولهذا كانت سمة المسلمين التي يعرفون بها بين الأمم، هى هذا الأثر الذي يتركه السجود فى الجبهة، وقد وصفوا بهذا الوصف فى التوراة كما يقول سبحانه وتعالى: «مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ». (٢٩: الفتح) وهذا من فضل الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة، وإحسانه إليها، إذ أعدّ لها هذا البيت قبل أن يبعث فيها رسول الله، ويجىء إليها برسالة الإسلام..
وفضلا عن هذا، فإن إعداد إبراهيم لهذا البيت، وإقامته بيده، يقابله من جهة أخرى إعداده لرسالة الإسلام، إذ كان هو أبا الأنبياء، وكانت رسالة من أرسلوا من ذريته، كموسى وعيسى أشبه بتلك اللبنات التي رفع بها إبراهيم القواعد من البيت، فلما جاء الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- برسالة الإسلام، كمل البناء، وأصبح البيت مهيأ لاستقبال «الْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ»..
قوله تعالى:
«وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ».
الأذان: الإعلام، ورفع الصوت بالأمر المراد الإعلام به..
والضامر: النحيف، الذي خفّ لحمه من الجهد والتعب..
والفج العميق: الطريق الطويل بين مرتفعين..
والمعنى أن الله سبحانه، أمر إبراهيم- بعد أن أقام البيت- أن يؤذن فى الناس، ويدعوهم إلى الحج إلى هذا البيت.. فإنه إن فعل، وجد الآذان التي تسمع هذا النداء وتستجيب له، وإذا الناس من كل مكان قريب وبعيد، قد جاءوا لحج هذا البيت- يجيئون إليه ماشين على أقدامهم، كما يجيئون إليه راكبين من جهات بعيدة، فتهزل مطاياهم من طول السفر، وقلة الزّاد، ويصيها الضمور، وخفة اللحم.
- وفى قوله تعالى: «يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ» بنون النّسوة، لغير العاقل من الإبل والدوابّ ونحوها التي يعود إليها هذا الضمير- فى هذا ما يشير إلى بعد الشقة التي جاءت منها هذه الدواب براكبيها، وأنها قطعت طرقا طويلة موحشة، لا أنيس فيها، فكانت هى وراكبوها كيانا واحدا طوال هذه الرحلة، حيث تقتسم معهم طعامهم وشرابهم، وتستمع إلى أحاديثهم وحدائهم..
فاكتسبت بهذا من مشاعر الألفة والأنس، ما جعلها أقرب شىء إلى الإنسان منها إلى الحيوان، حيث أنس الإنسان بها، كما يأنس برفيق سفره! فحقّ لها- والأمر كذلك- أن تخاطب خطاب العقلاء..
قوله تعالى:
«لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ».
فقيل، هى الأيام العشرة الأولى من ذى الحجة، ويؤيد هذا ما روى عن ابن عمر أن رسول الله ﷺ قال: «ما من أيّام أعظم عند الله ولا أحبّ إليه العمل فيهن من هذه الأيام، فأكثروا فيهن التهليل والتكبير والتحميد».. وعلى هذا فسّر بعض الصحابة الليالى العشر فى قوله تعالى:
«وَالْفَجْرِ وَلَيالٍ عَشْرٍ» بأنها هى تلك الأيام العشر.. وقيل إن الأيام المعلومات، هى يوم النحر وثلاثة أيام بعده.. وقيل يوم النحر، ويومان من بعده.. وقيل يوم عرفة، ويوم النحر، ويوم آخر بعده.
ولام التعليل فى قوله تعالى: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ..» متعلق بقوله تعالى فى الآية السابقة: «يَأْتُوكَ رِجالًا وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ».. أي يأتى الحجيج إلى هذا البيت ليشهدوا منافع لهم..
والمنافع التي يشهدها الوافدون إلى بيت الله الحرام، كثيرة، متنوعة، تختلف حظوظ الناس منها..
فهناك منافع روحية تفيض من جلال المكان وروعته وبركته، على كلّ من يطوف بحماه، وينزل ساحته، وذلك بما يغشى الروح من هذا الحشر العظيم الذي حشر فيه الناس، على هيئة واحدة، فى ملابس الإحرام، مجرّدين من متاع الدنيا، وما لبسوا فيها من جاه، وسلطان.. إنهم هنا فى هذا الموطن الكريم على صورة سواء، فيما يأنون من أعمال الحج من، سعى، وطواف، ووقوف بعرفة، ورمى للجمرات.. ومن تلبية، وتضرع، وتعبّد لله ربّ العالمين.. إنهم فى مشهد أشبه بمشهد الحشر يوم القيامة.. حيث تعنو الوجوه للحىّ القيوم، وحيث تخشع الأصوات لجلاله وقيومته.. ولعلّ هذا
إن الحجّ نفسه، هو صورة مصغرة للحياة الآخرة، التي تبدأ من الموت، ثم البعث، والحشر، والحساب، والجزاء.
ولقد أحسن الإمام النسفي، رضى الله عنه، فى تصوير هذه الفريضة، وفى عقد الشّبه بينها وبين الحياة الآخرة.
يقول- رضى الله عنه-: «فالحاج إذا دخل البادية، لا يتكل فيها إلا على عتاده، ولا يأكل إلا من زاده، فكذا المرء إذا خرج من شاطىء الحياة، وركب بحر الوفاة، لا ينفع وحدته إلا ما سعى فى معاشه لمعاده، ولا يؤنس وحشته إلا ما كان يأنس به من أوراده.
«وغسل من يحرم، وتأهبه، ولبسه غير المخيط، وتطيّبه- مرآة لما سيأتى عليه، من وضعه على سريره، لغسله وتجهييزه، مطيبا بالحنوط، ملففا فى كفن غير مخيط!.
«ثم المحرم، يكون أشعث حيران.. فكذا يوم الحشر يخرج من القبر لهفان.
«ووقوف الحجيج بعرفات، آملين، رغبا ورهبا، سائلين خوفا وطمعا، وهم من بين مقبول ومخذول- كموقف العرصات، لا تكلّم نفس إلّا بإذنه، فمنهم شقىّ وسعيد..
«وحلق الرأس والتنظيف، كالخروج من السيئات بالرحمة والتخفيف.
والبيت الحرام، الذي من دخله كان آمنا من الإيذاء والقتال، أنموذج لدار السلام، التي هى من نزلها بقي سالما من الفناء والزوال... »
وهناك منافع عقلية، ومادية يحصلها الحجاج عن قصد، وغير قصد، حيث يلتقى بعضهم ببعض وينظر بعضهم فى أحوال بعض، وفى البلاد التي جاؤا منها، وما فى هذه البلاد من صور الحياة، وأعمال النّاس، وثمرات أفكارهم وأيديهم، وذلك فيما حملوه معهم من آثار الحياة عندهم، وما كان لهم من جديد ومستحدث.. وبهذا يتبادلون المعرفة، كما يتبادلون السّلع بينهم، بيعا وشراء، أو يتهادونها، مودة وإخاء.
- قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ».. الأيام المعلومات هى أيام الحج، التي تتم فيها أعمال هذه الفريضة.. وهى فى أرجح الأقوال عشرة الأيام الأولى من ذى الحجة.
والذكر المراد هنا هو هذا الذكر الخاص، الذي يكون فى أعمال الحج..
فكل عمل من أعمال الحج هو ذكر لله.. فالإحرام ذكر، والطواف بالبيت الحرام ذكر، واستلام الحجر الأسود ذكر.. والسعى بين الصفا والمروة ذكر.. والوقوف بعرفة ذكر، ورمى الجمرات ذكر.. وحركات الحاج وسكناته فى أيام الحجّ كلّها ذكر.. حيث يلهج الحجيج دائما بالتلبية، والتكبير..
- وقوله تعالى: «عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» هو متعلق بمحذوف دلّ عليه قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ» والتقدير ويذكروه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام..
وعلى أن ذكر اسم الله فى هذه الأيام المعلومات واقع على «ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» وهى الهدى المساق إلى بيت الله، بمعنى أنهم يذكرون اسم الله عند نحر ما يقدّمون من هدى..
والذي نراه- والله أعلم- أن قيد ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام فى تلك الأيام المعلومات غير مقبول، وذلك من أكثر وجه:
فأولا: ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام لا تختصّ به أنعام الهدى وحدها، بل هو أمر واجب فى كل ما يذبح من حيوان للأكل، سواء ما كان منه هديا أو غير هدى، وأنه لا يحلّ أكل حيوان ذبح من غير أن يذكر اسم الله عليه، وهذا صريح فى قوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ.. وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ».. (١٢١: الأنعام) وفى قوله سبحانه: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ» (١١٨: الأنعام).. فقد جاء النهى فى الآية الأولى صريحا قاطعا، كما جاء الأمر بالأكل فى الآية الثانية:
«مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ» متضمنا النهى- بمفهوم المخالفة- عن الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه.
وعلى هذا، يكون تخصيص ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصره على بهيمة الأنعام- لا محلّ له، إذ لا جديد فيه، الأمر الذي يجعل الآية معطلة عن إعطاء معنى يستفاد منها. وذلك مما تنزّهت عنه آيات الله وكلماته. وفى هذا يقول ابن حزم فى كتابه «المحلّى» ردّا على من يقول بأنه لا يجوز أن يضحّى ليلا، محتجا بقوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ
.. وبأن الله تعالى ذكر الأيام ولم يذكر الليالى.. يقول ابن حزم فى معرض الرد على هذا:
«لأن الله تعالى لم يذكر فى هذه الآية ذبحا، ولا تضحية، ولا نحرا، لا فى نهار، ولا فى ليل، وإنما أمر الله تعالى بذكره فى تلك الأيام المعلومات..
أفترى يحرم ذكره فى لياليهن؟ إن هذا لعجب! «١».
وحقّ لابن حزم- رضى الله عنه- أن يعجب، ويعجب!.
وثانيا: جاء فى آية أخرى بعد هذه الآية، أمر خاص بذكر اسم الله على بهيمة الأنعام هذه، التي تساق هديا للبيت الحرام، وذلك فى قوله تعالى:
«وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ.. لَكُمْ فِيها خَيْرٌ.. فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ.. فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» (الآية: ٣٦).
وهذا الأمر الخاص بذكر اسم الله على أنعام الهدى عند ذبحها، هو تنويه بهذه الذبائح، وإشعار بأنها قربان لله، وأنها شعيرة من شعائر الله، وعمل من أعمال الحج، وأنها ليست لمجرد الأكل، وإنما هى للبّر والإحسان إلى الفقراء، حيث يطعمون من لحومها، ويشاركون أصحابها فى الأكل منها..
فليس الأمر بذكر اسم الله على هذه الأنعام عند نحرها، هو إنشاء لهذا الأمر، بل هو توكيد للأمر العام بذكر الله على ما يذبح، وأن ذكر الله هنا ينشىء شعورا خاصا بأن هذه الأضاحى ليست ملكا خاصا لأصحابها، وإنما هى قسمة بينهم وبين الفقراء!.
ذلك.. أن ذكر اسم الله فى أيام معلومات، قد أفسح للمفسرين والفقهاء مجال النظر فى هذه الأيام، التي تذبح فيها الأضاحى.. إنها أيام، وليست يوما.. وإذن فقد لزم الاجتهاد فى تحرّى الوقت المناسب من هذه الأيام لذبحها.. وقد كان!! ففى رأى أبى يوسف ومحمد- صاحبى أبى حنيفة- أنها أيام النحر، وعدّتها ثلاثة أيام.. يوم العيد، ويومان بعده..
وعن الشافعي، والحسن وعطاء، أنها أربعة أيام، يوم العيد، وثلاثة أيام بعده..
وعند ابن سيرين، يوم واحد، هو يوم النحر.
وعند أبى سلمة، وسليمان بن يسار، أنها إلى هلال المحرم..!
فأى يوم من تلك الأيام ينحر فيه الهدى، هو مجز فى حدود هذه المقولات.
وهذا كلّه- فيما نرى- مخالف لقوله تعالى: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» حيث قرن الأمر النحر بالصلاة، التي هى صلاة العيد، لا مطلق الصّلاة.. حيث يتحلل الحجيج من إحرامهم، وحيث يختمون أعمال الحجّ بهذا القربان، وحيث ينالون شيئا من حظوظ الدنيا بهذا الطعام من اللّحم فى هذا اليوم، وحيث يشتركون جميعا فى هذه المائدة التي دعاهم الله إليها،
ثم من جهة أخرى نرى أعمال الحج كلها تجرى فى صورة جماعية.. وليس هناك من حكمة ظاهرة فى إفراد الهدى بهذا التحلل من قيد الجماعية فى الوقت الذي يذبح فيه! هذا، وربّما فهم بعضهم من قوله تعالى: «لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ» على أن «اسم الله» لا يذكر إلا عند الذبح، أما الذكر بمعناه المطلق، فهو ذكر الله مثل قوله تعالى: «فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً» (٢٠٠: البقرة) وقوله تعالى: «وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» (١٠: الجمعة) وقوله سبحانه: «وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ» (٣٥: الأحزاب).. فحيث أريد ذكر الله، أي تسبيحه وحمده لم تقرن به به كلمة «اسم» على حين أن كلمة «اسم» قد جاءت مع لفظ الجلالة عند إرادة تزكية الحيوان وذبحه، كما فى قوله تعالى: «فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ وَما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ» (١١٨- ١١٩:
الأنعام) وقوله تعالى: «وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ» (١٢١: الأنعام).
نقول: لعل هذا هو الذي جعل أكثر المفسّرين والفقهاء يخصصون ذكر اسم الله فى آية الحج بالذكر على بهيمة الأنعام عند الذبح.
ونقول: إن اقتران كلمة «اسم» بلفظ الجلالة هكذا: «اسم الله» لا ينهض دليلا على اختصاص ذكر اسم الله بذبح الحيوان.. فقد جاء فى آيات أخرى، الدعوة إلى ذكر الله، مقترنة بلفظ «اسم» كما فى قوله تعالى:
«فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ» (٥٢: الحاقة).
وعلى هذا، فإن المراد- والله أعلم- من ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، هو ذكره ذكرا عاما مطلقا بكل اسم من أسمائه جلّ وعلا.. ثم ذكر اسمه ذكرا خاصّا على بهيمة الأنعام عند ذبحها.
وشبهة أخرى ربما وردت على تفكير بعض المفسّرين الذين خصصوا ذكر اسم الله فى الأيام المعلومات، وقصروه على بهيمة الأنعام المسوقة هديا للبيت الحرام.. وتلك الشبهة هى تعدّى فعل الذكر بحرف الجرّ «على» فى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ»..
فإن تعدّى هذا الفعل بحرف الاستعلاء «على» قد يكون قرينة عندهم على أن ذكر اسم الله هنا إنما يقع على بهيمة الأنعام، ولو كان ذكرا عاما لما تعدّى الفعل بحرف الجرّ هذا، الذي يشير إشارة واضحة إلى الشيء المراد ذكر اسم الله عليه.
وجوابنا على هذا، أن تعدية فعل الذكر بحرف الجرّ «على» لا يقضى بأن يكون الحرف للاستعلاء، وأن يكون الاستعلاء واقعا على بهيمة الأنعام، وإنما الذي يقتضيه المقام هنا، هو أن يكون حرف «الجرّ» السببية لا للاستعلاء، كما فى قوله تعالى: «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ» (١٨٥: البقرة) أي بسبب هدايته لكم، وتوجيه قلوبكم وعقولكم إلى الإيمان به..
وعلى هذا يكون معنى قوله تعالى: «وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ» أي يذكروا اسم الله بسبب ما رزقهم من بهيمة الأنعام، وذللها لهم، وأحلّ لهم لحومها.
قوله تعالى:
«ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ».
هو تعقيب على ما جاء فى قوله تعالى فى الآية السابقة: «لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ.. فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ».
والمعنى: أنه بعد هذه الأعمال التي تتم بها فريضة الحج، يعود الحجيج إلى أنفسهم، لينظروا فى شئونهم الخاصة التي أهملوها فى أيام الحج، ولم يلتفتوا إليها، حيث استغرقهم الاتجاه الخالص إلى الله وأول ما ينظرون فيه، هو قصّ شعورهم، وتقليم أظافرهم، وهذا أول مدخل يدخلون به إلى الدنيا، بعد أن خرجوا منها منذ أول لحظة دخلوا بها فى ملابس الإحرام.. وهذا ما عبّر عنه القرآن بقوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ».
والتّفث: ما يعلق بالإنسان من قذر يتأذّى به، ويطلب الخلاص منه.
وهو بهذا المعنى أشبه بالرفث.. وهذا يعنى أنه حاجة من حاج الإنسان، ومن مطالبه الجسديّة.. سواء أكان ذلك بدفعها، أو بجلبها..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ» إشارة معجزة إلى أن هذه الأمور وأمثالها، وإن كانت من حاجات الإنسان، فإنها ليست من صميم مطالبه التي ينبغى أن تكون فى الاعتبار الأول عنده، مما يتصل بحاجات العقل والروح،
إنه لا بأس من أن يأخذ الإنسان حظه من مطالب الجسد، فيتجمل فى مظهره، ويسوّى من صورته، ولكن على ألا يشغله ذلك عمّا هو أولى، وأكرم وهو تجمّل الباطن وتسويته على أكمل صورة وأحسنها، علما، وخلقا..
فذلك هو الإنسان الذي يريده الإسلام.
إنه يريده حسن الظاهر والباطن، جميل المظهر والمخبر، نظيف الإناء وما يحتويه الإناء..!
وقوله تعالى: «وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ».. أي ليؤدوا لله ما كانوا قد نذروه، تقربا إليه، من ذبائح، وصدقات وغيرها.. وإن خير وقت للوفاء بهذه النذور هو فى هذا الوقت، وفى هذا الموطن.. بل إن هذا يكاد يكون أمرا لازما هنا، حيث سبق آخر عمل من أعمال الحج، وهو الطواف بالبيت العتيق، طواف الوداع.. كما يقول سبحانه بعد ذلك: «وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ».. فبالوفاء بالنذور، وبالطواف بالبيت، تختم أعمال الحج.. وكما كان أول أعمال الحج، هو لقاء البيت العتيق والطواف به طواف تسليم، يكون آخر عمل من أعمال الحج، هو الطواف بالبيت، طواف وداع واستئذان وشكر، لما لقى فى رحاب هذا البيت من ألطاف الله، وأفضاله، وما تلقى من آلائه ونعمائه..
ووصف البيت بالعتق، لأنه أول بيت لله وضع للناس على الأرض..
فالعتق هنا من العتاقة، وهى القدم، الذي هو صفة من صفات الله.. فإذا كان القدم فى مقام الفضل والإحسان، فهو تقدّم فى الدرجة، وسبق فى الإحسان.. وبهذا يكون أهلا لأن يأخذ مكان الإمامة على غيره.. وقد استحق المؤمنون السابقون من المهاجرين والأنصار أن يكونوا وجه الإسلام،
«وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ» (١٠- ١٦: الواقعة).
ووصفت الخيل الكريمة بالعتق والعتاقة، فيقال خيل عتاق، لأنها تسبق غيرها من الخيل، ووصف الرقيق الذي تحرر من الرق بأنه عتيق، لأن سبق الأرقاء الذين لم يتحرروا.. إلى التحرر..
وفى التعبير عن الطواف «بالتطوّف» إشارة إلى الإكثار منه، وأنه أكثر من طواف واحد.. فالفعل «تطوّف» أكثر حروفا من «طاف» ! قوله تعالى:
«ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ».
«ذلِكَ» إشارة إلى ما جاءت به الآيات السابقة من أحكام.. أي ذلك الذي جاءت به الآيات السابقة قد علمتموه.. وأمر آخر، يجب أن تعلموه وتعملوا به، وهو أن «مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ».
وتعظيم حرمات، الله هو الالتفات إليها، وتقديرها قدرها، فى غير استخفاف بها.. فهى أمر عظيم.. من استخفّ بها هلك، ومن لم يأخذ حذره منها هوى وسقط.. وكان من الضالين..
وقوله تعالى: «وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ» - هو تطبيق عملىّ لحرمات الله.. فهناك من بهيمة الأنعام، ما أحله الله، وهناك ما حرّمه
وما يتلى، هو ما ذكر فى كتاب الله من البهائم المحرمة، وهى التي جاءت فى قوله تعالى: «حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ.. ذلِكُمْ فِسْقٌ» (٣: المائدة). وهذا يعنى أن هذه الآية نزلت بعد آية الحج.. وهذا هو الثابت من تاريخ النزول القرآنى.. إذ كانت المائدة من آخر سور القرآن الكريم نزولا.
وقوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ» الرّجس: الدّنس والقذر.
والأوثان: الأصنام ونحوها، مما يشكّل ويصوّر، من جمادات، ليعبد من دون الله.. و «من» فى قوله تعالى: «مِنَ الْأَوْثانِ» بيانية.. أي فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان.. فهى كلها رجس وخبث، وقذر، ولا ينضح منها إلا ما هو رجس وخبث وقذر.
وقوله تعالى: «وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ».
الزور: هو الباطل من القول، والخارج على الحقّ.. وسمّى زورا، لأن الصدور السليمة تزورّ به، وتضيق بحمله.. ولا تتسع له الصّدور المريضة، والنفوس السقيمة.
وفى قرن «الزُّورِ» بالأوثان، إشارة إلى شناعته، وإلى أنه مأثم غليظ، يعادل الشرك بالله.. بل إن الشرك نفسه هو ثمرة فاسدة من ثمار الزور..
إذ الشرك فى صميمه، افتراء على الله، وتزيين للباطل، وتزويق للزور.
وهذا ما وصف به المشركون فى موقفهم من رسول الله صلى الله عليه
قوله تعالى:
«حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ».
الحنفاء: جمع حنيف، وهو المائل عن طرق الضلال إلى طريق الهدى..
وقوله تعالى: «حُنَفاءَ لِلَّهِ» حال من الفاعل فى قوله تعالى: «فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ» أي اجتنبوا هذه المنكرات، وأنتم حنفاء لله، أي مخلصين الدّين لله وحده، غير مشركين به..
- وقوله تعالى: «وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ».
هو تهديد ونذير لمن يشرك بالله، ويعدل عن طريق الإيمان الخالص به..
فإن من يفعل هذا، فقد عرّض نفسه لأبشع صورة من صور الهلاك.. إنه أشبه بمن سقط من علو شاهق، فوقع على الأرض أشلاء ممزقة، تكون طعاما
قوله تعالى:
«ذلِكَ.. وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ».
الشعائر جمع شعيرة: وهى ما يستجيش مشاعر الإنسان، ويحرك وجدانه..
ويراد بالشعائر، العبادات، والطاعات، وكلّ ما يتقرب به العبد إلى الله.
ويذهب أكثر المفسّرين إلى أن الشعائر هنا، هى الهدى المساق إلى الحرم، وأنها إنما سمّيت شعائر لأنها تشعر أي تعلم بشعيرة- أي حديدة- تشرط بها فى الجانب الأيمن من سنامها..
والرأى عندنا- والله أعلم- هو ما ذهبنا إليه، من أن المراد بالشعائر هنا العبادات كلها، ومنها مناسك الحج، وأعماله، ومنها الهدى أيضا.
أما تعظيم شعائر الله، فهو فى أدائها على وجهها، فى اطمئنان، وإخبات لله، وولاء لجلاله وعظمته..
وأما تعظيم شعيرة «الهدى» فهو برعايتها، وإكرامها، وإنزالها من النفس منزلة الإعزاز. لأنها منذ الوقت الذي اختيرت فيه لتكون هديا، قد أصبحت خالصة لله، وأنها منذ ذلك الوقت إلى يوم النحر فى ضيافة مهديها إلى الله.. ولهذا وجب عليه أن يكرمها، ويحسن ضيافتها، فلا يركبها، ولا يحمل عليها، ولا يعرّيها من أصوافها وأوبارها، ما دام قد أعدّها للهدى..
ثم إن من أمارات الإكرام لها أن تعلم بعلامة مميزة لها، وأن تعلق فى رقبتها قلادة، تحلّيها وتزينها، وتجعل لها ميزة على غيرها..
فهذا الهدى هو هدى الله، وليس أصحابه المتقدمون به إلى الله إلا رعاة له..
إنه أشبه بناقة صالح.. له حرمته، كما كان للناقة حرمتها، وقد توعّد الله سبحانه وتعالى ثمود بالهلاك، إن هم نالوها بسوء: «هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (٧٣:
الأعراف).
وفى هذا يقول الله تعالى: «جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ» (٩٧: المائدة) فقد جعل الله سبحانه وتعالى قلائد الهدى- فضلا عن الهدى نفسه- قرينة الشهر الحرام، فى حرمتها وما ينبغى للناس أن يعظموه منها..
ثم لعلك تسأل: لم هذا التعظيم للحيوان؟ ولم هذه المراسم التي تتخذ له؟ أليس ذلك ضربا من ضروب الوثنية التي جاء الإسلام لحربها، والقضاء عليها؟.
والجواب على هذا: أن الحجّ رحلة روحية خالصة، يخرج فيها الحاج من عالم المادة، إلى عالم الروح، وأن أعمال الحج التي تلقاة على طريق رحلته الروحية تلك، مقدّرة بهذا التقدير..
فالتجرّد من الملابس ولبس غير المخيط، والمهاجرة من الوطن، وترك الأهل والولد والمال، والطواف حول البيت، والسعى بين الصفا والمروة، واستلام الحجر الأسود، أو تقبيله، ورمى الجمرات- كلها أعمال ومراسم، تبدو فى ظاهر الأمر متصلة اتصالا وثيقا بذوات الأشياء، لا ربّ الأشياء.. ولكنها فى حقيقة الأمر، راجعة أولا وأخيرا، إلى الله سبحانه وتعالى، إذ كانت تلك الأعمال
فهذا ابتلاء من الله، يبتلى به عباده، ليظهر منهم ما هم عليه من طاعة أو عصيان.
وقد كان أمر الملائكة بالسجود لآدم، ابتلاء وامتحانا لهم، فسجد الملائكة، وأبى إبليس أن يسجد، وقال: «أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ، خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ» (١٢: الأعراف). فكان من الهالكين..
فهذه الأعمال التي يأتيها الحجيج، هى امتحان وابتلاء لهم، فى باب الطاعة والامتثال لأمر الله، فى غير تردد أو مراجعة.. وإلا فهو العصيان والكفر..
نعوذ بالله منهما.
وتعالت حكمة الله.. فإنه سبحانه وتعالى، لم يبتل المؤمنين بهذه الأعمال ابتداء، ولم يلقهم بها على أول طريق الإيمان، بل جاءهم بها بعد أن يكون المؤمن منهم قد قطع شوطا طويلا على طريق الإيمان، حتى اطمأن قلبه به، وسكنت نفسه إليه، وثبتت قدمه عليه.
فأولا: فى مسيرة الدعوة الإسلامية، لم يفرض الحجّ إلا فى زمن متأخر، حيث فرض بعد الصلاة، والصيام، والزكاة، وكان بهذا آخر ما فرض من أركان الإسلام.
وهذا يعنى أن المسلمين الذين خرجوا من الجاهلية إلى الإسلام، قد التقوا بالحج، بعد تلك الفترة التي عاشوها فى الإسلام.. يؤمنون بوحدانية الله، ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة، ويصومون رمضان.. وتلك فترة كافية لتثبيت قواعد الإيمان فى قلوبهم، وإجلاء كل داعية من دواعى الوثنية والشرك منها.
وثالثا: فى قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» إشارة إلى أن تعظيم هذه الشعائر، هو تعظيم لله، يتجلّى فيها درجة إيمان المؤمنين، وينكشف بها ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- ما عندهم من تقوى.. إذ كانت هذه الأعمال- كما تبدو فى ظاهرها- خارجة عن منطق العقل..! والإيمان- فى حقيقته- هو حبّ خالص لله، والحبّ إذا كان صادقا، لا يسمع صوت العقل، ولا يستجيب له، وإنما يتلقى من القلب، ما يحدّثه به، ويدعوه إليه.. ولهذا جاء قوله تعالى: «فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» ليكشف عن أن تعظيم هذه الشعائر، وإتيانها فى إيمان وإخلاص، وحب وشوق- إنما هو من وحي القلوب، ومن خفقات الإيمان الثابت فيها، ومن إشارات التقوى المتمكنة منها.. وفى الكلمة المأثورة عن عمر بن الخطاب، وهو يقبّل الحجر الأسود حين قال: «أعلم أنك حجر لا تضرّ ولا تنفع، ولولا أنى رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقبّلك ما قبلتك» - فى هذه الكلمة ما يكشف عن هذا الحبّ لله، ولرسول الله، ومتابعته فى كلّ قول، وعمل، وإن جاء هذا القول أو العمل، فوق مدارك العقول!.. ومن أجل هذا فقد وقف القرآن الكريم هذه الوقفات الطويلة
وهكذا يقيم الإسلام المسلمين على منطق العقل، ومشاعر القلب معا..
فهو إذ يدعوهم إلى الإيمان بالله، والإقرار بوحدانيته، يجىء إليهم عن طريق العقل، فيقيم لهم الحجج، وينصب الأدلة والبراهين، حتى يقع الإيمان منهم موقع اليقين.. لأنه هو الأساس الذي تقوم عليه كل دعوة للإسلام، وكل أمر من أوامره، ونهى من نواهيه.. فإذا كان الإيمان بالله عن نظر واقتناع، كان التسليم واجبا بكل ما يأمر به الله، أو ينهى عنه..
ثم كانت الصلاة.. وكان الصوم.. وكانت الزكاة.. وكلها أعمال يلتقى فيها منطق العقل، مع مشاعر القلب، وإن كان منطق العقل فيها أكثر من منطق الشعور، أو مساويا له.
ثم أخيرا، كان الحج.. فكان مشاعر خالصة، أو شبه خالصة، حيث يكاد العقل يخلى مكانه للقلب، ليأخذ حظه كاملا، كما أخذ العقل حظّه كاملا من الإيمان بالله!.. وبهذا يعتدل ميزان الإنسان، وتتوازن مداركه مع مشاعره، ويتآخى عقله مع قلبه.. وذلك هو الإنسان فى أعدل صورة، وأحسن تقويم، وأتم وضع!! قوله تعالى:
الضمير فى «فِيها» يعود إلى قوله تعالى: «ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ» على اعتبار أن من هذه الشعائر بهيمة الأنعام، المساقة هديا إلى بيت الله..
والمعنى، أن ما يساق إلى البيت الحرام من هدى، هو أمانة فى أيدى أصحابه، وأن لهم أن ينتفعوا به الانتفاع الذي لا يسوءه ولا يتضرر منه.. كالانتفاع بلبنه مثلا..
وفى قوله تعالى: «ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ» تذكرة بالجهة التي سيهدى إليها هذا الهدى، وأن ذلك من شأنه أن يجعل لهذا الهدى حرمة ورعاية خاصة.. إذ كان آخذا طريقه إلى بيت الله، مع الآخذين طريقهم إليه، فله حرمة ينبغى أن تؤدّى، وله ذمام يجب أن يرعى.. فهو بعض وفد الله إلى، بيت الله!! وسمّى البيت الحرام بالبيت العتيق، لأنه أول بيت وضع للناس، كما يقول سبحانه وتعالى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ».. فهذه الأولية، هى فى مقام الإحسان والخير، سبق له خطره وقدره.. فكلمة عتيق هنا تضاهى كلمة «عريق»، أي هو عريق وقديم فى مقام الخير والإحسان.. فكما سبق السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار إلى الإسلام، واستحقوا بهذا السبق ما خصّهم الله سبحانه وتعالى به من فضل وإحسانه.. فكذلك هذا البيت، إذ كان أول بيت لله على هذه الأرض، فقد استحق أن يكون أكرم بيوت الله على الله، وأولاها بالإجلال، والاحتفاء.. من عباد الله
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (٣٤) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٥) وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٣٦) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (٣٧)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ».
المنسك: اسم مكان، يؤدّى فيه النسك.. والنّسك: هو ما افترض الله على عباده من قربات يتقربون بها إليه.
والمخبتين: المطيعين، المطمئنين، الذين يؤدون أوامر الله فى رضا واطمئنان..
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى جعل لكل أمة «مَنْسَكاً» أي معلما من
- وفى قوله تعالى: «فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ» إشارة إلى أن المناسك، والشعائر، والعبادات التي تعبّد الله بها عباده على لسان رسله- وإن اختلفت صورا وأشكالا- هى من دين الله، وهى طريق عباده إلى طاعته ورضاه.. وأن هذا الاختلاف فى صورها وأشكالها، لا يجعل منها سببا إلى الاختلاف بين المؤمنين بالله.. فكلهم يعبدون إلها واحدا، ومن شأنهم، أن يكونوا أمة واحدة.
- وقوله تعالى: «فَلَهُ أَسْلِمُوا» هو دعوة للمؤمنين أن يسلموا وجوههم لله، وأن ينقادوا له، ثم هو دعوة لأهل الكتاب أن يدخلوا فى دين الله، وهو الإسلام، إن كانوا مؤمنين بالله حقا.. فما الإسلام إلا دين الله، الذي اجتمع فيه ما تفرق منه فى الأمم السابقة...
- وقوله تعالى: «وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ» هو استدعاء، وإغراء للذين لم يمتثلوا بعد هذا الأمر- أن يسلموا لله وجوههم، وأن يدخلوا فى دينه، ليكونوا ممن لهم البشرى فى الحياة الدنيا وفى الآخرة...
قوله تعالى:
«الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ
هو صفة للمخبتين، الذين وعدهم الله بالبشريات المسعدة، فى الدنيا والآخرة.
فمن صفات هؤلاء المخبتين، أنهم إذا ذكر الله وجلت قلوبهم لذكره، وحضرتهم حال من الرهبة والخشية لجلال الله وعظمته.
ثم إنهم لإيمانهم بالله، هذا الايمان الذي يملا قلوبهم جلالا وخشية- صابرون على ما أصابهم ويصيبهم من بلاء، فإن الجزع ليس من صفات المؤمنين، لأن الجزع لا يجىء إلا من شعور بأن ليس وراء الإنسان قوة تسنده وتعينه وتكشف ضرّه.. أما المؤمن، فإنه إذا ابتلى بأعظم ابتلاء، لا يجزع، ولا يكرب، ولا يخور، بل يحتمل صابرا، ويثبت للمحنة، وهو على طمع فى رحمة الله أن ينكشف ضره، ويدفع بلواه.. ثم إن هؤلاء المخبتين يقيمون الصلاة، ويؤدونها فى خشوع وخضوع، إذ هى التي تصل المؤمن بربه، وتعمر قلبه بالإيمان به.. ومن هنا كان الصبر هو الثمرة الطيبة التي تثمرها الصلاة، كما يقول سبحانه: «وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ».
وقدّم الصبر على الصلاة، لأنه مطلوب لها، حيث لا تؤدّى كاملة إلا مع الصبر، فإذا أدّيت كانت هى نفسها رصيدا كبيرا تزيد به حصيلة الصبر فى كيان المؤمن.. ثم إن هؤلاء المخبتين لا يمسكون رزق الله الذي رزقهم، فى أيديهم، ولا يحبسونه على أنفسهم، بل ينفقون منه فى وجوه البرّ، ويرزقون عباد الله مما رزقهم الله.. إذ أنهم ينفقون ما فى أيديهم، وهم على رجاء من أن الله يرزقهم، ويكفل لهم ما يكفل للطير والدواب من رزق.. «فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ».
قوله تعالى:
«وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ
البدن: جمع بدنة، وهى الناقة، وسميت بدنة لعظمها وضخامتها..
والصّوافّ: جمع صافّة، وصافّ.. والمراد به السكون، ومنه قوله تعالى «وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ» أي صفّت أجنحتها، وسكنت، وذلك حين تفرد أجنحتها فى الجو، وتتوقف عليلا عن الطيران..
وجبت جنوبها: أي سقطت على الأرض.
القانع: من لا يسأل.. والمعتر: من يتعرض للسؤال مستجديا.
والمعنى: أن هذه البدن، أي الإبل، جعلها الله من شعائره، حيث تساق هديا إلى بيته الحرام، وجعل فيها خيرا للناس، بما ينتفعون به منها، فى حمل الأمتعة، وركوبها، والانتقال بها، والانتفاع بألبانها وأوبارها، ولحومها..
- وقوله تعالى: «فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ» أي إذا أردتم نحرها، فاذكروا اسم الله عليها، قبل أن نحرها، ثم ليكن ذبحها وهى صوافّ، أي فى حال وقوفها، وثباتها، وصفّ قوائمها.. وذلك أن الإبل تنحر وهى واقفة. على خلاف غيرها من الحيوان.
- وقوله تعالى: «فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ» أي أنها إذا نزفت دماؤها، وسقطت على الأرض، جثّة هامدة- أصبحت صالحة للأكل.. فكلوا منها، وأطعموا القانع، الذي لا يسأل، والمعترّ الذي يسأل، فهى نعمة من نعم الله، جعلها الله فى أيديكم، وسخرها لكم،
قوله تعالى:
«لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ».
أي أن هذه البدن التي تقدمونها قربانا، و، تطعمون منها وتطعمون، هى فى الواقع نفع خالص لكم.. فليس لله سبحانه وتعالى- وهى من عطاياه- شىء منها، وليس فى تقديمها قربانا لله، وإطعام من تطعمون منها- ما يصل إلى الله منه شىء.. فهذا كل شىء منها هو بين أيديكم: لحمها قد أكلتموه، ودمها قد أريق على الأرض.. ومع هذا فهى قربان لكم، تتقربون به إلى الله، وتثابون عليه.
- وقوله تعالى: «وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ» إشارة إلى أنه ليس المقصود من هذه الهدايا ذبحها، وأكل لحمها.. وإنما المراد أولا وبالذات، هو امتثالكم لأمر الله، وإمضاء دعوته، فيما يدعوكم إليه، من التضحية بشىء عزيز عليكم، حبيب إلى نفوسكم، وبهذا تحسبون فى أهل التقوى من عباد الله.. وهذا هو الذي يناله الله منكم، ويتقبله من أعمالكم.. إنه التعبّد لله، والولاء له، والاستجابة لأمره..
وفى التعبير عن تقبّل الله سبحانه وتعالى للطاعات من عباده «بالنيل» - تفضّل من الله سبحانه وتعالى على عباده المتقين، وإحسان مضاعف منه إليهم، إذ جعل طاعتهم، وتعبدهم له- إحسانا منهم إليه، سبحانه وتعالى.. وهذا شبيه بقوله تعالى: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً» (٢٤٥: البقرة).
فهو سبحانه وتعالى- فضلا وكرما وإحسانا منه- يعطى، ويقترض ممن أعطاه!
الآيات: (٣٨- ٤١) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٣٨ الى ٤١]
إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (٣٨) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (٣٩) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٤٠) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (٤١)
التفسير:
قوله تعالى:
«إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة دعت إلى تعظيم شعائر الله ومناسكه، وإلى ذكر اسم الله على بهيمة الأنعام، وإلى إطعام القانع والمعترّ منها..
وهذا لا يقوم على تعظيمه والوفاء به، إلّا أهل الإيمان والتقوى- فناسب هذا أن يذكر ما للمؤمنين المتقين عند الله من فضل وإحسان، وأنهم جند الله، يدافع الله عنهم، وينصرهم..
وأنت ترى. أن دفاع الله عن المؤمنين، إنما يكون والمؤمنون فى مواطن الإيمان، وفى ميدان المعركة.
وهذا يعنى أن المؤمن الذي يستسلم لعدوّ الله وعدوّ المؤمنين، لا يكون فى ميدان المعركة، ومن ثمّ فلا يكون من الله دفاع عنه، إذ لا معركة قائمة بينه وبين عدوّه..
ومن هنا، كان واجبا على المؤمن الذي يطمع فى دفاع الله عنه، ألا يلقى السلاح.
من يده، وألا يفرّ من الميدان.. سواء أكان ذلك ميدان حرب، أو ميدان رأى، ودعوة إلى الله..
- وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ» - هو تهديد للكافرين، الذين خانوا عهد الله وميثاقه الذي واثقهم به وهم فى أصلاب آبائهم، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قالُوا بَلى شَهِدْنا» (١٧٢: الأعراف).
فهم لهذا فى معرض السخط من الله.. «لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ» (١٧٤: البقرة).
قوله تعالى:
«أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ»..
أذن لهم: أي أبيح لهم القتال، دفاعا عن النفس..
أي أن الله سبحانه وتعالى، قد أذن المسلمين الذين بدأهم أعداؤهم وأعداء الله بالقتال- قد أذن لهم أن يقاتلوا، وأن يدفعوا يد البغي والعدوان عنهم..
فهذا قتال مشروع، بل إنه واجب، إذ كان فيه تقليم لأظفر الطغيان وخضد لشوكة الطغاة.. والله سبحانه وتعالى يقول: «وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ» (١٧٩: البقرة) ويقول: «فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ» (١٩٤: البقرة)..
أما الاستسلام للبغى، والسكوت على الظلم، فهو تمكين للشرّ، وتدعيم لبنائه، وإطلاق ليده، يضرب بها كيف يشاء فى مواقع الحق، ومواطن الخير..
إن البغي، والظلم، والعدوان.. كلها وجوه منكرة من وجوه المنكر، ومطلوب من كل مؤمن بالله أن يدفع المنكر بكل ما ملكت يده، ووسع جهده..
وقتال المؤمنين، والعدوان عليهم، بإراقة دمائهم وإزهاق أرواحهم، هو أنكر المنكر، وإنه لفرض على كل مؤمن أن يردّ هذا المنكر، ويخمد
- وفى قوله تعالى: «بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا» هو تعليل للإذن الذي أذن فيه للمؤمنين بالقتال..
والمعنى: أنه قد أذن الله للذين يقاتلون أن يقاتلوا من يقاتلهم، بسبب أنهم ظلموا بالتعدّى عليهم، وبمبادأتهم بالقتال.. فهو قتال دفاع منهم، لا قتال هجوم.. ولهذا، فإنهم مؤيّدون بنصر الله، «وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ».
إذ في يده سبحانه القوى كلها، وإنه لا غالب لله.. وفى هذا تحريض للمظلوم- وإن كان ضعيفا- أن ينتصف ممن ظلمه، فإنه على وعد بنصر الله له.
قوله تعالى:
«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ.. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ».
هو بيان الحال هؤلاء الذين أذن الله لهم أن يقاتلوا.. فقوله تعالى:
«الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ» - هو بدل من قوله تعالى: «لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ» فهؤلاء الذين يقاتلون، وأذن لهم فى قتال مقاتليهم- هم أولئك المهاجرون الذين أخرجوا من ديارهم ظلما وعدوانا «بِغَيْرِ حَقٍّ».. فإنهم لم يجنوا على أحد، ولم يكرهوا أحدا على أمر، وإنما كل جنايتهم- إن كانت هناك جناية- هى إيمانهم بالله، وقولهم ربنا الله الواحد، الذي لا شريك له.. فهل فى هذا عدوان على أحد، أو ضرر يعود على أحد؟. ولكنّ أهل الضلال والبغي ينظرون بعيون مريضة، ويحكمون على الأمور بعقول فاسدة، فيرون النور ظلاما، والخير شرا، والإحسان إساءة..
ومن أجل هذا، فقد أقام الله سبحانه وتعالى، فى كل ملة، وفى كل أمّة، جماعة مؤمنة، تقيم شرع الله، وتحيى شعائره، وتعمر بيوته، وتحتمل فى سبيل هذا ما تحتمل من بلاء، فى دفع الظالمين، وردع الباغين..
فهذا الصّدام القائم بين الهدى والضلال، وبين المهتدين والضّالّين، هو سنّة من سنن الله، التي أقام حياة الناس عليها، والتي كان من ثمارها أن قامت بيوت الله، وعمرت بالمؤمنين الذاكرين الله كثيرا فيها..
وفى هذا دعوة المؤمنين- فى صدر الدعوة الإسلامية خاصة- أن يكونوا جند الله فى هذه الأرض، والحماة المدافعين عن دينه، والمقيمين مساجده، والمعمّرين ساحاتها بذكر الله فيها..
وفى هذا أيضا إشارة إلى أنه سيكون للمسلمين مساجد، وأن هذه المساجد ستعمر بالمصلين والذاكرين الله كثيرا فيها.. وهو وعد كريم من ربّ كريم، لجماعة المؤمنين يومئذ.. وقد تحقق هذا الوعد- وكان لا بد أن
قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» هو وعد منه سبحانه وتعالى بالنصر للمؤمنين، الذين نصروا الله، وجاهدوا فى سبيله.. إنهم نصروا الله إذ نصروا دينه، فكان حقّا على الله أن ينصرهم، كما يقول سبحانه: َ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ»
(٤٧: الروم).
وقوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ» هو توكيد، بعد توكيد لهذا الوعد الذي وعده الله المؤمنين بالنصر، إذا هم نصروا الله، ودافعوا عن دين الله..
وليس وعد الله فى حاجة إلى توكيد، عند المؤمنين بالله، ولكنه مبالغة فى تطمين القلوب، وتثبيت الأقدام، فى تلك الساعات التي تزيغ فيها الأبصار، وتضطرب النفوس، حين تلتقى جماعة المؤمنين، فى أعدادها القليلة، بحشود المشركين، فى جحافلها الجرارة! قوله تعالى:
«الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ».
يمكن أن يكون الاسم الموصول: «الَّذِينَ» بدلا من الاسم الموصول فى قوله تعالى: «وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» كما يمكن أن يكون بدلا من الاسم الموصول «الَّذِينَ» فى قوله تعالى: «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ»..
وعلى أىّ فإن الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، هم الذين وعدوا
فالذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وهم المهاجرون- هم الذين وعدوا بالنصر، لأنهم نصروا الله، فخرجوا من ديارهم وأموالهم، مهاجرين بدينهم الذي هو كل حظهم من هذه الدنيا، والذي باعوا من أجله أنفسهم وأموالهم وديارهم وأوطانهم..
وقوله تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ» - هو عرض للصورة الكريمة التي سيكون عليها هؤلاء المؤمنون الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق، وذلك حين ينصرهم الله، ويمكّن لهم فى الأرض، وتكون لهم القوة والغلب..
إنهم- مع ما ملكت أيديهم من قوة، وما مكّن الله سبحانه وتعالى لهم فى الأرض من سلطان- لن يكونوا على شاكلة هؤلاء الضالّين الذين كانت إلى أيديهم القوة والسلطان، فتسلطوا على عباد الله، ورهقوهم، وأخذوهم بالبأساء والضراء، وأخرجوهم من ديارهم بغير حق..
إن هؤلاء المؤمنين، حين يمكّن الله لهم فى الأرض، سيكونون مصابيح هدى، وينابيع رحمة، للإنسانية كلها، بما يقيمون فيها من موازين الحق، والعدل، وما يغرسون فى آفاقها من مغارس الخير والإحسان.. إنهم يقيمون الصلاة، ليستمدوا منها أمداد الهدى من الله.. ويؤتون الزكاة، فيكشفون بها الضرّ عن عباد الله.. ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. فيصلحون بهذا من سلوك الناس، ويقيمون لهم طرقهم مستقيمة، فلا تتصادم منازعهم، ولا تفسد مشاربهم..
وقد صدق الله وعده، ومكن سبحانه وتعالى للمؤمنين فى الأرض، فكانوا أعلام هدى، وآيات رحمة، وموازين عدل وإحسان بين الناس..
قوله تعالى: «وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ».. إشارة إلى نفاد قدرة الله، وأنها بالغة الغاية التي قدّرها الله لها فى هذا المقام، وهى نصر المؤمنين، وإعزازهم، وخذلان المشركين والضالين، وخزيهم..
فعاقبة الأمور، هى ثمراتها الطيبة، إذ كانت الأمور كلها تجرى بأمر الله، وتتحرك بمشيئته.. فإذا بلغت غايتها كانت خيرا، وكانت كمالا، وحسنا..
وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ» (١٢٨: الأعراف) وقوله سبحانه: «وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى» (١٣٢: طه).
الآيات: (٤٢- ٤٨) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٢ الى ٤٨]
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (٤٢) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (٤٣) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٤٤) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (٤٥) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (٤٦)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (٤٧) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (٤٨)
قوله تعالى:
«وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ».
فى هذه الآيات مواساة للنبىّ الكريم، وعزاء جميل من ربّ العالمين، لما يلقى من قومه من تكذيب، وسفه، وتطاول.. فتلك هى سبيل الأنبياء مع أقوامهم.. «كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ» (٤٤: المؤمنون).. وأنت أيها النبي لست بمعزل عن هذا، ولا قومك ببدع بين الأقوام.. إنه حق وباطل، وهدى وضلال، وإنه لا بد من صدام بين أصحاب الحق وأهل الباطل، وبين دعاة الهدى، وأئمة الضلال.. «فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ» (٣٥: الأحقاف)..
وفى هذه الآيات:
أوّلا: جاء ذكر قوم نوح، وقوم إبراهيم، وقوم لوط، مضافين إلى أنبيائهم، على حين جاء قوم هود، وقوم صالح، وأصحاب مدين، وهم عاد وثمود، وقوم شعيب مجردين من هذه الإضافة.. فما وجه هذا؟..
الجواب- والله أعلم- أنه تنويع فى النظم، وذلك بتوزيع الكلمات ذات النغم الواحد مثل «قوم» هذا التوزيع غير المتتابع، حتى لا يثقل على الأذن، ولا يثير الملل والسأم، فكان هذا التوزيع الذي ترى وتسمع تساوق لحنه وروعة نغمه.. ولو ذهبت تعيم النظم على أسلوب واحد، فتذكر الأقوام مضافين إلى أنبيائهم، أو تذكرهم بأعيانهم مجردين من تلك الإضافة، لوجدت نظما قلقا مضطربا يتعثر به اللسان، وتستثقله الآذان.
وكان ظاهر النظم يقضى بأن يجىء الفعل مذكرا هكذا: «كذب» فما سرّ هذا؟..
والجواب- والله أعلم- أن القوم المكذبين كانوا على طبيعة واحدة من الضلال والعمى، فكأنهم- بهذا كتلة متضخمة من الظلام، لا يخرج منها إلا ما هو شر، وضرّ.. فكأنّ الفعل واقع على هذا الكيان الفاسد، أو هذه القطعة من الظلام، والضلال!.
ومن جهة أخرى، فإن الفعل «كذب مسلط على هؤلاء الأقوام الذين ذكرتهم الآية، قوم نوح، وعاد، وثمود | » وهم بهذا أمة واحدة، فى الضلال، وإن كانوا أمما فى الأمكنة والأزمنة.. |
والجواب- والله أعلم- أن قوم موسى، وهم بنو إسرائيل لم يكذبوه، وإنما الذي كذبه هو فرعون وقوم فرعون، وهم ليسوا قوم موسى..
أما السرّ فى أنه لم يذكر فرعون وقومه فى الأمم والأقوام المكذبة بالرسل فذلك- والله أعلم- لأن موسى لم يكن من قوم فرعون، ورسل الله جميعا من أقوامهم.. فلم يكن موسى مبعوثا إلى فرعون وقومه ليقيم فيهم دينا ويؤسس شريعة، وإنما كانت رسالته إلى فرعون أن يدعوه إلى إطلاق بنى إسرائيل من يده كما يقول سبحانه لموسى وما يدعون فرعون إليه: «فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ» (٤٧: طه) هذه هى رسالة موسى إلى فرعون..
- وفى قوله تعالى: «فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ.»
هو تهديد للمشركين، الذين تصدوا للنبىّ وكذبوه، وآذوه.. فإن يكن الله قد أملى لهم، أي أمهلهم، ولم يعجل لهم العذاب فإنه سبحانه قد أملى للكافرين قبلهم.. ثم أخذهم أخذ عزيز مقتدر..
- وفى قوله تعالى: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ» استفهام يراد به التقرير، والإلفات إلى ما أخذ الله به الكافرين المكذبين برسل الله.. «فمنهم من أغرقه الله، ومنهم من خسف به الأرض، ومنهم من أرسل عليه حاصبا، ومنهم من أخذته الصيحة..»
والنكير: الإنكار المنكر.. ونكير الله هو إنكاره على الكافرين كفرهم، وليس وراء هذا الإنكار، إلا البلاء المهين، والعذاب الأليم..
قوله تعالى:
«فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ..»
هو بيان لنكير الله سبحانه وتعالى، ووقعات بأسه بالظالمين والضالين..
فكثير من قرى الظالمين قد أهلكها الله، وأنزل بها عذابه، فوقع عليها وهى قائمة على ما كانت عليه من ظلم وطغيان.. وهذه القرى قد خوت على عروشها،
فتعطلت آبارها وردمت، لأنها لا تجد الواردين إليها، وخربت القصور المشيدة، بعد عمرانها، لأنها لا تجد من يسكنها..
لقد ذهب الجميع، وخلّفوا وراءهم هذا الخراب الموحش المخيف!.
قوله تعالى:
«أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.»
الاستفهام هنا، تقريع، ونخس لهؤلاء المشركين من قريش، الذين تصدّوا لرسول الله، وكذّبوه وآذوه، دون أن ينظروا فى عاقبة أمرهم، ودون أن يلتفتوا إلى ما وراء هذا المنكر الذي هم فيه.. ولو نظروا فيما حولهم لعرفوا أنهم فى معرض الهلاك، إذا هم لم يرجعوا عن هذا الضلال الذي يركبونه، فهم ليسوا أحسن موقفا من أولئك الأقوام الذين كذبوا الرسل من قبلهم، فأهلكهم الله..
- وفى قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها» هو إشارة إلى أن السير فى الأرض، لا يفيد منه صاحبه شيئا إلا إذا كان معه قلب متفتّح، يتلقّى المؤثّرات الخارجية، ويتأثّر بها، ويتفاعل معها.. فإن لم يكن له هذا القلب اليقظ المتفتّح، فليفتح أذنه لدعوة الداعي، ونذير المنذر..
فإن الأعمى يتّخذ من أذنه أداة عاملة تقوم مقام عينيه، وتصل ما بينه وبين الوجود..
أما هؤلاء القوم الضالون، فلم تكن لهم قلوب يعقلون بها، ولم تكن لهم آذان يسمعون بها.. لقد عطلوا حواسهم.. فهم صمّ بكم عمى لا يعقلون..
فأبصارهم معهم، وهى سليمة لا عيب فيها، ولكنهم مع هذا هم عمى، لأن العمى ليس عمى الأبصار، ولكنه عمى القلوب التي فى الصدور.
- وفى قوله تعالى: «الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ» توكيد للقلوب، وأنها هى المرادة هنا، على سبيل الحقيقة لا المجاز، وذلك لئلا ينصرف مفهوم القلوب إلى العقول، كما يحدث ذلك كثيرا.
وقد وصفت القلوب هنا بأنها تعقل وتدرك.. فكان تحديد مكانها أمرا لازما، حتى يتقرر أنها المقصودة بذاتها، وليست العقول..
واختصاص القلب بالذكر، والنظر إليه على أنه مركز الإدراك والإلهام، فى هذا المقام، لأن الدّين عقيدة، والعقيدة أساسها الحبّ والامتثال والولاء، والقلب هو منبع هذه المشاعر، ومصدر تلك العواطف..
وحقّا، إن للعقل مكانه البارز فى إدراك الحقائق الدينية، وتصوّرها، وإنه بغير هذا الإدراك وذلك التصور لا تقع هذه الحقائق من القلب موقع الحبّ، والتقدير، والتقديس.. ولكن القرآن الكريم ينظر إلى القلب، لا باعتباره مصدر العواطف والمشاعر وحسب، بل ينظر إليه كذلك نظرة وظيفية، كعضو عامل فى كيان الإنسان.. فهو- من هذه الجهة- مركز الحياة فى الإنسان، بل وفى كل عالم الحيوان- حيث يمدّ الجسم كلّه بالدّم المتدفق منه فى العروق والشرايين، ولو توقف لحظات لمات الكائن الحىّ، وأصبح جثة هامدة.. ومن هنا كان نبض القلب هو الإشارة الدالة على وجود الحياة
وإذ كان القلب بهذه المثابة، فإنه هو صاحب الشأن الأول فى الإنسان، بحكم آثاره الظاهرة فيه.. إنه يعمل دائما فى حال اليقظة والنوم.
وأما العقل، وإن عرفت آثاره، فإنه لا يعرف سرّه، ولو عرف سرّه، فإنه لا يخرج عن أن يكون ربيب القلب، وغذىّ ماء الحياة الذي يمدّه به، أيّا كان موضعه فى كيان الإنسان، وأيّا كان مستقرّه.
فإذا أضاف القرآن الكريم إلى القلب، علما، ومعرفة، وحكمة، وإيمانا، فإنّما ذلك لأنه سلطان الجسد كلّه، وإلى صلاحه أو فساده يعود صلاح أعضاء الإنسان وفسادها، وسلامة حواسه أو اعتلالها.. وليس العقل إلا حاسّة خفية- من حواس الإنسان، ترتبط سلامته بسلامة الجسد، كما ترتبط سلامة الجسد بسلامة القلب، وفى المثل: «العقل السليم فى الجسم السليم».. وقد كشف عن هذا الرسول الكريم فى قوله: «ألا وإن فى الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كلّه، ألا وهى القلب».
وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى: «فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها» (٤٦: الحج) لا على أن القلب هو مصدر الإدراك المباشر، وإنما هو مصدر للعقل الذي يعقل ويدرك.. فلو كان القلب سليما معافى من العلل لسلم العقل، ثم لكان إدراكه للأمور سليما، وتقديره لها صحيحا.. وهذا أبلغ فى الكشف عن داء الغفلة المستولى على القوم، وأنه داء ينبع من المنبع الأصلى، وهو القلب، وليس داء عارضا أصاب حاسة من الحواس..
إنه داء يسرى فى الجسد كله.
وسواء إذا كان القلب هو موطن المشاعر والمدركات، أم كان عضوا
فالعين وما فيها من قوى الإبصار، هى من جنود القلب.. إذ هى غصن من أغصان الشجرة التي يقوم على تغذيتها، وإمدادها بالحياة.. وكذلك الشأن فى الأذن، واليد، واللسان.. وكذلك الحال فى «المخ» الذي قيل إنه هو موطن الشعور والإدراك!! إن الإنسان، هو فى الواقع هذا القلب، لا من حيث هو تلك النطفة الصنوبرية من اللحم والدّم.. ولكن من حيث هو مستودع هذه الحياة المتدفقة منه، وهى الدّم الذي يسرى فى العروق والشرايين، والذي يملأ الكيان الجسدى كلّه مع كل خفقة من خفقاته، قبضا وانبساطا..
قوله تعالى:
«وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ».
هو ردّ على هؤلاء المشركين الضالين الذين عموا عن الحقّ، وضلوا عن سواء السبيل، ثم هم مع- هذا الموقف المكابر المتحدّى- يستعجلون العذاب الذي أنذروا به إنهم أعرضوا عن الإيمان بالله، وكذبوا بما جاءهم به رسول الله، كما فى قوله تعالى: «فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ» (١٣: فصلت).. وفى هذا الرد إنكار عليهم، وتسفيه لهم، إذ
وفى قوله تعالى: «وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ» تهديد لهم، بالعذاب الذي أنذروا به، وأنه واقع بهم.. فهذا وعد من الله، ولن يخلف الله وعده.. لأن خلف الوعد إنما يكون عن عجز عن الوفاء به.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا..
وقوله سبحانه: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ» هو تأكيد لوقوع وعد الله، وإنجازه وأنهم إذا كانوا قد استبطئوا وقوعه، فإن لله سبحانه وتعالى تقديرا غير تقديرهم، وحسابا غير حسابهم، وأنه سبحانه لا يقيس الزمن بمقياس الناس، فالناس يتعاملون مع أشياء محدودة، فى زمن محدود، على حين أن الله سبحانه يدبر الوجود كله، فى زمن مطلق، وبقدرة مطلقة..
وعلى هذا فإنه إذا لم يقع بهم العذاب عاجلا فهو واقع آجلا، وأنهم إذا لم يؤخذوا به فى الدنيا، أخذوا به فى الآخرة.. فهم أبدا فى قبضة الزمن الذي هو فى قبضة الله.. ولن يفلتوا أبدا.
قوله تعالى:
«وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ»..
هو بيان شارح لقوله تعالى: «وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ»..
والمعنى أن هؤلاء المشركين إن كانوا يستعجلون العذاب، ويشكون فى وقوعه حين أبطأ عليهم، ولم يقع بهم، فما ذلك إلّا لأن لهم حسابا، وأن لله سبحانه وتعالى حسابا، وأنهم إذا كانوا قد أملى لهم ولم يؤخذوا بظلمهم إلى يومهم هذا الذي هم فيه- فليس هذا لأنهم ممتنعون عن الله بقوة أو جاه أو سلطان،
- وفى قوله تعالى: «وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ» إشارة إلى أنهم إذا لم يؤخذوا بظلمهم فى هذه الدنيا، فإنهم صائرون إلى الله، وسيلقون جزاء الظالمين يوم القيامة.. فإن هم أمهلوا اليوم، فليس معنى ذلك أنهم نجوا من العذاب، بل إن فى غد عذابا فوق العذاب، وبلاء فوق البلاء! «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (٢٦: الزمر).
الآيات: (٤٩- ٥٩) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٤٩ الى ٥٩]
قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٤٩) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٥٠) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (٥١) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٥٢) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (٥٣)
وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٤) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (٥٥) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (٥٦) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (٥٧) وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (٥٨)
لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (٥٩)
قوله تعالى:
«قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ».
هو توكيد لهذا الإنذار، الذي أنذر به المشركون من وقوع العذاب بهم، إذا هم لم يستجيبوا لله وللرسول.. فهو إنذار عام للناس جميعا، ولكنه فى حقيقته إنذار خاص لكل ضالّ غوىّ، ثم هو إنذار فى مواجهة هؤلاء المشركين، يصرخ فى وجوههم، ويصكّ أسماعهم.. وإنه لإنذار مبين واضح، بما معه من الأدلة القاطعة، والآيات الناطقة المعجزة..
«فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».
الفاء هنا، للتفريع المسبب عن هذا الإنذار الذي جاء به النذير المبين..
فأما الذين استمعوا لهذا النذير، وآمنوا بالله، وعملوا الصالحات، فقد ركبوا طريق النجاة، ولهم من الله مغفرة، ورحمة، ورزق كريم..
«وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ»..
أي: وأما هؤلاء الذين لم يستمعوا لهذا النذير المبين، ولم يستضيئوا بالنور الذي معه، بل تصدّوا لهذا النور، وأرادوا أن يطفئوه بأفواههم، وبما يخرج منها من أكاذيب وأضاليل- هؤلاء هم أصحاب الجحيم، فليس لهم من صاحب إلا جهنم وما تمدّهم به من عذاب أليم.. إنهم أشكل بها، وهى أقرب شىء إلى طبيعتهم.
- وفى قوله تعالى: «سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ» إشارة إلى سعى هؤلاء المشركين، وأنه سعى للباطل والضلال، حيث يسعون لإعجاز آيات الله، وغلبتها وصرفها عن طريقها.. وفى تعدية الفعل بحرف الجر «فى» الذي يفيد الظرفية، إشارة إلى أنهم يدخلون فى آيات الله ويلبسون الحقّ بالباطل، إذ يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلقون فيه بالهذر من القول، والسّخف من الكلام، كما حكى القرآن ذلك عنهم فى قوله تعالى:
«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ» (٢٦: فصلت).
وأريد أن تلتفت التفاتة خاصة إلى قوله تعالى: «مُعاجِزِينَ» وأن تقف لويلا عندها، فإن لها شأنا فى تلك القصّة العجيبة المثيرة، التي نسج خيوطها
فيثير ذلك فى نفوسهم قلقا، واضطرابا، ويحرّك فى صدورهم وساوس وظنونا! ولهذا لم نر بدّا من الوقوف عند هذه القصة، والكشف عن زيفها وباطلها..!
ولكن قبل الدخول فى هذا البحث، أعود فأذكّرك بالنظر إلى قوله تعالى فى الآية السابقة: «وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ».. وإلى أن هذه الآية موجهة إلى المشركين، وإلى عبثهم بآيات الله، وإلى مغالبتها ومعاجزتها باللّغو فيها..
فالمشركون متّهمون بهذه الجريمة، وهى الدخول إلى آيات الله، بما يغيّر وجهها، ويبدّل صورتها، ويعطيهم الحجة عليها، بعد أن كانت لها الحجة عليهم..
إذا عرفنا هذا، وسلمنا به- وهو واضح لا يحتاج إلى من يدلّ عليه، وهو أمر مسلّم به، لا يجوز الخلاف فيه- كان ذلك هو مقطع القول فى هذه القضية،
[الغرانقة العلى.. قصّتها ومن أين جاءت؟]
قوله تعالى:
«وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
هذه الآية الكريمة، هى التي ولّد منها المفسّرون وأصحاب السّير، قصة «الغرانقة» هذه.. ولكنا ندع هذه القصة الآن، وننظر فى الآية الكريمة نظرا غير مرتبط بما يقال من روايات عن أسباب النزول- ننظر إليها على أنها قرآن يتلى، ويتعبّد بتلاوته، دون أن يكون لسبب النزول- أيّا كان- أثر فى موقعه من قلوبنا، أو عقولنا! - فقوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ» هو خبر يتضمن حكما عاما، لا انفكاك منه.. يقع على رسل الله وأنبيائه جميعا.. وهذا الحكم، هو: أنه ما من رسول من رسل الله، ولا نبىّ من أنبيائه، إلا والشيطان راصد له، وأنه كلّما تمنّى ألقى الشيطان فى أمنيّته! هذا صريح ما تنطق به كلمات الله، فى وضوح وجلاء.. وإن كان هناك ما يسأل عنه، فهو كلمة التمنّى.. فما معنى التّمنّي، وماذا كان يتمنّى الرسول، أو النبىّ؟ ثم ماذا يلقى الشيطان فيما يتمناه الرسول أو النبىّ؟
وقد فرّق علماء النحو والبلاغة بين الترجّى، والتّمنّي، كما فرّقوا بين حرفى الطلب: ليت، ولعلّ.. فقالوا: إن «ليت» للتمنّى، وهو طلب محبوب لا يدرك، و «لعلّ» للترجّى، وهو طلب مرغوب يمكن إدراكه والحصول عليه، وإن كان بعيدا.
وفى القرآن الكريم، جاء لفظ التمني بهذا المعنى، الذي هو طلب الشيء البعيد.. كما فى قوله تعالى: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ» (٩٤- ٩٥: البقرة).
والخطاب هنا لبنى إسرائيل، وهم مطالبون فى هذا الخطاب أن يتمنّوا شيئا لا يمكن أن يقع منهم، وهو تمنّى الموت.. ولهذا جاء قوله تعالى: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً» كاشفا عن هذا.. ولهذا أيضا جاء قوله تعالى بعد ذلك:
«وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ» - جاء مؤكدا لعدم وقوع هذا الأمر منهم، إذ أن الحريص على الشيء لا يتمنى إفلاته من يده، فكيف إذا كان أشدّ الناس حرصا عليه؟
وجاء فى القرآن الكريم أيضا قوله تعالى: «أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى؟» (٢٤: النجم) وهو ينكر على الإنسان أن يقع له ما يتمناه، ويجرى على هواه وهواجسه..
وجاء فى القرآن الكريم كذلك فى قوله تعالى: «وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ» (٧٨: البقرة) والأمانىّ جمع أمنيّة..
وعلم الأميين من أهل الكتاب، بالكتاب، هو علم بعيد عن الحقّ، بعد الأمنية عمن يتمنّاها.
فما هى أمنية كلّ رسول، وكلّ نبىّ؟
إن أمنية كلّ رسول، ورغيبة كلّ نبىّ، هى أن يرى قومه على الهدى الذي يدعوهم إليه، وأن يصبحوا جميعا فى المؤمنين بالله.. فتلك هى رسالته فى الناس، يعيش لها، ويعمل من أجل تحقيقها، وأن سعادته كلها هى أن يرى نجاح مسعاه، وثمرة جهاده، فى هذه الأعداد التي استجابت له واتبعته، وأنه كلما كثرت هذه الأعداد، تضاعفت سعادته، وعظمت غبطته.
هذه هى أمنية كل رسول، وكل نبىّ.. لا أمنية لأحد منهم غير هذه الأمنية! ولكن الأمانىّ- كما قلنا- بعيدة التحقيق! وأمنية الرسول أو النبىّ فى أن يكون الناس جميعا مؤمنين- أمنية تقع فى دائرة المستحيلات، لأنها تطلب من الحياة مالم تجد به، وتريد الناس على غير ما أقامهم الله عليه.. فالحياة لم تعرف المجتمع الإنسانىّ على طريق سواء، يضمّ جميع أفراده.. والناس- كما خلقهم الله- مؤمن وكافر، وفى هذا يقول الله تعالى: «هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» (٢: التغابن).
وإذن فأمنية أي رسول وأي نبىّ، غير ممكنة التحقيق.. ومع هذا فإن على كل رسول وكل نبىّ أن يسعى سعيه، ويبذل جهده، ويدعو الناس جميعا إلى الله، ويؤذّن فيهم بآيات الله! ولكن صوت الحق هذا، تلقاه على الطريق أصوات منكرة، بعضها ينبح نبح الكلاب، وبعضها يعوى عواء الذئاب، ومنها ما ينهق نهيق الحمير،
ويحسن هنا أن تقرأ هذا المقطع من الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ.. إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ»..
وواضح مما رأيت، أن أمنيّة كل رسول وكل نبىّ، كانت أبدا هى هداية قومه جميعا إلى الله، وأن إلقاء الشيطان فى هذه الأمنية، هو ما يوسوس به للسفهاء، والحمقى، والجهلاء من القوم، ليقفوا فى وجه الدعوة التي يدعون إليها، وليرهقوا رسلهم وأنبياءهم.. فالشيطان لا يظهر عيانا، ولا يلقى الرسول أو النبىّ مواجهة، وإنما يلقاهما فى أتباعه وأوليائه، هؤلاء الذين استذلّهم الشيطان، وأمسك بهم من مقاودهم، فكانوا له جنودا يسلطهم على أنبياء الله، ورسل الله، وأولياء الله..
ولكن ماذا يكون بين هذه الأمنية التي يتمنّاها الرسول أو النبىّ، وما يلقى به الشيطان فيها؟
الشيطان كما أخبرنا الله- سبحانه وتعالى- عنه، ليس له سلطان على الذين آمنوا، كما يقول سبحانه: «إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» (٩٩: النحل) فكيف بالرسل والأنبياء، الذين عصمهم الله، وأمدّهم بكثير من أمداد عونه، وتوفيقه، وحياطته؟ ثم كيف والشيطان أيّا كان هو ضعيف الكيد لمن عرف كيف يدافع عن إنسانيته، ويحمى وجوده من أن
وعلى هذا، فإن ما يلقى به الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ، من ضلالات وأباطيل، وما يستنبت به فى منابت الحق من شوك وحسك- هو سحب صيف، لا تلبث أن تنقشع من وجه الشمس، وإذا شعاعها يملأ الآفاق، وإذا ضوؤها يبدد كل ظلام، وإذا حرارتها تتمشّى فى أوصال الكائنات.. «كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ.. فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ» (١٧: الرعد) وهكذا يذهب ما يلقى الشيطان فى أمنيّة الرسول أو النبي.. هباء، حيث يخلص النبي أو الرسول بأوليائه، وهم صفوة المجتمع، والثمرات الطيبة فيه، على حين يستولى الشيطان على أتباعه، ويسوقهم إلى حظيرته، حيث هم حصب جهنم وحطبها! واستمع بعد هذا إلى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» وانظر كيف كانت عاقبة هذا الصراع بين النبي أو الرسول، وبين الشيطان وأولياء الشيطان.. لقد أحكم الله سبحانه وتعالى آياته، فنسخ أي أبطل.. ما ألقى الشيطان، ثم أحكم سبحانه آياته، وثبّت قواعدها..
ولا يعترض على هذا القول، بأن الرسول أو النبىّ كانت أمنيّته هى هداية
والجواب على هذا، قريب من قريب.. فلقد تحققت أمنية النبي أو الرسول تحقيقا كاملا، ولو لم يؤمن معه من قومه أحد..! كما ترى.
إن أمنية الرسول أو النبىّ. كانت فى أول الأمر هى هداية قومه، فردا، فردا.. وهو فى سبيل تحقيق هذه الأمنية لا يدخر شيئا من جهده، ولا يضنّ بشىء من راحته.. ثم هو مع هذا يظل صابرا محتملا لكل ما يرميه به السفهاء، من فحش القول، وشنيع العمل.. حتى إذا انتهى الأمر إلى غاية يتضح منها أن لا خير يرجى من هؤلاء القوم، وأن لا ثمرة تحصّل منهم، مهما بذل من جهد، أو ضوعف من عمل- إلى هنا يكون الشيطان قد غطى أمنية الرسول أو النبىّ، وحجب ضوءها.. وعندئذ يتولى الله سبحانه وتعالى أخذ هؤلاء القوم بالبأساء والضرّاء، فيضربهم ضربة قاضية، فإذا هم فى الهالكين.. وهكذا ينسخ الله كل ما ألقى الشيطان ويبطله، على حين يكون قد أحكم آياته وثبتها بنجاة النبىّ أو الرسول من هذا البلاء.. إن الرسول أو النبىّ فى تلك الحال- وإن كان وحده- هو آية الله، أو آيات الله التي أحكمت، فثبتت، وبقيت..
أما ما ألقى الشيطان، فقد نسخ وبطل، وذهب هباء! واستمع إلى الآية كلها مرة أخرى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ.. فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ».
وأحسب- بعد هذا، بل وقبل هذا- أن الآية الكريمة، واضحة
وهنا نحبّ أن نشير إلى أن الآية الكريمة قد تحدّثت عن الرسول، وعن النبىّ، باعتبار أن لكل منهما صفة خاصة، وأنهما لو كانا على صفة واحدة لما جاءت بهما الآية على هذا النظم، الذي جاء العطف فيه بين الرسول والنبىّ بإعادة حرف النفي، الذي يؤكد لكلّ من الرسول والنبىّ ذاتيته.. فكأنّ نظم الآية يقول: «وما أرسلنا من قبلك من رسول، وما أرسلنا من قبلك من نبىّ».. وهذا يعنى أن الرسول غير النبىّ..
والذي عليه الرأى عند المفسرين والفقهاء، أن كلّا من الرسول والنبىّ يوحى إليهما من الله ولكن الرسول ينفرد بأنه صاحب شريعة يتلقاها من الله، ويدعو إليها الناس.. بخلاف النبىّ الذي لا شريعة معه، وإنما هو على شريعة رسول سبقه، وأنه يدعو إلى شريعة هذا الرسول.. فكل رسول نبىّ.. وليس كل نبىّ رسولا..
وعلى أىّ، فإن الرسول صاحب كتاب سماوى أو صحف سماوية.. أما النبىّ فلا كتاب ولا صحف معه..
وهذا الوضع الذي يختلف فيه النبىّ عن الرسول، له دلالة كبيرة فى المفهوم الذي ينبغى أن نفهمه من الآية السابقة، وهو أن قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي
لا يمكن أن ينصرف إلى الآيات المقروءة، المنزلة وحيا من السماء..
وذلك لأن النبىّ- مجرد النبىّ- لا يدخل فى هذا الحكم، إذ لا كتاب معه، ولا صحف، حتى يقع عليها النسخ فيما ألقى الشيطان فيها.!!
وإذن، فالذى ينبغى أن نقطع به قطعا جازما، هو أن معنى النسخ فى هذه الآية، لا يمكن أن يكون واردا على نسخ آيات الله المتلوة، كما هو المعروف عن النسخ بمعناه العام المطلق، الذي فسره عليه المفسرون..
وهذه الحقيقة، هى فى الواقع من أقوى الأدلة على فساد المعنى الذي فهمت عليه الآية الكريمة، والذي جاءت منه قصة- أو خرافة- «الغرانقة العلا» التي ستعرف نبأها عما قليل..
وقبل أن نعرض لهذه الخرافة، ننظر فى الآيات الكريمة التي تلت هذه الآية التي نحن بين يديها، منذ أخذنا فى هذا الحديث.. فهذه الآيات مكملة لها، ومعقبة عليها..
يقول الله تعالى بعد هذه الآية:
«لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ»..
وهذا يشير إلى أن ما ألقاه الشيطان فى أمنية الرسول أو النبىّ- هو فتنة للذين كفروا من أهل الكتاب، وللقاسية قلوبهم من هؤلاء المشركين من قريش.
بمعنى أن من اتخذهم الشيطان أولياء، فجعل منهم جنودا مدججين بسلاح السفاهة والتطاول على الرسل والأنبياء- هؤلاء الجنود هم فتنة مطلة على الذين كفروا من أهل الكتاب، وهم الذين فى قلوبهم مرض، وعلى المشركين من
الفرقان) ويقول سبحانه على لسان المؤمنين: «رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» (٥: الممتحنة).
وفى قوله تعالى: «وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ» إشارة أخرى إلى أن هؤلاء الذين ألقى بهم الشيطان فى طريق الدعوة التي يدعو بها الرسول أو النبىّ- هم متلبسون بظلم عظيم، لما هم عليه من شقاق بعيد عن مواطن الحق، ومن خلاف قائم على الجرأة والتجرد من الحياء، فى إنكار البديهيات، وفى عدم التسليم بها والانقياد لها:
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ.. وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
أي أنه من هذا الاحتكاك بين الحقّ الذي يدعو إليه الرسول أو النبىّ، وبين الباطل الذي يلقى به الشيطان وأولياء الشيطان فى وجه هذا الحق- فى هذا الاحتكاك تنقدح شرارات مضيئة، يرى أهل العلم والمعرفة على ضوئها فرق ما بين الحق والباطل، فتزداد معرفتهم بالحق، ويقوى تعلقهم به، واطمئنان قلوبهم وإخباتها له.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ»، بهذا الصراع الذي يقوم بين الحق والباطل، فلا يعشى أبصارهم عن الحق هذا الغبار الذي يثيره الباطل والمبطلون فى وجهه، بل إن ذلك ليزيد من نور الحق، ويضاعف من جلاله وروائه.. كالشمس، يحجبها السحاب، فإذا انقشع السحاب وسفرت عن وجهها، كانت أحسن حسنا وأبهى بهاء.. إن ذلك شأن كلّ ضدّ يلتقى بضده.. فالحسن يزداد مع القبيح حسنا، والحلو يكون بعد مذاق
ثم يجىء بعد هذا قوله تعالى:
«وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ».
الضمير فى «منه» يعود إلى القرآن الكريم، الذي وإن لم يجر له ذكر فيما سبق، فهو مذكور كأصل أصيل للحق الذي يجادل فيه الذين فى قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم..
أما القاسية قلوبهم- وهم مشركو العرب- فستلين قلوبهم آخر الأمر، وسيؤمنون بالله، وينقادون للحق..
وأما الذين فى قلوبهم مرض- وهم أهل الكتاب- وخاصة اليهود، فإنهم لن يتحولوا عن حالهم مع القرآن، بل سيظلون على امترائهم وجدلهم فيه.. وهذا شأنهم أبدا حتى تأتيهم الساعة، بل إن كثيرا منهم سيظل على امترائه حتى يرى عذاب الله فى هذا اليوم العظيم..
وفى وصف هذا اليوم بأنه عقيم، إشارة إلى أنه لا يوم بعده، حتى يمكن أن تتحول فيه أحوال الناس، ويصلح المفسد منهم ما أفسد.. إنه يوم عقيم لا يلد يوما بعده، كما تلد أيام الدنيا، أياما بعدها..
ثم يجىء قوله تعالى:
«الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ.. فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ» :
وفى هذا الموقف يفصل الله بين عباده، ويقضى بالحقّ بينهم.. فالذين آمنوا وعملوا الصالحات فى جنات النعيم، ينعمون برضوان الله، ويخلدون فى رحمته.. وأما الذين كفروا وكذبوا بآيات الله، وجادلوا بالباطل فيها، فأولئك لهم عذاب مهين، يذلّهم ويخزيهم.
وفى تخصيص الملك لله فى هذا اليوم، مع أن الملك لله أبدا، فى هذا اليوم وفى كل يوم، إشارة إلى أن هذا اليوم يتجرد فيه كل ذى سلطان من سلطانه، وكل ذى قوة من قوته، وكل ذى مال من ماله، فلا تصريف لأحد، فى الظاهر أو الباطن، كما للناس تصريف- فى الظاهر- فيما خوّلهم الله من سلطان، وأموال.. فى هذه الدنيا ثم يجىء قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ»..
هو إشارة إلى إحكام الله لآياته، بعد أن نسخ ما ألقى الشيطان فيها..
فهؤلاء الذين هاجروا فى سبيل الله، فرارا بدينهم، ثم قتلوا استشهادا فى سبيل الله، أو ماتوا ميتة طبيعية- هم من الذين أحكم الله آياته فيهم، فنجاهم من الافتتان فى دينهم، وجزاهم على صبرهم على هذا الابتلاء فى أموالهم وأنفسهم، أجرا عظيما، حيث رزقهم أطيب رزق وأكرمه، وهو الحق الذي معهم، والإيمان الذي عمر قلوبهم، ثم النّصر على عدوّهم، والتمكين لهم فى الأرض.
ثم الرزق الأعظم بهذا الفوز بجنّات النعيم فى الآخرة.. «وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ» ومن عطائه الجزيل الجليل، هذا النعيم الذي ينعم به المؤمنون فى
«حَلِيمٌ» لا يعجل مقوبته، بل يمهل الظالمين، حتّى يكون لهم نظر فى أمرهم، ورجعة إلى ربّهم.. فإن لم يفعلوا فالنار مثواهم: «وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» (٢٦: الزمر).
هذه الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ.. وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ». ، وما سبقها أو تلاها من آيات- هى التي نسحت جولها قصة «الغرانقة» التي آن أن نحدثك عنها وقد رأينا الآيات جميعها تعرض صورة من صور هذا الصّراع، الذي عرض القرآن الكريم كثيرا من صوره، بين النبىّ، وبين المشركين والكافرين والمنافقين ومن فى قلوبهم مرض.. وهى فى صورتها تلك ليس فيها شىء على غير مألوف ما جاء من صور هذا الصراع بين أنبياء الله ورسله، مع أقوامهم..
فمن أين إذن جاءت خرافة «الغرانيق العلى» ؟ ذلك ما تراه فيما سنعرضه عليك الآن..
كان موضوع الناسخ والمنسوخ فى القرآن، من القضايا البارزة، التي شغل بها علماء التفسير، والفقه.. وقد عرضنا لهذه القضية فى مبحث خاص فى الجزء الأول من هذا التفسير.. وكان من رأينا- ومازلنا عليه- أن لا نسخ فى القرآن..
وقد نظر المفسّرون فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ
نظر المفسرون فى قوله تعالى: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ» فرأوا هذا الخبر بالنسخ، فكان هذا منطلقا ينطلقون منه إلى إثارة هذه القضية، وإلى البحث عن المنسوخ الذي نسخه الله، وكان من هذا أيضا امتداد النظر إلى ما وراء القرآن الكريم، والإصغاء إلى ما يلقى إليهم من أخبار وروايات يمكن أن يتّكأ إليها، للكشف عن أساس تقوم عليه الآية الكريمة، وبتحقق بها ما أخبر به الله سبحانه وتعالى من نسخ لما ألقى الشيطان.. ثم كان ذلك داعية للبحث عن هذا الذي ألقاه الشيطان، ثم نسخه الله..!
هناك إذن أمران، كان على المفسّرين الكشف عنهما فى هذا الموقف:
ما هى أمنية النبي؟
ثم ماذا ألقى الشيطان فى أمنية النبىّ؟ وأين ألقاه؟ ثم بماذا نسخه الله؟
وقد كان! فألقى المفسّرون بشباكهم فى هذا البحر المتلاطم، الذي يفيض من يدى القصاص، ورواة الأخبار.. فجاءت بأكثر من صيد.
فمن ذلك ما روى أن النبىّ ﷺ قرأ مرة سورة «النجم» والمشركون يستمعون إليه، وحين بلغ إلى قوله تعالى: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى» أتبع ذلك بقوله: «تلك الغرانيق «١» العلا» وفى رواية:
«إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» وفى رواية ثالثة: «والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى».. وفى رواية رابعة «إن شفاعتهن لترتجى» من غير ذكر الغرانقة العلا.
فالرواية الأولى تقول: إن النبي قرأ الآيات هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى.. تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتها لترتجى» ! والرواية الثانية تقول: إن قراءة النبي كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى إن شفاعتها لترتجى، وإنها لمع الغرانيق العلا» ! وفى الرواية الثالثة جاءت القراءة هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، والغرانقة العلا تلك الشفاعة ترتجى».
والرواية الرابعة كانت هكذا: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى، إن شفاعتهن لترتجى».
أما القرآن الكريم، فيقول: «أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى «١» إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ».
ومدلول هذه الروايات، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قد ذكر فى تلاوته لسورة النجم، آلهة قريش بخير، وجعل لها عند الله مكانا عليّا، حتى إنها لتشفع عنده، لمن يلتمس الشفاعة عندها، ويستحقها منها.
وتقول الرواية: إن النبىّ حين بلغ آخر السورة، سجد، وسجد معه المسلمون، والمشركون، عند ما سمعوه، وقد أثنى على آلهتهم!!
والذكور فى عرفهم أكرم من الإناث.
فتقول بعض الروايات: إن الشيطان ألقى على لسان النبىّ هذا القول، الذي قاله فى حق الآلهة- اللات والعزى ومناة- وأنه صلى الله عليه وسلم، كان قد ألمّ به ضيق وحزن شديد، لما كان بينه وبين قومه من خلاف مستحكم، «فتمنى» فى تلك الحال أن لو نزل عليه شىء من القرآن يقارب بينه وبين قومه، ويباعد شقة الخلاف بينه وبينهم، ولهذا فإنه- عليه الصلاة والسلام- حين تلا سورة النجم، وبلغ الموضع الذي تذكر فيه آلهتهم، ألقى الشيطان إليه بهذه الكلمات، التي ترفع من شأنها، وتجعل لها مكان الشفاعة عند الله.. ثم تستطرد الرواية فتقول: «إن جبريل- عليه السلام- جاء إلى النبىّ، فلما عرض عليه النبىّ السورة بما أدخله الشيطان عليها، قال له جبريل: «ما جئتك بها هكذا!!» فحزن النبىّ لذلك، فنزل قوله تعالى- تسلية له-: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ، ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» ثم قوله تعالى: «وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً» (٧٣- ٧٥: الإسراء).
ونقول: إن هذه الروايات، وتلك النقول، كانت موضع إنكار، واستنكار عند بعض المفسّرين، وأصحاب السير.. إذ كانت- فى صورتها تلك- عدوانا صارخا على مقام النبوّة، ونسخا صريحا لعصمة النبىّ.!
وقد كان القاضي عياض خير من تصدّى لهذه الأكذوبة، وفضح مستورها
يقول القاضي عياض:
«إن لنا فى الكلام على شكل هذا الحديث- يقصد حديث الغرانقة- مأخذين.
أحدهما: توهين أصله.. [أي فى سنده ومتنه]..
والثاني على تسليمه.. [أي على فرض التسليم بصحته]
[المأخذ الأول] (ا) توهين أصل الحديث:
يقول القاضي عياض:
«أما المأخذ الأول، وهو توهين أصل الحديث، فيكفيك أنه حديث لم يخرّجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه ثقة بسند سليم متصل، وإنما أولع به وبمثله، المفسّرون، والمؤرخون، والمولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف، كلّ صحيح وسقيم.. وصدق القاضي بكر بن العلاء المالكي، حيث قال: «لقد بلى الناس ببعض أهل الأهواء والبدع، وتعلق بذلك الملحدون، مع ضعف نقلته- يقصد هذا الحديث- واضطراب رواياته وانقطاع إسناده، واختلاف كلماته..
فقائل يقول إنه فى الصلاة (يقصد بعض الروايات التي تقول إن النبي قرأ سورة النجم فى الصلاة).. وآخر يقول: قالها فى نادى قومه حين أنزلت عليه السورة، وآخر يقول: قالها وقد أصابته سنة.. وآخر يقول: بل حدّث نفسه فسها..
وآخر يقول: إن الشيطان قالها على لسانه، وأن النبىّ لما عرضها على جبريل قال له: ما هكذا أقرأتك.. وآخر يقول: بل أعلمهم الشيطان أن النبي صلى الله
(ب) توهين معنى الحديث:
ثم يقول القاضي عياض: «هذا توهينه- أي الحديث- من جهة النقل..
«وأما من جهة المعنى، فقد قامت الحجة، وأجمعت الأمة على عصمته صلى الله عليه وسلم، ونزاهته من فعل هذه الرذيلة، إما من تمنّيه أن ينزل عليه مثل هذا، من مدح آلهة غير الله، وهو كفر، أو من أن يتسوّر- أي يعلو- عليه الشيطان، ويشبّه عليه القرآن، حتى يجعل فيه ما ليس منه، ويعتقد النبىّ أن من القرآن ما ليس منه، حتى ينبهه جبريل عليه السلام..
وذلك كله ممتنع فى حقه صلى الله عليه وسلم.. أو أن يقول ذلك فى نفسه من قبل نفسه.. عمدا، وذلك كفر، أو سهوا، وهو معصوم من هذا كله.. وقد قررنا بالبراهين والإجماع، عصمته صلى الله عليه وسلم، من جريان الكفر على قلبه أو لسانه، لا عمدا ولا سهوا.. أو أن يشتبه عليه ما يلقيه الملك بما يلقى الشيطان، أو أن يكون للشيطان عليه سبيل، أو أن يتقول على الله، لا عمدا ولا سهوا، ما لم ينزل عليه.. وقد قال تعالى: «وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ» (٤٤- ٤٦: الحاقة).
ثم يقول القاضي عياض، فى عرض وجوه الرأى فى توهين معنى الحديث:
ووجه ثان:
وهو استحالة هذه القصة، نظرا وعرفا، وذلك أن هذا الكلام لو كان
ووجه ثالث:
أنه قد علم من عادة المنافقين، ومعاندى المشركين، وضعفة القلوب، والجهلة من المسلمين، نفورهم لأول وهلة، وتخليط العدو على النبي ﷺ لأقل فتنة، وتعييرهم المسلمين والشماتة بهم الفينة بعد الفينة، وارتداد من فى قلبه مرض ممن أظهر الإسلام- لأدنى شبهة.
ولم يحك أحد فى هذه القصة شيئا، سوى هذه الرواية الضعيفة الأصل، ولو كان ذلك، لوجدت من قريش على المسلمين الصولة، ولأقامت بها اليهود عليهم الحجة، كما فعلوا، مكابرة- فى قصة الإسراء، حتى كان فى ذلك لبعض الضعفاء ردّة.. ولا كذلك ما روى فى هذه القصة- قصة الغرانقة- ولا فتنة أعظم من هذه البليّة لو وجدت، ولا تشغيب للمعادى حينئذ أشدّ من هذه الحادثة لو أمكنت!!.. فما روى عن معاند فيها كلمة، ولا عن مسلم بسببها بنت شفة، فدلّ- ذلك- على بطلانها واجتثاث أصلها.. ولا شك فى إدخال بعض شياطين الإنس والجنّ هذا الحديث على بعض مغفّلى المحدّثين، ليلبّس به على ضعفاء المسلمين.
ووجه رابع:
ذكره الرواة لهذه القضية، أن فيها نزلت الآية: «وَإِنْ كادُوا
(٧٣- ٧٤: الإسراء) - وهاتان الآيتان تردّان الخبر الذي رووه، لأن الله تعالى ذكر أنّهم كادوا يفتنونه حتى يفترى، وأنه لولا أن ثبّته الله- لكاد يركن إليهم.
«فمضمون هذا ومفهومه، أن الله تعالى عصمه من أن يفترى، وثبته حتى لم يركن إليهم قليلا، فكيف كثيرا؟ وهم- أي الرواة- يروون فى أخبارهم الواهية أنه زاد على الركون والافتراء، بمدح آلهتهم، وأنه قال صلى الله عليه وسلم: افتريت على الله وقلت ما لم يقل، وهذا ضدّ مفهوم الآية، وهى تضعف الحديث، لو صحّ، ولا صحة له.. وهذا مثل قوله تعالى: «وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ»
(١١٣: النساء).
وقد روى عن ابن عباس: «كل ما فى القرآن «كاد» فهو لا يكون» قال الله تعالى: «يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ» ولم يذهب- به- بصر أحد..
«أَكادُ أُخْفِيها» ولم يفعل! قال القشيري القاضي: «ولقد طالبته قريش وثقيف إذ مرّ بآلهتهم أن يقبل بوجهه إليها، ووعدوه الإيمان به إن فعل، فما فعل، وما كاد ليفعل».
[المأخذ الثاني]
التسليم بصحة الحديث:
ثم يناقش القاضي عياض هذه القضية، من جانبها الآخر، وهو فرض التسليم بصحة الحديث، فيقول: «وأما المأخذ الثاني، فهو مبنى على تسليم الحديث، لو صحّ، وقد أعاذنا الله من صحته، ولكن على كل حال، فقد أجاب
أولا: ما روى عن قتادة ومقاتل: «أن النبىّ- صلى الله عليه وسلم، أصابته سنة عند قراءته هذه السورة، فجرى على لسانه هذا الكلام بحكم النوم»..
وهذا لا يصح، إذ لا يجوز على النبىّ مثله، فى حالة من أحواله، ولا يخلقه الله على لسانه، ولا يستولى الشيطان عليه، فى نوم ولا يقظة، لعصمته فى هذا الباب، من جميع العمد والسهو.
ثانيا: وفى قول: «أن النبىّ ﷺ حدّث نفسه، فقال ذلك الشيطان على لسانه..» وفى رواية «ابن شهاب» عن أبى بكر بن عبد الرحمن قال: «وسها- أي النبي- فلما أخبر بذلك قال: إنما ذلك من الشيطان».
ويرد القاضي عياض على هذه الروايات بقوله: «كل هذا لا يصحّ أن يقوله النبىّ صلى الله عليه وسلم، لا سهوا ولا قصدا، ولا يتقوله الشيطان على لسانه..
ثالثا: وقيل: «لعلّ النبي ﷺ قاله- أي هذا القول- أثناء تلاوته، على تقدير التقرير والتوبيخ للكفار، كقول إبراهيم- عليه السلام:
«هذا رَبِّي» على أحد التأويلات «١» (وأن النبىّ إذ قال ذلك قاله) بعد السّكت، وبيان الفصل بين الكلامين، ثم رجع إلى تلاوته..»
يقول القاضي عياض: «وهذا ممكن، مع بيان الفصل وقرينة تدل على المراد، وأنه ليس من المتلوّ، أي ليس من القرآن».. اه.
والقصة أو الأكذوبة- كما ترى- مهلهلة النسج، واهية البناء، أراد مخرجوها أن يخفوا عوارها، ويداروا هزالها، فألقوا إليها كثيرا من الرقع، حتى لكاد يختفى الأصل، ولا يرى منها إلا تلك المرقعات التي أضيفت إليها! فالمادّة التي تخلّقت منها القصة، مادة فاسدة، لا يتخلّق منها شىء يصلح أن يعيش فى الحياة، وأن يكتب له بقاء فى عالم الأحياء.
ونسأل: ما مضمون هذا الخبر فى قوله تعالى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ».
أليس من معنى هذا أن التمني ليس حالا واحدة تعرض للنبىّ فى حياته، وإنما هى أمنيات تعيش مع النبي أو الرسول حياته كلها، وأنه كلّما تمنّى أمنية ألقى الشيطان فيها؟.
فكيف لا يلقى الشيطان فى أمنية النبىّ إلا فى هذه المرة؟ وماذا يحول بينه وبين أن يلقى فى كل أمنيّة للنبىّ؟ أليس هذا مما يتمناه الشيطان، ويعمل له جهده لو استطاع إليه سبيلا؟.
وأكثر من هذا، فإن الذين يقولون بقصّة الغرانقة العلا، يذهبون إلى أن التّمنى، ليس معناه من الأمانىّ، وإنما معناه القراءة، ويستشهدون لذلك بهذا البيت اليتيم من الشعر، وهو من قول حسان بن ثابت فى عثمان رضى الله عنه.
تمنّى كتاب الله أول ليله وآخره لاقى حمام المقادر
والذين يروون هذه القصة، لم يجيئوا بحادثة أخرى، كان للشيطان فيها إلقاء فى قراءة النبىّ، على نحو ما رووه فى هذه القصة المفتراة! ثم إن الذين قالوا: إن النبىّ سها فوقع هذا الخاطر فى قلبه، أو جرى سرّا على لسانه، ثم التقطه الشيطان فأذاعه.. أو إن النبي أخذته سنة فجرى على لسانه هذا القول عند قراءته، بحكم النوم- هذا يعنى أن النبي، صلوات الله وسلامه عليه- كان فى حال يقظته يعيش مع هذه الخواطر، ويراود نفسه بها، وأن عقله اليقظ- كما يقول علماء النفس- كان يأبى عليه أن يصرّح به، فلما نام أو سها، انحلّت هذه الخواطر من عقال العقل اليقظ، وانطلقت لا شعوريا إلى الخارج، فكانت حديثا مسموعا.. وهذا يعنى أيضا أن النبي- صلى الله عليه وسلم- معترف فيما بينه وبين نفسه بهذه الأصنام، وبأنها غرانقة علا، وأن شفاعتها ترتجى، وأنه إذا لم يكن يصرح بذلك، وهو فى حال اليقظة، فقد صرّح به سهوا، أو حين أخذته سنة من النوم!..
وهذا يعنى ثالثا، الكفر، والنفاق معا..! وإنه لهو الكفر الذي يدمغ به كل مسلم، تقع فى نفسه أية شبهة من الشبه تحوم فى سماء النبوّة الصافية، المشرقة بنور ربّها.
وبعد هذا كله، وقبل هذا كلّه، فإن فيصل الحكم فى هذا الموقف هو كلمة واحدة: نبى، أو غير نبيّ؟ رسول أو غير رسول؟
فإن كان «محمد» صلوات الله وسلامه عليه، غير نبىّ، وغير رسول، فهذا موقف له حسابه وتقديره، وللكلام الذي يقال فيه حساب وتقدير..
ذلك ما يجب أن يتأكد، ويتقرر، أولا عند من يؤمنون بالأنبياء.. إنهم لن يكونوا على غير تلك الحال التي توجب لهم العصمة، وتحمى الرسالة التي يحملونها من أية شائبة تقلق بها.
وإذن فمن الضلالة والجهل، أن يقول قائل: إن النبىّ- ويقولها هكذا النبىّ- حين قرأ سورة النجم، نسى، أو سها، أو أخذته سنة، أو غلبه خاطر قوىّ فى نفسه، أو ألقى الشيطان إليه، فذكر الأصنام التي كان يعبدها قومه، وأثنى عليها، ورفع منزلتها، وجعل لها عند الله شفاعة! أهذا قول يقال، ويلتقى أوله مع آخره؟
نبىّ يقر قرآنا منزلا من السماء.. ثم تعدو عليه عوادى الشرّ، فتغير من آيات الله، وتبدل من شريعته، وهو على لسانه، بل وبلسانه؟
قد يكون سائغا أن تنفى عن «محمد» صفة النبوة والرسالة على سبيل المكابرة، أو من باب الكفر والإلحاد، ثم يقال: إنه قال فى معبودات قريش ما قال.. إنه لا يعدو أن يكون حينئذ واحدا من مشركى قريش، الذين يتعاملون مع هذه الآلهة، ويتعبدون لها.
أما ومحمد نبىّ، فإنه فى عصمة، فوق الخطأ وفوق النسيان! عن عبد الله بن عمر رضى الله عنهما، قال: «قلت يا رسول الله..
أأكتب عنك كل ما أسمع؟ قال: «نعم» قلت: فى الرضا والغضب؟ قال:
«نعم» فإنى لا أقول فى ذلك كلّه إلّا حقّا».
والحديث أيّا كان سنده، فإن القرآن الكريم ينطق بهذا فى قوله تعالى:
«وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى». فهذا حكم قاطع بأن الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لا ينطق عن هوى، ولا يبلغ عن الله إلا ما يوحى إليه.. فكيف يكون للقول بأن الرسول نطق بكذا وكذا مما ليس من عند الله، ثم يتعلّل لذلك بأنه كان سهوا، أو حديث خاطر، أو نحو هذا- كيف يكون لهذا القول مكان من القبول على أي وجه من الوجوه مع قول الله تعالى: «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى» ؟
إن تلك الفرية مما دسّ على المسلمين، فى غير انتباه منهم إليه، ولا تقدير للشر الذي ينجم عنه، وشغلهم الخبر بغرابته وإثارته عن أن ينظروا فيه نظرا متفحصا دارسا..
ولو أنهم فعلوا لما كان لهذا الحديث مكان فى كتب الحديث، أو الفقه، أو التفسير، سواء أكان ذلك لمجرد نقل الخبر، ثم تجريحه، وتكذيبه، أو كان
وبعد، فإن مفهوم الآية الكريمة: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ.. ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ..» - نقول إن مفهوم الآية الكريمة على هذا الوجه الذي قامت فى ظله قصة «الغرانقة العلا» - هو اتهام لرسل الله وأنبيائه جميعا، بأنهم تحت سلطان الشيطان، وأنه راصد لهم، آخذ على ألسنتهم، فلا تستقيم ألسنتهم بقراءة آية من آيات الله، حتى يخرجها الشيطان على الوجه الذي يراه، ويلوى لسان الرسول والنبي إلى ما يريد..
فسبحانك.. سبحانك. هذا بهتان عظيم، تكاد السموات يتفطرن منه وتنشقّ الأرض، وتخرّ الجبال هدّا!
الآيات: (٦٠- ٦٦) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٠ الى ٦٦]
ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (٦٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٦١) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (٦٣) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (٦٤)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (٦٥) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (٦٦)
قوله تعالى:
«ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ».
الإشارة هنا «ذلِكَ» هى إشارة إلى شأن مضى، ثم دخول إلى شأن آخر..
والتقدير: ذلك الذي حدّثت به الآيات السابقة، شأن، وها هو ذا شأن آخر فاستمع إليه أيها النبي.. والعطف، هو عطف شأن على شأن، وموضوع على موضوع.
والآية الكريمة تندّد بالبغي والعدوان، وتجعل للمعتدى عليه سلطانا نصيرا من الله، لأنه فى تلك الحالة مظلوم، والله سبحانه وتعالى يقول: «وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً» (٣٣ الإسراء) ثم إن الآية الكريمة، إذ تجيز للمعتمدى عليه أن يأخذ بحقه من المعتدى، فإنها تشير من طرف خفى إلى العفو، وذلك من وجوه:
أولا: فى تسمية القصاص من المعتدى، عقابا، فهو إذا أخذ بحقه، لا فضل له على المعتدى، فقد تساويا بعد ردّ الاعتداء، وقد كان العفو أفضل وأكرم.
والله سبحانه وتعالى يقول: «وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ» (١٢٦: النحل).
وثانيا: فى قوله تعالى: «ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ» إشارة إلى المعتدى عليه إذ يعفو،
وثالثا: فى قوله تعالى «إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ» تذكير بالعفو والمغفرة فى موقف القصاص، واستحضار عفو الله ومغفرته فى تلك الحال، الأمر الذي تنحلّ به عزيمة الانتقام، وتبوخ معه حميّة النقمة والانتقام.
هذا، والعفو هنا، إنما هو من قادر، يملك الانتقام. ومن هنا لا يكون للمعتدى سبيل إلى التمادي فى اعتدائه، وفى إذلال من اعتدى عليه.
ثم إن الآية الكريمة تضع أمام المسلمين- وقد أذن لهم فى القتال فى قوله تعالى فى آية سابقة: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ» - تضع أمامهم دستورا يقيمهم على أحسن سبيل، بين العفو والانتقام.. إن شاءوا عفوا، وإن شاءوا انتقموا.. على حسب الأحوال والأشخاص.. فقد عفا رسول الله ﷺ عن كثيرين ممن آذوه، وآذوا المسلمين، وحاربوهم، وقتلوا منهم من قتلوا.. ثم كان منه- صلوات الله وسلامه عليه- هذا العفو العام عن مشركى قريش يوم الفتح، حين قال لهم قولته الخالدة: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» - على حين- أنه صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دم بعض الأفراد من هؤلاء المشركين، وطلب قتل أحدهم ولو وجد متعلقا بأستار الكعبة.. كما قتل النضر بن الحارث صبرا.
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».
الإشارة هنا «ذلِكَ» إشارة، إلى ما تضمنته الآية السابقة من حكم فى مواجهة العدوان من المعتدين.
والمعنى: أن مقابلة العدوان بالعدوان، هو لدفع بأس الناس بعضهم عن بعض، الذي لولاه لفسد نظام المجتمع، ولتسلّط الأشرار على الأخيار، كما يقول سبحانه وتعالى: «وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً» (٤٠: الحج) والآية ردّ على تلك الفلسفة المريضة، التي ترى فى مثل هذا الدّفع إكثارا من إراقة الدماء، وإغزاء للناس بالانتقام، الذي يولد كثيرا من مواليد الشر والنقمة ويرون أن المثالية تدعو إلى الأخذ بدعوة السيد المسيح- عليه السلام- فى قوله: «من ضربك على خدّك الأيمن فأدر له خدّك الأيسر».. ففى قوله تعالى: «ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ» ردّ على هذا التفكير السقيم، ودحض لتلك الفلسفة المريضة، وذلك بالإشارة إلى نظام الوجود، وأنه قائم على التدافع بين الخير والشر، والشرّ والخير، تماما كما يدفع الليل النهار، ويدفع النهار الليل.. فلو أنه سكن النهار إلى دفع اللّيل له، ولم يدفعه كما دفعه لما طلع نهار أبدا، ولا ختفى إلى يوم القيامة، ولساد الدنيا ظلام دامس إلى الأبد.
فمن سنّة الله فى الحياة أن يغرى الأشرار بالأخيار، فتنة وابتلاء، ثم لا يدع الأخيار لأيديهم، بل يدعوهم إلى أن يأخذوا بحقّهم منهم، وأن يدفعوهم عنهم، حتى يسفر وجههم، ويبرز وجودهم..
قوله تعالى:
«ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ».
الأولى: أن أهل الإيمان هم أهل الحق، وأنهم جند الله، وأنصار الله..
وهذا من شأنه أن يحملهم على الجهاد فى سبيله، ودفع الباطل، وردع المبطلين، حتى يحقّ الله الحقّ ويبطل الباطل، ويكون الدين كله لله.
والثانية: أن الله سبحانه- وهو العلىّ الكبير- لا يغلب، ولا يغلب أولياؤه، وأنه سبحانه، وهو الحق- سينصر المحقّين الذين يقفون فى جبهة الحق ويجاهدون فى سبيله.
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ».
هو تكملة للصورة التي كشفت عنها الآية السابقة.. بمعنى أن الله سبحانه وتعالى، وهو الحق، فإن ما يرسله إلى الناس- هو حق، وهو خير. وإن رسالاته التي يحملها أنبياؤه، ينبغى أن تأخذ مكانها من قلوب المؤمنين، وأن تنزل منها كما ينزل الماء من السماء، فتحيا به الأرض، وتعمر الدنيا.. وإنه كما يعمل العاملون فى الانتفاع بهذا الماء وتمهيد الأرض له، وبذر الحب فيها- كذلك ينبغى أن يعمل المؤمنون فى حقل الإيمان، على حراسة هذا الإيمان وتعهده، حتى يؤتى ثماره، ويملأ حياة الناس خيرا وأمنا..
- وفى قوله تعالى: «أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً».. وفى التعبير عن إنزال الماء بالفعل الماضي، وعن اخضرار الأرض بالفعل الحاضر الذي يمتد إلى المستقبل- فى هذا إشارة إلى القرآن الكريم، الذي نزل، وإلى ثماره التي لا تنقطع أبدا، وأنه سيظل هكذا قائما فى الحياة، يروى القلوب، ويحيى
وسيظل هكذا نورا قائما فى الناس، وخيرا ممدودا لهم، يهتدون به، ويصيبون من خيره، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.
وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ» إشارة إلى لطف الله بعباده، ورحمته بهم، حيث ينزل إليهم من السماء ماء يحيى موات أرضهم، ويحفظ حياة أجسامهم، كما ينزل إليهم من السماء آيات بينات، تحيى موات قلوبهم، وتحفظ صفاء أرواحهم.. وأنه سبحانه «خَبِيرٌ» بما يصلح أمر الناس، ويحفظ وجودهم المادي والروحي جميعا.
قوله تعالى:
«لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ».
هو بيان لفضل الله على عباده، وأنه غنى عنهم، له ما فى السموات وما فى الأرض، فالناس- وهم بعض ما فى الأرض- ملك له، وما ينزله عليهم من السماء هو فضل من فضله، لا يريد به سبحانه من الناس إلا أن يحمدوه ويشكروا له: «ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ» (٥٧: الذاريات).
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ».
الخطاب هنا لكلّ ذى نظر وعقل.. حيث يرى فضل الله فى هذه الكائنات التي سخرها الله للإنسان، وجعلها مستجيبة له، إذا هو تجاوب معها
وقوله تعالى: «الْفُلْكَ» معطوف على «ما» أي وسخر لكم ما فى الأرض، وسخر لكم الفلك تجرى فى البحر بأمره.
- وقوله تعالى: «وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ» إيقاظ لمشاعر الإنسان ومدركاته، ليمدّ بصره إلى ما فوق هذه الأرض، بعد أن يثبت قدمه عليها، فينظر فى ملكوت السماء.. وعندئذ يرى أن هذا السقف المرفوع فوقه، تمسكه قدرة الله، وأنه لولا هذه القدرة لسقط على الأرض، وأهلك كل حىّ فيها..
- وفى قوله تعالى: «إِلَّا بِإِذْنِهِ» - إشارة إلى أن هذه السماء المرفوعة المحفوظة بقدرة الله، هى خاضعة لإرادة الله، وأنه من الممكن أن يأذن الله لها بأن تسقط على الأرض! - وفى قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ» - تطمين للناس بأن السماء لن تقع عليهم، وذلك لرحمته سبحانه وتعالى ورأفته بعباده..
ومع هذا كله، فإن كثيرا من عباده يجحدون نعمة الله، ويكفرون به، ويعبدون غيره.. من أحجار، وحيوان، وإنسان! وقوله تعالى:
«وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ.. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ».
فى هذه الآية تذكير للناس بتلك النعمة الكبرى، نعمة الحياة.. فقد كان الناس عدما، أو ترابا فى هذا التراب.. ثم إذا هم هذا الخلق السوىّ العاقل، المدبّر، الصانع! ثم إذا هم تراب مرة أخرى.. ثم إذا هم يلبسون حياة لا موت بعدها،
إن الحياة الدنيا هى إعداد للحياة الأخرى، إنها زرع، والأخرى حصاد لثمر هذا الزرع، ومن هنا كان لا بد من الحياة الآخرة، حتى تكون الحياة نعمة تستوجب الحمد والشكران لله..
ولهذا جاء قوله تعالى: «إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ» تعقيبا على تلك النعمة، وتنديدا بالإنسان وكفره وجحوده لها، إذ لم يؤد مطلوب الله منه فى هذه الحياة الدنيا، الموصولة بالحياة الآخرة..
الآيات: (٦٧- ٧٢) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٦٧ الى ٧٢]
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (٦٧) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (٦٨) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٦٩) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (٧٠) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (٧١)
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٧٢)
قوله تعالى:
«لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ».
المنسك: الشريعة، والجمع مناسك، وهى مراسم الشريعة، وأحكامها، وحدودها..
والمعنى أن الله سبحانه وتعالى، جعل لكل أمة من الأمم، شريعتها التي تلائم ظروفها وأحوالها، وذلك رحمة من الله سبحانه، بعباده، إذ لو أخذهم الله جميعا بشريعة واحدة منذ بدء الخليقة، لكان فى ذلك إعنات لهم، وتضييق عليهم، إذ يصبحون بهذه الشريعة فى حال من الجمود، لا يتحركون معه إلى يمين أو شمال، أو أمام أو وراء.. والحياة الإنسانية تتحرك دائما، متقلبة الأحوال.. وهى فى حركتها وتقلبها تتجه إلى الأمام دائما.. فكان من حكمة الحكيم، ورحمة الرحيم، أن جعل شرعة فيهم مناسبا لظروفهم وأحوالهم، يلقاهم أمّة أمّة، وجماعة جماعة، فيعطى كل أمة وكل جماعة، ما يصلح لها، ويسدّد خطوها على طريق الحياة..
- وفى قوله تعالى: «هُمْ ناسِكُوهُ» إشارة إلى أن كل أمة ترتبط بشريعتها التي شرعت لها، وتجرى محاسبتها عليها.. كما يقول سبحانه: «لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً» (٤٨: المائدة).
- وقوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» أي أن الشريعة التي بين يديك أيها النبىّ هى شريعتك التي اختارها الله بعلمه وحكمته، لأمتك، لتكون خاتمة رسالات السماء.. فلا ينازعنك فيها أصحاب الشرائع الأخرى من أهل الكتاب،
- وفى قوله تعالى: «فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ» إشارة إلى أن هذه الشريعة التي بين يدى محمد- صلوات الله وسلامه عليه- هى «الْأَمْرِ» أي الشرع كلّه، وأنه لا أمر ولا شرع بعد هذا.. وهذا هو السرّ فى تعريف «الْأَمْرِ»..
وفى توكيد الفعل «يُنازِعُنَّكَ» الذي هو نهى لأهل الكتاب، فى حضور النبىّ ومخاطبته، أمران:
أولهما: تيئيس أهل الكتاب من أن يكون لهم شأن فى هذا الأمر، وأنهم إذا أرادوا أن يكون لهم شأن فيه، فليسلموا له، وليأخذوا بما جاء به، وليجعلوا ما بين أيديهم من شرع تبعا لهذا الأمر أو الشرع.
وثانيهما: عزل النبىّ الكريم عن جدل أهل الكتاب، وعن الاستماع إلى مقولاتهم، والنظر إلى ما عندهم.. إذ أن عنده الأمر كله.. ومن كان عنده الأصل، فلا ينظر إلى الفرع..
- قوله تعالى: «وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ» أي وإذا كان ذلك هو موقفك من أهل الكتاب، فلا تلتفت إليهم، ولا تنظر إلى ما يجادلونك به من شريعتهم، وادع إلى ربك بما معك من شريعة.. فإنك لعلى هدّى من ربك.. هدى مستقيم..
وفى وصف الهدى بالاستقامة، إشارة إلى ما فى أيدى أهل الكتاب من شريعة غير مستقيمة، بما أدخلوا عليها من زيف وضلال..
قوله تعالى:
«وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ»..
هو تأكيد للأمر الذي أمر به النبىّ بالدعوة إلى ربه.. بالكتاب المستقيم
فهذه الآية الكريمة، تدعو النبىّ إلى أن يمضى فى طريقه، وأن يدع أهل الكتاب وما يجادلون فيه، وحسبه أن يلقاهم بقوله تعالى: «اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ» أي ليس لى أن أحاسبكم على افترائكم الكذب على الله، فإن الله سبحانه هو أعلم بما أنتم عليه- ظاهرا وباطنا- وهو- سبحانه- الذي يتولى حسابكم وجزاءكم..
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ»..
إمّا أن يكون من كلام النبىّ الذي أمره الله سبحانه وتعالى أن يقوله للمجادلين من أهل الكتاب، أي قل لهم: (الله أعلم بما تعملون) وقل لهم (الله يحكم بينكم إلخ) وعلى هذا يكون الخطاب موجها إليهم، وأن الله سبحانه سيحكم بينهم فيما اختلفوا فيه من مقولات، فكانوا فرقا وشيعا، أو فيما اختلفوا فيه مع النبىّ، فكانوا حربا عليه، وعداوة له..
وإمّا أن يكون ذلك استئنافا، وليس من مقول القول.. وعلى هذا يكون الخطاب عاما موجها إلى الناس جميعا.. بمعنى أن الله سبحانه سيفصل بين الناس فيما وقع بينهم من خلاف، سوء أكان خلافا واقعا بين أهل الشريعة الواحدة، أو بينهم وبين غيرهم من أصحاب الشرائع الأخرى.. ويكون هذا تعقيبا على قولة تعالى: «لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ»..
قوله تعالى:
«أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو إلفات إلى سعة علم الله سبحانه وما يقع فى محيط هذا العلم من
فهو سبحانه، يعلم ما فى السماء والأرض.. لأن كل ما فيهما صنعته، والصانع لا يخفى عليه شىء مما صنع «أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» (١٤: الملك) - وقوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ» أي أن هذا العلم الذي يحيط بأسرار الوجود كله، هو مودع فى كتاب عند الله.. فكل ما كان أو يكون فى هذا الوجود كله- فى أرضه وسمائه، وفيما بين أرضه وسمائه- مودع فى هذا الكتاب.. كما يقول سبحانه: «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» (٧٥: النمل) وهذا الكتاب هو اللوح المحفوظ الذي هو أول ما خلق الله بعد القلم..
- قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» هو دفع لما يقع فى بعض العقول القاصرة التي لا تعرف قدر الله- من شعور باستعظام هذه المعلومات التي تحصى كل شىء، وتقدّر كل شىء، لكل مخلوق، صغر أو كبر، وأخذ هذا القول على سبيل المبالغة أو التجوز.. فكان قوله تعالى: «إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ» تأكيدا لعلم الله، وسعة هذا العلم وشموله، وأن هذا الوجود كله لا يعدّ شيئا إلى علم الله، الذي أحاط بكل هذا الوجود ولا يحيط الوجود كله بشىء من علمه إلا بما يشاء..
قوله تعالى:
«وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ»..
الضمير فى «يَعْبُدُونَ» يراد به المشركون، الذين يعبدون آلهة دون الله.. ولم يكن للمشركين ذكر هنا حتى يعود هذا الضمير إليهم.. فالحديث عنهم بضمير الغيبة، إبعاد لهم، وإنكار لوجودهم فى مجتمع العقلاء، الذين هم أهل للخطاب.
وهؤلاء المشركون يعبدون آلهة تنكر الكتب السماوية عبادتها- فهم إذ يعبدونها فإنما يعبدون ما لا دليل فى أيديهم على استحقاقه العبادة: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ». (٨: الحج) - وقوله تعالى: «وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ» - هو اتهام للمشركين بأنهم إنما يعبدون ما يعبدون من دون الله، عن هوى وضلال، وعن جهل وغباء..
فلا دليل فى أيديهم من كتاب، ولا حجة معهم من علم أخذوه عن نظر ودرس فى صحف هذا الوجود.. فقد يهتدى الإنسان إلى الله بعقله ونظره.. فإن لم يكن له عقل ونظر، فهذا كتاب الله، فيه الهدى لكل من ضل، والعلم لكل من جهل.. وهؤلاء المشركون، لم يكن لهم عقول ينظرون بها، أو قلوب يعقلون بها، فلما جاءهم الكتاب، ليبصّرهم من عمى، وليعلمهم من جهل، ردّوه بأيديهم، وأصمّوا آذانهم دونه..
- وقوله تعالى: «وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ» هو تهديد لهؤلاء المشركين، الذين ظلموا الحق، فلم يطلبوه من كتاب الله، وظلموا أنفسهم، فلم يستعملوا حواسّهم وملكاتهم فى النظر لما فيه هدايتهم، فركبوا مراكب الضلال، والهلاك.. وليس لهم من يستنقذهم من هذا الضلال، ويدفع عنهم يد الهلاك، وقد وقعوا فى شباكها.
قوله تعالى:
«وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا.. قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ».
هذا هو حال أهل الضلال، مع كل دعوة راشدة، وفى وجه كلّ كلمة طيبة.. إنهم يزورّون بالخير، ويضيقون ذرعا بالهدى- شأن المدمن على منكر من المنكرات.. يؤذيه الحديث الذي يكشف له عن وجه هذا المنكر، وعن سوء مغبته، وما يجرّ عليه من فساد لعقله، وجسده، وماله..
- وقوله تعالى: «قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ».. الإشارة هنا «ذلِكُمُ» إلى المنكر الذي يبدو على وجوه الكافرين، لما يقع فى نفوسهم من ضيق وأذى مما يسمعون من كلمات الله.. فهذا الضيق الذي يجدونه فى صدورهم، هو شرّ وأذى يقع فى أنفسهم.. ولكنه شرّ قليل وأذى محتمل بالإضافة إلى ما يلقون يوم القيامة من عذاب أليم.. فلو أنّهم راضوا أنفسهم على الاستماع إلى كلمات الله، وصبروا قليلا على هذا الدواء المرّ الذي تجده نفوسهم المريضة منه- لوجدوا برد العافية من هذا الضلال الذي هم فيه، ولآمنوا بالله، ولنجوا من عذاب السعير، ولدفعوا بهذا الشرّ الذي يجدونه فى صدورهم شرّا مستطيرا، وبلاء عظيما.. وهو العذاب الأليم فى الآخرة..
وفى تسمية ما يجده المشركون من ضيق فى صدورهم عند الاستماع إلى كلمات الله- فى تسميته شرا، إنما هو بالإضافة إليهم، وحسب نظرتهم إليه..
إنهم يجدون ما تعرضه عليهم آيات الله من دواء لدائهم، وهو الشرّ الذي يصرفهم عن الحياة والعيش مع هذا الداء المتمكن منهم..
«النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» أي هذا الشر الذي أخبركم به، هو النار، التي وعدها الله الذين كفروا وأعدّها لهم.. وأنتم أيها الكافرون لا مصير لكم غير هذا المصير، وإنه لبئس المصير..
الآيات: (٧٣- ٧٦) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٣ الى ٧٦]
يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (٧٣) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (٧٤) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (٧٥) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٧٦)
التفسير:
قوله تعالى: «يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ.. إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ.. وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ.. ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ».
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هى أن الآيات السابقة تحدثت عن المشركين، وأنهم يعبدون من دون الله ما أملته عليهم أهواؤهم، دون أن يكون بين
وهنا فى هذه الآية، يضرب الله سبحانه وتعالى لهم مثلا مجسما، يمكن أن يوضع موضع التجربة والاختبار من الناس، وخاصة المشركين، وهو أن يدعوا هذه الآلهة جميعها إلى أن يخلقوا كائنا من أضأل مخلوقات الله، وهو الذباب..
فإن فعلوا- ولن يفعلوا- فليكن لهم أن يجعلوها آلهة، وأن يعبدوها كما يعبد الله.. وإن لم يخلقوا جناح ذبابة- وهو ما تكشف عنه التجربة- فإن عبادتهم لها بعد ذلك، ضلال فى ضلال: «أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ؟ وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ» (١٩١- ١٩٢: الأعراف).
هذا، وقد مرّ تفسير هذه الآية فى أول هذه السورة، فى مبحث [الخالق وما خلق].
قوله تعالى:
«ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ».
أي أن هؤلاء المشركين، قد جهلوا قدر الله، ونظروا إليه كما ينظرون إلى ما يكبر فى صدورهم، من مخلوقات ومصنوعات.. فلم يجاوزوا بقدر الله ما يرفعه فوق هذه المعبودات، ويجعلها جميعا عابدة له، خاضعة لتصريفه فيها، بل إن ظنّهم بالله، جعلهم يجعلونه إلها فى مجمع هذه الآلهة، ومن أحسن الظنّ منهم بالله، جعله إلها على رأس هذه الآلهة، تشاركه الملك والتدبير، وأن لهم بهذا أن يقربوهم إلى الله، وينزلوهم منازل الرضوان عنده، وقالوا: «ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى» (٣: الزمر).
قوله تعالى:
«اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ.. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ».
هو بيان يكشف عن ضلال هؤلاء المشركين الذين يعبدون الملائكة، أو يعبدون بعضا من أنبياء الله ورسله، كما عبد بعض اليهود العزيز، وكما عبد بعض النصارى المسيح.. فهؤلاء، وأولئك- من الملائكة والرسل- هم عباد من عباد الله، وخلق من خلقه، اصطفاهم الله، وأكرمهم، ومنحهم ما منحهم من قوى وآيات.. ولن يخرج بهم هذا عن أن يكونوا عبيد الله.. فكيف يعبد العبد من دون السيّد، وكيف يؤله المخلوق مع الإله الخالق؟ ذلك سفه سفيه، وضلال مبين..
- وفى قوله تعالى: «أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ» تهديد لهؤلاء المشركين الذين يعبدون عباد الله، من دون الله.. فالله سبحانه «سَمِيعٌ» لمقولاتهم المنكرة فى هؤلاء المخلوقين.. «بَصِيرٌ» بما يعملون من أعمال، وما يقدّمون من عبادات وقربات لهؤلاء المخلوقين.. وليس وراء هذا إلا الحساب، والجزاء، والعذاب الأليم..
قوله تعالى:
«يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ.. وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ».. هو تهديد ووعيد كذلك، لأولئك المشركين، وأن الله السميع البصير «يَعْلَمُ ما بَيْنَ
أي يعلم ما يعملونه قبل أن يعملوه.. «وَما خَلْفَهُمْ» أي ويعلم ما عملوا، وأنهم وأعمالهم سيردّون الله، ويحاسبون: «وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ»
الآيتان: (٧٧- ٧٨) [سورة الحج (٢٢) : الآيات ٧٧ الى ٧٨]
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٧٧) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (٧٨)
التفسير:
بهاتين الآيتين الكريمتين تختم السورة الكريمة.. وبهذا الختام، يلتقى بدؤها مع ختامها، كما يلتقى ختامها مع بدء السورة التي بعدها، وهى سورة «المؤمنون».
فقد بدأت السورة هكذا: «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..» إنه نذير صارخ للناس جميعا، أن يأخذوا لأنفسهم من هذا اليوم العظيم، وأن يعملوا على ما ينجيهم من أهواله المهولة المفزعة..
وقد استجاب أناس لهذا النّداء، فآمنوا بالله، وسعوا إلى مرضاته، ليخلصوا بأنفسهم من شر هذا اليوم العظيم..
ثم كانت السورة كلها بعد ذلك، دعوة إلى الله، وإلى كشف الطريق إليه، وإرسال النذير بعد النذير، إلى الضالين، والمشركين، الذين أمسكوا على ما فى قلوبهم من كفر وضلال.
فقال سبحانه، مخاطبا عباده المؤمنين:
«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا.. ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ»، فليس الإيمان بالله مجرد كلمة ينطق بها اللسان، وإنما الإيمان: قول، وعمل، إقرار باللسان، واعتقاد فى القلب، وعمل بالجوارح..
فالدعوة إلى الركوع والسجود- وهما من أركان الصلاة- دعوة إلى الصلاة، وأمر بإقامتها كاملة، وأدائها على وجهها، وما تقضى به من ولاء وخشوع لله ربّ العالمين: «ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا».. فالركوع والسجود ليسا مجرد حركتين من حركات الجسد، وإنما هما- قبل كل شىء- خضوع بالقلب، وخشوع بالنفس، وتسربل بحال من الرهبة والخشية لله، بحيث يجد الإنسان لهذه الرهبة والخشية ما يندكّ به بناؤه الجسدى، فيركع تحت وطأة هذا الحمل الثقيل.
ثم لا يلبث أن يهوى ساجدا حتى يضع جبهته على الأرض.. وهنا يجد الرضا من ربّه، والكرامة والتكريم من سيده.. فيدعوه إلى أن يرفع وجهه عن هذا التراب الذي لصق به..
وهكذا، يظل المصلّى بين يدى الله، فى ركوع وسجود، وفى خفض ورفع، حتى يختم صلاته، وهو متمكن على هذه الأرض، مسئول عليها استيلاء ذى السلطان على سلطانه! وقوله تعالى: «وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ» هو أمر بالعبادة مطلقا، فيما فرض الله من عبادات غير الصلاة، كالصوم، والزكاة، والحج، وفيما أمر به من ذكره
وقوله تعالى: «وَافْعَلُوا الْخَيْرَ» هو أمر بكل خير، وراء هذه العبادات، من الإحسان إلى الناس بالقول والعمل، ومن الحكم بين الناس بالعدل، ومن أداء الأمانات إلى أهلها.. إلى غير ذلك ما هو خير وحسن، ومعروف.
وفى قوله تعالى: «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» إشارة إلى أن هذه الأعمال كلها، - وعلى رأسها الإيمان بالله- هى مما ترجى به النجاة، من عذاب الله، والفوز برضوانه..
إنها مجرّد وسائل يتوسل بها الإنسان إلى ربه.. أما إنجاح هذه الوسائل وتقبلها من صاحبها، فذلك أمره إلى الله، وإلى مشيئة الله فى عبده.. وهذا هو السرّ فى تصدير الخبر بحرف التمنّي «لعل».. إذ ليس لأحد على الله حق يطالبه به.. وإنما الله سبحانه وتعالى هو الذي يطلب، وعلى عباده أن يمتثلوا، ويؤدوا ما طلب منهم، وأن يكونوا بعد ذلك على رجاء من القبول والرضا..
قوله تعالى:
«وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ».
هو عطف على ما جاء فى الآية السابقة من أمر بالركوع والسجود وعبادة الله وفعل الخير..
والجهاد وإن كان مما تضمنه هذا الأمر، إذ هو من عبادة الله، ومن فعل
- وفى قوله تعالى: «حَقَّ جِهادِهِ» تأكيد لهذا الجهاد، وبيان للصفة التي يكون عليها، وهو أن يكون خالصا لله، وفى سبيل الله، لا يبتغى به شىء غير وجه الله.. وهنا يكون البذل للمال والنفس هيّنا، إذا نظر إليه فى مقابل ثواب الله، وابتغاء رضوانه.
- وفى قوله تعالى: «وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ» بتعدية الجهاد بحرف الجر «فى» إلى لفظ الجلالة، «الله» وإلى سبيل الله، كما جرى ذلك فى الأسلوب القرآنى- فى هذا ما يشير إلى قدر الجهاد، وإلى أنه لله وحده، ومن أجل ذاته سبحانه- ولوجهه خاصة- فحرف الجر هنا للسببية..
ومن جهة أخرى، فإن الجهاد فى الله هو جهاد عام، يشمل الجهاد فى سبيله وغيره، كالأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، ومجاهدة النفس، ونحو هذا، مما يعلى كلمة الله، ويقيم دعائم الحق، ويثبت أركانه.. وهذا مثل قوله تعالى:
«وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ». (٦٩: العنكبوت) - وقوله تعالى: «هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ» هو تعليل للأمر بالجهاد، وداعية إلى امتثال هذا الأمر، لأنه صادر من الله الذي «اجتبى» أي اختار هذه الأمة.. واصطفاها من بين الأمم لحمل رسالة الإسلام، آخر الرسالات، وأكملها، فهم لهذا مطالبون بأن يكونوا رسلا يحملون دعوة الإسلام، وجنودا يدافعون عنها، ويبذلون النفس والمال فى سبيلها.. إنها أمانة، هم أهل لحملها، إذ قد اجتباهم الله لها، وخصّهم بها..
ثم إن هذه الرسالة- رسالة الإسلام- مع ما فيها من دعوة إلى بذل
ففى باب الجهاد مثلا، يبدأ الجهاد بمجاهدة النفس، وكفها عن المحرمات، وردّها عن الأهواء والشهوات، وهذا وإن كان الجهاد الأكبر، كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه قريب من كل إنسان.. إنه أقرب شىء إليه، لا يتكلّف له مالا، ولا يبذل له نفسا.. ومع هذا فهو درجات.. يبدأ بالكف عن الكبائر، وينتهى بالانتهاء عن اللّمم والصغائر..
ومن الجهاد مثلا.. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر.. فهو مجاهدة بالقلب وباللسان، لا بالنفس ولا بالمال..
وفى باب الجهاد كذلك، رفع الله الحرج عن الضعفاء والمرضى، وأصحاب العاهات، ونحوهم، وأعفاهم من الجهاد بأنفسهم.. «لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى، وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ» (٩١: التوبة)..
وقل مثل هذا فى جميع أوامر الشريعة وأحكامها.. إنها شريعة قائمة على اليسر ورفع الحرج، وفى هذا يقول الله تعالى: «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» (١٦: التغابن) أي فى حدود ما تحتمل أنفسكم، وما تتسع له طاقاتكم..
وفى الحديث الشريف: «إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم».. وفى الحديث أيضا: «إن هذا الدين ذلول لا يركب إلا ذلولا» أي إن هذا الدين سمح سهل، لا ينتفع به إلا إذا أخذ سمحا سهلا، تتقبله النفوس، وتنشرح له الصدور.. شأنه فى هذا شأن الطعام، لا يفيد منه الجسم، إلا إذا طابت له
وفى الحديث أيضا: «لا تبغّض إلى نفسك عبادة الله» وذلك بالقسوة عليها، وبحملها على ما هو شاق، وبين يديها القريب الميسور! وفى الحديث: «ما خيّر الرسول صلوات الله وسلامه عليه بين أمرين، إلا اختار أيسرهما»..
- وقوله تعالى: «مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ».. الملة، الشريعة، وهى منصوبة على الإغراء.. أي الزموا هذه الملة، ملة أبيكم إبراهيم.
- وقوله تعالى: «هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ» أي أنه هو الذي طلب من الله أن تكون من ذريته تلك الأمة المسلمة التي هى أنتم.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى على لسان إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: «رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ» (١٢٨: البقرة).
فالداعيان، هما إبراهيم وإسماعيل، ودعوتهما، هى أن يكونا مسلمين لله وأن يجعل منهما- أي من إبراهيم، وإسماعيل- أمة مسلمة.. وأن يبعث فيهم رسولا منهم كما يقول الله تعالى على لسانيهما بعد ذلك: «رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (١٢٩: البقرة)..
فالنبىّ صلى الله عليه وسلم، هو «دعوة إبراهيم» - كما قال صلى الله عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم».. وكذلك أبناء إبراهيم من ذرية إسماعيل، هم الأمة المسلمة، وهم الدعوة المستجابة لإبراهيم..
قوله تعالى:
«وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ».
وشهادة الرسول على أمته، هو أن يشهد بأنه بلّغ رسالته فيهم، ودعاهم إلى الإيمان بالله، وإلى الاستقامة على ما شرع الله لهم من عبادات وأحكام..
وهو بهذه الشهادة يدين كلّ من أبى وقصّر..
أما شهادة هذه الأمة على الناس، فهى مثل شهادة الرسول عليهم..
أي أنهم بمنزلة الرسول فى الناس، يدعونهم إلى الله، ويبلغونهم رسالة الإسلام، وهم بهذه الشهادة يدينون كلّ من أبى الاستجابة لهم، والدخول فى دين الله معهم..
وهذه المنزلة التي رفع الله بها قدر هذه الأمة، وأعلى بها شأنها فى الناس، وجعل لها بها ما للرسل فى أقوامهم- هذه المنزلة العالية الرفيعة، هى أمانة، لا يحملها إلا أولو العزم من الناس، ومن هنا كان واجبا على كل مسلم أن ينهض بحمل هذا العبء، وأن يرى الناس منه، فى قوله وعمله، من استقامة الخلق، واعتدال السلوك ما يرى الناس فى الأنبياء والرسل..
فيا ليت قومى يعلمون هذا الشرف العظيم، الذي قلده الله سبحانه وتعالى إياهم، وهذا الواجب الكريم الذي أناطه بهم، وهذا المقام الرفيع الذي أقامهم على الناس فيه..!!
إن أي مسلم لا يرى- بعمله، وعلمه، وقدره فى الناس- أنه فى مكان القيادة من المجتمع الإنسانى، فهو ليس من الإسلام فى شىء.. إنه لن يكون فى المسلمين الذين يشهدون على الناس يوم القيامة.
«فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ».
هو تذكير برسالة المسلم، وبتلك المؤهلات التي يحقق بها هذه الرسالة، ويكون من الشهداء على الناس.. وذلك بأن يقيم الصلاة، ويؤتى الزكاة، وأن يعتصم بالله، ويجعل وجوده كلّه لله، وبالله.. وذلك هو الذي يضمن له علوّا، ونصرا وعزّا.. «وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ».
بعونه تعالى تم الجزء السابع عشر، ويليه الجزء الثامن عشر إن شاء الله