ﰡ
والجواب : اختلف المفسرون في الجزاء هاهنا، فقيل : هو على بابه، وهو ما يقابل به العمل ومعناه : " لا تجازى سواء بسواء من غير زيادة ولا نقصان إلا الكفور "، وأما المؤمن فتضاعف حسناته ويسامح في سيئاته.
وقيل : " ما يجازى بكل ذنوبه إلا الكفور ".
وقيل : المراد بالجزاء الحساب، ومعناه : " ما يناقش الحساب إلا الكفور، وأما المؤمن فيحاسب حسابا يسيرا من غير مناقشة "، وقد قال عليه السلام : " من نوقش الحساب عذب " ١ فهذا معنى الجزاء وحصره في الكفور. وأما الكافر فقيل : لا يقع إلا بمعنى كفور، فإن أيسر الكفر كثير، وكذلك لما قسم الله تعالى الخلق القسمة الحاصرة لم يجعل منهم الكافر، فقال :﴿ إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ﴾٢ ولم يقل كافرا، فلذلك وقع الحصر في الكفور.
وأما قوله تعالى :( يجازى ) على صيغة المفاعلة، ولم يقل : " يجزى "، كما قال تعالى في غير هذا الوضع، فإن الكفور عظيم الجرم جدا، والجناية لابد أن تكون مناسبة للعقوبة، وكذلك قال الشاعر :
دناهم كما دانوا ***...
أي : جزيناهم كما فعلوا، وقال الآخر :
ألا لا يجهلن أحد علينا*** فنجهل فوق جهل الجاهلينا.
فسمى الجناية والمؤاخذة باسم واحد، وكذلك هاهنا، جعل فعل الكفور مجازاة لما جزاؤه مجازاة فحصلت المفاعلة على نوع من التوسع كما تقدم في البيتين. وأما غير الكفور فأمره قريب، فلم يتحصل من جنايته كثير أمر بحسن أن يجعل قبالة العقوبة فاهتضم، فبطلت المفاعلة في حقه. ( الاستغناء : ٢٣٥ على ٢٣٧ )
٢ - سورة الإنسان : ٣..
فكل من صح قصده في هداية الخلق سلك معهم ما هم اقرب لهدايتهم، وكذلك قوله تعالى لموسى وهارون في حق فرعون :﴿ فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى ﴾٢.
وقوله لمحمد صلوات الله عليهم أجمعين :﴿ ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ﴾٣.
وقوله تعالى :﴿ ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ﴾٤ فهذا كله من محاسن الخطاب، لا من موجبات الشك والارتياب. ( الأجوبة الفاخرة : ١٣٣-١٣٤ )
٢ - سورة طه : ٤٤..
٣ - - سورة آل عمران: ١٥٩..
٤ سورة العنكبوت: ٤٦..
١٠٢٦- كذلك القول في ﴿ كافة ﴾ فإنها تؤكد العموم كما تؤكده " قاطبة " فتقول : " جاءني القوم كافة ". فهي تؤكد العموم وتقويه. ومؤكد العموم أولى أن يكون للعموم، قال الله تعالى :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ أي : لجميعهم. ( نفسه : ٢/١٤٤ )
١٠٢٧- ﴿ بشيرا ونذيرا ﴾ حالان، مما دل عليه ﴿ كافة ﴾ أي : " أرسلناك إرسالا جامعا للناس بشيرا ونذيرا ". ( الاستغناء : ١٤٣ )
١٠٢٨- هو عليه السلام قد قاتل اليهود، وبعث إلى الروم ينذرهم، وكتابه عليه السلام محفوظ عندهم على اليوم في بلاد الروم عند ملكهم، يفتخرون به. وكتب إلى المقوقس بمصر لإنذار القبط، ولكسرى بفارس١. وهو الصادق البر، كما سلم أنه رسول لقومه، فيكون رسولا للجميع، ولأن من جملة ما نزل عليه :﴿ وما أرسلناك إلا كافة للناس ﴾ فصرح بالتعميم. واندفعت شبهة من يدعي التخصيص، فإن كان النصارى لا يعتقدون أصل الرسالة لا لقومه ولا لغيرهم، فيقولون : " أوضحوا لنا صدق دعواكم " ولا يقولون : كتابكم يقتضي تخصيص الرسالة. وإن كانوا يعتقدون أصل الرسالة، لكنها مخصوصة، لزمهم التعميم لما تقدم. ( الأجوبة الفاخرة : ٧٣ )
والجواب : أما حصره عليه السلام في النذارة فقد تقدم الجواب عنه مرارا١. وأما قوله :﴿ بين يدي عذاب ﴾، فهذا التخصيص بهذا الموضع، وهو مبني على قاعدة، وهي أن الداخل إلى الوجود كالداخل إلى سكة من سكك الأرض فالداخل قبله يكون بين يديه، والداخل بعده يكون وراءه. فلما كانت المستقبلات كلها تدخل بعد دخولها جعلت وراء، والماضيات كلها دخلت قبلنا، فهي بين أيدينا فصارت هذه قاعدة مجازية، وهي من مجاز الاستعارة والتشبيه، فصار كل ما وجد قبل الشيء أمامه وما يوجد بعده خلفه، وعليه نصوص القرآن، قال الله تعالى في القرآن الكريم :﴿ ... ومصدقا لما بين يدي من التوراة ﴾٢ وهما قبله. وقوله تعالى :﴿ ويذرون وراءهم يوما ثقيلا ﴾٣ ويوم القيامة في المستقبل. وقوله تعالى :﴿ وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا ﴾٤ فمعناه أنهم ذاهبون إلى حومته، فلقاؤه مستقبل فهو على القاعدة.
كذلك هاهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم نذير لعذاب مستقبل فهو بين يدي العذاب ؛ لأن السابق أبدا بين يدي اللاحق كما تقدم.
وأما المستثنى والمستثنى منه في المعنى أحوال وصفات، ومعناه : " لا صفة له صلى الله عليه السلام إلا النذارة باعتبار من لا يؤمن، كما تقدم تقريره والواجب عنه.
وأما باعتبار اللفظ فالمستثنى منه أخبار، لأن حرف " إن " هاهنا حرف نفي، وتقدير الكلام : " ما هو إلا نذير " فنفي عن هذا المبتدإ كل خبر إلا هذا الخبر باعتبار من لا يؤمن كما تقدم تقريره والجواب عنه. ( الاستغناء : ٢٣٧-٢٣٨ )
٢ - سورة آل عمران : ٥٠..
٣ - سورة الإنسان : ٢٨..
٤ - سورة الكهف : ٧٩..