ﰡ
وهي مكيّة: [قاله] «١» ابن عباس، ومثله عن ابن الزبير إلا أنه استثنى: إلا ثلاث آيات، قوله عز وجل: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ [الإسراء: ٧٦] نزلت حين جاء رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم وفد ثقيف، حين قالت اليهود: ليست هذه بأرض الأنبياء، وقوله تعالى: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ [الإسراء: ٨٠]، وقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ [الإسراء: ٦٠]، وزاد [مقاتل] «٢» قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ «٣» [الإسراء: ١٠٧].
[الآية الأولى]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩).
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ: هذا النهي يتناول كل مكلف، وقد وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم تعريفا للأمة وتعليما لهم، وإن كان الخطاب لكل فمن يصلح له من المكلفين «٤».
والمراد النهي للإنسان أن يمسك إمساكا يصير به مضيقا على نفسه وعلى أهله،
(٢) صحفت في المطبوع إلى (مقابل) وهو خطأ والصواب ما أثبت، وهو مقاتل بن سليمان المفسّر صاحب الأشباه والنظائر في القرآن والتفسير، طبع بمصر- الهيئة العامة للكتاب المصري.
(٣) فليعلم أن سورة الإسراء- بني إسرائيل- مكيّة بإجماع المفسرين إلا ما ذكره المصنف من آيات، وقيل: إلا آيتين: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ وانظر: البحر المحيط (٦/ ٣).
(٤) قال قتادة: لا تمتنع من النفقة في الطاعة ولا تنفق في المعصية. (معاني النحاس ٣/ ١٤٥).
ولا تك فيها مفرطا أو مفرّطا | كلا طرفي قصد الأمور ذميم |
ثم بين سبحانه غاية الطرفين المنهي عنهما فقال:
فَتَقْعُدَ مَلُوماً: عند الناس بسبب ما أنت عليه من الشح «١».
مَحْسُوراً (٢٩) : بسبب ما فعلته من الإسراف، أي منقطعا عن المقاصد بسبب الفقر «٢».
والمحسور في الأصل: المنقطع عن السير.
وقيل: معناه نادما على ما سلف.
[الآية الثانية]
وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣).
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً: أي لا لسبب من الأسباب المسوغة لقتله شرعا.
فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً: أي لمن يلي أمره من ورثته إن كانوا موجودين، أو ممن له سلطان إن لم يكونوا موجودين، والسلطان التسلّط على القاتل إن شاء قتل وإن
(٢) قال الزجاج: المحسور: الذي قد بلغ الغاية في التّعب والإعياء، وقال ابن قتيبة: مَحْسُوراً منقطعا، تحسرك العطيّة وتقطعك، كما يحسر السّفر البعير فيبقى منقطعا به اه.
وقال القاضي أبو يعلى: وهذا الخطاب أريد به غير الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لأنه لم يكن يدّخر شيئا لغد، وكان يجوع حتى يشدّ الحجر على بطنه، وقد كان كثير من فضلاء الصحابة ينفقون جميع ما يملكون، فلم ينههم الله، لصحة يقينهم، وإنما نهى من خيف عليه التحسّر على ما خرج من يده، فأما من وثق بوعد الله تعالى فهو غير مراد بالآية. اه. (زاد المسير ٥/ ٣٠).
فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ: أي لا يجاوز ما أباحه الله له، فيقتل بالواحد الاثنين أو الجماعة، أو يمثّل بالقاتل أو يعذبه.
إِنَّهُ، أي الولي.
كانَ مَنْصُوراً (٣٣) أي مؤيدا معانا، فإن الله سبحانه نصره بإثبات القصاص له بما أبرزه من الحجج وأوضحه من الأدلة، وأمر أهل الولايات فبمعونته والقيام بحقه حتى يستوفيه «٢».
وقيل: هذه الآية من أول ما نزل من القرآن في شأن القتل لأنها مكيّة.
[الآية الثالثة]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا (٣٦).
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ: أي تتبع ما لا تعلم، من قولك: قفوت فلانا إذا اتبعت أثره. ومنه قافية الشعر لأنها تقفو كل بيت، ومنه القبيلة المشهورة بالقافة لأنهم
فروى خصيف عن مجاهد قال: حجّته التي جعلت له، أن يقتل قاتله.
وذهب جماعة من العلماء إلى أن هذا هو السلطان الذي جعل له، وأنه ليس له أن يأخذ الدّية، إلا أن يشاء القاتل.
وقال الضحاك في السلطان الذي جعل له: إن شاء قتل، وإن شاء أخذ الدّية، وإن شاء عفا.
والقول عند أهل المدينة وأهل الكوفة، قول مجاهد: إن السلطان هاهنا القود خاصّة، لا ما سواه.
وذهب الشافعي رحمه الله إلى قول الضحاك، غير أنه قال: كان يستحق إذا عفا أخذ الدّية، اشترط ذلك أو لم يشترطه، والحجّة له.
وانظر: معاني القرآن (٣/ ١٤٩)، وجامع الطبري (١٥/ ٨١)، وتفسير القرطبي (١٠/ ٢٥٥)، وزاد المسير (٥/ ٣٢)، وقد رجّح ابن جرير قول الضحاك وهو أيضا قول ابن عباس فقال: «وأولى التأويلين بالصواب ما قاله ابن عباس أن لوليّ القتيل، القتل إن شاء أخذ الدية، وإن شاء العفو، لصحة الخبر بذلك عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم.
(٢) أورد الطبري آثارا في تفسير هذه الآية عن عبد الله بن كثير عن مجاهد وأبي بن كعب وغيرهم، وانظره: (١٥/ ٨٣)، والسيوطي في الدر المنثور (٤/ ١٨١).
ومعنى الآية: النهي عن أن يقول الإنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم له، وهذه قضية كلية.
وقد جعلها جماعة من المفسرين خاصة بأمور، فقالوا: لا تذم أحدا بما ليس لك به علم.
وقيل: هي في شهادة الزور.
وقيل: هي في القافية.
وقال القتيبي: معنى الآية لا تتبع الحدس والظنون، وهذا صواب، فإن ما عدا ذلك هو العلم.
وقيل: المراد بالعلم هنا هو الاعتقاد الراجح المستفاد من مستند، قطعيا كان أو ظنيا.
قال أبو السعود في «تفسيره» «١» : واستعماله بهذا المعنى لا ينكر شيوعه.
وقال الشوكاني «٢» : أقول: هذه الآية قد دلّت على عدم جواز العمل بما ليس بعلم، ولكنها عامة مخصصة بالأدلة الواردة بجواز العمل بالظن كالعمل بالعام وبخبر الواحد، والعمل بالشهادة، والاجتهاد في القبلة، وفي جزاء الصيد ونحو ذلك، فلا يخرج من عمومها ومن عموم أن الظن لا يغني من الحق شيئا، إلا ما قام دليل جواز العمل به، فالعمل بالرأي في مسائل الشرع إن كان بعدم وجود الدليل في الكتاب والسنة فقد رخص فيه النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كما في قوله صلّى الله عليه وآله وسلّم لمعاذ لما بعثه قاضيا: «بم تقضي؟ قال بكتاب الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله. قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيي» «٣».
(٢) في «فتح القدير» (٣/ ٢٢٧).
(٣) حديث ضعيف: رواه أبو داود (٣٥٩٢)، (٣٥٩٣)، والترمذي (١٣٢٧)، (١٣٢٨)، وأحمد (٥/ ٢٣٠، ٢٣٦، ٢٤٢)، والطيالسي في «مسنده» (٥٥٩)، والدارمي (١/ ٦٠)، والطبراني في «الكبير» (٢٠/ ٣٦٢)، (١٧٠)، وعبد بن حميد في «المنتخب» (١٢٤)، والبيهقي في «الكبرى» (١٠/ ١١٤)، وفي «المعرفة» له (١/ ١٧٣)، و «الخطيب في الفقيه والمتفقه» (١/ ١٨٨، ١٨٩)، وابن عبد البر في «الجامع» (١٥٩٢، ١٥٩٣) وانظر: تلخيص الحبير (٤/ ١٨٢، ١٨٣)، ونصب [.....]
.
وأما التوثب على الرأي مع وجود الدليل في الكتب أو السنة، ولكنه قصّر صاحب الرأي عن البحث فجاء برأيه فهو داخل تحت هذا النهي دخولا أولياء، لأنه رأي في شرع الله، وللناس عنه غنى بكتاب الله سبحانه وسنّة رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولم تدع إليه حاجة، على أن الترخيص في الرأي عند عدم وجود الدليل، إنما هو رخصة للمجتهد، يجوز له أن يعمل به ولم يدل دليل على أنه يجوز لغيره العمل به وينزله منزلة مسائل الشرع.
وبهذا يتضح لك أتم إيضاح ويظهر لك أكمل ظهور، أن هذه الآراء المدونة في الكتب الفروعية ليست من الشرع في شيء، والعامل بها على شفا جرف هار.
فالمجتهد المستكثر من الرأي قد قفى ما ليس له به علم، والمقلد المسكين العامل برأي ذلك المجتهد قد عمل بما ليس له به علم ولا لمن قلده، ظلمات بعضها فوق بعض «١». انتهى.
وقد قيل: إن هذه الآية خاصة بالعقائد ولا دليل على ذلك أصلا، بل علل الله سبحانه النهي عن العمل بما ليس يعلم بقوله:
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ: أشار إلى الثلاثة الأعضاء، وأجريت مجرى العقلاء لما كانت مسؤولة عن أحوالها شاهدة على أصحابها.
وقال الزجاج: إن العرب تعبر عما يعقل وعما لا يعقل بأولئك.
وأنشد ابن جرير «٢» مستدلا على عدم جواز هذا، قول الشاعر «٣» :
ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى | والعيش بعد أولئك الأيام |
(١) انظر: أقوال المفسرين في «الطبري» (١٥/ ٨٦)، ابن كثير (٥/ ٧٢)، البحر المحيط (٦/ ٣٦)، والقرطبي (١٠/ ٢٦٢)، ومجاز أبي عبيدة (١/ ٣٧٩).
(٢) انظر: تفسير الطبري (١٥/ ٨٧).
(٣) البيت في «ديوانه» (ص ٥٥١).
ومعنى سؤال هذه الجوارح: أنه يسأل صاحبها عما استعملها فيه لأنها آلات، والمستعمل هو الروح الإنساني، فإن استعملها في الخير استحق الثواب وإن استعملها في الشر استحق العقاب.
وقيل: إن الله سبحانه ينطق الأعضاء هذه عند سؤالها فتخبر عما فعله صاحبها.
[الآية الرابعة] وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا (٣٧).
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً: المرح قيل: هو شدة الفرح.
وقيل: التكبر في المشي. وقيل: تجاوز الإنسان قدره. وقيل: الخيلاء في المشي. وقيل: البطر والأشر. وقيل: النشاط. والظاهر أن المراد به الخيلاء والفخر.
قال الزجاج في تفسير الآية: لا تمش في الأرض مختالا فخورا.
وذكر الأرض مع أن المشي لا يكون إلا عليها أو على ما هو معتمد عليها، تأكيدا وتقريرا.
ولقد أحسن من قال:
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا | فكم تحتها قوم هم منك أرفع |
وإن كنت في عزّ وحرز ومنعة | فكم مات من قوم هم منك أمنع |
[الآية الخامسة]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨).أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ: قد أجمع المفسرون على أن هذه الصلاة المراد بها الصلاة المفروضة.
وقد اختلف العلماء في الدلوك المذكور في هذه الآية على قولين:
أحدهما: أنه زوال الشمس عن كبد السماء، قاله عمر وابنه وأبو هريرة وأبو برزة وابن عباس والحسن والشعبي وعطاء ومجاهد وقتادة والضحاك وأبو جعفر، واختاره ابن جرير.
والقول الثاني: أنه غروب الشمس، قاله عليّ وابن مسعود وأبي بن كعب وأبو عبيد، وروي عن ابن عباس «١».
وقال الفراء: دلوك الشمس من لدن زوالها إلى غروبها «٢».
قال الأزهري: معنى الدلوك في كلام العرب الزوال، ولذلك قيل للشمس إذا زالت نصف النهار: دلكة لأنها في الحالتين زائلة.
قال: والقول عندي أنه زوالها نصف النهار لتكون الآية جامعة للصلوات الخمس «٣».
(٢) ونصه: رأيت العرب تذهب في الدّلوك إلى غيبوبة الشمس، وأنشدني بعضهم:
«ذبّب حتى دلكت براح» يعني الساقي طرد الناس.
قال ابن الجوزي: وهذا اختيار ابن قتيبة، لأن العرب تقول: دلك النجم: إذا غاب.
قال ذو الرمّة:
مصابيح ليست باللواتي تقودها | نجوم ولا بالأفلات الدّوالك |
(٣) وبقية كلامه: «وإذا جعلت الدّلوك: الغروب، كان الأمر في هذا قاصرا على ثلاث صلوات.
وانظر: الطبري (١٥/ ١٣٧)، والبحر المحيط (٦/ ٧٠). وزاد المسير (٥/ ٧١).
إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ: هو اجتماع الظلمة.
قال الفراء والزجاج: يقال: غسق الليل، وأغسق إذا أقبل بظلامه «١».
قال أبو عبيد: الغسق سواد الليل، وأصل الكلمة من السيلان، يقال: أغسقت إذا سالت.
وقد استدل بهذه الغاية أعني قوله إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ من قال إن صلاة الظهر يتمادى وقتها من الزوال إلى الغروب. روي ذلك عن الأوزاعي وأبي حنيفة، وجوزه مالك والشافعي في حال الضرورة.
وقد وردت الأحاديث الصحيحة المتواترة عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم في تعيين أوقات الصلاة، فيجب أن تحمل هذه الآية على ما بينته السنة فلا نطيل بذكر ذلك.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ: قال المفسرون المراد به صلاة الصبح.
قال الزجاج: وفي هذه فائدة عظيمة تدل على أن الصلاة لا تكون إلا بقراءة حتى سميت الصلاة قرآنا».
وقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنه «لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب».
وفي بعض الأحاديث الخارجة من مخرج حسن «وقرآن معها».
وورد ما يدل على وجوب الفاتحة في كل ركعة، ولو خلف الإمام، وعليه عمل أكثر أهل العلم من الصحابة ومن بعدهم، وهو الحق. وقد حرره الشوكاني في مؤلفاته
وقال قتادة: أوّله. وانظر: الطبري (١٥/ ١٣٨)، والبحر المحيط (٦/ ٧٠).
وقال الجوهري في الصحاح (غسق) : أول ظلمة الليل، غسق الليل يغسق: أظلم اه.
(٢) هذا من باب إطلاق الجزء وإرادة الكل، فسمّى الصلاة «قرآنا» لأنها لا تكون إلا بالقرآن.
وقال الزمخشري: «يعني صلاة الفجر، سمّيت قرآنا لأنها ركن، كما سمّيت ركوعا، وسجود أو قنوتا، ويجوز أن يكون حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، ليسمع الناس القرآن فيكثر الثواب، ولهذا كانت الفجر أطول الصلوات قراءة». اه. (الكشاف ٢/ ٣٧٢).
قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) : أي تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، كما ورد ذلك في الحديث الصحيح، وبذلك قال جمهور المفسرين.
[الآية السادسة]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا (١١٠).
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها: أي بقراءة صلاتك على حذف المضاف للعلم، لأن الجهر والمخافتة من نعوت الصموت لا من نعوت أفعال الصلاة، فهي من إطلاق الكل وإرادة الجزء. يقال: خفت صوته خفوفا إذا انقطع كلامه وضعف وسكن، وخفت الزرع إذا ذبل، وخافت الرجل بقراءته إذا لم يرفع بها صوته، وقيل: معناه لا تجهر بصلاتك كلها ولا تخافت بها كلها، والأول أولى «١».
وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ: أي الجهر والمخافتة المدلول عليهما في الفعلين.
سَبِيلًا (١١٠) أي طريقا مستويا بين الأمرين، فلا تكن مجهورة ولا مخافتا بها.
وعلى التفسير الثاني يكون معنى ذلك النهي عن الجهر بقراءة الصلوات كلها، والنهي عن المخافتة بقراءة الصلوات كلها، والأمر يجعل البعض منها مجهورا به وهو صلاة الليل، والمخافتة بصلاة النهار.
وذهب قوم إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً [الأعراف: ٥٥].
والقول الآخر: رواه هشام بن عروة عن أبيه قال: قالت لي عائشة: يا ابن أختي أتدري فيم أنزل هذه الآية- قال: قلت: لا، قالت: أنزل في الدعاء. وقال النحاس: والإسنادان حسنان، والدعاء يسمّى صلاة، ولا يكاد يقع ذلك للقراءة. ويقال: إنما قيل: صلاة، لأنها لا تكون إلا بدعاء، والدعاء صلاة فسمّيت باسمه (معاني القرآن ٣/ ٢٠٧، ٢٠٨).
ولما أمر أن لا يذكر ولا ينادى إلا بأسمائه الحسنى، نبه على كيفية الحمد له فقال: وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً: كما يقوله اليهود والنصارى ومن قال من المشركين إن الملائكة بنات الله، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ: أي مشارك في ملكه وربوبيته كما يزعمه الثنوية ونحوهم من الفرق القائلين بتعدد الآلهة.
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ: أي لم يحتج إلى موالاة أحد لذل يلحقه، فهو مستغن عن الولي والنصير.
وقال الزجاج: أي لم يحتج إلى أن ينتصر بغيره. وفي التعرض في أثناء الحمد لهذه الصفات الجليلة إيذان بأن المستحق للحمد من له هذه الصفات لأنه القادر على الإيجاد وإفاضة النعم، لكون «الولد مجبنة مبخلة» «١»، ولأنه أيضا يستلزم حدوث الأب لأنه متولد من جزء من أجزائه، والمحدث غير قادر على كمال الإنعام، والشركة في الملك إنما تتصور لمن لا يقدر على الاستقلال به، ومن لا يقدر على الاستقلال عاجز فضلا عن تمام ما هو له، فضلا [عن نظام] «٢» ما هو عليه.
وأيضا الشركة موجبة للتنازع بين الشريكين، وقد يمنعه الشريك من إفاضته الخير إلى أوليائه ويؤديه إلى الفساد، لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (٢٢) [الأنبياء: ٢٢]، والمحتاج إلى ولي يمنعه من الذل وينصره على من أراد إذلاله، ضعيف لا يقدر على ما يقدر عليه من هو مستغن بنفسه.
والبيهقي في «الأسماء والصفات» (ص ٤٦١).
وقال البوصيري: إسناده صحيح، رجاله ثقات.
وقال الحاكم: صحيح، ووافقه الذهبي.
(٢) ما بين [] وقع في المطبوعة (أن يضاع) وهو خطأ، والتصويب من فتح القدير (٣/ ٢٦٦).
أخرج ابن جرير عن قتادة قال: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يعلم أهله هذه الآية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي | إلخ، الصغير من أهله والكبير «١». |
وأخرج أحمد والطبراني عن معاذ بن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية كلها «٣».
(٢) إسناده ضعيف: رواه عبد الرزاق (٧٩٧٦)، وابن أبي شيبة (٧/ ٢٠٢)، وابن السني (٤٢٦). وعبد الكريم بن أبي أمية: ضعّفوه.
(٣) إسناده ضعيف: رواه أحمد (٣/ ٤٣٩، ٤٤٠)، والطبراني (٢٠/ ١٩٢)، (٤٣٠).
وقال الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧/ ٥٢) :«رواه أحمد من طريقين في أحدهما رشدين بن سعد وهو ضعيف، وفي الأخرى ابن لهيعة وهو أصلح منه، وكذلك الطبراني».