ﰡ
فاعلم أن هذا الإسراء به صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة، زعم بعض أهل العلم أنه بروحه صلى الله عليه وسلم دون جسده، زاعماً أنه في المنام لا اليقظة، لأن رؤيا الأنبياء وحي.
وزعم بعضهم : أن الإسراء بالجسدِ، والمعراج بالروح دون الجسد، ولكن ظاهر القرآن يدل على أنه بروحه وجسده صلى الله عليه وسلم يقظةً لا مناماً، لأنه قال ﴿ بِعَبْدِهِ ﴾ والعبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، ولأنه قال ﴿ سُبْحَانَ ﴾ والتَّسبيح إنما يكون عند الأمور العظام. فلو كان مناماً لم يكن له كبير شأن حتى يتعجب منه. ويؤيده قوله تعالى :﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ﴾ [ النجم : ١٧ ] لأن البصر من آلات الذات لا الروح، وقوله هنا ﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ﴾.
ومن أوضح الأدلة القرآنية على ذلك قوله جل وعلا :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في القُرْءَانِ ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ] فإنها رؤيا عين يقظة، ولا رؤيا منام، كما صحَّ عن ابن عباس وغيره.
ومن الأدلة الواضحة على ذلك أنها لو كانت رؤيا منام لما كانت فتنة، ولا سبباً لتكذيب قريش، لأن رؤيا المنام ليست محل إنكار، لأن المنام قد يرى فيه ما لا يصح. فالذي جعله الله فتنة هو ما رآه بعينه من الغرائب والعجائب ؛ فزعم المشركون أن من ادعى رؤية ذلك بعينه فهو كاذب لا محالة، فصار فتنة لهم. وكون الشجرة المعلونة التي هي شجرة الزقوم على التحقيق فتنة لهم «أن الله لما أنزل قوله :﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٦٤ ] قالوا : ظهر كذبه ؛ لأن الشجر لا ينبت بالأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار ! » كما تقدم في البقرة.
ويؤيد ما ذكرنا من كونها رؤيا عين يقظة قوله تعالى هنا :﴿ لِنُرِيَهُ مِنْ ءايَاتِنَا ﴾ الآية، وقوله ﴿ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [ النجم : ١٧-١٨ ]. وما زعمه بعض أهل العلم من أن الرؤيا لا تطلق بهذا اللفظ لغة إلا على رؤيا المنام، مردود. بل التحقيق : أن لفظ الرؤيا يطلق في لغة العرب على رؤية العين يقظة أيضاً. ومنه قول الراعي وهو عربي قح :
فكبَّر للرُّؤيا وهشَّ فؤاده | وبشَّر نفساً كان قبل يلومها |
*ورؤياك أحلى في العيون من الغمض*
قال صاحب اللسان.
وزعم بعض أهل العلم : أن المراد بالرؤيا في قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ ﴾ [ الإسراء : ٦٠ ] الآية، رؤيا منام، وأنها هي المذكورة في قوله تعالى :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الفتح : ٢٧ ] الآية.. والحق الأول.
وركوبه صلى الله عليه وسلم على البراق يدل على أن الإسراء بجسمه ؛ لأن الروح ليس من شأنه الركوب على الدواب كما هو معروف، وعلى كل حال :
فقد تواترت الأحاديث الصحيحة عنه :«أنه أُسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وأنه عُرج به من المسجد الأقصى حتى جاوز السماوات السبع ».
وقد دلت الأحاديث المذكورة على أن الإسراء والمعراج كليهما بجسمه وروحه، يقظة لا مناماً، كما دلت على ذلك أيضاً الآيات التي ذكرنا.
وعلى ذلك من يعتد به من أهل السنة والجماعة، فلا عبرة بمن أنكر ذلك من الملحدين.
وما ثبت في الصَّحيحين من طريق شريك عن أنس رضي الله عنه : أن الإسراء المذكور وقع مناماً لا ينافي ما ذكرنا مما عليه أهل السنة والجماعة، ودلت عليه نصوص الكتاب والسنة ؛ لإمكان أن يكون رأى الإسراء المذكور نوماً، ثم جاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح فأسري به يقظة تصديقاً لتلك الرؤيا المنامية. كما رأى في النوم أنهم دخلوا المسجد الحرام، فجاءت تلك الرؤيا كفلق الصبح، فدخلوا المسجد الحرام في عمرة القضاء عام سبع يقظة، لا مناماً، تصديقاً لتلك الرؤيا. كما قال تعالى :﴿ لَّقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِن شَاء اللَّهُ ءامِنِينَ ﴾ الآية. ويؤيد ذلك حديث عائشة الصحيح «فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح » مع أن جماعة من أهل العلم قالوا : إن شريك بن عبد الله بن أبي نمر ساء حفظه في تلك الرواية المذكورة عن أنس، وزاد فيها ونقص، وقدم وأخر. ورواها عن أنس غيره من الحفاظ على الصواب، فلم يذكروا المنام الذي ذكره شريك المذكور. وانظر رواياتهم بأسانيدها ومتونها في تفسير ابن كثير رحمه الله تعالى ؛ فقد جمع طرق حديث الإسراء جمعاً حسناً بإتقان. ثم قال رحمه الله :«والحق أنه عليه الصلاة والسلام أُسري به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أُتي بالمعراج وهو كالسُّلّم ذو درجٍ يرقى فيها، فصعد فيه إلى السّماء الدنيا، ثم إلى بقية السماوات السبع، فتلقاه من كل سماء مقرّبوها، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزليهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوىً يسمع فيه صريف الأقلام أي أقلام القدر بما هو كائن، ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة، وغشيتها الملائكة، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق، ورأى البيت المعمور، وإبراهيم الخليل بانِيَ الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه ؛ لأنه الكعبة السماوية يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة، يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة، ورأى الجنة والنار. وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده. وفي هذا اعتناء بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء ؛ فصلى بهم فيه لما حانت الصَّلاة، ويحتمل أنها الصبح من يومئذ. ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء. والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، ولكنْ، في بعضها أنه كان أول دخوله إليه، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق ؛ لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى.
ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النَّبيين، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس. والله سبحانه وتعالى أعلم. انتهى بلفظه من تفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : ثبت الإسراء في جميع مصنفات الحديث، وروي عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، فهو متواتر بهذا الوجه. وذكر النُّقاش ممن رواه : عشرين صحابياً، ثم شرع يذكر بعض طرقه في الصحيحين وغيرهما، وبسط قصة الإسراء، تركناه لشهرته عند العامة، وتواتره في الأحاديث.
وذكر الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في آخر كلامه على هذه الآية الكريمة فائدتين، قال في أولاهما :«فائدة حسنة جليلة وروى الحافظ أبو نعيم الأصبهاني في كتاب ( دلائل النبوة ) من طريق محمد بن عمر الواقدي : حدثني مالك بن أبي الرجال، عن عمر بن عبد الله، عن محمد بن كعب القرظي قال :«بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم دحية بن خليفة إلى قيصر ». فذكر وروده عليه وقدومه إليه، وفي السياق دلالة عظيمة على وفور عقل هرقل، ثم استدعى من بالشام من التجار فجيء بأبي سفيان صخر بن حرب وأصحابه ؛ فسألهم عن تلك المسائل المشهورة التي رواها البخاري ومسلم كما سيأتي بيانه. وجعل أبو سفيان يجتهد أن يحقِّر أمره ويصغِّره عنده، قال في السياق عن أبي سفيان :«والله ما منعني من أن أقول عليه قولاً أسقطه به من عينه إلا أنّى أكره أن أكذب عنده كذبة يأخذها عليَّ ولا يصدقني في شيءٍ. قال : حتَّى ذكرت قوله ليلة أسري به، قال فقلت : أيُّها الملك، ألا أخبرك خبراً تعرف به أَنه قد كذب. قال : وما هو ؟ قال : قلت إنه يزعم لنا أنه خرج من أرضنا أرض الحرم في ليلةٍ، فجاء مسجدكم هذا مسجد إيلياء، ورجع إلينا تلك الليلة قبل الصَّباح. قال : وبطريق إيلياء عند رأس قيصر، فقال بطريق إيلياء : قد علمت تلك الليلة.
قال : فنظر إليه قيصر وقال : وما علمك بهذا ؟ قال : إني كنت لا أنام ليلةً حتَّى أغلق أبواب المسجد ؛ فلما كانت تلك اللَّيلةِ أغلقت الأَبواب كلَّها غير بابٍ واحدٍ غلبني، فاستعنت عليه بعمَّالي ومن يحضرني كلهم فغلبنا، فلم نستطع أن نحركه كأنما نزاول به جبلاً، فدعوت إليه النَّجاجرة فنظروا إليه فقالوا : إنَّ هذا الباب سقط عليه النجاف والبنيان ولا نستطيع أن نحرِّكه، حتى نصبح فننظر من أين أتى ! قال : فرجعت وتركت البابين مفتوحين. فلمَّا أصبحت غدوت عليهما فإذا المجر الذي في زاوية المسجد مثقوب ؛ وإذا فيه أَثر مربط الدابة. قال : فقلت لأصحابي : ما حبس هذا الباب اللَّيلة إلا على نبيٍّ وقد صلَّى الليلة في مسجدنا اه.
ثم قال في الأخرى :«فائدة قال الحافظ أبو الخطاب عمر بن دحية في كتابه ( التنوير في مولد السراج المنير ) وقد ذكر حديث الإسراء عن طريق أنس وتكلم عليه فأجاد وأفاد. ثم قال : وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء عن عمر بن الخطاب، وعليّ، وابن مسعودٍ، وأبي ذرٍّ، ومالك بن صعصعة، وأبي هريرة، وأبي سعيد، وابن عباس، وشداد بن أَوس، وأبي بن كعب، وعبد الرحمن بن قرط، وأبي حبة، وأبي ليلى الأنصاريين، وعبد الله بن عمرو، وجابر، وحذيفة، وبُريدة، وأبي أيوب، وأبي أُمامة، وسمرة بن جندب، وأبي الحمراء، وصهيب الرومي، وأم هانئ، وعائشة، وأسماء ابنتي أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين. منهم من ساقه بطوله، ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد، وإن لم تكن رواية بعضهم على شرط الصحة «فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون، وأعرض عنه الزنادقة والملحدون ﴿ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴾[ الصف : ٨ ] اه من ابن كثير بلفظه.
وقد قدمنا أن أحسن أوجه الإعراب في ﴿ سُبْحَانَ ﴾ أنه مفعول مطلق، منصوب بفعل محذوف : أي أسبح الله سبحاناً أي تسبيحاً. والتسبيح : الإبعاد عن السوء. ومعناه في الشرع : التنزيه عن كل ما لا يليق بجلال الله وكماله، كما قدمنا. وزعم بعض
لما بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة عظم شأن نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ذكر عظم شأن موسى بالكتاب العظيم، الذي أنزله إليه، وهو التوراة ؛ مبيناً أنه جعله هدىً لبني إسرائيل. وكرر جل وعلا هذا المعنى في القرآن ؛ كقوله :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلاَ تَكُن في مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَاءيلَ وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ ﴾ [ السجدة : ٢٣-٢٤ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأولَى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ ﴾ [ القصص : ٤٣ ] الآية، وقوله :﴿ ثُمَّ ءاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيءٍ ﴾ [ الأنعام : ١٥٤ ] الآية، وقوله :﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ في الألْوَاحِ مِن كُلّ شَيء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيء ﴾ [ الأنعام : ١٤٥ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ [ ٢ ].
اعلم أن هذا الحرف قرأه جمهور القراء ﴿ ألاّ تَتَّخِذُونَ ﴾ بالتاء على وجه الخطاب ؛ وعلى هذا ف«أن » هي المفسرة. فجعل التوراة هدى لبني إسرائيل مفسر بنهيهم عن اتخاذ وكيل من دون الله ؛ لأن الإخلاص لله في عبادته هو ثمرة الكتب المنزلة على الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه. وعلى هذه القراءة ف«لا » في قوله :﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ ﴾ ناهية. وقرأه أبو عمرو من السبعة ﴿ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ﴾ بالياء على الغيبة. وعلى هذه القراءة فالمصدر المنسبك من «أن » وصلتها مجرور بحرف التعليل المحذوف ؛ أي وجعلناه هدى لبني إسرائيل لأجل ألا يتخذوا من دوني وكيلاً ؛ لأن اتخاذ الوكيل الذي تُسند إليه الأمور، وتُفوض من دون الله ليس من الهدى ؛ فمرجع القراءتين إلى شيء واحد، وهو أن التوكل إنما يكون على الله وحده لا على غيره.
وكرر هذا المعنى في موضع كثيرة ؛ كقوله :﴿ رَّبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً ﴾ [ المزمل : ٩ ]، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ الرَّحْمَانُ ءَامَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا ﴾ [ الملك : ٢٩ ] ؛ وقوله :﴿ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِىَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [ التوبة : ١٢٩ ]، وقوله :﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [ الطلاق : ٣ ]، وقوله :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَن عَلَى مَآ آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [ إبراهيم : ١١-١٢ ]، وقوله :﴿ إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّى وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ ءاخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ ﴾ [ هود : ٥٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ ﴾ [ يونس : ٧١ ] الآية، وقوله :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٣ ]، وقوله :﴿ وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَىِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ ﴾ [ الفرقان : ٥٨ ] الآية، وقوله :﴿ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ ﴾ [ هود : ١٢٣ ] الآية، وقوله :﴿ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾ [ آل عمران : ١٧٣ ]، والآيات بمثل ذلك كثيرة جداً.
والوكيل : فعيل من التوكل. أي متوكلاً عليه، تفوضون إليه أموركم ؛ فيوصل إليكم النفع، ويكف عنكم الضر.
وقال الزمخشري :﴿ وَكِيلاً ﴾ أي رباً تكلون إليه أموركم.
وقال ابن جرير : حفيظاً لكم سواي.
وقال أبو الفرج بن الجوزي : قيل للرب وكيل لكفايته وقيامه بشؤون عباده. لا على معنى ارتفاع منزلة الموكل وانحطاط أمر الوكيل اه ؛ قاله أبو حيان في البحر.
وقال القرطبي :﴿ وَكِيلاً ﴾ أي شريكاً ؛ عن مجاهد. وقيل : كفيلاً بأمورهم ؛ حكاه الفراء. وقيل : ربًّا يتوكلون عليه في أمورهم ؛ قاله الكلبي. وقال الفراء : كافياً اه والمعاني متقاربة، ومرجعها إلى شيء واحد، وهو أن الوكيل : من يتوكل عليه ؛ فتفوض الأمور إليه، ليأتي بالخير، ويدفع الشر. وهذا لا يصح إلا لله وحده جل وعلا. ولهذا حذر من اتخاذ وكيل دونه ؛ لأنه لا نافع ولا ضار، ولا كافي إلا هو وحده جل وعلا.. عليه توكلنا، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة من حملهم مع نوح ؛ تنبيهاً على النعمة التي نجاهم بها من الغرق ؛ ليكون في ذلك تهييج لذرياتهم على طاعة الله. أي يا ذرية من حملنا مع نوح، فنجيناهم من الغرق، تشبهوا بأبيكم، فاشكروا نعمنا. وأشار إلى هذا المعنى في قوله :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّيْنَ مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ ﴾ [ مريم : ٥٨ ] الآية.
وبين في مواضع أخر الذين حملهم مع نوح من هم ؟ وبين الشيء الذي حملهم فيه، وبين من بقي له نسل، وعقب منهم، ومن انقطع ولم يبق له نسل ولا عقب.
فبين أن الذين حملهم مع نوح : هم أهله ومن آمن معه من قومه في قوله :﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ ءَامَنَ ﴾ [ هود : ٤٠ ].
وبين أن الذين آمنوا من قومه قليل بقوله :﴿ وَمَا ءامَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ﴾.
وبين أن ممن سبق عليه القول من أهله بالشقاء امرأته وابنه. قال في امرأته :﴿ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ امْرَأَتَ نُوحٍ ﴾ إلى قوله ﴿ ادْخُلاَ النَّارَ مَعَ الدَاخِلِينَ ﴾ [ التحريم : ١٠ ]. وقال في ابنه :﴿ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ ﴾ [ هود : ٤٣ ]، وقال فيه أيضاً :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ﴾[ هود : ٤٦ ] الآية. وقوله :﴿ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ﴾ أي الموعود بنجاتهم في قوله :﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾ [ المؤمنون : ٢٧ ] الآية، ونحوها من الآيات.
وبين أن الذي حملهم فيه هو السفينة في قوله :﴿ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا ﴾ [ هود : ٤٠ ] الآية ؛ أي السّفينة، وقوله :﴿ فَاسْلُكْ فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ﴾ الآية. أي أدخل فيها أي السفينة ﴿ مِن كُلِّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ﴾.
وبين أن ذرية من حمل من نوح لم يبق منها إلا ذرية نوح في قوله :﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [ ص : ٧٧ ]، وكان نوح يحمد الله على طعامه وشرابه، ولباسه وشأنه كله ؛ فسّماه الله عبداً شكوراً.
وأظهر أوجه الإعراب في قوله :﴿ ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا ﴾ [ ٣ ] الآية أنه منادى بحرف محذوف.
أظهر الأقوال فيه : أنه بمعنى أخبرناهم وأعلمناهم.
ومن معاني القضاء : الأخبار والإعلام ؛ ونظير ذلك في القرآن قوله تعالى :﴿ وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآْءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ﴾ [ الحجر : ٦٦ ] والظّاهر أن تعديته ب «إلى » لأنه مضمن معنى الإيحاء. وقيل : مضمن معنى : تقدمنا إليهم فأخبرناهم. قال معناه ابن كثير. والعلم عند الله تعالى.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من أحسن أي بالإيمان والطاعة فإنه إنما يحسن إلى نفسه ؛ لأن نفع ذلك لنفسه خاصة. وأن من أساء أي بالكفر والمعاصي فإنه إنما يسيء على نفسه ؛ لأن ضرر ذلك عائد إلى نفسه خاصة.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ] الآية، وقوله :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ]، وقوله :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [ الروم : ٤٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات. واللام في قوله :﴿ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾ بمعنى على، أي فعليها، بدليل قوله ﴿ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]. ومن إتيان اللام بمعنى على قوله تعالى :﴿ وَيَخِرُّونَ لِلأذْقَانِ ﴾ [ الإسراء : ١٠٩ ] الآية ؛ أي عليها : وقوله :﴿ فَسَلَامٌ لَّكَ ﴾ [ الواقعة : ٩١ ] الآية ؛ أي سلام عليك على ما قاله بعض العلماء. ونظير ذلك من كلام العرب : قول جابر التغلبي، أو شريح العبسي، أو زهير المزني أو غيرهم :
تناوله بالرمح ثم انثنى له | فخر صريعاً لليدين وللفم |
قوله تعالى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاٌّخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ [ ٧ ].
جواب ﴿ إِذَا ﴾ في هذه الآية الكريمة محذوف، وهو الذي تتعلق به اللام في قوله :﴿ لِيَسُوءُواْ ﴾ وتقديره : فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسؤوا وجوهكم ؛ بدليل قوله في الأولى :﴿ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَآ ﴾ [ الإسراء : ٥ ] الآية، وخير ما يفسر به القرآن القرآن. قال ابن قتيبة في مشكل القرآن ) : ونظيره في حذف العامل قول حميد بن ثور :
رأتني بحبليها فصدت مخافة | وفي الحبل روعاه الفؤاد فروق |
وقرأه الباقون ﴿ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ ﴾ بالياء وضم الهمزة بعدها واو الجمع التي هي فاعل الفعل، ونصبه بحذف النون، وضمير الفاعل الذي هو واو عائد إلى الذين بعثهم الله عليهم ليسؤوا وجوههم بأنواع العذاب والقتل.
لما بين جلَّ وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما : بعث عليهم عباداً له أولي بأس شديد، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم. وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة : بعث عليهم قوماً ليسوءوا وجوههم، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة، وليتبروا ما علوا تتبيراً.
وبين أيضاً : أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جلَّ وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ؛ وذلك في قوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ ولم يبين هنا : هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا ؟ ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتم صفاته ونقض عهوده، ومظاهرة عدوه عليه، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة. فعاد الله جلَّ وعلا للانتقام منهم تصديقاً لقوله :﴿ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ﴾ فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم، والمسلمين ؛ فجرى على بني قريظة والنضير، وبني قينقاع وخيبر، ما جرى من القتل، والسبي، والإجلاء، وضرب الجزية على من بقي منهم، وضَرْب الذلة والمسكنة.
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى ﴿ وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُواْ فَلَمَّا جَآءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَآءُو بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ ﴾ [ البقرة : ٨٩-٩٠ ]، وقوله :﴿ أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم بَلْ ﴾ [ البقرة : ١٠٠ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ ﴾ [ المائدة : ١٣ ] الآية، ونحو ذلك من الآيات.
ومن الآيات الدالة على أنه عاد للانتقام منهم، قوله تعالى :﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُواْ يا أُوْلِي الأبْصَارِ وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاَءَ لَعَذَّبَهُمْ في الدُّنْيَا وَلَهُمْ في الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَآقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [ الحشر : ٢-٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَأَنزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُم مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِن صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ في قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا ﴾ [ الأحزاب : ٢٦-٢٧ ]، ونحو ذلك من الآيات.
وتركنا بسط قصة الذين سُلطوا عليهم في المرتين. لأنها أخبار إسرائيلية ؛ وهي مشهورة في كتب التفسير والتاريخ. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا ﴾ [ ٨ ].
في قوله :﴿ حَصِيرًا ﴾ في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء، كل منهما يشهد لمعناه قرآن. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه وكلها صحيح ويشهد له قرآن ؛ فنورد جميع ذلك لأنه كله حق :
الأول أن الحصير : المحبس والسجن ؛ من الحصر وهو الحبس. قال الجوهري : يقال حصره يحصره حصراً : ضَيَّق عليه، وأَحاط به. وهذا الوجه يدل له قوله تعالى :﴿ وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً ﴾ [ الفرقان : ١٣ ]، ونحو ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن معنى ﴿ حَصِيرًا ﴾ أي فراشاً ومهاداً ؛ من الحصير الذي يُفرش ؛ لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيراً. قال الثعلبي : وهو وجه حسن. ويدل لهذا الوجه قوله تعالى :﴿ لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ﴾ [ الأعراف : ٤١ ] الآية، ونحو ذلك من الآيات. والمهاد : الفراش.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية، وأجمعها لجميع العلوم، وآخرها عهداً برب العالمين جلَّ وعلا يهدي للتي هي أقوم ؛ أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب ؛ ف ﴿ الَّتِي ﴾ نعت لموصوف محذوف ؛ على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل | يجوز حذفه وفي النعت يقل |
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جلَّ وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم ؛ لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة. ولكنَّنا إن شاء الله تعالى سنذكر جملاً وافرة في جهات مختلفة كثيرة مِن هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بياناً لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة، تنبيهاً ببعضه على كله من المسائل العظام، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفَّار، وطعنوا بسببها في دين الإسلام، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة.
فمن ذلك توحيد الله جلَّ وعلا : فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها، وهي توحيده جلَّ وعلا في ربوبيته، وفي عبادته، وفي أسمائه وصفاته. وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول توحيده في ربوبيته، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء، قال تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] الآية، وقال :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَىَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَىِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٣١ ] وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٣ ] تجاهل من عارف أنه عبد مربوب ؛ بدليل قوله تعالى :﴿ قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ بَصَآئِرَ ﴾ [ الإسراء : ١٠٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٤ ] وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ؛ كما قال تعالى :﴿ وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ ﴾ [ يوسف : ١٠٦ ]، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً.
الثاني توحيده جلَّ وعلا في عبادته. وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى «لا إله إلاَّ الله » وهي متركبة من نفي وإثبات ؛ فمعنى النفي منها : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت. ومعنى الإثبات منها : إفراد الله جلَّ وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام. وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم ﴿ أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيءٌ عُجَابٌ ﴾ [ ص : ٥ ].
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى :﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ ﴾ [ محمد صلى الله عليه وسلم : ١٩ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا في كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللَّهَ وَاجْتَنِبُواْ الْطَّاغُوتَ ﴾ [ النحل : ٣٦ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاعْبُدُونِ ﴾ [ الأنبياء : ٢٥ ]، وقوله :﴿ وَاسْئلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَانِ ءَالِهَةً يُعْبَدُونَ ﴾ [ الزخرف : ٤٥ ]، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ ﴾ [ الأنبياء : ١٠٨ ] فقد أمَر في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد ؛ لشمول كلمة «لا إله إلاَّ الله » لجميع ما جاء في الكُتب ؛ لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده. فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي، وما يتْبع ذلك من ثواب وعقاب، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة.
النوع الثالث توحيده جلَّ وعلا في أسمائه وصفاته. وهذا النوع من التوحيد ينبني على أصلين :
الأول تنزيه الله جلَّ وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم. كما قال تعالى :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ ﴾ [ الشورى : ١١ ].
والثاني الإيمان بما وصفه الله به نفسه. أو وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ؛ كما قال بعد قوله :﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ﴾ [ الشورى : ١١ ] مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف، قال تعالى :﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً ﴾ [ طه : ١١٠ ] وقد قدمنا هذا المبحث مستوفًى موضحاً بالآيات القرآنية «في سورة الأعراف ».
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جلَّ وعلا على وجوب توحيده في عبادته ؛ ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير. فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يُعبد وحده. ووبَّخهم منكراً عليهم شركهم به غيره، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده ؛ لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده.
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ وَالأرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأبْصَارَ ﴾ بيونس : ٣١ ] إلى قوله ﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [ يونس : ٣١ ] ؛ فلَّما أقروا بربوبيته وبخهم منكراً عليهم شركهم به غيره بقوله :﴿ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ يونس : ٢٥ ].
ومنها قوله تعالى :﴿ قُل لِّمَنِ الأرْضُ وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٤-٨٥ ] فلمَّا اعترفوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :﴿ قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨٥ ]، ثم قال :﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٦-٨٧ ] فلما أقرُّوا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :﴿ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨٧ ]، ثم قال :﴿ قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيءٍ وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ ﴾ [ المؤمنون : ٨٩ ] فلما أقروا وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :﴿ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٨٩ ].
ومنها قوله تعالى :﴿ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ قُلِ اللَّهُ ﴾ [ الرعد : ١٦ ] فلما صح الاعتراف وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :﴿ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ لاَ يَمْلِكُونَ لأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا ﴾ [ الرعد : ١٦ ].
ومنها قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ] فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٧ ].
ومنها قوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ العنكبوت : ٦١ ] فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم شركهم بقوله :﴿ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴾ [ الزخرف : ٨٧، العنكبوت : ٦١ ] ﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ العنكبوت : ٦٣ ] فلما صح إقرارهم وبخهم منكراً عليهم شِركهم بقوله :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٣ ]، وقوله تعالى :﴿ وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ﴾ [ لقمان : ٢٥ ] فلما صح اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الرعد : ٢٥ ]، وقوله تعالى :﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا ﴾ [ النمل : ٥٩-٦٠ ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره : هو أن القادر على خلق السَّماوات والأرض وما ذكر معها، خير من جماد لا يقدر على شيء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله. ﴿ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ﴾ [ النمل : ٦٠ ]، ثم قال تعالى :﴿ أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِىَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً ﴾ [ النمل : ٦١ ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ أَإلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ النمل : ٦١ ]، ثم قال جلَّ وعلا :﴿ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَآءَ الأرْضِ أَإلَهٌ ﴾ [ النمل : ٦٢ ] ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ﴾ [ النمل : ٦٢ ]، ثم قال تعالى :﴿ أَمَّن يَهْدِيكُمْ في ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًى بَيْنَ يَدَي رَحْمَتِهِ ﴾ [ النمل : ٦٣ ] ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ النمل : ٦٣ ]، ثم قال جلَّ وعلا :﴿ أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَآءِ والأرْضِ ﴾ [ النمل : ٦٤ ] ولا شك أن الجواب كما قبله. فلما تعين الاعتراف وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ أَإلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ [ النمل : ٦٤ ]، وقوله :﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيءٍ ﴾ [ الروم : ٤٠ ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو : لا ! أي ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئاً من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء. فلما تعين اعترافهم وبخهم منكراً عليهم بقوله :﴿ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾[ الروم : ٤٠ ].
والآيات بنحو هذا
في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير للعلماء. وأحدهما يشهد له قرآن.
وهو أن معنى الآية ﴿ وَيَدْعُ الإِنْسَانُ بِالشَّرِّ ﴾ كان يدعو على نفسه أو ولده بالهلاك عند الضجر من أمر ؛ فيقول اللهم أهلكني، أو أهلك ولدي ؛ فيدعو بالشر دعاء لا يحب أن يستجاب له. وقوله ﴿ دُعَآءَهُ بِالْخَيْرِ ﴾ أي يدعو بالشر كما يدعو بالخير فيقول عند الضجر : اللهم أهلك ولدي كما يقول في غير وقت الضجر : اللهم عافه، ونحو ذلك من الدعاء.
ولو استجاب الله دعاءه بالشر لهلك. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِىَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ﴾ [ يونس : ١١ ] أي لو عجّل لهم الإجابة بالشر كما يعجل لهم الإجابة بالخير لقضي إليهم أجلهم أي لهلكوا وماتوا ؛ فالاستعجال بمعنى التعجيل.
ويدخل في عداء الإنسان بالشر قول النضر بن الحارث العبدري :﴿ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَآءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [ الأنفال : ٣٢ ].
وممن فسر الآية الكريمة بما ذكرنا : ابن عباس، ومجاهد، وقتادة، وهو أصح التفسيرين لدلالة آية يونس عليه.
الوجه الثاني في تفسير الآية أن الإنسان كما يدعو بالخير فيسأل الله الجنة، والسلامة من النار، ومن عذاب القبر، كذلك قد يدعو بالشر فيسأل الله أن ييسر له الزنى بمعشوقته، أو قتل مسلم هو عدو له ونحو ذلك. ومن هذا القبيل قول ابن جامع :
أطوف بالبيت فيمن يطوف *** وأرفع من مئزري المسبل
وأسجد بالليل حتى الصباح *** وأتلو من المحكم المنزل
عسى فارج الهم عن يوسف *** يسخر لي ربة المحمل
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] يعني أنه جعل الليل مظلماً مناسباً للهدوء والراحة، والنهار مضيئاً مناسباً للحركة والاشتغال بالمعاش في الدنيا ؛ فيسعون في معاشهم في النهار، ويستريحون من تعب العمل بالليل. ولو كان الزمن كله ليلاً لصعب عليهم العمل في معاشهم، ولو كان كله نهاراً لأهلكهم التعب من دوام العمل.
فكما أن الليل والنهار آيتان من آياته جلَّ وعلا، فهما أيضاً نعمتان من نعمه جلَّ وعلا.
وبين هذا المعنى المشار إليه هنا في مواضع أخر، كقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُون َقُلْ أَرَءَيْتُمْ إِن جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [ القصص : ٧١-٧٣ ].
فقوله :﴿ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ ﴾ أي في الليل. وقوله :﴿ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ﴾ أي في النهار وقوله :﴿ وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتا ًوَجَعَلْنَا الَّيْلَ لِبَاساً وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشاً ﴾ [ النبأ : ٩-١١ ] الآية، وقوله﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً ﴾ [ الفرقان : ٤٧ ] وقوله :﴿ وَمِنْ ءايَاتِهِ مَنَامُكُم بِالَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَآؤُكُمْ مِّن فَضْلِهِ ﴾ [ الروم : ٢٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِالَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ﴾ [ الأنعام : ٦٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ﴾ بين فيه نعمة أخرى على خلقه، وهي معرفتهم عدد السنين والحساب ؛ لأنهم باختلاف الليل والنهار يعلمون عدد الأيام والشهور والأعوام، ويعرفون بذلك يوم الجمعة ليصلوا فيه صلاة الجمعة، ويعرفون شهر الصوم، وأشهر الحج، ويعلمون مضي أشهر العدة لمن تعتد بالأشهر المشار إليها في قوله :﴿ وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّاتِي لَمْ يَحِضْنَ ﴾ [ الطلاق : ٤ ]، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا ﴾ [ البقرة : ٢٣٤ ]. ويعرفون مضي الآجال المضروبة للديون والإجارات، ونحو ذلك.
وبين جلَّ وعلا هذه الحكمة في مواضع أخر، كقوله :﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذالِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٥ ] ؛. وقوله جلَّ وعلا :﴿ يَسْألُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هي مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾ [ البقرة : ١٨٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة :﴿ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] فيه وجهان من التفسير للعلماء :
أحدهما أن الكلام على حذف مضاف، والتقدير : وجعلنا نرى الليل والنهار، أي الشمس والقمر آيتين.
وعلى هذا القول فآية الليل هي القمر، وآية النهار هي الشمس. والمحو الطمس. وعلى هذا القول فمحو آية الليل قيل معناه السواد الذي في القمر. وبهذا قال علي رضي الله عنه، ومجاهد، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وقيل : معنى ﴿ فَمَحَوْنَآ ءَايَةَ الَّيْلِ ﴾[ الإسراء : ١٢ ] أي لم نجعل في القمر شعاعاً كشعاع الشمس ترى به الأشياء رؤية بينة. فنقص نور القمر عن نور الشمس هو معنى الطمس على هذا القول.
وهذا أظهر عندي لمقابلته تعالى له بقوله :﴿ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ﴾ [ الإسراء : ١٢ ] والقول بأن معنى محو آية الليل : السواد الذي في القمر ليس بظاهر عندي وإن قال به بعض الصحابة الكرام، وبعض أجلاء أهل العلم !
وقوله :﴿ وَجَعَلْنَآ ءَايَةَ النَّهَارِ ﴾ على التفسير المذكور أي الشمس ﴿ مُبْصِرَةً ﴾ أي ذات شعاع يبصر في ضوئها كل شيء على حقيقته.
قال الكسائي : هو من قول العرب : أبصر النهار : إذا أضاء وصار بحالة يبصر بها نقله عنه القرطبي.
قال مقيده عفا الله عنه : هذا التفسير من قبيل قولهم : نهاره صائم، وليله قائم. ومنه قوله :
لقد لمتنا يا أم غيلان في السرى | ونمت وما ليل المحب بنائم |
وما يلي المضاف يأتي خلفا | عنه في الإعراب إذا ما حذفا |
وعلى القول بتقدير المضاف، وأن المراد بالآيتين الشمس والقمر فالآيات الموضحة لكون الشمس والقمر آيتين تقدمت موضحة في سورة النحل.
الوجه الثاني من التفسير أن الآية الكريمة ليس فيها مضاف محذوف، وأن المراد بالآيتين نفس الليل والنهار، لا الشمس والقمر.
وعلى هذا القول فإضافة الآية إلى الليل والنهار من إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ، تنزيلاً لاختلاف اللفظ منزلة الاختلاف في المعنى. وإضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف اللفظ كثيرة في القرآن وفي كلام العرب. فمنه في القرآن قوله تعالى :﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ]، ورمضان هو نفس الشهر بعينه على التحقيق، وقوله :﴿ وَلَدَارُ الآخِرَةُ ﴾ [ يوسف : ١٠٩ ]، والدار هي الآخرة بعينها ؛ بدليل قوله في موضع آخر :﴿ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ ﴾ [ الأنعام : ٣٢ ] الآية بالتعريف، والآخرة نعت للدار ؛ وقوله :﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ ق : ١٦ ] والحبل هو الوريد، وقوله :﴿ وَمَكْرَ السَّيِّئ ﴾، [ فاطر : ٣٢ ] الآية، والمكر هو السيئ بدليل قوله ﴿ وَلاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّىءُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ ﴾ [ فاطر : ٤٣ ].
ومن أمثلته في كلام العرب قول امرئ القيس :
كبكر المقاناة البياض بصفرة | غذاها نمير الماء غير المحلل |
ومشك سابغة هتكت فروجها | بالسيف عن حامي الحقيقة معلم |
وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا ( دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ) في سورة فاطر. وبينا أن الذي يظهر لنا : أن إضافة الشيء إلى نفسه مع اختلاف لفظ المضاف والمضاف إليه أسلوب من أساليب اللغة العربية ؛ لأن تغاير اللفظين ربما نزل منزلة التغاير المعنوي ؛ لكثرة الإضافة المذكورة في القرآن وفي كلام العرب. وجزم بذلك ابن جرير في بعض مواضعه في القرآن. وعليه فلا حاجة إلى التأويل المشار إليه بقوله في الخلاصة :
ولا يضاف اسم لما به اتحد | معنى وأول موهماً إذا ورد |
وإن يكونا مفردين فأضف | حتما وإلا أتبع الذي ردف |
في قوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة ﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ ﴾ وجهان معروفان من التفسير :
الأول أن المراد بالطائر : العمل، من قولهم : طار له سهم إذا خرج له. أي ألزمناه ما طار له من عمله.
الثاني أن المراد بالطائر ما سبق له في علم الله من شقاوة أو سعادة. والقولان متلازمان ؛ لأن ما يطير له من العمل هو سبب ما يؤول إليه من الشقاوة أو السعادة.
فإذا عرفت الوجهين المذكورين فاعلم أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها للعلماء قولان أو أقوال، وكلها حق، ويشهد له قرآن فنذكر جميع الأقوال وأدلتها من القرآن ؛ لأنها كلها حق، والوجهان المذكوران في تفسير هذه الآية الكريمة كلاهما يشهد له قرآن.
أما على القول الأول بأم المراد بطائره عمله فالآيات الدالة على أن عمل الإنسان لازم له كثيرة جداً. كقوله تعالى :﴿ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِىِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ ﴾ [ النساء : ١٢٣ ]، وقوله ﴿ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الطور : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ يا أَيُّهَا الإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلَاقِيهِ ﴾ [ الانشقاق : ٦ ]، وقوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]، والآيات بمثل هذا كثيرة جداً.
وأما على القول بأن المراد بطائره نصيبه الذي طار في الأزل من الشقاوة أو السعادة – فالآيات الدالة على ذلك أيضا كثيرة، كقوله :﴿ هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن ﴾ [ التغابن : ٢ي، وقوله :﴿ ولذلك خلقهم ﴾ [ هود : ١١٩ ] أي للاختلاف إلى شقي وسعيد خلقهم. وقوله :﴿ فريقا هدى وفريقا حق عليهم الضلالة ﴾ [ الأعراف : ٣٠ ]، وقوله :﴿ فريق في الجنة وفريق في السعير ﴾ [ الشورى : ٧ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ في عُنُقِهِ ﴾ أي جعلنا عمله أو ما سبق له من شقاوة في عنقه ؛ أي لازماً له لزوم القلادة أو الغل لا ينفك عنه ؛ ومنه قول العرب : تقلدها طوق الحمامة. وقولهم : الموت في الرقاب. وهذا الأمر ربقة في رقبته. ومنه قول الشاعر :
اذهب بها اذهب بها *** طوقتها طوق الحمامه
فالمعنى في ذلك كله : اللزوم وعدم الانفكاك.
وقوله جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة :﴿ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ذلك العمل الذي ألزم الإنسان إياه يخرجه له يوم القيامة مكتوباً في كتاب يلقاه منشوراً، أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره.
وبين أشياء من صفات هذا الكتاب الذي يلقاه منشوراً في آيات أخر. فبين أن من صفاته : أن المجرمين مشفقون أي خائفون مما فيه، وأنه لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأنهم يجدون فيه جميع ما عملوا حاضراً ليس منه شيء غائباً، وأن الله جلَّ وعلا لا يظلمهم في الجزاء عليه شيئاً. وذلك في قوله جلَّ وعلا :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنَا مَا لِهَذَا الْكِتَابِ لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا ﴾ [ الكهف : ٤٩ ].
وبين في موضع آخر : أن بعض الناس يؤتى هذا الكتاب بيمينه جعلنا الله وإخواننا المسلمين منهم.
وأن من أوتيه بيمينه يحاسب حساباً يسيراً، ويرجع إلى أهله مسروراً، وأنه في عيشة راضية، في جنة عالية، قطوفها دانية. قال تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِه ِفَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً وَيَنقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُوراً ﴾ [ الانشقاق : ٧-٩ ]، وقال تعالى :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّى مُلَاقٍ حِسَابِيَه ْفَهُوَ في عِيشَةٍ رَّاضِيَة في جَنَّةٍ عَالِيَةٍ قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ ﴾ [ الحاقة : ١٩-٢٣ ].
وبين في موضع آخر : أن من أوتيه بشماله يتمنى أنه لم يؤته، وأنه يؤمر به فيصلى الجحيم، ويسلك في سلسلة من سلاسل النار ذرعها سبعون ذراعاً ؛ وذلك في قوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ مَآ أَغْنَى عَنِّى مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّى سُلْطَانِيَهْ خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ في سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاْسْلُكُوهُ ﴾ [ الحاقة : ٢٥-٣٢ ] أعذانا الله وإخواننا المسلمين من النار، ومما قرب إليها من قول وعمل.
وبين في موضع آخر : أن من أوتي كتابه وراء ظهره يصلى السعير، ويدعو الثبور. وذلك في قوله :﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِه ِفَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورا ًوَيَصْلَى سَعِيراً ﴾ [ الانشقاق : ١٠-١٢ ]،
وقد بين تعالى في مواضع أخر : أنه إن أنكر شيئاً من عمله شهدت عليه جوارحه. كقوله تعالى :﴿ الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ﴾ [ يس : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُواْ أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الُخَاسِرِينَ ﴾ [ فصلت : ٢١-٢٣ ]، وقوله جلَّ وعلا ﴿ بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾ [ القيامة : ١٤-١٥ ]، وسيأتي إن شاء الله لهذا زيادة إيضاح في سورة القيامة.
تنبيه
لفظة «كفى » تستعمل في القرآن واللغة العربية استعمالين :
تستعمل متعدية، وهي تتعدى غالباً إلى مفعولين، وفاعل هذه المتعدية لا يجر بالباء. كقوله :﴿ وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ ﴾[ الأحزاب : ٢٥ ]، وكقوله :﴿ أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ ﴾ [ الزمر : ٣٦ ] الآية، وقوله :﴿ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ ﴾ [ البقرة : ١٣٧ ] الآية، ونحو ذلك من الآيات.
وتستعمل لازمة، ويطر، جر فاعلها بالباء المزيدة لتوكيد الكفاية ؛ كقَوْله في هذه الآية الكريمة ﴿ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [ الإسراء : ١٤ ]، وقوله تعالى :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ [ الأحزاب : ٣و٤٨ ]، وقوله :﴿ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ﴾ [ النساء : ٦ ] ونحو ذلك.
ويكثر إتيان التمييز بعد فاعلها المجرور بالباء. وزعم بعض علماء العربية : أن جر فاعلها بالباء لازم. والحق أنه يجوز عدم جره بها، ومنه قول الشاعر :
عميرة ودع إن تجهزت غاديا | كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا |
ويخبرني عن غائب المرء هديه | كفى الهدى عما غيب المرء مخبرا |
وقراءة من قرأ ﴿ يَخْرُجُ ﴾ بفتح الياء وضم الراء مضارع خرج مبنياً للفاعل فالفاعل ضمير يعود إلى الطائر بمعنى العمل وقوله ﴿ كِتَاباً ﴾ حال من ضمير الفاعل ؛ أي ويوم القيامة يخرج هو أي العمل المعبر عنه بالطائر في حال كونه كتاباً يلقاه منشوراً. وكذلك على قراءة ﴿ يُخْرُجُ ﴾ بضم الياء وفتح الراء مبنياً للمفعول، فالمضير النائب عن الفاعل راجع أيضاً إلى الطائر الذي هو العمل. أي يخرج له هو أي طائره بمعنى عمله، في حال كونه كتاباً.
وعلى قراءة «يخرج » بضم الياء وكسر الراء مبنياً للفاعل، فالفاعل ضمير يعود إلى الله تعالى، وقوله ﴿ كِتَاباً ﴾ مفعول به ؛ أي ويوم القيامة يخرج هو أي الله له كتاباً يلقاه منشوراً.
وعلى قراءة الجمهور منهم السبعة فالنون في ﴿ نُخْرِجُ ﴾ نون العظمة لمطابقة قوله ﴿ أَلْزَمْنَاهُ ﴾ و﴿ كِتَاباً ﴾ مفعول به لنخرج كما هو واضح. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من اهتدى فعمل بما يرضي الله جلَّ وعلا، أن اهتداءه ذلك إنما هو لنفسه لأنه هو الذي ترجع إليه فائدة ذلك الاهتداء، وثمرته في الدنيا والآخرة. وأن من ضل عن طريق الصواب فعمل بما يسخط ربه جلَّ وعلا، أن ضلاله ذلك إنما هو على نفسه. لأنه هو الذي يجني ثمرة عواقبه السيئة الوخيمة، فيخلد به في النار.
وبين هذا المعنى في مواضع كثيرة. كقوله :﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ﴾ [ فصلت : ٤٦ ]، وقوله :﴿ مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ﴾ [ الروم : ٤٠ ]، وقوله :﴿ قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِىَ فَعَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ [ الأنعام : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ رَّبِّكُمْ فَمَنُ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ ﴾ [ يونس : ١٠٨ ]. والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد قدمنا طرفاً منها في سورة «النحل ».
قوله تعالى :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ﴾ [ ١٥ ].
ذكر جلَّ وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه لا تحمل نفس ذنب أخرى ؛ بل لا تحمل نفس إلا ذنبها.
فقوله ﴿ وَلاَ تَزِرُ ﴾ أي لا تحمل، من وزريزر إذا حمل. ومنه سمي وزير السلطان، لأنه يحمل أعباء تدبير شؤون الدولة. والوزر : الإثم. يقال : وزر يزر وزرا، إذا أثم. والوزر أيضاً : الثقل المثقل، أي لا تحمل نفس وازرة أي آثمة وزر نفس أخرى ؛ أي إثمها، أو حملها الثقيل. بل لا تحمل إلا وزر نفسها.
وهذا المعنى جاء في آيات أخر. كقوله :﴿ وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى ﴾ [ فاطر : ١٨ ]، وقوله :﴿ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ ﴾ [ الأنعام : ١٦٤ ]، وقوله :﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُم وَلاَ تُسْألُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [ البقرة : ١٣٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد قدمنا في سورة «النحل » بإيضاح : أن هذه الآيات لا يعارضها قوله تعالى :﴿ وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ ﴾ [ العنكبوت : ١٣ ] الآية، ولا قوله :﴿ لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [ النحل : ٢٥ ] الآية ؛ لأن المراد بذلك أنهم حملوا أوزار ضلالهم في أنفسهم، وأوزار إضلالهم غيرهم ؛ لأن من سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئاً كما تقدم مستوفى.
تنبيه
يرد على هذه الآية الكريمة سؤالان :
الأول ما ثبت في الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما من «أن الميت يعذب ببكاء أهله عليه » فيقال : ما وجه تعذيبه ببكاء غيره ؛ إذ مؤاخذته ببكاء غيره قد يظن من لا يعلم أنها من أخذ الإنسان بذنب غيره ؟
السؤال الثاني إيجاب دية الخطإ على العاقلة ؛ فيقال : ما وجه إلزام العاقلة الدية بجناية إنسان آخر ؟.
والجواب عن الأول هو أن العلماء حملوه على أحد أمرين :
الأول أن يكون الميت أوصى بالنوح عليه. كما قال طرفة بن العبد في معلقته :
إذا مت فانعيني بما أنا أهله *** وشقي على الجيب يابنة معبد
لأنه إذا كان أوصى بأن يناح عليه : فتعذيبه بسبب إيصائه بالمنكر. وذلك من فعله لا فعل غيره.
الثاني أن يهمل نهيهم عن النوح عليه قبل موته مع أنه يعلم أنهم سينوحون عليه. لأن إهماله نهيهم تفريط منه، ومخالفة لقوله تعالى :﴿ قُواْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً ﴾ [ التحريم : ٦ ] فتعذيبه إذا بسبب تفريطه، وتركه ما أمر الله به من قوله :﴿ مَّقْتِكُمْ أَنفُسَكُمْ ﴾ الآية وهذا ظاهر كما ترى.
وعن الثاني بأن إيجاب الدية على العاقلة ليس من تحميلهم وزر القاتل، ولكنها مواساة محضة أوجبها الله على عاقلة الجاني ؛ لأن الجاني لم يقصد سوءاً، ولا إثم عليه البتة فأوجب الله في جنايته خطأ الدية بخطاب الوضع، وأوجب المواساة فيها على العاقلة. ولا إشكال في إيجاب الله على بعض خلقه مواساة بعض خلقه ؛ كما أوجب أخذ الزكاة من مال الأغنياء وردها إلى الفقراء. واعتقد من أوجب الدية على أهل ديوان القاتل خطأ كأبي حنيفة وغيره أنها باعتبار النصرة فأوجبها على أهل الديوان. ويؤيد هذا القول ما ذكره القرطبي في تفسيره قال :«وأجمع أهل السير والعلم : أن الدية كانت في الجاهلية تحملها العاقلة، فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإسلام. وكانوا يتعاقلون بالنصرة ثم جاء الإسلام فجرى الأمر على ذلك ؛ حتى جعل عمر الديوان.
واتفق الفقهاء على رواية ذلك والقول به. وأجمعوا أنه لم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا زمن أبي بكر ديوان، وأن عمر جعل الديوان، وجمع بين الناس، وجعل أهل كل ناحية يداً، وجعل عليهم قتال من يليهم من العدو. انتهى كلام القرطبي رحمه الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ﴾ [ ١٥ ].
ظاهر هذه الآية الكريمة : أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً من خلقه لا في الدنيا ولا في الآخرة. حتى يبعث إليه رسولاً ينذره ويحذره فيعصى ذلك الرسول، ويستمر على الكفر والمعصية بعد الإنذار والإعذار.
وقد أوضح جلَّ وعلا هذا المعنى في آيات كثيرة، كقوله تعالى :﴿ رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ﴾ [ النساء : ١٦٥ ] فصرح في هذه الآية الكريمة : بأن لا بد أن يقطع حجة كل أحد بإرسال الرسل، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم النار.
وهذه الحجة التي أوضح هنا قطعها بإرسال الرسل مبشرين ومنذرين. بينها في آخر سورة طه بقوله ﴿ وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ ءَايَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى ﴾ [ طه : ١٣٤ ].
وأشار لها في سورة القصص بقوله :﴿ وَلَوْلا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتِّبِعَ ءايَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ القصص : ٤٧ ]، وقوله جلَّ وعلا :﴿ ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٣١ ]، وقوله :﴿ يَأَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مَّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ ﴾ [ المائدة : ١٩ ] الآية، وكقوله :﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ أَن تَقُولُواْ إِنَّمَآ أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّآ أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ﴾ [ الأنعام : ١٥٥-١٥٧ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
ويوضح ما دلت عليه هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم من أن الله جلَّ وعلا لا يعذب أحداً إلا بعد الإنذار والإعذار على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام تصريحه جلَّ وعلا في آيات كثيرة :«بأن لم يدخل أحداً النار إلا بعد الإعذار والإنذار على ألسنة الرسل. فمن ذلك قوله جلَّ وعلا :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِير ٌقَالُواْ بَلَى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِن شَيءٍ ﴾ [ الملك : ٨-٩ ].
ومعلوم أن قوله جلَّ وعلا :﴿ كُلَّمَا أُلْقِىَ فِيهَا فَوْجٌ ﴾ [ الملك : ٨ ] يعم جميع الأفواج الملقين في النار.
قال أبو حيان في «البحر المحيط » في تفسير هذه الآية التي نحن بصددها ما نصه :«وكلما » تدل على عموم أزمان الإلقاء فتعم الملقين. ومن ذلك قوله جلَّ وعلا :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءَايَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ [ الزمر : ٧١ ]، وقوله في هذه الآية :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ﴾ عام لجميع الكفار.
وقد تقرر في الأصول : أن الموصولات كالذي والتي وفروعهما من صيغ العموم. لعمومها في كل ما تشمله صلاتها، وعقده في مراقي السعود بقوله في صيغ العموم :
صيغة كل أو الجميع *** وقد تلا الذي التي الفروع
ومراده بالبيت : أن لفظة «كل، وجميع، والذي، والتي » وفروعهما كل ذلك من صيغ العموم. فقوله تعالى :﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً ﴾ إلى قوله ﴿ يَوْمِكُمْ هَذَا ﴾ عام في جميع الكفار. وهو ظاهر في أن جميع أهل النار قد أنذرتهم الرسل في دار الدنيا ؛ فعصوا أمر ربهم كما هو واضح.
ونظيره أيضاً قوله تعالى :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِى كُلَّ كَفُورٍ وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [ فاطر : ٣٦-٣٧ ؛ فقوله ﴿ وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ ﴾ إلى قوله ﴿ النَّذِيرُ فَذُوقُواْ ﴾ عام أيضاً في جميع أهل النار. كما تقدم إيضاحه قريباً.
ونظير ذلك قوله تعالى :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ في النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُواْ رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ الْعَذَاب ِقَالُواْ أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ بَلَى قَالُواْ فَادْعُواْ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ في ضَلَالٍ ﴾ [ غافر : ٤٩-٥٠ ]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن جميع أهل النار أنذرتهم الرسل في دار الدنيا.
وهذه الآيات التي ذكرنا وأمثالها في القرآن تدل على عذر أهل الفترة بأنهم لم يأتهم نذير ولو ماتوا على الكفر ؛ وبهذا قالت جماعة من أهل العلم.
وذهبت جماعة أخرى من أهل العلم إلى أن كل من مات على الكفر فهو في النار ولو لم يأته نذير، واستدلوا بظواهر آيات من كتاب الله
في معنى قوله ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ في هذه الآية الكريمة ثلاثة مذاهب معروفة عند علماء التفسير :
الأول وهو الصواب الذي يشهد له القرآن، وعليه جمهور العلماء أن الأمر في قوله ﴿ أَمْرُنَا ﴾ هو الأمر الذي هو ضد النهي، وأن متعلق الأمر محذوف لظهوره. والمعنى :﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ بطاعة الله وتوحيده، وتصديق رسله وأتباعهم فيما جاؤوا به ﴿ فَفَسَقُواْ ﴾ أي خرجوا عن طاعة أمر ربهم، وعصوه وكذبوا رسله ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ﴾ أي وجب عليها الوعيد ﴿ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ أي أهلكناها إهلاكاً مستأصلاً. وأكد فعل التدمير بمصدره للمبالغة في شدة الهلاك الواقع بهم.
وهذا القول الذي هو الحق في هذه الآية تشهد له آيات كثيرة ؛ كقوله :﴿ وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ ءَابَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَآءِ ﴾ [ الأعراف : ٢٨ ] الآية. فتصريحه جل وعلا بأنه لا يأمر بالفحشاء دليل واضح على أن قوله ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ ﴾ أي أمرناهم بالطاعة فعصوا. وليس المعنى أمرناهم بالفسق ففسقوا. لأن الله لا يأمر بالفحشاء.
ومن الآيات الدالة على هذا قوله تعالى :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُون َوَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلَاداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ ﴾ [ سبأ : ٣٤-٣٥ ].
فقوله في هذه الآية ﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا في قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ ﴾ الآية، لفظ عام في جميع المترفين من جميع القرى أن الرسل أمرتهم بطاعة الله فقالوا لهم : إنا بما أرسلتم به كافرون، وتبجحوا بأموالهم وأولادهم. والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبهذا التحقيق تعلم : أن ما زعمه الزمخشري في كشافه من أن معنى ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أي أمرناهم بالفسق ففسقوا. وأن هذا مجاز تنزيلاً لإسباغ النعم عليهم الموجب لبطرهم وكفرهم منزلة الأمر بذلك كلام كله ظاهر السقوط والبطلان ؛ وقد أوضح إبطاله أبو حيان في «البحر »، والرازي في تفسيره، مع أنه لا يشك منصف عارف في بطلانه.
وهذا القول الصحيح في الآية جار على الأسلوب العربي المألوف، من قولهم : أمرته فعصاني. أي أمرته بالطاعة فعصى. وليس المعنى : أمرته بالعصيان كما لا يخفى.
القول الثاني في الآية هو أن الأمر في قوله ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ﴾ أمر كوني قدري، أي قدرنا عليهم ذلك وسخرناهم له. لأن كلاً ميسر لما خلق له. والأمر الكوني القدري كقوله ﴿ وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ ﴾ [ القمر : ٥٠ ]، وقوله :﴿ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٦٦ ]، وقوله ﴿ أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ ﴾ [ يونس : ٢٤ ]، وقوله ﴿ إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴾ [ يس : ٢٨ ].
القول الثالث في الآية أن «أَمَرْنَا » بمعنى أكثرنا ؛ أي أكثرنا مترفيهاً ففسقوا.
وقال أبو عبيدة ﴿ أَمْرُنَا ﴾ بمعنى أكثرنا لغة فصيحة كآمرنا بالمد.
ويدل لذلك الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال :«خير مال امرئ مهرة مأمورة، أو سكة مأبورة ».
قال ابن كثير : قال الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله في كتابه ( الغريب ) : المأمورة : كثيرة النسل. والسكة : الطريقة المصطفة من النخل. والمأبورة : من التأبير، وهو تعليق طلع الذكر على النخلة لئلا يسقط ثمرها. ومعلوم أن إتيان المأمورة على وزن المفعول يدل على أن أمر بفتح الميم مجرداً عن الزوائد، متعد بنفسه إلى المفعول ؛ فيتضح كون أمره بمعنى أكثر. وأنكر غير واحد تعدى أمر الثلاثي بمعنى الإكثار إلى المفعول وقالوا : حديث سويد بن هبيرة المذكور من قبيل الازدواج، كقولهم : الغدايا والعشايا، وكحديث «ارجعن مأزورات غير مأجورات » لأن الغدايا لا يجوز، وإنما ساغ للازدواج مع العشايا، وكذلك مأزورات بالهمز فهو على غير الأصل ؛ لأن المادة من الوزر بالواو. إلا أن الهمز في قوله «مأزورات » للازدواج مع «مأجورات ». والازدواج يجوز فيه ما لا يجوز في غيره كما هو معلوم. وعليه فقوله «مأمورة » إتباع لقوله «مأبورة » وإن كان مذكوراً قبله للمناسبة بين اللفظين.
وقال الشيخ أبو عبد الله القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة : قوله تعالى ﴿ أَمْرُنَا ﴾ قرأ أبو عثمان النهدي، وأبو رجاء، وأبو العالية، والربيع، ومجاهد، والحسن «أمرنا » بالتشديد. وهي قراءة علي رضي الله عنه. أي سلطنا شرارها فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وقال أبو عثمان النهدي «أمَّرنا » بتشديد الميم : جعلناهم أمراء مسلطين.
وقاله ابن عزيز : وتأمر عليهم تسلط عليهم. وقرأ الحسن أيضاً، وقتادة، وأبو حيوة الشامي، ويعقوب، وخارجة عن نافع، وحماد بن سلمة عن ابن كثير وعلي وابن عباس باختلاف عنهما «آمرنا » بالمد والتخفيف ؛ أي أكثرنا جبابرتها وأمراءها. قاله الكسائي.
وقال أبو عبيدة :«آمرته بالمد وأمرته لغتان بمعنى أكثرته ؛ ومنه الحديث «خير المَال مهرة مأمورة أو سكة مأبورة » أي كثيرة النتاج والنسل. وكذلك قال ابن عزيز : آمرنا وأمرنا بمعنى واحد ؛ أي أكثرنا. وعن الحسن أيضاً، ويحيى بن يعمر : أمرنا بالقصر وكسر الميم على فعلنا، ورويت عن ابن عباس. قال قتادة والحسن : المعنى أكثرنا، وحكى نحوه أبو زيد وأبو عبيد. وأنكره الكسائي وقال : لا يقال من الكثرة إلا آمرنا بالمد، وأصلها أأمرنا فخفف حكاه المهدوي.
وفي الصحاح : قال أبو الحسن : أمر ماله بالكسر أي كثر. وأمر القوم : أي كثروا ؛ قال الشاعر وهو الأعشى :
طرفون ولادون كل مبارك *** أمرون لا يرثون سهم القعدد
وآمر الله ماله بالمد. الثعلبي : ويقال للشيء الكثير أمر. والفعل منه أمر القوم يأمرون أمراً : إذا كثروا.
قال ابن مسعود : كنا نقول في الجاهلية للحي إذا كثروا : أمر أمر بني فلان : قال لبيد :
كل بني حرة مصيرهم *** قل وإن أكثرت من العدد
إن يغبطوا يهبطوا وإن أمروا *** يوماً يصيروا للهلك والنكد
قلت : وفي حديث هرقل الحديث الصحيح ؛ لقد أمر أمر ابن أبي كبشة، إنه ليخافه ملك بني الأصفر ؛ أي كثر. وكلها غير متعد، ولذلك أنكره الكسائي. والله أعلم.
قال المهدوي : ومن قرأ أمر فهي لغة. ووجه تعدية أمر أنه شبهه بعمر من حيث كانت الكثرة أقرب شيء إلى العمارة ؛ فعدى كما عدى عمر إلى أن قال : وقيل أمرناهم جعلناهم أمراء ؛ لأن العرب تقول : أمير غير مأمور، أي غير مؤمر. وقيل معناه : بعثنا مستكبريها. قال هارون : وهي قراءة أبي : بعثنا أكابر مجرميها ففسقوا فيها ذكره الماوردي.
وحكى النحاس : وقال هارون في قراءة أبي : وإذا أردنا أن نهلك قرية بعثنا فيها أكابر مجرميها فمكروا فيها فحق عليها القول اه محل الغرض من كلام القرطبي.
وقد علمت أن التحقيق الذي دل عليه القرآن أن معنى الآية : أمرنا مترفيها بالطاعة فعصوا أمرنا ؛ فوجب عليهم الوعيد فأهلكناهم كما تقدم إيضاحه.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة سؤال معروف، وهو أن يقال : إن الله أسند الفسق فيها لخصوص المترفين دون غيرهم في قوله ﴿ أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] مع أنه ذكر عموم الهلاك للجميع المترفين وغيرهم في قوله ﴿ فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا ﴾ [ الإسراء : ١٦ ] يعني القرية، ولم يستثن منها غير المترفين ؟
والجواب من وجهين :
الأول أن غير المترفين تبع لهم. وإنما خص بالذكر المترفين الذين هم سادتهم وكبراؤهم. لأن غيرهم تبع لهم. كما قال تعالى :﴿ وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاْ ﴾ [ الأحزاب : ٦٧ ]، وكقوله ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسْبَابُ ﴾ [ البقرة : ١٦٦ ]، وقوله :﴿ حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا ﴾ [ الأعراف : ٣٨ ] الآية، وقوله تعالى :﴿ وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شيءٍ ﴾ [ إبراهيم : ٢١ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ في النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ ﴾ [ غافر : ٤٧ ]إلى غير ذلك من الآيات.
الوجه الثاني أن بعضهم إن عصى الله وبغى وطغى ولم ينههم الآخرون فإن الهلاك يعم الجميع ؛ كما قال تعالى :﴿ وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ﴾ [ الأنفال : ٢٥ ]، وفي الصحيح من حديث أم المؤمنين زينب بنت جحش رضي الله عنها : أنها لما سمعت النَّبي صلى الله عليه وسلم يقول :«لا إله إلا الله، ويل للعرب من شرٍّ قد اقتربْ، فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل، هذه وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها » قالت له : يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون ؟ قال :«نعم، إذا كثر الخبث » وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في سورة المائدة.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أهلك كثيراً من القرون من بعد نوح. لأن لفظة ﴿ كَمْ ﴾ في قوله ﴿ وَكَمْ أَهْلَكْنَا ﴾ خبرية، معناها الإخبار بعدد كثير. وأنه جل وعلا خبير بصير بذنوب عباده. وأكد ذلك بقوله ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ ﴾ الآية.
وما دلت عليه هذه الآية الكريمة أوضحته آيات أخر من أربع جهات :
الأولى أن في الآية تهديداً لكفار مكة، وتخويفاً لهم من أن ينزل بهم ما نزل بغيرهم من الأمم التي كذبت رسلها ؛ أي أهلكنا قروناً كثيرة من بعد نوح بسبب تكذيبهم الرسل، فلا تكذبوا رسولنا لئلا نفعل بكم مثل ما فعلنا بهم.
والآيات التي أوضحت هذا المعنى كثيرة. كقوله في قوم لوط ﴿ وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِين َوَبِالَّيْلِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ﴾ [ الصافات : ١٣٧-١٣٨ ]، وكقوله فيهم أيضاً :﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ ﴾ [ الحجر : ٧٥-٧٦ ]، وقوله فيهم أيضاً :﴿ وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ ءَايَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٣٥ ]، وقوله :﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ﴾ [ محمد : ١٠ ]، وقوله بعد ذكره جل وعلا إهلاكه لقوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب في سورة الشعراء :﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ ﴾ [ الشعراء : ٨ ]، وقوله في قوم موسى :﴿ إِنَّ في ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى ﴾ [ النازعات : ٢٦ ]، وقوله :﴿ إِنَّ في ذالِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ﴾ [ هود : ١٠٣ ] الآية، وقوله :﴿ أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ ﴾ [ الدخان : ٣٧ ]، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة الدالة عل تخويفهم بما وقع لمن قبلهم.
الجهة الثانية أن هذه القرون تعرضت لبيانها آيات أخر. فبينت كيفية إهلاك قوم نوح، وقوم هود، وقوم صالح، وقوم لوط، وقوم شعيب، وفرعون وقومه من قوم موسى، وذلك مذكور في مواضع متعددة معلومة من كتاب الله تعالى. وبين أن تلك القرون كثيرة في قوله :﴿ وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَالِكَ كَثِيراً ﴾ [ الفرقان : ٣٨ ] وبين في موضع آخر : أن منها ما لا يعلمه إلا الله جل وعلا، وذلك في قوله في سورة إبراهيم ﴿ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ ﴾ [ إبراهيم : ٩ ] الآية. وبين في موضعين آخرين أن رسلهم منهم من قص خبره على نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنهم من لم يقصصه عليه. وهما قوله في سورة النساء :﴿ وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً ﴾ [ النساء : ١٦٤ ]، وقوله في سورة المؤمن :﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِي بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [ غافر : ٧٨ ] الآية.
الجهة الثالثة أن قوله ﴿ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] يدل على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح أنها على الإسلام ؛ كما قال ابن عباس : كانت بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام نقله عنه ابن كثير في تفسير هذه الآية.
وهذا المعنى تدل عليه آيات أخر. كقوله ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٢١٣ ] الآية، وقوله. ﴿ وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ ﴾ [ يونس : ١٩ ] الآية ؛ لأن معنى ذلك على أصح الأقوال أنهم كانوا على طريق الإسلام، حتى وقع ما وقع من قوم نوح من الكفر ؛ فبعث الله النَّبيين ينهون عن ذلك الكفر، مبشرين من أطاعهم بالجنة، ومنذرين من عصاهم بالنار. وأولهم في ذلك نوح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
ويدل على هذا قوله :﴿ إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٣ ] الآية. وفي أحاديث الشفاعة الثابتة في الصحاح وغيرها أنهم يقولون لنوح : إنه أول رسول بعثه الله لأهل الأرض كما قدمنا ذلك في سورة البقرة.
الجهة الرابعة أن قوله ﴿ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَا بَصِيرًا ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] فيه أعظم زجر عن ارتكاب ما لا يرضي الله تعالى.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً. كقوله :﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ [ ق : ١٦ ] وقوله :﴿ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾، وقوله :﴿ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ﴾ [ البقرة : ٢٣٥ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات. وقد قدمنا هذا المبحث موضحاً في أول سورة هود. ولفظة «كم » في هذه الآية الكريمة في محل نصب مفعول به «لأهلكنا » و﴿ مِنْ ﴾ في قوله ﴿ مّنَ الْقُرُونِ ﴾ بيان لقوله ﴿ كَمْ ﴾ وتمييز له كما يميز العدد بالجنس. وأما لفظه «من » في قوله ﴿ مِن بَعْدِ نُوحٍ ﴾ [ الإسراء : ١٧ ] فالظاهر أنها لابتداء الغاية، وهو الذي اختاره أبو حيان في «البحر ». وزعم الحوفي أن «من » الثانية بدل من الأولى، ورده عليه أبو حيان. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن ﴿ وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا ﴾ أي عمل لها عملها الذي تنال به، وهو امتثال أمر الله، واجتباب نهيه بإخلاص على الوجه المشروع ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾ أي موحد لله جل وعلا، غير مشرك به ولا كافر به، فإن الله يشكر سعيه، بأن يثيبه الثواب الجزيل عن عمله القليل.
وفي الآية الدليل على أن الأعمال الصالحة لا تنفع إلا مع الإيمان بالله ؛ لأن الكفر سيئة لا تنفع معها حسنة، لأنه شرط في ذلك قوله ﴿ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ﴾.
وقد أوضح تعالى هذا في آيات كثيرة. كقوله :﴿ وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً ﴾ [ النساء : ١٢٤ ]، وقوله :﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَواةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ النحل : ٩٧ ] وقوله :﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [ غافر : ٤٠ ] إلى غير ذلك من الآيات.
ومفهوم هذه الآيات أن غير المؤمنين إذا أطاع الله بإخلاص لا ينفعه ذلك ؛ لفقد شرط القبول الذي هو الإيمان بالله جل وعلا.
وقد أوضح جل وعلا هذا المفهوم في آيات أخر. كقوله في أعمال غير المؤمنين :﴿ وَقَدِمْنَآ إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً ﴾ [ الفرقان : ٢٣ ]، وقوله :﴿ مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ﴾ [ إبراهيم : ١٨ ] الآية، وقوله :﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَآءً حَتَّى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ﴾ [ النور : ٣٩ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وقد بين جل وعلا في مواضع أخر : أن عمل الكافر الذي يتقرب به إلى الله يجازى به في الدنيا، ولاحظّ له منه في الآخرة. كقوله :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَواةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ في الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ هود : ١٦ ]، وقوله تعالى :﴿ مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ في حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ في الآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ﴾ [ الشورى : ٢٠ ].
وثبت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم نحو ما جاءت به هذه الآيات : من انتفاع الكافر بعمله في الدنيا من حديث أنس، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وزهير بن حرب واللفظ لزهير قالا : حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا همام بن يحيى، عن قتادة، عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الله لا يظلم مؤمناً حسنة يُعطى بها في الدنيا ويُجزى بها الآخرة. وأَمَّا الكافر فيُطعَم بحسناته ما عمل بها لله في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يُجزى بها ».
حدثنا عاصم بن النضر التيمي، حدثنا معتمر قال : سمعت أبي، حدثنا قتادة عن أنس بن مالك : أنه حدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن الكافر إذا عمل حسنة أُطعم بها طعمة من الدنيا. وأَما المؤمن فإن الله يدخر له حسناته في الآخرة، ويعقبه رزقاً في الدنيا على طاعته ».
حدثنا محمد بن عبد الله الرزي، أخبرنا عبد الوهاب بن عطاء، عن سعيد، عن قتادة، عن أنس، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم بمثل حديثهما.
واعلم أن هذا الذي ذكرنا أدلته من الكتاب والسنة من أن الكافر ينتفع بعمله الصالح في الدنيا : كبر الوالدين، وصلة الرحم، وإكرام الضيف والجار، والتنفيس عن المكروب ونحو ذلك، كله مقيد بمشيئة الله تعالى ؛ كما نص على ذلك بقوله :﴿ مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ﴾ [ الإسراء : ١٨ ] الآية.
فهذه الآية الكريمة مقيدة لما ورد من الآيات والأحاديث. وقد تقرر في الأصول أن المقيد يقضي على المطلق، ولا سيما إذا اتحد الحكم والسبب كما هنا. وأشار له في «مراقي السعود » بقوله :
وحمل مطلق على ذاك وجب | إن فيهما اتحد حكم والسبب |
الظاهر أن الخطاب في هذه الآية الكريمة متوجه إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم ؛ ليشرع لأمته على لسانه إخلاص التوحيد في العبادة له جل وعلا، لأنه صلى الله عليه وسلم معلوم أنه لا يجعل مع الله إلهاً آخر، وأنه لا يقعد مذموماً مخذولاً.
ومن الآيات الدالة دلالة واضحة على أنه صلى الله عليه وسلم يوجه إليه الخطاب، والمراد بذلك التشريع لأمته لا نفس خطابه هو صلى الله عليه وسلم.
لأن معنى قوله ﴿ إِمَّا يَبْلُغَنَّ ﴾ الآية : أي إن يبلغ عندك والداك أو أحدهما الكبر فلا تقل لهما أف. ومعلوم أن والديه قد ماتا قبل ذلك بزمن طويل ؛ فلا وجه لاشتراط بلوغهما أو أحدهما الكبر بعد أن ماتا منذ زمن طويل، إلا أن المراد التشريع لغيره صلى الله عليه وسلم. ومن أساليب اللغة العربية خطابهم إنساناً والمراد بالخطاب غيره. ومن الأمثلة السائرة في ذلك قول الراجز، وهو سهل بن مالك الفزاري :
إياك أعني واسمعي يا جاره
وسبب هذا المثل : أنه زار حارثة بن لأم الطائي فوجده غائباً ؛ فأنزلته أخته وأكرمته، وكانت جميلة ؛ فأعجبه جمالها، فقال مخاطباً لأخرى غيرها ليسمعها هي :
يا أخت خير البدو والحضارة | كيف ترين في فتى فزاره |
أصبح يهوى حرة معطاره | إياك أعني واسمعي يا جاره |
إني أقول يا فتى فزاره | لا أبتغي الزوج ولا الدعاره |
ولا فراق أهل هذي الحاره | فارحل إلى أهلك باستحاره |
وذهب بعض أهل العلم إلى أن الخطاب في قوله :﴿ لاَّ تَجْعَل مَعَ اللَّهِ إِلَهًا ءَاخَرَ ﴾ [ الإسراء : ٢٢ ] ونحو ذلك من الآيات متوجه إلى المكلف. ومن أساليب اللغة العربية : إفراد الخطاب مع قصد التعميم. كقول طرفة بن العبد في معلقته :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلا | ويأتيك بالأخبار من لم تزود |
لا يقنع الجارية الخضاب | ولا الوشاحان ولا الجلباب |
من دون أن تلتقي الأركاب | ويقعد الأير له لعاب |
وحكى الكسائي : قعد لا يسأل حاجة إلا قضاها ؛ بمعنى صار. قاله أبو حيان في البحر.
ثم قال أيضاً : والقعود هنا عبارة عن المكث، أي فتمكث في الناس مذموماً مخذولاً. كما تقول لمن سأل عن حال شخص : هو قاعد في أسوإ حال. ومعناه ماكث ومقيم ؛ سواء كان قائماً أم جالساً. وقد يراد القعود حقيقة ؛ لأن من شأن المذموم المخذول أن يقعد حائراً متفكراً، وعبر بغالب حاله وهو القعود. وقيل : معنى ﴿ فَتَقْعُدَ ﴾ فتعجز. والعرب تقول : ما أقعدك عن المكارم اه محل الغرض من كلام أبي حيان.
والمذموم هنا : هو من يلحقه الذم من الله ومن العقلاء من الناس. حيث أشرك بالله ما لا ينفع ولا يضر، ولا يقدر على شيء.
والمخذول : هو الذي لا ينصره من كان يؤمل منه النصر. ومنه قوله :
إن المرء ميتاً بانقضاء حياته | ولكن بأن يبغي عليه فيخذلا |
أمر جل وعلا في هذه الآية الكريمة بإخلاص العبادة له وحده، وقرن بذلك الأمر بالإحسان إلى الوالدين.
وجعله بر الوالدين مقروناً بعبادته وحده جل وعلا المذكور هنا ذكره في آيات أخر ؛ كقوله في سورة «النساء » :﴿ وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ [ النساء : ٣٦ ] الآية، وقوله في البقرة :﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْراءِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ﴾ [ البقرة : ٨٣ ] الآية، وقوله في سورة لقمان :﴿ أَنِ اشْكُرْ لي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَىَّ الْمَصِيرُ ﴾ [ لقمان : ١٤ ]، وبين في موضوع آخر أن برهما لازم ولو كانا مشركين داعيين إلى شركهما ؛ كقوله في «لقمان » :﴿ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا في الدُّنْيَا مَعْرُوفاً ﴾ [ لقمان : ١٥ ]، وقوله في «العنكبوت » :﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ إِلَىَّ مَرْجِعُكُمْ ﴾ [ العنكبوت : ٨ ] الآية.
وذكره جل وعلا في هذه الآيات : بر الوالدين مقروناً بتوحيده جل وعلا في عبادته، يدل على شدة تأكد وجوب بر الوالدين. وجاءت عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك أحاديث كثيرة.
وقوله جل وعلا في الآيات المذكورة :﴿ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً ﴾ بينه بقوله تعالى :﴿ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا ﴾ [ الإسراء : ٢٣-٢٤ ] لأن هذا من الإحسان إليهما المذكور في الآيات. وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح معنى خفض الجناح، وإضافته إلى الذل في سورة «الشعراء » وقد أوضحنا ذلك غاية الإيضاح في رسالتنا المسماة «منع جواز المجاز في المنزل للتعبد والإعجاز ».
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ معناه : أمر وألزم، وأوجب ووصى ألا تعبدوا إلا إياه.
وقال الزمخشري :﴿ وَقَضَى رَبُّكَ ﴾ أي أمر أمراً مقطوعاً به. واختار أبو حيان في «البحر المحيط » أن إعراب قوله ﴿ إِحْسَاناً ﴾ أنه مصدر نائب عن فعله ؛ فهو بمعنى الأمر، وعطف الأمر المعنوي أو الصريح على النهي معروف ؛ كقوله :
وقوفاً بها صحبي على مطيهم | يقولون لا تهلك أسى وتجمل |
الضمير في قوله ﴿ عَنْهُمُ ﴾ راجع إلى المذكورين قبله في قوله :﴿ وَءَاتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ﴾ [ الإسراء : ٢٦ ]. ومعنى الآية : إن تعرض عن هؤلاء المذكورين فلم تعطهم شيئاً لأنه ليس عندك. وإعراضك المذكور عنهم ﴿ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا ﴾ أي رزق حلال ؛ كالفيء يرزقكه الله فتعطيهم منه ﴿ فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا ﴾ أي ليناً لطيفاً طيباً ؛ كالدعاء لهم بالغنى وسعة الرزق، ووعدهم بأن الله إذا يسر من فضله رزقاً أنك تعطيهم منه.
وهذا تعليم عظيم من الله لنبيه لمكارم الأخلاق، وأنه إن لم يقدر على الإعطاء الجميل فليتجمل في عدم الإعطاء ؛ لأن الرد الجميل خير من الإعطاء القبيح.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة، صرح به الله جل وعلا في سورة «البقرة » في قوله :﴿ قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى ﴾ [ البقرة : ٢٦٣ ] الآية، ولقد أجاد من قال :
إلا تكن ورق يوماً أجود بها للسائلين فإني لين العود
لا يعدم السائلون الخير من خلقي | إما نوالى وإما حسن مردودي |
وقد علمت مما قررنا أن قوله :﴿ ابْتِغَآءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ ﴾ متعلق بفعل الشرط الذي هو ﴿ تُعْرِضَنَّ ﴾ لا بجزاء الشرط.
وأجاز الزمخشري في الكشاف تعلقه بالجزاء وتقديمه عليه. ومعنى ذلك : فقل لهم قولاً ميسوراً ﴿ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ ﴾ ؛ أي يسر عليهم والطف بهم ؛ لابتغائك بذلك رحمة الله. ورد ذلك عليه أبو حيان في «البحر المحيط » بأن ما بعد فاء الجواب لا يعمل فيما قبله. قال : لا يجوز في قولك إن يقم فاضرب خالداً أن تقول : إن يقم خالداً فاضرب. وهذا منصوص عليه انتهى.
وعن سعيد بن جبير رحمه الله : أن الضمير في قوله ﴿ وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ﴾ [ الإسراء : ٢٨ ] راجع للكفار ؛ أي إن تعرض عن الكفار ابتغاء رحمة من ربك، أي نصر لك عليهم، أو هداية من الله لهم. وعلى هذا فالقول الميسور : المداراة باللسان ؛ قاله أبو سليمان الدمشقي، انتهى من البحر. ويسر بالتخفيف يكون لازماً ومتعدياً، وميسور من المتعدي ؛ تقول : يسرت لك كذا إذا أعددته. قاله أبو حيان أيضاً.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من قتل مظلوماً فقد جعل الله لوليه سلطاناً، ونهاه عن الإسراف في القتل، ووعده بأنه منصور.
والنهي عن الإسراف في القتل هنا شامل ثلاث صور :
الأولى أن يقتل اثنين أو أكثر بواحد، كما كانت العرب تفعله في الجاهلية ؛ كقول مهلهل بن ربيعة لما قتل بجير بن الحارث بن عباد في حرب البسوس المشهورة : بؤ بشسع نعل كليب ؛ فغضب الحارث بن عباد، وقال قصيدته المشهورة :
قربا مربط النعامة مني | لقحت حرب وائل عن حيال |
قربا مربط النعامة مني | إن بيع الكرام بالشسع غالي الخ |
كل قتيل في كليب غره | حتى ينال القتل آل مره |
الثانية أن يقتل بالقتيل واحداً فقط ولكنه غير القاتل ؛ لأن قتل البريء بذنب غيره إسراف في القتل، منهي عنه في الآية أيضاً.
الثالثة أن يقتل نفس القاتل ويمثل به. فإن زيادة المثلة إسراف في القتل أيضاً.
وهذا هو التحقيق في معنى الآية الكريمة فما ذكره بعض أهل العلم، ومال إليه الرازي في تفسيره بعض الميل، من أن معنى الآية : فلا يسرف الظالم الجاني في القتل ؛ تخويفاً له من السلطان. والنصر الذي جعله الله لولي المقتول لا يخفى ضعفه، وأنه لا يلتئم مع قوله بعده ﴿ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا٢٣ ﴾.
وهذا السلطان الذي جعله الله لولي المقتول لم يبينه هنا بياناً مفصلاً، ولكنه أشار في موضعين إلى أن هذا السلطان : هو ما جعله الله من السلطة لولي المقتول على القاتل، من تمكينه من قتله إن أحب. ولا ينافي ذلك أنه إن شاء عفا على الدية أو مجاناً.
الأول قوله هنا ﴿ فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ﴾ بعد ذكر السلطان المذكور، لأن النهي عن الإسراف في القتل مقترناً بذكر السلطان المذكور يدل على أن السلطان المذكور هو ذلك القتل المنهي عن الإسراف فيه.
الموضع الثاني قوله تعالى :﴿ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ﴾ إلى قوله ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَواةٌ يا أُولِي الأَلْبَابِ ﴾ [ البقرة : ١٧٨-١٧٩ ]. فهو يدل على أن السلطان المذكور هو ما تضمنته آية القصاص هذه، وخير ما يبين به القرآن القرآن.
مسائل
تتعلق بهذه الآية الكريمة.
المسألة الأولى يفهم من قوله ﴿ مَظْلُومًا ﴾ أن من قتل غير مظلوم ليس لوليه سلطان على قاتله، وهو كذلك، لأن من قتل بحق فدمه حلال، ولا سلطان لوليه في قتله ؛ كما قدمنا بذلك حديث ابن مسعود المتفق عليه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة » كما تقدم إيضاحه في سورة «المائدة ».
وبينا هذا المفهوم في قوله ﴿ مَظْلُومًا ﴾ يظهر به بيان المفهوم في قوله أيضاً :﴿ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ﴾ [ الأنعام : ١٥١ ].
واعلم أنه قد ورد في بعض الأدلة أسباب أخر لإباحة قتل المسلم غير الثلاث المذكورة، على اختلاف في ذلك بين العلماء. من ذلك : المحاربون إذا لم يقتلوا أحداً. عند من يقول بأن الإمام مخير بين الأمور الأربعة المذكورة في قوله :﴿ أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ ﴾ [ المائدة : ٣٣ ] الآية ؛ كما تقدم إيضاحه مستوفى في سورة «المائدة ».
ومن ذلك : قتل الفاعل والمفعول به في فاحشة اللواط، وقد قدمنا الأقوال في ذلك وأدلتها بإيضاح في سورة «هود ».
وأما قتل الساحر فلا يبعد دخوله في قتل الكافر المذكور في قوله «التارك لدينه المفارق للجماعة » لدلالة القرآن على كفر الساحر في قوله تعالى :﴿ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ ﴾ الآية، وقوله :﴿ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ ﴾ الآية. وقوله :﴿ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لَمَن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ﴾ [ البقرة : ١٠٢ ].
وأما قتل مانع الزكاة فإنه إن أنكر وجوبها فهو كافر مرتد داخل في «التارك لدينه المفارق للجماعة ». وأما إن منعها وهو مقر بوجوبها فالذي يجوز فيه : القتال لا القتل، وبين القتال والقتل فرق واضح معروف.
وأما ما ذكره بعض أهل العلم من : أن من أتى بهيمة يقتل هو وتقتل البهيمة معه لحديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«من وقع على بهيمة فاقتلوه واقتلوها معه » قال الهيثمي في «مجمع الزوائد » : رواه أبو يعلى، وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، وحديثه حسن، وبقية رجاله ثقات. ورواه ابن ماجه من طريق داود بن الحصين عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعاً.
وأكثر أهل العلم على أنه لا يقتل ؛ لأن حصر ما يباح به دم المسلم في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود المتفق عليه أولى بالتقديم من هذا الحديث، مع التشديد العظيم في الكتاب والسنة في قتل المسلم بغير حق، إلى غير ذلك من المسائل المذكورة في الفروع.
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الحصر في الثلاث المذكورة في حديث ابن مسعود الثابت في الصحيح لا ينبغي أن يزاد عليه، إلا ما ثبت بوحي ثبوتاً لا مطعن فيه، لقوته. والعلم عند الله تعالى.
المسألة الثانية قد جاءت آيات أخر تدل على أن المقتول خطأ لا يدخل في هذا الحكم. كقوله :﴿ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ ﴾ [ الأحزاب : ٥ ]، وقوله :﴿ رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَآ إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا ﴾ [ البقرة : ٢٨٦ ] الآية ؛ لما ثبت في صحيح مسلم من حديث ابن عباس وأبي هريرة : أن النَّبي صلى الله عليه وسلم لما قرأها، قال الله نعم قد فعلت. وقوله :﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً ﴾ ثم بين ما يلزم القاتل خطأ بقوله :﴿ وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ ﴾ [ النساء : ٩٢ ]. وقد بين صلى الله عليه وسلم الدية قدراً وجنساً كما هو معلوم في كتب الحديث والفقه كما سيأتي إيضاحه.
المسألة الثالثة يفهم من إطلاق قوله تعالى :﴿ وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا ﴾ أن حكم الآية يستوي فيه القتل بمحدد كالسلاح، وبغير محدد كرضخ الرأس بحجر ونحو ذلك ؛ لأن الجميع يصدق عليه اسم القتل ظلماً فيجب القصاص.
وهذا قول جمهور العلماء، منهم مالك، والشافعي، وأحمد في أصح الروايتين.
وقال النووي في «شرح مسلم » : هو مذهب جماهير العلماء.
وخالف في هذه المسألة الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى فقال : لا يجب القصاص إلا في القتل بالمحدد خاصة، سواء كان من حديد، أو حجر، أو خشب، أو فيما كان معروفاً بقتل الناس كالمنجنيق، والإلقاء في النار.
واحتج الجمهور على أن القاتل عمداً بغير المحدد يقتص منه بأدلة :
الأول ما ذكرنا من إطلاق النصوص في ذلك.
الثاني حديث أنس بن مالك المشهور الذي أخرجه الشيخان، وباقي الجماعة : أن يهودياً قتل جارية على أوضاح لها، فرضخ رأسها بالحجارة، فاعترف بذلك فقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم بين حجرين، رض رأسه بهما.
وهذا الحديث المتفق عليه نص صريح صحيح في محل النزاع، تقوم به الحجة على الإمام أبي حنيفة رحمه الله، ولا سيما على قوله : باستواء دم المسلم والكافر المعصوم الدم كالذمي.
الثالث ما أخرجه أبو داود، والنسائي، وابن ماجه وغيرهما، عن حمل بن مالك من القصاص في القتل بالمسطح. قال النسائي : أخبرنا يوسف بن سعيد، قال حدثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، قال أخبرني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوساً يحدث عن ابن عباس، عن عمر رضي الله عنه : أنه نشد قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك. فقام حمل بن مالك فقال : كنت بين حجرتي امرأتين. فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها ؛ فقضى النَّبي صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل بها. وقال أبو داود : حدثنا محمد بن مسعود المصيصي، حدثنا أبو عاصم، عن ابن جريج قال : أخبرني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوساً عن ابن عباس، عن عمر : أنه سأل في قضية النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين امرأتين، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلها وجنينها ؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنينها بغرة، وأن تقتل. قال أبو داود : قال النضر بن شميل : المسطح هو الصولج. قال أبو داود : وقال أبو عبيد : المسطح عود من أعواد الخباء. وقال ابن ماجه : حدثنا أحمد بن سعيد الدارمي، ثنا أبو عاصم، أخبرني ابن جريج، حدثني عمرو بن دينار : أنه سمع طاوساً، عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب أنه نَشَدَ الناس قضاء النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك ( يعني في الجنين ) فقام حمل بن مالك بن النابغة فقال : كنت بين امرأتين لي، فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وقتلت جنينها ؛ فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنين بغرة عبد، وأن تقتل بها. انتهى من السنن الثلاث بألفاظها.
ولا يخفى أن هذا الإسناد صحيح ؛ فرواية أبي داود، عن محمد بن مسعود المصيصي وهو ابن مسعود بن يوسف النيسابوري، ويقال له المصيصي أبو جعفر العجمي نزيل طرسوس والمصيصة، وهو ثقة عارف. ورواية ابن ماجه عن أحمد بن سعيد الدارمي، وهو ابن سعيد بن صخر الدارمي أبو جعفر وهو ثقة حافظ، وكلاهما ( أعني محمد بن مسعود المذكور عند أبي داود، وأحمد بن سعيد المذكور عند ابن ماجه ) روي هذا الحديث عن أبي عاصم وهو الضحاك بن مخلد بن الضحاك بن مسلم الشيباني، وهو أبو عاصم النَّبيل، وهو ثقة ثبت. والضحاك رواه عن ابن جريج، وهو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج وهو ثقة فقيه فاضل، وكان يدلس ويرسل ؛ إلا أن هذا الحديث صرح فيه بالتحديث والاخبار عن عمرو بن دينار وهو ثقة ثبت، عن طاوس وهو ثقة فقيه فاضل، عن ابن عباس، عن حمل، عن النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وأما رواية النسائي فهي عن يوسف بن سعيد، وهو ابن سعيد بن مسلم المصيصي ثقة حافظ، عن حجاج بن محمد، وهو ابن محمد المصيصي الأعور أبو محمد الترمذي الأصل نزيل بغداد ثم المصيصة ثقة ثبت. لكنه اختلط في آخر عمره لما قدم بغداد قبل موته، عن ابن جريج، إلى آخر السند المذكور عند أبي داود وابن ماجه. وهذا الحديث لم يخلط فيه حجاج
المذكور في روايته له عن ابن جريج. بدليل رواية أبي عاصم له عند أبي داود وابن ماجه، عن ابن جريج كرواية حجاج المذكور عند النسائي. وأبو عاصم ثقة ثبت.
رواه البيهقي عن عبد الرزاق، عن ابن جريج. وجزم بصحة هذا الإسناد ابن حجر في الإصابة في ترجمة حمل المذكور. وقال البيهقي في «السنن الكبرى » في هذا الحديث : وهذا إسناد صحيح وفيما ذكر أبو عيسى الترمذي في كتاب «العلل » قال : سألت محمداً ( يعني البخاري )
نهى جل وعلا في هذه الآية الكريمة عن اتباع الإنسان ما ليس له به علم. ويشمل ذلك قوله : رأيت ولم ير، وسمعت ولم يسمع، وعلمت ولم يعلم. ويدخل فيه كل قول بلا علم وأن يعمل الإنسان بما لا يعلم. وقد أشار جل وعلا إلى هذا المعنى في آيات أخر. كقوله :﴿ إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ البقرة : ١٦٩ ] وقوله :﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ﴾ [ الأعراف : ٣٣ ]، وقوله :﴿ يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ﴾ [ الحجرات : ١٢ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٥٩ ]، وقوله :﴿ وَإِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِى مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ﴾ [ النجم : ٢٨ ] وقوله :﴿ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ ﴾ بالنساء : ١٥٧ ]، والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهي عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جداً. وفي الحديث :«إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ».
تنبيه
أخذ بعض أهل العلم من هذه الآية الكريمة منع التقليد، قالوا : لأنه اتباع غير العلم.
قال مقيده عفا الله عنه : لا شك أن التقليد الأعمى الذي ذم الله به الكفار في آيات من كتابه تدل هذه الآية وغيرها من الآيات على منعه، وكفر متبعه ؛ كقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ البقرة : ١٧٠ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ ءَابَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ﴾ [ المائدة : ١٠٤ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُواْ مَآ أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَآءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴾ [ لقمان : ٢١ ]، وقوله :﴿ أَمْ ءَاتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بَلْ قَالُواْ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّهْتَدُونَ وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِى قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُون َقُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ ءَابَآءَكُمْ ﴾ [ الزخرف : ٢١-٢٤ ]، وقوله :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءَابَآؤُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
أما استدلال بعض الظاهرية كابن حزم ومن تبعه بهذه الآية التي نحن بصددها وأمثالها من الآيات على منع الاجتهاد في الشرع مطلقاً، وتضليل القائل به، ومنع التقليد من أصله، فهو من وضع القرآن في غير موضعه، وتفسيره بغير معناه، كما هو كثير في الظاهرية، لأن مشروعية سؤال الجاهل للعالم وعمله بفتياه أمر معلوم من الدين بالضرورة. ومعلوم أنه كان العامي يسأل بعض أصحاب النَّبي صلى الله عليه وسلم فيفتيه فيعمل بفتياه، ولم ينكر ذلك أحد من المسلمين. كما أنه من المعلوم أن المسألة إن لم يوجد فيها نص من كتاب الله أو سنة صلى الله عليه وسلم. فاجتهاد العالم حينئذ بقدر طاقته في تفهم كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ليعرف حكم المسكوت عنه من المنطوق به لا وجه لمنعه، وكان جارياً بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم ينكره أحد من المسلمين. وسنوضح غاية الإيضاح إن شاء الله تعالى «في سورة الأنبياء، والحشر » مسألة الاجتهاد في الشرع، واستنباط حكم المسكوت عنه من المنطوق به بإلحاقه به قياساً كان الإلحاق أو غيره. ونبين أدلة ذلك، ونوضح رد شبه المخالفين كالظاهرية والنظام، ومن قال بقولهم في احتجاجهم بأحاديث وآيات من كتاب الله على دعواهم، وبشبه عقلية حتى يتضح بطلان جميع ذلك.
وسنذكر هنا طرفاً قليلاً من ذلك يعرف به صحة القول بالاجتهاد والقياس فيما لا نص فيه، وأن إلحاق النظير بنظيره المنصوص عليه غير مخالف للشرع الكريم.
اعلم أولاً أن إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق به بنفي الفارق بينهما لا يكاد ينكره إلا مكابر، وهو نوع من القياس الجلي، ويسميه الشافعي رحمه الله «القياس في معنى الأصل » وأكثر أهل الأصول لا يطلقون عليه اسم القياس، مع أنه إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به لعدم الفرق بينهما. أعني الفرق المؤثر في الحكم.
ومن أمثلة هذا النوع قوله تعالى :﴿ فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ ﴾ [ الإسراء : ٢٣ ] فإنه لا يشك عاقل في أن النهي عن التأفيف المنطوق به يدل على النهي عن الضرب المسكوت عنه.
وقوله تعالى :﴿ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَه ُوَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ ﴾ [ الزلزلة : ٧-٨ ] فإنه لا شك أيضاً في أن التصريح بالمؤاخذة بمثال الذرة والإثابة عليه المنطوق به يدل على المؤاخذة والإناثة بمثقال الجبل المسكوت عنه.
وقوله تعالى :﴿ وَأَشْهِدُواْ ذَوَى عَدْلٍ ﴾ [ الطلاق : ٢ ] الآية، لا شك في أنه يدل على أن شهادة أربعة عدول مقبولة وإن كانت شهادة الأربعة مسكوتاً عنها.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن التضحية بالعوراء يدل على النهي عن التضحية بالعمياء، مع أن ذلك مسكوت عنه.
وقوله تعالى :﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ﴾ [ النساء : ١٠ ] الآية ؛ لا شك في أنه يدل على منع إحراق مال اليتيم وإغراقه. لأن الجميع إتلاف له بغير حق.
وقوله صلى الله عليه وسلم :«من أعتق شركاً له في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم عليه قيمة عدل، فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد، وإلا فقد عتق منه ما عتق » يدل على أن من أعتق شركاً له في أمة فحكمه كذلك ؛ لما عرف من استقراء الشرع أن الذكورة والأنوثة بالنسبة إلى العتق وصفان طرديان لا تأثير لهما في أحكام العتق وإن كانا غير طرديين في غير العتق كالشهادة والميراث وغيرهما.
وقوله صلى الله عليه وسلم :«لا يقضين حكم بين اثنين وهو غضبان » لا شك في أنه يدل على منع قضاء الحكم في كل حال يحصل بها التشويش المانع من استيفاء النظر ؛ كالجوع والعطش المفرطين، والسرور والحزن المفرطين، والحقن والحقب المفرطين.
ونهيه صلى الله عليه وسلم عن البول في الماء الراكد، لا شك في أنه يدل على النهي عن البول في قارورة مثلاً وصب البول من القارورة في الماء الراكد ؛ إذ لا فرق يؤثر في الحكم بين البول فيه مباشرة وصبه فيه من قارورة ونحوها، وأمثال هذا كثيرة جداً، ولا يمكن أن يخالف فيها إلا مكابر. ولا شك أن في ذلك كله استدلالاً بمنطوق به على مسكوت عنه. وكذلك نوع الاجتهاد المعروف في اصطلاح أهل الأصول «بتحقيق المناط » لا يمكن أن ينكره إلا مكابر، ومسائلة التي لا يمكن الخلاف فيها من غير مكابر لا يحيط بها الحصر، وسنذكر أمثلة منها ؛ فمن ذلك قوله تعالى :﴿ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ ﴾ [ المائدة : ٩٥ ] فكون الصيد المقتول يماثله النوع المعين من النعم اجتهاد في تحقيق مناط هذا الحكم، نص عليه جل وعلا في محكم كتابه. وهو دليل قاطع على بطلان قول من يجعل الاجتهاد في الشرع مستحيلاً من أصله. والإنفاق على الزوجات واجب، وتحديد القدر اللازم لا بد فيه من نوع من الاجتهاد في تحقيق مناط ذلك الحكم. وقيم المتلفات واجبة على من أتلف، وتحديد القدر الواجب لا بد فيه من اجتهاد. والزكاة لا تصرف إلا في مصرفها، كالفقير ولا يعلم فقره إلا بأمارات ظنية يجتهد في الدلالة عليها بالقرائن ؛ لأن حقيقة الباطن لا يعلمها إلا الله. ولا يحكم إلا بقول العدل، وعدالته إنما تعلم بأمارات ظنية يجتهد في معرفتها بقرائن الأخذ والإعطاء وطول المعاشرة. وكذلك الاجتهاد من المسافرين في جهة القبلة بالأمارات، إلى غير ذلك مما لا يحصى.
ومن النصوص الدالة على مشروعية الاجتهاد في مسائل الشرع ما ثبت في الصحيح عن النَّبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، قال مسلم بن الحجاج رحمه الله في صحيحه : حدثنا يحيى بن يحيى التميمي، أخبرنا عبد العزيز بن محمد، عن يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد، عن محمد بن إبراهيم، عن بسر بن سعيد، عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص، عن عمرو بن العاص : أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر ».
وحدثني إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أبي عمر كلاهما عن عبد العزيز بن محمد بهذا الإسناد مثله، وزاد في عقب الحديث : قال يزيد : فحدثت هذا الحديث أبا بكر بن محمد بن عمرو بن حزم فقال : هكذا حدثني أبو سلمة عن أبي هريرة، وحدثني عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي : أخبرنا مروان يعني ابن محمد الدمشقي، حدثنا الليث بن سعد، حدثني يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد الليثي بهذا الحديث، مثل رواية عبد العزيز بن محمد بالإسنادين جميعاً انتهى.
فهذا نص صحيح من النَّبي صلى الله عليه وسلم، صريح في جواز الاجتهاد في الأحكام الشرعية، وحصول الأجر على ذلك وإن كان المجتهد مخطئاً في اجتهاده. وهذا يقطع دعوى الظاهرية : منع الاجتهاد من أصله، وتضليل فاعله والقائل به قطعاً باتاً كما ترى.
وقال النووي في شرح هذا الحديث : قال العلماء : أجمع المسلمون على أن هذا الحديث في حاكم عالم أهل للحكم ؛ فإن أصاب فله أجران : أجر باجتهاده، وأجر بإصابته، وإن أخطأ فله أجر باجتهاده. وفي الحديث محذوف تقديره : إذا أراد الحاكم أن يحكم فاجتهد. قالوا : فأما من ليس بأهل للحكم فلا يحل له الحكم ؛ فإن حكم فلا أجر له بل هو آثم. ولا ينعقد حكمه سواء وافق الحق أم لا ؛ لأن إصابته اتفاقية ليست صادرة عن أصل شرعي، فهو عاص في جميع أحكامه سواء وافق الصواب أم لا، وهي مردودة كلها، ولا يعذر في شيء من ذلك. وقد جاء في الحديث في السنن :«القضاء ثلاثة : قاض في الجنة، واثنان في النار. قاض عرف الحق فقضى به في الجنة، وقاض عرف الحق فقضى بخلافه فهو في النار، وقاض قضى على جهل فهو في النار » انتهى الغرض من كلام النووي.
فإن قيل : الاجتهاد المذكور في الحديث هو الاجتهاد في تحقيق المناط دون غيره من أنواع الاجتهاد.
فالجواب أن هذا صرف لكلامه صلى الله عليه وسلم عن ظاهره من غير دليل يجب الرجوع إ
نهى الله جل وعلا الناس في هذه الآية الكريمة عن التجبر والتبختر في المشية. وقوله ﴿ مَرَحًا ﴾ مصدر منكر، وهو حال على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
ومصدر منكر حالا يقع | بكثرة كبغتة زيد طلع |
وقد أوضح حل وعلا هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله عن لقمان مقرراً له ﴿ وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلاَ تَمْشِ في الأرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُختالٍ فَخُورًا وَاقْصِدْ في مَشْيِكَ ﴾ [ لقمان : ١٨-١٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَانِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأرْضِ هَوْناً ﴾ [ الفرقان : ٦٣ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
وأصل المرح في اللغة : شدة الفرح والنشاط، وإطلاقه على مشي الإنسان متبختراً مشي المتكبرين، لأن ذلك من لوازم شدة الفرح والنشاط عادة.
وأظهر القولين عندي في قوله تعالى :﴿ إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ ﴾ أن معناه لن تجعل فيها خرقاً بدوسك لها وشدة وطئك عليها، ويدل لهذا المعنى قوله بعده ﴿ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ أي أنت أيها المتكبر المختال : ضعيف حقير عاجز محصور بين جمادين ! أنت عاجز عن التأثير فيهما. فالأرض التي تحتك لا تقدر أن تؤثر فيها فنخرقها بشدة وطئك عليها، والجبال الشامخة فوقك لا يبلغ طولك طولها. فاعرف قدرك ! ولا تتكبر، ولا تمش في الأرض مرحاً.
القول الثاني أن معنى ﴿ لَن تَخْرِقَ الأرْضَ ﴾ لن تقطعها بمشيك ؛ قاله ابن جرير، واستشهد له بقول رؤبة بن العجاج :
وقاتم الأعماق خاوي المخترق | مشتبه الأعلام لماع الخفق |
ولا تمش فوق الأرض إلا تواضعا | فيكم تحتها قوم هم منك أرفع |
وإن كنت في عز وحرز ومنعة | فكم مات من قوم هم منك أمنع |
الهمزة في قوله ﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ ﴾ للإنكار ومعنى الآية ؛ أفحصكم ربكم على وجه الخصوص والصفاء بأفضل الأولاد وهم البنون، لم يجعل فيهم نصيباً لنفسه، واتخذ لنفسه أدونهم وهي البنات ! وهذا خلاف المعقول والعادة. فإن السادة لا يؤثرون عبيدهم بأجود الأشياء وأصفاها من الشوب، ويتخذون لأنفسهم أردأها وأدونها. فلو كان جل وعلا متخذاً ولداً «سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً » لاتخذ أجود النصيبين ولم يتخذ أردأهما ! ولم يصطفكم دون نفسه بأفضلهما.
وهذا الإنكار متوجه على الكفار في قولهم : الملائكة بنات الله. سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً. فقد جعلوا له الأولاد ! ومع ذلك جعلوا له أضعفها وأردأها وهو الإناث ! وهم لا يرضونها لأنفسهم.
وقد بين الله هذا المعنى في آيات كثيرة ؛ كقوله ﴿ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الأنثَى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزَى ﴾ [ النجم : ٢١-٢٢ ]، وقوله :﴿ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ﴾ [ الطور " ٣٩ ]، وقوله :﴿ لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاَّصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ ﴾ [ الزمر : ٤ ] والآيات بمثل هذا كثيرة جداً. وقد بينا ذلك بإيضاح في «سورة النحل ». وقوله في هذه الآية الكريمة ﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا ﴾ بين فيه أن ادعاء الأولاد لله سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً أمر عظيم جداً. وقد بين شدة عظمه بقوله تعالى :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداًوَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً إِن كُلُّ مَن في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ إِلاَّ آتِى الرَّحْمَانِ عَبْداً إِنَّ الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُوا ْوَكُلُّهُمْ ءَاتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٥ ] فالمشركون قبحهم الله جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً، ثم ادعوا أنهم بنات الله، ثم عبدوهم. فاقترفوا الجريمة العظمى في المقامات الثلاث، والهمزة والفاء في نحو قوله :﴿ أَفَأَصْفَاكُمْ ﴾ قد بينا حكمها بإيضاح في «سورة النحل » أيضاً.
الأول من الوجهين المذكورين أن معنى الآية الكريمة : لو كان مع الله آلهة أخرى كما يزعم الكفار لابتغوا أي الآلهة المزعومة أي لطلبوا إلى ذي العرش أي إلى الله سبيلاً أي إلى مغالبته وإزالة ملكه، لأنهم إذاً يكونون شركاءه كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض. سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً !
وهذا القول في معنى الآية هو الظاهر عندي، وهو المتبادر من معنى الآية الكريمة. ومن الآيات الشاهدة لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٩١-٩٢ ]، وقوله :﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ] وهذا المعنى في الآية مروي عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي علي الفارسي، والنقاش، وأبي منصور، وغيره من المتكلمين.
الوجه الثاني في معنى الآية الكريمة : أن المعنى ﴿ لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذي الْعَرْشِ سَبِيلاً ﴾ أي طريقاً ووسيلة تقربهم إليه لاعترافهم بفضله. ويدل لهذا المعنى قوله تعالى :﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ ﴾ [ الإسراء : ٥٧ ]. ويروى هذا القول عن قتادة. واقتصر عليه ابن كثير في تفسيره.
ولا شك أن المعنى الظاهر المتبادر من الآية بحسب اللغة العربية هو القول الأول، لأن في الآية فرض المحال، والمحال المفروض الذي هو وجود آلهة مع الله مشاركة له لا يظهر معه أنها تتقرب إليه، بل تنازعه لو كانت وجودة، ولكنها معدومة مستحيلة الوجود. والعلم عند الله تعالى.
الأول أن المعنى : وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً ؛ أي حائلاً وساتراً يمنعهم من تفهم القرآن وإدراكه لئلا يفقهوه فينتفعوا به. وعلى هذا القول فالحجاب المستور هو ما حجب الله به قلوبهم عن الانتفاع بكتابه. والآيات الشاهدة لهذا المعنى كثيرة ؛ كقوله :﴿ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِى ءَاذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ ﴾ [ فصلت : ٥ ]، وقوله :﴿ خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ ﴾ [ البقرة : ٧ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ ﴾ [ الكهف : ٥٧ ] الآية. إلى غير ذلك من الآيات، وممن قال بهذا القول في معنى الآية : قتادة والزجاج وغيرهما.
الوجه الثاني في الآية أن المراد بالحجاب المستور أن الله يستره عن أعين الكفار فلا يرونه. قال صاحب الدر المنثور في الكلام على هذه الآية ؛ أخرج أبو يعلى وابن أبي حاتم وصححه ؛ وابن مردويه، وأبو نعيم والبيهقي معاً في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : لما نزلت ﴿ تَبَّتْ يَدَآ أَبِى لَهَبٍ ﴾ [ المسد : ١ ] أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمما أبينا... ودينه قلينا | ... وأمره عصينا |
وقال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية، بعد أن ساق بعض الروايات نحو ما ذكرنا في هذا الوجه الأخير ما نصه : ولقد اتفق لي ببلادنا الأندلس بحصن منثور من أعمال قرطبة مثل هذا. وذلك أني هربت أمام العدو وانحزت إلى ناحية عنه، فلم ألبث أن خرج في طلبي فارسان وأنا في فضاء من الأرض قاعد ليس يسترني عنهما شيء، وأنا أقرأ أول سورة يس وغير ذلك من القرآن، فعبرا علي ثم رجعا من حيث جاءا، وأحدهما يقول للآخر : هذا ديبله ( يعنون شيطاناً ) وأعمى الله عز وجل أبصارهم فلم يروني اه وقال القرطبي : إن هذا الوجه في معنى الآية هو الأظهر. والعلم عند الله تعالى.
وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ حِجَابًا مَّسْتُورًا٤٥ ﴾ قال بعض العلماء : هو من إطلاق اسم المفعول وإرادة اسم الفاعل ؛ أي حجاباً ساتراً، وقد يقع عكسه كقوله تعالى :﴿ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ ﴾ [ الطارق : ٦ ] أي مدفوق ﴿ عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ ﴾ [ الحاقة : ٢١ ] أي مرضية. فإطلاق كل من اسم الفاعل واسم المفعول وإرادة الآخر أسلوب من أساليب اللغة العربية ؛ والبيانيون يسمون مثل ذلك الإطلاق «مجازاً عقلياً » ومن أمثلة إطلاق المفعول وإرادة الفاعل كالقول في الآية قولهم : ميمون ومشؤوم، بمعنى يا من وشائم. وقال بعض أهل العلم : قوله ﴿ مَّسْتُورًا٤٥ ﴾ على معناه الظاهر من كونه اسم مفعول، لأن ذلك الحجاب مستور عن أعين الناس فلا يرونه. أو مستوراً به القارئ فلا يراه غيره. واختار هذا أبو حيان في البحر. والعلم عند الله تعالى.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على قلوب الكفار أكنة، ( جمع كنان ) وهو ما يستر الشيء ويغطيه ويكنه، لئلا يفقهوا القرآن. أو كراهة أن يفقهوه لحيلولة تلك الأكنة بين قلوبهم وبين فقه القرآن ؛ أي فهم معانيه فهماً ينتفع به صاحبه. وأنه جعل في آذانهم وقرأ أي صمماً وثقلاً لئلا يسمعوه سماع قبول وانتفاع.
وبين في مواضع أخر سبب الحيلولة بين القلوب وبين الانتفاع به، وأنه هو كفرهم، فجازاهم الله على كفرهم بطمس البصائر، وإزاغة القلوب والطبع والختم والأكنة المانعة من وصول الخير إليها، كقوله تعالى :﴿ فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ﴾ [ الصف : ٥ ] الآية، وقوله :﴿ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ ﴾ [ النساء : ١٥٥ ]، وقوله :﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ [ الأنعام : ١١٠ ] الآية، وقوله :﴿ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [ البقرة : ١٠ ]، وقوله :﴿ وَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٥ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
تنبيه
في هذه الآية الكريمة الرد الواضح على القدرية في قولهم : إن الشر لا يقع بمشيئة الله، بل بمشيئة العبد ؛ سبحان الله وتعالى علواً كبيراً عن أن يقع في ملكه شيء ليس بمشيئته ؟ ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ مَآ أَشْرَكُواْ ﴾ [ الأنعام : ١٠٧ ]، ﴿ وَلَوْ شِئْنَا لأتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا ﴾ [ السجدة : ١٣ ] الآية، ﴿ وَلَوْ شَآءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى ﴾ [ الأنعام : ٥٣ ] إلى غير ذلك من الآيات.
قوله تعالى :﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ في الْقُرْءَانِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ [ ٤٦ ]. بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة، أن نبيه صلى الله عليه وسلم إذا ذكر ربه وحده في القرآن بأن قال «لا إله لا الله » ولى الكافرون على أدبارهم نفوراً، بغضاً منهم لكلمة التوحيد، ومحبة للإشراك به جل وعلا.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر، مبيناً أن نفورهم من ذكره وحده جل وعلا سبب خلودهم في النار، كقوله :﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٥ ]، وقوله :﴿ ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فَالْحُكْمُ للَّهِ الْعَلِىِّ الْكَبِيرِ ﴾ [ غافر : ١٢ ]، وقوله :﴿ إِنَّهُمْ كَانُواْ إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَءِنَّا لَتَارِكُو ءَالِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ﴾ [ الصافات : ٣٥-٣٦ ]، وقوله :﴿ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ﴾ [ الشورى : ١٣ ] الآية، وقوله :﴿ وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ في وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءَايَاتُنَا ﴾ [ الحج : ٧٢ ]، وقوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لِهَذَا الْقُرْءَانِ وَالْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ﴾ [ فصلت : ٢٧ ].
وقوله في هذه الآية :﴿ نُفُوراً ﴾ جمع نافر ؛ فهو حال. أي ولوا على أدبارهم في حال كونهم نافرين من ذكر الله وحده من دون إشراك. والفاعل يجمع على فعول كساجد وسجود، وراكع وركوع.
وقال بعض العلماء :«نفوراً » مصدر، وعليه فهو ما ناب عن المطلق من قوله ﴿ وَلَّوْاْ ﴾ لأن التولية عن ذكره وحده بمعنى النفور منه.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم ؛ أي إزالة المكروه عنهم، ولا تحويلاً أي تحويله من إنسان إلى آخر، أو تحويل المرض إلى الصحة، والفقر إلى الغنى، والقحط إلى الجدب ونحو ذلك. ثم بين فيها أيضاً أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته، ويبتغون الوسيلة إليه، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم.
قال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة أو غيرهم، كانوا يعبدون رجالاً من الجن، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ الآية وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيراً والمسيح وأمه. وعنه أيضاً، وعن ابن مسعود، وابن زيد، والحسن : أنها نزلت في عبدة الملائكة. وعن ابن عباس : أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه.
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا بينه أيضاً في مواضع أخر، كقوله «في سبإ » ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢-٢٣ ]، وقوله «في الزمر » :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا «في سورة المائدة » أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة «وفي آية المائدة » : هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم | بلى كل ذي لب إلى الله واسل |
إن الرجال لهم إليك وسيلة | إن يأخذوك تكحلي وتخضبي |
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا | وعاد التصافي بيننا والوسائل |
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن المعبودين من دون الله الذين زعم الكفار أنهم يقربونهم إلى الله زلفى، ويشفعون لهم عنده لا يملكون كشف الضر عن عابديهم ؛ أي إزالة المكروه عنهم، ولا تحويلاً أي تحويله من إنسان إلى آخر، أو تحويل المرض إلى الصحة، والفقر إلى الغنى، والقحط إلى الجدب ونحو ذلك. ثم بين فيها أيضاً أن المعبودين الذين عبدهم الكفار من دون الله يتقربون إلى الله بطاعته، ويبتغون الوسيلة إليه، أي الطريق إلى رضاه ونيل ما عنده من الثواب بطاعته فكان الواجب عليكم أن تكونوا مثلهم.
قال ابن مسعود : نزلت هذه الآية في قوم من العرب من خزاعة أو غيرهم، كانوا يعبدون رجالاً من الجن، فأسلم الجنيون وبقي الكفار يعبدونهم فأنزل الله ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ﴾ الآية وعن ابن عباس : أن هذه الآية نزلت في الذين كانوا يعبدون عزيراً والمسيح وأمه. وعنه أيضاً، وعن ابن مسعود، وابن زيد، والحسن : أنها نزلت في عبدة الملائكة. وعن ابن عباس : أنها نزلت في عبدة الشمس والقمر والكواكب وعزير والمسيح وأمه.
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا في هذه الآية الكريمة : من أن كل معبود من دون الله لا ينفع عابده، وأن كل معبود من دونه مفتقر إليه ومحتاج له جل وعلا بينه أيضاً في مواضع أخر، كقوله «في سبإ » ﴿ قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ مِثُقَالَ ذَرَّةٍ في السَّمَاوَاتِ وَلاَ في الأرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ وَلاَ تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ ﴾ [ سبأ : ٢-٢٣ ]، وقوله «في الزمر » :﴿ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِيَ بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ﴾ [ الزمر : ٣٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات وقد قدمنا «في سورة المائدة » أن المراد بالوسيلة في هذه الآية الكريمة «وفي آية المائدة » : هو التقرب إلى الله بالعمل الصالح. ومنه قول لبيد :
أرى الناس لا يدرون ما قدر أمرهم | بلى كل ذي لب إلى الله واسل |
إن الرجال لهم إليك وسيلة | إن يأخذوك تكحلي وتخضبي |
إذا غفل الواشون عدنا لوصلنا | وعاد التصافي بيننا والوسائل |
قال بعض أهل العلم : في هذه الآية الكريمة حذف الصفة، أي وإن من قرية ظالمة إلا نحن مهلكوها. وهذا النعت المحذوف دلت عليه آيات من كتاب الله تعالى ؛ كقوله ﴿ وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ ﴾ [ القصص : ٥٩ ] وقوله :﴿ ذالِكَ أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٣١ ]. أي بل لا بد أن تنذرهم الرسل فيكفروا بهم وبربهم. وقوله ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ﴾ [ هود : ١١٧ ]، وقوله ﴿ وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً ﴾[ الطلاق : ٨-٩ ] إلى غير ذلك من الآيات. وغاية ما في هذا القول حذف النعت مع وجود أدلة تدل عليه. ونظيره في القرآن قوله تعالى :﴿ وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً ﴾ [ الكهف : ٧٩ ] أي كل سفينة صالحة ؛ بدليل أن خرق الخضر للسفينة التي ركب فيها هو وموسى يريد به سلامتها من أخذ الملك لها، لأنه لا يأخذ المعيبة التي فيها الخرق وإنما يأخذ الصحيحة. ومن حذف النعت قوله تعالى :﴿ قَالُواْ الآَنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ﴾ [ البقرة : ٧١ ] أي بالحق الواضح الذي لا لبس معه في صفات البقرة المطلوبة. ونظيره من كلام العرب قول الشاعر، وهو المرقش الأكبر :
ورب أسيلة الخدين بكر | مهفهفة لها فرع وجيد |
من قوله قول ومن فعله | فعل ومن نائله نائل |
وما من المنعوت والنعت عقل | يجوز حذفه وفي النعت يقل |
من شاء بايعته مالي وخلعته | ما تكمل التيم في ديوانها سطرا |
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه آتى ثمود الناقة في حال كونها آية مبصرة، أي بينة تجعلهم يبصرون الحق واضحاً لا لبس فيه فظلموا بها. ولم يبين ظلمهم بها ها هنا، ولكنه أوضحه في مواضع أخر، كقوله :﴿ فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ ﴾ [ الأعراف : ٧٧ ] الآية، وقوله ﴿ فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا ﴾ [ الشمس : ١٤ ] الآية، وقوله ﴿ فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ ﴾ [ القمر : ٢٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم أنه أحاط بالناس ؛ أي فهم في قبضته يفعل فيهم كيف يشاء فيسلط نبيه عليهم ويحفظه منهم.
قال بعض أهل العلم : ومن الآيات التي فصلت بعض التفصيل في هذه الإحاطة، قوله تعالى :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ﴾ [ القمر : ٤٥ ]، وقوله :﴿ قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ ﴾ [ آل عمران : ١٢ ] الآية، وقوله :﴿ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [ المائدة : ٦٧ ]. وفي هذا أن هذه الآية مكية، وبعض الآيات المذكورة مدني. أما آية القمر وهي قوله :﴿ سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ ﴾ [ القمر : ٤٥ ] الآية فلا إشكال في البيان بها لأنها مكية.
قوله تعالى :﴿ وَمَا جَعَلْنَا الرُّءْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في القُرْءَانِ ﴾ [ ٦٠ ].
التحقيق في معنى هذه الآية الكريمة : أن الله جل وعلا جعل ما أراه نبيه صلى الله عليه وسلم من الغرائب والعجائب ليلة الإسراء والمعراج فتنة للناس، لأن عقول بعضهم ضاقت عن قبول ذلك، معتقدة أنه لا يمكن أن يكون حقاً، قالوا : كيف يصلي ببيت المقدس، ويخترق السبع الطباق، ويرى ما رأى في ليلة واحدة، ويصبح في محله بمكة ؟ هذا محال ! فكان هذا الأمر فتنة لهم لعدم تصديقهم به، واعتقادهم أنه لا يمكن، وأنه جل وعلا جعل الشجرة الملعونة في القرآن التي هي شجرة الزقوم فتنة للناس، لأنهم لما سمعوه صلى الله عليه وسلم يقرأ ﴿ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٦٤ ] قالوا : ظهر كذبه ؛ لأن الشجر لا ينبت في الأرض اليابسة، فكيف ينبت في أصل النار ؟ فصار ذلك فتنة. وبين أن هذا هو المراد من كون الشجرة المذكورة فتنة لهم بقوله :﴿ أَذَالِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّوم إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الْجَحِيمِ ﴾ [ الصافات : ٦٢-٦٤ ] الآية، وهو واضح كما ترى. وأشار في مواضع آخر إلى الرؤيا التي جعلها فتنة لهم، وهو قوله :﴿ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى وَلَقَدْ رَءَاهُ نَزْلَةً أُخْرَى عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَى عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى لَقَدْ رَأَى مِنْ ءَايَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ﴾ [ النجم : ١٢-١٨ ]. وقد قدمنا إيضاح هذا في أول هذه السورة الكريمة. وبهذا التحقيق الذي ذكرنا تعلم أن قول من قال : إن الرؤيا التي أراه بالله إياها هي رؤياه في المنام بني أمية على منبره، وإن المراد بالشجرة الملعونة في القرآن بنو أمية لا يعول عليه. إذا لا أساس له من الصحة. والحديث الوارد بذلك ضعيف لا تقوم به حجة. وإنما وصف الشجرة باللعن لأنها في أصل النار، وأصل النار بعيد من رحمة الله. واللعن : الإبعاد عن رحمة الله، أو لخبث صفاتها التي وصفت بها في القرآن، أو للعن الذين يطعمونها. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى في هذه الآية عن إبليس :﴿ أَءَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ يدل فيه إنكار إبليس للسجود بهمزة الإنكار على إبائه واستكباره عن السجود لمخلوق من طين، وصرح بهذا الإباء والاستكبار في مواضع أخر. فصرح بهما معاً «في البقرة » في قوله ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ البقرة : ٣٤ ] وصرح بإبائه «في الحجر » بقوله ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ ﴾ [ الحجر : ٣١ ]، وباستكباره «في ص » بقوله ﴿ إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ ﴾ [ ص : ٧٤ ] وبين سبب استكباره بقوله ﴿ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ﴾ كما تقدم إيضاحه «في البقرة » وقوله :﴿ طِينًا ﴾ حال ؛ أي لمن خلقته في حال كونه طيناً. وتجويز الزمخشري كونه حالاً من نفس الموصول غير ظاهر عندي. وقيل : منصوب بنزع الخافض ؛ أي من طين. وقيل : تمييز، وهو أضعفها. والعلم عند الله تعالى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن إبليس اللعين قال له ﴿ أَرَءَيْتَكَ ﴾ أي أخبرني : هذا الذي كرمته علي فأمرتني بالسجود له وهو آدم. أي لم كرمته علي وأنا خير منها والكاف في ﴿ أَرَءَيْتَكَ ﴾ حرف خطاب، وهذا مفعول به لأرأيت.
والمعنى : أخبرني. وقيل : إن الكاف مفعول به، و«هذا » مبتدأ، وهو قول ضعيف. وقوله ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ قال ابن عباس : لأستولين عليهم، وقاله الفراء. وقال مجاهد : لأحتوينهم. وقال ابن زيد : لأضلنهم. قال القرطبي : والمعنى متقارب. أي لأستأصلنهم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنهم.
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي في معنى الآية أن المراد بقوله ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ أي لأقودنهم إلى ما أشاء ؛ من قول العرب : احتنكت الفرس : إذا جعلت الرسن في حنكه لتقوده حيث شئت. تقول العرب : حنكت الفرس أحنكه ( من باب ضرب ونصر ) واحتنكته : إذا جعلت فيه الرسن. لأن الرسن يكون على حنكه. وقول العرب : احتنك الجراد الأرض : أي أكل ما عليها من هذا القبيل. لأنه يأكل بأفواهه، والحنك حول الفم. هذا هو أصل الاستعمال في الظاهر. فالاشتقاق في المادة من الحنك، وإن كان يستعمل في الإهلاك مطلقاً والاستئصال. كقول الراجز :
أشكو إليك سنة قد أجحفت | جهداً إلى جهد بنا وأضعفت |
وهذا الذي ذكر جل وعلا عن إبليس في هذه الآية من قوله ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾ الآية، بينه أيضاً في مواضع أخر من كتابه ؛ كقوله ﴿ لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٦-١٧ ]، وقوله :﴿ فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه «في سورة النساء » وغيرها.
وقوله في هذه الآية ﴿ إَلاَّ قَلِيلاً ﴾ بين المراد بهذا القليل في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين َإِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الحجر : ٣٩-٤٠ ]، وقوله :﴿ لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ في الأرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِين َإِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الحجر : ٣٩-٤٠ ] كما تقدم إيضاحه.
وقول إبليس في هذه الآية. ﴿ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ ﴾. قاله ظناً منه أنه سيقع وقد تحقق له هذا الظن ؛ كما قال تعالى :﴿ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [ سبأ : ٢٠ ].
قال القرطبي في تفسير هذه الآية الكريمة :﴿ قَالَ اذْهَبْ ﴾ هذا أمر إهانة ؛ أي اجهد جهدك، فقد أنظرناك ﴿ فَمَن تَبِعَكَ ﴾ أي أطاعك من ذرية آدم ﴿ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا ﴾ أي وافراً ؛ عن مجاهد وغيره. وقال الزمخشري وأبو حيان :﴿ اذْهَبْ ﴾ ليس من الذهاب الذي هو نقيض المجيء، وإنما معناه : امض لشأنك الذي اخترته. وعقبه بذكر ما جره سوء اختياره في قوله ﴿ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوفُورًا ﴾.
وهذا الوعيد الذي أوعد به إبليس ومن تبعه في هذه الآية الكريمة بينه أيضاً في مواضع أخر. كقوله :﴿ قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لأَمْلاّنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ﴾ [ ص : ٨٤-٨٥ ]، وقوله :﴿ فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ ﴾ [ الشعراء : ٩٤-٩٥ ] إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة ﴿ جَزَاء ﴾ مفعول مطلق منصوب بالمصدر قبله ؛ على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
بمثله أو فعل أو وصف نصب | وكونه أصلاً لهذين انتخب |
ومن يجعل المعروف من دون عرضه | يفره ومن لا يتق الشتم يشتم |
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة : هذا أمر قدري ؛ كقوله تعالى :﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً ﴾ [ مريم : ٨٣ ] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً، وتسوقهم إليها سوقاً انتهى.
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي أن صيغ الأمر في قوله ﴿ وَاسْتَفْزِزْ ﴾، وقوله ﴿ وَأَجْلِبْ ﴾، وقوله ﴿ وَشَارِكْهُمْ ﴾ إنما هي للتهديد، أي افعل ذلك فسترى عاقبته الوخيمة. كقوله ﴿ اعْمَلُواْ مَا شِئْتُمْ ﴾ [ فصلت : ٤٠ ] وبهذا جزم أبو حيان «في البحر »، وهو واضح كما ترى. وقوله ﴿ وَاسْتَفْزِزْ ﴾ أي استخف من استطعت أن تستفزه منهم ؛ فالمفعول محذوف لدلالة المقام عليه. والاستفزاز : الاستخفاف. ورجل فز : أي خفيف ؛ ومنه قيل لولد البقرة : فز ؛ لخفة حركته. ومنه قول زهير :
كما استغاث بسيئ فز غيطلة | خاف العيون ولم ينظر به الحشك |
وقرأ حفص عن عاصم «ورجلك » بكسر الجيم لغة في الرجل جمع راجل.
وقال الزمخشري : هذه القراءة على أن فعلاً بمعنى فاعل، نحو تعب وتاعب ومعناه وجمعك الرجل اه أي الماشيين على أرجلهم.
﴿ وَشَارِكْهُمْ في الأمْوَالِ وَالأوْلَادِ ﴾ [ ٨٤ ].
أما مشاركته لهم في الأموال فعلى أصناف :( منها ) ما حرموا على أنفسهم من أموالهم طاعة له ؛ كالبحائر والسوائب ونحو ذلك، وما يأمرهم به من إنفاق الأموال في معصية الله تعالى، وما يأمرهم به من اكتساب الأموال بالطرق المحرمة شرعاً كالربا والغصب وأنواع الخيانات. لأنهم إنما فعلوا ذلك طاعة له.
أما مشاركته لهم في الأولاد فعلى أصناف أيضاً :
منها قتلهم بعض أولادهم طاعة له.
ومنها أنهم يمجسون أولادهم ويهودونهم وينصرونهم طاعة له وموالاة.
ومنها تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد العزى ونحو ذلك، لأنهم بذلك سموا أولادهم عبيداً لغير الله طاعة له. ومن ذلك أولاد الزنى ؛ لأنهم إنما تسببوا في وجودهم بارتكاب الفاحشة طاعة له إلى غير ذلك.
فإذا عرفت هذا فاعلم أن الله قد بين في آيات من كتابه بعض ما تضمنه هذه الآية من مشاركة الشيطان لهم في الأموال والأولاد، كقوله :﴿ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ﴾ [ الأنعام : ١٤٠ ] فقتلهم أولادهم المذكور في هذه الآية طاعة للشيطان مشاركة منه لهم في أولادهم حيث قتلوهم في طاعته. وكذلك تحريم بعض ما رزقهم الله المذكور في الآية طاعة له مشاركة منه لهم في أموالهم أيضاً. وكقوله ﴿ وَجَعَلُواْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا ﴾ [ الأنعام : ١٣٦ ] الآية، وكقوله :﴿ وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَآءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٣٨ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ ﴾ [ يونس : ٥٩ ]، إلى غير ذلك من الآيات. ومن الآحاديث المبينة بعض مشاركته لهم فيما ذكر ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عياض بن حمار رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«يقول الله عز وجل إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم، وحرمت عليهم ما أحللت لهم »، وما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله فقال بسم الله، اللهم جنبنا الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقتنا، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره شيطان » انتهى.
فاجتيال الشياطين لهم عن دينهم، وتحريمها عليهم ما أحل الله لهم في الحديث الأول، وضرها لهم لو تركوا التسمية في الحديث الثاني كل ذلك من أنواع مشاركتهم فيهم. وقوله «فاجتالتهم » أصله افتعل من الجولان : أي استخفتهم الشياطين فجالوا معهم في الضلال ؛ يقال : جال واجتال : إذا ذهب وجاء، ومنه الجولان في الحرب : واجتال الشيء : إذا ذهب به وساقه. والعلم عند الله تعالى. والأمر في قوله ﴿ وَعِدْهُمْ ﴾ كالأمر في قوله ﴿ وَاسْتَفْزِزْ ﴾، وقوله ﴿ وَأَجْلِبْ ﴾. وقد قدمنا أنه للتهديد.
وقوله ﴿ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا ﴾ بين فيه أن مواعيد الشيطان كلها غرور وباطل ؛ كوعده لهم بأن الأصنام تشفع لهم وتقربهم عند الله زلفى، وأن الله لما جعل لهم المال والولد في الدنيا سيجعل لهم مثل ذلك في الآخرة، إلى غير ذلك من المواعيد الكاذبة.
وقد بين تعالى هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمْ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً ﴾ [ النساء : ١٢٠ ]، وقوله :﴿ وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغرَّتْكُمُ الأمَانِىُّ حَتَّى جَآءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ [ الحديد : ١٤ ]، وقوله :﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِىَ الاٌّمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [ إبراهيم : ٢٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن عباده الصالحين لا سلطان للشيطان عليهم ؛ فالظاهر أن في الآية الكريمة حذف الصفة كما قدرنا، ويدل على الصفة المحذوفة إضافته العباد إليه إضافة تشريف. وتدل لهذه الصفة المقدرة أيضاً آيات أخر ؛ كقوله :﴿ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٠ ]، وقوله :﴿ إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُون َإِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ﴾ [ النحل : ٩٩-١٠٠ ]، وقوله :﴿ إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ ﴾ [ الحجر : ٤٢ ]، إلى غير ذلك من الآيات كما تقدم إيضاحه.
بين جل وعلا في هذه الآيات الكريمة : أن الكفار إذا مسهم الضر في البحر ؛ أي اشتدت عليهم الريح فغشيتهم أمواج البحر كأنها الجبال، وظنوا أنهم لا خلاص لهم من ذلك ضل عنهم ؛ أي غاب عن أذهانهم وخواطرهم في ذلك الوقت كل ما كانوا يعبدون من دون الله جل وعلا ؛ فلا يدعون في ذلك الوقت إلا الله جل وعلا وحده ؛ لعلمهم أنه لا ينقذ من ذلك الكرب وغيره من الكروب إلا هو وحده جل وعلا، فأخلصوا العبادة والدعاء له وحده في ذلك الحين الذي أحاط بهم فيه هول البحر، فإذا نجاهم الله وفرج عنهم، ووصلوا البر رجعوا إلى ما كانوا عليه من الكفر. كما قال تعالى :﴿ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُورًا ﴾.
وهذا المعنى المذكور في هذه الآية الكريمة أوضحه الله جل وعلا في آيات كثيرة. كقوله :﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ في الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ في الأرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [ يونس : ٢٢-٢٣ ]، وقوله :﴿ قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ ﴾[ الأنعام : ٦٣-٦٤ ]، وقوله :﴿ فَإِذَا رَكِبُواْ في الْفُلْكِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ العنكبوت : ٦٥ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُاْ اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴾ [ لقمان : ٣٢ ]، وقوله :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الزمر : ٨ ]، إلى غير ذلك من الآيات كما قدمنا إيضاحه «في سورة الأنعام » وغيرها.
ثم إن الله جل وعلا بين في هذا الموضع الذي نحن بصدده سخافة عقول الكفار، وأنهم إذا وصلوا إلى البر ونجوا من هول البحر رجعوا إلى كفرهم آمنين عذاب الله ؛
إن الرياح إذا ما أعصفت قصفت | عيدان نجد ولا يعبأن بالرتم |
وهذا المعنى الذي بينه جل وعلا هنا من قدرته على إهلاكهم في غير البحر بخسف أو عذاب من السماء أوضحه في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ] الآية، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [ الأنعام : ٦٥ ]، وقوله :﴿ أَءَمِنتُمْ مَّن في السَّمَآءِ أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن في السَّمَآءِ أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ ﴾ [ الملك : ١٦-١٧ ]، وقوله «في قوم لوط » :﴿ إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ﴾ [ القمر : ٣٤ ]، وقوله :﴿ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ ﴾ [ الذاريات : ٣٣ ] إلى غير ذلك من الآيات. والحاصب في هذه الآية قد قدمنا أنه قيل : إنها السحابة أو الريح، وكلا القولين صحيح ؛ لأن كل ريح شديدة ترمي بالحصباء تسمى حاصباً وحصبة. وكل سحابة ترمي بالبرد تسمى حاصباً أيضاً. ومنه قول الفرزدق :
مستقبلين شمال الشام يضربنا | بحاصب كنديف القطن منثور |
جرت عليها أن خوت من أهلها | أذيالها كل عصوف حصبه |
تلوذ ثعالب الشرفين منها | كما لاذ الغريم من التبيع |
غدوا وغدت غزلانهم وكأنها | ضوامن غرم لدهن تبيع |
تنبيه
لا يخفى على الناظر في هذه الآية الكريمة : أن الله ذم الكفار وعاتبهم بأنهم في وقت الشدائد والأهوال خاصة يخلصون العبادة له وحده، ولا يصرفون شيئاً من حقه لمخلوق. وفي وقت الأمن والعافية يشركون به غيره في حقوقه الواجبة له وحده، التي هي عبادته وحده في جميع أنواع العبادة، ويعلم من ذلك أن بعض جهلة المتسمين باسم الإسلام أسوأ حالاً من عبدة الأوثان ؛ فإنهم إذا دهمتهم الشدائد، وغشيتهم الأهوال والكروب التجؤوا إلى غير الله ممن يعتقدون فيه الصلاح ؛ في الوقت الذي يخلص فيه الكفار العبادة لله. مع أن الله جل وعلا أوضح في غير موضع : أن إجابة المضطر، وإنجاءه من الكرب من حقوقه التي لا يشاركه فيها غيره.
ومن أوضح الأدلة في ذلك قوله تعالى «في سورة النمل » :﴿ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الأرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإلهٌ مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ﴾ [ النمل : ٩٥-٦٢ ] الآيات. فتراه جل وعلا في هذه الآية الكريمات جعل إجابة المضطر إذا دعا وكشف السوء عنه من حقه الخالص الذي لا يشاركه فيه أحد. كخلقه السموات والأرض، وإنزاله الماء من السماء، وإنباته به الشجر، وجعله الأرض قراراً، وجعله خلالها أنهاراً، وجعله لها رواسي، وجعله بين البحرين حاجزاً، إلى آخر ما ذكر في هذه الآيات من غرائب صنعه وعجائبه التي لا يشاركه فيها أحد. سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وهذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمات : كان سبب إسلام عكرمة بن أبي جهل ؛ فإنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم ذهب فاراً منه إلى بلاد الحبشة، فركب في البحر متوجهاً إلى الحبشة ؛ فجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يفنى عنكم إلا أن تدعوا الله وحده. فقال عكرمة في نفسه : والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره ! اللهم لك علي عهد، لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد صلى الله عليه وسلم فلأجدنه رؤوفاً رحيماً. فخرجوا من البحر، فخرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه اه.
والظاهر أن الضمير في قوله ﴿ بِهِ تَبِيعًا ﴾ راجع إلى الإهلاك بالإغراق المفهوم من قوله ﴿ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ﴾ أي لا تجدون تبيعاً يتبعنا بثأركم بسبب ذلك الإغراق.
وقال صاحب روح المعاني. وضمير «به » قيل للإرسال، وقيل للإغراق، وقيل لهما باعتبار ما وقع. والعلم عند الله تعالى.
قال بعض أهل العلم : من تكريمه لبين آدم خلقه لهم على أكمل الهيئات وأحسنها ؛ فإن الإنسان يمشي قائماً منتصباً على رجليه، ويأكل بيديه. وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه.
ومما يدل لهذا من القرآن قوله تعالى :﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ﴾ [ التين : ٤ ]، وقوله :﴿ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ ﴾ [ غافر : ٦٤ ] وفي الآية كلام غير هذا. والعلم عند الله تعالى.
قوله تعالى :﴿ وَحَمَلْنَاهُمْ في الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ﴾ [ ٧٠ ] الآية ؛
أي في البر على الأنعام، وفي البحر على السفن.
والآيات الموضحة لذلك كثيرة جداً. كقوله :﴿ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٢٢ ]، وقوله :﴿ وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الْفُلْكِ وَالأنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ﴾ [ الزخرف : ١٢ ] وقد قدمنا في مستوفى بإيضاح «في سورة النحل ».
قال بعض العلماء : المراد «بإمامهم » هنا كتاب أعمالهم.
ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ وَكُلَّ شيءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ ﴾ [ يس : ١٢ ]، وقوله :﴿ وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴾ [ الجاثية : ٢٨ ]. وقوله :﴿ وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ ﴾ [ الكهف : ٤٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِى عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُوراً ﴾ [ الإسراء : ١٣ ] واختار هذا القول ابن كثير ؛ لدلالة آية «يس » المذكورة عليه. وهذا القول رواية عن ابن عباس ذكرها ابن جرير وغيره، وعزاه ابن كثير لابن عباس وأبي العالية والضحاك والحسن. وعن قتادة ومجاهد : أن المراد «بإمامهم » نبيهم.
ويدل لهذا القول قوله تعالى :﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِىَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ﴾ [ يونس : ٤٧ ]، وقوله :﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً ﴾ [ النساء : ٤١ ]، وقوله ﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ في كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلآءِ ﴾ [ النحل : ٨٩ ] الآية، وقوله :﴿ وَأَشْرَقَتِ الأرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّيْنَ وَالشُّهَدَآءِ ﴾ [ الزمر : ٦٩ ] الآية.
قال بعض السلف : وفي هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث. لأن إمامهم النَّبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعض أهل العلم :﴿ بِإِمَامِهِمْ ﴾ أي بكتابهم الذي أنزل على نبيهم من التشريع ؛ وممن قال به : ابن زيد، واختاره ابن جرير.
وقال بعض أهل العلم :﴿ يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ﴾ أي ندعو كل قوم بمن يأتمون به. فأهل الإيمان أئمتهم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم. وأهل الكفر أئمتهم سادتهم وكبراؤهم من رؤساء الكفرة. كما قال تعالى :﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ ﴾ [ القصص : ٤١ ] الآية. وهذا الأخير أظهر الأقوال عندي. والعلم عند الله تعالى.
فقد رأيت أقوال العلماء في هذه الآية، وما يشهد لها من قرآن. وقوله بعد هذا :﴿ فَمَنْ أُوتِىَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ ﴾ من القرائن الدالة على ترجيح ما اختاره ابن كثير من أن الإمام في هذه الآية كتاب الأعمال.
وذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يقرؤونه ولا يظلمون فتيلاً.
وقد أوضح هذا في مواضع أخر، كقوله :﴿ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقْرَؤُاْ كِتَابيَهْ ﴾ إلى قوله ﴿ وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ ﴾ [ الحاقة : ١٩-٢٥ ] وقد قدمنا هذا مستوفى في أول هذه السورة الكريمة.
وقول من قال : إن المراد «بإمامهم » كمحمد بن كعب «أمهاتهم » أي يقال : يا فلان بن فلانة قول باطل بلا شك. وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عمر مرفوعاً :«يرفع يوم القيامة لكل غادر لواء فيقال هذه غدرة فلان بن فلان ».
المراد بالعمى في هذه الآية الكريمة : عمى القلب لا عمى العين. ويدل لهذا قوله تعالى :﴿ فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي في الصُّدُورِ ﴾ [ الحجر : ٤٦ ] لأن عمى العين مع إبصار القلب لا يضر، بخلاف العكس ؛ فإن أعمى العين يتذكر فتنفعه الذكرى ببصيرة قلبه، قال تعالى :﴿ عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَآءَهُ الاٌّعْمَى وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى ﴾ [ عبس : ١-٤ ].
إذا بصر القلب المروءة والتقى | فإن عمى العينين ليس يضير |
إن يأخذ الله من عيني نورهما | ففي لساني وقلبي منهما نور |
قلبي ذكي وعقلي غير ذي دخل | وفي فمي صارم كالسيف مأثور |
قال مقيده عفا الله عنه : الذي يتبادر إلى الذهن أن لفظة «أعمى » الثانية صيغة تفضيل ؛ أي هو أشد عمى في الآخرة.
ويدل عليه قوله بعده ﴿ وَأَضَلُّ سَبِيلاً ﴾ فإنها صيغة تفضيل بلا نزاع. والمقرر في علم العربية : أن صيغتي التعجب وصيغة التفضيل لا يأتيان من فعل الوصف منه على أفعل الذي أنثاه فعلاء ؛ كما أشار له في الخلاصة بقوله :
* وغير ذي وصف يضاهي أشهلا *
والظاهر أن ما وجد في كلام العرب مصوغاً من صيغة تفضيل أو تعجب غير مستوف للشروط أنه يحفظ ولا يقاس عليه. كما أشار له في الخلاصة بقوله :
وبالندور احكم لغير ما ذكر | ولا تقس على الذي منه أثر |
ما في المعالي لكم ظل ولا ثمر | وفي المخازي لكم أشباح أشياخ |
أما الملوك فأنت اليوم ألأمهم | لؤماً وأبيضهم سربال طباخ |
روي عن سعيد بن جبير أنها نزلت في المشركين من قريش، قالوا له صلى الله عليه وسلم : لا ندعك تستلم الحجر الأسود حتى تلم بآلهتنا وعن ابن عباس في رواية عطاء : أنها نزلت في وفد ثقيف، أتوا النَّبي فسألوه شططاً قالوا : متعنا بآلهتنا سنة حتى نأخذ ما يهدى لها، وحرم وادينا كما حرمت مكة، إلى غير ذلك من الأقوال في سبب نزولها. وعلى كل حال فالعبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب.
ومعنى الآية الكريمة : أن الكفار كادوا يفتنونه أي قاربوا ذلك. ومعنى يفتنونك : يزلونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره مما لم نوحه إليك.
قال بعض أهل العلم : قاربوا ذلك في ظنهم لا فيما في نفس الأمر. وقيل : معنى ذلك أنه خطر في قلبه صلى الله عليه وسلم أن يوافقهم في بعض ما أحبوا ليجرهم إلى الإسلام لشدة حرصه على إسلامهم.
وبين في مواضع آخر : أنهم طلبوا منه الإتيان بغير ما أوحي إليه، وأنه امتنع أشد الامتناع وقال لهم : إنه لا يمكنه أن يأتي بشيء من تلقاء نفسه. بل يتبع ما أوحي إليه ربه، وذلك في قوله :﴿ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا ائْتِ بِقُرْءَانٍ غَيْرِ هَذَآ أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَىَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّى عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴾. وقوله في هذه الآية ﴿ وَإِن كَادُواْ ﴾ هي المخففة من الثقيلة، وهي هنا مهملة. واللام هي الفارقة بينها وبين إن النافية كما قال في الخلاصة :
وخففت إن فقل العمل | وتلزم اللام إذا ما تهمل |
والفعل إن لم يك ناسخاً فلا | تلفيه غالباً بإن ذي موصلاً |
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة تثبيته لنبيه صلى الله عليه وسلم، وعصمته له من الركون إلى الكفار.
وأنه لو ركن إليهم لأذاقه ضعف الحياة وضعف الممات ؛ أي مثلي عذاب الحياة في الدنيا ومثلي عذاب الممات في الآخرة ؛ وبهذا جزم القرطبي في تفسيره. وقال بعضهم : المراد بضعف عذاب الممات : العذاب المضاعف في القبر والمراد بضعف الحياة : العذاب المضاعف في الآخرة بعد حياة البعث. وبهذا جزم الزمخشري وغيره. والآية تشمل الجميع، وهذا الذي ذكره هنا من شدة الجزاء لنبيه لو خالف بينه في غير هذا الموضع ؛ كقوله :﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقَاوِيلِ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [ الحاقة : ٤٤-٤٦ ] الآية.
وهذا الذي دلت عليه هذه الآية من أنه إذا كانت الدرجة أعلى كان الجزاء عند مخالفة أعظم بينه في موضع آخر ؛ كقوله :﴿ يا نِسَآءَ النَّبِىِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ ﴾ [ الأحزاب : ٣٠ ] الآية. ولقد أجاد من قال :
وكبائر الرجل الصغير صغائر | وصغائر الرجل الكبير كبائر |
هذه الآية الكريمة أوضحت غاية الإيضاح براءة نبينا صلى الله عليه وسلم من مقاربة الركون إلى الكفار، فضلاً عن نفس الركون. لأن ﴿ وَلَوْلاَ ﴾ حرف امتناع لوجود. فمقاربة الركون منعتها ﴿ وَلَوْلاَ ﴾ الامتناعية لوجود التثبيت من الله جل وعلا لأكرم خلقه صلى الله عليه وسلم. فصح يقيناً انتفاء مقاربة الركون فضلاً عن الركون نفسه. وهذه الآية تبين ما قبلها، وأنه لم يقارب الركون إليهم البتة ؛ لأن قوله ﴿ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا ﴾ أي قاربت تركن إليهم هو عين الممنوع ب ﴿ وَلَوْلاَ ﴾ الامتناعية كما ترى. ومعنى ﴿ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ﴾ : تميل إليهم.
﴿ أَقِمِ الصَّلَواةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ الآية.
قد بينا «في سورة النساء » : أن هذه الآية الكريمة من الآيات التي أشارت لأوقات الصلاة ؛ لأن قوله ﴿ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ ﴾ أي لزوالها على التحقيق، فيتناول وقت الظهر والعصر ؛ بدليل الغاية في قوله ﴿ إِلَى غَسَقِ الَّيْلِ ﴾ أي ظلامه، وذلك يشمل وقت المغرب والعشاء. وقوله ﴿ وَقُرْءَانَ الْفَجْرِ ﴾ أي صلاة الصبح، كما تقدم إيضاحه وأشرنا للآيات المشيرة لأوقات الصلوات ؛ كقوله :﴿ وَأَقِمِ الصَّلَواةَ طَرَفَي النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ الَّيْلِ ﴾ [ هود : ١١٤ ] الآية، وقوله :﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ﴾ [ الروم : ١٧ ] الآية. وأتممنا بيان ذلك من السنة في الكلام على قوله :﴿ إِنَّ الصَّلَواةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَّوْقُوتاً ﴾ [ النساء : ١٠٣ ] فراجعه هناك إن شئت. والعلم عند الله تعالى.
الحق في لغة العرب : الثابت الذي ليس بزائل ولا مضحمل. والباطل : هو الذاهب المضمحل. والمراد بالحق في هذه الآية : هو ما في هذا القرآن العظيم والسنة النبوية من دين الإسلام. والمراد بالباطل فيها : الشرك بالله، والمعاصي المخالفة لدين الإسلام.
وقد بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الإسلام جاء ثابتاً راسخاً، وأن الشرك بالله زهق ؛ أي ذهب واضمحل وزال. تقول العرب : زهقت نفسه : إذا خرجت وزالت من جسده.
ثم بين جل وعلا أن الباطل كان زهوقاً، أي مضمحلاً غير ثابت في كل وقت. وقد بين هذا المعنى في غير هذا الموضع. وذكر أن الحق بزيل الباطل ويذهبه ؛ كقوله :﴿ قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ [ سبأ : ٤٨-٤٩ ]، وقوله :﴿ بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ﴾ [ الأنبياء : ١٨ ] الآية.
وقال صاحب الدُّر المنثور في الكلام على هذه الآية الكريمة : أخرج ابن أبي شيبة، والبخاري ومسلم، والترمذي والنسائي، وابن جرير وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : دخل النَّبي صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ستون وثلاثمائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول ﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ [ الإسراء : ٨١ ] ﴿ قُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ ﴾ [ سبأ : ٤٩ ].
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو يعلى وابن المنذر عن جابر رضي الله عنه قال : دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنماً ؛ فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت لوجهها، وقال :﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾.
وأخرج الطبراني في الصغير، وابن مردويه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وعلى الكعبة ثلاثمائة وستون صنماً ؛ فشد لهم إبليس أقدامها بالرصاص ؛ فجاء ومعه قضيب فجعل يهوي إلى كل صنم منها فيخر لوجهه فيقول :﴿ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا ﴾ حتى مر عليها كلها.
وقال القرطبي في تفسير هذه الآية : وفي هذه الآية دليل على كسر نصب المشركين وجميع الأوثان إذا غلب عليهم.
ويدخل المعنى كسر آلة الباطل كله وما لا يصلح إلا لمعصية الله كالطنابير والعيدان والمزامير التي لا معنى لها إلا اللهو بها عن ذكر الله.
قال ابن المنذر : وفي معنى الأصنام الصور المتخذة من المدر والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه، ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص إذا غيرت عما هي عليه وصارت نقراً أو قطعاً فيجوز بيعها والشراء بها. قال المهلب : وما كسر من آلات الباطل وكان في حبسها بعد كسرها منفعة فصاحبها أولى بها مكسورة ؛ إلا أن يرى الإمام حرقها بالنار على معنى التشديد والعقوبة في المال. وقد تقدم حرق ابن عمر رضي الله عنه. وقد هم النَّبي صلى الله عليه وسلم بتحريق دور من تخلف عن صلاة الجماعة وهذا أصل في العقوبة في المال ؛ مع قوله صلى الله عليه وسلم في الناقة التي لعنتها صاحبتها «دعوها فإنها ملعونة » فأزال ملكها عنها تأديباً لصاحبتها، وعقوبة لها فيما دعت عليه بما دعت به. وقد أراق عمر بن الخطاب رضي الله عنه لبناً شيب بماء على صاحبه اه الغرض من كلام القرطبي رحمه الله تعالى. وقوله صلى الله عليه وسلم :«والله لينزلن عيسى بن مريم حكماً عدلاً فليكسرن الصليب، وليقتلن الخنزير » الحديث من قبيل ما ذكرنا دلالة الآية عليه والعلم عند الله تعالى.
قد قدمنا في أول «سورة البقرة » الآيات المبينة لهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة. كقوله :﴿ فَأَمَّا الَّذِينَ ءامَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ ﴾ [ التوبة : ١٢٤-١٢٥ ]، وقوله :﴿ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءَامَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ في ءَاذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى ﴾ [ فصلت : ٤٤ ] كما تقدم إيضاحه. وقوله في هذه الآية ﴿ مَا هُوَ شِفَآءٌ ﴾ يشمل كونه شفاء للقلب من أمراضه ؛ كالشك والنفاق وغير ذلك. وكونه شفاء للأجسام إذا رقى عليها به ؛ كما تدل له قصة الذي رقى الرجل اللديغ بالفاتحة، وهي صحيحة مشهورة. وقرأ أبو عمرو ﴿ وَنُنَزِّلُ ﴾ بإسكان النون وتخفيف الزاي. والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. والعلم عند الله تعالى.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه إذا أنعم على الإنسان بالصحة والعافية والرزق أعرض عن ذكر الله وطاعته، ونأى بجانبه : أي تباعد عن طاعة ربه ؛ فلم يمتثل أمره، ولم يجتنب نهيه.
وقال الزمخشري : أعرض عن ذكر الله كأنه مستغن عنه، مستبد بنفسه. ﴿ وَنَأَى بِجَانِبِهِ ﴾ تأكيد للإعراض ؛ لأن الإعراض عن الشيء أن يوليه عرض وجهه. والنأي بالجانب : أن يلوي عنه عطفه، ويوليه ظهره، وأراد الاستكبار، لأن ذلك من عادة المستكبرين. واليؤوس : شديد اليأس، أي القنوط من رحمة الله.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى في مواضع كثيرة من كتابه، كقوله «في سورة هود » ﴿ وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴾ [ هود : ٩-١٠ ]، وقوله في «آخر فصلت » :﴿ لاَّ يَسْأمُ الإنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ وَإِن مَّسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لي وَمَآ أَظُنُّ السَّاعَةَ قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إِلَى رَبِّى إِنَّ لي عِندَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ ﴾ [ فصلت : ٤٩-٥١ ]، وقوله :«في سورة الروم » ﴿ وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْاْ رَبَّهُمْ مُّنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَآ أَذَاقَهُمْ مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ ﴾ [ الروم : ٣٣ ]، وقوله فيها أيضاً :﴿ وَإِذَآ أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ ﴾ [ الروم : ٣٦ ]، وقوله «في سورة يونس » :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَآئِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ ﴾ [ يونس : ١٢ ] الآية، وقوله «في سورة الزمر » :﴿ وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِىَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِن قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ ﴾ [ الزمر : ٨ ] الآية، وقوله فيها أيضاً :﴿ فَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هي فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الزمر : ٤٩ ]. إلى غير ذلك من الآيات.
وقد استثنى الله من هذه الصفات عباده المؤمنين في قوله «في سورة هود » :﴿ إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ [ هود : ١١ ] كما تقدم إيضاحه. وقرأ ابن ذكوان «وناء » كجاء، وهو بمعنى نآى ؛ كقولهم : راء في رأى.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه ما أعطى خلقه من العلم إلا قليلاً بالنسبة إلا علمه جل وعلا ؛ لأن ما أعطيه الخلق من العلم بالنسبة إلى علم الخالق قليل جداً.
ومن الآيات التي فيها الإشارة إلى ذلك قوله تعالى :﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّى لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّى وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ﴾ [ الكهف : ١٠٩ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّمَا في الأرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ لقمان : ٢٨ ].
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فضله على نبيه صلى الله عليه وسلم كبير.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً ﴾ [ النساء : ١١٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً ﴾ [ الفتح : ١-٣ ] وقوله :﴿ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَك َالَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك َوَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ ﴾ [ الشرح : ١-٤ ]، إلى غير ذلك من الآيات.
وبين تعالى في موضع آخر : أن فضله كبير على جميع المؤمنين، وهو قوله :﴿ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِّنَ اللَّهِ فَضْلاً كِبِيراً ﴾ [ الأحزاب : ٤٧ ] وبين المراد بالفضل الكبير في قوله :﴿ وَالَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ في رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ﴾ [ الشورى : ٢٢ ].
بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق. فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم : إنهم لن يؤمنوا له أي لن يصدقوه حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعاً. وهو يفعول من نبع : أي ماء غزير ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرْضِ ﴾ [ الزمر : ٢١ ] ﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ﴾ أي بستان من نخيل وعنب ؛ فيفجر خلالها، أي وسطها أنهاراً من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفاً : أي قطعاً كما زعم. أي في قوله تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ] الآية.
بين الله جل وعلا في هذه الآيات الكريمة شدة عناد الكفار وتعنتهم، وكثرة اقتراحاتهم لأجل التعنت لا لطلب الحق. فذكر أنهم قالوا له صلى الله عليه وسلم : إنهم لن يؤمنوا له أي لن يصدقوه حتى يفجر لهم من الأرض ينبوعاً. وهو يفعول من نبع : أي ماء غزير ؛ ومنه قوله تعالى :﴿ فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ في الأرْضِ ﴾ [ الزمر : ٢١ ] ﴿ أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ ﴾ أي بستان من نخيل وعنب ؛ فيفجر خلالها، أي وسطها أنهاراً من الماء، أو يسقط السماء عليهم كسفاً : أي قطعاً كما زعم. أي في قوله تعالى :﴿ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السَّمَآءِ ﴾ [ سبأ : ٩ ] الآية.
وقال بعض العلماء : قبيلاً : أي كفيلاً ؛ من تقبله بكذا : إذا كفله به. والقبيل والكفيل والزعيم بمعنى واحد.
وقال الزمخشري قبيلاً بما تقول، شاهداً بصحته. وكون القبيل في هذه الآية بمعنى الكفيل مروي عن ابن عباس والضحاك. وقال مقاتل :﴿ ( ٩١ ) ﴾ شهيداً. وقال مجاهد : هو جمع قبيلة ؛ أي تأتي بأصناف الملائكة. وعلى هذا القول فهو حال من الملائكة.
أو يكون له بيت من زخرف : أي من ذهب : ومنه قوله «في الزخرف » :﴿ وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ ﴾ إلى قوله ﴿ وَزُخْرُفاً ﴾ [ الزخرف : ٣٥ ] أي ذهباً. أو يرقى في السماء : أي يصعد فيه، وإنهم لن يؤمنوا لرقيه : أي من أجل صعوده، حتى ينزل عليهم كتاباً يقرؤونه. وهذا التعنت والعناد العظيم الذي ذكره جل وعلا عن الكفار هنا بينه في مواضع أخر. وبين أنهم لو فعل الله ما اقترحوا ما آمنوا ؛ لأن من سبق عليه الشقاء لا يؤمن ؛ كقوله تعالى :﴿ وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً في قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴾ [ الأنعام : ٧ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ اللَّهُ ﴾ [ الأنعام : ١١١ ]، وقوله :﴿ وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ﴾[ الحجر : ١٤-١٥ ]، وقوله :﴿ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ﴾ [ الأنعام : ١٠٩ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ ءايَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الألِيمَ ﴾ [ يونس : ٩٦-٩٧ ]، والآيات بمثل هذا كثيرة.
وقوله في هذه الآية ﴿ كِتَابًا نَّقْرَءُهُ ﴾ أي كتاباً من الله إلى كل رجل منا.
ويوضح هذا قوله تعالى «في المدثر » :﴿ بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرئ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً ﴾ [ المدثر : ٢٥ ] كما يشير إليه قوله تعالى :﴿ وَإِذَا جَآءَتْهُمْ ءَايَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَآ أُوتِىَ رُسُلُ اللَّهِ ﴾ [ الأنعام : ١٢٤ ] الآية. وقوله في هذه الآية الكريمة :﴿ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً ﴾ أي تنزيهاً لربي جل وعلا عن كل ما لا يليق به، ويدخل فيه تنزيهه عن العجز عن فعل ما اقترحتم. فهو قادر على كل شيء، لا يعجزه شيء، وأنا بشر أتبع ما يوحيه إلى ربي.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَا ﴾ [ الكهف : ١١٠ ]، وقوله :﴿ قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَىَّ أَنَّمَآ إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُواْ إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ ﴾ [ فصلت : ٦ ] الآية. وكقوله تعالى عن جميع الرسل :﴿ قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ ﴾ [ إبراهيم : ١١ ] إلى غير ذلك من الآيات. وقرأ ﴿ تَفْجُرَ ﴾ الأولى عاصم وحمزة والكسائي بفتح التاء وإسكان الفاء وضم الجيم. والباقون بضم التاء وفتح الفاء وتشديد الجيم مكسورة. واتفق الجميع على هذا في الثانية. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم ﴿ كِسَفًا ﴾ بفتح السين والباقون بإسكانها. وقرأ أبو عمرو ﴿ تُنَزِّلَ ﴾ بإسكان النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وشد الزاي.
هذا المانع المذكور هنا عادي. لأنه جرت عادة جميع الأمم باستغرابهم بعث الله رسلاً من البشر. كقوله :﴿ قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا ﴾ [ إبراهيم : ١٠ ] الآية، وقوله :﴿ أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا ﴾ [ المؤمنون : ٤٧ ] الآية، وقوله :﴿ أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [ القمر : ٢٤ ]، وقوله :﴿ ذَالِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُواْ أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا ﴾ [ التغابن : ٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ ﴾ [ المؤمنون : ٣٤ ]إلى غير ذلك من الآيات.
والدليل على أن المانع في هذه الآية عادي : أنه تعالى صرح بمانع آخر غير هذا «في سورة الكهف » وهو قوله :﴿ وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَآءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً ﴾ [ الكهف : ٥٥ ] فهذا المانع المذكور «في الكهف » مانع حقيقي ؛ لأن من أراد الله به سنة الأولين : من الإهلاك، أو أن يأتيه العذاب قبلاً فإرادته به ذلك مانعة من خلاف المراد ؛ لاستحالة أن يقع خلاف مراده جل وعلا. بخلاف المانع «في آية بني إسرائيل » هذه، فهو مانع عادي يصح تخلفه. وقد أوضحنا هذه المسألة في كتابنا «دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ».
بين جل وعلا في هذه الآية : أن الرسول يلزم أن يكون من جنس المرسل إليهم. فلو كان مرسلاً رسولاً إلى الملائكة لنزل عليهم ملكاً مثلهم. أي وإذا أرسل إلى البشر أرسل لهم بشراً مثلهم.
وقد أوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِىَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ﴾ [ الأنعام : ٨-٩ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ [ الأنبياء : ٧ ]، وقوله :﴿ وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ في الأسْوَاقِ ﴾ [ الفرقان : ٢٠ ] كما تقدم إيضاحه.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن من خلق السموات والأرض مع عظمها قادر على بعث الإنسان بلا شك. لأن من خلق الأعظم الأكبر فهو على خلق الأصغر قادر بلا شك.
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر. كقوله :﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ ﴾ [ غافر : ٥٧ ] الآية، أي ومن قدر على خلق الأكبر فهو قادر على خلق الأصغر. وقوله :﴿ أَوَلَيْسَ الَذِي خَلَقَ السَّمَاواتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى ﴾ [ يس : ٨١ ]، وقوله :﴿ أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَمْ يَعْىَ بِخَلْقِهِنَّ ﴾ [ الأحقاف : ٣٣ ]، وقوله :﴿ أَءَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّمَآءُ بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا وَالأرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأنْعَامِكُمْ ﴾ [ النازعات : ٢٧-٣٣ ].
بين تعالى في هذه الآية : أن بني آدم لو كانوا يملكون خزائن رحمته أي خزائن الأرزاق والنعم لبخلوا بالرزق على غيرهم، ولأمسكوا عن الإعطاء. خوفاً من الإنفاق لشدة بخلهم.
وبين أن الإنسان قتور : أي بخيل مضيق. من قولهم : قتر على عياله، أي ضيق عليهم.
وبين هذا المعنى في مواضع أخر.
كقوله تعالى :﴿ أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً ﴾ [ النساء : ٥٣ ]، وقوله :﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ﴾ [ المعارج : ١٩-٢ ] الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والمقرر في علم العربية أن «لو » لا تدخل إلى على الأفعال. فيقدر لها في الآية فعل محذوف، والضمير المرفوع بعد «لو » أصله فاعل الفعل المحذوف ؛ فلما حذف الفعل فصل الضمير. والأصل قل لو تملكون، فحذف الفعل فبقيت الواو فجعلت ضميراً منفصلاً : هو أنتم. هكذا قاله غير واحد، والعلم عند الله تعالى.
قال بعض أهل العلم : هذه الآيات التسع، هي : العصا، واليد، والسنون. والبحر، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، آيات مفصلات.
وقد بين جل وعلا هذه الآيات في مواضع أخر ؛ كقوله :﴿ فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هي ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هي بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ ﴾ [ الأعراف : ١٠٧-١٠٨ ]، وقوله :﴿ وَلَقَدْ أَخَذْنَآ ءالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ ﴾ [ الأعراف : ١٣٠ ] الآية، وقوله :﴿ فَأَوْحَيْنَآ إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ﴾ وقوله :﴿ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ ءَايَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ ﴾ [ الأعراف : ١٣٣ ] إلى غير ذلك من الآيات المبينة لما ذكرنا. وجعل بعضهم الجبل بدل «السنين » وعليه فقد بين ذلك قوله تعالى :﴿ وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ﴾ [ الأعراف : ١٧١ ] ونحوها من الآيات.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن فرعون عالم بأن الآيات المذكورة ما أنزلها إلا رب السموات والأرض بصائر : أي حججاً واضحة. وذلك يدل على أن قول فرعون ﴿ فَمَن رَّبُّكُمَا يا مُوسَى ﴾ [ طه : ٤٩ ]، وقوله :﴿ قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ ﴾ [ الشعراء : ٢٣ ] كل ذلك منه تجاهل عارف.
وقد أوضح جل وعلا هذا المعنى مبيناً سبب جحوده لما علمه «في سورة النمل » بقوله :﴿ وَأَدْخِلْ يَدَكَ في جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ في تِسْعِ ءَايَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ ءَايَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُواْ هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ وَجَحَدُواْ بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً ﴾ [ النمل : ١٢-١٤ ] الآية.
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه أنزل هذا القرآن بالحق : أي متلبساً به متضمناً له ؛ فكل ما فيه حق. فأخباره صدق، وأحكامه عدل. كما قال تعالى :﴿ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً ﴾ وكيف لا ! وقد أنزله جل وعلا بعلمه. كما قال تعالى :﴿ لَّكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ ﴾ [ النساء : ١٦٦ ] الآية، وقوله :﴿ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ ﴾ يدل على أنه لم يقع فيه تغيير ولا تبديل في طريق إنزاله.
لأن الرسول المؤتمن على إنزاله قوي لا يغلب عليه حتى يغير فيه، أمين لا يغير ولا يبدل. كما أشار إلى هذا بقوله :﴿ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِين ُعَلَى قَلْبِكَ ﴾ [ الشعراء : ١٩٣-١٩٤ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذي قُوَّةٍ عِندَ ذي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ ﴾ [ التكوير : ١٩-٢١ ] الآية، وقوله : في هذه الآية :﴿ لَقَوْلُ رَسُولٍ ﴾ أي لتبليغه عن ربه. بدلالة لفظ الرسول لأنه يدل على أنه مرسل به.
قرأ هذا الحرف عامة القرآء «فَرَقْنَاهُ » بالتخفيف : أي بيناه وأوضحناه، وفصلناه وفرقنا فيه بين الحق والباطل. وقرأ بعض الصحابة ﴿ فَرَقْنَاهُ ﴾ بالتشديد : أي أنزلناه مفرقاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة. ومن إطلاق فرق بمعنى بين وفصل قوله تعالى :﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [ الدخان : ٤ ] الآية.
وقد بين جل وعلا أنه بين هذا القرآن لنبيه ليقرأه على الناس على مكث، أي مهل وتؤدة وتثبت، وذلك يدل على أن القرآن لا ينبغي أن يقرأ إلا كذلك. وقد أمر تعالى بما يدل على ذلك في قوله :﴿ وَرَتِّلِ الْقُرْءَانَ تَرْتِيلاً ﴾ [ المزمل : ٤ ] ويدل لذلك أيضاً قوله :﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْءَانُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً ﴾ [ الفرقان : ٣٢ ] وقوله تعالى :﴿ وَقُرْءانًا ﴾ منصوب بفعل محذوف يفسره ما بعده. على حد قوله في الخلاصة :
فالسابق انصبه بفعل أضمرا | حتما موافق لما قد أظهرا |
أمر الله جل وعلا عباده في هذه الآية الكريمة : أن يدعوه بما شاؤوا من أسمائه، إن شاؤوا ! قالوا : يا الله، وإن شاؤوا قالوا : يا رحمن، إلى غير ذلك من أسمائه جل وعلا.
وبين هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله :﴿ وَللَّهِ الأَسْمَآءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ في أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ﴾ [ الأعراف : ١٨٠ ]، وقوله :﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَانُ الرَّحِيم ُهُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأسْمَآءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا في السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [ الحشر : ٢-٢٤ ].
وقد بين جل وعلا في غير هذا الموضع : أنهم تجاهلوا اسم الرحمن في قوله :﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُواْ لِلرَّحْمَنِ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ ﴾ [ الفرقان : ٦٠ ] الآية. وبين لهم بعض أفعال الرحمن جل وعلا في قوله :﴿ الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ البَيَانَ ﴾ [ الرحمن : ١-٤ ] ولذا قال بعض العلماء : إن قوله ﴿ الرَّحْمَانُ عَلَّمَ الْقُرْءَانَ ﴾ جواب لقولهم :﴿ قَالُواْ وَمَا الرَّحْمَانُ ﴾ الآية. وسيأتي لهذا إن شاء الله زيادة إيضاح «في سورة الفرقان ».
أمر الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة الناس على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ؛ لأن أمر القدوة أمر لاتباعه كما قدمنا أن يقولوا :«الحمد لله » أي كل ثناء جميل لائق بكماله وجلاله، ثابت له، مبيناً أنه منزه عن الأولاد والشركاء والعزة بالأولياء، سبحانه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً.
فبين تنزهه عن الولد والصاحبة في مواضع كثيرة. كقوله :﴿ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ﴾ [ الإخلاص : ١ ] إلى آخر السورة، وقوله :﴿ وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً ﴾[ الجن : ٣ ]، وقوله :﴿ بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيءٍ عَلِيمٌ ﴾ [ الأنعام : ١٠١ ]، وقوله :﴿ وَقَالُواْ اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّا ًتَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّا ًأَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدا ًوَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَداً ﴾ [ مريم : ٨٨-٩٢ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة.
وبين في مواضع أخر : أنه لا شريك له في ملكه، أي ولا في عبادته. كقوله :﴿ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ ﴾ [ سبأ : ٢٢ ]، وقوله :﴿ لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ ﴾ [ غافر : ١٦ ]، وقوله :﴿ تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ ﴾ [ الملك : ١ ]، وقوله :﴿ قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِى الْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ﴾ [ آل عمران : ٢٦ ] الآية، والآيات بمثل ذلك كثيرة. ومعنى قوله في هذه الآية ﴿ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِىٌّ مَّنَ الذُّلِّ ﴾ يعني أنه لا يذل فيحتاج إلى ولي يعزبه ؛ لأنه هو العزيز القهار، الذي كل شيء تحت قهره وقدرته، كما بينه في مواضع كثيرة كقوله :﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ﴾ [ يوسف : ٢١ ] الآية، وقوله :﴿ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [ البقرة : ٢٠ ] والعزيز : الغالب. وقوله :﴿ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ ﴾ [ الأنعام : ١٨ ] والآيات بمثل ذلك كثيرة. وقوله ﴿ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا ﴾ أي عظمه تعظيماً شديداً. ويظهر تعظيم الله في شدة المحافظة على امتثال أمره واجتناب نهيه، والمسارعة إلى كل ما يرضيه، كقوله تعالى :﴿ وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ ﴾ [ البقرة : ١٨٥ ] ونحوها من الآيات، والعلم عند الله تعالى.
وروى ابن جرير في تفسير هذه الآية الكريمة عن قتادة أنه قال :
ذكر لنا أن النَّبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم الصغير والكبير من أهله هذه الآية ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا ﴾ الآية. وقال ابن كثير : قلت وقد جاء في حديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمى هذه الآية آية العز. وفي بعض الآثار : أنها ما قرئت في بيت في ليلة فيصيبه سرق أو آفة. والله أعلم. ثم ذكر حديثاً عن أبي يعلى من حديث أبي هريرة مقتضاه : أن قراءة هذه الآية تذهب السقم والضر، ثم قال : إسناده ضعيف، وفي متنه نكارة. والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
تم بحمد الله تفسير سورة بني إسرائيل
وهذا آخر الجزء الثالث من هذا الكتاب المبارك ويليه الجزء الرابع إن شاء الله تعالى
وتم بحمد الله إكمال المجلد الثالث من أضواء البيان ولا تنسونا من خالص الدعاء.