تفسير سورة سورة الفتح من كتاب تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد
المعروف بـالتحرير والتنوير
.
لمؤلفه
ابن عاشور
.
المتوفي سنة 1393 هـ
سورة ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ سميت في كلام الصحابة ﴿ سورة الفتح ﴾. ووقع في صحيح البخاري عن عبد الله بن مغفل بغين معجمة مفتوحة وفاء مشددة مفتوحة قال : قرأ النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ﴿ سورة الفتح ﴾ فرجع فيها. وفيها حديث سهل بن حنيف لقد رأيتنا يوم الحديبية ولو ترى قتالا لقاتلنا. ثم حكى مقاله عمر إلى أن قال فنزلت سورة الفتح ولا يعرف لها اسم آخر.
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال : عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾. ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ﴾.
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ﴾ إلى قوله ﴿ فوزا عظيما ﴾ مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة.
وعدة آيها تسع وعشرون.
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ فقال رسول الله : لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها وفي رواية من أولها إلى آخرها.
أغراضها
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين.
والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب.
والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل.
ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها.
وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية.
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى ﴿ فعجل لكم هذه ﴾.
ووجه التسمية أنها تضمنت حكاية فتح متجه الله للنبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتي.
وهي مدنية على المصطلح المشهور في أن المدني ما نزل بعد الهجرة ولو كان نزوله في مكان غير المدينة من أرضها أو من غيرها. وهذه السورة نزلت بموضع يقال له كراع الغميم بضم الكاف من كراع وبفتح الغين المعجمة وكسر الميم من الغميم موضع بين مكة والمدينة وهو واد على مرحلتين من مكة وعلى ثلاثة أميال من عسفان وهو من أرض مكة. وقيل نزلت بضجنان بوزن سكران وهو جبل قرب مكة ونزلت ليلا فهي من القرآن الليلي.
ونزولها سنة ست بعد الهجرة منصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية وقبل غزوة خيبر. وفي الموطإ عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسير في بعض أسفاره أي منصرفه من الحديبية ليلا وعمر بن الخطاب يسير معه فسأله عمر بن الخطاب عن شيء فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه ثم سأله فلم يجبه فقال : عمر ثكلت أم عمر نزرت رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك لا يجيبك. قال عمر : فحركت بعيري وتقدمت أمام الناس وخشيت أن ينزل في القرآن فما نشبت أن سمعت صارخا يصرخ بي، فقلت : لقد خشيت أن يكون نزل في قرآن، فجئت رسول الله فسلمت عليه فقال : لقد أنزلت علي الليلة سورة لهي أحب الي مما طلعت عليه الشمس ثم قرأ ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾. ومعنى قوله لهي أحب إلي مما طلعت عليه الشمس لما اشتملت عليه من قوله ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ﴾.
وأخرج مسلم والترمذي عن أنس قال أنزل على النبي ﴿ ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك ﴾ إلى قوله ﴿ فوزا عظيما ﴾ مرجعه من الحديبية فقال النبي صلى الله عليه وسلم لقد أنزلت علي آية أحب إلي مما على وجه الأرض ثم قرأها.
وهي السورة الثالثة عشرة بعد المائة في ترتيب نزول السور في قول جابر بن زيد. نزلت بعد سورة الصف وقبل سورة التوبة.
وعدة آيها تسع وعشرون.
وسبب نزولها ما رواه الواحدي وابن إسحاق عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم قالا : نزلت سورة الفتح بين مكة والمدينة في شأن الحديبية وقد حيل بيننا وبين نسكنا فنحن بين الحزن والكآبة أنزل الله تعالى ﴿ إنا فتحنا لك فتحا مبينا ﴾ فقال رسول الله : لقد أنزلت علي آية أحب إلي من الدنيا وما فيها وفي رواية من أولها إلى آخرها.
أغراضها
تضمنت هذه السورة بشارة المؤمنين بحسن عاقبة صلح الحديبية وأنه نصر وفتح فنزلت به السكينة في قلوب المسلمين وأزال حزنهم من صدهم عن الاعتمار بالبيت وكان المسلمون عدة لا تغلب من قلة فرأوا أنهم عادوا كالخائبين فأعلمهم الله بأن العاقبة لهم، وأن دائرة السوء على المشركين والمنافقين.
والتنويه بكرامة النبي صلى الله عليه وسلم عند ربه ووعده بنصر متعاقب.
والثناء على المؤمنين الذين عزروه وبايعوه، وأن الله قدم مثلهم في التوراة وفي الإنجيل.
ثم ذكر بيعة الحديبية والتنويه بشأن من حضرها.
وفضح الذين تخلفوا عنها من الأعراب ولمزهم بالجبن والطمع وسوء الظن بالله وبالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعهم من المشاركة في غزوة خيبر، وإنبائهم بأنهم سيدعون إلى جهاد آخر فإن استجابوا غفر لهم تخلفهم عن الحديبية.
ووعد النبي صلى الله عليه وسلم بفتح آخر يعقبه فتح أعظم منه وبفتح مكة. وفيها ذكر بفتح من خيبر كما سيأتي في قوله تعالى ﴿ فعجل لكم هذه ﴾.
ﰡ
ثُمَّ ذِكْرَ بَيْعَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَالتَّنْوِيهَ بِشَأْنِ مَنْ حَضَرَهَا. وَفَضْحَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا عَنْهَا مِنَ الْأَعْرَابِ وَلَمْزَهُمْ بِالْجُبْنِ وَالطَّمَعِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِاللَّهِ وَبِالْكَذِبِ عَلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنْعَهُمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي غَزْوَة خَيْبَر، وإنبائهم بِأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ إِلَى جِهَادٍ آخَرَ فَإِنِ اسْتَجَابُوا غُفِرَ لَهُمْ تَخَلُّفَهُمْ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ. ووعد النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَتْحٍ آخَرَ يَعْقُبُهُ فَتْحٌ أَعْظَمُ مِنْهُ وَبِفَتْحِ مَكَّةَ.
وَفِيهَا ذِكْرٌ بِفَتْحٍ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الْفَتْح: ٢٠].
[١- ٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحرف (إنّ) ناشىء عَلَى مَا أُحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكَآبَةِ عَلَى أَنْ أُجِيبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى سُؤَالِهِمُ الْهُدْنَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فَالتَّأْكِيدُ مَصْرُوفٌ لِلسَّامِعِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وَأما النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ وَاثِقًا بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَبْيِينُ هَذَا التَّأْكِيدِ قَرِيبًا.
وَالْفَتْحُ: إِزَالَةُ غَلْقِ الْبَابِ أَوِ الْخِزَانَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: ٤٠] وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى دُخُولِ الْغَازِي بِلَادَ عَدُوِّهِ لِأَنَّ أَرْضَ كُلِّ قَوْمٍ وَبِلَادَهُمْ مُوَاقَعٌ عَنْهَا فَاقْتِحَامُ الْغَازِي إِيَّاهَا بَعْدَ الْحَرْبِ يُشْبِهُ إِزَالَةَ الْغَلْقِ عَنِ الْبَيْتِ أَوِ الْخِزَانَةِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى النَّصْرِ الْمُقْتَرِنِ بِدُخُولِ أَرْضِ الْمَغْلُوبِ أَوْ بَلَدِهِ وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى انْتِصَارٍ كَانَتْ نِهَايَتَهُ غَنِيمَةٌ وَأَسْرٌ دُونَ اقْتِحَامِ أَرْضٍ فَيُقَالُ: فَتْحُ خَيْبَرَ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَلَا يُقَالُ:
فَتْحُ بَدْرٍ. وَفَتْحُ أُحُدٍ. فَمَنْ أَطْلَقَ الْفَتْحَ عَلَى مُطْلَقِ النَّصْرِ فَقَدْ تَسَامَحَ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُطِفَ النَّصْرُ عَلَى الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١٣]. وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ عَلَى عَدِّ النَّصْرِ مِنْ مَعَانِي مَادَّةِ الْفَتْحِ أَنَّ فَتْحَ الْبِلَادِ هُوَ أَعْظَمُ النَّصْرِ لِأَنَّ النَّصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالْغَلَبَةِ وَبِالْغَنِيمَةِ فَإِذَا كَانَ مَعَ اقْتِحَامِ أَرْضِ الْعَدُوِّ
وَفِيهَا ذِكْرٌ بِفَتْحٍ مِنْ خَيْبَرَ كَمَا سَيَأْتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ [الْفَتْح: ٢٠].
[١- ٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ١ إِلَى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣)افْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِحرف (إنّ) ناشىء عَلَى مَا أُحِلَّ لِلْمُسْلِمِينَ مِنَ الْكَآبَةِ عَلَى أَنْ أُجِيبَ الْمُشْرِكُونَ إِلَى سُؤَالِهِمُ الْهُدْنَةَ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ حَدِيثِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ فَالتَّأْكِيدُ مَصْرُوفٌ لِلسَّامِعِينَ عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْرِيضِ، وَأما النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ كَانَ وَاثِقًا بِذَلِكَ، وَسَيَأْتِي تَبْيِينُ هَذَا التَّأْكِيدِ قَرِيبًا.
وَالْفَتْحُ: إِزَالَةُ غَلْقِ الْبَابِ أَوِ الْخِزَانَةِ قَالَ تَعَالَى: لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ [الْأَعْرَاف: ٤٠] وَيُطْلَقُ عَلَى النَّصْرِ وَعَلَى دُخُولِ الْغَازِي بِلَادَ عَدُوِّهِ لِأَنَّ أَرْضَ كُلِّ قَوْمٍ وَبِلَادَهُمْ مُوَاقَعٌ عَنْهَا فَاقْتِحَامُ الْغَازِي إِيَّاهَا بَعْدَ الْحَرْبِ يُشْبِهُ إِزَالَةَ الْغَلْقِ عَنِ الْبَيْتِ أَوِ الْخِزَانَةِ، وَلِذَلِكَ كَثُرَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ عَلَى النَّصْرِ الْمُقْتَرِنِ بِدُخُولِ أَرْضِ الْمَغْلُوبِ أَوْ بَلَدِهِ وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَى انْتِصَارٍ كَانَتْ نِهَايَتَهُ غَنِيمَةٌ وَأَسْرٌ دُونَ اقْتِحَامِ أَرْضٍ فَيُقَالُ: فَتْحُ خَيْبَرَ وَفَتْحُ مَكَّةَ وَلَا يُقَالُ:
فَتْحُ بَدْرٍ. وَفَتْحُ أُحُدٍ. فَمَنْ أَطْلَقَ الْفَتْحَ عَلَى مُطْلَقِ النَّصْرِ فَقَدْ تَسَامَحَ، وَكَيْفَ وَقَدْ عُطِفَ النَّصْرُ عَلَى الْفَتْحِ فِي قَوْلِهِ: نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [١٣]. وَلَعَلَّ الَّذِي حَدَاهُمْ عَلَى عَدِّ النَّصْرِ مِنْ مَعَانِي مَادَّةِ الْفَتْحِ أَنَّ فَتْحَ الْبِلَادِ هُوَ أَعْظَمُ النَّصْرِ لِأَنَّ النَّصْرَ يَتَحَقَّقُ بِالْغَلَبَةِ وَبِالْغَنِيمَةِ فَإِذَا كَانَ مَعَ اقْتِحَامِ أَرْضِ الْعَدُوِّ
143
فَذَلِكَ نَصْرٌ عَظِيمٌ لِأَنَّهُ لَا يَتِمُّ إِلَّا مَعَ انْهِزَامِ الْعَدُوِّ أَشْنَعَ هَزِيمَةٍ وَعَجْزِهِ عَنِ الدِّفَاعِ عَنْ أَرْضِهِ. وَأُطْلِقَ الْفَتْحُ عَلَى الْحُكْمِ قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ الْآيَةَ سُورَةِ الم السَّجْدَةِ [٢٨].
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَنَا فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّ مَحْمَلَهُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ. وَالْمَعْنَى: سَنَفْتَحُ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ وَتَيَقُّنِهِ، شُبِّهَ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَاسْتُعْمِلَتْ لَهُ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُضِيِّ. أَوْ نَقُولُ اسْتُعْمِلَ فَتَحْنا بِمَعْنَى: قَدَّرْنَا لَكَ الْفَتْحَ، وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ كَلَامُ مِنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَشْيَاءِ لَا يَحْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَانِعٌ. وَقَدْ جَرَى عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ الْمُخْبِرِ مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١].
وَمَا يَنْدَرِجُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحُ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ»، يُرِيدُ أَنَّكُمْ تَحْمِلُونَ الْفَتْحَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً عَلَى فتح مَكَّة وَلكنه فَتْحِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَإِنْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَحْمَلَ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ
«قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ»
وَفِي رِوَايَةٍ «دَخَلَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ»
. عَلَى أَنَّ قَرَائِنَ كَثِيرَةً تُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: أُولَاهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبِينًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ عِلَّتَهُ (النَّصْرَ الْعَزِيزَ) الثَّانِيَةَ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ.
وَلِمُرَاعَاةِ هَذَا الْمَعْنَى قَالَ جَمْعٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ: الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هَنَا فَتْحُ مَكَّةَ وَأَنَّ مَحْمَلَهُ عَلَى الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ. وَالْمَعْنَى: سَنَفْتَحُ. وَإِنَّمَا جِيءَ فِي الْأَخْبَارِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِتَحَقُّقِهِ وَتَيَقُّنِهِ، شُبِّهَ الزَّمَنُ الْمُسْتَقْبَلُ بِالزَّمَنِ الْمَاضِي فَاسْتُعْمِلَتْ لَهُ الصِّيغَةُ الْمَوْضُوعَةُ لِلْمُضِيِّ. أَوْ نَقُولُ اسْتُعْمِلَ فَتَحْنا بِمَعْنَى: قَدَّرْنَا لَكَ الْفَتْحَ، وَيَكُونُ هَذَا الِاسْتِعْمَالُ مِنْ مُصْطَلَحَاتِ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ كَلَامُ مِنْ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي الْأَشْيَاءِ لَا يَحْجِزُهُ عَنِ التَّصَرُّفِ فِيهَا مَانِعٌ. وَقَدْ جَرَى عَلَى عَادَةِ إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي إِخْبَارِهِ، وَذَلِكَ أَيْضًا كِنَايَةٌ عَنْ عُلُوِّ شَأْنِ الْمُخْبِرِ مَثْلُ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النَّحْل: ١].
وَمَا يَنْدَرِجُ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ تَشْبِيهًا لَهُ بِفَتْحِ مَكَّةَ لِأَنَّهُ تَوْطِئَةٌ لَهُ فَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: مَا كُنَّا نَعُدُّ فَتْحَ مَكَّةَ إِلَّا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يُرِيدُ أَنَّهُمْ أَيْقَنُوا بِوُقُوعِ فَتْحِ مَكَّةَ بِهَذَا الْوَعْدِ، وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ «تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحُ مَكَّةَ وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحًا، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ»، يُرِيدُ أَنَّكُمْ تَحْمِلُونَ الْفَتْحَ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً عَلَى فتح مَكَّة وَلكنه فَتْحِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَإِنْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ هُوَ الْغَالِبُ عَلَيْهِ اسْمُ الْفَتْحِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْمَحْمَلَ
حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ
«قَرَأَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ سُورَةَ الْفَتْحِ»
وَفِي رِوَايَةٍ «دَخَلَ مَكَّةَ وَهُوَ يَقْرَأُ سُورَةَ الْفَتْحِ عَلَى رَاحِلَتِهِ»
. عَلَى أَنَّ قَرَائِنَ كَثِيرَةً تُرَجِّحُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ الْمَذْكُورِ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ: أُولَاهَا أَنَّهُ جَعَلَهُ مُبِينًا.
الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ جَعَلَ عِلَّتَهُ (النَّصْرَ الْعَزِيزَ) الثَّانِيَةَ، وَلَا يَكُونُ الشَّيْءُ عِلَّةً لِنَفْسِهِ.
144
الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ١٨].
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: ١٩].
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ٢٧].
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَعَلُوا إِطْلَاقَ اسْمِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، أَوْ كَانَ سَبَبًا فِيهِمَا فَعَنِ الزُّهْرِيِّ «لَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَمَّا وَقَعَ صُلْحٌ مَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، أَيْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ أَرْضَ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْأَمْنِ بَيْنَهُمْ، وَعَلِمُوا وَسَمِعُوا عَنِ اللَّهِ فَمَا أَرَادَ أَحَدٌ الْإِسْلَامَ إِلَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتَانِ إِلَّا والمسلمون قد جاؤوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ» اهـ،
وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ يَعْقِلُ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ»
. وَعَلَى هَذَا فَالْمَجَازُ فِي إِطْلَاقِ مَادَّةِ الْفَتْحِ عَلَى سَبَبِهِ وَمَآلِهِ لَا فِي صُورَةِ الْفِعْلِ، أَيِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَجَازِيِّ قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَيَكُونُ اسْمُ الْفَتْحِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَيَيْهَا فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي إِيثَارِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الْوَاقِعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها [الْفَتْح: ١٥].
وَعَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِمَا فِي حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ تَرَدُّدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَو تساؤلهم،
فَعَن عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: «أَو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ».
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَالله مَا هَذَا بِفَتْحٍ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: بِئْسَ الْكَلَامُ
هَذَا بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ لَقَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَسْأَلُوكُمُ الْقَضِيَّةَ وَيُرَغِّبُونَ إِلَيْكُمُ الْأَمَانَ وَقَدْ كَرِهُوا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا وَلَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: ١٩].
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً [الْفَتْح: ٢٧].
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ هُوَ صُلْحُ الْحُدَيْبِيَةِ، وَجَعَلُوا إِطْلَاقَ اسْمِ الْفَتْحِ عَلَيْهِ مَجَازًا مُرْسَلًا بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ آلَ إِلَى فَتْحِ خَيْبَرَ وَفَتْحِ مَكَّةَ، أَوْ كَانَ سَبَبًا فِيهِمَا فَعَنِ الزُّهْرِيِّ «لَقَدْ كَانَ يَوْمُ الْحُدَيْبِيَةِ أَعْظَمَ الْفُتُوحِ ذَلِكَ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَاءَ إِلَيْهَا فِي أَلْفٍ وَأَرْبَعِمِائَةٍ فَلَمَّا وَقَعَ صُلْحٌ مَشَى النَّاسُ بَعْضُهُمْ فِي بَعْضٍ، أَيْ تَفَرَّقُوا فِي الْبِلَادِ فَدَخَلَ بَعْضُهُمْ أَرْضَ بَعْضٍ مِنْ أَجْلِ الْأَمْنِ بَيْنَهُمْ، وَعَلِمُوا وَسَمِعُوا عَنِ اللَّهِ فَمَا أَرَادَ أَحَدٌ الْإِسْلَامَ إِلَّا تَمَكَّنَ مِنْهُ، فَمَا مَضَتْ تِلْكَ السَّنَتَانِ إِلَّا والمسلمون قد جاؤوا إِلَى مَكَّةَ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ» اهـ،
وَفِي رِوَايَةٍ «فَلَمَّا كَانَتِ الْهُدْنَةُ أَمِنَ النَّاسُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَالْتَقَوْا وَتَفَاوَضُوا الْحَدِيثَ وَالْمُنَاظَرَةَ فَلَمْ يُكَلَّمْ أَحَدٌ يَعْقِلُ بِالْإِسْلَامِ إِلَّا دَخَلَ فِيهِ»
. وَعَلَى هَذَا فَالْمَجَازُ فِي إِطْلَاقِ مَادَّةِ الْفَتْحِ عَلَى سَبَبِهِ وَمَآلِهِ لَا فِي صُورَةِ الْفِعْلِ، أَيِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمُسْتَقْبَلِ بِلَفْظِ الْمَاضِي لِأَنَّهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ الْمَجَازِيِّ قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَيَكُونُ اسْمُ الْفَتْحِ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ الْمُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ، وَصِيغَةُ الْمَاضِي اسْتُعْمِلَتْ فِي مَعْنَيَيْهَا فَيَظْهَرُ وَجْهُ الْإِعْجَازِ فِي إِيثَارِ هَذَا التَّرْكِيبِ.
وَقِيلَ: هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الْوَاقِعِ عِنْدَ الرُّجُوعِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ كَمَا يَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها [الْفَتْح: ١٥].
وَعَلَى هَذِهِ الْمَحَامِلِ فَتَأْكِيدُ الْكَلَامِ بِ (إِنَّ) لِمَا فِي حُصُولِ ذَلِكَ مِنْ تَرَدُّدِ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ أَو تساؤلهم،
فَعَن عُمَرَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً قَالَ: «أَو فتح هُوَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهُ لَفَتْحٌ».
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: أَقْبَلَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ رَاجِعًا فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَالله مَا هَذَا بِفَتْحٍ صُدِدْنَا عَنِ الْبَيْتِ وَصُدَّ هَدْيُنَا. فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ: بِئْسَ الْكَلَامُ
هَذَا بَلْ هُوَ أَعْظَمُ الْفَتْحِ لَقَدْ رَضِيَ الْمُشْرِكُونَ أَنْ يَدْفَعُوكُمْ بِالرَّاحِ عَنْ بِلَادِهِمْ وَيَسْأَلُوكُمُ الْقَضِيَّةَ وَيُرَغِّبُونَ إِلَيْكُمُ الْأَمَانَ وَقَدْ كَرِهُوا مِنْكُمْ مَا كَرِهُوا وَلَقَدْ أَظْفَرَكُمُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَدَّكُمْ سَالِمِينَ غَانِمِينَ
145
مَأْجُورِينَ، فَهَذَا أَعْظَمُ الْفَتْحِ أَنَسِيتُمْ يَوْمَ أُحُدٍ إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ، أَنَسِيتُمْ يَوْمَ الْأَحْزَاب إِذْ جاؤوكم مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ. فَقَالَ الْمُسْلِمُونَ:
صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَكَّرْنَا فِيمَا ذَكَرْتَ، وَلَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِالْأُمُورِ مِنَّا»
. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فَتَحْنا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ بِجِنْسِ الْفَتْحِ لَا بِالْمَفْتُوحِ الْخَاصِّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْنا لَكَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ فَتَحْنَا لِأَجْلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ قَبْلَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا فَتَحْنَا فَتْحًا مُبِينًا لِأَجْلِكَ لِغُفْرَانِ اللَّهِ لَكَ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَهِدَايَتِكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَصْرِكَ نَصْرًا عَزِيزًا... وَجُعِلَتْ مَغْفِرَةُ الله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلَّةً لِلْفَتْحِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ بِسَبَبِ الْفَتْحِ، وَلَيْسَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ مُقْتَضِيَةً حَصْرَ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ تَكُونُ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْفَتْحُ لكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ مِنْ عِلَّتِهِ أَنْ يغْفر الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْفِرَةً عَامَّةً إِتْمَامًا لِلْكَرَامَةِ فَهَذِهِ مَغْفِرَةٌ خَاصَّة بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ غَيْرُ الْمَغْفِرَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُجَاهِدِينَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ وَالْفَتْحِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْفَتْحِ غُفْرَانَ جَمِيعِ مَا قَدْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ عَلَى مَثْلِهِ رُسُلَهُ حَتَّى لَا يبْقى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْصُرُ بِهِ عَنْ بُلُوغِ نِهَايَةِ الْفَضْلِ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ جَزَاءً لَهُ عَلَى إِتْمَامِ أَعْمَالِهِ الَّتِي أُرْسِلَ لِأَجْلِهَا مِنَ التَّبْلِيغِ وَالْجِهَادِ وَالنَصَبِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ حَاصِلًا بِسَعْيِهِ وَتَسَبُّبِهِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ بِعِظَمِ أَثَرِ ذَلِكَ الْفَتْحِ بِإِزَاحَةِ الشِّرْكِ وَعُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلِ
صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَهُوَ أَعْظَمُ الْفُتُوحِ وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا فَكَّرْنَا فِيمَا ذَكَرْتَ، وَلَأَنْتَ أَعْلَمُ بِاللَّهِ وَبِالْأُمُورِ مِنَّا»
. وَحُذِفَ مَفْعُولُ فَتَحْنا لِأَنَّ الْمَقْصُودَ الْإِعْلَامُ بِجِنْسِ الْفَتْحِ لَا بِالْمَفْتُوحِ الْخَاصِّ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: فَتَحْنا لَكَ لَامُ الْعِلَّةِ، أَيْ فَتَحْنَا لِأَجْلِكَ فَتْحًا عَظِيمًا مِثْلَ الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ [الشَّرْح: ١].
وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ قَبْلَ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ خِلَافًا لِلْأَصْلِ فِي تَرْتِيبِ مُتَعَلِّقَاتِ الْفِعْلِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ وَالِاعْتِنَاءِ بِهَذِهِ الْعِلَّةِ.
وَقَوْلُهُ: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ ضَمِيرِ لَكَ. وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّا فَتَحْنَا فَتْحًا مُبِينًا لِأَجْلِكَ لِغُفْرَانِ اللَّهِ لَكَ وَإِتْمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْكَ، وَهِدَايَتِكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَنَصْرِكَ نَصْرًا عَزِيزًا... وَجُعِلَتْ مَغْفِرَةُ الله للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلَّةً لِلْفَتْحِ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ مَا أَرَادَ اللَّهُ حُصُولَهُ بِسَبَبِ الْفَتْحِ، وَلَيْسَتْ لَامُ التَّعْلِيلِ مُقْتَضِيَةً حَصْرَ الْغَرَضِ مِنَ الْفِعْلِ الْمُعَلَّلِ فِي تِلْكَ الْعِلَّةِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَشْيَاءِ تَكُونُ لَهَا أَسْبَابٌ كَثِيرَةٌ فَيُذْكَرُ بَعْضُهَا مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ وَإِذْ قَدْ كَانَ الْفَتْحُ لكرامة النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى رَبِّهِ تَعَالَى كَانَ مِنْ عِلَّتِهِ أَنْ يغْفر الله لنبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَغْفِرَةً عَامَّةً إِتْمَامًا لِلْكَرَامَةِ فَهَذِهِ مَغْفِرَةٌ خَاصَّة بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هِيَ غَيْرُ الْمَغْفِرَةِ الْحَاصِلَةِ لِلْمُجَاهِدِينَ بِسَبَبِ الْجِهَادِ وَالْفَتْحِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ جَعَلَ عِنْدَ حُصُولِ هَذَا الْفَتْحِ غُفْرَانَ جَمِيعِ مَا قَدْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ عَلَى مَثْلِهِ رُسُلَهُ حَتَّى لَا يبْقى لرَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا يَقْصُرُ بِهِ عَنْ بُلُوغِ نِهَايَةِ الْفَضْلِ بَيْنَ الْمَخْلُوقَاتِ.
فَجَعَلَ هَذِهِ الْمَغْفِرَةَ جَزَاءً لَهُ عَلَى إِتْمَامِ أَعْمَالِهِ الَّتِي أُرْسِلَ لِأَجْلِهَا مِنَ التَّبْلِيغِ وَالْجِهَادِ وَالنَصَبِ وَالرَّغْبَةِ إِلَى اللَّهِ. فَلَمَّا كَانَ الْفَتْحُ حَاصِلًا بِسَعْيِهِ وَتَسَبُّبِهِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ لَهُ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ جَزَاءَهُ غُفْرَانَ ذُنُوبِهِ بِعِظَمِ أَثَرِ ذَلِكَ الْفَتْحِ بِإِزَاحَةِ الشِّرْكِ وَعُلُوِّ كَلِمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَكْمِيلِ
146
النُّفُوسِ وَتَزْكِيَتِهَا بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ حَتَّى يَنْتَشِرَ الْخَيْرُ بِانْتِشَارِ الدِّينِ وَيَصِيرُ الصَّلَاحُ خُلُقًا لِلنَّاسِ يَقْتَدِي فِيهِ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ وَكُلُّ هَذَا إِنَّمَا يُنَاسِبُ فَتْحَ مَكَّةَ وَهَذَا هُوَ مَا تَضَمَّنَتْهُ
سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: ١- ٣] أَيْ إِنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ غُفِرَ لَكَ أَعْظَمَ مَغْفِرَةٍ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَعْظَمِ مَنْ تَابَ عَلَى تَائِبٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَابِقِهَا وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا مِمَّا يعده النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبًا لِشِدَّةِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَقَلِّ التَّقْصِيرِ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا بِمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى التَّشْرِيفُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الْجَلِيلِ كَانَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مُؤْذِنَةً بِاقْتِرَابِ أجل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مِنَ الْأَحْوَالِ النِّسْبِيَّةِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الِاعْتِبَارِيَّةِ يُقَالُ: تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَلَى الرَّكْبِ، وَيُقَال: تقدم نُزُولُ سُورَةِ كَذَا عَلَى سُورَةِ كَذَا وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى بَيَانِ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ بِذَكَرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ تَقَدَّمَ وتأخّر. وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَلَى اعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ فَيَنْزِلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ الْأَفْعَالِ غَيْرِ النِّسْبِيَّةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْمُتَعَلِّقَاتِ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْح: ٢]. وَالْمُرَادُ بِ مَا تَقَدَّمَ: تَعْمِيمُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَطَ مِنْهُ ذَنْبٌ أَوْ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ قَدْرَهُ رَفْعَةَ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ لَوْ قُدِّرَ صُدُورُهُ مِنْهُ وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الذَّنْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [٥٥].
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ فِعْلُ لِيَغْفِرَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْفُذُ فِي السَّمْعِ وَأَجْلَبُ لِلتَّنْبِيهِ وَذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ وَبِمُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أُنُفٌ لَمْ يكن
سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً [النَّصْر: ١- ٣] أَيْ إِنَّهُ حِينَئِذٍ قَدْ غُفِرَ لَكَ أَعْظَمَ مَغْفِرَةٍ وَهِيَ الْمَغْفِرَةُ الَّتِي تَلِيقُ بِأَعْظَمِ مَنْ تَابَ عَلَى تَائِبٍ، وَلَيْسَتْ إِلَّا مَغْفِرَةَ جَمِيعِ الذُّنُوبِ سَابِقِهَا وَمَا عَسَى أَنْ يَأْتِيَ مِنْهَا مِمَّا يعده النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَنْبًا لِشِدَّةِ الْخَشْيَةِ مِنْ أَقَلِّ التَّقْصِيرِ كَمَا يُقَالُ: حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ، وَإِنْ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْصُومًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ بَعْدَهَا بِمَا يُؤَاخَذُ عَلَيْهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَإِنَّمَا الْمَعْنَى التَّشْرِيفُ بِهَذَا الْحُكْمِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ لَهُ ذُنُوبٌ، وَلِهَذَا الْمَعْنَى اللَّطِيفِ الْجَلِيلِ كَانَتْ سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مُؤْذِنَةً بِاقْتِرَابِ أجل النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا فَهِمَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَالتَّقَدُّمُ وَالتَّأَخُّرُ مِنَ الْأَحْوَالِ النِّسْبِيَّةِ لِلْمَوْجُودَاتِ الْحَقِيقِيَّةِ أَوِ الِاعْتِبَارِيَّةِ يُقَالُ: تَقَدَّمَ السَّائِرُ فِي سَيْرِهِ عَلَى الرَّكْبِ، وَيُقَال: تقدم نُزُولُ سُورَةِ كَذَا عَلَى سُورَةِ كَذَا وَلِذَلِكَ يَكْثُرُ الِاحْتِيَاجُ إِلَى بَيَانِ مَا كَانَ بَيْنَهُمَا تَقَدَّمَ وَتَأَخَّرَ بِذَكَرِ مُتَعَلِّقٍ بِفِعْلٍ تَقَدَّمَ وتأخّر. وَقَدْ يُتْرَكُ ذَلِكَ اعْتِمَادًا عَلَى الْقَرِينَةِ، وَقَدْ يُقْطَعُ النَّظَرُ عَلَى اعْتِبَارِ مُتَعَلِّقٍ فَيَنْزِلُ الْفِعْلُ مَنْزِلَةَ الْأَفْعَالِ غَيْرِ النِّسْبِيَّةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ فِي الْمُتَعَلِّقَاتِ وَأَكْثَرُ ذَلِكَ إِذَا جُمِعَ بَيْنَ الْفِعْلَيْنِ كَقَوْلِهِ هُنَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ [الْفَتْح: ٢]. وَالْمُرَادُ بِ مَا تَقَدَّمَ: تَعْمِيمُ الْمَغْفِرَةِ لِلذَّنْبِ كَقَوْلِهِ: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [الْبَقَرَة: ٢٥٥]، فَلَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَنَّهُ فَرَطَ مِنْهُ ذَنْبٌ أَوْ أَنَّهُ سَيَقَعُ مِنْهُ ذَنْبٌ وَإِنَّمَا الْمَقْصُودُ أَنَّهُ تَعَالَى رَفَعَ قَدْرَهُ رَفْعَةَ عَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ بِذَنْبٍ لَوْ قُدِّرَ صُدُورُهُ مِنْهُ وَقَدْ مَضَى شَيْءٌ مِنْ بَيَانِ مَعْنَى الذَّنْبِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ فِي سُورَةِ الْقِتَالِ [٥٥].
وَإِنَّمَا أُسْنِدَ فِعْلُ لِيَغْفِرَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ الْعَلَمِ وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ قَصْدًا لِلتَّنْوِيهِ بِهَذِهِ الْمَغْفِرَةِ لِأَنَّ الِاسْمَ الظَّاهِرَ أَنْفُذُ فِي السَّمْعِ وَأَجْلَبُ لِلتَّنْبِيهِ وَذَلِكَ لِلِاهْتِمَامِ بِالْمُسْنَدِ وَبِمُتَعَلِّقِهِ لِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ أُنُفٌ لَمْ يكن
147
للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِلْمٌ بِهِ وَلِذَلِكَ لَمْ يَبْرُزِ الْفَاعِلُ فِي وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ لِأَنَّ إِنْعَامَ اللَّهِ عَلَيْهِ مَعْلُومٌ وَهِدَايَتَهُ مَعْلُومَةٌ وَإِنَّمَا أَخْبَرَ بِازْدِيَادِهِمَا.
وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ: إِعْطَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ مِثْلَ إِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَخَلَاصِ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا لِلدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَخُضُوعِ مَنْ عَانَدَهُ وَحَارَبَهُ، وَهَذَا يَنْظُرُ
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: ٣] فَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ بَعْدَ سِنِينَ.
وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً: يَزِيدَكَ هَدْيًا لَمْ يُسْبَقْ وَذَلِكَ بِالتَّوْسِيعِ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ تَعْرِيفُهُ بِهِ مِنْهَا، فَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ثَابِتَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ بِعْثَتِهِ وَلَكِنَّهَا تَزْدَادُ بِزِيَادَةِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَبِسِعَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى سُلُوكِ طَرَائِقَ كَثِيرَةٍ فِي إِرْشَادِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ وَحِمَايَةِ أَوْطَانِهِمْ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِمْ، فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ مُتَجَمِّعَةٌ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ هَدْيَهُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الْحَقِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وتنوين صِراطاً لِلتَّعْظِيمِ. وَانْتَصَبَ صِراطاً عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان ليهدي بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ.
وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ: غَيْرُ نَصْرِ الْفَتْحِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ الْفَتْحِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا عَقِبَهُ مِنْ دُخُولِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ بِدُونِ قِتَالٍ. وَبَعْثِهِمُ الْوُفُودَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَلَقَّوْا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَيَعْلَمُوا أَقْوَامَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَوُصْفُ النَّصْرِ بِالْعَزِيزِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا الْعَزِيزُ هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْصُورُ، أَوْ أُرِيدَ بِالْعَزِيزِ الْمُعِزِّ كَالسَّمِيعِ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ، وَكَالْحَكِيمِ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ.
وَالْعِزَّةُ: الْمَنَعَةُ.
وَإِنَّمَا أُظْهِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالضَّمِيرِ اهْتِمَامًا
وَإِتْمَامُ النِّعْمَةِ: إِعْطَاءُ مَا لَمْ يَكُنْ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ مِنْ أَنْوَاعِ النِّعْمَةِ مِثْلَ إِسْلَامِ قُرَيْشٍ وَخَلَاصِ بِلَادِ الْحِجَازِ كُلِّهَا لِلدُّخُولِ تَحْتَ حُكْمِهِ، وَخُضُوعِ مَنْ عَانَدَهُ وَحَارَبَهُ، وَهَذَا يَنْظُرُ
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [الْمَائِدَة: ٣] فَذَلِكَ مَا وَعَدَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَحَصَلَ بَعْدَ سِنِينَ.
وَمَعْنَى وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً: يَزِيدَكَ هَدْيًا لَمْ يُسْبَقْ وَذَلِكَ بِالتَّوْسِيعِ فِي بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّعْرِيفِ بِمَا لَمْ يَسْبِقْ تَعْرِيفُهُ بِهِ مِنْهَا، فَالْهِدَايَةُ إِلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ ثَابِتَة للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ بِعْثَتِهِ وَلَكِنَّهَا تَزْدَادُ بِزِيَادَةِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ وَبِسِعَةِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَكَثْرَةِ الْمُسْلِمِينَ مِمَّا يَدْعُو إِلَى سُلُوكِ طَرَائِقَ كَثِيرَةٍ فِي إِرْشَادِهِمْ وَسِيَاسَتِهِمْ وَحِمَايَةِ أَوْطَانِهِمْ وَدَفْعِ أَعْدَائِهِمْ، فَهَذِهِ الْهِدَايَةُ مُتَجَمِّعَةٌ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَى مَا سَبَقَ هَدْيَهُ إِلَيْهِ، وَمِنَ الْهِدَايَةِ إِلَى مَا لَمْ يُسْبَقْ إِلَيْهِ وَكُلُّ ذَلِكَ مِنَ الْهِدَايَةِ.
وَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ: مُسْتَعَارٌ لِلدِّينِ الْحَقِّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْفَاتِحَةِ. وتنوين صِراطاً لِلتَّعْظِيمِ. وَانْتَصَبَ صِراطاً عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان ليهدي بِتَضْمِينِ مَعْنَى الْإِعْطَاءِ، أَوْ بِنَزْعِ الْخَافِضِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْفَاتِحَةِ.
وَالنَّصْرُ الْعَزِيزُ: غَيْرُ نَصْرِ الْفَتْحِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ جَعَلَ عِلَّةَ الْفَتْحِ فَهُوَ مَا كَانَ مِنْ فَتْحِ مَكَّةَ وَمَا عَقِبَهُ مِنْ دُخُولِ قَبَائِلِ الْعَرَبِ فِي الْإِسْلَامِ بِدُونِ قِتَالٍ. وَبَعْثِهِمُ الْوُفُودَ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَتَلَقَّوْا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ وَيَعْلَمُوا أَقْوَامَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ. وَوُصْفُ النَّصْرِ بِالْعَزِيزِ مَجَازٌ عَقْلِيٌّ وَإِنَّمَا الْعَزِيزُ هُوَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَنْصُورُ، أَوْ أُرِيدَ بِالْعَزِيزِ الْمُعِزِّ كَالسَّمِيعِ فِي قَوْلِ عَمْرو بن معديكرب:
أَمِنْ رَيْحَانَةِ الدَّاعِي السَّمِيعِ أَيِ الْمُسْمِعِ، وَكَالْحَكِيمِ عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ.
وَالْعِزَّةُ: الْمَنَعَةُ.
وَإِنَّمَا أُظْهِرَ اسْمُ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ وَلَمْ يَكْتَفِ بِالضَّمِيرِ اهْتِمَامًا
148
بِهَذَا النَّصْرِ وَتَشْرِيعًا لَهُ بِإِسْنَادِهِ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِصَرَاحَةِ الظَّاهِرِ وَالصَّرَاحَةُ أَدْعَى إِلَى السَّمْعِ، وَالْكَلَامُ مَعَ الْإِظْهَارِ أَعْلَقُ بِالذِّهْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ.
[٤]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الْفَتْح: ٣].
وَحَصَلَ مِنْهَا الِانْتِقَالُ إِلَى ذِكْرِ حَظِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ قَدْ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
[الْأَنْفَال:
٦٢] فَكَانَ فِي ذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِذْهَابِ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ وَإِلْهَامِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فِي ثَبَاتِ عَزْمِهِمْ، وَقُرَارَةِ إِيمَانِهِمْ تَكْوِينٌ لِأَسْبَابِ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَتْحِ الْمَوْعُودِ بِهِ لِيَنْدَفِعُوا حِينَ يَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَبَلْبَلَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ صلح الْحُدَيْبِيَة إِذا انْصَرَفُوا عَقِبَهُ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ بعد أَن جاؤوا لِلْعُمْرَةِ بِعَدَدٍ عَدِيدٍ حَسِبُوهُ لَا يُغْلَبُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادَهُمُ الْعَدُوُّ بِسُوءٍ أَوْ صَدَّهُمْ عَنْ قَصْدِهِمْ قَابَلُوهُ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ قَسْرًا. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَسْمِيَةِ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتْحًا كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بَعْدَ الِاضْطِرَابِ وَرَسَخَ يَقِينُهُمْ بَعْدَ خَوَاطِرِ الشَّكِّ فَلَوْلَا ذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ وَالرُّسُوخُ لَبَقَوْا كَاسِفِي الْبَالِ شَدِيدِي الْبِلْبَالِ، فَذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِالسَّكِينَةِ، وَسُمِّيَ إِحْدَاثُهُ فِي نُفُوسِهِمْ إِنْزَالًا لِلسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ النَّصْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّهَا إِنْزَالُ السَّكِينَةِ، وَكَانَ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا النَّصْرِ نَظِيرَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَمْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الْأَنْفَال: ٦٢، ٦٣].
وَإِنْزَالُهَا: إِيقَاعُهَا فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَخَلْقُ أَسْبَابِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْعَارِضَةِ، وَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيقَاعِ فِعْلُ الْإِنْزَالِ تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْوِجْدَانِ بِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي هُوَ مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ فَوْقَ النَّاسِ فَأُلْقِيَ إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ، وَتِلْكَ رِفْعَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ مُرَادٌ بِهَا شَرَفُ مَا
[٤]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٤]
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ جُمْلَةِ وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً [الْفَتْح: ٣].
وَحَصَلَ مِنْهَا الِانْتِقَالُ إِلَى ذِكْرِ حَظِّ الْمُسْلِمِينَ مِنْ هَذَا الْفَتْحِ فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ هُمْ جُنُودُ اللَّهِ الَّذِينَ قَدْ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
[الْأَنْفَال:
٦٢] فَكَانَ فِي ذِكْرِ عِنَايَةِ اللَّهِ بِإِصْلَاحِ نُفُوسِهِمْ وَإِذْهَابِ خَوَاطِرِ الشَّيْطَانِ عَنْهُمْ وَإِلْهَامِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فِي ثَبَاتِ عَزْمِهِمْ، وَقُرَارَةِ إِيمَانِهِمْ تَكْوِينٌ لِأَسْبَابِ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْفَتْحِ الْمَوْعُودِ بِهِ لِيَنْدَفِعُوا حِينَ يَسْتَنْفِرَهُمْ إِلَى الْعَدُوِّ بِقُلُوبٍ ثَابِتَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَبَلْبَلَتْ نُفُوسُهُمْ مِنْ صلح الْحُدَيْبِيَة إِذا انْصَرَفُوا عَقِبَهُ عَنْ دُخُولِ مَكَّةَ بعد أَن جاؤوا لِلْعُمْرَةِ بِعَدَدٍ عَدِيدٍ حَسِبُوهُ لَا يُغْلَبُ، وَأَنَّهُمْ إِنْ أَرَادَهُمُ الْعَدُوُّ بِسُوءٍ أَوْ صَدَّهُمْ عَنْ قَصْدِهِمْ قَابَلُوهُ فَانْتَصَرُوا عَلَيْهِ وَأَنَّهُمْ يَدْخُلُونَ مَكَّةَ قَسْرًا. وَقَدْ تَكَلَّمُوا فِي تَسْمِيَةِ مَا حَلَّ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ فَتْحًا كَمَا عَلِمْتَ مِمَّا تَقَدَّمَ فَلَمَّا بَيَّنَ لَهُم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا فِيهِ مِنَ الْخَيْرِ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ بَعْدَ الِاضْطِرَابِ وَرَسَخَ يَقِينُهُمْ بَعْدَ خَوَاطِرِ الشَّكِّ فَلَوْلَا ذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ وَالرُّسُوخُ لَبَقَوْا كَاسِفِي الْبَالِ شَدِيدِي الْبِلْبَالِ، فَذَلِكَ الِاطْمِئْنَانُ هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ اللَّهُ بِالسَّكِينَةِ، وَسُمِّيَ إِحْدَاثُهُ فِي نُفُوسِهِمْ إِنْزَالًا لِلسَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ فَكَانَ النَّصْرُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَشْيَاءَ مِنْ أَهَمِّهَا إِنْزَالُ السَّكِينَةِ، وَكَانَ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذَا النَّصْرِ نَظِيرَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ مَعَ اخْتِلَافِ قَبَائِلِهِمْ وَمَا كَانَ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَمْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّصْرِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ [الْأَنْفَال: ٦٢، ٦٣].
وَإِنْزَالُهَا: إِيقَاعُهَا فِي الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ وَخَلْقُ أَسْبَابِهَا الْجَوْهَرِيَّةِ وَالْعَارِضَةِ، وَأُطْلِقَ عَلَى ذَلِكَ الْإِيقَاعِ فِعْلُ الْإِنْزَالِ تَشْرِيفًا لِذَلِكَ الْوِجْدَانِ بِأَنَّهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي هُوَ مَكَانٌ مُرْتَفِعٌ فَوْقَ النَّاسِ فَأُلْقِيَ إِلَى قُلُوبِ النَّاسِ، وَتِلْكَ رِفْعَةٌ تَخْيِيلِيَّةٌ مُرَادٌ بِهَا شَرَفُ مَا
149
أُثْبِتَتْ لَهُ عَلَى طَرِيقَةِ التَّخْيِيلِيَّةِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ عَوَاقِبِ تِلْكَ السَّكِينَةِ أَنَّهَا كَانَتْ سَبَبًا لِزَوَالِ مَا يُلْقِيهِ الشَّيْطَانُ فِي نُفُوسِهِمْ مِنَ التَّأْوِيلِ لِوَعْدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ بِالنَّصْرِ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِهِ، وَحَمْلِهِ عَلَى النَّصْرِ الْمَعْنَوِيِّ لِاسْتِبْعَادِهِمْ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فَتْحًا، فَلَمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ، فَزَالَ مَا خَامَرَهَا وَأَيْقَنُوا أَنَّهُ وَعْدُ اللَّهِ وَأَنَّهُ وَاقِعٌ فَانْقَشَعَ عَنْهُمْ مَا يُوشِكُ أَنْ يُشَكِّكَ بَعْضَهُمْ فَيَلْتَحِقَ بِالْمُنَافِقِينَ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ فَإِنَّ زِيَادَةَ الْأَدِلَّةِ تُؤَثِّرُ رُسُوخَ الْمُسْتَدَلِّ عَلَيْهِ فِي الْعَقْلِ وَقُوَّةَ التَّصْدِيقِ. وَهَذَا اصْطِلَاحٌ شَائِعٌ فِي الْقُرْآنِ وَجُعِلَ ذَلِكَ الِازْدِيَادُ كَالْعِلَّةِ لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَن السكينَة إِذْ حَصَلَتْ فِي قُلُوبِهِمْ رَسَخَ إِيمَانُهُمْ، فَعُومِلَ الْمَعْلُومُ حُصُولُهُ مِنَ الْفِعْلِ مُعَامَلَةَ الْعِلَّةِ وَأُدْخِلَ عَلَيْهِ حَرْفُ التَّعْلِيلِ وَهُوَ لَامُ- كَيْ- وَجُعِلَتْ قُوَّةُ الْإِيمَانِ بِمَنْزِلَةِ إِيمَانٍ آخَرَ دَخَلَ عَلَى الْإِيمَانِ الْأَسْبَقِ لِأَنَّ الْوَاحِدَ مِنْ أَفْرَادِ الْجِنْسِ إِذَا انْضَمَّ
إِلَى أَفْرَادٍ أُخَرَ زَادَهَا قُوَّةً فَلِذَلِكَ عَلِقَ بِالْإِيمَانِ ظَرْفُ مَعَ فِي قَوْلِهِ: مَعَ إِيمانِهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَهُمْ كَمَا كَانَ فِيهِ خير للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِتَشْرِيفِهِ بِالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَلِهِدَايَتِهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَلِنَصْرِهِ نَصْرًا عَزِيزًا، فَأَعْظِمْ بِهِ حَدَثًا أَعْقَبَ هَذَا الْخَيْر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنْ لَا عَجَبَ فِي أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ فَتْحًا عَظِيمًا وَيَنْصُرَكَ عَلَى أَقْوَامٍ كَثِيرِينَ أَشِدَّاءَ نَصْرًا صَحِبَهُ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ خَامَرَهُمُ الْفَشَلُ وَانْكِسَارُ الْخَوَاطِرِ، فَاللَّهُ مَنْ يَمْلِكُ جَمِيعَ وَسَائِلِ النَّصْرِ وَلَهُ الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا هَذَا نَصْرُ إِلَّا بَعْضِ مِمَّا لِلَّهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ.
وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَجُمْلَةُ التَّذْيِيلِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥] الْآيَةَ.
وَأُطْلِقَ عَلَى أَسْبَابِ النَّصْرِ الْجُنُودُ تَشْبِيهًا لِأَسْبَابِ النَّصْرِ بِالْجُنُودِ الَّتِي تُقَاتِلُ وَتَنْتَصِرُ.
إِلَى أَفْرَادٍ أُخَرَ زَادَهَا قُوَّةً فَلِذَلِكَ عَلِقَ بِالْإِيمَانِ ظَرْفُ مَعَ فِي قَوْلِهِ: مَعَ إِيمانِهِمْ فَكَانَ فِي ذَلِكَ الْحَادِثِ خَيْرٌ عَظِيمٌ لَهُمْ كَمَا كَانَ فِيهِ خير للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ كَانَ سَبَبًا لِتَشْرِيفِهِ بِالْمَغْفِرَةِ الْعَامَّةِ وَلِإِتْمَامِ النِّعْمَةِ عَلَيْهِ وَلِهِدَايَتِهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَلِنَصْرِهِ نَصْرًا عَزِيزًا، فَأَعْظِمْ بِهِ حَدَثًا أَعْقَبَ هَذَا الْخَيْر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِأَصْحَابِهِ.
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً.
تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَفَادَ أَنْ لَا عَجَبَ فِي أَنْ يَفْتَحَ اللَّهُ لَكَ فَتْحًا عَظِيمًا وَيَنْصُرَكَ عَلَى أَقْوَامٍ كَثِيرِينَ أَشِدَّاءَ نَصْرًا صَحِبَهُ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ أَنْ خَامَرَهُمُ الْفَشَلُ وَانْكِسَارُ الْخَوَاطِرِ، فَاللَّهُ مَنْ يَمْلِكُ جَمِيعَ وَسَائِلِ النَّصْرِ وَلَهُ الْقُوَّةُ الْقَاهِرَةُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا هَذَا نَصْرُ إِلَّا بَعْضِ مِمَّا لِلَّهِ مِنَ الْقُوَّةِ وَالْقَهْرِ.
وَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ وَجُمْلَةُ التَّذْيِيلِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَبَيْنَ مُتَعَلِّقِهَا وَهُوَ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥] الْآيَةَ.
وَأُطْلِقَ عَلَى أَسْبَابِ النَّصْرِ الْجُنُودُ تَشْبِيهًا لِأَسْبَابِ النَّصْرِ بِالْجُنُودِ الَّتِي تُقَاتِلُ وَتَنْتَصِرُ.
150
وَفِي تَعْقِيبِ جُمْلَةِ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ بِجُمْلَةِ التَّذْيِيلِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ جُنُودِ اللَّهِ وَأَنَّ إِنْزَالَ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ تَشْدِيدٌ لِعَزَائِمِهِمْ فَتَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ قَبْلَ هَذَا الْعُمُومِ وَبَعْدَهُ تنويه بشأنهم، ويومىء إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدُ لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ الْآيَةَ.
فَمِنْ جُنُودِ السَّمَاوَاتِ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُنْزِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى الْعَدُوِّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَالْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَامَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ جُنُودِ الْأَرْضِ جُيُوشُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدِيدُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ مُقَاتِلِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَثْلُ بَنِي سُلَيْمٍ، وَوُفُودُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ دُونَ قِتَالٍ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ.
وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَالْجُنْدُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الْمُقَاتِلِينَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْجَمَاعَاتِ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَتَأَلَّفُ مِنْ جُنُودٍ: مُقَدِّمَةٍ وَمَيْمَنَةٍ وَمَيْسَرَةٍ وَقَلْبٍ وَسَاقَةٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِمَا يَجْمَعُهُ الْمُلُوكُ وَالْفَاتِحُونَ مِنَ الْجُنُودِ لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لِلَّهِ مِنَ الْغَلَبَةِ لِأَعْدَائِهِ وَالنَّصْرِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَسْبَابِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَعَلِيمٌ بِمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْبَلْبَلَةِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ مُقْتَضَيَاتِ عِلْمِهِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُنَاسِبَةِ وأوقاتها الملائمة.
[٥]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٥]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: ٤] فَمَا بَعْدَ اللَّامِ عِلَّةٌ لِعِلَّةِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ عِلَّةُ الْعِلَّةِ.
فَمِنْ جُنُودِ السَّمَاوَاتِ: الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ أُنْزِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَالرِّيحُ الَّتِي أُرْسِلَتْ عَلَى الْعَدُوِّ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، وَالْمَطَرُ الَّذِي أُنْزِلَ يَوْمَ بَدْرٍ فَثَبَّتَ اللَّهُ بِهِ أَقْدَامَ الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ جُنُودِ الْأَرْضِ جُيُوشُ الْمُؤْمِنِينَ وَعَدِيدُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ مُقَاتِلِينَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ مَثْلُ بَنِي سُلَيْمٍ، وَوُفُودُ الْقَبَائِلِ الَّذِينَ جَاءُوا مُؤْمِنِينَ طَائِعِينَ دُونَ قِتَالٍ فِي سَنَةِ الْوُفُودِ.
وَالْجُنُودُ: جَمْعُ جُنْدٍ، وَالْجُنْدُ اسْمٌ لِجَمَاعَةِ الْمُقَاتِلِينَ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ وَجَمْعُهُ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الْجَمَاعَاتِ لِأَنَّ الْجَيْشَ يَتَأَلَّفُ مِنْ جُنُودٍ: مُقَدِّمَةٍ وَمَيْمَنَةٍ وَمَيْسَرَةٍ وَقَلْبٍ وَسَاقَةٍ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدِ عَلَى الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ فِي وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ، وَهُوَ حَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ إِذْ لَا اعْتِدَادَ بِمَا يَجْمَعُهُ الْمُلُوكُ وَالْفَاتِحُونَ مِنَ الْجُنُودِ لِغَلَبَةِ الْعَدُوِّ بِالنِّسْبَةِ لِمَا لِلَّهِ مِنَ الْغَلَبَةِ لِأَعْدَائِهِ وَالنَّصْرِ لِأَوْلِيَائِهِ. وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً تَذْيِيلٌ لِمَا قَبْلَهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ عَلِيمٌ بِأَسْبَابِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَعَلِيمٌ بِمَا تَطْمَئِنُّ بِهِ قُلُوبُ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ الْبَلْبَلَةِ وَأَنَّهُ حَكِيمٌ يَضَعُ مُقْتَضَيَاتِ عِلْمِهِ فِي مَوَاضِعِهَا الْمُنَاسِبَةِ وأوقاتها الملائمة.
[٥]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٥]
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (٥)
اللَّامُ لِلتَّعْلِيلِ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: ٤] فَمَا بَعْدَ اللَّامِ عِلَّةٌ لِعِلَّةِ إِنْزَالِ السَّكِينَةِ فَتَكُونُ عِلَّةً لِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ أَيْضًا بِوَاسِطَةِ أَنَّهُ عِلَّةُ الْعِلَّةِ.
وَذِكْرُ الْمُؤْمِنَاتِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ هُنَا لِدَفْعِ تَوَهُّمِ أَنْ يَكُونَ الْوَعْدُ بِهَذَا الْإِدْخَالِ مُخْتَصًّا بِالرِّجَالِ. وَإِذْ كَانَتْ صِيغَةُ الْجَمْعِ صِيغَةَ الْمُذَكَّرِ مَعَ مَا قَدْ يُؤَكِّدُ هَذَا التَّوَهُّمَ مِنْ وُقُوعِهِ عِلَّةً أَوْ عِلَّةَ عِلَّةٍ لِلْفَتْحِ وَلِلنَّصْرِ وَلِلْجُنُودِ وَكُلِّهَا مِنْ مُلَابَسَاتِ الذُّكُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ لِلْمُؤْمِنَاتِ حَظٌّ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُنَّ لَا يَخْلُونَ مِنْ مُشَارَكَةٍ فِي تِلْكَ الشَّدَائِدِ مِمَّنْ يُقِمْنَ مِنْهُنَّ عَلَى الْمَرْضَى وَالْجَرْحَى وَسَقْيِ الْجَيْشِ وَقْتَ الْقِتَالِ وَمِنْ صَبْرِ بِعْضِهِنَّ عَلَى الثُّكْلِ أَوِ التَّأَيُّمِ، وَمِنْ صَبْرِهِنَّ عَلَى غَيْبَةِ الْأَزْوَاجِ وَالْأَبْنَاءِ وَذَوِي الْقَرَابَةِ. وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ وَكانَ ذلِكَ إِلَى الْمَذْكُورِ مِنْ إِدْخَالِ اللَّهِ إِيَّاهُمُ الْجَنَّةَ.
وَالْمُرَادُ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالٌ خَاصٌّ وَهُوَ إِدْخَالُهُمْ مَنَازِلَ الْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ هُوَ الْإِدْخَالُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى. وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
وَالْفَوْزُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ الظَّفْرُ بِالْخَيْرِ وَالنَّجَاحِ. وعِنْدَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَوْزاً، أَيْ فَازُوا عِنْدَ اللَّهِ بِمَعْنَى: لَقُوا النَّجَاحَ وَالظَّفْرَ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَات الْكَرَامَة.
[٦]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٦]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
الْحَدِيثُ عَنْ جُنُودِ اللَّهِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ نَصْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ فَرِيقًا مَهْزُومًا بِتِلْكَ الْجُنُودِ وَهُمُ الْعَدُوُّ، فَإِذَا كَانَ النَّصْرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ مَعْلُولًا بِمَا بَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَا يَسُوءُ الْعَدُوَّ وَحِزْبَهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ النَّصْرِ أَنَّهُ يُعَذِّبُ بِسَبَبِهِ الْمُنَافِقِينَ حِزْبَ الْعَدُوِّ، وَالْمُشْرِكِينَ صَمِيمَ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعْطُوفًا
عَلَى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥].
وَالْمُرَادُ: تَعْذِيبٌ خَاصٌّ زَائِدٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.
وَالْمُرَادُ بِإِدْخَالِهِمُ الْجَنَّةَ إِدْخَالٌ خَاصٌّ وَهُوَ إِدْخَالُهُمْ مَنَازِلَ الْمُجَاهِدِينَ وَلَيْسَ هُوَ الْإِدْخَالُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِالْإِيمَانِ وَصَالِحِ الْأَعْمَالِ الْأُخْرَى. وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ.
وَالْفَوْزُ: مَصْدَرٌ، وَهُوَ الظَّفْرُ بِالْخَيْرِ وَالنَّجَاحِ. وعِنْدَ اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ فَوْزاً، أَيْ فَازُوا عِنْدَ اللَّهِ بِمَعْنَى: لَقُوا النَّجَاحَ وَالظَّفْرَ فِي مُعَامَلَةِ اللَّهِ لَهُمْ بِالْكَرَامَةِ وَتَقْدِيمُهُ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِلِاهْتِمَامِ بِهَذِهِ الْمُعَامَلَةِ ذَات الْكَرَامَة.
[٦]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٦]
وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦)
الْحَدِيثُ عَنْ جُنُودِ اللَّهِ فِي مَعْرِضِ ذِكْرِ نَصْرِ اللَّهِ يَقْتَضِي لَا مَحَالَةَ فَرِيقًا مَهْزُومًا بِتِلْكَ الْجُنُودِ وَهُمُ الْعَدُوُّ، فَإِذَا كَانَ النَّصْرُ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ مَعْلُولًا بِمَا بَشَّرَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَا جَرَمَ اقْتَضَى أَنَّهُ مَعْلُولٌ بِمَا يَسُوءُ الْعَدُوَّ وَحِزْبَهُ، فَذَكَرَ اللَّهُ مِنْ عِلَّةِ ذَلِكَ النَّصْرِ أَنَّهُ يُعَذِّبُ بِسَبَبِهِ الْمُنَافِقِينَ حِزْبَ الْعَدُوِّ، وَالْمُشْرِكِينَ صَمِيمَ الْعَدُوِّ، فَكَانَ قَوْلُهُ: وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ مَعْطُوفًا
عَلَى لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥].
وَالْمُرَادُ: تَعْذِيبٌ خَاصٌّ زَائِدٌ عَلَى تَعْذِيبِهِمُ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِسَبَبِ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ بَعْدَهُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ.
152
وَالِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي التَّعْذِيبِ قَبْلَ الْمُشْرِكِينَ لِتَنْبِيهِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّ كُفْرَ الْمُنَافِقِينَ خَفِيٌّ فَرُبَّمَا غَفَلَ الْمُسْلِمُونَ عَنْ هَذَا الْفَرِيقِ أَوْ نَسُوهُ.
كَانَ الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ وَلَا إِلَى عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مُظَاهِرِينَ لَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُدَافِعُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَكَّةَ وَأَنَّهُ يَكُونُ النَّصْرُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّعْذِيبُ: إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ صَادِقٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: ١٤] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة:
٧٣]، وَبِالْوَجَلِ، وَحَذَرِ الِافْتِضَاحِ، وَبِالْكَمَدِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْصُورِينَ سَالِمِينَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمرَان: ١١٩] وَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَة: ٥٠] وَصَادِقْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ.
وَعَطْفُ الْمُنافِقاتِ نَظِيرُ عطف الْمُؤْمِناتِ [الْفَتْح: ٥] الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ نسَاء الْمُنَافِقين يشاركنهم فِي أَسْرَارِهِمْ وَيَحُضُّونَ مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ وَيُهَيِّئُونَ لَهُمْ إِيوَاءَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا زَارُوهُمْ.
وَقَوْلُهُ: الظَّانِّينَ صِفَةٌ لِلْمَذْكُورِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فَإِنَّ حَقَّ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُتَعَدِّدٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ.
وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِمْ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فَهُوَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْفَتْحِ أَيْضًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِضَمِّ السِّينِ. وَالْمَفْتُوحُ وَالْمَضْمُومُ مُتَرَادِفَانِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُمَا الْمَكْرُوهُ ضِدُّ السُّرُورِ، فَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: الْكَرْهُ وَالْكُرْهُ، الضّعف وَالضُّعْفُ، وَالضَّرُّ وَالضُّرُّ، وَالْبَأْسُ وَالْبُؤْسُ. هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَيَّنَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَ مَصْدَرٌ وَالْمَضْمُومَ اسْمُ مَصْدَرٍ، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَبَ الْمَفْتُوحُ فِي أَنْ يَقَعَ وَصْفًا لِمَذْمُومٍ مُضَافًا إِلَيْهِ مَوْصُوفُهُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩٨]، وَغَلَبَ الْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ بِذَاتِهِ شَرٌّ.
كَانَ الْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُمْ أَحَدٌ إِلَى فَتْحِ مَكَّةَ وَلَا إِلَى عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُمُ الْمُشْرِكُونَ مُتَلَبِّسِينَ بِأَعْمَالِ الْمُسْلِمِينَ مُظَاهِرِينَ لَهُمْ وَلِأَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُدَافِعُونَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ مَكَّةَ وَأَنَّهُ يَكُونُ النَّصْرُ لِلْمُشْرِكِينَ.
وَالتَّعْذِيبُ: إِيصَالُ الْعَذَابِ إِلَيْهِمْ وَذَلِكَ صَادِقٌ بِعَذَابِ الدُّنْيَا بِالسَّيْفِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [التَّوْبَة: ١٤] وَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ [التَّوْبَة:
٧٣]، وَبِالْوَجَلِ، وَحَذَرِ الِافْتِضَاحِ، وَبِالْكَمَدِ مِنْ رُؤْيَةِ الْمُؤْمِنِينَ مَنْصُورِينَ سَالِمِينَ قَالَ تَعَالَى: قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [آل عمرَان: ١١٩] وَقَالَ: إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ [التَّوْبَة: ٥٠] وَصَادِقْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ وَهُوَ مَا خُصَّ بِالذِّكْرِ فِي آخِرِ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ.
وَعَطْفُ الْمُنافِقاتِ نَظِيرُ عطف الْمُؤْمِناتِ [الْفَتْح: ٥] الْمُتَقَدِّمِ لِأَنَّ نسَاء الْمُنَافِقين يشاركنهم فِي أَسْرَارِهِمْ وَيَحُضُّونَ مَا يُبَيِّتُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ وَيُهَيِّئُونَ لَهُمْ إِيوَاءَ الْمُشْرِكِينَ إِذَا زَارُوهُمْ.
وَقَوْلُهُ: الظَّانِّينَ صِفَةٌ لِلْمَذْكُورِينَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ فَإِنَّ حَقَّ الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ بَعْدَ مُتَعَدِّدٍ أَنْ تَعُودَ إِلَى جَمِيعِهِ مَا لَمْ يَكُنْ مَانِعٌ لَفْظِيٌّ أَوْ مَعْنَوِيٌّ.
وَالسَّوْءُ بِفَتْحِ السِّينِ فِي قَوْلِهِ: ظَنَّ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ جَمِيعِ الْعَشَرَةِ، وَأَمَّا فِي قَوْلِهِمْ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فَهُوَ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ بِالْفَتْحِ أَيْضًا. وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِضَمِّ السِّينِ. وَالْمَفْتُوحُ وَالْمَضْمُومُ مُتَرَادِفَانِ فِي أَصْلِ اللُّغَةِ وَمَعْنَاهُمَا الْمَكْرُوهُ ضِدُّ السُّرُورِ، فَهُمَا لُغَتَانِ مِثْلُ: الْكَرْهُ وَالْكُرْهُ، الضّعف وَالضُّعْفُ، وَالضَّرُّ وَالضُّرُّ، وَالْبَأْسُ وَالْبُؤْسُ. هَذَا عَنِ الْكِسَائِيِّ وَتَبِعَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ وَبَيَّنَهُ الْجَوْهَرِيُّ بِأَنَّ الْمَفْتُوحَ مَصْدَرٌ وَالْمَضْمُومَ اسْمُ مَصْدَرٍ، إِلَّا أَنَّ الِاسْتِعْمَالَ غَلَبَ الْمَفْتُوحُ فِي أَنْ يَقَعَ وَصْفًا لِمَذْمُومٍ مُضَافًا إِلَيْهِ مَوْصُوفُهُ كَمَا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَفِي قَوْله: وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٩٨]، وَغَلَبَ الْمَضْمُومُ فِي مَعْنَى الشَّيْءِ الَّذِي هُوَ بِذَاتِهِ شَرٌّ.
153
فَإِضَافَةُ الظَّنِّ إِلَى السَّوْءِ
مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ.
وَالْمُرَادُ: ظَنُّهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ وَلَا أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَلَا يقدر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصْرَ لِقِلَّةِ أَتْبَاعِهِ وَعِزَّةِ أَعْدَائِهِ، فَهَذَا ظَنُّ سوء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَتِهِ بِالْفَتْحِ.
وَأَمَّا دائِرَةُ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهِيَ الدَّائِرَةُ الَّتِي تَسُوءُ أُولَئِكَ الظَّانِّينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَوْنِهَا مَحْمُودَةً عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَالْإِضَافَةُ مِثْلُ إِضَافَةِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِضَافَةُ دائِرَةُ الْمَضْمُومُ مِنْ إِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ، أَيِ الدَّائِرَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسَّوْءِ وَالْمُلَازِمَةُ لَهُ لَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ. وَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِمَا خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَلَكِنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَفَتْحُ السَّوْءِ الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ وَضَمُّ الثَّانِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِرَاجِحٍ وَالِاخْتِلَافُ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ.
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دُعَاءٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِالِاسْمِيَّةِ لِصَلُوحِيَّتِهَا لِذَلِكَ بِخِلَافِ جُمْلَةِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ فَإِنَّهَا إِخْبَارٌ عَمَّا جَنَوْهُ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مِنْهُ أظهر.
[٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٧]
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
هَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِلَّا أَنَّ هَذَا أُوثِرَ بِصِفَةِ عَزِيزٍ دُونَ عَلِيمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْجُنُودِ هُنَا الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ بِهَزَائِمَ تَحِلُّ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَكَمَا ذُكِرَ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِجُنُودِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا ذِكْرُ مَا هُنَا لِلْوَعِيدِ بِالْهَزِيمَةِ فَمُنَاسِبَةُ صِفَةِ عَزِيزٍ، أَيْ لَا يغلبه غَالب.
مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ.
وَالْمُرَادُ: ظَنُّهُمْ بِاللَّهِ أَنَّهُمْ لَمْ يعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفَتْحِ وَلَا أَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْعُمْرَةِ وَلَا يقدر للرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّصْرَ لِقِلَّةِ أَتْبَاعِهِ وَعِزَّةِ أَعْدَائِهِ، فَهَذَا ظَنُّ سوء بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهَذَا الْمُنَاسِبُ لِقِرَاءَتِهِ بِالْفَتْحِ.
وَأَمَّا دائِرَةُ السَّوْءِ فِي قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ فَهِيَ الدَّائِرَةُ الَّتِي تَسُوءُ أُولَئِكَ الظَّانِّينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: عَلَيْهِمْ، وَلَا الْتِفَاتَ إِلَى كَوْنِهَا مَحْمُودَةً عِنْدَ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ لَيْسَ الْمَقَامُ لِبَيَانِ ذَلِكَ وَالْإِضَافَةُ مِثْلُ إِضَافَةِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَأَمَّا فِي قِرَاءَةِ ابْنِ كَثِيرٍ وَأَبِي عَمْرٍو فَإِضَافَةُ دائِرَةُ الْمَضْمُومُ مِنْ إِضَافَةِ الْأَسْمَاءِ، أَيِ الدَّائِرَةُ الْمُخْتَصَّةُ بِالسَّوْءِ وَالْمُلَازِمَةُ لَهُ لَا مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ. وَلَيْسَ فِي قِرَاءَتِهِمَا خُصُوصِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ وَلَكِنَّهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الِاسْتِعْمَالَيْنِ فَفَتْحُ السَّوْءِ الْأَوَّلِ مُتَعَيِّنٌ وَضَمُّ الثَّانِي جَائِزٌ وَلَيْسَ بِرَاجِحٍ وَالِاخْتِلَافُ اخْتِلَافٌ فِي الرِّوَايَةِ.
وَجُمْلَةُ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ دُعَاءٌ أَوْ وَعِيدٌ، وَلِذَلِكَ جَاءَتْ بِالِاسْمِيَّةِ لِصَلُوحِيَّتِهَا لِذَلِكَ بِخِلَافِ جُمْلَةِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ فَإِنَّهَا إِخْبَارٌ عَمَّا جَنَوْهُ مِنْ سُوءِ فِعْلِهِمْ فَالتَّعْبِيرُ بِالْمَاضِي مِنْهُ أظهر.
[٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٧]
وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧)
هَذَا نَظِيرُ مَا تَقَدَّمَ آنِفًا إِلَّا أَنَّ هَذَا أُوثِرَ بِصِفَةِ عَزِيزٍ دُونَ عَلِيمٍ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ ذِكْرِ الْجُنُودِ هُنَا الْإِنْذَارُ وَالْوَعِيدُ بِهَزَائِمَ تَحِلُّ بِالْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فَكَمَا ذُكِرَ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فِيمَا تَقَدَّمَ لِلْإِشَارَةِ إِلَى أَنَّ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَكُونُ بِجُنُودِ الْمُؤْمِنِينَ وَغَيْرِهِمَا ذِكْرُ مَا هُنَا لِلْوَعِيدِ بِالْهَزِيمَةِ فَمُنَاسِبَةُ صِفَةِ عَزِيزٍ، أَيْ لَا يغلبه غَالب.
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ٨ إِلَى ٩]
إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩)لَمَّا أُرِيدَ الِانْتِقَالُ مِنَ الْوَعْدِ بِالْفَتْحِ وَالنَّصْرِ وَمَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ مِمَّا اتَّصَلَ بِهِ ذِكْرُهُ إِلَى تَبْيِينِ مَا جَرَى فِي حَادِثَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَإِبْلَاغِ كُلِّ ذِي حَظٍّ مِنْ تِلْكَ الْقَضِيَّةِ نَصِيبَهُ الْمُسْتَحَقَّ ثَنَاءً أَوْ غَيْرَهُ صَدَّرَ ذَلِكَ بِذِكْرِ مُرَادِ اللَّهِ مِنْ إرْسَال رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَالْمُقَدَّمَةِ لِلْقِصَّةِ وَذُكِرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي إِرْسَالِهِ مَا لَهُ مَزِيدُ اخْتِصَاصٍ بِالْوَاقِعَةِ الْمُتَحَدَّثِ عَنْهَا، فَذُكِرَتْ
أَوْصَافٌ ثَلَاثَةٌ هِيَ: شَاهِدٌ، وَمُبَشِّرٌ، وَنَذِيرٌ. وَقُدِّمَ مِنْهَا وَصْفُ الشَّاهِدِ لِأَنَّهُ يَتَفَرَّعُ عَنْهُ الْوَصْفَانِ بَعْدَهُ.
فَالشَّاهِدُ: الْمُخْبِرُ بِتَصْدِيقِ أَحَدٍ أَوْ تَكْذِيبِهِ فِيمَا ادَّعَاهُ أَوِ ادُّعِيَ بِهِ عَلَيْهِ وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [٤١] وَقَوْلِهِ: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٤٣].
فَالْمَعْنَى: أَرْسَلْنَاكَ فِي حَالِ أَنَّكَ تَشْهَدُ عَلَى الْأُمَّةِ بِالتَّبْلِيغِ بِحَيْثُ لَا يُعْذَرُ الْمُخَالِفُونَ عَنْ شَرِيعَتِكَ فِيمَا خَالَفُوا فِيهِ، وَتَشْهَدُ عَلَى الْأُمَمِ وَهَذِهِ الشَّهَادَةُ حَاصِلَةٌ فِي الدُّنْيَا وَفِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَانْتَصَبَ شاهِداً عَلَى أَنَّهُ حَالٌ، وَهُوَ حَالُ مُقَارَنَةٍ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى التَّبْلِيغِ الَّذِي سَيَشْهَدُ بِهِ أَنَّهُ مُبَشِّرٌ لِلْمُطِيعِينَ وَنَذِيرٌ لِلْعَاصِينَ عَلَى مَرَاتِبِ الْعِصْيَانِ. وَالْكَلَامُ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ وَتَأْكِيدُهُ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ.
وَقَوْلُهُ: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا. قَرَأَ الْجُمْهُورُ الْأَفْعَالَ الْأَرْبَعَةَ لِتُؤْمِنُوا وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ فِي الْأَفْعَالِ الْأَرْبَعَةِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اللَّامُ فِي لِتُؤْمِنُوا لَامَ كَيْ مُفِيدَةً لِلتَّعْلِيلِ وَمُتَعَلِّقَةً بِفِعْلِ أَرْسَلْناكَ.
وَالْخِطَابُ يَجُوزُ أَنْ يكون للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعَ أُمَّةِ الدَّعْوَةِ، أَيْ لِتُؤْمِنَ أَنْتَ وَالَّذِينَ أُرْسِلْتَ إِلَيْهِمْ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَالْمَقْصُودُ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَأُقْحِمَ وَرَسُولِهِ لِأَنَّ الْخِطَابَ شَامِلٌ لِلْأُمَّةِ وَهُمْ مَأْمُورُونَ بِالْإِيمَانِ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلِأَن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُؤْمِنَ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ وَلِذَلِكَ
كَانَ يَقُولُ فِي تَشَهُّدِهِ: «وَأَشْهَدُ أَنَّ
155
مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ»
وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُتَابِعُ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ خَاصَّةً وَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ وَرَسُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَذِيراً وَتَكُونُ جُمْلَةُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِتُؤْمِنُوا لَامَ الْأَمْرِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِلْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [٧].
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهَا، وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالتَّبْشِيرَ وَالنِّذَارَةَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ.
وَالتَّعْزِيزُ: النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ، وَتَعْزِيزُهُمُ اللَّهَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ [مُحَمَّد: ٧].
وَالتَّوْقِيرُ: التَّعْظِيمُ. وَالتَّسْبِيحُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْمَنْصُوبَةُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِفْرَادَ الضَّمَائِرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا اسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَالْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ
، وَلِأَنَّ عَطْفَ وَرَسُولِهِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ ضَمِيرَ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِهِ.
وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: شَرْقًا وَغَرْبًا لِاسْتِيعَابِ الْجِهَاتِ. وَقِيلَ التَّسْبِيحُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْقَوْلُ فِي بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ هُوَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥، ٤٦]،
وَقَالَ يَوْمَ حُنَيْنٍ: «أَشْهَدُ أَنِّي عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ».
وَصَحَّ أَنَّهُ كَانَ يُتَابِعُ قَوْلَ الْمُؤَذِّنِ «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ».
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّاسِ خَاصَّةً وَلَا إِشْكَالَ فِي عَطْفِ وَرَسُولِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ قَدِ انْتَهَى عِنْدَ قَوْلِهِ وَنَذِيراً وَتَكُونُ جُمْلَةُ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً، وَيَكُونُ اللَّامُ فِي قَوْلِهِ لِتُؤْمِنُوا لَامَ الْأَمْرِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا لِلْأَمْرِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ [٧].
وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو بِيَاءِ الْغَيْبَةِ فِيهَا، وَالضَّمَائِرُ عَائِدَةٌ إِلَى مَعْلُومٍ مِنَ السِّيَاقِ لِأَنَّ الشَّهَادَةَ وَالتَّبْشِيرَ وَالنِّذَارَةَ مُتَعَيِّنَةٌ لِلتَّعَلُّقِ بِمُقَدَّرٍ، أَيْ شَاهِدًا عَلَى النَّاسِ وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لَهُمْ لِيُؤْمِنُوا بِاللَّهِ إِلَخْ.
وَالتَّعْزِيزُ: النَّصْرُ وَالتَّأْيِيدُ، وَتَعْزِيزُهُمُ اللَّهَ كَقَوْلِهِ: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ [مُحَمَّد: ٧].
وَالتَّوْقِيرُ: التَّعْظِيمُ. وَالتَّسْبِيحُ: الْكَلَامُ الَّذِي يَدُلُّ عَلَى تَنْزِيهِ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ النَّقَائِصِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ الْمَنْصُوبَةُ الثَّلَاثَةُ عَائِدَةٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِأَنَّ إِفْرَادَ الضَّمَائِرِ مَعَ كَوْنِ الْمَذْكُورِ قَبْلَهَا اسْمَيْنِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَحَدُهُمَا. وَالْقَرِينَةُ عَلَى تَعْيِينِ الْمُرَادِ ذِكْرُ وَتُسَبِّحُوهُ
، وَلِأَنَّ عَطْفَ وَرَسُولِهِ عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ اعْتِدَادٌ بِأَنَّ الْإِيمَان بالرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيمَانٌ بِاللَّهِ فَالْمَقْصُودُ هُوَ الْإِيمَانُ بِاللَّهِ. وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْهُ: إِنَّ ضَمِيرَ تُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ عَائِدٌ إِلَى رَسُولِهِ.
وَالْبُكْرَةُ: أَوَّلُ النَّهَارِ. وَالْأَصِيلُ: آخِرُهُ، وَهُمَا كِنَايَةٌ عَنِ اسْتِيعَابِ الْأَوْقَاتِ بِالتَّسْبِيحِ وَالْإِكْثَارِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ: شَرْقًا وَغَرْبًا لِاسْتِيعَابِ الْجِهَاتِ. وَقِيلَ التَّسْبِيحُ هُنَا: كِنَايَةٌ عَنِ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةِ وَالْقَوْلُ فِي بُكْرَةً وَأَصِيلًا هُوَ هُوَ.
وَقَدْ وَقَعَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ نَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً [الْأَحْزَاب: ٤٥، ٤٦]،
156
فَزِيدَ فِي صِفَات النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُنَالِكَ وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً وَلَمْ يُذْكَرْ مِثْلُهُ فِي الْآيَةِ هَذِهِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الَّتِي فِي سُورَةِ الْفَتْحِ وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ إِبْطَالِ شَكِّ الَّذِينَ شَكُّوا فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِوَعْدِ الْفَتْحِ وَالنَّصْرِ، وَالثَّنَاءِ عَلَى الَّذِينَ اطْمَأَنُّوا لِذَلِكَ فَاقْتُصِرَ مِنْ أَوْصَاف النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْوَصْفِ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ أَنَّهُ شَاهَدٌ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ وَكَوْنِهِ مُبَشِّرًا لِأَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ وَنَذِيرًا لِلْآخَرِ، بِخِلَافِ آيَةِ الْأَحْزَابِ فَإِنَّهَا وَرَدَتْ فِي سِيَاقِ تَنْزِيه النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ مَطَاعِنِ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي تَزَوُّجِهِ زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ بَعْدَ أَنْ طَلَّقَهَا زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ بِزَعْمِهِمْ أَنَّهَا زَوْجَةُ ابْنِهِ، فَنَاسَبَ أَنْ يُزَادَ فِي صِفَاتِهِ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّمْحِيصِ بَيْنَ مَا هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ وَمَا هُوَ مِنَ الْأَوْهَامِ النَّاشِئَةِ عَنْ مَزَاعِمَ كَاذِبَةٍ مِثْلَ التَّبَنِّي، فَزِيدَ كَوْنُهُ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ، أَيْ لَا يَتَّبِعُ مَزَاعِمَ النَّاسِ وَرَغَبَاتِهِمْ وَأَنَّهُ سِرَاجٌ مُنِيرٌ يَهْتَدِي بِهِ مَنْ هِمَّتُهُ فِي الِاهْتِدَاءِ دُونَ التَّقْعِيرِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «التَّوْرَاةِ» فَارْجِع إِلَيْهِ.
[١٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَكَّدَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُبايِعُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمُبَايَعَةِ الْجَلِيلَةِ لِتَكُونَ كَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا قَدِ انْقَضَتْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨].
وَالْحَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما حَصْرُ الْفِعْلِ فِي مَفْعُولِهِ، أَيْ لَا يُبَايِعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ غَايَةَ الْبَيْعَةِ وَغَرَضَهَا هُوَ النَّصْرُ لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنَزَلَ الْغَرَضُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ فَادَّعَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا اللَّهَ لَا الرَّسُولَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَحْزَابِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرو بن العَاصِي فِي صِفَةِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي «التَّوْرَاةِ» فَارْجِع إِلَيْهِ.
[١٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٠]
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠)
شُرُوعٌ فِي الْغَرَضِ الْأَصْلِيِّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَأَكَّدَ بِحَرْفِ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يُبايِعُونَكَ لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ الْمُبَايَعَةِ الْجَلِيلَةِ لِتَكُونَ كَأَنَّهَا حَاصِلَةٌ فِي زَمَنِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ أَنَّهَا قَدِ انْقَضَتْ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ [هود: ٣٨].
وَالْحَصْرُ الْمُفَادُ مِنْ إِنَّما حَصْرُ الْفِعْلِ فِي مَفْعُولِهِ، أَيْ لَا يُبَايِعُونَ إِلَّا اللَّهَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ بِادِّعَاءِ أَنَّ غَايَةَ الْبَيْعَةِ وَغَرَضَهَا هُوَ النَّصْرُ لِدِينِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَنَزَلَ الْغَرَضُ مَنْزِلَةَ الْوَسِيلَةِ فَادَّعَى أَنَّهُمْ بَايَعُوا اللَّهَ لَا الرَّسُولَ.
157
وَحَيْثُ كَانَ الْحَصْرُ تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ، كَمَا قَالَ صَاحِبُ «الْمِفْتَاحِ» :«لَمْ أَجْعَلْ (إِنَّ) الَّتِي فِي مُفْتَتَحِ الْجُمْلَةِ لِلتَّأْكِيدِ لِحُصُولِ التَّأْكِيدِ بِغَيْرِهَا فَجَعَلْتُهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَذَا الْخَبَرِ لِيَحْصُلَ بِذَلِكَ غَرَضَانِ».
وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا الِادِّعَاءِ إِلَى تَخَيُّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَايِعُهُ الْمُبَايِعُونَ فَأُثْبِتَتْ لَهُ الْيَدُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ على وَجه التخييلية مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ.
وَقَدْ هُيِّأَتْ صِيغَةُ الْمُبَايَعَةِ لِأَنْ تُذْكَرَ بَعْدَهَا الْأَيْدِي لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ يُقَارِنُهَا وَضْعُ الْمُبَايِعِ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
وَمِمَّا زَادَ هَذَا التَّخْيِيلَ حُسْنًا مَا فِيهِ مِنَ الْمُشَاكَلَةِ بَيْنَ يَدِ اللَّهِ وَأَيْدِيهِمْ كَمَا قَالَ فِي «الْمِفْتَاحِ» : وَالْمُشَاكَلَةُ مِنَ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْيَدِ وَسِمَاتِ الْمُحْدَثَاتِ.
فَجُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْمُفِيدَةِ أَنَّ بيعتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، هِيَ بَيْعَةٌ مِنْهُمْ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعِ فَقَرَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَأَكَّدَتْهُ وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَجُعِلَتِ الْيَدُ الْمُتَخَيَّلَةُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: إِمَّا لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَقْتَضِي تَشْرِيفَهَا بِالرِّفْعَةِ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ كَمَا وُصِفَتْ فِي الْمُعْطِي بِالْعُلْيَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْآخِذَةُ»
، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ بِأَنْ يَمُدَّ الْمُبَايِعُ كَفَّهُ أَمَامَ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ وَيَضَعَ هَذَا الْمُبَايِعُ يَدَهُ عَلَى يَدِ الْمُبَايَعِ، فَالْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنْ تَمَامِ التَّخْيِيلِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ كَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَيْ كَانَ عُمَرُ يَضَعُ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَيْلَا يَتْعَبَ بِتَحْرِيكِهَا لِكَثْرَةِ الْمُبَايِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُبَايِعِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ
فَذِكْرُ الْفَوْقِيَّةِ هُنَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَإِغْرَاقٌ فِي التَّخَيُّلِ.
وَالْمُبَايَعَةُ أَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ لِأَنَّ كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَائِعٌ، وَنُقِلَتْ
وَانْتَقَلَ مِنْ هَذَا الِادِّعَاءِ إِلَى تَخَيُّلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَايِعُهُ الْمُبَايِعُونَ فَأُثْبِتَتْ لَهُ الْيَدُ الَّتِي هِيَ مِنْ رَوَادِفِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ على وَجه التخييلية مِثْلَ إِثْبَاتِ الْأَظْفَارِ لِلْمَنِيَّةِ.
وَقَدْ هُيِّأَتْ صِيغَةُ الْمُبَايَعَةِ لِأَنْ تُذْكَرَ بَعْدَهَا الْأَيْدِي لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ يُقَارِنُهَا وَضْعُ الْمُبَايِعِ يَدَهُ فِي يَدِ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ كَمَا قَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
حَتَّى وَضَعَتْ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ | فِي كَفِّ ذِي يَسَرَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ |
فَجُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ الْمُفِيدَةِ أَنَّ بيعتهم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الظَّاهِرِ، هِيَ بَيْعَةٌ مِنْهُمْ لِلَّهِ فِي الْوَاقِعِ فَقَرَّرَتْهُ جُمْلَةُ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وَأَكَّدَتْهُ وَلِذَلِكَ جُرِّدَتْ عَنْ حَرْفِ الْعَطْفِ. وَجُعِلَتِ الْيَدُ الْمُتَخَيَّلَةُ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ: إِمَّا لِأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَى اللَّهِ تَقْتَضِي تَشْرِيفَهَا بِالرِّفْعَةِ عَلَى أَيْدِي النَّاسِ كَمَا وُصِفَتْ فِي الْمُعْطِي بِالْعُلْيَا
فِي قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى وَالْيَدُ الْعُلْيَا هِيَ الْمُعْطِيَةُ وَالْيَدُ السُّفْلَى هِيَ الْآخِذَةُ»
، وَإِمَّا لِأَنَّ الْمُبَايَعَةَ كَانَتْ بِأَنْ يَمُدَّ الْمُبَايِعُ كَفَّهُ أَمَامَ الْمُبَايَعِ بِالْفَتْحِ وَيَضَعَ هَذَا الْمُبَايِعُ يَدَهُ عَلَى يَدِ الْمُبَايَعِ، فَالْوَصْفُ بِالْفَوْقِيَّةِ مِنْ تَمَامِ التَّخْيِيلِيَّةِ.
وَيَشْهَدُ لِهَذَا مَا
فِي «صَحِيحِ مُسْلِمٍ» أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَايَعَهُ النَّاسُ كَانَ عُمَرُ آخِذًا بِيَدِ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
أَيْ كَانَ عُمَرُ يَضَعُ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَيْلَا يَتْعَبَ بِتَحْرِيكِهَا لِكَثْرَةِ الْمُبَايِعِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ يَدَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَتْ تُوضَعُ عَلَى يَدِ الْمُبَايِعِينَ. وَأَيًّا مَا كَانَ
فَذِكْرُ الْفَوْقِيَّةِ هُنَا تَرْشِيحٌ لِلِاسْتِعَارَةِ وَإِغْرَاقٌ فِي التَّخَيُّلِ.
وَالْمُبَايَعَةُ أَصْلُهَا مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْبَيْعِ فَهِيَ مُفَاعَلَةٌ لِأَنَّ كِلَا الْمُتَعَاقِدَيْنِ بَائِعٌ، وَنُقِلَتْ
158
إِلَى مَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى الطَّاعَةِ وَالنُّصْرَةِ قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا النَّبِيءُ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً [الممتحنة: ١٢] الْآيَةَ وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى الْعَهْدِ عَلَى النُّصْرَةِ وَالطَّاعَةِ. وَهِيَ الْبَيْعَةُ الَّتِي بَايَعَهَا الْمُسلمُونَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ تَحْتَ شَجَرَةٍ مِنَ السَّمُرِ وَكَانُوا أَلْفًا وَأَرْبَعَمِائَةٍ عَلَى أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ. وَقَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَوْ أَكْثَرَ، وَعَنْهُ: أَنَّهُمْ خَمْسَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي أَوْفَى كَانُوا ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِائَةً. وَأَوَّلُ مَنْ بَايع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيُّ. وَتُسَمَّى بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨].
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُفَاوِضَهُمْ فِي شَأْنِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ فَأُرْجِفَ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فعزم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ لِذَلِكَ وَدَعَا مَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا الْقَوْمَ، فَكَانَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: بَايَعْنَاهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَذَيْنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِرَارِ يَقْتَضِي الثَّبَاتَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ إِلَّا عُثْمَان إِذا كَانَ غَائِبًا بِمَكَّةَ لِلتَّفَاوُضِ فِي شَأْنِ الْعُمْرَةِ، وَوضع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَبَايَعَ، وَإِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ اخْتَفَى وَرَاءَ جَمَلِهِ حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَعِيفَ الْعَزْمِ. وَقَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَشَفَ كُنْهَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ بِأَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ عَظِيمًا خَطِيرًا فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّبَايُعُ وَفِي نَكْثِ ذَلِكَ.
وَالنَّكْثُ: كَالنَّقْضِ لِلْحَبْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: ٩٢].
وَكَانَ سَبَبُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى أَهْلِ مَكَّةَ لِيُفَاوِضَهُمْ فِي شَأْنِ التَّخْلِيَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ الِاعْتِمَارِ بِالْبَيْتِ فَأُرْجِفَ بِأَنَّ عُثْمَانَ قُتِلَ فعزم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِتَالِهِمْ لِذَلِكَ وَدَعَا مَنْ مَعَهُ إِلَى الْبَيْعَةِ عَلَى أَنْ لَا يَرْجِعُوا حَتَّى يُنَاجِزُوا الْقَوْمَ، فَكَانَ
جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: بَايَعُوهُ عَلَى أَنْ لَا يَفِرُّوا، وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنِ زَيْدٍ: بَايَعْنَاهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ هَذَيْنِ لِأَنَّ عَدَمَ الْفِرَارِ يَقْتَضِي الثَّبَاتَ إِلَى الْمَوْتِ. وَلَمْ يَتَخَلَّفْ أَحَدٌ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ عَنِ الْبَيْعَةِ إِلَّا عُثْمَان إِذا كَانَ غَائِبًا بِمَكَّةَ لِلتَّفَاوُضِ فِي شَأْنِ الْعُمْرَةِ، وَوضع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى يَدِهِ الْيُسْرَى وَقَالَ: «هَذِهِ يَدُ عُثْمَانَ» ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَبَايَعَ، وَإِلَّا الْجِدُّ بْنُ قَيْسٍ السُّلَمِيُّ اخْتَفَى وَرَاءَ جَمَلِهِ حَتَّى بَايَعَ النَّاسُ وَلَمْ يَكُنْ مُنَافِقًا وَلَكِنَّهُ كَانَ ضَعِيفَ الْعَزْمِ. وَقَالَ لَهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْتُمْ خَيْرُ أَهْلِ الْأَرْضِ.
وَفُرِّعَ قَوْلُهُ: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ عَلَى جُمْلَةِ إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَشَفَ كُنْهَ هَذِهِ الْبَيْعَةِ بِأَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لِلَّهِ ضَرُورَةَ أَنَّهَا مُبَايَعَةٌ لرَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاعْتِبَارِ رِسَالَتِهِ عَنِ اللَّهِ صَارَ أَمْرُ هَذِهِ الْبَيْعَةِ عَظِيمًا خَطِيرًا فِي الْوَفَاءِ بِمَا وَقَعَ عَلَيْهِ التَّبَايُعُ وَفِي نَكْثِ ذَلِكَ.
وَالنَّكْثُ: كَالنَّقْضِ لِلْحَبْلِ. قَالَ تَعَالَى: وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً [النَّحْل: ٩٢].
159
وَغَلَبَ النَّكْثُ فِي مَعْنَى النَّقْضِ الْمَعْنَوِيِّ كَإِبْطَالِ الْعَهْدِ.
وَالْكَلَامُ تَحْذِيرٌ مَنْ نَكْثِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ وَتَفْظِيعٌ لَهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَمُضَارِعُ يَنْكُثُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَشْهُورِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ. وَمَعْنَى فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ:
أَنَّ نَكْثَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ بِالضُّرِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ عَلَى.
وإِنَّما لِلْقَصْرِ وَهُوَ لِقَصْرِ النَّكْثِ عَلَى مَدْلُولِ عَلى نَفْسِهِ لِيُرَادَ لَا يَضُرُّ بِنَكْثِهِ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا فَإِنَّ نَكْثَ الْعَهْدِ لَا يَخْلُو مِنْ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِالْمَنْكُوثِ، فَجِيءَ بِقَصْرِ الْقَلْبِ لِقَلْبِ قَصْدِ النَّاكِثِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: أَوْفَى بِالْعَهْدِ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَيُقَالُ: وَفَّى بِدُونِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ عَامَّةُ الْعَرَب، وَلم تَجِيء فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْأُولَى.
قَالُوا: وَلَمْ يَنْكُثْ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ سَبَبَ الْمُبَايَعَةِ قَدِ انْعَدَمَ بِالصُّلْحِ الْوَاقِعِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا بَيْنَ سَاعَةِ الْبَيْعَةِ وَبَيْنَ انْعِقَادِ الْهُدْنَةِ وَحَصَلَ أَجْرُ الْإِيفَاءِ بِالنِّيَّةِ عَدَمُهُ لَوْ نَزَلَ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَسَنُؤْتِيهِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ.
[١١]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١١]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
لَمَّا حَذَّرَ مِنَ النَّكْثِ وَرَغَّبَ فِي الْوَفَاءِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّخَلُّفِ عَنْ الِانْضِمَامِ إِلَى جَيش النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ الْخُرُوجِ إِلَى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا نَازِلِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ سِتُّ قَبَائِلَ: غِفَارُ وَمُزَيَّنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَأَسْلَمُ وَالدَّيْلُ بَعْدَ أَنْ بَايَعُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَإِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَالْكَلَامُ تَحْذِيرٌ مَنْ نَكْثِ هَذِهِ الْبَيْعَةِ وَتَفْظِيعٌ لَهُ لِأَنَّ الشَّرْطَ يَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ. وَمُضَارِعُ يَنْكُثُ بِضَمِّ الْكَافِ فِي الْمَشْهُورِ وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ الْقُرَّاءُ. وَمَعْنَى فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ:
أَنَّ نَكْثَهُ عَائِدٌ عَلَيْهِ بِالضُّرِّ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ حَرْفُ عَلَى.
وإِنَّما لِلْقَصْرِ وَهُوَ لِقَصْرِ النَّكْثِ عَلَى مَدْلُولِ عَلى نَفْسِهِ لِيُرَادَ لَا يَضُرُّ بِنَكْثِهِ إِلَّا نَفْسَهُ وَلَا يَضُرُّ اللَّهَ شَيْئًا فَإِنَّ نَكْثَ الْعَهْدِ لَا يَخْلُو مِنْ قَصْدِ إِضْرَارٍ بِالْمَنْكُوثِ، فَجِيءَ بِقَصْرِ الْقَلْبِ لِقَلْبِ قَصْدِ النَّاكِثِ عَلَى نَفْسِهِ دُونَ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَيُقَالُ: أَوْفَى بِالْعَهْدِ وَهِيَ لُغَةُ تِهَامَةَ، وَيُقَالُ: وَفَّى بِدُونِ هَمْزٍ وَهِيَ لُغَةُ عَامَّةُ الْعَرَب، وَلم تَجِيء فِي الْقُرْآنِ إِلَّا الْأُولَى.
قَالُوا: وَلَمْ يَنْكُثْ أَحَدٌ مِمَّنْ بَايَعَ.
وَالظَّاهِرُ عِنْدِي: أَنَّ سَبَبَ الْمُبَايَعَةِ قَدِ انْعَدَمَ بِالصُّلْحِ الْوَاقِعِ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيمَا بَيْنَ سَاعَةِ الْبَيْعَةِ وَبَيْنَ انْعِقَادِ الْهُدْنَةِ وَحَصَلَ أَجْرُ الْإِيفَاءِ بِالنِّيَّةِ عَدَمُهُ لَوْ نَزَلَ مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَرُوَيْسٌ عَنْ يَعْقُوبَ فَسَنُؤْتِيهِ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَة إِلَى التَّكَلُّم. وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ عَائِدًا ضَمِيرُهُ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ.
[١١]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١١]
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ
لَمَّا حَذَّرَ مِنَ النَّكْثِ وَرَغَّبَ فِي الْوَفَاءِ أَتْبَعَ ذَلِكَ بِذِكْرِ التَّخَلُّفِ عَنْ الِانْضِمَامِ إِلَى جَيش النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ الْخُرُوجِ إِلَى عُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهُوَ مَا فَعَلَهُ الْأَعْرَابُ الَّذِينَ كَانُوا نَازِلِينَ حَوْلَ الْمَدِينَةِ وَهُمْ سِتُّ قَبَائِلَ: غِفَارُ وَمُزَيَّنَةُ وَجُهَيْنَةُ وَأَشْجَعُ وَأَسْلَمُ وَالدَّيْلُ بَعْدَ أَنْ بَايَعُوهُ عَلَى الْخُرُوجِ مَعَهُ فَإِنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
160
لَمَّا أَرَادَ الْمَسِيرَ إِلَى الْعُمْرَةِ اسْتَنْفَرَ مِنْ حَوْلِ الْمَدِينَةِ مِنْهُمْ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ فَيَرْهَبَهُ أَهْلُ مَكَّةَ فَلَا يَصُدُّوهُ عَنْ عُمْرَتِهِ فَتَثَاقَلَ أَكْثَرُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ.
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ مَنْ جُهَيْنَةَ وَخَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِرْدَاسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ وَالِدُ عَبَّاسٍ الشَّاعِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَزَاهِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُهْبَانُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- بْنُ أَوْسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ، وَمن غفار خفات- بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- بْنُ أَيْمَاءَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- بَعْدَهَا تَحْتِيَّةً سَاكِنَةً، وَمَنْ مُزَيَّنَةَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو. وَتَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ مُعْظَمُهُمْ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْمَعْذِرَةِ بَعْدَ رُجُوع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ شَغَلَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَأَهْلُوهُمْ، فَأَخْبَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا بَيَّتُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفَضَحَ أَمْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَذِرُوا.
وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي قَبْلَ وُقُوعِهِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ وَالنَّكْثِ، فَكُمِّلَ بِذِكْرِ مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الدَّاعِي لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مرجع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُعْتَذِرِينَ كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ.
والمخلّفون بِفَتْحِ اللَّامِ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا. وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُخَلَّفُونَ أَيْ غَيْرُهُمْ خَلَّفَهُمْ وَرَاءَهُ، أَيْ تَرَكَهُمْ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ بَلِ الْمُخَلَّفُ هُوَ الْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا. يُقَالُ: خَلَّفْنَا فَلَانًا، إِذَا مَرُّوا بِهِ وَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا مِنْ قَبْلِ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُمْ بِخِلَافِ الْأَعْرَابِ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّفَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتُنْفِرُوا وَلَمْ يَعْتَذِرُوا حِينَئِذٍ.
وَالْأَمْوَالُ: الْإِبِلُ.
وَأَهْلُونَ: جَمْعُ أَهْلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ غير مُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَوِ الْيَاءِ وَالنُّونِ، فَعُدَّ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
وَمَعْنَى فَاسْتَغْفِرْ لَنَا: اسْأَلْ لَنَا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُوَ طَلَبٌ
وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعَةِ زَيْدُ بْنُ خَالِدٍ الْجُهَنِيُّ مَنْ جُهَيْنَةَ وَخَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَسْلَمَ مِائَةُ رَجُلٍ مِنْهُمْ مِرْدَاسُ بْنُ مَالِكٍ الْأَسْلَمِيُّ وَالِدُ عَبَّاسٍ الشَّاعِرِ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي أَوْفَى وَزَاهِرُ بْنُ الْأَسْوَدِ، وَأُهْبَانُ- بِضَمِّ الْهَمْزَةِ- بْنُ أَوْسٍ، وَسَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ الْأَسْلَمِيُّ، وَمن غفار خفات- بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ- بْنُ أَيْمَاءَ- بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ- بَعْدَهَا تَحْتِيَّةً سَاكِنَةً، وَمَنْ مُزَيَّنَةَ عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو. وَتَخَلَّفَ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ مُعْظَمُهُمْ وَكَانُوا يَوْمَئِذٍ لَمْ يَتَمَكَّنِ الْإِيمَانُ مِنْ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَكُونُوا مُنَافِقِينَ، وَأَعَدُّوا لِلْمَعْذِرَةِ بَعْدَ رُجُوع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُمْ شَغَلَتْهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَأَهْلُوهُمْ، فَأَخْبَرَ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا بَيَّتُوهُ فِي قُلُوبِهِمْ وَفَضَحَ أَمْرَهُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْتَذِرُوا.
وَهَذِهِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ بِالْأَخْبَارِ الَّتِي قَبْلَ وُقُوعِهِ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا لِمُنَاسَبَةِ ذِكْرِ الْإِيفَاءِ وَالنَّكْثِ، فَكُمِّلَ بِذِكْرِ مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الدَّاعِي لِلْعَهْدِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ عِنْدَ مرجع النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ مُعْتَذِرِينَ كَاذِبِينَ فِي اعْتِذَارِهِمْ.
والمخلّفون بِفَتْحِ اللَّامِ هُمُ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا. وَأُطْلِقَ عَلَيْهِمُ الْمُخَلَّفُونَ أَيْ غَيْرُهُمْ خَلَّفَهُمْ وَرَاءَهُ، أَيْ تَرَكَهُمْ خَلْفَهُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُقْتَضٍ أَنَّهُمْ مَأْذُونٌ لَهُمْ بَلِ الْمُخَلَّفُ هُوَ الْمَتْرُوكُ مُطْلَقًا. يُقَالُ: خَلَّفْنَا فَلَانًا، إِذَا مَرُّوا بِهِ وَتَرَكُوهُ لِأَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا مِنْ قَبْلِ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَذَرَهُمْ بِخِلَافِ الْأَعْرَابِ فَإِنَّهُمْ تَخَلَّفَ أَكْثَرُهُمْ بَعْدَ أَنِ اسْتُنْفِرُوا وَلَمْ يَعْتَذِرُوا حِينَئِذٍ.
وَالْأَمْوَالُ: الْإِبِلُ.
وَأَهْلُونَ: جَمْعُ أَهْلٍ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ لِأَنَّهُ غير مُسْتَوْفِي لِشُرُوطِ الْجَمْعِ بِالْوَاوِ وَالنُّونِ أَوِ الْيَاءِ وَالنُّونِ، فَعُدَّ مِمَّا أُلْحِقَ بِجَمْعِ الْمُذَكَّرِ السَّالِمِ.
وَمَعْنَى فَاسْتَغْفِرْ لَنَا: اسْأَلْ لَنَا الْمَغْفِرَةَ مِنَ اللَّهِ إِذْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَهُوَ طَلَبٌ
161
حَقِيقِيٌّ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ اسْتِغْفَار النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُمْ يَمْحُو مَا أَضْمَرُوهُ مِنَ النَّكْثِ وَذَهَلُوا عَنْ عِلْمِ اللَّهِ بِمَا أَضْمَرُوهُ كَدَأْبِ أَهْلِ الْجَهَالَةِ فَقَدْ قتل الْيَهُود زَكَرِيَّاء مَخَافَةَ أَنْ تَصْدُرَ مِنْهُ دَعْوَةٌ عَلَيْهِمْ حِينَ قَتَلُوا ابْنَهُ يَحْيَى وَلِذَلِكَ عُقِّبَ قَوْلُهُمْ هُنَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً الْآيَةَ.
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِظَنِّهِمْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقَاتِلُوهُ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْلِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ غَزَوْهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ (١) بِالْمَدِينَةِ يَعْنُونَ غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِهِمْ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا فِيهِ رَدُّ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ اللَّهَ لَهُمْ لَا يُكْرِهُ اللَّهَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا أَرَادَهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ نَفْعًا نَفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا ضَرَّهُمْ فَمَا كَانَ مِنَ النُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَهُ. فَلَعَلَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عِقَابِ ذَنْبِهِمْ إِذْ تَخَلَّفُوا عَنْ نفير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا فِي الِاعْتِذَارِ لِيُكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَتَدَارُكِ الْمُمْكِنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ [الْفَتْح: ١٦] الْآيَةَ.
فَمَعْنَى إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً هُنَا الْإِرَادَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ إِعْطَائِهِ النَّفْعَ إِيَّاهُمْ أَوْ إِصَابَتِهِ بِضُرٍّ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ
_________
(١) الْعقر بِضَم الْعين وَفتحهَا: الأَصْل وَالْمَكَان. [.....]
وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ كَاذِبُونَ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنَ الِاعْتِذَارِ، وَإِنَّمَا كَانَ تَخَلُّفُهُمْ لِظَنِّهِمْ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْصِدُ قِتَالَ أَهْلِ مَكَّةَ أَوْ أَنَّ أَهْلَ مَكَّةَ مُقَاتِلُوهُ لَا مَحَالَةَ وَأَنَّ الْجَيْشَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَغْلِبُوا أَهْلَ مَكَّةَ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُمْ قَالُوا: يَذْهَبُ إِلَى قَوْمٍ غَزَوْهُ فِي عُقْرِ دَارِهِ (١) بِالْمَدِينَةِ يَعْنُونَ غَزْوَةَ الْأَحْزَابِ وَقَتَلُوا أَصْحَابَهُ فَيُقَاتِلُهُمْ وَظَنُّوا أَنَّهُ لَا يَنْقَلِبُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَذَلِكَ مِنْ ضَعْفِ يَقِينِهِمْ.
قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً.
أَمر الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَقُولَ لَهُمْ مَا فِيهِ رَدُّ أَمْرِهِمْ إِلَى اللَّهِ لِيُعْلِمَهُمْ أَنَّ اسْتِغْفَارَهُ اللَّهَ لَهُمْ لَا يُكْرِهُ اللَّهَ عَلَى الْمَغْفِرَةِ بَلِ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ إِذَا أَرَادَهُ فَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ نَفْعًا نَفَعَهُمْ وَإِنْ كَانَ أَرَادَ بِهِمْ ضُرًّا ضَرَّهُمْ فَمَا كَانَ مِنَ النُّصْحِ لِأَنْفُسِهِمْ أَنْ يَتَوَرَّطُوا فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ثُمَّ يَسْتَغْفِرُونَهُ. فَلَعَلَّهُ لَا يَغْفِرُ لَهُمْ، فَالْغَرَضُ مِنْ هَذَا تَخْوِيفُهُمْ مِنْ عِقَابِ ذَنْبِهِمْ إِذْ تَخَلَّفُوا عَنْ نفير النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَذَبُوا فِي الِاعْتِذَارِ لِيُكْثِرُوا مِنَ التَّوْبَةِ وَتَدَارُكِ الْمُمْكِنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَهُ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ [الْفَتْح: ١٦] الْآيَةَ.
فَمَعْنَى إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً هُنَا الْإِرَادَةُ الَّتِي جَرَتْ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ تَعَالَى مِنْ إِعْطَائِهِ النَّفْعَ إِيَّاهُمْ أَوْ إِصَابَتِهِ بِضُرٍّ وَفِي هَذَا الْكَلَامِ تَوْجِيهٌ بِأَنَّ
_________
(١) الْعقر بِضَم الْعين وَفتحهَا: الأَصْل وَالْمَكَان. [.....]
162
تَخَلُّفَهُمْ سَبَبٌ فِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ فَضِيلَةِ شُهُودِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَفِي حِرْمَانِهِمْ مِنْ شُهُودِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ بِنَهْيِهِ عَنْ حُضُورِهِمْ فِيهَا.
وَمَعْنَى الْمِلْكُ هُنَا: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْوِيلِ الشَّرِّ خَيْرًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤١]. فَكَانَ الْجَرْيُ عَلَى ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مُقْتَضِيًا الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ لَهُمْ شَيْئًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ضَرَّهُمْ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا، فَتُوَجَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَنَّهَا لِقَصْدِ التَّتْمِيمِ وَالِاسْتِيعَابِ، وَنَظِيرُهُ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [١٧]. وَقَدْ مَضَى قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٨] فَرَاجِعْهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَرًّا بِفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مَصْدَرٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادًا بِهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَضُرَّكُمْ أَوْ يَنْفَعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ مَا يَضُرُّكُمْ وَمَا يَنْفَعُكُمْ. وَمَعْنَى تَعَلُّقِ أَرادَ بِهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى أَرَادَ إِيصَالَ مَا يَضُرُّكُمْ أَوْ مَا يَنْفَعُكُمْ.
وَهَذَا الْجَوَابُ لَا عِدَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِذِ الْمَقْصُودُ تَرْكُهُمْ فِي حَالَةِ وَجَلٍ
لِيَسْتَكْثِرُوا مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وَقُصِدَتْ مُفَاتَحَتُهُمْ بِهَذَا الْإِبْهَامِ لِإِلْقَاءِ الْوَجَلِ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ ثُمَّ سَيُتْبِعُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٨٩] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِطْمَاعِ.
وبَلْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا. وَبِهِ يَزْدَادُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَقْرِيرًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالًا لِعُذْرِهِمْ، وَمِنْ مَعْنَى الْإِبْطَالُ يَحْصُلُ بَيَانُ
وَمَعْنَى الْمِلْكُ هُنَا: الْقُدْرَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ، أَيْ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يُغَيِّرَ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ وَتَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا التَّرْكِيبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [١٧].
وَالْغَالِبُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ لِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَحْوِيلِ الشَّرِّ خَيْرًا كَقَوْلِهِ: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْمَائِدَة: ٤١]. فَكَانَ الْجَرْيُ عَلَى ظَاهِرِ الِاسْتِعْمَالِ مُقْتَضِيًا الِاقْتِصَارَ عَلَى نَفْيِ أَنْ يَمْلِكَ أَحَدٌ لَهُمْ شَيْئًا إِذَا أَرَادَ اللَّهُ ضَرَّهُمْ دُونَ زِيَادَةٍ أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا، فَتُوَجَّهُ هَذِهِ الزِّيَادَةُ أَنَّهَا لِقَصْدِ التَّتْمِيمِ وَالِاسْتِيعَابِ، وَنَظِيرُهُ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [١٧]. وَقَدْ مَضَى قَرِيبٌ مِنْ هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شاءَ اللَّهُ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ [١٨٨] فَرَاجِعْهُ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ ضَرًّا بِفَتْحِ الضَّادِ، وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ بِضَمِّهَا وَهُمَا بِمَعْنًى، وَهُوَ مَصْدَرٌ فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُنَا مُرَادًا بِهِ مَعْنَى الْمَصْدَرِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ أَنْ يَضُرَّكُمْ أَوْ يَنْفَعَكُمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ، أَيْ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ مَا يَضُرُّكُمْ وَمَا يَنْفَعُكُمْ. وَمَعْنَى تَعَلُّقِ أَرادَ بِهِ أَنَّهُ بِمَعْنَى أَرَادَ إِيصَالَ مَا يَضُرُّكُمْ أَوْ مَا يَنْفَعُكُمْ.
وَهَذَا الْجَوَابُ لَا عِدَةَ فِيهِ مِنَ اللَّهِ بِأَنْ يَغْفِرَ لَهُمْ إِذِ الْمَقْصُودُ تَرْكُهُمْ فِي حَالَةِ وَجَلٍ
لِيَسْتَكْثِرُوا مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ. وَقُصِدَتْ مُفَاتَحَتُهُمْ بِهَذَا الْإِبْهَامِ لِإِلْقَاءِ الْوَجَلِ فِي قُلُوبِهِمْ أَنْ يُغْفَرَ لَهُمْ ثُمَّ سَيُتْبِعُهُ بِقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٨٩] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِطْمَاعِ.
وبَلْ فِي قَوْلِهِ: بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِضْرَابٌ لِإِبْطَالِ قَوْلِهِمْ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا. وَبِهِ يَزْدَادُ مَضْمُونُ قَوْلِهِ: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ تَقْرِيرًا لِأَنَّهُ يَتَضَمَّنُ إِبْطَالًا لِعُذْرِهِمْ، وَمِنْ مَعْنَى الْإِبْطَالُ يَحْصُلُ بَيَانُ
163
الْإِجْمَالِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ:
كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِذْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِكَذِبِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اعْتِذَارَهُمْ بِحَرْفِ الْإِبْطَالِ.
وَتَقْدِيمُ بِما تَعْمَلُونَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ عَمَلِهِمْ هَذَا. وَمَا صدق بِما تَعْمَلُونَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَا مَاهُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَفِيرِ الرَّسُولِ وَكَثِيرًا مَا سَمَّى الْقُرْآنُ الِاعْتِقَادَ عَمَلًا. وَفِي قَوْلِهِ: كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تهديد ووعيد.
[١٢]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٢]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْفَتْح: ١١]، أَيْ خَبِيرًا بِمَا عَلِمْتُمْ، وَمِنْهُ ظَنُّكُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ الْإِبْطَالِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا يُكَرَّرُ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْوَى.
وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَنْتُمْ، وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الْمُفِيدِ اسْتِمْرَارَ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: أَبَداً لِأَنَّ ظَنَّهُمْ كَانَ قَوِيًّا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُزَيَّنًا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْرِضُوا غَيْرَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا. وَهَكَذَا شَأْنُ الْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالنُّفُوسِ الْهَاوِيَةِ أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ بِهَا الْحَوَادِثُ إِلَّا الصُّورَةَ الَّتِي تَلُوحُ لَهَا فِي بادىء الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا تَلُوحُ لَهَا أَوَّلَ شَيْءٍ لِأَنَّهَا الصُّورَةُ الْمَحْبُوبَةُ ثُمَّ يَعْتَرِيهَا التَّزْيِينُ فِي الْعَقْلِ فَتَلْهُو عَنْ فَرْضِ غَيْرِهَا فَلَا تَسْتَعِدُّ لِحِدْثَانِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: حُبُكَ
الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.
كَانُوا يَقُولُونَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ: إِن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ- بِفُتُحَاتٍ ثَلَاثٍ- رَأْسٍ- كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُشْبِعُهُمْ رَأْسُ بَعِيرٍ- لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ هُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشِ وَكِنَانَةَ، وَمَنْ فِي حِلْفِهِمْ.
كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً إِذْ يُفِيدُ أَنَّهُ خَبِيرٌ بِكَذِبِهِمْ فِي الِاعْتِذَارِ فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اعْتِذَارَهُمْ بِحَرْفِ الْإِبْطَالِ.
وَتَقْدِيمُ بِما تَعْمَلُونَ عَلَى مُتَعَلِّقِهِ لِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِذِكْرِ عَمَلِهِمْ هَذَا. وَمَا صدق بِما تَعْمَلُونَ مَا اعْتَقَدُوهُ وَمَا مَاهُوا بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تَخَلُّفِهِمْ عَنْ نَفِيرِ الرَّسُولِ وَكَثِيرًا مَا سَمَّى الْقُرْآنُ الِاعْتِقَادَ عَمَلًا. وَفِي قَوْلِهِ: كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً تهديد ووعيد.
[١٢]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٢]
بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً [الْفَتْح: ١١]، أَيْ خَبِيرًا بِمَا عَلِمْتُمْ، وَمِنْهُ ظَنُّكُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
وَأُعِيدَ حَرْفُ الْإِبْطَالِ زِيَادَةً لِتَحْقِيقِ مَعْنَى الْبَدَلِيَّةِ كَمَا يُكَرَّرُ الْعَامِلُ فِي الْمُبْدَلِ مِنْهُ وَالِانْقِلَابُ: الرُّجُوعُ إِلَى الْمَأْوَى.
وأَنْ مُخَفَّفَةٌ مِنْ (أَنَّ) الْمُشَدَّدَةِ وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ وَسَدَّ الْمَصْدَرُ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ ظَنَنْتُمْ، وَجِيءَ بِحَرْفِ لَنْ الْمُفِيدِ اسْتِمْرَارَ النَّفْيِ. وَأُكِّدَ بِقَوْلِهِ: أَبَداً لِأَنَّ ظَنَّهُمْ كَانَ قَوِيًّا.
وَالتَّزْيِينُ: التَّحْسِينُ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ الظَّنُّ مُزَيَّنًا فِي اعْتِقَادِهِمْ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْرِضُوا غَيْرَهُ مِنْ الِاحْتِمَالِ، وَهُوَ أَنْ يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَالِمًا. وَهَكَذَا شَأْنُ الْعُقُولِ الْوَاهِيَةِ وَالنُّفُوسِ الْهَاوِيَةِ أَنْ لَا تَأْخُذَ مِنَ الصُّوَرِ الَّتِي تَتَصَوَّرُ بِهَا الْحَوَادِثُ إِلَّا الصُّورَةَ الَّتِي تَلُوحُ لَهَا فِي بادىء الرَّأْيِ. وَإِنَّمَا تَلُوحُ لَهَا أَوَّلَ شَيْءٍ لِأَنَّهَا الصُّورَةُ الْمَحْبُوبَةُ ثُمَّ يَعْتَرِيهَا التَّزْيِينُ فِي الْعَقْلِ فَتَلْهُو عَنْ فَرْضِ غَيْرِهَا فَلَا تَسْتَعِدُّ لِحِدْثَانِهِ، وَلِذَلِكَ قِيلَ: حُبُكَ
الشَّيْءَ يُعْمِي وَيُصِمُّ.
كَانُوا يَقُولُونَ بَيْنَ أَقْوَالِهِمْ: إِن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ أَكَلَةُ- بِفُتُحَاتٍ ثَلَاثٍ- رَأْسٍ- كِنَايَةً عَنِ الْقِلَّةِ، أَيْ يُشْبِعُهُمْ رَأْسُ بَعِيرٍ- لَا يَرْجِعُونَ، أَيْ هُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ لِقُرَيْشٍ وَالْأَحَابِيشِ وَكِنَانَةَ، وَمَنْ فِي حِلْفِهِمْ.
وَ (ظَنَّ السَّوْءِ) أَعَمُّ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنْ لَا يرجع الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنُونَ، أَيْ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ بِالدِّينِ وَبِمَنْ بَقِيَ مِنَ الْمُوقِنِينَ لِأَنَّهُمْ جَزَمُوا بِاسْتِئْصَالِ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَأَنَّ الْمُشْرِكِينَ يَنْتَصِرُونَ ثُمَّ يَغْزُونَ الْمَدِينَةَ بِمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهِمْ مِنَ الْقَبَائِلِ فَيُسْقَطُ فِي أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ وَيَرْتَدُّونَ عَنِ الدِّينِ فَذَلِكَ ظَنُّ السَّوْءِ. وَالسَّوْءِ بِفَتْحِ السِّينِ تَقَدَّمَ آنِفًا فِي قَوْلِهِ: الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ [الْفَتْح: ٦].
وَالْبُورُ: مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ بِنَاءً وَمَعْنًى، وَمِثْلُهُ الْبَوَارُ بِالْفَتْحِ كَالْهَلَاكِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ وَصْفًا بِالْإِفْرَادِ وَمَوْصُوفِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ الْهَلَاكُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ عَدَمُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ فِي الدِّينِ وَالْآخِرَةِ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٤٢].
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْماً بَيْنَ كُنْتُمْ وبُوراً لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَوَارَ صَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَقَوْلِهِ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [١٠١].
[١٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٣]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: ١١] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٨٩] وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ اسْتِدْرَاجِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي مَدَارِجِ الشَّكِّ فِي إِصَابَةِ أَعمال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى دَرَكَاتِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ إِذْ كَانَ تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَمَا عَلَّلُوا بِهِ تَثَاقُلَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَإِظْهَارُ عُذْرٍ مَكْذُوبٍ أَضْمَرُوا خِلَافَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَوْمًا حَوْلَ حِمَى الشَّكِّ يُوشِكُونَ أَنْ يَقَعُوا فِيهِ.
ومَنْ شَرْطِيَّةٌ. وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ أَنْ يُقَالَ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ سَعِيرًا، لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ وَهُوَ مِنْ أَسمَاء جَهَنَّم.
وَالْبُورُ: مَصْدَرٌ كَالْهُلْكِ بِنَاءً وَمَعْنًى، وَمِثْلُهُ الْبَوَارُ بِالْفَتْحِ كَالْهَلَاكِ وَلِذَلِكَ وَقَعَ وَصْفًا بِالْإِفْرَادِ وَمَوْصُوفِهِ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَالْمُرَادُ الْهَلَاكُ الْمَعْنَوِيُّ، وَهُوَ عَدَمُ الْخَيْرِ وَالنَّفْعِ فِي الدِّينِ وَالْآخِرَةِ نَظِيرُ قَوْلِهِ تَعَالَى: يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [٤٢].
وَإِقْحَامُ كَلِمَةِ قَوْماً بَيْنَ كُنْتُمْ وبُوراً لِإِفَادَةِ أَنَّ الْبَوَارَ صَارَ مِنْ مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ لِشِدَّةِ تَلَبُّسِهِ بِجَمِيعِ أَفْرَادِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [١٦٤]. وَقَوْلِهِ: وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ فِي سُورَة يُونُس [١٠١].
[١٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٣]
وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْلِهِ: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: ١١] الْآيَاتِ وَقَوْلِهِ: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [آل عمرَان: ١٨٩] وَهَذَا الِاعْتِرَاضُ لِلتَّحْذِيرِ مِنَ اسْتِدْرَاجِهِمْ أَنْفُسَهُمْ فِي مَدَارِجِ الشَّكِّ فِي إِصَابَةِ أَعمال الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُفْضِيَ بِهِمْ إِلَى دَرَكَاتِ الْكُفْرِ بَعْدَ الْإِيمَانِ إِذْ كَانَ تَخَلُّفُهُمْ عَنِ الْخُرُوجِ مَعَهُ وَمَا عَلَّلُوا بِهِ تَثَاقُلَهُمْ فِي نُفُوسِهِمْ وَإِظْهَارُ عُذْرٍ مَكْذُوبٍ أَضْمَرُوا خِلَافَهُ، كُلُّ ذَلِكَ حَوْمًا حَوْلَ حِمَى الشَّكِّ يُوشِكُونَ أَنْ يَقَعُوا فِيهِ.
ومَنْ شَرْطِيَّةٌ. وَإِظْهَارُ لَفْظِ الْكَافِرِينَ فِي مَقَامِ أَنْ يُقَالَ: أَعْتَدْنَا لَهُمْ سَعِيرًا، لِزِيَادَةِ تَقْرِيرِ مَعْنَى مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ.
وَالسَّعِيرُ: النَّارُ الْمُسَعَّرَةُ وَهُوَ مِنْ أَسمَاء جَهَنَّم.
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٤]
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤)عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً [الْفَتْح: ١١] فَهُوَ مِنْ أَجْزَاءِ الْقَوْلِ، وَهَذَا انْتِقَالٌ مِنَ التخويف الَّذِي أَو همه فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِلَى إِطْمَاعِهِمْ بِالْمَغْفِرَةِ الَّتِي سَأَلُوهَا، وَلِذَلِكَ قُدِّمَ الضُّرُّ عَلَى النَّفْعِ فِي الْآيَةِ الْأُولَى فَقِيلَ إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً [الْفَتْح: ١١] لِيَكُونَ احْتِمَالُ إِرَادَةِ الضُّرِّ بِهِمْ أَسْبَقَ فِي نُفُوسِهِمْ.
وَقُدِّمَتِ الْمَغْفِرَةُ هُنَا بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ لِيَتَقَرَّرَ مَعْنَى الْإِطْمَاعِ فِي نُفُوسِهِمْ فَيَبْتَدِرُوا إِلَى اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَهُمْ. وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِوَعْدِهِمُ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ إِلَى قَوْلِهِ: فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح: ١٦].
وَزَادَ رَجَاءَ الْمَغْفِرَةِ تَأْكِيدًا بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً أَيِ الرَّحْمَةُ وَالْمَغْفِرَةُ أَقْرَبُ مِنَ الْعِقَابِ، وَلِلْأَمْرَيْنِ مَوَاضِعُ وَمَرَاتِبُ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ، وَالنَّوَايَا وَالْعَوَارِضِ، وَقِيمَةُ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَقَدَّرَهَا تَقْدِيرًا.
وَلَفْظُ مَنْ يَشاءُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ إِجْمَالٌ لِلْمَشِيئَةِ وَأَسْبَابِهَا وَقَدْ بُيِّنَتْ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي تَضَاعِيفِ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ [النِّسَاء: ٤٨].
[١٥]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٥]
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥)
هَذَا اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الْفَتْح: ١١]. وَهُوَ أَيْضًا إِعْلَام للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَيَقُولُهُ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ يَتَعَلَّقُ بِتَخَلُّفِهِمْ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُذْرِهِمُ الْكَاذِبِ، وَأَنَّهُمْ سَيَنْدَمُونَ عَلَى تَخَلُّفِهِمْ حِينَ يَرَوْنَ اجْتِنَاءَ أَهْلِ
166
الْحُدَيْبِيَةِ ثَمَرَةَ غَزْوِهِمْ، وَيَتَضَمَّنُ تَأْكِيدَ تَكْذِيبِهِمْ فِي اعْتِذَارِهِمْ عَنِ التَّخَلُّفِ بِأَنَّهُمْ حِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ هُنَالِكَ مَغَانِمَ مِنْ قِتَالٍ غَيْرِ شَدِيدٍ يَحْرِصُونَ عَلَى الْخُرُوجِ وَلَا تَشْغَلُهُمْ أَمْوَالُهُمْ
وَلَا أَهَالِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ عُذْرُهُمْ حَقًّا لَمَا حَرَصُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِذَا تَوَقَّعُوا الْمَغَانِمَ وَلَأَقْبَلُوا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيحَةٍ وَرَغْبَةٍ لَمْ يُؤْتَ مَعَهَا بِمَجْرُورِ لَكَ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ آنِفًا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ رَاغِبٌ صَادِقٌ غَيْرُ مُزَوَّرٍ لِأَجْلِ التَّرْوِيجِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُخَلَّفُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمُخَلَّفُونَ الْمَذْكُورُونَ.
وَقَوْلُهُ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها مُتَعَلِّقٌ بِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وَلَيْسَ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَوُقُوعُ فِعْلِ الْمُضِيِّ بَعْدَهُ دُونَ الْمُضَارِعِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّحْقِيقِ، وإِذَا قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ: الْخُرُوجُ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ مَغَانِمَ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ مِثْلُ إِطْلَاقِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦]. وَفِي هَذَا الْمَجَازِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي غَزْوَتِهِمْ.
وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ وست وَأَيَّامًا مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَرَامَ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَمَنَعَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ غَنِيمَةً لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَاصَّةً إِذْ وَعَدَهُمْ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ.
وَقَوْلُهُ: لِتَأْخُذُوها تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَغَانِمَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أخبر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ مَكَّةَ مَغَانِمَ خَيْبَرَ.
وَلَا أَهَالِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ عُذْرُهُمْ حَقًّا لَمَا حَرَصُوا عَلَى الْخُرُوجِ إِذَا تَوَقَّعُوا الْمَغَانِمَ وَلَأَقْبَلُوا عَلَى الِاشْتِغَالِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ.
وَلِكَوْنِ هَذِهِ الْمَقَالَةِ صَدَرَتْ مِنْهُمْ عَنْ قَرِيحَةٍ وَرَغْبَةٍ لَمْ يُؤْتَ مَعَهَا بِمَجْرُورِ لَكَ كَمَا أُتِيَ بِهِ فِي قَوْلِهِ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ آنِفًا لِأَنَّ هَذَا قَوْلٌ رَاغِبٌ صَادِقٌ غَيْرُ مُزَوَّرٍ لِأَجْلِ التَّرْوِيجِ على النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا عَلِمْتَ ذَلِكَ فِيمَا تَقَدَّمَ.
وَاسْتُغْنِيَ عَنْ وَصْفِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ لِأَنَّ تَعْرِيفَ الْمُخَلَّفُونَ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ، أَيِ الْمُخَلَّفُونَ الْمَذْكُورُونَ.
وَقَوْلُهُ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها مُتَعَلِّقٌ بِ سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ وَلَيْسَ هُوَ مَقُولُ الْقَوْلِ. وإِذَا ظَرْفٌ لِلْمُسْتَقْبَلِ، وَوُقُوعُ فِعْلِ الْمُضِيِّ بَعْدَهُ دُونَ الْمُضَارِعِ مُسْتَعَارٌ لِمَعْنَى التَّحْقِيقِ، وإِذَا قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِالزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالْمُرَادُ بِالْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ: الْخُرُوجُ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ فَأُطْلِقَ عَلَيْهَا اسْمُ مَغَانِمَ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ الْأَوَّلِ مِثْلُ إِطْلَاقِ خَمْرًا فِي قَوْلِهِ: إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يُوسُف: ٣٦]. وَفِي هَذَا الْمَجَازِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ فِي غَزْوَتِهِمْ.
وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا رَجَعَ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ إِلَى الْمَدِينَةِ أَقَامَ شَهْرَ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ وست وَأَيَّامًا مِنْ مُحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعٍ ثُمَّ خَرَجَ إِلَى غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَرَامَ الْمُخَلَّفُونَ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يَخْرُجُوا مَعَهُ فَمَنَعَهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ غَزْوَةَ خَيْبَرَ غَنِيمَةً لِأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ خَاصَّةً إِذْ وَعَدَهُمْ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ.
وَقَوْلُهُ: لِتَأْخُذُوها تَرْشِيحٌ لِلْمَجَازِ وَهُوَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْمَغَانِمَ حَاصِلَةٌ لَهُمْ لَا مَحَالَةَ.
وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أخبر نبيئه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ وَعَدَ أَهْلَ الْحُدَيْبِيَةِ أَنْ يُعَوِّضَهُمْ عَنْ عَدَمِ دُخُولِ مَكَّةَ مَغَانِمَ خَيْبَرَ.
167
وَ (مَغانِمَ) : جَمْعُ مَغْنَمٍ وَهُوَ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ غَنِمَ إِذَا أَصَابَ مَا فِيهِ نَفْعٌ لَهُ كَأَنَّهُمْ سَمَّوْهُ مَغْنَمًا بِاعْتِبَارِ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ الْمَغْنُومِ بِمَكَانٍ فِيهِ غَنَمٌ فَصِيغَ لَهُ وَزْنُ الْمَفْعَلِ.
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ذَرُونا بِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ إِلَّا مِنْ حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى
فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٢٦].
وَقَوْلُهُ: نَتَّبِعْكُمْ حِكَايَةٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ اسْتِنْزَالًا لِإِجَابَةِ طَلَبِهِمْ بِأَنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ كَالْأَتْبَاعِ، أَيْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِأَنْ يَكُونُوا فِي مُؤَخِّرَةِ الْجَيْشِ فَيَكُونَ حَظُّهُمْ فِي مَغَانِمِهِ ضَعِيفًا.
وَتَبْدِيلُ كَلَامِ اللَّهِ: مُخَالَفَةُ وَحْيِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ كَرَامَةً لِلْمُجَاهِدِينَ وَتَأْدِيبًا لِلْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ أَهِلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَغَانِمِ خَيْبَرَ خَاصَّةً لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ هُنَا الْقُرْآنَ إِذْ لَمْ يُنَزَّلْ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ أُشْرِكَ مَعَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ أَهْلِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَعْطَاهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التَّوْبَة: ٨٣] فَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ لَمْ يُمْنَعُوا مَنْعًا مُؤَبَّدًا بَلْ مُنِعُوا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ لِئَلَّا يُشَارِكُوا فِي مَغَانِمِهَا فَلَا يُلَاقِي قَوْلَهُ فِيهَا لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَيُنَافِي قَوْلَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ [الْفَتْح:
١٦] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ:
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أَنَّ اللَّهَ أوحى إِلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنَازُلُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فَهُمْ يُرِيدُونَ حِينَئِذٍ أَنْ
وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ذَرُونا بِأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَيَمْنَعُهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ مَعَهُ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَهُ أَنْ لَا يَخْرُجَ مَعَهُ إِلَى خَيْبَرَ إِلَّا مِنْ حَضَرَ الْحُدَيْبِيَةَ، وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَقالَ
فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى
فِي سُورَةِ غَافِرٍ [٢٦].
وَقَوْلُهُ: نَتَّبِعْكُمْ حِكَايَةٌ لِمَقَالَتِهِمْ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ قَالُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ اسْتِنْزَالًا لِإِجَابَةِ طَلَبِهِمْ بِأَنْ أَظْهَرُوا أَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ إِلَى غَزْوِ خَيْبَرَ كَالْأَتْبَاعِ، أَيْ أَنَّهُمْ رَاضُونَ بِأَنْ يَكُونُوا فِي مُؤَخِّرَةِ الْجَيْشِ فَيَكُونَ حَظُّهُمْ فِي مَغَانِمِهِ ضَعِيفًا.
وَتَبْدِيلُ كَلَامِ اللَّهِ: مُخَالَفَةُ وَحْيِهِ مِنَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ كَرَامَةً لِلْمُجَاهِدِينَ وَتَأْدِيبًا لِلْمُخَلَّفِينَ عَنِ الْخُرُوجِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ مَا أَوْحَاهُ إِلَى رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَعْدِ أَهِلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمَغَانِمِ خَيْبَرَ خَاصَّةً لَهُمْ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِكَلَامِ اللَّهِ هُنَا الْقُرْآنَ إِذْ لَمْ يُنَزَّلْ فِي ذَلِكَ قُرْآنٌ يَوْمَئِذٍ. وَقَدْ أُشْرِكَ مَعَ أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ مَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مَنْ أَهْلِ هِجْرَةِ الْحَبَشَةِ الَّذِينَ أَعْطَاهُم النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَحْيٍ.
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِكَلَامِ اللَّهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا [التَّوْبَة: ٨٣] فَقَدْ رَدَّهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ هَذِهِ السُّورَةِ وَهَؤُلَاءِ الْمُخَلَّفُونَ لَمْ يُمْنَعُوا مَنْعًا مُؤَبَّدًا بَلْ مُنِعُوا مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ لِئَلَّا يُشَارِكُوا فِي مَغَانِمِهَا فَلَا يُلَاقِي قَوْلَهُ فِيهَا لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَيُنَافِي قَوْلَهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ [الْفَتْح:
١٦] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهِيَ بَعْدَ الْحُدَيْبِيَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ.
وَجُمْلَةُ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ. وَالْإِرَادَةُ فِي قَوْلِهِ:
يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ عَلَى حَقِيقَتِهَا لِأَنَّهُمْ سَيَعْلَمُونَ حِينَئِذٍ يَقُولُونَ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ أَنَّ اللَّهَ أوحى إِلَى نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَنْعِهِمْ مِنَ الْمُشَارَكَةِ فِي فَتْحِ خَيْبَرَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ تَنَازُلُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ فَهُمْ يُرِيدُونَ حِينَئِذٍ أَنْ
168
يُغَيِّرُوا مَا أَمَرَّ اللَّهُ بِهِ رَسُولَهُ حِينَ يَقُولُونَ ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ إِذِ اتِّبَاعُ الْجَيْشِ وَالْخُرُوجُ فِي أَوَّلِهِ سَوَاءٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنَ الْخُرُوجِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَلِمَ اللَّهِ اسْمُ جَمْعِ كَلِمَةٍ. وَجِيءَ بِ لَنْ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ إِلَى خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَتَّبِعُونا لِلْعِلْمِ بِهِ. ومِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ طَلَبِكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا سَيَقُولُونَهُ إِذْ قَالَ: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَهِّبُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَقَالَتَهُمْ قَالُوا: قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا.
وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ نَشَأَ عَنْ فَوْرَةِ الْغَضَبِ الْمَخْلُوطِ بِالْجَهَالَةِ وَسُوءِ النَّظَرِ، أَيْ لَيْسَ بِكُمُ الْحِفَاظُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ بِكُمْ أَنْ لَا نُقَاسِمَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ حَسَدًا لَنَا عَلَى مَا نُصِيبُ مِنَ الْمَغَانِمِ.
وَالْحَسَدُ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يَنَالَ غَيْرُكَ خَيْرًا مُعَيَّنًا أَوْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَمَنِّي انْتِقَالِهِ إِلَيْكَ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ، فَالْحَسَدُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْحِرْصُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْمَغَانِمِ وَكَرَاهِيَةِ الْمُشَارَكَةِ فِيهَا لِئَلَّا يَنْقُصَ سِهَامُ الْكَارِهِينَ. وَتَقَدَّمَ الْحَسَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الْبَقَرَة: ٩٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٠٩] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحَسَدِ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَوَابَ بمنعهم لعدم رضى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْمَغَانِمِ. وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الضَّمِيرِ شُمُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمُخَلَّفِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَا يتهمون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَسَدِ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ كَلَامَهُمْ بِالْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ لَيْسَ قَوْلُكَ لَهُمْ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاسْتِبْشَارِ بِالْمَغَانِمِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَكِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَحَقُّهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُخَلَّفِينَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ فِيمَا
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ كَلامَ اللَّهِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ كَلِمَ اللَّهِ اسْمُ جَمْعِ كَلِمَةٍ. وَجِيءَ بِ لَنْ الْمُفِيدَةِ تَأْكِيدَ النَّفْيِ لِقَطْعِ أَطْمَاعِهِمْ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ بِاتِّبَاعِ الْجَيْشِ الْخَارِجِ إِلَى خَيْبَرَ وَلِذَلِكَ حُذِفَ مُتَعَلِّقُ تَتَّبِعُونا لِلْعِلْمِ بِهِ. ومِنْ قَبْلُ تَقْدِيرُهُ: مِنْ قَبْلِ طَلَبِكُمُ الَّذِي تَطْلُبُونَهُ وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ بِمَا سَيَقُولُونَهُ إِذْ قَالَ: فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا، وَقَدْ قَالُوا ذَلِكَ بَعْدَ نَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ فَلَمَّا سَمِعَ الْمُسْلِمُونَ الْمُتَأَهِّبُونَ لِلْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَقَالَتَهُمْ قَالُوا: قَدْ أَخْبَرَنَا اللَّهُ فِي الْحُدَيْبِيَةِ بِأَنَّهُمْ سَيَقُولُونَ هَذَا.
وبَلْ هُنَا لِلْإِضْرَابِ عَنْ قَول الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَنْ تَتَّبِعُونا وَهُوَ إِضْرَابُ إِبْطَالٍ نَشَأَ عَنْ فَوْرَةِ الْغَضَبِ الْمَخْلُوطِ بِالْجَهَالَةِ وَسُوءِ النَّظَرِ، أَيْ لَيْسَ بِكُمُ الْحِفَاظُ عَلَى أَمْرِ اللَّهِ، بَلْ بِكُمْ أَنْ لَا نُقَاسِمَكُمْ فِي الْمَغَانِمِ حَسَدًا لَنَا عَلَى مَا نُصِيبُ مِنَ الْمَغَانِمِ.
وَالْحَسَدُ: كَرَاهِيَةُ أَنْ يَنَالَ غَيْرُكَ خَيْرًا مُعَيَّنًا أَوْ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ مَعَ تَمَنِّي انْتِقَالِهِ إِلَيْكَ أَوْ بِدُونِ ذَلِكَ، فَالْحَسَدُ هُنَا أُرِيدَ بِهِ الْحِرْصُ عَلَى الِانْفِرَادِ بِالْمَغَانِمِ وَكَرَاهِيَةِ الْمُشَارَكَةِ فِيهَا لِئَلَّا يَنْقُصَ سِهَامُ الْكَارِهِينَ. وَتَقَدَّمَ الْحَسَدُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [الْبَقَرَة: ٩٠] وَعِنْدَ قَوْلِهِ: حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [الْبَقَرَة: ١٠٩] كِلَاهُمَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
وَضَمِيرُ الرَّفْعِ مُرَادٌ بِهِ أَهْلُ الْحُدَيْبِيَةِ، نَسَبُوهُمْ إِلَى الْحَسَدِ لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّ الْجَوَابَ بمنعهم لعدم رضى أَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ بِمُشَارَكَتِهِمْ فِي الْمَغَانِمِ. وَلَا يُظَنُّ بِهِمْ أَنْ يُرِيدُوا بِذَلِكَ الضَّمِيرِ شُمُول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَنَّ الْمُخَلَّفِينَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ لَا يتهمون النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْحَسَدِ وَلِذَلِكَ أَبْطَلَ اللَّهُ كَلَامَهُمْ بِالْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ فَقَالَ: بَلْ كانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا، أَيْ لَيْسَ قَوْلُكَ لَهُمْ ذَلِكَ لِقَصْدِ الِاسْتِبْشَارِ بِالْمَغَانِمِ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَلَكِنَّهُ أَمْرُ اللَّهِ وَحَقُّهُ لِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَتَأْدِيبٌ لِلْمُخَلَّفِينَ لِيَكُونُوا عِبْرَةً لِغَيْرِهِمْ فِيمَا
169
يَأْتِي وَهُمْ ظَنُّوهُ تَمَالُؤًا مِنْ جَيْشِ الْحُدَيْبِيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَفْهَمُوا حِكْمَتَهُ وَسَبَبَهُمْ. وَإِنَّمَا نَفَى اللَّهُ عَنْهُمُ الْفَهْمَ دُونَ الْإِيمَانِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا جَاهِلِينَ بِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَنُظُمِهِ.
وَأَفَادَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ انْتِفَاءَ الْفَهْمِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا أَيْ إِلَّا فَهْمًا قَلِيلًا وَإِنَّمَا قَلَّلَهُ لِكَوْنِ فَهْمِهِمْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ لَا يَنْفُذُ إِلَى الْمُهِمَّاتِ وَدَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَمِنْ ذَلِكَ ظَنُّهُمْ حِرْمَانَهُمْ مِنْ الِالْتِحَاقِ بِجَيْشِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ مُنْبَعِثًا عَلَى الْحَسَدِ. وَقَدْ جَرَوْا فِي ظَنِّهِمْ هَذَا عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ وَالنُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ مِنَ التَّوَسُّمِ فِي أَعْمَالِ أَهِلِ الْكَمَالِ بِمِنْظَارِ مَا يَجِدُونَ مِنْ دَوَاعِي أَعْمَالِهِمْ وَأَعْمَالِ خُلَطَائِهِمْ.
وقَلِيلًا وَصْفٌ لِلْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فقها قَلِيلا.
[١٦]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٦]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
انْتِقَالٌ إِلَى طَمْأَنَةِ الْمُخَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَنَالُونَ مَغَانِمَ فِي غَزَوَاتٍ آتِيَةٍ لِيَعْلَمُوا أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ لِانْسِلَاخِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ لِحِكْمَةِ نَوْطِ
الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا عَلَى طَرِيقَةِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ حِرْمَانٌ خَاصٌّ بِوَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ كَافِرِينَ كَمَا تُدْعَى طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ، فَذِكْرُ هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْخَالٌ لِلْمَسَرَّةِ بَعْدَ الْحُزْنِ لِيُزِيلَ عَنْهُمُ انْكِسَارَ خَوَاطِرِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ الْحِرْمَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ فُرْصَةٌ لَهُمْ لِيَسْتَدْرِكُوا مَا جَنَوْهُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْسَلِخُوا عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَامِلِ الْمُنَافِقِينَ الْمُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التَّوْبَة: ٨٣].
وَأَفَادَ قَوْلُهُ: لَا يَفْقَهُونَ انْتِفَاءَ الْفَهْمِ عَنْهُمْ لِأَنَّ الْفِعْلَ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ كَالنَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ يَعُمُّ، فَلِذَلِكَ اسْتَثْنَى مِنْهُ بِقَوْلِهِ: إِلَّا قَلِيلًا أَيْ إِلَّا فَهْمًا قَلِيلًا وَإِنَّمَا قَلَّلَهُ لِكَوْنِ فَهْمِهِمْ مُقْتَصِرًا عَلَى الْأُمُورِ الْوَاضِحَةِ مِنَ الْعَادِيَّاتِ لَا يَنْفُذُ إِلَى الْمُهِمَّاتِ وَدَقَائِقِ الْمَعَانِي، وَمِنْ ذَلِكَ ظَنُّهُمْ حِرْمَانَهُمْ مِنْ الِالْتِحَاقِ بِجَيْشِ غَزْوَةِ خَيْبَرَ مُنْبَعِثًا عَلَى الْحَسَدِ. وَقَدْ جَرَوْا فِي ظَنِّهِمْ هَذَا عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ أَهْلِ الْأَنْظَارِ الْقَاصِرَةِ وَالنُّفُوسِ الضَّئِيلَةِ مِنَ التَّوَسُّمِ فِي أَعْمَالِ أَهِلِ الْكَمَالِ بِمِنْظَارِ مَا يَجِدُونَ مِنْ دَوَاعِي أَعْمَالِهِمْ وَأَعْمَالِ خُلَطَائِهِمْ.
وقَلِيلًا وَصْفٌ لِلْمُسْتَثْنَى الْمَحْذُوفِ، وَالتَّقْدِيرُ: إِلَّا فقها قَلِيلا.
[١٦]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٦]
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦)
انْتِقَالٌ إِلَى طَمْأَنَةِ الْمُخَلَّفِينَ بِأَنَّهُمْ سَيَنَالُونَ مَغَانِمَ فِي غَزَوَاتٍ آتِيَةٍ لِيَعْلَمُوا أَنَّ حِرْمَانَهُمْ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى خَيْبَرَ مَعَ جَيْشِ الْإِسْلَامِ لَيْسَ لِانْسِلَاخِ الْإِسْلَامِ عَنْهُمْ وَلَكِنَّهُ لِحِكْمَةِ نَوْطِ
الْمُسَبِّبَاتِ بِأَسْبَابِهَا عَلَى طَرِيقَةِ حِكْمَةِ الشَّرِيعَةِ فَهُوَ حِرْمَانٌ خَاصٌّ بِوَقْعَةٍ مُعَيَّنَةٍ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَأَنَّهُمْ سَيُدْعَوْنَ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِتَالِ قَوْمٍ كَافِرِينَ كَمَا تُدْعَى طَوَائِفُ الْمُسْلِمِينَ، فَذِكْرُ هَذَا فِي هَذَا الْمَقَامِ إِدْخَالٌ لِلْمَسَرَّةِ بَعْدَ الْحُزْنِ لِيُزِيلَ عَنْهُمُ انْكِسَارَ خَوَاطِرِهِمْ مِنْ جَرَّاءِ الْحِرْمَانِ.
وَفِي هَذِهِ الْبِشَارَةِ فُرْصَةٌ لَهُمْ لِيَسْتَدْرِكُوا مَا جَنَوْهُ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكُلُّ ذَلِكَ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُمْ لَمْ يَنْسَلِخُوا عَنِ الْإِيمَانِ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُعَامِلِ الْمُنَافِقِينَ الْمُبْطِنِينَ لِلْكُفْرِ بِمِثْلِ هَذِهِ الْمُعَامَلَةِ فِي قَوْلِهِ: فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ [التَّوْبَة: ٨٣].
170
وَكَرَّرَ وَصْفَ مِنَ الْأَعْرابِ هُنَا لِيُظْهِرَ أَنَّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ قُصِدَ بِهَا الَّذِينَ نَزَلَ فِيهِمْ قَوْلُهُ: سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا [الْفَتْح: ١١] فَلَا يَتَوَهَّمُ السَّامِعُونَ أَنَّ الْمَعْنِيَّ بِالْمُخَلَّفِينَ كُلُّ مَنْ يَقَعُ مِنْهُ التَّخَلُّف.
وَأسْندَ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَمْرُ بِامْتِثَالِ الدَّاعِي وَهُوَ وَلِيُّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ فِي تَذْيِيلِهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْفَتْح: ١٧] وَدَعْوَةُ خلفاء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ تَرْجِعُ إِلَى دَعْوَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي)
. وَعُدِّيَ فَعْلُ سَتُدْعَوْنَ بِحَرْفِ إِلى لِإِفَادَةِ أَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْمَشْيِ، وَهَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ بَيْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الدَّعْوَةِ بِحَرْفِ إِلى وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ نَحْوُ قَوْلِكَ: دَعَوْتُ فَلَانًا لِمَا نَابَنِي، قَالَ طَرَفَةُ:
وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا وَقَدْ يَتَعَاقَبُ الِاسْتِعْمَالَانِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ وَالتَّسَامُحِ.
وَالْقَوْمُ أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا حُكْمًا فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَوَازِنَ وَثَقِيفَ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، وَذَلِكَ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَهِيَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَأَمَّا فَتْحُ مَكَّةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبَأْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَدْرَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ:
وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَلَا نَعْلَمُ مِنْ هُمْ حَتَّى
دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالْحَسَنِ هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ.
وَجُمْلَةُ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إِمَّا حَالٌ من ضمير سَتُدْعَوْنَ، وَإِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ تُدْعَوْنَ.
وَأسْندَ سَتُدْعَوْنَ إِلَى الْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ الْأَمْرُ بِامْتِثَالِ الدَّاعِي وَهُوَ وَلِيُّ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدُ فِي تَذْيِيلِهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [الْفَتْح: ١٧] وَدَعْوَةُ خلفاء الرّسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ تَرْجِعُ إِلَى دَعْوَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
لِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَطَاعَ أَمْرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي)
. وَعُدِّيَ فَعْلُ سَتُدْعَوْنَ بِحَرْفِ إِلى لِإِفَادَةِ أَنَّهَا مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْمَشْيِ، وَهَذَا فَرْقٌ دَقِيقٌ بَيْنَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الدَّعْوَةِ بِحَرْفِ إِلى وَبَيْنَ تَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ نَحْوُ قَوْلِكَ: دَعَوْتُ فَلَانًا لِمَا نَابَنِي، قَالَ طَرَفَةُ:
وَإِنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أَكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا وَقَدْ يَتَعَاقَبُ الِاسْتِعْمَالَانِ بِضَرْبٍ مِنَ الْمَجَازِ وَالتَّسَامُحِ.
وَالْقَوْمُ أُولُو الْبَأْسِ الشَّدِيدِ يَتَعَيَّنُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ مِنَ الْعَرَبِ لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْقِتَالَ لَا يُرْفَعُ عَنْهُمْ إِلَّا إِذَا أَسْلَمُوا، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا حُكْمًا فِي قِتَالِ مُشْرِكِي الْعَرَبِ إِذْ لَا تُقْبَلُ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ هَوَازِنَ وَثَقِيفَ. وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَعِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ، وَذَلِكَ غَزْوَةُ حُنَيْنٍ وَهِيَ بَعْدَ غَزْوَةِ خَيْبَرَ، وَأَمَّا فَتْحُ مَكَّةَ فَلَمْ يَكُنْ فِيهِ قِتَالٌ. وَعَنِ الزُّهْرِيِّ وَمُقَاتِلٍ: أَنَّهُمْ أَهْلُ الرِّدَّةِ لِأَنَّهُمْ مِنْ قَبَائِلِ الْعَرَبِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْبَأْسِ، وَكَانَ ذَلِكَ صَدْرَ خِلَافَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ أَنَّهُ قَالَ:
وَاللَّهِ لَقَدْ كُنَّا نَقْرَأُ هَذِهِ الْآيَةَ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَلَا نَعْلَمُ مِنْ هُمْ حَتَّى
دَعَانَا أَبُو بَكْرٍ إِلَى قِتَالِ بَنِي حَنِيفَةَ فَعَلِمْنَا أَنَّهُمْ هُمْ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعَطَاءٍ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَالْحَسَنِ هُمْ فَارِسُ وَالرُّومُ.
وَجُمْلَةُ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ إِمَّا حَالٌ من ضمير سَتُدْعَوْنَ، وَإِمَّا بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ مَضْمُونِ تُدْعَوْنَ.
171
وَ (أَوْ) لِلتَّرْدِيدِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ وَالتَّنْوِيعِ فِي حَالَةِ تُدْعَوْنَ، أَيْ تُدْعَوْنَ إِلَى قِتَالِهِمْ وَإِسْلَامِهِمْ، وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الْإِمْعَانَ فِي مُقَاتَلَتِهِمْ وَالِاسْتِمْرَارَ فِيهَا مَا لَمْ يُسْلِمُوا، فَبِذَلِكَ كَانَ أَوْ يُسْلِمُونَ حَالًا مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ تُقاتِلُونَهُمْ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ تُدْعَوْنَ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً تَعْبِيرٌ بِالتَّوَالِي الَّذِي مَضَى، وَتَحْذِيرٌ مِنَ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهُ تَوَلٍّ يُوقِعُ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ تَوَلٍّ عَنْ دَعْوَةٍ إِلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْقِتَالُ لِلْجِهَادِ. فَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ تَشْبِيهٌ فِي مُطْلَقِ التَّوَلِّي لِقَصْدِ التَّشْوِيهِ وَلَيْسَ تَشْبِيهًا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِك التولي.
[١٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٧]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح:
١٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ الْوَعِيدِ عَنْ أَصْحَابِ الضَّرَارَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُذْرِ لِلْعِنَايَةِ بِحُكْمِ التَّوَلِّي وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِلَخْ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح:
١٦] الْآيَةَ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إِيتَاءِ الْأَجْرِ لِكُلِّ مُطِيعٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالتَّعْذِيبِ لِكُلِّ مُتَوَلٍّ كَذَلِكَ، مَعَ مَا فِي جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الْأَجْرَ هُوَ إِدْخَالُ الْجَنَّاتِ، وَهُوَ يُفِيدُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ التَّعْذِيبَ الْأَلِيمَ بِإِدْخَالِهِمْ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُدْخِلْهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْم الْجَلالَة.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً تَعْبِيرٌ بِالتَّوَالِي الَّذِي مَضَى، وَتَحْذِيرٌ مِنَ ارْتِكَابِ مِثْلِهِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ بِأَنَّهُ تَوَلٍّ يُوقِعُ فِي الْإِثْمِ لِأَنَّهُ تَوَلٍّ عَنْ دَعْوَةٍ إِلَى وَاجِبٍ وَهُوَ الْقِتَالُ لِلْجِهَادِ. فَالتَّشْبِيهُ فِي قَوْلِهِ: كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ تَشْبِيهٌ فِي مُطْلَقِ التَّوَلِّي لِقَصْدِ التَّشْوِيهِ وَلَيْسَ تَشْبِيهًا فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِك التولي.
[١٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ١٧]
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧)
جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَةِ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً [الْفَتْح:
١٦] وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ الْآيَةَ قُصِدَ مِنْهَا نَفْيُ الْوَعِيدِ عَنْ أَصْحَابِ الضَّرَارَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْعُذْرِ لِلْعِنَايَةِ بِحُكْمِ التَّوَلِّي وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُ.
وَجُمْلَةُ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ إِلَخْ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً [الْفَتْح:
١٦] الْآيَةَ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إِيتَاءِ الْأَجْرِ لِكُلِّ مُطِيعٍ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَالتَّعْذِيبِ لِكُلِّ مُتَوَلٍّ كَذَلِكَ، مَعَ مَا فِي جُمْلَةِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ مِنْ بَيَانِ أَنَّ الْأَجْرَ هُوَ إِدْخَالُ الْجَنَّاتِ، وَهُوَ يُفِيدُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ أَنَّ التَّعْذِيبَ الْأَلِيمَ بِإِدْخَالِهِمْ جَهَنَّمَ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ نُدْخِلْهُ وَنُعَذِّبْهُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى التَّكَلُّمِ. وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُدْخِلْهُ بِالْيَاءِ التَّحْتِيَّةِ جَرْيًا عَلَى أُسْلُوبِ الْغَيْبَةِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إِلَى اسْم الْجَلالَة.
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ١٨ إِلَى ١٩]
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩)عَوْدٌ إِلَى تَفْصِيلِ مَا جَازَى اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ الْمُتَقَدِّمِ إِجْمَالُهُ فِي قَوْلِهِ:
إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ [الْفَتْح: ١٠]، فَإِنَّ كَوْنَ بيعتهم الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُعْتَبَرُ بَيْعَةً لِلَّهِ تَعَالَى أَوْمَأَ إِلَى أَنَّ لَهُمْ بِتِلْكَ الْمُبَايَعَةِ مَكَانَةً رَفِيعَةً مِنْ خَيْرِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَلَمَّا قُطِعَ الِاسْتِرْسَالُ فِي ذَلِكَ بِمَا كَانَ تَحْذِيرًا مِنَ النَّكْثِ وَتَرْغِيبًا فِي الْوَفَاءِ، بِمُنَاسَبَةِ التَّضَادِّ وَذِكْرِ مَا هُوَ وَسَطٌ بَيْنَ الْحَالَيْنِ وَهُوَ حَالُ الْمُخَلَّفِينَ، وَإِبْطَالُ اعْتِذَارِهِمْ وَكَشْفُ طَوِيَّتِهِمْ، وَإِقْصَائِهِمْ عَنِ الْخَيْرِ الَّذِي أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُبَايِعِينَ وَإِرْجَائِهِمْ إِلَى خَيْرٍ يَسْنَحُ مِنْ بَعْدِ إِنْ هُمْ صَدَقُوا التَّوْبَةَ وَأَخْلَصُوا النِّيَّةَ.
فَقَدْ أَنَالَ اللَّهُ الْمُبَايِعِينَ رِضْوَانَهُ وَهُوَ أَعْظَمُ خَيْرٍ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ قَالَ تَعَالَى:
وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [التَّوْبَة: ٧٢] وَالشَّهَادَةَ لَهُمْ بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ، وَإِنْزَالَهُ السَّكِينَةَ قُلُوبَهُمْ وَوَعْدَهُمْ بِثَوَابِ فَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ.
وَفِي قَوْلِهِ: عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ إِيذَانٌ بِأَنَّ مَنْ لَمْ يُبَايِعْ مِمَّنْ خَرَجَ مَعَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْسَ حِينَئِذٍ بِمُؤْمِنٍ وَهُوَ تَعْرِيضٌ بِالْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ إِذْ كَانَ يَوْمَئِذٍ مُنَافِقًا ثُمَّ حَسُنَ إِسْلَامُهُ.
وَقَدْ دُعِيَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ. وإِذْ يُبايِعُونَكَ ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِ رَضِيَ، وَفِي تَعْلِيقِ هَذَا الظّرْف بِفعل الرضى مَا يفهم أَن الرضى مُسَبَّبٌ عَنْ مَفَادِ ذَلِكَ الظَّرْفِ الْخَاصِّ بِمَا أُضِيفَ هُوَ إِلَيْهِ، مَعَ مَا يُعْطِيهِ تَوْقِيت الرضى بِالظَّرْفِ الْمَذْكُورِ مِنْ تَعْجِيل حُصُول الرضى بِحِدْثَانِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَمَعَ مَا فِي جَعْلِ الْجُمْلَةِ الْمُضَافِ إِلَيْهَا الظَّرْفُ فِعْلِيَّةً مُضَارِعِيَّةً من حُصُول الرضى قَبْلَ انْقِضَاءِ الْفِعْلِ بَلْ فِي حَالِ تَجَدُّدِهِ. فَالْمُضَارِعُ فِي قَوْلِهِ يُبايِعُونَكَ مُسْتَعْمِلٌ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي لِاسْتِحْضَارِ حَالَةِ
173
الْمُبَايَعَةِ الجليلة، وَكَون الرضى حَصَلَ عِنْدَ تَجْدِيدِ الْمُبَايَعَةِ وَلَمْ يَنْتَظِرْ بِهِ تَمَامُهَا، فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ السُّورَةَ نَزَلَتْ بَعْدَ الِانْصِرَافِ مِنَ الْحُدَيْبِيَةِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّجَرَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي عَهِدَهَا أَهْلُ الْبَيْعَةِ حِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّهَا، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ السَّمُرِ- بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ- وَهُوَ شَجَرُ الطَّلْحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَمَّا أُرْجِفَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ «بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ إِذْ نَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ
إِلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ النَّاسُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ».
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ عَمِيَ لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ. وَتَوَاتَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ مَكَانِ الشَّجَرَةِ بِصَلَاةِ النَّاسِ عِنْدَ مَكَانِهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَيْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا وَعَنْ طَارِقِ بن عبد الرحمان قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ قُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ أَفَأَنْتُمْ أَعْلَمُ».
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ طَارِقٍ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ: مَكَانُ السُّجُودِ، أَيِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْبَيْتَ الَّذِي يُبْنَى لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَوْضِعِ الشَّجَرَةِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَنِ فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا إِذَا مَرُّوا بِهَا يُصَلُّونَ عِنْدَهَا تَيَمُّنًا بِهَا إِلَى أَنْ كَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ كَذَاتِ أَنْوَاطٍ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَبَعْضَ أَصْحَابِهِ نَسُوا مَكَانَهَا لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي تَوَسُّمِ الْأَمْكِنَةِ وَاقْتِفَاءِ الْآثَارِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الشَّجَرَةِ تَعْرِيفُ الْعَهْدِ وَهِيَ: الشَّجَرَةُ الَّتِي عَهِدَهَا أَهْلُ الْبَيْعَةِ حِينَ كَانَ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا فِي ظِلِّهَا، وَهِيَ شَجَرَةٌ مِنْ شَجَرِ السَّمُرِ- بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَضَمِّ الْمِيمِ- وَهُوَ شَجَرُ الطَّلْحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْعَةَ كَانَتْ لَمَّا أُرْجِفَ بِقَتْلِ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ بِمَكَّةَ فَعَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ، يَزِيدُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ «بَيْنَمَا نَحْنُ قَائِلُونَ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ وَقَدْ تَفَرَّقَ النَّاسُ فِي ظِلَالِ الشَّجَرِ إِذْ نَادَى عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَيُّهَا النَّاسُ الْبَيْعَةَ الْبَيْعَةَ، نَزَلَ رُوحُ الْقُدُسِ فَاخْرُجُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ وَكَانَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هُوَ الَّذِي دَعَا النَّاسَ
إِلَى الْبَيْعَةِ فَثَارَ النَّاسُ إِلَى رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَبَايَعُوهُ كُلُّهُمْ إِلَّا الْجَدَّ بْنَ قَيْسٍ».
وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ عَمِيَ لَوْ كُنْتُ أُبْصِرُ لَأَرَيْتُكُمْ مَكَانَ الشَّجَرَةِ. وَتَوَاتَرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عِلْمُ مَكَانِ الشَّجَرَةِ بِصَلَاةِ النَّاسِ عِنْدَ مَكَانِهَا. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ الْمُسَيَّبِ أَنَّهُ كَانَ فِيمَنْ بَايَعَ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ قَالَ: فَلَمَّا خَرَجْنَا مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ أَيْ فِي عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ نَسِينَاهَا فَلَمْ نَقْدِرْ عَلَيْهَا وَعَنْ طَارِقِ بن عبد الرحمان قَالَ: انْطَلَقْتُ حَاجًّا فَمَرَرْتُ بِقَوْمٍ يُصَلُّونَ قُلْتُ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ؟ قَالُوا: هَذِهِ الشَّجَرَةُ حَيْثُ بَايَعَ رَسُولُ اللَّهِ بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ. فَأَتَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ سَعِيدٌ: إِنَّ أَصْحَاب مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَعْلَمُوهَا وَعَلِمْتُمُوهَا أَنْتُمْ أَفَأَنْتُمْ أَعْلَمُ».
وَالْمُرَادُ بِقَوْلِ طَارِقٍ: مَا هَذَا الْمَسْجِدُ: مَكَانُ السُّجُودِ، أَيِ الصَّلَاةِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْبَيْتَ الَّذِي يُبْنَى لِلصَّلَاةِ لِأَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى مَوْضِعِ الشَّجَرَةِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ الزَّمَنِ فَهَذِهِ الشَّجَرَةُ كَانَتْ مَعْرُوفَةً لِلْمُسْلِمِينَ وَكَانُوا إِذَا مَرُّوا بِهَا يُصَلُّونَ عِنْدَهَا تَيَمُّنًا بِهَا إِلَى أَنْ كَانَتْ خِلَافَةُ عُمَرَ فَأَمَرَ بِقَطْعِهَا خَشْيَةَ أَنْ تَكُونَ كَذَاتِ أَنْوَاطٍ الَّتِي كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا فَعَلَهُ الْمُسْلِمُونَ وَبَيْنَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ وَبَعْضَ أَصْحَابِهِ نَسُوا مَكَانَهَا لِأَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي تَوَسُّمِ الْأَمْكِنَةِ وَاقْتِفَاءِ الْآثَارِ.
174
وَالْمَرْوِيُّ أَنَّ الَّذِي بَنَى مَسْجِدًا عَلَى مَكَانِ الشَّجَرَةِ أَبُو جَعْفَرٍ الْمَنْصُورُ الْخَلِيفَةُ الْعَبَّاسِيُّ وَلَكِنْ فِي الْمَسْجِدِ الْمَذْكُورِ حَجَرٌ مَكْتُوبٌ فِيهِ «أَمَرَ عَبْدُ اللَّهِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ هَذَا الْمَسْجِدِ مَسْجِدِ الْبَيْعَةِ وَأَنَّهُ بُنِيَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَهِيَ تُوَافِقُ مُدَّةَ الْمُتَوَكِّلِ جَعْفَرِ بْنِ الْمُعْتَصِمِ وَقَدْ تَخَرَّبَ فَجَدَّدَهُ الْمُسْتَنْصِرُ الْعَبَّاسِيُّ سَنَةَ ٦٢٩ ثُمَّ جَدَّدَهُ السُّلْطَانُ مَحْمُودُ خَانْ الْعُثْمَانِيُّ سَنَةَ ١٢٥٤ وَهُوَ قَائِمٌ إِلَى الْيَوْمِ.
وَذُكِرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ تَنْوِيهًا بِالْمَكَانِ فَإِنَّ لِذِكْرِ مَوَاضِعِ الْحَوَادِثِ وَأَزْمَانِهَا مَعَانِيَ تُزِيدُ السَّامِعَ تَصَوُّرًا وَلِمَا فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ ذِكْرَى مِثْلِ مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالْحَوَادِثِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ» الْحَدِيثَ. وَمَوَاقِعُ الْمَصَائِبِ وَأَيَّامُهَا.
وإِذْ ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ رَضِيَ، أَيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحِين. وَهَذَا رضى خَاصٌّ، أَي تعلّق رضى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ.
وَالْفَاء فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَ عَقِبَ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَلَا عَقِبَ وُقُوعِ بَيْعَتِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا بَايَعُوكَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَآبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ بعد الْإِخْبَار برضى اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ قَوْلُهُ:
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ تَوْطِئَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَعْنَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ مُبَايَعَتِهِمْ عَلَى نَصْرِكَ فَلَمَّا بَايَعُوا وَتَحَفَّزُوا لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ الصُّلْحُ حَصَلَتْ لَهُمْ كَآبَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْكَآبَةِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، أَيْ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ مِثْلُ التَّعَلُّقَاتِ التَّنْجِيزَيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ بِإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا حَصَّلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْكَآبَةَ عَنْ أَنَّهُ قَدَرَ ذَلِكَ
وَذُكِرَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ لِاسْتِحْضَارِ تِلْكَ الصُّورَةِ تَنْوِيهًا بِالْمَكَانِ فَإِنَّ لِذِكْرِ مَوَاضِعِ الْحَوَادِثِ وَأَزْمَانِهَا مَعَانِيَ تُزِيدُ السَّامِعَ تَصَوُّرًا وَلِمَا فِي تِلْكَ الْحَوَادِثِ مِنْ ذِكْرَى مِثْلِ مَوَاقِعِ الْحُرُوبِ وَالْحَوَادِثِ كَقَوْلِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ «وَيَوْمُ الْخَمِيسِ وَمَا يَوْمُ الْخَمِيسِ اشْتَدَّ برَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَعُهُ» الْحَدِيثَ. وَمَوَاقِعُ الْمَصَائِبِ وَأَيَّامُهَا.
وإِذْ ظَرْفٌ يَتَعَلَّقُ بِفِعْلِ رَضِيَ، أَيْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي ذَلِكَ الْحِين. وَهَذَا رضى خَاصٌّ، أَي تعلّق رضى اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُمْ بِتِلْكَ الْحَالَةِ.
وَالْفَاء فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَتْ لِلتَّعْقِيبِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ لَيْسَ عَقِبَ رِضَاهُ عَنْهُمْ وَلَا عَقِبَ وُقُوعِ بَيْعَتِهِمْ فَتَعَيَّنَ أَنْ تَكُونَ فَاءً فَصِيحَةً تُفْصِحُ عَنْ كَلَامٍ مُقَدَّرٍ بَعْدَهَا. وَالتَّقْدِيرُ: فَلَمَّا بَايَعُوكَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْكَآبَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ بعد الْإِخْبَار برضى اللَّهُ عَنْهُمْ لِمَا فِي الْإِخْبَارِ بِعِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ إِظْهَارِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْصُودُ مِنَ التَّفْرِيعِ قَوْلُهُ:
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ تَوْطِئَةً لَهُ عَلَى وَجْهِ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَعْنَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَجْلِ مُبَايَعَتِهِمْ عَلَى نَصْرِكَ فَلَمَّا بَايَعُوا وَتَحَفَّزُوا لِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَوَقَعَ الصُّلْحُ حَصَلَتْ لَهُمْ كَآبَةٌ فِي نُفُوسِهِمْ فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ تِلْكَ الْكَآبَةِ، وَهَذَا مِنْ عِلْمِهِ الْأَشْيَاءَ بَعْدَ وُقُوعِهَا وَهُوَ مِنْ تَعَلُّقِ عِلْمِ اللَّهِ بِالْحَوَادِثِ بَعْدَ حُدُوثِهَا، أَيْ عِلْمِهِ بِأَنَّهَا وَقَعَتْ وَهُوَ تَعَلُّقٌ حَادِثٌ مِثْلُ التَّعَلُّقَاتِ التَّنْجِيزَيَّةِ. وَالْمَقْصُودُ بِإِخْبَارِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا حَصَّلَ فِي قُلُوبِهِمُ الْكَآبَةَ عَنْ أَنَّهُ قَدَرَ ذَلِكَ
175
لَهُمْ وَشَكَرَهُمْ عَلَى حُبِّهِمْ نصر النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ رُتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.
وَالسَّكِينَةُ هُنَا هِيَ: الطُّمَأْنِينَة والثقة بتحقيق مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالِارْتِيَاضِ عَلَى تَرَقُّبِهِ دُونَ حَسْرَةٍ فَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ إِنْزَالُهُ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَعَبَّرَ بِضَمِيرِهِمْ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ هِيَ نُفُوسُهُمْ.
وَعُطِفَ أَثابَهُمْ عَلَى فِعْلِ رَضِيَ اللَّهُ. وَمَعْنَى أَثَابَهُمْ: أَعْطَاهُمْ ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، كَمَا يُقَالُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، أَيْ عَوَّضَهُمْ عَنِ الْمُبَايَعَةِ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِثَوَابٍ هُوَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَمَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، فَفِعْلُ أَثابَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ يَوْمِ الْبَيْعَةِ بِنَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ.
وَالْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا هِيَ: مَغَانِمُ أَرْضِ خَيْبَرَ وَالْأَنْعَامُ وَالْمَتَاعُ وَالْحَوَائِطُ فَوُصِفَتْ بِ كَثِيرَةً لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَغَانِمِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْحَوَائِطُ.
وَفَائِدَةُ وَصْفِ الْمَغَانِمِ بِجُمْلَةِ يَأْخُذُونَها تَحْقِيقُ حُصُولِ فَائِدَةِ هَذَا الْوَعْدِ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِكَوْنِ الْفَتْحِ قَرِيبًا وَبِشَارَةٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَهْلِكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَبْلَ رُؤْيَةِ هَذَا الْفَتْحِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها لِأَنَّ تَيْسِيرَ الْفَتْحِ لَهُمْ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَثَرِ عِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَعَاصَى عَلَيْهَا شَيْءٌ صَعْبٌ، وَمِنْ أَثَرِ حِكْمَتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِي حَالَةٍ لِيَظُنَّ الرَّائِي أَنَّهَا لَا تُيَسَّرُ فِيهَا أَمْثَالُهَا.
[٢٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٠]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: ١٨، ١٩] إِذْ عُلِمَ أَنَّهُ فَتْحُ خَيْبَرَ، فَحَقَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ أَنْ
وَالسَّكِينَةُ هُنَا هِيَ: الطُّمَأْنِينَة والثقة بتحقيق مَا وَعَدَهُمُ اللَّهُ مِنَ الْفَتْحِ وَالِارْتِيَاضِ عَلَى تَرَقُّبِهِ دُونَ حَسْرَةٍ فَتَرَتَّبَ عَلَى عِلْمِهِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ إِنْزَالُهُ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، أَيْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَعَبَّرَ بِضَمِيرِهِمْ عِوَضًا عَنْ ضَمِيرِ قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ قُلُوبَهُمْ هِيَ نُفُوسُهُمْ.
وَعُطِفَ أَثابَهُمْ عَلَى فِعْلِ رَضِيَ اللَّهُ. وَمَعْنَى أَثَابَهُمْ: أَعْطَاهُمْ ثَوَابًا، أَيْ عِوَضًا، كَمَا يُقَالُ فِي هِبَةِ الثَّوَابِ، أَيْ عَوَّضَهُمْ عَنِ الْمُبَايَعَةِ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ. وَالْمُرَادُ: أَنَّهُ وَعَدَهُمْ بِثَوَابٍ هُوَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَمَغَانِمُ كَثِيرَةٌ، فَفِعْلُ أَثابَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا الْفَتْحُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ فَإِنَّهُ كَانَ خَاصًّا بِأَهْلِ الْحُدَيْبِيَةِ وَكَانَ قَرِيبًا مِنْ يَوْمِ الْبَيْعَةِ بِنَحْوِ شَهْرٍ وَنِصْفٍ.
وَالْمَغَانِمُ الْكَثِيرَةُ الْمَذْكُورَةُ هُنَا هِيَ: مَغَانِمُ أَرْضِ خَيْبَرَ وَالْأَنْعَامُ وَالْمَتَاعُ وَالْحَوَائِطُ فَوُصِفَتْ بِ كَثِيرَةً لِتَعَدُّدِ أَنْوَاعِهَا وَهِيَ أَوَّلُ الْمَغَانِمِ الَّتِي كَانَتْ فِيهَا الْحَوَائِطُ.
وَفَائِدَةُ وَصْفِ الْمَغَانِمِ بِجُمْلَةِ يَأْخُذُونَها تَحْقِيقُ حُصُولِ فَائِدَةِ هَذَا الْوَعْدِ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْبَيْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ بِالْفِعْلِ فَفِيهِ زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِكَوْنِ الْفَتْحِ قَرِيبًا وَبِشَارَةٌ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ لَا يَهْلِكُ مِنْهُمْ أَحَدٌ قَبْلَ رُؤْيَةِ هَذَا الْفَتْحِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً مُعْتَرِضَةٌ، وَهِيَ مُفِيدَةٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها لِأَنَّ تَيْسِيرَ الْفَتْحِ لَهُمْ وَمَا حَصَلَ لَهُمْ فِيهِ مِنَ الْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ مِنْ أَثَرِ عِزَّةِ اللَّهِ الَّتِي لَا يَتَعَاصَى عَلَيْهَا شَيْءٌ صَعْبٌ، وَمِنْ أَثَرِ حِكْمَتِهِ فِي تَرْتِيبِ الْمُسَبِّبَاتِ عَلَى أَسْبَابِهَا فِي حَالَةٍ لِيَظُنَّ الرَّائِي أَنَّهَا لَا تُيَسَّرُ فِيهَا أَمْثَالُهَا.
[٢٠]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٠]
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ
هَذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَشَأَ عَنْ قَوْلِهِ: وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح: ١٨، ١٩] إِذْ عُلِمَ أَنَّهُ فَتْحُ خَيْبَرَ، فَحَقَّ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ أَنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِمْ أَنْ
176
يَتَرَقَّبُوا مَغَانِمَ أُخْرَى فَكَانَ هَذَا الْكَلَامُ جَوَابًا لَهُمْ، أَيْ لَكُمْ مَغَانِمُ أُخْرَى لَا يُحْرَمُ مِنْهَا مَنْ تَخَلَّفُوا عَنِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ الْمَغَانِمُ الَّتِي حَصَلَتْ فِي الْفُتُوحِ الْمُسْتَقْبَلَةِ.
فالخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨] وَلَيْسَ خَاصًّا بِالَّذِينَ بَايِعُوا. وَالْوَعْدُ بِالْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ وَاقِعٌ فِي مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَان الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا بَلَّغَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ لِلْجِهَادِ. وَوَصْفُ مَغانِمَ بِجُمْلَةِ تَأْخُذُونَها لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فِعْلُ فَعَجَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَيْ سَيُعَجِّلُ لَكُمْ هَذِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ نُوَالَهُمْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ تَعْجِيلًا، لِقُرْبِ حُصُولِهِ مِنْ وَقْتِ والوعد بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ الْوَعْدِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا عَقِبَهَا وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَرْوِيٍّ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ إِلَى الْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح:
١٩] وَأُشِيرَ إِلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ.
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ غَفَلُوا عَنْهَا حِينَ حَزِنُوا لِوُقُوعِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّلْمِ،
أَيْ كَفِّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ وَاجَهُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُرَاجَعَةِ فِي سَبَبِ قُدُومِهِمْ لَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْقِتَالِ مُتْعَبِينَ. وَلَمَا تَهَيَّأَ لَهُمْ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُمْ لَوِ اقْتَتَلُوا مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ لَدُحِضَ فِي ذَلِكَ مُؤْمِنُونَ وَمُؤْمِنَاتٍ كَانُوا فِي مَكَّةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْح: ٢٥] الْآيَةَ.
فَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ: أَهْلُ مَكَّةَ جَرْيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ غَالِبًا.
فالخطاب للنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُسْلِمِينَ تَبَعًا لِلْخِطَابِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [الْفَتْح: ١٨] وَلَيْسَ خَاصًّا بِالَّذِينَ بَايِعُوا. وَالْوَعْدُ بِالْمَغَانِمِ الْكَثِيرَةِ وَاقِعٌ فِي مَا سَبَقَ نُزُولُهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَعَلَى لِسَان الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّا بَلَّغَهُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ فِي مَقَامَاتِ دَعْوَتِهِ لِلْجِهَادِ. وَوَصْفُ مَغانِمَ بِجُمْلَةِ تَأْخُذُونَها لِتَحْقِيقِ الْوَعْدِ.
وَبِنَاءً عَلَى مَا اخْتَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً يَكُونُ فِعْلُ فَعَجَّلَ مُسْتَعْمَلًا فِي الزَّمَنِ الْمُسْتَقْبَلِ مَجَازًا تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ وُقُوعِهِ، أَيْ سَيُعَجِّلُ لَكُمْ هَذِهِ. وَإِنَّمَا جَعَلَ نُوَالَهُمْ غَنَائِمَ خَيْبَرَ تَعْجِيلًا، لِقُرْبِ حُصُولِهِ مِنْ وَقْتِ والوعد بِهِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ تَأَخُّرُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى مَا بَعْدَ فَتْحِ خَيْبَرَ عَلَى أَنَّهَا تَكْمِلَةٌ لِآيَةِ الْوَعْدِ الَّتِي قَبْلَهَا، وَأَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِوَضْعِهَا عَقِبَهَا وَقَدْ أَشَرْنَا إِلَى ذَلِكَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ وَلَكِنَّ هَذَا غَيْرُ مَرْوِيٍّ.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذِهِ إِلَى الْمَغَانِمِ فِي قَوْلِهِ: وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [الْفَتْح:
١٩] وَأُشِيرَ إِلَيْهَا عَلَى اخْتِلَافِ الِاعْتِبَارَيْنِ فِي اسْتِعْمَالِ فِعْلِ فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ.
وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
امْتِنَانٌ عَلَيْهِمْ بِنِعْمَةٍ غَفَلُوا عَنْهَا حِينَ حَزِنُوا لِوُقُوعِ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ وَهِيَ نِعْمَةُ السَّلْمِ،
أَيْ كَفِّ أَيْدِيَ الْمُشْرِكِينَ عَنْهُمْ فَإِنَّهُمْ لَوْ وَاجَهُوهُمْ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ بِالْقِتَالِ دُونَ الْمُرَاجَعَةِ فِي سَبَبِ قُدُومِهِمْ لَرَجَعَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ الْقِتَالِ مُتْعَبِينَ. وَلَمَا تَهَيَّأَ لَهُمْ فَتْحُ خَيْبَرَ، وَأَنَّهُمْ لَوِ اقْتَتَلُوا مَعَ أَهْلِ مَكَّةَ لَدُحِضَ فِي ذَلِكَ مُؤْمِنُونَ وَمُؤْمِنَاتٍ كَانُوا فِي مَكَّةَ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ [الْفَتْح: ٢٥] الْآيَةَ.
فَالْمُرَادُ بِ النَّاسِ: أَهْلُ مَكَّةَ جَرْيًا عَلَى مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ فِي إِطْلَاقِ هَذَا اللَّفْظِ غَالِبًا.
177
وَقِيلَ: الْمُرَادُ كَفُّ أَيْدِي الْإِعْرَابِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ بَنِي أَسَدٍ وَغَطَفَانَ وَكَانُوا أَحْلَافًا لِيَهُودِ خَيْبَرَ وَجَاءُوا لِنُصْرَتِهِمْ لَمَّا حَاصَرَ الْمُسْلِمُونَ خَيْبَرَ فَأَلْقَى اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَنَكَصُوا.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَأَسَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: ٢٤]. وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنْكُمْ، أَيْ عَن أهلكم وذاريكم إِذْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ مُعْظَمِ أَهْلِهَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ فِي غَالِبِ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ.
وَالْكَفُّ: مَنْعُ الْفَاعِلِ مِنْ فِعْلٍ أَرَادَهُ أَوْ شَرَعَ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْكَفِّ الَّتِي هِيَ الْيَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ دَفْعًا بِالْيَدِ، وَيُقَالُ: كَفَّ يَدَهُ عَنْ كَذَا، إِذَا مَنَعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِيَدِهِ.
وَأُطْلِقَ الْكَفُّ هُنَا مَجَازًا عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ بِأَنْ أَوْجَدَ أَسْبَابَ صَرْفِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلُوكُمْ بِضُرٍّ سَوَاءٌ نَوَوْهُ أَوْ لَمْ يَنْوُوهُ، وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ حِينَ لَا يَكُونُ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ فِعْلٌ مُنَاسِبٌ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِن اللُّغَة بيّنت عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ مُخَاطِبَاتِهِمْ وَطَرَأَتْ مُعْظَمُ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فَتُغَيَّرُ عَنِ الشَّأْنِ الْإِلَهِيِّ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَى مَعْنَاهُ.
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ عِلَّةٌ كَمَا تَقْتَضِي لَامُ كَيْ فَتَعِيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ فِي اللَّفْظِ أَوْ عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ سَبَقَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: ٤] أَوْ مِنْ قَوْلِهِ:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥] وَمَا بَينهمَا اعتراضا وَهُوَ وَإِنْ طَالَ فَقَدِ
اقْتَضَتْهُ التَّنَقُّلَاتُ الْمُتَنَاسِبَاتُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَصَالِحَ لَهُمْ مِنْهَا ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ وَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْجَنَّةَ وَتَكْفِيرُ سَيِّئَاتِهِمْ
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُشْرِكِينَ بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا لِيُصِيبُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَأَسَرَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ مَا سَيَجِيءُ فِي قَوْلِهِ: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: ٢٤]. وَقِيلَ: كَفَّ أَيْدِيَ الْيَهُودِ عَنْكُمْ، أَيْ عَن أهلكم وذاريكم إِذْ كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَهْجُمُوا عَلَى الْمَدِينَةِ فِي مُدَّةِ غَيْبَةِ مُعْظَمِ أَهْلِهَا فِي الْحُدَيْبِيَةِ، وَهَذَا الْقَوْلُ لَا يُنَاسِبُهُ إِطْلَاقُ لَفْظِ النَّاسِ فِي غَالِبِ مُصْطَلَحِ الْقُرْآنِ.
وَالْكَفُّ: مَنْعُ الْفَاعِلِ مِنْ فِعْلٍ أَرَادَهُ أَوْ شَرَعَ فِيهِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْكَفِّ الَّتِي هِيَ الْيَدُ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَنْعِ أَنْ يَكُونَ دَفْعًا بِالْيَدِ، وَيُقَالُ: كَفَّ يَدَهُ عَنْ كَذَا، إِذَا مَنَعَهُ مِنْ تَنَاوُلِهِ بِيَدِهِ.
وَأُطْلِقَ الْكَفُّ هُنَا مَجَازًا عَلَى الصَّرْفِ، أَيْ قَدَّرَ اللَّهُ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ بِأَنْ أَوْجَدَ أَسْبَابَ صَرْفِهِمْ عَنْ أَنْ يَتَنَاوَلُوكُمْ بِضُرٍّ سَوَاءٌ نَوَوْهُ أَوْ لَمْ يَنْوُوهُ، وَإِطْلَاقُ الْفِعْلِ عَلَى تَقْدِيرِهِ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ حِينَ لَا يَكُونُ لِلتَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ فِعْلٌ مُنَاسِبٌ لَهُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، فَإِن اللُّغَة بيّنت عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ مُخَاطِبَاتِهِمْ وَطَرَأَتْ مُعْظَمُ الْمَعَانِي الْإِلَهِيَّةِ بِمَجِيءِ الْقُرْآنِ فَتُغَيَّرُ عَنِ الشَّأْنِ الْإِلَهِيِّ بِأَقْرَبِ الْأَفْعَالِ إِلَى مَعْنَاهُ.
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً.
الظَّاهِرُ أَنَّ الْوَاوَ عَاطِفَةٌ وَأَنَّ مَا بَعْدَ الْوَاوِ عِلَّةٌ كَمَا تَقْتَضِي لَامُ كَيْ فَتَعِيَّنَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ لِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ قَبْلَهُ فِي اللَّفْظِ أَوْ عَطْفٌ عَلَى تَعْلِيلٍ سَبَقَهُ. فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى بَعْضِ التَّعْلِيلَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ [الْفَتْح: ٤] أَوْ مِنْ قَوْلِهِ:
لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ [الْفَتْح: ٥] وَمَا بَينهمَا اعتراضا وَهُوَ وَإِنْ طَالَ فَقَدِ
اقْتَضَتْهُ التَّنَقُّلَاتُ الْمُتَنَاسِبَاتُ. وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِمَصَالِحَ لَهُمْ مِنْهَا ازْدِيَادُ إِيمَانِهِمْ وَاسْتِحْقَاقُهُمُ الْجَنَّةَ وَتَكْفِيرُ سَيِّئَاتِهِمْ
178
وَاسْتِحْقَاقُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ الْعَذَابَ، وَلِتَكُونَ السَّكِينَةُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، أَيْ عِبْرَةً لَهُمْ وَاسْتِدْلَالًا عَلَى لُطْفِ اللَّهِ بِهِمْ وَعَلَى أَنَّ وَعْدَهُ لَا تَأْوِيل فِيهِ.
وَمعنى كَوْنُ السَّكِينَةِ آيَةً أَنَّهَا سَبَبُ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِهِمُ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ فَخَلُصَتْ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَبَانَتْ لَهَا آيَاتُ اللَّهِ فَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ الْفِعْلِ لِأَنَّ مَعَادَهُ السَّكِينَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ يُثَارُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ لِغَايَاتٍ وَحِكَمٍ وَلِتَكُونَ آيَةً. فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ.
فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: لِيَحْصُلَ التَّعْجِيلُ لَكُمْ بِنَفْعٍ عِوَضًا عَمَّا تَرَقَّبْتُمُوهُ مِنْ مَنَافِعِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْمَغَانِمُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَمَنْ يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانِ عِنَايَتِهِ وَأَنَّهُ مُوفٍّ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ وَضَامِنٌ لَهُمْ نَصْرَهُمُ الْمَوْعُودَ كَمَا ضَمِنَ لَهُمُ الْمَغَانِمَ الْقَرِيبَةَ وَالنَّصْرَ الْقَرِيبَ. وَتِلْكَ الْآيَةُ تَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةَ إِيمَانٍ. وَضَمِيرُ لِتَكُونَ عَلَى هَذِهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: هذِهِ عَلَى أَنَّهَا الْمُعَلِّلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِغَايَاتٍ جَمَّةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا وَمِنْهَا سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ هُمْ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ادِّخَارًا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جُمْلَةَ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُعْتَرِضَةً، وَعَلَيْهِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ وَأَنَّ ضمير لِتَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَرَّةِ مِنْ فِعْلِ كَفَّ: أَيِ الْكَفَّةِ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ حِكْمَةٌ أُخْرَى، أَيْ لِيَزُولَ بِذَلِكَ مَا خَامَرَكُمْ مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ فَتَتَجَرَّدُ نُفُوسُكُمْ لِإِدْرَاكِ الْخَيْرِ الْمَحْضِ الَّذِي فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَإِحَالَتِكُمْ عَلَى الْوَعْدِ فَتُوقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فَتَزْدَادُوا يَقِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ وَيَهْدِيَكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء: ١٣٦] عَلَى أحد تأويلين.
وَمعنى كَوْنُ السَّكِينَةِ آيَةً أَنَّهَا سَبَبُ آيَةٍ لِأَنَّهُمْ لَمَّا نَزَلَتِ السَّكِينَةُ فِي قُلُوبِهِمُ اطْمَأَنَّتْ نُفُوسُهُمْ فَخَلُصَتْ إِلَى التَّدَبُّرِ وَالِاسْتِدْلَالِ فَبَانَتْ لَهَا آيَاتُ اللَّهِ فَتَأْنِيثُ ضَمِيرِ الْفِعْلِ لِأَنَّ مَعَادَهُ السَّكِينَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى تَعْلِيلٍ مَحْذُوفٍ يُثَارُ مِنَ الْكَلَامِ السَّابِقِ، حُذِفَ لِتَذْهَبَ نَفْسُ السَّامِعِ كُلَّ مَذْهَبٍ مُمْكِنٍ فِي تَقْدِيرِهِ تَوْفِيرًا لِلْمَعْنَى. وَالتَّقْدِيرُ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ لِغَايَاتٍ وَحِكَمٍ وَلِتَكُونَ آيَةً. فَهُوَ مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ الْمُقَدَّرِ.
فَالتَّقْدِيرُ مَثَلًا: لِيَحْصُلَ التَّعْجِيلُ لَكُمْ بِنَفْعٍ عِوَضًا عَمَّا تَرَقَّبْتُمُوهُ مِنْ مَنَافِعِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَلِتَكُونَ هَذِهِ الْمَغَانِمُ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مِنْكُمْ وَمَنْ يَعْرِفُونَ بِهَا أَنَّهُمْ مِنَ اللَّهِ بِمَكَانِ عِنَايَتِهِ وَأَنَّهُ مُوفٍّ لَهُمْ مَا وَعَدَهُمْ وَضَامِنٌ لَهُمْ نَصْرَهُمُ الْمَوْعُودَ كَمَا ضَمِنَ لَهُمُ الْمَغَانِمَ الْقَرِيبَةَ وَالنَّصْرَ الْقَرِيبَ. وَتِلْكَ الْآيَةُ تَزِيدُ الْمُؤْمِنِينَ قُوَّةَ إِيمَانٍ. وَضَمِيرُ لِتَكُونَ عَلَى هَذِهِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِهِ: هذِهِ عَلَى أَنَّهَا الْمُعَلِّلَةُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْخِصَالِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا مَجْمُوعُ قَوْلِهِ: فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ فَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ:
وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِغَايَاتٍ جَمَّةٍ مِنْهَا مَا ذُكِرَ آنِفًا وَمِنْهَا سَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ فِي وَقْتٍ هُمْ أَحْوَجُ فِيهِ إِلَى اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ مِنْهُمْ إِلَى قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ ادِّخَارًا لِلْمُسْتَقْبَلِ.
وَجَعَلَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» جُمْلَةَ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ مُعْتَرِضَةً، وَعَلَيْهِ فَالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ غَيْرُ عَاطِفَةٍ وَأَنَّ ضمير لِتَكُونَ عَائِدًا إِلَى الْمَرَّةِ مِنْ فِعْلِ كَفَّ: أَيِ الْكَفَّةِ.
وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً وَهُوَ حِكْمَةٌ أُخْرَى، أَيْ لِيَزُولَ بِذَلِكَ مَا خَامَرَكُمْ مِنَ الْكَآبَةِ وَالْحُزْنِ فَتَتَجَرَّدُ نُفُوسُكُمْ لِإِدْرَاكِ الْخَيْرِ الْمَحْضِ الَّذِي فِي أَمْرِ الصُّلْحِ وَإِحَالَتِكُمْ عَلَى الْوَعْدِ فَتُوقِنُوا أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ فَتَزْدَادُوا يَقِينًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ فِعْلُ وَيَهْدِيَكُمْ مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْإِدَامَةِ عَلَى الْهُدَى وَهُوَ: الْإِيمَانُ الْحَاصِلُ لَهُمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا [النِّسَاء: ١٣٦] عَلَى أحد تأويلين.
179
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢١]
وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١)هَذَا مِنْ عَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ فَقَوْلُهُ: أُخْرى مُبْتَدَأٌ مَوْصُوفٌ بِجُمْلَةِ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها وَالْخَبَرُ قَوْلُهُ: قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها.
وَمَجْمُوعُ الْجُمْلَةِ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً [الْفَتْح: ٢٠] فَلَفْظُ أُخْرى صِفَةٌ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَغانِمَ الَّذِي فِي الْجُمْلَةِ قَبْلَهَا، أَيْ هِيَ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ الْمَغَانِمِ صَعْبَةِ الْمَنَالِ، وَمَعْنَى الْمَغَانِمِ يَقْتَضِي غَانِمِينَ فَعُلِمَ أَنَّهَا لَهُمْ، أَيْ غَيْرَ الَّتِي وَعَدَهُمُ اللَّهُ بِهَا، أَيْ هَذِهِ لَمْ يَعِدْهُمُ اللَّهُ بِهَا، وَلَمْ نَجْعَلْ وَأُخْرى عَطْفًا عَلَى قَوْله هذِهِ [الْفَتْح: ٢٠] عَطْفَ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ غَنِيمَةً وَاحِدَةً بَلْ غَنَائِمَ كَثِيرَةً.
وَمَعْنَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها: أَنَّهَا مَوْصُوفَةٌ بِعَدَمِ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا، فَلَمَّا كَانَتْ جُمْلَةُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها صِفَةً لِ أُخْرى لَمْ يَقْتَضِ مَدْلُولُ الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ حَاوَلُوا الْحُصُولَ عَلَيْهَا فَلَمْ يَقْدِرُوا، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى: أَنَّ صِفَتَهَا عَدَمُ قُدْرَتِكُمْ عَلَيْهَا فَلَمْ تَتَعَلَّقْ أَطْمَاعُكُمْ بِأَخْذِهَا.
وَالْإِحَاطَةُ بِالْهَمْزِ: جَعْلُ الشَّيْءِ حَائِطًا أَيْ حَافِظًا، فَأَصْلُ هَمْزَتِهِ لِلْجَعْلِ وَصَارَ بِالِاسْتِعْمَالِ قَاصِرًا، وَمَعْنَاهُ: احْتَوَى عَلَيْهِ وَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ منصرفا فول عَلَى شِدَّةِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ قَالَ تَعَالَى: لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ [يُوسُف: ٦٦] أَيْ إِلَّا أَنْ تُغْلَبُوا غَلَبًا لَا تَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ الْإِتْيَانَ بِهِ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَيْهَا، أَيْ قَدَرَ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا لَكُمْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها. وَالْمَعْنَى: وَمَغَانِمُ أُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَى نَيْلِهَا قَدْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيْهَا، أَي فَأَنا لكم إِيَّاهَا.
وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِإِعْلَامِهِمْ بِأَنَّ اللَّهَ قَدَرَ عَلَى مَا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ جَدْوَى لِأَنَّهُمْ لَا يَجْهَلُونَ ذَلِكَ، أَيْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا لِأَجْلِكُمْ، وَفِي مَعْنَى الْإِحَاطَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهَا كَالشَّيْءِ الْمُحَاطِ بِهِ مِنْ جَوَانِبِهِ فَلَا يَفُوتُهُمْ مَكَانُهُ، جُعِلَتْ كَالْمَخْبُوءِ لَهُمْ. وَلِذَلِكَ ذَيَّلَ بِقَوْلِهِ: وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً إِذْ هُوَ أَمْرٌ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِهِمْ.
فَعُلِمَ أَنَّ الْآيَةَ أَشَارَتْ إِلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنَ الْمَغَانِمِ: نَوْعٌ مِنْ مَغَانِمَ مَوْعُودَةٍ لَهُمْ قَرِيبَةِ الْحُصُولِ وَهِيَ مَغَانِمُ خَيْبَرَ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ مَرْجُوَّةٌ كَثِيرَةٌ غَيْرُ مُعَيَّنٍ وَقْتُ حُصُولِهَا، وَمِنْهَا مَغَانِمُ يَوْمِ حُنَيْنٍ وَمَا بَعْدَهُ مِنَ الْغَزَوَاتِ، وَنَوْعٌ هُوَ مَغَانِمُ عَظِيمَةٌ لَا يَخْطُرُ بِبَالِهِمْ نُوَالُهَا قَدْ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَعَلَّهَا مَغَانِمُ بِلَادِ الرُّومِ وَبِلَادِ الْفُرْسِ وَبِلَادِ الْبَرْبَرِ. وَفِي الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ هَذَا النَّوْعَ الْأَخِيرَ لَا يَنَالُهُ جَمِيعُ الْمُخَاطَبِينَ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ فِي ذِكْرِهِ بِضَمِيرِهِمْ، وَهُوَ
الَّذِي تَأَوَّلَهُ عُمَرُ فِي عَدَمِ قِسْمَةِ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبَعْضَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ عَنْهُمْ نِعْمَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ وَعِدَّتِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ. وَلَيْسَ الْكَفُّ لِدَفْعِ غَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ فَلَوْ قَاتَلَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا، أَيْ لَمْ يَنْتَصِرُوا بِجَمْعِهِمْ وَلَا بِمَنْ يُعِينُهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مَا أُرِيدَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِ النَّاسِ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَوْ قَاتَلُوكُمْ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ فِي قِتَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.
الَّذِي تَأَوَّلَهُ عُمَرُ فِي عَدَمِ قِسْمَةِ سَوَادِ الْعِرَاقِ وَقَرَأَ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ [الْحَشْر: ١٠].
[٢٢، ٢٣]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : الْآيَات ٢٢ إِلَى ٢٣]
وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (٢٣)
هَذَا عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] عَلَى أَنَّ بَعْضَهُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وَبَعْضَهُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فَمَا بَيْنَهُمَا لَيْسَ مِنْ الِاعْتِرَاضِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْعَطْفِ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِي النَّاسِ عَنْهُمْ نِعْمَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِاسْتِبْقَاءِ قُوَّتِهِمْ وَعِدَّتِهِمْ وَنَشَاطِهِمْ. وَلَيْسَ الْكَفُّ لِدَفْعِ غَلَبَةِ الْمُشْرِكِينَ إِيَّاهُمْ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لِلْمُسْلِمِينَ عَاقِبَةَ النَّصْرِ فَلَوْ قَاتَلَهُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهَزَمَهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَجِدُوا نَصِيرًا، أَيْ لَمْ يَنْتَصِرُوا بِجَمْعِهِمْ وَلَا بِمَنْ يُعِينُهُمْ.
وَالْمُرَادُ بِالَّذِينَ كَفَرُوا مَا أُرِيدَ بِالنَّاسِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ. وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ الْإِتْيَانَ بِضَمِيرِ النَّاسِ بِأَنْ يُقَالَ: وَلَوْ قَاتَلُوكُمْ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الِاسْمِ الظَّاهِرِ لِمَا فِي الصِّلَةِ مِنَ الْإِيمَاءِ إِلَى وَجْهِ بِنَاءِ الْخَبَرِ وَهُوَ أَنَّ الْكُفْرَ هُوَ سَبَبُ تَوْلِيَةِ الْأَدْبَارِ فِي قِتَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ تَمْهِيدًا لِقَوْلِهِ: سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ.
181
وَ (الْأَدْبارَ) مَنْصُوبٌ عَلَى أَنَّهُ مفعول ثَان لولوا وَمَفْعُولُهُ الْأَوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلَالَةِ ضَمِيرِ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: لَوَلَّوْكُمُ الْأَدْبَارَ.
وأل لِلْعَهْدِ، أَيْ أَدْبَارَهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّ أل فِي مَثْلِهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَعْنَوِيٌّ.
وَالتَّوْلِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَالِيًا، أَيْ لَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ تَلِيكُمْ، أَيِ ارْتَدُّوا إِلَى وَرَائِهِمْ فَصِرْتُمْ وَرَاءَهُمْ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ أَشُدُّ عَلَى الْمُنْهَزِمِ من انهزامه لِأَن حِينَ يَنْهَزِمُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يُنْجِدُهُ فَيَكُرُّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ هَزَمُوهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ وَمَا وَجَدُوا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي وَالصَّدِيقُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّصِيرِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيُّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى
إِيوَاءِ وَلَيِّهِ وَإِسْعَافِهِ.
وَالسُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، أَيْ جَعَلَهُ عَادَةً لَهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ دِينِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: ٧] وَقَالَ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: ٤٠]، أَيْ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ حُرُوبِهِمْ نَصْرًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْلَبُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣] وَقَالَ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢].
وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالُ النَّصْرِ عَلَى حَسَبِ ضَرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ غَالِبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ فَيَكُونُ النَّصْرُ تَامًّا فِي حَالَةِ الْخَطَرِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَكُونُ سِجَالًا فِي حَالَةِ السِّعَةِ كَمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ»
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٢٨]،
وأل لِلْعَهْدِ، أَيْ أَدْبَارَهُمْ، وَلِذَلِكَ يَقُولُ كَثِيرٌ مِنَ النُّحَاةِ إِنَّ أل فِي مَثْلِهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ وَهُوَ تَعْوِيضٌ مَعْنَوِيٌّ.
وَالتَّوْلِيَةُ: جَعْلُ الشَّيْءِ وَالِيًا، أَيْ لَجَعَلُوا ظُهُورَهُمْ تَلِيكُمْ، أَيِ ارْتَدُّوا إِلَى وَرَائِهِمْ فَصِرْتُمْ وَرَاءَهُمْ.
وثُمَّ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ فَإِنَّ عَدَمَ وِجْدَانِ الْوَلِيِّ وَالنَّصِيرِ أَشُدُّ عَلَى الْمُنْهَزِمِ من انهزامه لِأَن حِينَ يَنْهَزِمُ قَدْ يَكُونُ لَهُ أَمَلٌ بِأَنْ يَسْتَنْصِرَ مَنْ يُنْجِدُهُ فَيَكُرُّ بِهِ عَلَى الَّذِينَ هَزَمُوهُ فَإِذَا لَمْ يَجِدْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا تَحَقَّقَ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْتَصِرٍ وَأَصْلُ الْكَلَامِ لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ وَمَا وَجَدُوا وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا.
وَالْوَلِيُّ: الْمُوَالِي وَالصَّدِيقُ، وَهُوَ أَعَمُّ مِنَ النَّصِيرِ إِذْ قَدْ يَكُونُ الْوَلِيُّ غَيْرَ قَادِرٍ عَلَى
إِيوَاءِ وَلَيِّهِ وَإِسْعَافِهِ.
وَالسُّنَّةُ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ. وَانْتَصَبَ سُنَّةَ اللَّهِ نِيَابَةً عَنِ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْآتِي بَدَلًا مِنْ فِعْلِهِ لِإِفَادَةِ مَعْنَى تَأْكِيدِ الْفِعْلِ الْمَحْذُوفِ. وَالْمَعْنَى: سَنَّ اللَّهُ ذَلِكَ سُنَّةً، أَيْ جَعَلَهُ عَادَةً لَهُ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ إِذَا كَانَتْ نِيَّةُ الْمُؤْمِنِينَ نَصْرَ دِينِ اللَّهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [مُحَمَّد: ٧] وَقَالَ: وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ [الْحَج: ٤٠]، أَيْ أَنَّ اللَّهَ ضَمِنَ النَّصْرَ لِلْمُؤْمِنِينَ بِأَنْ تَكُونَ عَاقِبَةُ حُرُوبِهِمْ نَصْرًا وَإِنْ كَانُوا قَدْ يُغْلَبُونَ فِي بَعْضِ الْمَوَاقِعِ كَمَا وَقَعَ يَوْمَ أُحُدٍ وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْقَصَص: ٨٣] وَقَالَ: وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى [طه: ١٣٢].
وَإِنَّمَا يَكُونُ كَمَالُ النَّصْرِ عَلَى حَسَبِ ضَرُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَعَلَى حَسَبِ الْإِيمَانِ وَالتَّقْوَى، وَلِذَلِكَ كَانَ هَذَا الْوَعْدُ غَالِبًا لِلرَّسُولِ وَمَنْ مَعَهُ فَيَكُونُ النَّصْرُ تَامًّا فِي حَالَةِ الْخَطَرِ كَمَا كَانَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَكُونُ سِجَالًا فِي حَالَةِ السِّعَةِ كَمَا فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ
قَول النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ بَدْرٍ: «اللَّهُمَّ إِنْ تَهْلِكْ هَذِهِ الْعِصَابَةُ لَا تَعْبُدُ فِي الْأَرْضِ»
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الْأَعْرَاف: ١٢٨]،
182
وَيَكُونُ لِمَنْ بعد الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جُيُوشِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى حَسَبِ تَمَسُّكِهِمْ بوصايا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي زمَان يَغْزُو فآم مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَاحَبَ النَّبِيءِ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ»
. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ اجْتِلَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ نُوِيَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى لَفْظِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ بُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى اطِّرَادِهَا وَثَبَاتِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٢١].
وَلما وصف تِلْكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا رَاسِخَةٌ فِيمَا مَضَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِهَا بِالتَّحَقُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْمِيمًا لِلْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ النَّصْرِ فِي مُخْتَلَفِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَإِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ
تَأْيِيدَ أَحْزَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ إِرَادَةِ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٤]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] وَهَذَا كَفٌّ غَيْرُ الْكَفِّ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَأْتِي زمَان يَغْزُو فآم مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ عَلَيْهِ، ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ أَصْحَابَ النَّبِيءَ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ ثُمَّ يَأْتِي زَمَانٌ فَيُقَالُ: فِيكُمْ مَنْ صَحِبَ مَنْ صَاحَبَ النَّبِيءِ؟ فَيُقَالُ: نَعَمْ فَيُفْتَحُ»
. وَمَعْنَى خَلَتْ مَضَتْ وَسَبَقَتْ مِنْ أَقْدَمِ عُصُورِ اجْتِلَادِ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَالْمُضَافُ إِلَيْهِ قَبْلُ مَحْذُوفٌ نُوِيَ مَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ، أَيْ لَيْسَ فِي الْكَلَامِ دَالٌّ عَلَى لَفْظِهِ وَلَكِنْ يَدُلُّ عَلَيْهِ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَلِذَلِكَ بُنِيَ قَبْلُ عَلَى الضَّمِّ. وَفَائِدَةُ هَذَا الْوَصْفِ الدَّلَالَةُ عَلَى اطِّرَادِهَا وَثَبَاتِهَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ الرُّسُلِ قَالَ تَعَالَى: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة: ٢١].
وَلما وصف تِلْكَ السُّنَّةُ بِأَنَّهَا رَاسِخَةٌ فِيمَا مَضَى أَعْقَبَ ذَلِكَ بِوَصْفِهَا بِالتَّحَقُّقِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ تَعْمِيمًا لِلْأَزْمِنَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لِأَنَّ اطِّرَادَ ذَلِكَ النَّصْرِ فِي مُخْتَلَفِ الْأُمَمِ وَالْعُصُورِ وَإِخْبَارَ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَلَى لِسَانِ رُسُلِهِ وَأَنْبِيَائِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ
تَأْيِيدَ أَحْزَابِهِ فَيَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ كَائِنٌ أَنْ يَحُولَ دُونَ إِرَادَةِ الله تَعَالَى.
[٢٤]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٤]
وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ [الْفَتْح: ٢٠] وَهَذَا كَفٌّ غَيْرُ الْكَفِّ الْمُرَادِ مِنْ قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَتَقْدِيمُ الْمُسْنَدُ إِلَيْهِ عَلَى الْخَبَرِ الْفِعْلِيِّ لِإِفَادَةِ التَّخْصِيصِ، أَيِ الْقَصْرِ، أَيْ لَمْ
183
يَكُفُّهُمْ عَنْكُمْ وَلَا كَفَّكُمْ عَنْهُمْ إِلَّا اللَّهَ تَعَالَى، لَا أَنْتُمْ وَلَا هُمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُرِيدُونَ الشَّرَّ بِكُمْ وَأَنْتُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ كُنْتُمْ تُرِيدُونَ قَتْلَهُمْ أَوْ أَسْرَهُمْ فَإِنَّ دَوَاعِيَ امْتِدَادِ أَيْدِيهِمْ إِلَيْكُمْ وَامْتِدَادِ أَيْدِيكُمْ إِلَيْهِمْ مُتَوَفِّرَةٌ فَلَوْلَا أَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ مَوَانِعَ لَهُمْ وَلَكُمْ لَاشْتَبَكْتُمْ فِي الْقِتَالِ، فَكَفَّ أَيْدِيَهِمْ عَنْكُمْ بِأَنْ نَبَّهَكُمْ إِلَيْهِمْ قَبْلَ أَنْ يُفَاجِئُوكُمْ وَكَفَّ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ حِينَ أَمر رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيُطْلِقَهُمْ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَفَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ أَوْجَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِرَادَتِهِ عَدَمَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ مِثْلُ الْمِنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ يَسَّرَهُ اللَّهُ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَإِبْقَاءً عَلَى قُوَّتِهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَفَّ وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ «أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَدَّرُ بِسِتَّةٍ أَوْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْ بِثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ مُسَلَّحِينَ نَزَلُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ فَفَطِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ دُونَ حَرْب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِمْ» وَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ السُّفَرَاءُ يَمْشُونَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَلَعَلَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ تَجَنُّبًا لِمَا يُعَكِّرُ صَفْوَ الصُّلْحِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: ٢٢] وَوَجْهُ عَوْدِهِ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ فَرِيقٌ غَيْرَ الْفَرِيقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِ الْعَرَبِ جَارٍ عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ يُنْسَبُ إِلَى
الْقَوْمِ بِدُونِ تَمْيِيزٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٣] فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَسَاسِ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَطْنِ جَوْفُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعَانِي الْمُنْخَفَضِ مِنَ الشَّيْءِ أَوِ الْمُتَوَسِّطِ مَجَازٌ، قَالَ
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَعْنَى كَفَّ فِي قَوْلِهِ آنِفًا وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ أَحَدٌ مِنَ الْفَرِيقَيْنِ الِاعْتِدَاءَ عَلَى الْفَرِيقِ الْآخَرِ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَانَ بِأَسْبَابٍ أَوْجَدَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِإِرَادَتِهِ عَدَمَ الْقِتَالِ بَيْنَهُمْ، وَهِيَ مِنَّةٌ ثَانِيَةٌ مِثْلُ الْمِنَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ.
وَهَذِهِ الْآيَةُ أَشَارَتْ إِلَى كَفٍّ عَنِ الْقِتَالِ يَسَّرَهُ اللَّهُ رِفْقًا بِالْمُسْلِمِينَ وَإِبْقَاءً عَلَى قُوَّتِهِمْ فِي وَقْتِ حَاجَتِهِمْ إِلَى ذَلِكَ بَعْدَ وَقْعَةِ بَدْرٍ وَوَقْعَةِ أُحُدٍ، وَاتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ الْأَوَّلُونَ عَلَى أَنَّ هَذَا الْكَفَّ وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. وَهَذَا يُشِيرُ إِلَى مَا رُوِيَ مِنْ طُرُقٍ مُخْتَلِفَةٍ وَبَعْضُهَا فِي سُنَنِ التِّرْمِذِيِّ وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَفِي بَعْضِهَا زِيَادَةٌ عَلَى بَعْضٍ «أَنَّ جَمْعًا مِنَ الْمُشْرِكِينَ يُقَدَّرُ بِسِتَّةٍ أَوْ بِاثْنَيْ عَشَرَ أَوْ بِثَلَاثِينَ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ ثَمَانِينَ مُسَلَّحِينَ نَزَلُوا إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْخُذُوا الْمُسْلِمِينَ عَلَى غِرَّةٍ فَفَطِنَ لَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فَأَخَذُوهُمْ دُونَ حَرْب النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِطْلَاقِهِمْ» وَكَانَ ذَلِكَ أَيَّامَ كَانَ السُّفَرَاءُ يَمْشُونَ بَين النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَين أَهْلِ مَكَّةَ وَلَعَلَّ النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَطْلَقَهُمْ تَجَنُّبًا لِمَا يُعَكِّرُ صَفْوَ الصُّلْحِ.
وَضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ رَاجِعَةٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: ٢٢] وَوَجْهُ عَوْدِهِ إِلَيْهِ مَعَ أَنَّ الَّذِينَ كَفَّ اللَّهُ أَيْدِيَهُمْ فَرِيقٌ غَيْرَ الْفَرِيقِ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا هُوَ أَنَّ عُرْفَ كَلَامِ الْعَرَبِ جَارٍ عَلَى أَنَّ مَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ الْقَوْمِ يُنْسَبُ إِلَى
الْقَوْمِ بِدُونِ تَمْيِيزٍ كَمَا تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [٦٣] فِي قَوْلِهِ: وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ.
وَقَوْلُهُ: بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَسَاسِ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْبَطْنِ جَوْفُ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنَّ اسْتِعْمَالَهُ فِي مَعَانِي الْمُنْخَفَضِ مِنَ الشَّيْءِ أَوِ الْمُتَوَسِّطِ مَجَازٌ، قَالَ
184
الرَّاغِبُ: وَيُقَالُ لِلْجِهَةِ السُّفْلَى بَطْنٌ، وَلِلْعُلْيَا ظَهْرٌ. وَيُقَالُ: بَطْنُ الْوَادِي لِوَسَطِهِ. وَالْمَعْرُوفُ مِنْ إِطْلَاقِ لَفْظِ الْبَطْنِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى الْمَكَانِ أَنْ يُرَادَ بِهِ وَسَطُ الْمَكَانِ كَمَا فِي قَوْلِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ:
أَيْ فِي وَسَطِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ فَإِنَّ قَائِلَ: زُولُوا، هُوَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَوْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمَطَّلِبِ، غَيْرَ أَنَّ مَحْمَلَ ذَلِكَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ بَيِّنٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ وُقُوعُ اخْتِلَاطٍ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي وَسَطِ مَكَّةَ يُفْضِي إِلَى الْقِتَالِ حَتَّى يُمْتَنَّ عَلَيْهِمْ بِكَفِّ أَيْدِي بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ وَكُلُّ مَا وَقع مِمَّا قد يُفْضِي إِلَى الْقِتَالِ فَإِنَّمَا وَقَعَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ. فَجُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ حَمَلُوا بَطْنَ مَكَّةَ فِي الْآيَةِ عَلَى الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ إِطْلَاقِ الْبَطْنِ عَلَى أَسْفَلِ الْمَكَانِ، وَالْحُدَيْبِيَةُ قَرِيبَةٌ مَنْ مَكَّةَ وَهِيَ مِن الْحِلِّ وَبَعْضُ أَرْضِهَا مِنَ الْحَرَمِ وَهِيَ عَلَى الطَّرِيقِ بَيْنَ مَكَّةَ وَجُدَّةَ وَهِيَ إِلَى مَكَّةَ أَقْرَبُ وَتُعْرَفُ الْيَوْمَ بَاسِمِ الشَّمِيسِي، وَجَعَلُوا الْآيَةَ تُشِيرُ إِلَى الْقِصَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» وَغَيْرِهِ بِرِوَايَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ وَهِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا. وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ فِي تِلْكَ الْقِصَّةِ: أَنَّ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ اتَّبَعُوا الْعَدُوَّ إِلَى أَنْ دَخَلُوا بُيُوتَ مَكَّةَ وَقَتَلُوا مِنْهُمْ وَأَسَرُوا فَيَكُونُ بَطْنُ مَكَّةَ مَحْمُولًا عَلَى مَشْهُورِ اسْتِعْمَالِهِ، وَهَذَا خَبَرٌ مُضْطَرِبٌ وَمُنَافٍ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ:
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَحْمَلَ فَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ وَيُخَالِفُ كَلَامَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْمَقْصُودِ، هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِبَطْنِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ كَفَّ، أَيْ كَانَ الْكَفُّ فِي بَطْنِ مَكَّةَ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرَيْ عَنْكُمْ وعَنْهُمْ وَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الصُّلْحُ فَدَخَلْتُمْ مُحَارِبِينَ كَمَا رَغِبَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَرِهُوا الصُّلْحَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيكون إِطْلَاق بِبَطْنِ مَكَّةَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ، أَيْ فِي وَسَطِ مَدِينَةِ مَكَّةَ.
فِي فِتْيَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ | بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا |
كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَبْعَدَ الْمَحْمَلَ فَجَعَلَ الْآيَةَ نَازِلَةً فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَهَذَا لَا يُنَاسِبُ سِيَاقَ السُّورَةِ وَيُخَالِفُ كَلَامَ السَّلَفِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَهُمْ أَعْلَمُ بِالْمَقْصُودِ، هَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ: بِبَطْنِ مَكَّةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلِ كَفَّ، أَيْ كَانَ الْكَفُّ فِي بَطْنِ مَكَّةَ.
وَيَجُوزُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ بِبَطْنِ مَكَّةَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا هُوَ حَالٌ مِنْ ضَمِيرَيْ عَنْكُمْ وعَنْهُمْ وَهُوَ حَالٌ مُقَدَّرَةٌ، أَيْ لَوْ كُنْتُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ، أَيْ لَوْ لَمْ يَقَعِ الصُّلْحُ فَدَخَلْتُمْ مُحَارِبِينَ كَمَا رَغِبَ الْمُسْلِمُونَ الَّذِينَ كَرِهُوا الصُّلْحَ كَمَا تَقَدَّمَ فَيكون إِطْلَاق بِبَطْنِ مَكَّةَ جَارِيًا عَلَى الِاسْتِعْمَالِ الشَّائِعِ، أَيْ فِي وَسَطِ مَدِينَةِ مَكَّةَ.
185
وَلِهَذَا أُوثِرَتْ مَادَّةُ الظَّفَرِ فِي قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ دُونَ أَنْ يُقَالَ: مِنْ بَعْدِ أَنْ نَصَرَكُمْ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّ الظَّفَرَ هُوَ الْفَوْزُ بِالْمَطْلُوبِ فَلَا يَقْتَضِي وُجُودَ قِتَالٍ فَالظَّفَرُ أَعَمُّ مِنَ النَّصْرِ، أَيْ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَنَالَكُمْ مَا فِيهِ نَفْعُكُمْ وَهُوَ هُدْنَةُ الصُّلْحِ وَأَنْ تَعُودُوا إِلَى الْعُمْرَةِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
وَمُنَاسِبَةُ تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ إِذْ نَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ وَكَانُوا أَنْصَارًا لِأَهْلِ مَكَّةَ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ كَفَّ بِاعْتِبَارِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ، أَعْنِي: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَفُّ الَّذِي حَصَلَ بَعْدَ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفِئَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ كَانَ للْمُسلمين إِذا مَنُّوا عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. فَعُدِّيَ أَظْفَرَكُمْ بِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَيَّدَكُمْ وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْبَصِيرُ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، أَيْ عَلِيمًا بِعَمَلِكُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ وَسُقْتُمُوهُمْ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ قَاتِلُوهُمْ أَوْ آسِرُوهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ عَلِيمًا بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ انْحِدَارِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْكُمْ طَامِعِينَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ وَيَعْمَلُونَ بَصِيرًا، أَوْ بِمَا يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ بَصِيرًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يُفِيدُ عَمَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ، أَيْ عَلِمَ نَوَايَاكُمْ فَكَفَّهَا لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِكُمْ وَحُسْنِ سُمْعَتِكُمْ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَأَنْ لَا يَجِدَ الْمُشْرِكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّظَلُّمِ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ
وَمُنَاسِبَةُ تَعْرِيفِ ذَلِكَ الْمَكَانِ بِهَذِهِ الْإِضَافَةِ الْإِشَارَةُ إِلَى أَنَّ جَمْعَ الْمُشْرِكِينَ نَزَلُوا مِنْ أَرْضِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ إِذْ نَزَلُوا مِنْ جَبَلِ التَّنْعِيمِ وَهُوَ مِنَ الْحَرَمِ وَكَانُوا أَنْصَارًا لِأَهْلِ مَكَّةَ.
وَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ بِفِعْلِ كَفَّ بِاعْتِبَارِ تَعْدِيَتِهِ إِلَى الْمَعْطُوفِ عَلَى مَفْعُولِهِ، أَعْنِي: وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ لِأَنَّهُ هُوَ الْكَفُّ الَّذِي حَصَلَ بَعْدَ ظَفَرِ الْمُسْلِمِينَ بِفِئَةِ الْمُشْرِكِينَ عَلَى حَسَبِ تِلْكَ الرِّوَايَةِ وَالْقَرِينَةُ ظَاهِرَةٌ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ. وَهَذَا إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ كَفَّ أَيْدِيَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ كَانَ للْمُسلمين إِذا مَنُّوا عَلَى الْعَدْوِ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. فَعُدِّيَ أَظْفَرَكُمْ بِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى أَيَّدَكُمْ وَإِلَّا فَحَقُّهُ أَنْ يُعَدَّى بِالْبَاءِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً تَذْيِيلٌ لِلَّتِي قَبْلَهَا، وَالْبَصِيرُ بِمَعْنَى الْعَلِيمِ بِالْمَرْئِيَّاتِ، أَيْ عَلِيمًا بِعَمَلِكُمْ حِينَ أَحَطْتُمْ بِهِمْ وَسُقْتُمُوهُمْ إِلَى النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَظُنُّونَ أَنَّكُمْ قَاتِلُوهُمْ أَوْ آسِرُوهُمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَعْمَلُونَ بِتَاءِ الْخِطَابِ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ بِيَاءِ الْغَيْبَةِ، أَيْ عَلِيمًا بِمَا يَعْمَلُونَ مِنَ انْحِدَارِهِمْ عَلَى غِرَّةٍ مِنْكُمْ طَامِعِينَ أَنْ يَتَمَكَّنُوا مِنْ أَنْ يَغْلِبُوكُمْ وَفِي كِلْتَا الْقِرَاءَتَيْنِ اكْتِفَاءٌ، أَيْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ وَيَعْمَلُونَ بَصِيرًا، أَوْ بِمَا يَعْمَلُونَ وَتَعْمَلُونَ بَصِيرًا، لِأَنَّ قَوْلَهُ: كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ يُفِيدُ عَمَلًا لِكُلِّ فَرِيقٍ، أَيْ عَلِمَ نَوَايَاكُمْ فَكَفَّهَا لِحِكْمَةِ اسْتِبْقَاءِ قُوَّتِكُمْ وَحُسْنِ سُمْعَتِكُمْ بَيْنَ قَبَائِلِ الْعَرَبِ وَأَنْ لَا يَجِدَ الْمُشْرِكُونَ ذَرِيعَةً إِلَى التَّظَلُّمِ مِنْكُمْ بِالْبَاطِلِ
186
[٢٥]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٥]هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (٢٥)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
اسْتِئْنَافٌ انْتَقَلَ بِهِ مِنْ مَقَامِ الثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَايَعُوا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا اكْتَسَبُوا بِتِلْكَ الْبيعَة من رضى اللَّهِ تَعَالَى وَجَزَائِهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ وَخَيْرِ الدُّنْيَا عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، وَضَمَانِ النَّصْرِ لَهُمْ فِي قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا هَيَّأَ لَهُمْ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ إِلَى تَعْيِيرِ الْمُشْرِكِينَ بِالْمَذَمَّةِ الَّتِي أَتَوْا بِهَا وَهِيَ صَدُّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَصَدُّ الْهَدْيِ عَنْ أَنْ يُبْلَغَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ، فَإِنَّهَا سُبَّةٌ لَهُمْ بَيْنَ الْعَرَبِ وَهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِالْحَفَاوَةِ بِمَنْ يَعْتَمِرُونَ، وَهُمْ
يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَرَمِ الله زواره ومعظّميه، وَقَدْ كَانَ مِنْ عَادَتِهِمْ قَبُولُ كُلُّ زَائِرٍ لِلْكَعْبَةِ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ، فَلَا عُذْرَ لَهُمْ فِي مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَكِنَّهُمْ حَمَلَتْهُمْ عَلَيْهِ الْحَمِيَّةُ.
وَضَمِيرُ الْغَيْبَةِ الْمُفْتَتَحُ بِهِ عَائِدٌ إِلَى الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ [الْفَتْح: ٢٢] الْآيَةَ. وَالْمَقْصُودُ بِالِافْتِتَاحِ بِضَمِيرِهِمْ هُنَا لِاسْتِرْعَاءِ السَّمْعِ لِمَا يَرِدُ بَعْدَهُ مِنَ الْخَبَرِ كَمَا إِذَا جَرَّهُ حَدِيثٌ عَنْ بَطَلٍ فِي يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ الْعَرَبِ ثُمَّ قَالَ قَائِل عَثْرَة هُوَ الْبَطن الْمُحَامِي.
وَالْمَقْصُودُ مِنَ الصِّلَةِ هُوَ جُمْلَةُ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَذِكْرُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِدْمَاجٌ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهِمْ بِوَصْفِ الْكُفْرِ وَلِهَذَا الْإِدْمَاجِ نُكْتَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ أَنَّ وَصْفَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ صَارَ الْمَوْصُولُ فِي قُوَّةِ الْمُعَرَّفِ بِلَامِ الْجِنْسِ فَتُفِيدُ جُمْلَةُ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا قَصْرَ جِنْسِ الْكُفْرِ عَلَى هَذَا الضَّمِيرِ لِقَصْدِ الْمُبَالَغَةِ لِكَمَالِهِمْ فِي الْكُفْرِ بِصَدِّهِمُ الْمُعْتَمِرِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَصَدِّ الْهَدْيِ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
وَالْهَدْيُ: مَا يُهْدَى إِلَى الْكَعْبَةِ مِنَ الْأَنْعَامِ، وَهُوَ مِنَ التَّسْمِيَةِ بِاسْمِ الْمَصْدَرِ وَلِذَلِكَ يَسْتَوِي فِيهِ الْوَاحِدُ وَالْجَمْعُ كَحُكْمِ الْمَصْدَرِ قَالَ تَعَالَى: وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ [الْمَائِدَة: ٩٧] أَيِ الْأَنْعَامَ الْمَهْدِيَّةَ وَقَلَائِدَهَا وَهُوَ هُنَا الْجَمْعُ.
وَالْمَعْكُوفُ: اسْمُ مفعول عكفه، إِذْ أَلْزَمُهُ الْمُكْثُ فِي مَكَانٍ، يُقَالُ: عَكَفَهُ فَعَكَفَ فَيُسْتَعْمَلُ قَاصِرًا وَمُتَعَدِّيًا عَنِ ابْنِ سِيدَهْ وَغَيْرِهِ كَمَا يُقَالُ: رَجَعَهُ فَرَجَعَ
187
وَجَبَرَهُ فَجَبَرَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لَا أَعْرِفُ عَكَفَ مُتَعَدِّيًا، وَتَأَوَّلَ صِيغَةَ الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
مَعْكُوفاً عَلَى أَنَّهَا لِتَضْمِينِ عَكَفَ مَعْنَى حَبَسَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّشْنِيعُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي صَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ بِأَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا أَنْ تَبْلُغَ مَحِلَّهَا حَيْثُ اضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ عَطَّلُوا بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فَفِي ذِكْرِ الْحَالِ تَصْوِيرٌ لِهَيْئَةِ الْهَدَايَا وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ.
وَمَعْنَى صَدِّهِمُ الْهَدْيَ: أَنَّهُمْ صَدُّوا أَهْلَ الْهَدْيِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَرَضُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَخْلِيَةَ مَنْ يَذْهَبُ بِهَدَايَاهُمْ إِلَى مَكَّةَ لِتُنْحَرَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الْهَدْيَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ وَهُوَ (عَنْ)، أَيْ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
وَالْمَحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ: مَحَلُّ الْحِلِّ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ حَلَّ ضِدُّ حَرُمَ، أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يجزىء غَيْرُهُ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ بِالْمَرْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَمِرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُحْصِرُوا أَمَرَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدْيَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ إِذْ تَعَذَّرَ إِبْلَاغُهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِتَوَخِّي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلنَّحْرِ مِنْ أَرْضِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ سَمَاحَةِ الدِّينِ فَلَا طَائِلَ مِنْ وَرَاءِ الْخَوْضِ فِي اشْتِرَاطِ النَّحْرِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ لِلْمُحْصَرِ.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أَتْبَعَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ سُوءَ فِعْلِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعْطِيلِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَعْدَهُ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ، بِمَا يَدْفَعُ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ بِقُوَّتِهِمْ، وَيُسْكِنُ تَطَلُّعَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعْجِيلِ الْفَتْحِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ مَا قَرَّرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
مَعْكُوفاً عَلَى أَنَّهَا لِتَضْمِينِ عَكَفَ مَعْنَى حَبَسَ. وَفَائِدَةُ ذِكْرِ هَذَا الْحَالِ التَّشْنِيعُ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فِي صَدِّهِمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْبَيْتِ بِأَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا أَنْ تَبْلُغَ مَحِلَّهَا حَيْثُ اضْطَرَّ الْمُسْلِمُونَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدَايَاهُمْ فِي الْحُدَيْبِيَةِ فَقَدْ عَطَّلُوا بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ شَعِيرَةً مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ، فَفِي ذِكْرِ الْحَالِ تَصْوِيرٌ لِهَيْئَةِ الْهَدَايَا وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ.
وَمَعْنَى صَدِّهِمُ الْهَدْيَ: أَنَّهُمْ صَدُّوا أَهْلَ الْهَدْيِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى الْمَنْحَرِ مِنْ مِنًى.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ: أَنَّهُمْ صَدُّوا الْهَدَايَا مُبَاشَرَةً لِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ عَرَضُوا عَلَى الْمُشْرِكِينَ تَخْلِيَةَ مَنْ يَذْهَبُ بِهَدَايَاهُمْ إِلَى مَكَّةَ لِتُنْحَرَ بِهَا.
وَقَوْلُهُ: أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أَنْ يَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ الْهَدْيَ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْمُولًا لِحَرْفِ جَرٍّ مَحْذُوفٍ وَهُوَ (عَنْ)، أَيْ عَنْ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
وَالْمَحِلُّ بِكَسْرِ الْحَاءِ: مَحَلُّ الْحِلِّ مُشْتَقٌّ مِنْ فِعْلِ حَلَّ ضِدُّ حَرُمَ، أَيِ الْمَكَانُ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ نَحْرُ الْهَدْيِ، وَهُوَ الَّذِي لَا يجزىء غَيْرُهُ، وَذَلِكَ بِمَكَّةَ بِالْمَرْوَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُعْتَمِرِ، وَلِذَلِكَ لَمَّا أُحْصِرُوا أَمَرَهُمْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْحَرُوا هَدْيَهُمْ فِي مَكَانِهِمْ إِذْ تَعَذَّرَ إِبْلَاغُهُ إِلَى مَكَّةَ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ مَنَعُوهُمْ مِنْ ذَلِكَ. وَلَمْ يَثْبُتْ فِي السُّنَّةِ أَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَهُمْ بِتَوَخِّي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ لِلنَّحْرِ مِنْ أَرْضِ الْحُدَيْبِيَةِ، وَذَلِكَ مِنْ سَمَاحَةِ الدِّينِ فَلَا طَائِلَ مِنْ وَرَاءِ الْخَوْضِ فِي اشْتِرَاطِ النَّحْرِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ لِلْمُحْصَرِ.
وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً.
أَتْبَعَ النَّعْيَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ سُوءَ فِعْلِهِمْ مِنَ الْكُفْرِ وَالصَّدِّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَتَعْطِيلِ شَعَائِرِ اللَّهِ وَعْدَهُ الْمُسْلِمِينَ بِفَتْحٍ قَرِيبٍ وَمَغَانِمَ كَثِيرَةٍ، بِمَا يَدْفَعُ غُرُورَ الْمُشْرِكِينَ بِقُوَّتِهِمْ، وَيُسْكِنُ تَطَلُّعَ الْمُسْلِمِينَ لِتَعْجِيلِ الْفَتْحِ، فَبَيَّنَ أَنَّ اللَّهَ كَفَّ أَيْدِيَ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمُشْرِكِينَ مَعَ مَا قَرَّرَهُ آنِفًا مِنْ قَوْله: وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
188
لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [الْفَتْح: ٢٢] أَنَّهُ إِنَّمَا لَمْ يَأْمُرِ الْمُسْلِمِينَ بِقِتَالِ عَدُوِّهِمْ لَمَّا صَدُّوهُمْ عَنِ الْبَيْتِ لِأَنَّهُ أَرَادَ رَحْمَةَ جَمْعٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ كَانُوا فِي خِلَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ لَا يَعْلَمُونَهُمْ، وَعَصَمَ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْوُقُوعِ فِي مَصَائِبَ مِنْ جَرَّاءِ إِتْلَافِ إِخْوَانِهِمْ، فَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ أَوْ عَلَى جُمْلَةِ وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ [الْفَتْح: ٢٤] إِلَخْ. وَأَيًّا مَا كَانَ فَهِيَ كَلَامٌ مُعْتَرِضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَخْ وَبَيْنَ جُمْلَةِ إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ [الْفَتْح: ٢٦]. وَنَظْمُ هَذِهِ الْآيَةِ بَدِيعٌ فِي أُسْلُوبَيِ الْإِطْنَابِ وَالْإِيجَازِ وَالتَّفَنُّنِ فِي الِانْتِقَالِ وَرَشَاقَةِ كَلِمَاتِهِ.
ولَوْلا دَالَّةٌ عَلَى امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ امْتَنَعَ تَعْذِيبُنَا الْكَافِرِينَ لِأَجْلِ وُجُودِ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ بَيْنَهُمْ. وَمَا بَعْدَ لَوْلا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَذْفِهِ مَعَ لَوْلا إِذَا كَانَ تَعْلِيقُ امْتِنَاعِ جَوَابِهَا عَلَى وُجُودِ شَرْطِهَا وُجُودًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مَوْجُودُونَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَوْ تَزَيَّلُوا، أَيْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ بَيْنَهُمْ، أَيْ أَنَّ وُجُودَ هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَنَعَ حُصُولُ مَضْمُونِ جَوَابِ لَوْلا.
وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ عَلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِالْإِيمَانِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَهُمُ الْمَانِعَ مِنْ حُصُولِ
مَضْمُونِ الْجَوَابِ هُوَ الْوُجُودُ الْمَوْصُوفُ بِإِيمَانِ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ بَلْ عَلَى وُجُودِ ذَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لَيْسَ هُوَ خَبَرًا بَلْ وَصْفًا ثَانِيًا إِذْ لَيْسَ مَحَطَّ الْفَائِدَةِ.
وَوَجْهُ عَطْفِ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ مَعَ أَنَّ وُجُودَ رِجالٌ مُؤْمِنُونَ كَافٍ فِي رَبْطِ امْتِنَاعِ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَمَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْلَا الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ غَالِبًا، أَنَّ تَخْصِيصَ النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ أَنْسَبُ بِمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمَعَرَّةِ بِقَتْلِهِنَّ وَبِمَعْنَى تَعَلُّقِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِنَّ.
ولَوْلا دَالَّةٌ عَلَى امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ، أَيِ امْتَنَعَ تَعْذِيبُنَا الْكَافِرِينَ لِأَجْلِ وُجُودِ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ بَيْنَهُمْ. وَمَا بَعْدَ لَوْلا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ عَلَى الطَّرِيقَةِ الْمُسْتَعْمَلَةِ فِي حَذْفِهِ مَعَ لَوْلا إِذَا كَانَ تَعْلِيقُ امْتِنَاعِ جَوَابِهَا عَلَى وُجُودِ شَرْطِهَا وُجُودًا مُطْلَقًا غَيْرَ مُقَيَّدٍ بِحَالٍ، فَالتَّقْدِيرُ: وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ مَوْجُودُونَ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدَهُ لَوْ تَزَيَّلُوا، أَيْ لَوْ لَمْ يَكُونُوا مَوْجُودِينَ بَيْنَهُمْ، أَيْ أَنَّ وُجُودَ هَؤُلَاءِ هُوَ الَّذِي لِأَجْلِهِ امْتَنَعَ حُصُولُ مَضْمُونِ جَوَابِ لَوْلا.
وَإِجْرَاءُ الْوَصْفِ عَلَى رِجَالٍ وَنِسَاءٍ بِالْإِيمَانِ مُشِيرٌ إِلَى أَنَّ وُجُودَهُمُ الْمَانِعَ مِنْ حُصُولِ
مَضْمُونِ الْجَوَابِ هُوَ الْوُجُودُ الْمَوْصُوفُ بِإِيمَانِ أَصْحَابِهِ، وَلَكِنَّ الِامْتِنَاعَ لَيْسَ مُعَلَّقًا عَلَى وُجُودِ الْإِيمَانِ بَلْ عَلَى وُجُودِ ذَوَاتِ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَيْنَهُمْ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لَيْسَ هُوَ خَبَرًا بَلْ وَصْفًا ثَانِيًا إِذْ لَيْسَ مَحَطَّ الْفَائِدَةِ.
وَوَجْهُ عَطْفِ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ مَعَ أَنَّ وُجُودَ رِجالٌ مُؤْمِنُونَ كَافٍ فِي رَبْطِ امْتِنَاعِ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ وَمَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ أَنْ يَقُولَ: وَلَوْلَا الْمُؤْمِنُونَ، فَإِنَّ جَمْعَ الْمُذَكَّرِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَتَنَاوَلُ النِّسَاءَ غَالِبًا، أَنَّ تَخْصِيصَ النِّسَاءِ بِالذِّكْرِ أَنْسَبُ بِمَعْنَى انْتِفَاءِ الْمَعَرَّةِ بِقَتْلِهِنَّ وَبِمَعْنَى تَعَلُّقِ رَحْمَةِ اللَّهِ بِهِنَّ.
189
وَمَعْنَى لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لم تعملوا إِيمَانَهُمْ إِذْ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بَعْدَ خُرُوج النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُهَاجِرًا.
فَعَنْ جُنْبُذِ- بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ- بْنِ سَبُعٍ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَيُقَالُ: سِبَاعٌ بِكَسْرِ السِّينِ يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ، وَيُقَال: قاري صَاحِبي قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ رِجَالٍ سُمِّيَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ الْقُرَشِيُّ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّابِعِ- وَعُدَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ثَانِيَتَهُمَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الَّتِي لحقت بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ حَجَرِ بْنِ خَلَفٍ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَتِسْعُ نِسْوَةٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى نَفْيِ مَعْرِفَةِ أَشْخَاصِهِمْ وَمَعْنَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ كَثِيرٌ مِنْكُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَشْخَاصَهُمْ فَلَا يَعْرِفُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا إِن كَانَ يَعْرِفُهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَيُفِيدُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْجَيْشُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار.
وأَنْ تَطَؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجالٌ وَمَعْطُوفِهِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَيْ لَوْلَا أَنْ تَطَئُوهُمْ.
وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالرِّجْلِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِبَادَةِ وَالْإِهْلَاكِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُهْلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَالْإِصَابَةُ: لَحَاقُ مَا يُصِيبُ.
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ وَمِنْ أَجْلِهِمْ مَعَرَّةٌ كُنْتُمْ تَتَّقُونَ لَحَاقَهَا لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهُمْ.
فَعَنْ جُنْبُذِ- بِجِيمٍ مَضْمُومَةٍ وَنُونٍ سَاكِنَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ وَذَالٍ مُعْجَمَةٍ- بْنِ سَبُعٍ- بِسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَةٍ وَمُوَحَّدَةٍ مَضْمُومَةٍ، وَيُقَالُ: سِبَاعٌ بِكَسْرِ السِّينِ يُقَالُ: إِنَّهُ أَنْصَارِيٌّ، وَيُقَال: قاري صَاحِبي قَالَ: هُمْ سَبْعَةُ رِجَالٍ سُمِّيَ مِنْهُمُ الْوَلِيدُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةُ بْنُ هِشَامٍ، وَعَيَّاشُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ وَأَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ وَأَبُو بَصِيرٍ الْقُرَشِيُّ- وَلَمْ أَقِفْ عَلَى اسْمِ السَّابِعِ- وَعُدَّتْ أُمُّ الْفَضْلِ زَوْجُ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبَدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَحْسَبُ أَنَّ ثَانِيَتَهُمَا أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ الَّتِي لحقت بالنبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ أَنْ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَعَنْ حَجَرِ بْنِ خَلَفٍ: ثَلَاثَةُ رِجَالٍ وَتِسْعُ نِسْوَةٍ، وَلَفْظُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ النِّسَاءَ أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْنِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ مَا يَشْمَلُ مَعْنَى نَفْيِ مَعْرِفَةِ أَشْخَاصِهِمْ وَمَعْنَى نَفْيِ الْعِلْمِ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ، فَيُفِيدُ الْأَوَّلُ أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُهُمْ كَثِيرٌ مِنْكُمْ مِمَّنْ كَانَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ مَعَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ فَهُمْ لَا يَعْرِفُونَ أَشْخَاصَهُمْ فَلَا يَعْرِفُونَ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مُؤْمِنًا إِن كَانَ يَعْرِفُهُمُ الْمُهَاجِرُونَ، وَيُفِيدُ الثَّانِي أَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ أَوْ مَا أَحْدَثُوهُ بَعْدَ مُفَارَقَتِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ، أَيْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كُلَّهُ الْجَيْشُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَار.
وأَنْ تَطَؤُهُمْ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ رِجالٌ وَمَعْطُوفِهِ، أَوْ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَيْ لَوْلَا أَنْ تَطَئُوهُمْ.
وَالْوَطْءُ: الدَّوْسُ بِالرِّجْلِ، وَيُسْتَعَارُ لِلْإِبَادَةِ وَالْإِهْلَاكِ، وَقَدْ جَمَعَهُمَا الْحَارِثُ بْنُ وَعْلَةَ الذُهْلِيُّ فِي قَوْلِهِ:
وَوَطِئْتَنَا وَطْأً عَلَى حَنَقٍ | وَطْءَ الْمُقَيَّدِ نَابِتَ الْهِرْمِ |
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الرَّاجِعِ إِلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ وَمِنْ أَجْلِهِمْ مَعَرَّةٌ كُنْتُمْ تَتَّقُونَ لَحَاقَهَا لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَهُمْ.
190
وَالْمَعَرَّةُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ مِنْ عَرَّهُ، إِذَا دَهَاهُ، أَيْ أَصَابَهُ بِمَا يَكْرَهُهُ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ مِنْ ضُرٍّ أَوْ غُرْمٍ أَوْ سُوءِ قَالَةٍ، فَهِيَ هُنَا تَجْمَعُ مَا يَلْحَقُهُمْ إِذَا أَلْحَقُوا أَضْرَارًا بِالْمُسْلِمِينَ مِنْ دِيَاتِ قَتْلَى، وَغُرْمِ أَضْرَارٍ، وَمِنْ إِثْمٍ يَلْحَقُ الْقَاتِلِينَ إِذَا لَمْ يَتَثَبَّتُوا فِيمَنْ يَقْتُلُونَهُ، وَمِنْ سُوءِ قَالَةٍ يَقُولُهَا الْمُشْرِكُونَ وَيُشِيعُونَهَا فِي الْقَبَائِلِ أَن مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ لَمْ يَنْجُ أَهْلُ دِينِهِمْ مِنْ ضُرِّهِمْ لِيُكَرِّهُوا الْعَرَبَ فِي الْإِسْلَامِ وَأَهْلِهِ.
وَالْبَاءُ فِي بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسِينَ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ. وَالْمَجْرُورُ بِهَا مُتَعَلق ب فَتُصِيبَكُمْ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ مَكَارِهُ لَا تَعْلَمُونَهَا حَتَّى تَقَعُوا فِيهَا. وَهَذَا نَفْيُ عِلْمٍ آخَرَ غَيْرِ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالَّذِي انْتِفَاؤُهُ سَبَبُ إِهْلَاكِ غَيْرِ الْمَعْلُومِينَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ لَحَاقُ الْمَعَرَّةِ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الْعِلْمُ بِلَحَاقِ الْمَعَرَّةِ مِنْ وَطْأَتِهِمُ التَّابِعُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِإِيمَانِ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتِفَاؤُهُ يَكُونُ سَبَبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لِلتَّعْلِيلِ وَالْمُعَلَّلُ وَاقِعٌ لَا مَفْرُوضٌ، فَهُوَ وُجُودُ شَرْطِ لَوْلا الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ جَوَابِهَا فَالْمُعَلَّلُ هُوَ رَبْطُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنَّ هَذَا الرَّبْطَ لِأَجْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذْ رَحِمَ بِهَذَا الِامْتِنَاعِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِنْ مَعَرَّةٍ تَلْحَقُهُمْ وَأَنْ أَبْقَى لَهُمْ قُوَّتَهُمْ فِي النُّفُوسِ وَالْعُدَّةِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، وَرَحِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَرَحِمَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنِ اسْتَبَقَاهُمْ لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ أَوْ يُسْلِمُ أَكْثَرُهُمْ كَمَا حَصَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَحِمَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَالرَّحْمَةُ هُنَا شَامِلَةٌ لِرَحْمَةِ الدُّنْيَا وَرَحْمَةِ الْآخِرَةِ.
ومَنْ يَشاءُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا مَعًا. وَعَبَّرَ بِ مَنْ يَشاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ شُمُولِ أَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ
الْإِشَارَةِ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ رَحْمَةَ أُولَئِكَ.
وَالْبَاءُ فِي بِغَيْرِ عِلْمٍ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ مُلَابِسِينَ لِانْتِفَاءِ الْعِلْمِ. وَالْمَجْرُورُ بِهَا مُتَعَلق ب فَتُصِيبَكُمْ، أَيْ فَتَلْحَقُكُمْ مِنْ جَرَّائِهِمْ مَكَارِهُ لَا تَعْلَمُونَهَا حَتَّى تَقَعُوا فِيهَا. وَهَذَا نَفْيُ عِلْمٍ آخَرَ غَيْرِ الْعِلْمِ الْمَنْفِيِّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ لِأَنَّ الْعِلْمَ الْمَنْفِيَّ فِي قَوْلِهِ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ هُوَ الْعِلْمُ بِأَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِالَّذِي انْتِفَاؤُهُ سَبَبُ إِهْلَاكِ غَيْرِ الْمَعْلُومِينَ الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ لَحَاقُ الْمَعَرَّةِ. وَالْعِلْمُ الْمَنْفِيُّ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِلْمٍ هُوَ الْعِلْمُ بِلَحَاقِ الْمَعَرَّةِ مِنْ وَطْأَتِهِمُ التَّابِعُ لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِإِيمَانِ الْقَوْمِ الْمُهْلَكِينَ وَهُوَ الْعِلْمُ الَّذِي انْتِفَاؤُهُ يَكُونُ سَبَبًا فِي الْإِقْدَامِ عَلَى إِهْلَاكِهِمْ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لِلتَّعْلِيلِ وَالْمُعَلَّلُ وَاقِعٌ لَا مَفْرُوضٌ، فَهُوَ وُجُودُ شَرْطِ لَوْلا الَّذِي تَسَبَّبَ عَلَيْهِ امْتِنَاعُ جَوَابِهَا فَالْمُعَلَّلُ هُوَ رَبْطُ الْجَوَابِ بِالشَّرْطِ، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ وَنِسَاءٍ مُؤْمِنَاتٍ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا وَأَنَّ هَذَا الرَّبْطَ لِأَجْلِ رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذْ رَحِمَ بِهَذَا الِامْتِنَاعِ جَيْشَ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِنْ مَعَرَّةٍ تَلْحَقُهُمْ وَأَنْ أَبْقَى لَهُمْ قُوَّتَهُمْ فِي النُّفُوسِ وَالْعُدَّةِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ، وَرَحِمَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِنَجَاتِهِمْ مِنَ الْإِهْلَاكِ، وَرَحِمَ الْمُشْرِكِينَ بِأَنِ اسْتَبَقَاهُمْ لَعَلَّهُمْ يُسْلِمُونَ أَوْ يُسْلِمُ أَكْثَرُهُمْ كَمَا حَصَلَ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ، وَرَحِمَ مَنْ أَسْلَمُوا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَالرَّحْمَةُ هُنَا شَامِلَةٌ لِرَحْمَةِ الدُّنْيَا وَرَحْمَةِ الْآخِرَةِ.
ومَنْ يَشاءُ يَعُمُّ كُلَّ مَنْ أَرَادَ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْحَالَةِ رَحْمَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ أَوْ فِيهِمَا مَعًا. وَعَبَّرَ بِ مَنْ يَشاءُ لِمَا فِيهِ مِنْ شُمُولِ أَصْنَافٍ كَثِيرَةٍ وَلِمَا فِيهِ مِنَ الْإِيجَازِ وَلِمَا فِيهِ مِنَ
الْإِشَارَةِ إِلَى الْحِكْمَةِ الَّتِي اقْتَضَتْ مَشِيئَةُ اللَّهِ رَحْمَةَ أُولَئِكَ.
191
وَجَوَابُ لَوْلا يَجُوزُ اعْتِبَارُهُ مَحْذُوفًا دَلَّ عَلَيْهِ جَوَابُ لَوْ الْمَعْطُوفَةِ عَلَى لَوْلا فِي قَوْلِهِ: لَوْ تَزَيَّلُوا، وَيَجُوزُ اعْتِبَارُ جَوَابِ لَوْ مُرْتَبِطًا عَلَى وَجْهِ تَشْبِيهِ التَّنَازُعِ بَيْنَ شَرْطَيْ لَوْلا ولَوْ لِمَرْجِعِ الشَّرْطَيْنِ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ الِامْتِنَاعُ فَإِنَّ لَوْلا حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِوُجُودٍ أَيْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهَا لِوُجُودِ شَرْطِهَا. ولَوْ حَرْفُ امْتِنَاعٍ لِامْتِنَاعٍ، أَيْ تَدُلُّ عَلَى امْتِنَاعِ جَوَابِهَا لِامْتِنَاعِ شَرْطِهَا فَحُكْمُ جَوَابَيْهِمَا وَاحِدٌ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ، وَإِنَّمَا يَخْتَلِفُ شَرْطَاهُمَا فَشَرْطُ لَوْ مُنْتَفٍ وَشَرْطُ لَوْلا مُثْبَتٌ.
وَضَمِيرُ تَزَيَّلُوا عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَخْ مِنْ جَمْعٍ مُخْتَلِطٍ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ.
وَالتَّزَيُّلُ: مُطَاوِعُ زَيَّلَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ عَنْ مَكَانٍ، وَزَيَّلَهُمْ، أَيْ أَبْعَدَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، أَيْ فَرَّقَهُمْ قَالَ تَعَالَى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يُونُس: ٢٨] وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ وَالتَّمَيُّزِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُطَاوَعَةٍ لِفِعْلِ فَاعِلٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُطَاوَعَةِ كَثِيرًا مَا تُطْلَقُ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ لِدَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَفَرَّقَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَسَلَّطْنَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَذَّبُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابَ السَّيْفِ. فَإِسْنَادُ التَّعْذِيبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ وَيُقَدِّرُ النَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٤].
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ الْمُتَمَيِّزِ مُؤْمِنِهِمْ عَنْ كَافِرِهِمْ، أَيْ حِينَ يَصِيرُ الْجَمْعُ مُشْرِكِينَ خُلَّصًا وَحْدَهُمْ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَزَيَّلُوا إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ إِلَخْ مُنْدَمِجِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ لَوِ افْتَرَقُوا لَعَذَّبْنَا الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ.
وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.
وَضَمِيرُ تَزَيَّلُوا عَائِدٌ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَخْ مِنْ جَمْعٍ مُخْتَلِطٍ فِيهِ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: لَمْ تَعْلَمُوهُمْ.
وَالتَّزَيُّلُ: مُطَاوِعُ زَيَّلَهُ إِذَا أَبْعَدَهُ عَنْ مَكَانٍ، وَزَيَّلَهُمْ، أَيْ أَبْعَدَ بَعْضَهُمْ عَنْ بَعْضٍ، أَيْ فَرَّقَهُمْ قَالَ تَعَالَى: فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ [يُونُس: ٢٨] وَهُوَ هُنَا بِمَعْنَى التَّفَرُّقِ وَالتَّمَيُّزِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ مُطَاوَعَةٍ لِفِعْلِ فَاعِلٍ لِأَنَّ أَفْعَالَ الْمُطَاوَعَةِ كَثِيرًا مَا تُطْلَقُ لِإِرَادَةِ الْمُبَالَغَةِ لِدَلَالَةِ زِيَادَةِ الْمَبْنَى عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ اللُّغَةِ.
وَالْمَعْنَى: لَوْ تَفَرَّقَ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ لَسَلَّطْنَا الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَعَذَّبُوا الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابَ السَّيْفِ. فَإِسْنَادُ التَّعْذِيبِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ يَأْمُرُ بِهِ وَيُقَدِّرُ النَّصْرَ لِلْمُسْلِمِينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٌ [١٤].
وَ (مِنْ) فِي قَوْلِهِ: مِنْهُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ ذَلِكَ الْجَمْعِ الْمُتَفَرِّقِ الْمُتَمَيِّزِ مُؤْمِنِهِمْ عَنْ كَافِرِهِمْ، أَيْ حِينَ يَصِيرُ الْجَمْعُ مُشْرِكِينَ خُلَّصًا وَحْدَهُمْ.
وَجُمْلَةُ لَوْ تَزَيَّلُوا إِلَى آخِرِهَا بَيَانٌ لِجُمْلَةِ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ إِلَى آخِرِهَا، أَيْ لَوْلَا وُجُودُ رِجَالٍ مُؤْمِنِينَ إِلَخْ مُنْدَمِجِينَ فِي جَمَاعَةِ الْمُشْرِكِينَ غَيْرِ مُفْتَرِقِينَ لَوِ افْتَرَقُوا لَعَذَّبْنَا الْكَافِرِينَ مِنْهُمْ.
وَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ فِي قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى طَريقَة الِالْتِفَات.
192
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٦]
إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦)ظَرْفٌ مُتَعَلِّقٌ بِفعل صَدُّوكُمْ [الْفَتْح: ٢٥] أَيْ صَدُّوكُمْ صَدًّا لَا عُذْرَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا دَاعِيَ إِلَيْهِ إِلَّا حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ جَاءُوا مُسَالِمِينَ مُعَظِّمِينَ حُرْمَةَ الْكَعْبَةِ سَائِقِينَ الْهَدَايَا لِنَفْعِ أَهْلِ الْحَرَمِ فَلَيْسَ مِنَ الرُّشْدِ أَنْ يُمْنَعُوا عَنِ الْعُمْرَةِ وَلَكِنَّ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ غَطَّتْ عَلَى عُقُولِهِمْ فَصَمَّمُوا عَلَى مَنْعِ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ آلَ النِّزَاعُ بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْمُصَالَحَةِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ الْمُسْلِمُونَ هَذَا الْعَامَ وَعَلَى أَنَّ الْمُشْرِكِينَ يُمَكِّنُوهُمْ مِنَ الْعُمْرَةِ فِي الْقَابِلِ وَأَنَّ الْعَامَيْنِ سَوَاءٌ عِنْدَهُمْ وَلَكِنَّهُمْ أَرَادُوا التَّشَفِّيَ لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْإِحَنِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
فَكَانَ تَعْلِيقُ هَذَا الظَّرْفِ بِفِعْلِ وَصَدُّوكُمْ مُشْعِرًا بِتَعْلِيلِ الصَّدِّ بِكَوْنِهِ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ لِيُفِيدَ أَنَّ الْحَمِيَّةَ مُتَمَكِّنَةٌ مِنْهُمْ تَظْهَرُ مِنْهَا آثَارُهَا فَمِنْهَا الصَّدُّ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَالْحَمِيَّةُ: الْأَنَفَةُ، أَيِ الِاسْتِنْكَافُ مِنْ أَمْرٍ لِأَنَّهُ يَرَاهُ غَضَاضَةً عَلَيْهِ وَأَكْثَرُ إِطْلَاقِ ذَلِكَ عَلَى اسْتِكْبَارٍ لَا مُوجِبَ لَهُ فَإِنْ كَانَ لِمُوجِبٍ فَهُوَ إِبَاءُ الضَّيْمِ. وَلَمَّا كَانَ صَدُّهُمُ النَّاسَ عَنْ زِيَارَةِ الْبَيْتِ بِلَا حَقٍّ لِأَنَّ الْبَيْتَ بَيْتُ اللَّهِ لَا بَيْتُهُمْ كَانَ دَاعِي الْمَنْعِ مُجَرَّدَ الْحَمِيَّةِ قَالَ تَعَالَى:
وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ [الْأَنْفَال: ٣٤]. وجَعَلَ بِمَعْنَى وَضَعَ، كَقَوْلِ الْحَرِيرِيِّ فِي الْمَقَامَةِ الْأَخِيرَةِ «اجْعَلِ الْمَوْت نصب عَيْنك»، وَقَوْلِ الشَّاعِرِ:
وَإِثْمِدٌ يُجْعَلُ فِي الْعَيْنِ (١)
_________
(١) أَوله:
النَّاس كالأرض وَمِنْهَا هم | من خشن الطَّبْع وَمن لين |
193
وَضَمِيرُ جَعَلَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَائِدًا إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ [الْفَتْح: ٢٥] مِنْ قَوْلِهِ: لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا [الْفَتْح: ٢٥] وَالْعُدُولُ عَنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ الْتِفَاتٌ.
والَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ جَعَلَ. والْحَمِيَّةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا، وفِي قُلُوبِهِمُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ جَعَلَ، أَيْ تَخَلَّقُوا بِالْحَمِيَّةِ فَهِيَ دَافِعَةٌ بِهِمْ إِلَى أَفْعَالِهِمْ لَا يُرَاعُونَ مَصْلَحَةً وَلَا مَفْسَدَةً فَكَذَلِكَ حِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وفِي قُلُوبِهِمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، أَيْ وَضَعَ الْحَمِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْحَمِيَّةِ قُصِدَ مِنْ إِجْمَالِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهِ تَقْرِيرُ مَدْلُولِهِ وَتَأْكِيدُهُ مَا يَحْصُلُ لَوْ قَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهَا وَتَشْنِيعِهَا فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْتِسَابُ ذَمٍّ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤] وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠].
وَيَعْكِسُ ذَلِكَ إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ لِأَنَّ السَّكِينَةَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَهِيَ مَوْهِبَةٌ إِلَهِيَّةٌ.
وَتَفْرِيعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَدُّوا أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَنْوَةً غَضَبًا مِنْ صَدِّهِمْ عَنْهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ: الثَّبَاتُ وَالْأَنَاةُ، أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّأَنِّيَ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَجَلَةَ، فَعَصَمَهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْحَمِيَّةِ بِالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَابَلُوا الْحَمِيَّةَ بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّثَبُّتِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
والَّذِينَ كَفَرُوا مَفْعُولٌ أَوَّلُ لِ جَعَلَ. والْحَمِيَّةَ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا، وفِي قُلُوبِهِمُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِ جَعَلَ، أَيْ تَخَلَّقُوا بِالْحَمِيَّةِ فَهِيَ دَافِعَةٌ بِهِمْ إِلَى أَفْعَالِهِمْ لَا يُرَاعُونَ مَصْلَحَةً وَلَا مَفْسَدَةً فَكَذَلِكَ حِينَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وفِي قُلُوبِهِمُ مُتَعَلِّقٌ بِ جَعَلَ، أَيْ وَضَعَ الْحَمِيَّةَ فِي قُلُوبِهِمْ.
وَقَوْلُهُ: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ عَطْفُ بَيَانٍ لِلْحَمِيَّةِ قُصِدَ مِنْ إِجْمَالِهِ ثُمَّ تَفْصِيلِهِ تَقْرِيرُ مَدْلُولِهِ وَتَأْكِيدُهُ مَا يَحْصُلُ لَوْ قَالَ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ.
وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ لِقَصْدِ تَحْقِيرِهَا وَتَشْنِيعِهَا فَإِنَّهَا مِنْ خُلُقِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ فَإِنَّ ذَلِكَ انْتِسَابُ ذَمٍّ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ: يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ [آل عمرَان: ١٥٤] وَقَوْلِهِ: أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ [الْمَائِدَة: ٥٠].
وَيَعْكِسُ ذَلِكَ إِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى ضَمِيرِ اللَّهِ تَعَالَى إِضَافَةَ تَشْرِيفٍ لِأَنَّ السَّكِينَةَ مِنَ الْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَهِيَ مَوْهِبَةٌ إِلَهِيَّةٌ.
وَتَفْرِيعُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ، عَلَى إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا، يُؤْذِنُ بِأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ وَدُّوا أَنْ يُقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ وَأَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ لِلْعُمْرَةِ عَنْوَةً غَضَبًا مِنْ صَدِّهِمْ عَنْهَا وَلَكِنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةَ.
وَالْمُرَادُ بِالسَّكِينَةِ: الثَّبَاتُ وَالْأَنَاةُ، أَيْ جَعَلَ فِي قُلُوبِهِمُ التَّأَنِّيَ وَصَرَفَ عَنْهُمُ الْعَجَلَةَ، فَعَصَمَهُمْ مِنْ مُقَابَلَةِ الْحَمِيَّةِ بِالْغَضَبِ وَالِانْتِقَامِ فَقَابَلُوا الْحَمِيَّةَ بِالتَّعَقُّلِ وَالتَّثَبُّتِ فَكَانَ فِي ذَلِكَ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
194
وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ النُّكَتِ الْمَعْنَوِيَّةِ مُقَابَلَةُ جَعَلَ ب فَأَنْزَلَ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ وَقَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ فَدَلَّ عَلَى شَرَفِ السَّكِينَةِ عَلَى الْحَمِيَّةِ لِأَنَّ الْإِنْزَالَ تَخْيِيلٌ لِلرِّفْعَةِ وَإِضَافَةُ الْحَمِيَّةِ إِلَى الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِضَافَةُ السَّكِينَةِ إِلَى اسْمِ ذَاتِهِ. وَعُطِفَ عَلَى إِنْزَالِ اللَّهِ سَكِينَتَهُ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى [الْفَتْح: ٢٦]، أَيْ جَعَلَ كَلِمَةَ التَّقْوَى لَازِمَةً لَهُمْ لَا يُفَارِقُونَهَا، أَيْ قَرَنَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ كَلِمَةِ التَّقْوَى لِيَكُونَ ذَلِكَ مُقَابِلَ قَوْلِهِ: وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ [الْفَتْح: ٢٥] فَإِنَّهُ لَمَّا رَبَطَ صَدَّهُمُ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِالظَّرْفِ فِي قَوْلِهِ: إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ رَبْطًا يُفِيدُ التَّعْلِيلَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا رَبَطَ مُلَازَمَةَ الْمُسْلِمِينَ كَلِمَةَ التَّقْوَى بِإِنْزَالِ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، لِيَكُونَ إِنْزَالُ السَّكِينَةِ فِي قُلُوبِهِمْ، وَهُوَ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ، مُؤَثِّرًا فِيهِمْ عَمَلًا ظَاهِرِيًّا وَهُوَ مُلَازَمَتُهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى كَمَا كَانَتْ حَمِيَّةُ الْجَاهِلِيَّةِ هِيَ الَّتِي دَفَعَتِ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى صَدِّ الْمُسْلِمِينَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَأَلْزَمَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَوَّضَ اللَّهُ
غَضَبَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ مُفَارِقًا السَّكِينَةَ مِنْ قَبْلُ.
وكَلِمَةَ التَّقْوى إِنْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَى كَلِمَةَ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ وَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ شَائِعٌ،
قَالَ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] فَفُسِّرَتِ الْكَلِمَةُ هُنَا بِأَنَّهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ: ثُوَيْرٌ، وَيُقَالُ: ثَوْرُ بْنُ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا وَكُلُّهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَعْنَى إِلْزَامِهِ إِيَّاهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى: أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمُ الثَّبَاتَ عَلَيْهَا قَوْلًا بِلَفْظِهَا وَعَمَلًا بِمَدْلُولِهَا إِذْ فَائِدَةُ الْكَلَامِ حُصُولُ مَعْنَاهُ، فَإِطْلَاقُ (الْكَلِمَةِ) هُنَا كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: ٢٨] يَعْنِي بِهَا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: ٢٦، ٢٧].
وَإِضَافَةُ كَلِمَةَ إِلَى التَّقْوى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَمَعْنَى
وَضَمِيرُ النَّصْبِ فِي وَأَلْزَمَهُمْ عَائِدٌ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ عَوَّضَ اللَّهُ
غَضَبَهُمْ بِالسَّكِينَةِ وَلَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ مُفَارِقًا السَّكِينَةَ مِنْ قَبْلُ.
وكَلِمَةَ التَّقْوى إِنْ حُمِلَتْ عَلَى ظَاهِرِ مَعْنَى كَلِمَةَ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْأَلْفَاظِ وَإِطْلَاقُ الْكَلِمَةِ عَلَى الْكَلَامِ شَائِعٌ،
قَالَ تَعَالَى: إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها [الْمُؤْمِنُونَ: ١٠٠] فَفُسِّرَتِ الْكَلِمَةُ هُنَا بِأَنَّهَا قَوْلُ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ. وَرُوِيَ هَذَا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَن النبيء صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ
، وَقَالَ: هُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ. قُلْتُ: فِي سَنَدِهِ: ثُوَيْرٌ، وَيُقَالُ: ثَوْرُ بْنُ أَبِي فَاخِتَةَ قَالَ فِيهِ الدَّارَقُطْنِيُّ: هُوَ مَتْرُوكٌ، وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: هُوَ ضَعِيفٌ. وَرَوَى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَسَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ مِثْلَهُ مَرْفُوعًا وَكُلُّهَا ضَعِيفَةُ الْأَسَانِيدِ. وَرُوِيَ تَفْسِيرُهَا بِذَلِكَ عِنْدَ عَدَدٍ كَثِيرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَعْنَى إِلْزَامِهِ إِيَّاهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى: أَنَّهُ قَدَّرَ لَهُمُ الثَّبَاتَ عَلَيْهَا قَوْلًا بِلَفْظِهَا وَعَمَلًا بِمَدْلُولِهَا إِذْ فَائِدَةُ الْكَلَامِ حُصُولُ مَعْنَاهُ، فَإِطْلَاقُ (الْكَلِمَةِ) هُنَا كَإِطْلَاقِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ [الزخرف: ٢٨] يَعْنِي بِهَا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ [الزخرف: ٢٦، ٢٧].
وَإِضَافَةُ كَلِمَةَ إِلَى التَّقْوى عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ إِضَافَةٌ حَقِيقِيَّةٌ. وَمَعْنَى
195
إِضَافَتِهَا:
أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ أَصْلُ التَّقْوَى فَإِنَّ أَسَاسَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ شُعَبُ التَّقْوَى كُلُّهَا. وَرُويَتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةَ التَّقْوى بِمَعْنَى كَلَامٍ آخَرَ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ تَفَاسِيرُ لَا تُلَائِمُ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَلَا نَظْمَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْتَمَلَ كَلِمَةَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا فَتَكُونَ مُقْحَمَةً وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى التَّقْوَى إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيْ كَلِمَةً هِيَ التَّقْوَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَلْزَمَهُمُ التَّقْوَى عَلَى حَدِّ إِقْحَامِ لَفْظِ اسْمٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٧٨] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى ابْتِدَاءُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ كَلِمَةَ مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَجِمَاعُ مَعْنَاهُ كَإِطْلَاقِ الِاسْمِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
وَيُؤَيِّدُ هَذَا الْوَجْهَ مَا نُقِلَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: كَلِمَةُ التَّقْوَى: الْإِخْلَاصُ. فَجَعَلَ (الْكَلِمَةَ) مَعْنًى مِنَ التَّقْوَى. فَالْمَعْنَى على هذَيْن التوجهين الْأَخِيرَيْنِ: أَنَّهُمْ تَخَلَّقُوا بِالتَّقْوَى لَا يُفَارِقُونَهَا فَاسْتُعِيرَ الْإِلْزَامُ لِدَوَامِ الْمُقَارَنَةِ. وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ لَا يُعَارِضَانِ تَفْسِيرَ كَلِمَةِ
(التَّقْوَى) بِكَلِمَةِ (الشَّهَادَةِ) الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بِجُزْئِيٍّ مِنَ التَّقْوَى هُوَ أَهَمُّ جُزْئِيَّاتِهَا، أَيْ تَفْسِيرُ مِثَالٍ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ كَلِمَةَ التَّقْوى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، أَيْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَفُوا بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقُضِ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ حَتَّى كَانَ الْمُشْرِكُونَ هم الَّذين ابتدأوا بِنَقْضِهِ.
وَالْوَاوُ فِي وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ أَلْزَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فِي حَالٍ كَانُوا فِيهِ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا مِمَّنْ لَمْ يَلْزَمُوهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا التَّوْحِيدَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الْبَقَرَة:
١٤٣].
أَنَّ كَلِمَةَ الشَّهَادَةِ أَصْلُ التَّقْوَى فَإِنَّ أَسَاسَ التَّقْوَى اجْتِنَابُ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، ثُمَّ تَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ شُعَبُ التَّقْوَى كُلُّهَا. وَرُويَتْ أَقْوَالٌ أُخْرَى فِي تَفْسِيرِ كَلِمَةَ التَّقْوى بِمَعْنَى كَلَامٍ آخَرَ مِنَ الْكَلِمِ الطَّيِّبِ وَهِيَ تَفَاسِيرُ لَا تُلَائِمُ سِيَاقَ الْكَلَامِ وَلَا نَظْمَهُ. وَيَجُوزُ أَنْ تُحْتَمَلَ كَلِمَةَ عَلَى غَيْرِ ظَاهِرِ مَعْنَاهَا فَتَكُونَ مُقْحَمَةً وَتَكُونَ إِضَافَتُهَا إِلَى التَّقْوَى إِضَافَةً بَيَانِيَّةً، أَيْ كَلِمَةً هِيَ التَّقْوَى، وَيَكُونُ الْمَعْنَى: وَأَلْزَمَهُمُ التَّقْوَى عَلَى حَدِّ إِقْحَامِ لَفْظِ اسْمٍ فِي قَوْلِ لَبِيدٍ:
إِلَى الْحَوْلِ ثُمَّ اسْمُ السَّلَامِ عَلَيْكُمَا وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ [الرَّحْمَن: ٧٨] عَلَى أَحَدِ التَّفْسِيرَيْنِ فِيهِ. وَيَدْخُلُ فِي التَّقْوَى ابْتِدَاءُ تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ كَلِمَةَ مُطْلَقًا عَلَى حَقِيقَةِ الشَّيْءِ. وَجِمَاعُ مَعْنَاهُ كَإِطْلَاقِ الِاسْمِ فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ:
نُبِّئَتْ زُرْعَةَ وَالسَّفَاهَةُ كَاسْمِهَا | يَهْدِي إِلَى غَرَائِبِ الْأَشْعَارِ |
(التَّقْوَى) بِكَلِمَةِ (الشَّهَادَةِ) الْمَرْوِيِّ عَنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ يَكُونُ ذَلِكَ تَفْسِيرًا بِجُزْئِيٍّ مِنَ التَّقْوَى هُوَ أَهَمُّ جُزْئِيَّاتِهَا، أَيْ تَفْسِيرُ مِثَالٍ.
وَعَنِ الْحَسَنِ: أَنَّ كَلِمَةَ التَّقْوى الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، فَيَكُونُ الْإِلْزَامُ عَلَى هَذَا بِمَعْنَى الْإِيجَابِ، أَيْ أَمَرَهُمْ بِأَنْ يَفُوا بِمَا عَاهَدُوا عَلَيْهِ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَا يَنْقُضُوا عَهْدَهُمْ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَنْقُضِ الْمُسْلِمُونَ الْعَهْدَ حَتَّى كَانَ الْمُشْرِكُونَ هم الَّذين ابتدأوا بِنَقْضِهِ.
وَالْوَاوُ فِي وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَاوُ الْحَالِ، وَالْجُمْلَةُ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ، أَيْ أَلْزَمَهُمْ تِلْكَ الْكَلِمَةَ فِي حَالٍ كَانُوا فِيهِ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا مِمَّنْ لَمْ يَلْزَمُوهَا وَهُمُ الَّذِينَ لَمْ يَقْبَلُوا التَّوْحِيدَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ [الْبَقَرَة:
١٤٣].
196
وَجِيءَ بِفِعْلِ كَانُوا لِدَلَالَتِهَا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْأَحَقِّيَّةَ رَاسِخَةٌ فِيهِمْ حَاصِلَةٌ فِي الزَّمَنِ الْمَاضِي، أَيْ فِي قَدَرِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ مُتَهَيِّئَةً لِقَبُولِ كَلِمَةِ التَّقْوَى وَالْتِزَامِهَا بِمَا أَرْشَدَهَا اللَّهُ إِلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَان دُونَ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَأَهْلُ الشَّيْءِ مُسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كَلِمَةِ التَّقْوَى لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ ضَمَائِرَهُمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَهَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مِثْلُ الْأَحَقِّيَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي النَّاسِ وَكُلَّمَا اهْتَدَى أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَلَّ اهْتِدَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْإِسْلَامِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ، أَيْ وَسَبْقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَجْرَى تَكْوِينِهِ عَلَى نَحْو علمه.
[٢٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: ٢٦] وَدَحْضُ مَا خَامَرَ نُفُوسَ فَرِيقٍ مِنَ الْفَشَلِ أَوِ الشَّكِّ أَوِ التَّحَيُّرِ وَتَبْيِينُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى كَشْفِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لِلْقَوْمِ فِي رُؤْيَا رَآهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رُؤْيَا قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ وَهُوَ
فِي الْحُدَيْبِيَةِ: كَأَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا. هَكَذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا مُجْمَلَةً لَيْسَ فِيهَا وُقُوعُ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَالْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ مُنَاسِبٌ لِكِلَيْهِمَا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ نُفُوسَ الْمُؤْمِنِينَ كَانَتْ مُتَهَيِّئَةً لِقَبُولِ كَلِمَةِ التَّقْوَى وَالْتِزَامِهَا بِمَا أَرْشَدَهَا اللَّهُ إِلَيْهِ. وَالْمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مُقَدَّرٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ، أَيْ أَحَقَّ بِهَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَالَّذِينَ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ لِأَنَّ اللَّهَ قَدَّرَ لَهُمُ الِاسْتِعْدَادَ لِلْإِيمَان دُونَ الَّذِينَ أَصَرُّوا عَلَى الْكُفْرِ.
وَأَهْلُ الشَّيْءِ مُسْتَحِقُّهُ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا أَهْلَ كَلِمَةِ التَّقْوَى لِأَنَّهَا تُنَاسِبُ ضَمَائِرَهُمْ وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَهَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ مِثْلُ الْأَحَقِّيَّةِ مُتَفَاوِتَةٌ فِي النَّاسِ وَكُلَّمَا اهْتَدَى أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ إِلَى الْإِسْلَامِ دَلَّ اهْتِدَاؤُهُ عَلَى أَنَّهُ حَصَلَتْ لَهُ هَذِهِ الْأَهْلِيَّةُ لِلْإِسْلَامِ.
وَجُمْلَةُ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً تَذْيِيلٌ، أَيْ وَسَبْقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ ذَلِكَ فِي عُمُومِ مَا أَحَاطَ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ مَجْرَى تَكْوِينِهِ عَلَى نَحْو علمه.
[٢٧]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٧]
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ [الْفَتْح: ٢٦] وَدَحْضُ مَا خَامَرَ نُفُوسَ فَرِيقٍ مِنَ الْفَشَلِ أَوِ الشَّكِّ أَوِ التَّحَيُّرِ وَتَبْيِينُ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَى أَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ مِنْ ثَوَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِلَى كَشْفِ شُبْهَةٍ عَرَضَتْ لِلْقَوْمِ فِي رُؤْيَا رَآهَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ذَلِكَ أَنَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَأَى رُؤْيَا قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى الْحُدَيْبِيَةِ، أَوْ وَهُوَ
فِي الْحُدَيْبِيَةِ: كَأَنَّهُ وَأَصْحَابَهُ قَدْ دَخَلُوا مَكَّةَ آمِنِينَ وَحَلَقُوا وَقَصَّرُوا. هَكَذَا كَانَتِ الرُّؤْيَا مُجْمَلَةً لَيْسَ فِيهَا وُقُوعُ حَجٍّ وَلَا عُمْرَةٍ، وَالْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ مُنَاسِبٌ لِكِلَيْهِمَا.
197
وَقَصَّ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رُؤْيَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَاسْتَبْشَرُوا بِهَا وَعَبَرُوهَا أَنَّهُمْ دَاخِلُونَ إِلَى مَكَّةَ بِعُمْرَتِهِمُ الَّتِي خَرَجُوا لِأَجْلِهَا، فَلَمَّا جَرَى الصُّلْحُ وَتَأَهَّبَ النَّاسُ إِلَى الْقُفُولِ أَثَارَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ ذِكْرَ الرُّؤْيَا فَقَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا فو الله مَا دَخَلْنَا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَلَا حَلَقْنَا وَقَصَّرْنَا؟
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيُدْخَلُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنْ رُؤْيَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسَتُحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرَاءَةِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك الرُّؤْيَا أَيَامَئِذٍ وَفِي إِخْبَار الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ بِذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ بِقُوَّتِهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَتَسْلَمُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَاءِ الْجُبْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ إِذَا اعْتَرَتِ النُّفُوسَ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتْرُكَ فِيهَا بَقَايَا الدَّاءِ زَمَانًا كَمَا تَبْقَى آثَارُ الْمَرَضِ فِي الْعُضْوِ الْمَرِيضِ بَعْدَ النَّقَاهَةِ زَمَانًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْعُضْوِ قُوَّتُهُ الْأُولَى بَعْدَ مُدَّةِ مُنَاسِبَةٍ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا؟
وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أَنَّهُ أَرَاهُ رُؤْيَا صَادِقَةً لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الْخَبَرِ فَوُصِفَتْ بِالصِّدْقِ لِذَلِكَ. وَهَذَا تَطْمِينٌ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا يَحْصُلْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ.
وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَنْصُوبٍ ثَانٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ مِنَ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الْمُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِالْعَمَلِ فِيهِ النَّصْبَ.
وَأَصْلُ الْكَلَامِ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: ٢٣].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا الْحَقَّ، أَوْ وُقُوعٍ حَالًا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا وَقَعَ حَالًا مِنَ الرُّؤْيَا.
فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيُدْخَلُ وَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ. وَالْمَعْنَى أَنْ رُؤْيَا رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَقٌّ وَأَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيْهِ بِهَا وَأَنَّهَا وَإِنْ لَمْ تَقَعْ فِي تِلْكَ الْقَضِيَّةِ فَسَتُحَقَّقُ بَعْدَ ذَلِكَ وَكَأَنَّ الْحِكْمَةَ فِي إِرَاءَةِ الله رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَك الرُّؤْيَا أَيَامَئِذٍ وَفِي إِخْبَار الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ بِهَا: أَنَّ اللَّهَ أَدْخَلَ بِذَلِكَ عَلَى قُلُوبِهِمُ الثِّقَةَ بِقُوَّتِهِمْ وَتَرْبِيَةَ الْجَرَاءَةِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِي دِيَارِهِمْ فَتَسْلَمُ قُلُوبُهُمْ مِنْ مَاءِ الْجُبْنِ فَإِنَّ الْأَمْرَاضَ النَّفْسِيَّةَ إِذَا اعْتَرَتِ النُّفُوسَ لَا تَلْبَثُ أَنْ تَتْرُكَ فِيهَا بَقَايَا الدَّاءِ زَمَانًا كَمَا تَبْقَى آثَارُ الْمَرَضِ فِي الْعُضْوِ الْمَرِيضِ بَعْدَ النَّقَاهَةِ زَمَانًا حَتَّى تَرْجِعَ إِلَى الْعُضْوِ قُوَّتُهُ الْأُولَى بَعْدَ مُدَّةِ مُنَاسِبَةٍ.
وَتَوْكِيدُ الْخَبَرِ بِحَرْفِ (قَدْ) لِإِبْطَالِ شُبْهَةِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوا: فَأَيْنَ الرُّؤْيَا؟
وَمَعْنَى صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا أَنَّهُ أَرَاهُ رُؤْيَا صَادِقَةً لِأَنَّ رُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ وَحْيٌ فَآلَتْ إِلَى مَعْنَى الْخَبَرِ فَوُصِفَتْ بِالصِّدْقِ لِذَلِكَ. وَهَذَا تَطْمِينٌ لَهُمْ بِأَنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ لَا مَحَالَةَ وَهُوَ فِي حِينِ نُزُولِ الْآيَةِ لَمَّا يَحْصُلْ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: إِنْ شاءَ اللَّهُ.
وَتَعْدِيَةُ صَدَقَ إِلَى مَنْصُوبٍ ثَانٍ بَعْدَ مَفْعُولِهِ مِنَ النَّصْبِ عَلَى نَزْعِ الْخَافِضِ الْمُسَمَّى بِالْحَذْفِ وَالْإِيصَالِ، أَيْ حَذْفِ الْجَارِّ وَإِيصَالِ الْفِعْلِ إِلَى الْمَجْرُورِ بِالْعَمَلِ فِيهِ النَّصْبَ.
وَأَصْلُ الْكَلَامِ: صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ فِي الرُّؤْيَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: صَدَقُوا مَا عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ [الْأَحْزَاب: ٢٣].
وَالْبَاءُ فِي بِالْحَقِّ لِلْمُلَابَسَةِ وَهُوَ ظَرْفٌ مُسْتَقِرٌّ وَقَعَ صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا الْحَقَّ، أَوْ وُقُوعٍ حَالًا صِفَةً لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ صِدْقًا مُلَابِسًا وَقَعَ حَالًا مِنَ الرُّؤْيَا.
198
وَالْحَقُّ: الْغَرَضُ الصَّحِيحُ وَالْحِكْمَةُ، أَيْ كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً وَكَانَتْ مَجْعُولَةً مُحْكَمَةً وَهِيَ مَا قَدَّمْنَاهُ آنِفًا.
وَجُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ صَدَقَ
اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَى لَتَدْخُلُنَّ تَحْقِيقُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَا إِخْبَارٌ بِدُخُولٍ لَمْ يُعَيَّنْ زَمَنُهُ فَهِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلَّذِينَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِذَلِكَ فَجَزَمُوا بِأَنَّ رُؤْيَا دُخُولِ الْمَسْجِدِ تَقْتَضِي دُخُولَهُمْ إِلَيْهِ أَيَّامَئِذٍ وَمَا ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنَ الرُّؤْيَا وَكَانَ حَقَّهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا وَعْدٌ لَمْ يُعَيَّنْ إِبَّانَ مَوْعُودِهِ وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيَدْخُلُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠] وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلرُّؤْيَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَسَمِ لَا تُلَائِمُ ذَلِكَ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَيْ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ:
بِالْحَقِّ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَيَّلَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُسْتَقْبَلُ إِذَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَرَاخِيًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: افْعَلْ كَذَا، فَيَقُولُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ بَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ زَمَنٍ وَلَكِنْ مَعَ تَحْقِيقِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ.
وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩٩] وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أَنَّ إِنْ شاءَ اللَّهُ لِلدُّخُولِ مَعَ تَقْدِيرِ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ.
أَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَحْمَلُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنَصُّلَ مِنِ الْتِزَامِ الْوَعْدِ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ إِنْ شاءَ اللَّهُ. فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لِلثُّنْيَا لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ مَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ: عَدَمُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الَّتِي تَقَعُ مَوْقِعَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْفِعْلَ.
وَجُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِلَى آخِرِهَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ صَدَقَ
اللَّهُ لِأَنَّ مَعْنَى لَتَدْخُلُنَّ تَحْقِيقُ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الرُّؤْيَا إِخْبَارٌ بِدُخُولٍ لَمْ يُعَيَّنْ زَمَنُهُ فَهِيَ صَادِقَةٌ فِيمَا يَتَحَقَّقُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَهَذَا تَنْبِيهٌ لِلَّذِينَ لَمْ يَتَفَطَّنُوا لِذَلِكَ فَجَزَمُوا بِأَنَّ رُؤْيَا دُخُولِ الْمَسْجِدِ تَقْتَضِي دُخُولَهُمْ إِلَيْهِ أَيَّامَئِذٍ وَمَا ذَلِكَ بِمَفْهُومٍ مِنَ الرُّؤْيَا وَكَانَ حَقَّهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهَا وَعْدٌ لَمْ يُعَيَّنْ إِبَّانَ مَوْعُودِهِ وَقَدْ فَهِمَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ إِذْ قَالَ لَهُمْ: إِنَّ الْمَنَامَ لَمْ يَكُنْ مُوَقَّتًا بِوَقْتٍ وَأَنَّهُ سَيَدْخُلُ. وَقَدْ جَاءَ فِي سُورَةِ يُوسُفَ [١٠٠] وَقالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَيَانًا لِلرُّؤْيَا لِأَنَّ صِيغَةَ الْقَسَمِ لَا تُلَائِمُ ذَلِكَ.
وَالْأَحْسَنُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا عَنْ جُمْلَةِ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَيْ سَيَكُونُ ذَلِكَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَحَالَةَ فَيَنْبَغِي الْوَقْفُ عِنْدَ قَوْلِهِ:
بِالْحَقِّ لِيَظْهَرَ مَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ.
وَقَوْلُهُ: إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُذَيَّلَ بِهِ الْخَبَرُ الْمُسْتَقْبَلُ إِذَا كَانَ حُصُولُهُ مُتَرَاخِيًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الَّذِي يُقَالُ لَهُ: افْعَلْ كَذَا، فَيَقُولُ: أَفْعَلُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، لَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْحَالِ أَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ بَلْ يَفْعَلُهُ بَعْدَ زَمَنٍ وَلَكِنْ مَعَ تَحْقِيقِ أَنَّهُ يَفْعَلُهُ.
وَلِذَلِكَ تَأَوَّلُوا قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ يُوسُفَ [٩٩] وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ أَنَّ إِنْ شاءَ اللَّهُ لِلدُّخُولِ مَعَ تَقْدِيرِ الْأَمْنِ لِأَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ حِينَ قَدْ دَخَلُوا مِصْرَ.
أَمَّا مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَهُوَ مِنْ كَلَامِ اللَّهِ فَلَا يُنَاسِبُهُ هَذَا الْمَحْمَلُ. وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّنَصُّلَ مِنِ الْتِزَامِ الْوَعْدِ، وَهَذَا مِنِ اسْتِعْمَالَاتِ كَلِمَةِ إِنْ شاءَ اللَّهُ. فَلَيْسَ هُوَ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهَا فِي الْيَمِينِ فَإِنَّهَا حِينَئِذٍ لِلثُّنْيَا لِأَنَّهَا فِي مَوْضِعِ قَوْلِهِمْ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، لِأَنَّ مَعْنَى: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ: عَدَمُ الْفِعْلِ، وَأَمَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، الَّتِي تَقَعُ مَوْقِعَ: إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، فَمَعْنَاهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْفِعْلَ.
199
وَالْمَوْعُودُ بِهِ صَادِقٌ بِدُخُولِهِمْ مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ سَنَةَ سَبْعٍ وَهِيَ عُمْرَةُ الْقَضِيَّةِ، فَإِنَّهُمْ دَخَلُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ آمِنِينَ وَحَلَقَ بَعْضُهُمْ وَقَصَّرَ بَعْضٌ غَيْرَ خَائِفِينَ إِذْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ، وَذَلِكَ أَقْرَبُ دُخُولٍ بَعْدَ هَذَا الْوَعْدِ، وَصَادِقٌ بِدُخُولِهِمُ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ، وَعَدَمُ الْخَوْفِ فِيهِ أَظْهَرُ. وَأَمَّا دُخُولُهُمْ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهِ مُحْرِمِينَ.
قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَلَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أعلم).
ومُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ آمِنِينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَمُقَصِّرِينَ وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَكَتْ مَا رَآهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ، أَيْ يَحْلِقُ مَنْ رَامَ الْحَلْقَ وَيُقَصِّرُ مَنْ رَامَ التَّقْصِيرَ، أَيْ لَا يُعْجِلُهُمُ الْخَوْفُ عَنِ الْحَلْقِ فَيَقْتَصِرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَخافُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِ آمِنِينَ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَسَّسَةً عَلَى أَنَّ آمِنِينَ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ تَدْخُلُّنَ وَأَنَّ لَا تَخافُونَ مَعْمُولٌ لِ آمِنِينَ، أَيْ آمَنِينَ أَمْنَ مَنْ لَا يَخَافُ، أَيْ لَا تَخَافُونَ غَدْرًا. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ عَدُوِّهِمُ الَّذِي أَمنهم، وَهَذَا يومىء إِلَى حِكْمَةِ تَأْخِيرِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ حَيْثُ يَزْدَادُونَ قُوَّةً وَاسْتِعْدَادًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهِمْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبَرِ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى دُخُولِهِمْ وَعَلَى الرُّؤْيَا الْمُؤْذِنَةِ بِدُخُولِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الْفَتْح: ١٨].
وَفِي إِيثَارِ فِعْلِ جَعَلَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَتَحَ لَكُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أَوْ نَحْوَهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْفَتْحَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ مَا كَانَ لِيَحْصُلَ مِثْلُهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَهُ.
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي جَعَلَ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي، أَوْ لِأَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى قَدَّرَ. وَدون هُنَا بِمَعْنَى غير، وَمن (م) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ
قَالَ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» بَعْدَ أَنْ سَاقَ حَدِيثَ قَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ يَوْمَ الْفَتْحِ (وَلَمْ يَكُنْ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ مُحْرِمًا وَاللَّهُ أعلم).
ومُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ آمِنِينَ وَعَطَفَ عَلَيْهِ وَمُقَصِّرِينَ وَالتَّحْلِيقُ وَالتَّقْصِيرُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْ إِتْمَامِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَذَلِكَ مِنِ اسْتِمْرَارِ الْأَمْنِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ حَكَتْ مَا رَآهُ رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ، أَيْ يَحْلِقُ مَنْ رَامَ الْحَلْقَ وَيُقَصِّرُ مَنْ رَامَ التَّقْصِيرَ، أَيْ لَا يُعْجِلُهُمُ الْخَوْفُ عَنِ الْحَلْقِ فَيَقْتَصِرُوا عَلَى التَّقْصِيرِ.
وَجُمْلَةُ لَا تَخافُونَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مُؤَكِّدَةً لِ آمِنِينَ تَأْكِيدًا بِالْمُرَادِفِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الْأَمْنَ كَامِلٌ مُحَقَّقٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مُؤَسَّسَةً عَلَى أَنَّ آمِنِينَ مَعْمُولٌ لِفِعْلِ تَدْخُلُّنَ وَأَنَّ لَا تَخافُونَ مَعْمُولٌ لِ آمِنِينَ، أَيْ آمَنِينَ أَمْنَ مَنْ لَا يَخَافُ، أَيْ لَا تَخَافُونَ غَدْرًا. وَذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّهُمْ يَكُونُونَ أَشَدَّ قُوَّةً مِنْ عَدُوِّهِمُ الَّذِي أَمنهم، وَهَذَا يومىء إِلَى حِكْمَةِ تَأْخِيرِ دُخُولِهِمْ مَكَّةَ إِلَى عَامٍ قَابِلٍ حَيْثُ يَزْدَادُونَ قُوَّةً وَاسْتِعْدَادًا وَهُوَ أَظْهَرُ فِي دُخُولِهِمْ عَامَ حِجَّةِ الْوَدَاعِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا لِتَفْرِيعِ الْأَخْبَارِ لَا لِتَفْرِيعِ الْمُخْبَرِ بِهِ لِأَنَّ عِلْمَ اللَّهِ سَابِقٌ عَلَى دُخُولِهِمْ وَعَلَى الرُّؤْيَا الْمُؤْذِنَةِ بِدُخُولِهِمْ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ [الْفَتْح: ١٨].
وَفِي إِيثَارِ فِعْلِ جَعَلَ فِي هَذَا التَّرْكِيبِ دُونَ أَنْ يَقُولَ: فَتَحَ لَكُمْ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا أَوْ نَحْوَهُ إِفَادَةُ أَنَّ هَذَا الْفَتْحَ أَمْرُهُ عَجِيبٌ مَا كَانَ لِيَحْصُلَ مِثْلُهُ لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ كَوَّنَهُ.
وَصِيغَةُ الْمَاضِي فِي جَعَلَ لِتَنْزِيلِ الْمُسْتَقْبَلِ الْمُحَقَّقِ مَنْزِلَةَ الْمَاضِي، أَوْ لِأَنَّ جَعَلَ بِمَعْنَى قَدَّرَ. وَدون هُنَا بِمَعْنَى غير، وَمن (م) ابْتِدَائِيَّةٌ أَوْ
200
بَيَانِيَّةٌ. وَالْمَعْنَى: فَجَعَلَ فَتْحًا قَرِيبًا لَكُمْ زِيَادَةً عَلَى مَا وَعَدَكُمْ مِنْ دُخُولِ مَكَّةَ آمِنِينَ. وَهَذَا الْفَتْحُ أَوَّلُهُ هُوَ فَتْحُ خَيْبَرَ الَّذِي وَقَعَ قَبْلَ عُمْرَةِ الْقَضِيَّةِ وَهَذَا الْقَرِيبُ مِنْ وَقت الصُّلْح.
[٢٨]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِصِدْقِ الرُّؤْيَا بِأَنَّ الَّذِي أرسل رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الدِّينِ مَا كَانَ لِيُرِيَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِرَفِ (قَدْ) وَلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: ٢٧]. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ حُسْنُ مَوْقِعِ الضَّمِيرِ وَالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ غَالِبًا.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤْيا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ عِنْدَهُمْ حِينَ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ بِهِمَا فَخَامَرَتْهُمْ ظُنُونٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا الرَّسُولِ وَحَيٌ وَأَنَّ الْمُوحِيَ لَهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ يُرِيهِ رُؤْيَا غَيْرَ صَادِقَةٍ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ وَلَوْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَتَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَدْخَلُوا التَّرَدُّدَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْهُدى لِلْمُصَاحَبَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلَ وَالْهُدَى أُطْلِقَ عَلَى مَا بِهِ الْهُدَى، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢]، وَقَوْلُهُ:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٨٥]. وَعَطَفَ دِينِ الْحَقِّ عَلَى الْهُدَى لِيَشْمَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ وَحْيٍ بِكَلَامٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِعْجَازُ أَوْ كَانَ مِنْ سنّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهُدى أُصُولَ الدِّينِ مِنِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهَا تَزْكِيَة النَّفس، ودِينِ الْحَقِّ: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعُهُ.
[٢٨]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٨]
هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (٢٨)
زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِصِدْقِ الرُّؤْيَا بِأَنَّ الَّذِي أرسل رَسُوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الدِّينِ مَا كَانَ لِيُرِيَهُ رُؤْيَا صَادِقَةً. فَهَذِهِ الْجُمْلَةُ تَأْكِيدٌ لِلتَّحْقِيقِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ حِرَفِ (قَدْ) وَلَامِ الْقَسَمِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ [الْفَتْح: ٢٧]. وَبِهَذَا يَظْهَرُ لَكَ حُسْنُ مَوْقِعِ الضَّمِيرِ وَالْمَوْصُولِ فِي قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ يُفِيدُ الْعِلْمَ بِمَضْمُونِ الصِّلَةِ غَالِبًا.
وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا، وَهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّ رُؤْيا الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ فَهُوَ يُذَكِّرُهُمْ بِهَاتَيْنِ الْحَقِيقَتَيْنِ الْمَعْلُومَتَيْنِ عِنْدَهُمْ حِينَ لَمْ يَجْرُوا عَلَى مُوجَبِ الْعِلْمِ بِهِمَا فَخَامَرَتْهُمْ ظُنُونٌ لَا تَلِيقُ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّ رُؤْيَا الرَّسُولِ وَحَيٌ وَأَنَّ الْمُوحِيَ لَهُ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَهُ فَكَيْفَ يُرِيهِ رُؤْيَا غَيْرَ صَادِقَةٍ. وَفِي هَذَا تَذْكِيرٌ وَلَوْمٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ غَفَلُوا عَنْ هَذَا وَتَعْرِيضٌ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ أَدْخَلُوا التَّرَدُّدَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْبَاءُ فِي بِالْهُدى لِلْمُصَاحَبَةِ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِ أَرْسَلَ وَالْهُدَى أُطْلِقَ عَلَى مَا بِهِ الْهُدَى، أَيْ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [الْبَقَرَة: ٢]، وَقَوْلُهُ:
شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [الْبَقَرَة: ١٨٥]. وَعَطَفَ دِينِ الْحَقِّ عَلَى الْهُدَى لِيَشْمَلَ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَحْكَامِ أُصُولِهَا وَفُرُوعِهَا مِمَّا أُوحِيَ بِهِ إِلَى الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِوَى الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ وَحْيٍ بِكَلَامٍ لَمْ يُقْصَدْ بِهِ الْإِعْجَازُ أَوْ كَانَ مِنْ سنّة الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالْهُدى أُصُولَ الدِّينِ مِنِ اعْتِقَادِ الْإِيمَانِ وَفَضَائِلِ الْأَخْلَاقِ الَّتِي بِهَا تَزْكِيَة النَّفس، ودِينِ الْحَقِّ: شَرَائِعُ الْإِسْلَامِ وَفُرُوعُهُ.
وَاللَّامُ فِي لِيُظْهِرَهُ لِتَعْلِيلِ فِعْلِ أَرْسَلَ وَمُتَعَلِّقَاتِهِ، أَيْ أَرْسَلَهُ بِذَلِكَ لِيُظْهِرَ هَذَا الدِّينَ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ الْإِلَهِيَّةِ السَّالِفَةِ وَلِذَلِكَ أُكِّدَ بِ كُلِّهِ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ. وَمَعْنَى يُظْهِرَهُ يُعْلِيهِ. وَالْإِظْهَارُ: أَصْلُهُ مُشْتَقٌّ مِنْ ظَهَرَ بِمَعْنَى بَدَا، فَاسْتُعْمِلَ كِنَايَةً عَنِ الِارْتِفَاعِ الْحَقِيقِيِّ ثُمَّ أُطْلِقَ مَجَازًا عَنِ الشَّرَفِ فَصَارَ أَظْهَرَهُ بِمَعْنَى أَعْلَاهُ، أَيْ لِيُشَرِّفَهُ عَلَى الْأَدْيَانِ كُلِّهَا، وَهَذَا كَقَوْلِهِ فِي حَقِّ الْقُرْآنِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [الْمَائِدَة:
٤٨].
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى إِلَخِ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا صِدْقٌ ذَيَّلَ الْجُمْلَةَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ أَجْزَأَتْكُمْ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِ الرُّؤْيَا إِلَى أَنْ تَرَوْا مَا صْدَقَهَا فِي الْإِبَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٩].
[٢٩]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ لَمَّا بَيَّنَ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَنْوِيهِ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.
ومُحَمَّدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ مُحَمَّدٌ يَعُودُ هَذَا الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَلَى قَوْله: رَسُولَهُ [الْفَتْح: ٢٨] فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ الَّذِي وَصَفَهُ السَّكَّاكِيُّ بِالْحَذْفِ الَّذِي الِاسْتِعْمَالُ وَارِدٌ عَلَى تَرْكِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَتَرْكِ نَظَائِره. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» «وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرُوا رَجُلًا: فَتًى مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرُوا الدِّيَارَ أَوِ الْمَنَازِلَ رَبْعَ كَذَا وَكَذَا». وَمِنْ أَمْثِلَةِ «الْمِفْتَاحِ» لِذَاكَ قَوْلُهُ: (فَرَاجِعْهُمَا) أَيِ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ:
٤٨].
وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى إِلَخِ الشَّهَادَةَ بِأَنَّ الرُّؤْيَا صِدْقٌ ذَيَّلَ الْجُمْلَةَ بِقَوْلِهِ: وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أَيْ أَجْزَأَتْكُمْ شَهَادَةُ اللَّهِ بِصِدْقِ الرُّؤْيَا إِلَى أَنْ تَرَوْا مَا صْدَقَهَا فِي الْإِبَّانِ. وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى نَظِيرِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً فِي آخِرِ سُورَةِ النِّسَاءِ [٧٩].
[٢٩]
[سُورَة الْفَتْح (٤٨) : آيَة ٢٩]
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ لَمَّا بَيَّنَ صدق الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي رُؤْيَاهُ وَاطْمَأَنَّتْ نُفُوسُ الْمُؤْمِنِينَ أَعْقَبَ ذَلِكَ بِتَنْوِيهِ شَأْن الرَّسُول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالثَّنَاءِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ مَعَهُ.
ومُحَمَّدٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ مُحَمَّدٌ يَعُودُ هَذَا الضَّمِيرُ الْمَحْذُوفُ عَلَى قَوْله: رَسُولَهُ [الْفَتْح: ٢٨] فِي الْآيَةِ قَبْلَهَا. وَهَذَا مِنْ حَذْفِ الْمُسْنَدِ الَّذِي وَصَفَهُ السَّكَّاكِيُّ بِالْحَذْفِ الَّذِي الِاسْتِعْمَالُ وَارِدٌ عَلَى تَرْكِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَتَرْكِ نَظَائِره. قَالَ التَّفْتَازَانِيّ فِي «الْمُطَوَّلِ» «وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ بَعْدَ أَنْ يَذْكُرُوا رَجُلًا: فَتًى مِنْ شَأْنِهِ كَذَا وَكَذَا، وَهُوَ أَنْ يَذْكُرُوا الدِّيَارَ أَوِ الْمَنَازِلَ رَبْعَ كَذَا وَكَذَا». وَمِنْ أَمْثِلَةِ «الْمِفْتَاحِ» لِذَاكَ قَوْلُهُ: (فَرَاجِعْهُمَا) أَيِ الْعَقْلَ السَّلِيمَ وَالطَّبْعَ الْمُسْتَقِيمَ فِي مِثْلِ قَوْلِهِ: