تفسير سورة الفتح

أحكام القرآن
تفسير سورة سورة الفتح من كتاب أحكام القرآن .
لمؤلفه إلكيا الهراسي . المتوفي سنة 504 هـ

قوله تعالى :﴿ قُلْ لِلْمُخَلّفِينَ مِنَ الأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إلَى قَوْمٍ أُولي بَأْسٍ شدِيدٍ ﴾، الآية :[ ١٦ ] : المراد به : فارس والروم١، وقيل : المراد به بني حنيفة.
وفيه دلالة على صحة إمامة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، لأن أبا بكر دعاهم إلى قتال فارس والروم، ولزمهم بذلك إتباع طاعة من يدعوهم إليه.
قوله تعالى :﴿ تُقاتِلُونَهُم أَوْ يُسْلِمُونَ فإنْ تُطِيعُوا يُؤتِكُم اللهُ أَجْراً حَسَناً وإنْ تَتوَلّوا كَمَا تَوَلّيْتُم مِنْ قَبْل يُعَذِبكُم عَذَاباً أَلِيماً ﴾ الآية :[ ١٦ ] : أوعدهم على التخلف عن دعاء من دعاهم إلى قتال هؤلاء، فدل ذلك على صحة إمامتهما، إذ كان المتولى عن طاعتهما مستحقاً للعذاب، ولا يجوز أن يكون الداعي لهم هوازن وثقيف يوم حنين، لأنه يمتنع أن يكون الداعي لهم الرسول عليه الصلاة والسلام، لأنه قال :﴿ فقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِي أَبَداً وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِي عَدُوّا٢، فدل أن المراد بالدعاء غير الرسول عليه الصلاة والسلام، ومعلوم أنه لم يدع هؤلاء القوم بعد النبي عليه الصلاة والسلام إلا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما.
١ - وقد بسط صاحب محاسن التأويل القول في هذه الآية في تفسيره، ج ١٥..
٢ - سورة التوبة، آية ٨٣..
قوله تعالى :﴿ والهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلّهُ ﴾، الآية :[ ٢٥ ] : ولو كان بلغ الحرم وذبح فيه لم يكن ممنوعاً عن بلوغ الحرم، ثم لما وقع الصلح زال المنع، فبلغ محله في الحرم، وذلك أنه إذا حصل المنع في أدنى وقت، فجائز أن يقال قد منع كما قال تعالى :﴿ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنّا الكَيْلُ١.
وإنما منع في وقت وأطلق في وقت آخر. . فالأول احتجاج أصحاب الشافعي، والثاني تأويل أصحاب أبي حنيفة، والأول أظهر، فإنه لو ذبح في الحرم لم يطلق على الشيء الواحد أنه منع عن بلوغه محله، وقد وصل محله، وليس كما احتجوا به في الآية، فإن الكيل منع في وقت وقيل :﴿ إنْ لَمْ تَأْتُوني بِهِ فَلاَ كَيْلَ لكم ﴾٢ مطلقاً، وإن أحضرتموه فلكم الكيل، وهاهنا بخلافه، فإن الهدي بعد الصلح إن بلغ محله لم يجز أن يقال إنه بعينه منع عن محله، وهذا ظاهر بين٣.
وأصحاب أبي حنيفة يحتجون بقوله :﴿ يَبْلُغ مَحِلّهُ ﴾، وذلك يدل على أن المحل هو الحرم. . وقال :﴿ ولاَ تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُم حَتّى يَبلُغَ الهَدْيُ مَحِلّه ﴾٤ وهو الحرم.
قوله تعالى :﴿ لَوْ تَزَيّلُوا لَعَذَّبْنَا الّذِينَ كَفَرُوا منْهُم عَذَاباً أَلِيماً ﴾، الآية :[ ٢٥ ] :
فيه دلالة على ما قاله الشافعي ومالك، إنه لا يحرق سفينة الكفار إذا كان فيها أسارى المسلمين، ولو تزيل المؤمنون لعذب الكفار. . وكذلك في إحراق الحصون إذا كان فيه أسارى المسلمين٥.
وأبو حنيفة وأبو يوسف وزفر ومحمد والثوري جوزوا رمي حصون الكافرين، وإن اشتملت على الأسارى والأطفال من المسلمين، وزادوا فقالوا : لو تترس الكفار بأطفال المسلمين رمى المشركون، وإن أصابوا أحداً من المسلمين في ذلك فلا دية ولا كفارة٦. . وقال الثوري : فيه الكفارة ولا دية فيه.
نعم، لا يمنع نصب المجانق على الحصون مع اشتمالها على أطفال المشركين مع أنه لا عصمة للأطفال تحقيقاً للحكم بكفرهم، ولأطفال المسلمين عصمة وحرمة.
ويحتج الشافعي أيضاً بقوله تعالى :﴿ ولَوْلاَ رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ ونِسَاءٌ مُؤمِنَاتٌ ﴾، الآية :[ ٢٥ ] وفيه دلالة على منع رمي الكفار لأجل من فيهم من المسلمين٧، وتمام الاحتجاج بقوله تعالى :﴿ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطُئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِنْهُم مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾، الآية :[ ٢٥ ]، فلولا الحظر ما أصابتهم معرة من قتلهم بإصابتهم إياهم.
١ - سورة يوسف، آية ٦٣..
٢ - سورة يوسف، آية ٦٠..
٣ - انظر أحكام القرآن للجصاص، ج ٥، وتفسير القرطبي سورة الفتح..
٤ - سورة البقرة، آية ١٩٦..
٥ - باب الجهاد في كتاب الاختيار في فقه الإمام أبي حنيفة..
٦ - انظر فتح القدير لابن الهمام..
٧ - راجع ج٣، من أحكام القرآن للإمام الشافعي، وكتاب الأم..
Icon