قوله تعالى: ﴿بَراءةٌ مِن اللهِ وَرَسُولِه﴾، إلى قوله: ﴿أرْبَعَةَ أَشْهُر﴾:
هذه الآية ناسخةٌ للعهود البعيدة الأجل التي كانت للمشركين.
قال ابنُ عباس: كان لقومٍ من المشركين على النبي - صلى الله عليه وسلم - عهود إلىأوقات، فأمر اللهُ - جلَّ ذكرُه - نبيّه صلى الله عليه وسلم - أن يُؤَجِّلَهُم أربعةَ أَشهُرٍ يتصرفونفيها، وإن كانت عهودُهم إلى أكثر من أربعةِ أشهر، وذلك من بعد يومالنحر إلى عشر من ربيع الثاني؛ لأن عليَّاً رضي الله عنه نادى بسورة براءةفي بوم النحر، ونبذ إلى كل ذي عهد عهده. قال: وكان قومٌ لا عهودَ لهمفأُجِّلوا خمسين يوماً - (عشرين) يوماً من ذي الحجة والمحرم -.
وقال مجاهد والسُّدِّي: هم قوم كان لهم عهد إلى أكثر من أربعةأشهر، وقوم (كان عهدُهم) إلى أربعة أشهر، فردَّ الجميعَ إلى أربعة أشهر، ونسخ ما زاد على أربعة أشهرٍ، ونسخَ أمانَهم إلى البيت وطوافهم به عُراة.
وقال الزهري: الأربعةُ أشهر: أولها: شوال. إلى آخر المحرم.
وقيل: إنما نَبْذُ العهد إلى قومٍ نقضوا عهداً كان بينهُم وبينرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فأُجِّلوا أربعةَ أشهر، فأما من لم ينقض العهدَ، فيبقىعلى عهدِه بدليل قوله: ﴿فَمَا استَقَامُوا لَكُمْ فاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ [التوبة: ٧]. قال: ومن لم يكن له عهدٌ أُجِّلَ خمسينَ يوماً من (يومِ) النَّحر الذي نادي فيه عليٌّ - رضي الله عنه - ببراءة.
قال أبو محمد: وكان حقُّ هذا ألاّ يُدْخَل في الناسخ والمنسوخ لأنهلم ينسخ قرآناً متلوّاً، إنما نسخَ أمراً رآه النبي - عليه السلام - وأشياءَ كانواعليها مما لا يرضاه الله. والقرآن كُلُّه ناسخٌ لما كانوا عليه، إلاّ ما أَقرَّهم النبيعليه. لكنا ذكرناه وأشباهَه اتباعاً لمن تقدَّمنا؛ إذ أكثرُهُم ذكرَه ونَبَّهْنا على ما(ذكرنا لتعرفَ) حقيقةَ النسخ الذي قصدنا (إلى بيانِه).
قوله تعالى: ﴿فإِذَا انسَلَخَ الأشْهُرُ الحُرُم فاقْتُلُوا المُشْرِكِين﴾ الآية:
هذه الآيةُ محكمةٌ عند أكثر العماء ناسخةٌ لجميع ما أُمِرَ به المؤمنونمن الصفح والعفو والغفران للمشركين، وقد ذكرنا ذلك.
وعن الحسن: أنها منسوخةٌ بقوله: ﴿فَإِمَّا منَّا بَعْدُ وإِمَّا فِداءً﴾، وقال لا يحلّ قتل أسيرٍ صبراً - وهو قول الضحاك والسُّدِّي وعطاء -.
وقال قتادةُ: هذه الآيةُ محكمةٌ ناسخةٌ لقوله: ﴿فإِمّا منَّاً بَعْدُ وَإِمَّافِدَاءً﴾، وقال: لا يجوز في الأسارى من المشركين إلا القتل، ولا يُمَنُّعليهم ولا يفادى بهم.
وقد روي عن مجاهد أنه قال: إما السَّيْفُ وإما الإِسلام في الأسارى.
وقال ابنُ زيد: الآيتان محكمتان غيرُ منسوختين ومعنى آية براءة: أنه- تعالى ذِكرُه - أمر بقتل المشركين حيثُ وجدوا، ثم قال: ﴿وخذوهم﴾: يعني أسارى للقتل أو لِلْمَنِّ أو للفداء.
والإِمام ينظر في أمور الأَسارى (في ما هو أَصلَحُ للمسلمين) من المنِّ أو القتلِ أو الفداء، وقد أتت الأخبارُ أن النبيَّ - عليه السلام - فعلَهذا كُلَّه، فقتل من الأسارى النَّضْرَ بنَ الحارث وعقبة (بن أبي) معيطيومَ بدر، بعد أن أخذهما أسيرين، ومنَّ على قوم، وفادى قوماً.
قال أبو محمد: وهذا أولى بالآية وأصحُ في معناها إن شاء الله.
وقيل: الآيةُ مُخَصَّصةٌ بترك قتل أهل الكتاب إذا أَعطوا الجزيةَ لأنهم مشركون (بدَلالة) قوله: ﴿اتّخَذُوا أحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أرباباً مِن دُونِ اللهِوالمسيحَ ابنَ مَرْيم﴾ [التوبة: ٣١]، أي اتخذوا المسيح ربّاً، ولا شركَ أعظم مناتّخاذ ربٍ من دون الله، وهي مُخَصَّصةٌ أيضاً بقوله: ﴿لاَ يَنْهَاكُمُ اللهُ عنالذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِن دِيَارِكُمْ﴾ [الممتحنة: ٨] - الآية -.
(وهذا على) قول من قال: (إن) الآيةَ نزلت في قوم منالمشركين لم يقاتلوا المؤمنين، وهم: خزاعة، وبنو عبد الحارث بنُ عبدمناف كان بينهم وبين النبي - صلى الله عليه وسلم - عهد فأمر الله المؤمنين أن يُوفوالهم بعهودهم - وهو قول الحسن - وسنذكر ذلك في موضعه - إنشاء الله -.
وقد قال ابنُ حبيب: إن قوله: ﴿فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُمُوهُمْوَخُذُوهُمْ واحْصُرُوهُمْ﴾ [التوبة: ٥] - الآية - منسوخٌ ومستثنى منها بقوله: ﴿فَإن تَابُواوأقَامُوا الصَّلاَةَ وآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلَهُمْ﴾ [التوبة: ٥]، وقال بعد ذلك: ﴿فَإِخْوَانُكُمْفِي الدِّين﴾ [التوبة: ١١].
قال أبو محمد: ولا يجوز في هذا نسخٌ؛ لأنها أحكامٌ لأصنافٍ من الكفار حَكَم الله على قومٍ بالقتل إذا أَقاموا على كُفْرِهم، وحكَم لقومٍ بأنهم إذا آمنوا وتابوا أَلاَّ يُعْرَضَ لَهم وأخبر بالرَّحمةِ والمغفرة لهم وحكم لمن استجار بالنبي - عليه السلام - وأَتاه أن يُجِيرَه ويُبْلِغَه إلى موضع يأْمَنُ فيه، فلا استثناء في هذا؛ إذ لا حرفَ (فيه) للاستثناء، ولا نسخفيه، إنما كُلُّ آيةٍ في حُكْمٍ منفردٍ وفي صنفٍ غيرِ الصِّنْفِ الآخر، فَذِكْرُ النَّسخِ في هذا وَهْمٌ (وغَلَط) ظاهر، وعلينا أن نَتَبَيَّنَ الحقَّوالصَّواب.
قوله تعالى: ﴿إنَّما المُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا المَسْجِدَ الحَرامَ بَعْدَعَامِهِمْ هَذَا﴾ [التوبة: ٢٨].
قال جماعةٌ: هذه الآيةُ نَسَخَت ما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - صالَحهُم عليه منأن لا يُمْنَعَ أَحدٌ من البيتِ والمسجدِ الحرام والحرَم، (بقوله) ﴿بَعْدَ عَامِهِمْهَذَا﴾ يعني: بقيةَ سنة تِسع، فَمُنِعوا مِن الدُّخولِ بعد سنة تسع، وكان قدصالَحهم على أن يَدخلوا ولا يُمْنَعوا.
ومذهبُ مالكٍ أن يُمْنَعَ المشركون كُلُّهُم وأهلُ الكتاب من دخولالحرم ومن دخول كل مسجد - وهو قول عمر بن عبد العزيز وقتادة -.
ومذهبُ الشافعي أن يُمنعوا من الحرَم، ولا يُمنَعوا من سائر المساجد.
وأجاز أبو حنيفة وأصحابه دخول أهل الكتاب خاصة الحرَمَ وسائرَالمساجد، ويمنعُ ذلكَ كُلَّه غيرَ أهل الكتاب.
قال أبو محمد: وهذه الآية كالتي قبلها كان حَقُّها ألاَّ تُذكَرَ فيالناسخ والمنسوخ؛ لأنها لم تنسخ قرآناً.
قوله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الذِينَ لا يُؤمِنونَ باللهِ ولاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾الآية:
هذه الآيةُ ناسخةٌ للعفْوِ عن المشركين مِن أهل الكتاب وغيرهم.
وقيل: هي ناسخةٌ لقولِه: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣٦] فأَمَر بقتلالمشركينَ خاصةً دون أهل الكتاب، ثم أمرَ بقتال المشركين مِنأهل الكتاب وغيرِهم، فنسخت تخصيصَ الأمر بالقتال للمشركين(وغيرِهم). وهذا القولُ غيرُ صواب لأنه يلزم منه تركُ قتالِ المشركين.
ولكنْ إِنَّما نسخَت مفهومَ الخطاب في قولِه: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾لأَنَّه فُهِمَ منه تركُ قتالِ أهل الكتاب لِتَخصيصِه المشركين، ثم نسخَ ذلك قولُه تعالى: ﴿قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ باللهِ ولاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٢٩] إلى قوله:﴿مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾ [التوبة: ٢٩]، فأباح قتالَ أهل الكتاب المفهوم في الآيةالأولى ترك قتالهم حتى يعطوا الجزيةَ، فكُلُّ كتابيٍّ مشركٌ، وليس كُلُّ مشركٍ كتابياً. فالمرادُ بقوله: ﴿وقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ﴾ [التوبة: ٣٦] يعني: الذين ليسوا مِن أهل الكتاب.
وقيل: هو تبيين أَنَّ المرادَ بقوله: ﴿وقَاتِلُوا المُشْرِكِين﴾: يريدُ غيرَأهل الكتاب، وقولُه: ﴿قَاتِلُوا الّذِينَ لاَ يُؤمِنُونَ بالله﴾ - الآية - (مرادٌ به)أَهلُ الكتاب، لقوله تعالى: ﴿مِنَ الّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ﴾، فالآيتانمحكمتان إحداهما مُبَيِّنةٌ للأخرى.
وقد قيل: إنَّ قولَه: ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً﴾ [التوبة: ١٢٢] ناسخٌلقوله: ﴿وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كافَّةً﴾، وهذا إِنَّما يجوز إذا جعلتَ "كافةً" حالاً من الضمير في قوله ﴿قاتِلُوا﴾ فأَمَّا إن جعلته حالاً من المشركين، فلا يحسن فيه هذا، لأن قتالهم كُلَّهُم لازمٌ واجب.
قوله تعالى: ﴿والّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ والفِضَّةَ﴾ الآية:
عمَّ الله في هذه الآية، فأمر (بإِنفاق الأموالِ) في سبيل الله، وتواعَد مَنْ كَنَزَها ولم يُنْفِقْها (في سبيل الله) (بعذابٍ أليم).
فَرُوِيَ عن عُمَرَ بن عبد العزيز وعراك بن مالك أنهما قالا: هي منسوخةٌبقوله - عزَّ وجَلَّ -: ﴿خُذْ مِن أمْوَالِهِمْ صَدَقَةً﴾ [التوبة: ١٠٣] - الآية - فلم يُوجِب إنفاقَالأموالِ كُلِّها، وأمر أن يُؤْخَذَ منها صدقةٌ وهي الزكاة، فكُلُّ مال لا تؤدىزكاتُه فهو كَنْزٌ. قال عُمَر بنُ عبد العزيز وعراك بن مالك: مَن أَعطى صدقَته فليس مالُه بكنز. وروي عن ابن شهاب مثل قول عمر فيالآية.
ومن الواجب حمل قوله: ﴿ولاَ يُنفِقُونَهَا﴾، على معنى: (ولا)ينفقونَ الواجبَ عليهم منها، قال: هي محكمةٌ مخصوصةٌ في الزكاة.
قوله تعالى: ﴿إلاّ تنفروا يُعَذِّبْكُم عَذَاباً ألِيماً﴾ [التوبة: ٣٩].
قال ابن عباس: نسخها ﴿ومَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢].
وقال الحسنُ وعِكرمة: وهذا على الأُصولِ لا يَحْسُنُ نسخُه؛ لأنه خبرٌفيه معنى الوعيد، والمعنى: إذا احتيجَ إليهِم نفروا كُلُّهُم، فالرواية عنهمبذلك لا تَصِحُّ. فهي محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ، ومعناها: إلاَّ تنفروا إذا احتيجَإليكُم يُعَذِّبْكُم.
قوله تعالى: ﴿انفِرُوا خِفَافاً وثِقَالاً﴾:
عمَّ الله بالأمر بالنفير الجميعَ، ثم نسخَ ذلك بقوله: ﴿ومَا كَانَالمُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢] - وهذا القولُ مرويٌّ عن ابن عباس -.
قال عكرمة: أول آية نزلت من براءة: ﴿انفِروا خِفافاً وثِقالاً﴾. ونسخها بقوله: ﴿وما كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ - الآية -.
قال ابنُ زيدٍ: الخفيفُ: الذي لا عيالَ له ولا ضَيْعَة. والثقيل: الذي لهعيال وضيعة، ودليل ذلك قوله: ﴿سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَاأمْوَالُنَا وأَهْلُونَا﴾ [الفتح: ١١].
وقيل معناه: انفروا شباباً وشيوخاً.
وقيل معناها: انفروا ركباناً ومشاةً.
وقيل معناه: انفروا نشاطاً وكسالى، وفيه أقوال غيرُ هذا.
قوله تعالى: ﴿عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ﴾ الآيات الثلاث:
قال ابنُ عباس: نسخَ هذه الآيات الثلاث (قولُه تعالى): ﴿فَإِذَااسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذِن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].
وقال الحسنُ وعكرمةُ: إنّ قولَه: ﴿لاَ يَسْتَأذِنُكَ الّذِينَ يُؤْمِنُونَ باللهِواليَوْمِ الآخِر﴾ [التوبة: ٤٤]. نسخه قولُه: ﴿فَإِذَا استَأذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأنِهِمْ فَأْذَن لِمَنشِئْتَ مِنْهُمْ﴾ [النور: ٦٢].
وعن ابن عباس أنه قال: الثَّلاثُ الآيات محكمات، وإنما هو تعييرٌ وتوبيخ للمنافقين حين استأذنوا النبي - عليه السلام - في القُعودعن الجهاد بغيرِ عُذْر، وعذَرَ اللهُ المؤمنين فقال: ﴿فَإِذَا اسْتَأذَنُوكَ لِبَعْضِشَأْنِهِمْ فَأْذَن لِمَن شِئْتَ مِنْهُمْ﴾.
قال أبو محمد: وهذا قولٌ حَسَنٌ، فلا ينسخُ جوازَ الاستئذانِللمؤمنين منعُ الاستئذان للمنافقين، لأن استئذان المنافقين لغير عذر كان، واستئذان المؤمنين لعذر، (فهما) استئذانان مختلفان، لا ينسخ أهدُهماالآخرَ، وهو الصَّواب إن شاء الله.
وأيضاً، فإن استئذانَ المنافقين، إنما كان في أَن يتخلفوا عن الخروجمع رسول الله إلى الجهاد، واستئذانَ المؤمنين إنما هو في أمر يعرِض لهم فيحال قتالهم والمكافحة للمشركين، وقد رُوِيَ أن المؤمنين إنَّما استأذنواالنبي - صلى الله عليه وسلم - لبعض حوائجَ يقضونها ويرجِعون، وهم يحفرون الخندقحولَ المدينة.
قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَراءِ والمَسَاكِين﴾ الآية:
بيَّن اللهُ - جلَّ ذِكرُه - في هذه الآية (أَنَّى توضعُ) الصَّدَقاتُ منالزّكَوَات وغيرِها.
فقيل: إنها نَسَخَتْ كُلَّ صدقةٍ في القرآن - وهو قولُ عِكرمةَ وغيرِه ورواهابن وهب عن خالد بن عمران عن القاسم وسالم -.
والذي يوجبه النظر أنها مبيِّنةٌ للمواضع التي توضع فيها الصدقاتُ غيرُناسخةٍ للصَّدقات، إنما النَّاسخُ لِلصَّدَقات المأمورِ بها في كل القرآن فرضُالزكاة بإجماع.
وهذا من النسخ الذي نحن مخيرونَ في فعل المنسوخ وتركِه، وفعلُهأَفضلُ وأعظمُ أجراً عند الله.
قولُه تعالى: ﴿اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أو لاَ تَسْتَغْفِر لَهُمْ﴾ [التوبة: ٨٠] الآية:
قال جماعةٌ من العلماء: هذا تخييرٌ للنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - في الاستغفار لهموتركِه، وهي منسوخةٌ بقوله: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْعَلَى قَبْرِهِ﴾ [التوبة: ٨٤] وقيل: نسخه قولُه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أمْ لَمْتَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ﴾ [المنافقون: ٦].
وعن ابن عباس أنه قال: لما نزل على النبي - عليه السلام - ﴿إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرّةً فَلَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾ قال النبي: لأزيدنَّ على السبعين فنسخ ذلك قولُه: ﴿سَوَاءٌ عَلَيهِم أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللهُ لَهُم﴾.
ورُوِيَ أَنَّ عبدَ الله بنَ أُبي بنَ سَلول المنافق لما مات جاء ولَدُهفَرغَبَ إلى النبي في الصَّلاةِ عليه، وفي أن يُغْطِيَه قميصَه لِيُكَفِّنَه فيه، فأَعطاه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - قميصَه وأَتى للصَّلاة عليه، فلما ذهبَ لِيُصَلِّيَ عليهأخذ به عُمَرُ وقال قد نهاك الله (أن) تُصَلِّيَ على المنافقين، فقال: إنما (خَيَّرني) بين الاستغفارِ وتركِه، فَصَلَّى عليه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -فأنزلَ اللهُ: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحدٍ مِنْهُم مَاتَ أَبَداً﴾ - الآية، فتركالنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - الصلاة عليهم.
وقد رُوِيَ أن النبي لم يُصَلِّ على المنافق المذكور.
وقال جماعةٌ - وهو الصَّوابُ إن شاء الله -: إنّ الآيةَ غيرُ منسوخةٍ، إنما نزلت بلفظ التهدُّدِ والوعيد (في أنهم) لا يغفرُ اللهُ لَهم، وإن استغفرَلهم النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -، فلم يُبِح الله تعالى لنبيّه عليه السلام الاستغفارَ لهم(بهذا اللفظ، بل أَيأَسَهُ مِن قَبول الاستغفار لهم فلا نَسْخَ) فيه لجوازالاستغفار لهم.
وقولُه: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَى قَبْرِه﴾ ناسخٌ لما رُوِيَ أن النبيَّ - عليه السلام - قامَ على قبر عبدِ الله بن أُبَيِّ بنِسَلول المنافق، وصلَّى عليه إذْ رَغِبَ إليه في ذلك (عبدُ الله ابنه)، وكان ابنُه من خيّار المؤمنين.
قال أبو محمد: وحقّ هذا أَلاَّ يُذْكَرَ في الناسخ والمنسوخ لأنه لمينسخ قرآناً، إلاَّ أن يقول قائلٌ: هو ناسخٌ لما فُهِمَ من قوله: ﴿وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أحدٍ مِنْهُم﴾، وذلك أنه فهم منه أنه صلَّى عليهم، فقيل له: لا تُصَلِّ(على أَحدٍ مِنهُم)، فَنُهِيَ عن أَن يعودَ إلى مثل فِعْلِه، فإن حُمِلَ على هذا حَسُن أن يُدْخَل في الناسخ والمنسوخ على أنه قرآن نسخَ مثلَه.
قوله تعالى: ﴿وَمِنَ الأَعرابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً﴾ الآية:
وقوله تعالى: ﴿الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً﴾.
قال ابنُ حبيب: نسخَ ذلك بالآية التي تحتَها، وهي قولُه: ﴿وَمِنَالأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ [التوبة: ٩٩] - الآية -.
قال أَبو محمد: وهذا خبرٌ لا يُنْسَخُ ولا معنى للنسخ فيه، لأن اللهأَعْلَمَنا أَنَّ الأعرابَ أصنافٌ، وبيَّن ذلك فقال: (مِنْهُم) مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقمَغْرَماً، ومنهم صِنْفٌ يُؤْمِن بالله واليوم الآخر.
وأخبر عنهم أنهم أَشدُّ كفراً ونفاقاً، وهو لفظ عام معناه الخصوص فيقوم بأَعيانهم دلَّ على أنه مخصوص قولُه: ﴿ومِنَ الأعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ باللهواليَوْمِ الآخِر﴾ [التوبة: ٩٩]، إلى ﴿غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: ٩٩]. فَمِنْ للتبعيض، فلا نسخَيَحْسُنُ في هذا لا في المعنى ولا في اللفظ.
قوله تعالى: ﴿وصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ﴾.
قال بعضُ المؤلِّفين لناسخ القرآن ومنسوخِه: هذا منسوخٌ بقوله:﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُم مَاتَ أبَداً﴾ وهو غلطٌ لأن الصَّلاتين مختلفتان لاتنسخ إحداهُما الأخرى.
وقوله: ﴿وَصَلِّ عَلَيْهِمْ﴾: إِنَّما هو أمرٌ بالدُّعاء للمؤمنين الذين (تابوامن تَخَلُّفِهم) عن رسول الله في غزوة تبوك، كأبي لُبابةَ وأصحابه، وأصلُالصَّلاة: الدعاءُ لم يُرِدْ به الصَّلاة على الموتى، ألا ترى إلى قوله: ﴿إنَّصَلاَتَكَ سَكَنٌ لَهُم﴾[التوبة: ١٠٣]، أي: إن دعواتِكَ يا محمدُ تسكُنُ إِليهاقلوبُهُم.
وقوله: ﴿ولاَ تُصَلِّ عَلَى أحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أبَداً﴾، إنما هو نهيٌ عن(الصلاة على موتى) المنافقين، فالآيتان مختلفتان في المعنىمختلفتان فيمن نزلتا فيه، فلا تنسخُ إِحداهُما الأُخرى، إلا إن حَمَلْتَالصَّلاةَ على الموتى على أنها دعاءٌ فيحتمل المعنى ذلك فيجوزُ النَّسْخُ على ما ذكرنا.
قولُه تعالى: ﴿مَا كَانَ لأَِهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِنَ الأعْرَابِ أَنيَتَخَلَّفُوا عِن رَسُولِ الله﴾.
قال ابنُ زيد: نَسَخَها ﴿وَمَا كَانَ المُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافةً﴾ [التوبة: ١٢٢] - وقالهزيدُ بنُ أَسلم -.
وقيل: الآيةُ محكمةٌ غيرُ منسوخةٍ لأنها أَمرٌ للمؤمنين أن ينفروا مع النبي إذا احتاج إليهم واسْتَنْفَرَهُم، ولا يَسَعُ أحداً التَّخَلُّفُ عنه.
والآيةُ الأُخرى نزلت في السَّرايا يبعثُ سريةً وتخلفُ (أُخرىليتفقهوا) في الدين.
وهذا مذهبُ ابنِ عباس والضَّحَّاك وقتادة، وهو الصواب - إن شاء الله -لأن حملَ الآيتين على فائدتين وحكمين أَوْلى من حَمْلِهِما على فائدة واحدة.