سورة الإسراء مكية، آياتها إحدى عشرة ومائة آية، وقال بعضهم : إن فيها ثماني آيات أو اثنتي عشرة آية مدنية.
ابتدأت السورة بتسبيح الله تعالى، ثم ذكرت الإسراء، ثم رسالة موسى وما كان من بني إسرائيل. ثم أشارت إلى منزلة القرآن الكريم في الهداية، وإلى الآيات الكونية في الليل والنهار، وما يكون للناس يوم القيامة من جزاء على ما يقدمون من أعمال في الدنيا.
بعد هذا بين الله أسباب فساد الأمم، وحال الأفراد في مساعيهم، ونتائج أعمالهم في الآخرة. وجاءت الآيات من بعد ذلك بإكرام الوالدين، وحال الناس بالنسبة لأموالهم، وجاءت بأوامر عشرة، فيها بناء المجتمع الفاضل.
ثم رد سبحانه مفتريات المشركين بالنسبة للملائكة، وبيّن تصريف الحج.
ثم أشار سبحانه إلى ما يستحق من تحميد، وإلى جحود المشركين، وشرح أصل الخليقة الإنسانية والشيطانية، وهدد المشركين بآياته.
كذلك بيّن الكرامة الإنسانية، وذكّر بعذاب يوم القيامة، ثم ذكر محاولة المشركين صرف النبي عليه الصلاة والسلام عن دعوته، وتثبيت الله تعالى له.
وقد أوصى الله نبيه الكريم بعدة وصايا وأدعية، ثم أشار إلى منزلة القرآن الكريم، وتكلم عن الروح وأسرارها، ثم جاء على ذكر إعجاز القرآن، وعجز الجن والإنس عن أن يأتوا بمثله، وموقف الناس منه، وحال المؤمنين الصادقين في إيمانهم.
والعنصر البارز في كيان السورة، ومحور موضوعاتها الأصيل، هو شخص الرسول صلى الله عليه وسلم، وموقف قومه في مكة، والقرآن الذي جاء به، وطبيعة هذا القرآن، وما يهدي إليه. وبهذه المناسبة تم الاستطراد إلى طبيعة الرسالة والرسل، وإلى امتياز الرسالة المحمدية بطابع غير الخوارق الحسية، وما يتبعها من هلاك المكذبين بها، وإلى تقرير التبعية الفردية في الهدى والضلال، والتبعية الجماعية في السلوك العملي في محيط المجتمع... كل ذلك بعد أن يعذر الله سبحانه الناس، فيرسل إليهم الرسل بالتبشير والتحذير والبيان والتفصيل ﴿ وكل شيء فصّلناه تفصيلا ﴾.
وتنتهي السورة بالحديث عن القرآن، والحق الأصيل فيه، أنزله الله مفرقا ليقرأه الرسول على القوم على مهل وروية، بمناسبته ومقتضياته، فيتلقاه أهل العلم بالخضوع أو التأثر إلى حد البكاء والسجود. ويختم السورة بحمد الله الذي لم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، كما بدأها بتسبيحه وتنزيهه.
بسم الله الرحمان الرحيم.
ﰡ
أسرى : سار ليلا.
المسجد الحرام : مسجد مكة.
المسجد الأقصى : الحرم في بيت المقدس، وهو أقصى، أي بعيد بالنظر إلى الحجاز.
تنزيها لله الذي أسرى بعبده محمد في جزء من الليل، ومن المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى ببيت المقدس، ذلك المسجد الذي جعلنا البركة فيه وحوله لسكّانه في معايشهم وقواتهم، لنُري عبدنا محمدا من أدلتنا ما فيه البرهان الكافي والدليل الساطع على وحدانيتنا وعظم قدرنا. إن الله الذي أسرى بعبده هو السميع لما يقول هؤلاء المشركون من أهل مكة، البصير بما يفعلون.
حادث الإسراء :
كان حادث الإسراء في ليلة ٢٧ من رجب قبل الهجرة بسنة واحدة، وقد حصل الإسراء من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بالجسد والروح فعلا، ولو كان الإسراء بالروح فقط لما كان في ذلك شيء من العجب، ولما قامت ضجة قريش، وبادروا إلى تكذيبه.
فالرواية تقول إن الرسول الكريم كان نائما في بيت ابنة عمه أم هانئ، فأُسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانئ، ثم قام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه، فقال لها : مالك ؟ قالت : أخشى أن يكذّبك قومك إن أخبرتهم : قال : وإن كذّبوني. فخرج فجلس إليه أبو جهل، فأخبره رسول الله بحديث الإسراء، فقال أبو جهل : يا معشر بني كعب بن لؤي، هلُم. فحدّثهم. فاستنكر القوم ذلك، فمن مصفق وواضع يده على رأسه تعجبا وإنكارا. وارتد ناس من المسلمين. وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله عنه قال : أوَ قال ذلك ؟ قالوا : نعم. قال : فأنا أشهد لئن قال ذلك لقد صدق. قالوا : فتصدّقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال : نعم، أنا أصدقه بأبعدَ من ذلك، أصدقه بخبر السماء. فسُمّيَ الصدّيق. وكان منهم من سافر إلى بيت المقدس، فطلبوا إليه وصف بيت المقدس فوصفه لهم وصفا دقيقا، فقالوا أخبرْنا عن عِيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال : تَقْدُم يوم كذا، فكان كما قال. وفي الليلة ذاتها كان العروج إلى السماء من بيت المقدس.
بيت المقدس بناه العرب الكنعانيون، واليبوسيون منهم، على جبل صهيون نحو سنة ٢٥٠٠ قبل الميلاد. وكلمة «صهيون » كنعانية أخذها اليهود وجعلوها شعاراً لهم. والرحلة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى رحلة تربط بين عقائد التوحيد الكبرى من لدن إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام إلى محمد خاتم النبيين صلى الله عليه وسلم. كما تربط بين الأماكن المقدسة لديانات التوحيد، وتعيد الحق إلى أهله. والمقصود من هذه الرحلة العجيبة إعلان وراثة الرسول الأخير لمقدسات الرسل قبله، واشتمال رسالته على هذه المقدسات وارتباط رسالته بها جميعا، فهي رحلة ترمز إلى أبعد من حدود الزمان والمكان، وتشمل آمادا وآفاقا أوسع من ذلك.
كما أنها تتضمن معاني أكبر من المعاني القريبة التي تنكشف عنها النظرة الأولى. وهي آية من آيات الله، تفتح القلب على آفاق عجيبة في هذا الوجود، وتنكشف عن الطاقات المخبوءة في كيان هذا المخلوق البشري، والاستعدادات الدينية التي يتهيأ بها لاستقبال فيض القدرة في أشخاص المختارين من هذا الجنس الذي كرمه الله وفضله على كثير من خلقه.
وفي هذه الآية الكريمة يدلنا الله تعالى إلى أن بيت المقدس والشام أجمع هي بلادنا وملك لنا فسارِعوا إلى أخذها. ولم تمض عشرون سنة حتى كانت في حوزة المسلمين وبقيت وستبقى إلى الأبد في أيديهم مهما كانت الغمّة القائمة.
ومهما جمعت إسرائيل من قوة وأسلحة ودعمها الأمريكان والانكليز وغيرهم فإنها سوف تزول، ولسنا نشك في أن دائرة السوء ستدور عليهم جميعا، ويذهب هذا الباطل، وينمحي ذلك الزيف والكذب وتبقى القدس عربية مسلمة، وتبقى الصخرة المشرفة ومسجد عمر، ﴿ لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون ﴾ [ الروم : ٤ ].
وكيلا : كفيلا تكلون إليه أموركم.
وقد أعطينا موسى التوراة، وجعلنا فيها هدايةً لبني إسرائيل، وقلنا لهم
لا تتخذوا غير الله إلهاً تفوّضون إليه أموركم.
قراءات :
قرأ أبو عمرو وحده :«ألا يتخذوا » بالياء. والباقون بالتاء.
لتعلن : لتطغون.
بعد أن ذكر تعالى أنه أكرم رسولَه محمداً عليه الصلاة والسلام بالإسراء من مكة إلى بيت المقدس، ذكر هنا ما أكرم به موسى قبله من إعطائه التوراة، وجعلها هدى لبني إسرائيل، لكنهم أعرضوا عنها ولم يعملوا بهدْيها، بل أفسدوا في الأرض.
﴿ وَقَضَيْنَا إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً ﴾.
فافسدوا وعلوا علوًّا كبيرا.
كانت هذه الحملة الأولى من الملك البابلي نبوخذ نصر سنة ٥٩٧ قبل الميلاد على مملكة يهوذا، فاستولى على القدس وسبى اليهود ومعهم ملكهم «يهوياكين » وأهل بيته، وأخذ جميع ما عندهم من أموال وذهب وكنوز.
ثم عاد نبوخذ نصر في حملة ثانية سنة ٥٨٦ قبل الميلاد يعين بعد أحد عشر عاما واحتل القدس وخربها وأحرق الهيكل وسبى نحو ٥٠ ألف من اليهود.
وبقي اليهود في بابل إلى أن جاء كورش الأخميني سنة ٥٣٩ قبل الميلاد فسمح لهم بالعودة إلى فلسطين، فعاد قسم وبقي عدد كبير في بابل ولم يعودوا لأنهم استوطنوا وأصبح لهم أملاك وتجارة، وحاولوا بناء الهيكل، فاحتج السكان من غير اليهود والأقوام المجاورين من الحثيين والحوريين والعمونيين والأدوميين، ولم يتم بناء الهيكل، وبقي إلى أن احتل دارا الأول ملك الفرس البلاد، فسمح لهم ببناء الهيكل سنة ٥١٥ قبل الميلاد.
أكثر نفيرا : أكثر عدداً.
فإذا اعتبرنا هذه الفترة كلها هي الأولى، تكون هي المقصودة بقوله تعالى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾
وتكون هذه الفترة فترة استقرار. ثم جاء عهد اليونان حيث لاقوا أسوأ الحالات في عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع وذلك سنة ١٧٥- ١٦٤ قبل الميلاد، إذ دمر الهيكل ونهب خزائنه وأجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية اليونانية. وبقي الصراع بين اليهود يشتد حتى اندلعت ثورة المكابيين ودام عصرهم نحو قرن وربع، إلى أن جاء الرومان، وعين الملك هيرودس الأدومي فسمح لليهود بإعادة بناء الهيكل سنة ٣٩ قبل الميلاد. وفي سنة ٦٦ م قامت ثورة عارمة شاملة من اليهود على الحكم الروماني، بعد سلسلة من المعارك سيطر تيطس الروماني على الموقف وتمكن من القضاء على اليهود سنة ٧٠. وأوقع فهيم مذبحة مريعة وخرب المدينة، وأحرق الهيكل ودمره نهائيا فأُزيل من الوجود بحيث لم يعد يهتدي الناس إلى موضعه، وسيق الأحياء عبيدا.
ويقول المسعودي إن عدد القتلى من اليهود والمسيحيين بلغ ثلاثة ملايين، فيكون هذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتْبِيراً ﴾.
هذا محصل تاريخ اليهود في فلسطين والله أعلم.
فإذا تأملنا في الآيات الكريمة نجد النصَّ الصريحَ على أن بني إسرائيل إذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وأفسدوا في الأرض وعلَوا علّوا كبيرا، وإذا لم يحكموا أفسدوا وسيطروا على المال، وهذا ما نراه اليوم من طغيانهم وبغيهم وتسلطهم في فلسطين. وهم في بقية أنحاء العالم أيضا مفسِدون مسيطرون، يسيِّرون الحكام والزعماء على أهوائهم وحسب ما يريدون، وينشرون الفساد في كل أرجاء العالم، وسيظلون على هذا الحال ولا يمكن أن يغيروا من طباعهم وتعاليم دينهم المحرَّف.
قراءات :
قرأ حمزة وأبو بكر وابن عامر :«ليسوء » بالإفراد، وقرأ الكسائي :«لنسوء » بالنون.
نص مكرر لاشتراكه مع الآية ٦:رددنا لكم الكرة : أعطيناكم الغلبة.
أكثر نفيرا : أكثر عدداً.
فإذا اعتبرنا هذه الفترة كلها هي الأولى، تكون هي المقصودة بقوله تعالى :﴿ ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا ﴾
وتكون هذه الفترة فترة استقرار. ثم جاء عهد اليونان حيث لاقوا أسوأ الحالات في عهد الملك السلوقي انطيوخس الرابع وذلك سنة ١٧٥- ١٦٤ قبل الميلاد، إذ دمر الهيكل ونهب خزائنه وأجبر اليهود على نبذ اليهودية واعتناق الوثنية اليونانية. وبقي الصراع بين اليهود يشتد حتى اندلعت ثورة المكابيين ودام عصرهم نحو قرن وربع، إلى أن جاء الرومان، وعين الملك هيرودس الأدومي فسمح لليهود بإعادة بناء الهيكل سنة ٣٩ قبل الميلاد. وفي سنة ٦٦ م قامت ثورة عارمة شاملة من اليهود على الحكم الروماني، بعد سلسلة من المعارك سيطر تيطس الروماني على الموقف وتمكن من القضاء على اليهود سنة ٧٠. وأوقع فهيم مذبحة مريعة وخرب المدينة، وأحرق الهيكل ودمره نهائيا فأُزيل من الوجود بحيث لم يعد يهتدي الناس إلى موضعه، وسيق الأحياء عبيدا.
ويقول المسعودي إن عدد القتلى من اليهود والمسيحيين بلغ ثلاثة ملايين، فيكون هذا معنى قوله تعالى :
﴿ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوا تَتْبِيراً ﴾.
هذا محصل تاريخ اليهود في فلسطين والله أعلم.
فإذا تأملنا في الآيات الكريمة نجد النصَّ الصريحَ على أن بني إسرائيل إذا حكموا وسيطروا طغوا وبغوا وأفسدوا في الأرض وعلَوا علّوا كبيرا، وإذا لم يحكموا أفسدوا وسيطروا على المال، وهذا ما نراه اليوم من طغيانهم وبغيهم وتسلطهم في فلسطين. وهم في بقية أنحاء العالم أيضا مفسِدون مسيطرون، يسيِّرون الحكام والزعماء على أهوائهم وحسب ما يريدون، وينشرون الفساد في كل أرجاء العالم، وسيظلون على هذا الحال ولا يمكن أن يغيروا من طباعهم وتعاليم دينهم المحرَّف.
فالمفهوم أن اليهود عادوا وسيعودون إلى الإفساد ما دام لهم سيطرة، وفيهم بقية، فلهم جهنم تحصرهم فلا يفلت منهم أحد، وتتسع لهم فلا يند عنها أحد.
فالمفسرون على اختلاف طبقاتهم اعتبروا المرَّتين مضى زمانُهما، الأولى في عهد نبوخذ نصر والأخيرة في عهد تيطس الروماني حيث زال الهيكل وزال حكمهم.
وفي عصرنا هذا وبعد وجود كيان اليهود الجديد، كتب بعض المفكرين يقول : إن الفترة الثانية هي هذه بوجود دولة إسرائيل ( ودار نقاشٌ طويل في الصحف، والمجالس، وشهدتُ بعض هذا النقاش في المغرب لما كنتُ هناك ) وإن الله سيبعث عليهم من يدمرهم.
والواقع أن وجود إسرائيل تقوّى وتمركز بتفككنا نحن العرب والمسلمين، وبعدنا عن ديننا. ونحن الذين جعلناهم أقوياء بخلافاتنا، ومحاربة بعضنا بعضا. وواقعهم غير صحيح، ودولتهم تعتمد على شيئين أمريكا تمدها بالمال والسلاح، وضعفنا وانشقاقنا وخلافاتنا، فمتى وحّدنا كلمتنا وجمعنا صفوفنا وعزمنا على استرداد مقدساتنا فإن إسرائيل تزول ولا يبقى لها وجود، والله تعالى :﴿ إِن تَنصُرُوا الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ [ محمد : ٨ ].
في عنقه : ملازم له كالقلادة.
كتابا يلقاه منشورا : صحيفة فيها جميع أعماله.
الوزر : الإثم والذنب.
تتحدث هذه الآيات الثلاث عن بعض المشاهد يوم القيامة، فكل إنسان مسؤول عما يقول ويفعل، فجميع ما نلفظه من كلام، حسنا كان أو قبيحا، حمدا أو سخطا، كل ذلك يُحفظ في سجل كامل :﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ ق : ١٨ ] وهذا السجل سوف يعرض أمام محكمة الآخرة، ليتم حساب الإنسان، فيخرج له كتابه ويلقاه منشورا
لا يغادر كبيرة ولا صغيرة. وكذلك أعمالنا مسجلة مثل الأقوال، وهكذا شأن ما يقترفه الإنسان، وشأن الأحداث التي يعيشها، فإن شريطاً كاملا لتلك الأحداث سوف يوضع بين يد كل فرد يوم القيامة حتى يقول الناس :﴿ يا ويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا ﴾ [ الكهف : ٥٠ ].
أمرنا مترفيها : بالطاعة ففسقوا.
فدمرناها : أهلكناها.
الحياة لها قوانين لا تختلف، وسنن لا تتبدل كما بين الله لنا ذلك، والله
لا يأمر بالفسق والفحشاء، ولكن إذا كثر الفساد في مجتمع ما، وطغى كبراؤه بالانغماس في اللذات واتباع الشهوات، ولم يوجد من يضع حدا لهذه الفوضى، ويضرب على أيديهم، نزل بلاء الله بهم وهلكت القرية ودمرت بمن فيها.
ويوضح هذا قراءةُ الحسن البصري : أمّرنا مترفيها، بتشديد الميم. وبذلك تكون الصورة واضحة تمام الوضوح، والناس دائما تبع للمترفين من السادة والرؤساء.
قراءات :
قرأ يعقوب : أمرنا بمد الهمزة. وقرأ حسن البصري :«أمرنا » بالتشديد وهي ليست من القراءات السبع المعتمدة.
يصلاها : يدخلها ويقاسي حرها.
مدحورا : مطرودا.
ثم قسم الله عباده قسمين : محبٍ للدنيا لا يشبع منها، ومؤمنٍ مخلص محب للآخرة :
من كان يطلب لذات الدنيا ومتاعها ويعمل لها ولا يؤمن بالآخرة عجلنا له في الدنيا ما نشاء من الغنى والسعة في العيش، وله في الآخرة جهنم يصلاها خالدا محتقراً مطرودا من رحمة ربك.
ثم بين الله تعالى أن عطاءه لا يخطر على بالِ أحد،
فرزقُ الله وعطاؤه للناس أجمعين، فكل من يعمل ويسعى يحصل على عطاء ربنا في هذه الدنيا، وما كان عطاء ربك ممنوعا من أحد، مؤمنا كان أو كافرا، ما داموا يعملون وينشطون في هذه الحياة.
لا تُشرك بالله أحداً، فتبقى ملوماً لا ناصر لك، ويكون الخذلان مكتوبا عليك.
أف : كلمة معناها التضجر.
لا تنهرهما : لا تزجرهما بغلظة.
وقد أمر الله تعالى بعبادته بإخلاص وأكد أن لا نبعد غيره، ثم بعد ذلك أمرنا بالبر والطاعة بالوالدين، لأنهما عماد الأسرة، وفضلهما على الإنسان لا يحد، وإن أكبر نعمة تصل إلى الإنسان هي نعمة الخالق، ثم نعمة الوالدين.
وإذا كبرا في السن أو كان أحدهما عندك في مرحلة الشيخوخة وحال الضعف في آخر العمر، فلا تتضجر منهما، ولا تتأفف، ولا تزجرهما، وقل لهما قولا جميلا ليِّنا فيه إحسان إليهما وتكريم لهما.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وخلف :«إما يبلغان » وقرأ ابن كثير ويعقوب :«أف » بفتح الفاء من غير تنوين. وقرأ حفص وأهل المدينة «أف » بالكسر والتنوين كما هو في المصحف، والباقون «أفِّ » بدون تنوين.
وألن لهما جانبك وتواضع لهما مع الاحترام الزائد، وادع لهما وتوجه إلى الله أن يرحمهما برحمته الباقية، كفاء رحمتهما لك في صغرك وجميل شفقتهما عليك. ومهما أديت لهما من خدمات فلن تستطيع أن تكافئهما.
وقد وردت أحاديث كثيرة في بر الوالدين. منها عن عبد الله بن مسعود قال :( سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي العمل أحب إلى الله ورسوله ؟ قال : الصلاة على وقتها، قلت : ثم أي ؟ قال : بر الوالدين، قلت : ثم أي ؟ قال : الجهاد في سبيل الله ).
وروى البزار عن بريدة عن أبيه : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يطوف حاملاً أمه، فقال : هل أديتُ حقها ؟ قال : لا، ولا بزفرة واحدة.
ربكم أيها الناس، أعلم منكم بما في ضمائركم، فإن أنتم أصلحتم نياتِكم وأطعتم ربكم، فإنه يتوب عليكم، إن هفَوتُم وأتيتم بما يخالف أوامره ثم تبتم، لأنه دائم المغفرة للتوابين.
في هذه الآية الكريمة وصايا بالأقرباء والمساكين وبالغرباء الذين انقطعوا عن السفر بسبب نفاد المال منهم، ثم تعاليم خلقية قيمة بأن ننفق ولا نبذر
إن التبذير من الأمور المكروهة وهي سبل الشيطان.
يعني إذا سألك أحد الأقرباء أو المساكين أو ابن السبيل شيئا من المال ولم تجد ما تعطيه، إلا الدعاء له، فقل لهم قولا سهلا حسنا، وعِدْه عدة حسنة، والكلمة الطيبة صدقة، وفي الحديث :( إنكم لا تسَعون الناس بأموالكم، فسعوهم بأخلاقكم ).
ولا تبسطها كل البسط : لا تنفق بدون عقل، لا تبذر.
محسورا : منقطعا.
ثم يأمرنا بالتوسط في الأمور بأن لا نبخل بأموالنا كأننا مقيدون بالأغلال، ولا نسرف بالعطاء فنقعد فقراء محرومين، فالاعتدال والتوازن أساس كل شيء في الإسلام.
خطئا : إثما.
ثم ينص على عادة قبيحة كانت عند العرب في الجاهلية وهي قتل الأولاد خشية الفقر، فينص على تحريم قتل الأولاد خوفا من الفقر، يعني أن الرجل يكون عنده المال ويكثر عنده الأولاد فيخاف من الفقر فيقتلهم. وهذا ذنب كبير، والله تعالى قد تكفل بالرزق للجميع.
وفي سورة الأنعام يقول :﴿ وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾.
وهذه لها معنى غير الآية التي في سورة الإسراء، فهنا يقول تعالى لا تقتلوا أولادكم لأنكم فقراء لا مال عندكم نحن نرزقكم وإياهم، ففي آية الإسراء قدم رزق الأبناء على رزق الآباء، ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم ﴾، فلا تخافوا على أموالكم. وفي سورة الأنعام قدم رزق الآباء على رزق الأبناء ﴿ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ﴾ فهنا قتل الأولاد خوفا من وقوع الفقر بسببهم، فقدَّم رزق الأولاد، وفي الأنعام لأن الفقر حاصل وموجود بسبب فقر الآباء فقدم رزق الآباء، فلا يظن من لا معرفة له بأن الآيتين فيهما تكرار.
قراءات :
قرأ ابن كثير :«كان خِطَاءً كبيرا » بكسر الخاء وفتح الطاء والمد. وقرأ ابن عامر :«خطأ » بفتح الخاء والطاء. والباقون :«خطئا » بكسر الخاء وسكون الطاء.
ثم يؤكد على موضوع كان متفشيا في الجاهلية وهو الزنا، ولذلك سماه فاحشة وساء سبيلا. وقد أكد على تحريم هذه الفاحشة عدة مرات في القرآن الكريم، ذلك لما فيها من مفاسد واختلاط الأنساب، والتعدي على حرمة الغير.
ثم نص على صيانة النفس، وأنه لا يجوز بحال من الأحوال قتل الإنسان بدون جناية جناها وبغير حق، وقد تقدم أيضا في سورة المائدة وغيرها النص على حرمة قتل النفس إلا بالحق...
ثم بين هنا القصاص فقال :
فمن قُتل مظلوما بغير حق، فقد جعلنا لمن يلي أمره من أقربائه الحقَّ بالقصاص، ولا يجوز لأقربائه أن يسرفوا في القتل بأن يقتلوا أحدا غير القاتل كما يفعل كثير من الناس، يأخذ الثأر من أي واحد من أقرباء القاتل إن هذا حرام لا يجوز في شرع الإسلام. والله سبحانه يقول : إنه كان منصورا، فالله ناصره بأن أوجب له القصاص من القاتل. وقد خير الإسلام أولياء القتيل بين أخذ ديته والعفو عنه أو قتله، وفي الحديث الشريف :( من قتل قتيلا فأهله بين خيرتين : إن أحبوا قتلوا، وإن أحبوا أخذوا الدية ).
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي :«فلا تسرف في القتل » بالتاء. والباقون :«فلا يسرف » بالياء.
﴿ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً ﴾ إن كل ما أمر الله به ونهى عنه عهد الوفاء به واجب، وقد تكرر الأمر بالوفاء بالعهد في عدد من الآيات.
ثم حض على إيفاء الكيل والوزن، وأن نكون أمناء في المكيال والميزان وجاء ذلك في عدد من الآيات. فالأمانة والاستقامة والعدل من قواعد الإسلام ﴿ ... ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ﴾ أجمل عاقبةً وأحسن مآلا في الآخرة، لما يترتب على ذلك من حفظ الحقوق، وعدم الغش والتحلي بالأمانة.
والرسول الكريم يقول :( لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه، ليس به إلا مخافة الله، إلا أبدله الله به في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير من ذلك ).
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وحفص :«القسطاس » بكسر القاف كما هو في المصحف، والباقون :«القسطاس » بضم القاف، وهما لغتان. وقرأ أبو بكر عن عاصم :«بالقصطاس » بالصاد.
ثم ينص على أمر هام لا يزال إلى الآن موجودا في مجتمعنا، وهو الفضول، والتدخل في أمر الغير، والكلام على الناس، والغيبة، ونقل الكلام بدون تثبت، فيقول :﴿ وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ﴾ ولا تتبع أيها المرء ما لا علم لك به، فلا تكن فضوليا تتدخل في شئون غيرك، ولا تنقل خبرا ما لم تتأكد منه وتتثبت من صحته من قول يقال، أو رواية تروى، ومن حكم شرعي أو قضية اعتقادية، ولا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك، ففي الحديث الشريف :
( إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث ) وفي سنن أبي داود :( بئس مطية الرجُلِ زعموا ) إن الله يسأل الإنسان عما فعلت جوارحه، وستسأل الجوارح نفسها عما اجترمت ﴿ يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [ الشعراء : ٨٩-٩٠ ].
وإنها لقواعد أخلاقية عظيمة، تؤمن سلامة المجتمع، وتجعل الناس يعيشون بأمن وسلام. وهذا هو الإسلام، وهذا هو القرآن الكريم ﴿ إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ﴾.
لن تخرق الأرض : لن تؤثر فيها شيئا.
لن تبلغ الجبال طولا : لن تطاول الجبال.
ثم ينهى عن خلة سيِّئُه، وصفة بغيضة يختم بها هذه الوصايا والأوامر وهي التكبر، فهو صفة ممقوتة، والخيلاء الكاذبة من الأدلة على نقص العقل، ولماذا يزهو الإنسان وعلى من يتكبر ؛ إنه من طين وسيعود إلى التراب، والله تعالى يبين له بأنه ضئيل ضعيف إزاء ما في هذا الكون من مخلوقات أعظم وأكبر، فلو تواضع لرفعه الله كما جاء في الحديث الشريف ﴿ من تواضع لله رفعه ﴾ فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير، ومن استكبر وضَعه الله، فهو في نفسه كبير وعند الناس حقير.
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو ونافع :«كان سيئةً » والباقون :«كان سيئهُ » مضافا إلى الهاء.
إن كل ما قدمنا إليك أيها الإنسان، هو من الحكمة التي تشتمل على التعقل والاتزان وحب المعرفة.
ثم يختمها بالتحذير من الشرك، والحفاظ على عقيدة التوحيد، وهذه بعض الحكمة التي يهدي إليها القرآن الكريم الذي أوحاه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام.
لقد أنكر الله على القائلين أن الملائكة بنات الله وكان العرب في الجاهلية يفضلون الذكر على الأنثى، ولا يزال هذا في كثير من المجتمعات الجاهلية. ولذلك قال : أفضلكم ربكم على نفسه فخصّكم بالبنين، واتخذ لنفسه من الملائكة بنات بزعمكم ! ! والعجيب من أمر هؤلاء : أنهم جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، ولذلك قال ﴿ إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ﴾ إنكم في قولكم هذا تفترون على الله بهتانا عظيما.
ليذكروا : ليتدبروا.
نفورا : بعدا.
لقد بينا في هذا القرآن أحسن بيان وأوضحه من الأمثال والمواعظ والأحكام ليتذكروا ويتعظوا، ولكنهم لتحجُّر قلوبهم لا يزيدهم ذلك التبيين إلا نفورا وبعدا عن الحق.
قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين لو كان مع الله آلهة أخرى كما يقولون، لحاولوا الوصول إلى عرش الرحمن ونازعوه الملك، ولكن هذا غير صحيح، ﴿ لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا ﴾ [ الأنبياء : ٢٢ ].
قراءات :
قرأ ابن كثير وحفص :«عما يقولون » بالياء. وقرأ أهل الكوفة إلا أبا بكر :«عما تقولون » بالتاء.
إن جميع من في هذا الكون من المخلوقات تسبح بحمده وتنزهه وتقدسه، والأكوان شاهدة بتنزهه تعالى عن مشاركته للمخلوقات في صفاتها المحدثة.
ولكن لا تفهمون تسبيح هذه المخلوقات، ولا تدركون ما يقولون لأنكم محجوبون عن ذلك، والله تعالى حليم غفور لمن تاب وأصلح.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر ونافع وأبو بكر :«يسبح » بالياء.
وإذا قرأت أيها الرسول القرآن على هؤلاء المشركين جعلنا بينك وبينهم حجابا يمنع قلوبهم أن تؤمن بهذا الكلام الواضح مع أنهم كانوا يتأثرون بالقرآن بفطرتهم، ولكنهم بكفرهم وعنادهم بعيدون عنه، فجعل الله بينهم وبين الرسول حجابا خفيا لا يظهر للعيون، فلا يهتدون.
وفي آذانهم وقرا : صمما.
نفورا : بعدا.
ثم بين السبب في عدم فهمهم لمدارك القرآن، فقد جعل الله في قلوبهم
ما يشغلهم عن سمع القرآن، كان عليها أغطية من الكفر والعناد كما قال تعالى :﴿ وَقَالُوا قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ ﴾ [ فصلت : ٦ ] السجدة.
﴿ وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ وَلَّوْا على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾.
ينفرون من التوحيد وهم مشركون ويحبون أن تذكر آلهتهم مع الله سبحانه وتعالى، ولقد كانوا يتسمعون سرا إلى القرآن ويدركون معانيه، ولكن كبرياءهم يدفعهم عن التسليم والإذعان.
يقول أبو جهل : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرفَ : أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأَعطوا فأعطينا، حتى إذا تساوينا وكنا كفرسي رهان، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك هذه ؟ والله لا نؤمن به أبدا ولا نصدقه. فلم تقصر أفهامهم عن القرآن ولكنه العناد والكبرياء.
نحن أعلم بالسبب الذي يدعوهم للاستماع إليك، وهو الاستهزاء بك وبالقرآن، ونحن أعلم أيضا إذ هم يتناجون، إذ يقول الظالمون إن تتبعون إلا رجلاً مسحورا قد ذهب عقله.
في هذه الآية حكاية عن هؤلاء المعاندين المنكرين للحياة الآخرة، وقالوا أإذا كنا عظاما وحطاما هل نبعث في الآخرة خلقا جديدا ! !
ذرأكم : أوجدكم.
فسينغضون إليك رؤوسهم : يحركون رؤوسهم تعجبا وسخرية.
أو خلقا أكبر مما تنكره قلوبكم لبُعثتم، فسيقولون : من يعيدنا ؟ قل : يعيدكم الذي خلقكم أول مرة. فسيحركون إليك رؤوسهم تعجبا، ويقولون استهزاء : متى هذا البعث الذي يعدنا به ؟ قل لهم : عسى أن يكون قريبا، يوم يبعثكم من قبوركم، بقدرته،
إن الحياة الآخرة ذات هدف عظيم، هو المجازاة على أعمال الدنيا، خيرا كانت أو شرا، فان للإنسان ثلاثة أبعاد، يعرف من خلالها، هي : نيته، وقوله، وعمله. وهذه الثلاثة تسجَّل بأكملها، فكل حرف يخرج عن لساننا، وكل عمل يصدر من عضو من أعضائنا يسجل في سجل ويمكن عرضه في أي وقت من الأوقات بكل تفاصيله.
إن الاكتشافات الجديدة قربت هذه لأمور، فان «الكمبيوتر » العقل الإلكتروني، يخزن ملايين المعلومات، فيكف بسجل الله القدير ؟...
قل أيها الرسول وعلِّم الناس أن يقولوا الكلمة الطيبة وينطقوا دائما بالحسنى، كما قال تعالى :﴿ ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة ﴾ [ النحل : ١٢٦ ] «والكلمة الطيبة صدقة » والكلمة الطيبة تأسو جراح القلوب.
إن الشيطان يدخل بينهم فيهيج فيهم المراء والشر، وربما أفضى ذلك إلى عناد الخصوم وازدياد فسادهم. فإن الشيطان عدو كبير لبني الإنسان فاحذروه.
ربكم أعلم بأحوالكم إن يشأ يهِدكم للإيمان فيرحمكم، وإن يشأ يعذبكم، وما جعلنا أمرهم موكولا إليك يا محمد فتجبرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك بشيرا ونذيرا
إن ربك أعلم بأحوال من في السموات والأرض جميعا، فيختار منهم لنبوته من يشاء، والأنبياء ليسوا سواء، فقد فضل الله بعضهم على بعض بالمعجزات وكثرة التابعين، وفضل داود بالنبوة والكتاب الذي أنزل عليه لا بالملك، لأن داود كان ملكا نبيا، فالفضل الذي أوتيه بالنبوة.
محذورا : يخاف منه.
إن هؤلاء المعبودين من دون الله، يتقربون إلى الله، ويحرص كل منهم أن يكون أقرب إلى الله، يطمعون في رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب الله مخيف يجب أن يبتعد عنه الإنسان بالطاعة والتقوى.
فظلموا بها : فكفروا بها.
كان كفار قريش يقولون : يا محمد، تزعم أنه كان قبلك أنبياء منهم من سُخرت له الريح، ومنهم من كان يحيي الموتى، فإنْ سرك أن نؤمن بك ونصدقك فادع ربك أن يجعل لنا الصفا ذهبا. فقال : ما منعنا من إرسال الآيات التي سألوها إلا تكذيب الأولين بمثلها، فإن أرسلناها، وكذبوا بها، أرسلنا عليهم العذاب واستأصلناهم.
وقد كنا أرسلنا الناقة إلى قوم ثمود فنحروها، فكفروا، فأنزلنا عليهم العذاب فأبدناهم.
فالآيات التي يرسلها الله ما هي إلا لتخويف الظالمين ليعتبروا بها.
واذكر أيها النبي إذ أوحينا إليك أن ربك هو القادر على عباده، فهم في قبضته، فبلّغ رسالتك ولا تخف من أحد فهو يعصمك منهم، فالله ناصرك ومؤيدك.
في صحيح البخاري والترمذي عن ابن عباس قال :( وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ) قال : هي رؤيا عين أُريها النبي صلى الله عليه وسلم ليلة أُسِرى به إلى بيت المقدس. ( والشجرة الملعونة في القرآن ) هي شجرة الزقوم ).
فقد افتتن أناس من المسلمين ليلة الإسراء فارتدوا، وقامت ضجة كبرى في مكة كما مر في أول هذه السورة، وكان أبو جهل يقول : إن محمدا توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنها تنبت شجرة، وتعلمون أن النار تحرق الشجر ! ! وهؤلاء لا يعلمون أَنَّ الحياة الأخرى تختلف عن حياتنا كل الاختلاف ولكنهم ضلوا فلم يؤمنوا وفُتنوا بالإسراء، وفتنوا بالشجرة.
ونخوف هؤلاء الضالين، فما يزيدهم هذا التخويف إلا تماديا في الطغيان والضلال. والشجرة الملعونة ولا ذنب لها، والمعنى ملعون آكلها، وهذا التعبير كثير في كلام العرب.
وخلاصة هذه الآيات : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجود تعظيم وتفضيل فسجدوا إلا إبليس، تكبرّ أن يسجد، لأن آدم من طين وإبليس من نار.
لأحتنكن : لأقودنهم كما أقود الدواب.
موفورا. مكملا، تاما.
ثم طلب من الله أن يمهله إلى يوم القيامة وقال إن هذا الذي كرَّمته علي، لأنتقمُ من ذريته، واجعلهم يفسدون ويفسقون.
وأَجلب عليهم : صِح عليهم، وأفرغ جهدك في جميع أنواع الإغراء.
بخيلك ورجلك : بفرسانك ومشاتك من جنودك.
وهيج من شئت منهم بصياحك واجمع عليهم أعوانك من راكب وأرجل، وشاركهم في الأموال والأولاد، بحلمهم على كسبها من الطريق المحرم، وعدْهم الوعود الخلابة، وما وعود الشيطان إلا كذبا وزورا وغرورا.
قراءات :
قرأ حفص وحده :«ورجلك » بكسر الجيم، والباقون بتسكينها.
ربكم الذي يجري لكم السفن في البحر لتطلبوا الربح بالتجارة والحصول على ما ليس عندكم من محصول الأمم وصناعتها، إنه دائم الرحمة بكم.
ضل : غاب.
وإذا خفتم الغرق وأنتم في البحر ذهب عن ذاكرتكم كل ما تعبدون من دون الله، والتجأتم إليه وحده، فلما أنجاكم إلى البر أعرضتم وعدتم إلى ما كنتم عليه، إن شأن الإنسان الكفر وجحد النعمة. وقد مر نظير هذا في سورة يونس الآية ٢٢ وما بعدها.
حاصبا : ريحا فيها حصباء وحجارة.
أفأمنتم وقد نجوتم إلى البر أن يخسفه بكم فتغور بكم الأرض، أو يرسل عليكم ريحا تقذفكم بالحصباء ثم لا تجدون من يحميكم منه ! ؟
قراءات :
قرأ ابن كثير وأبو عمرو :( إن نخسف بكم، أو نرسل عليكم، أم آمنتم أن نعيدكم، فنرسل عليكم ) بالنون في هذه جميعا، والباقون بالياء.
التبيع : المطالب بالثأر.
أم أمنتم أن يعيدكم في البحر مرة أخرى، فيرسل عليكم ريحا لا تمر على شيء إلا قصفته، فيغرقكم بسبب كفركم وجحودكم نعمة الله حين أنجاكم من قبل، ثم لا تجدون من يطالبنا بما فعلنا بكم !.
الفتيل : أصل الفتيل : الخيط الضئيل الذي على نواة التمر، والمقصود به هنا الشيء الذي
لا قيمة له.
اذكر أيها النبي لقومك يوم ندعو كل قوم باسم زعيمهم فيقال يا أصحاب موسى. يا أهل القرآن، ليتسلموا كتب أعمالهم، فمن أُعطيَ كتابه بيمينه وهم السعداء فأولئك يقرأون كتابهم مسرورين، ولا ينقص من أجرهم شيء.
ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب والبصيرة فسيبقى على حالته ويكون في الآخرة أكثر عمى وأبعد مدى في الضلال، وأبعد عن سبيل الخير.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر : اعْمِي بالإمالة
وهذا نص واضح أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يجبهم إلى إغرائهم.
وهذا وعيد شديد للرسول، فلو قاربتَ الركون إليهم، لجمعنا عليك عذاب الدنيا وضاعفناه، وعذاب الآخرة وضاعفناه، ثم لا تجد من ينصرك ويمنع عنك العذاب
خلافك : بعدك.
ولقد قارب أهل مكة أن يزعجوك ويخرجوك من مكة بالقوة، ولو أنهم فعلوا ذلك وأخرجوك
لا يبقون بعدك إلا زمانا قليلا.
قراءات :
قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي ويعقوب وحفص :«خلافك » والباقون :«خلفك » والمعنى واحد.
وهكذا مضت سنتنا مع الرسل الذين أرسلناهم قبلك... أهلكنا أقوامهم الذين أخرجوا رسلهم. إن سنتنا في هذه الحياة لا تتبدل. وقد اُخرج الرسول عليه الصلاة والسلام من مكة، ولم يَمْضِ على إخراجه سنة ونصف حتى كانت وقعة بدر وقُتل فيها صناديد قريش وأهلكهم الله.
وبعض المفسرين يقول إن هذه الآية مدنية، وإن اليهود هم الذين ضايقوه وهمَّ بترك المدينة، ولكن هذا بعيد.
غسق الليل : شدة الظلمة.
قرآن الفجر : صلاة الصبح.
الصلاة لب العبادة، فحافظ عليها وأدّها على أحسن وجه، من زوال الشمس من وسط السماء إلى ظلمة الليل، وهذا الوقت يشمل الصلوات الأربع : الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وصلاة الصبح فإن الملائكة تشهدها. وقد بينت السنة من أقوال الرسول الكريم وأفعاله تفاصيل هذه الأوقات وكيفية أدائها وإقامتها.
نافلة لك : صلاة زائدة عن الفريضة.
مقاما محمودا : مقاما عاليا يحمده الناس.
وصلّ من الليل صلاة زائدة عن الفريضة بقدر ما تستطيع. وبهذه الصلاة، وبهذه الصلة الدائمة بالله. يقيمك ربك يوم القيامة في مقام سام يحمدك فيه الخلائق. وفي هذا تعليم لنا أن نتعبد ونقوم بالليل، فإذا كان الرسول الكريم مأموراً بذلك فنحن أولى وأحوج.
وقل جاء الحق بالإسلام، وذهب الباطل واضمحل، إن الباطل مضمحل زائل دائما.
روى البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعودٍ في يده ويقول :( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد ).
يئوسا : شديد اليأس.
وإذا أنعمنا على الإنسان بالصحة والسعة بطر واستكبر وبعُدَ كأنه مستغن عنا، وإذا إصابته مصيبة كان كثير اليأس والقنوط من رحمة الله.
قراءات :
قرأ حمزة والكسائي «ونأى بجانبه » بالإمالة. وقرأ ابن عامر :«وناء بجانبه » من الفعل ناء ينوء.
أهدى سبيلا : أقوم طريقا.
ولما ذكر حال الضالين والمهتدين ختم ببيان أن كلاً يسير على مذهبه فقال :
قل أيها النبي : كل منا يعمل ويسير على طريقته، وعلى ما طُبع عليه من الخير والشر، وربكم أعلم من كل واحد بمن هو سائر على الطريق المستقيم.
ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما.
ولكن أبقيناه منا لأن فضل ربك في هذه المعجزة كان عليك عظيما.
قل لهم أيها النبي متحديا أن يأتوا بمثله، لئن اجتمعت الإنس والجن وتعاونوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، لا يستطيعون، ولو كانوا متعاونين.
ولقد نوعنا مناهج البيان بوجوه مختلفة للناس في هذا القرآن، فآبى أكثر الناس إلا الجحود والإنكار، والإعراض عن الحق.
وقالوا في تَعنُّتِهم لن نؤمن لك يا محمد، حتى تخرج لنا ماء من عين تفجّرنا لا ينضب ماؤها.
قراءات :
قرأ الكوفيون ويعقوب :«تفجر » بفتح التاء وضم الجيم. والباقون :«تفجر » بضم التاء وفتح الفاء وكسر الجيم المشددة.
قبيلا : مقابلين، تأتي بهم عيانا.
أو تسقط السماء فوق رؤوسنا كما زعمتَ أن الله توعّدنا بذلك، أو تأتي بالله والملائكة نقابلهم ونراهم مواجهة ليشهدوا على صحة ما تقول لنا.
قراءات :
قرأ أهل المدينة وابن عامر وعاصم :«كسفا » بكسر الكاف وفتح السين. والباقون «كسفا » بإسكان السين.
ترقى : تصعد.
أو يكون لك بيت مزخرف من ذهب، أو تصعد في السماء. ولن نصدقك في هذا الحال إلا إذا جئتنا بكتاب من الله يقرر فيه صدقك نقرؤه. قل لهم أيها الرسول : سبحان ربي أن يتحكم فيه أحد، أو يشاركه في قدرته، فهل أنا إلا بشر رسول من الذين يرسلهم بما يلائم أحوالهم ويصلح شؤونهم.
قراءات :
قرأ ابن كثير وابن عامر :«قال سبحان ربي » والباقون :«قل سبحان ربي ».
لا تخفى علي منهم خافية.
السعير : اللهيب.
ومن يتولاه الله بالهداية فهو المهتدي، ومن يقضي عليهم بالضلال فلن تجد لهم من ينقذهم، ونحشرهم يوم القيامة فيُسحبون على وجوههم، ولا ينطقون ولا يرون ولا يسمعون، منزلهم جهنمُ كلما سكن لهيبها زدناها توقدا واشتعالا. وقد تقدم مثل هذه الآية في سورة الأعراف ١٧٨.
ثم بين حرصهم على الدنيا، وتمسكهم بها وشحهم بأنهم لو ملكوا خزائن الدنيا لبخلوا فقال :
قل أيها الرسول لهؤلاء المعاندين : لو كنتم تملكون خزائن رزق الله وسائر نعمه لبخلتم مخافة نفادها بالإنفاق، والإنسان مطبوع على شدة الحرص والبخل والله هو الغني الرزاق.
ولولا أوتي هؤلاء من الآيات ما اقترحوا، لما آمنوا بها، ولقد آتينا موسى تسع آيات هي : العصا، واليد البيضاء. والطوفان. والجراد والضفادع والقمل والدم. والجدب ونقص الثمار وفلق البحر، وانبجاس الماء من الحجر. ونتوق الجبل كأنه مظلة. وخطابه لربه، واسأل بني إسرائيل لما جاءهم، فإنهم مع كل ذلك كفروا وقال فرعون لموسى : إني أظنك مسحورا.
مثبورا : هالكا.
قال موسى : لقد علمتَ يا فرعون أن الذي أنزل الآيات هو الله خالق هذا الكون وربه. وهي دلائل واضحة تبصرك بصدقي، ولكنك تكابر وتعاند، واني لأظنك يا فرعون هالكا.
قراءات :
قرأ الكسائي :«لقد علمت » بضم التاء والباقون : بفتحها.
فتمادى فرعون بطغيانه، فأراد أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر فأغرقناه مع جنوده جميعا. ونجينا موسى وقومه.
وقلنا من بعد إغراق فرعون لبني إسرائيل، اسكنوا حيث شئتم بمصر أو الشام، وكان المفروض أن يشكروا الله أن خلصهم من ذلك البلاء الكبير، ولكنهم لم يلبثوا أن عبدوا العجل من دون الله، وبدلوا نعمة الله كفرا، فإذا جاء وقت الحياة الأخرى جئنا بكم من قبوركم جميعا ثم نحكم بينكم بالعدل.
على مكث : على مهل وبتأَنٍ.
وقد فرقنا هذا القرآن ونزلناهُ منجَّما على مدة طويلة، لتقرأه على الناس على مهل، ليفهموه. نزلناه شيئا بعد شيء تنزيلا مؤكدا لا شبهة فيه.
ثم هدد الله تعالى أولئك الجاحدين على لسان نبيه بقوله :
﴿ قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا ﴾.
قل لأولئك الضالين اختاروا لأنفسكم ما تحبون من الإيمان بالقرآن وعدمه، إن الذين أوتوا العمل وقرأوا الكتب السابقة، يخرون لله سجدا، شكرا له على إنجاز وعده بإرسالك، حين يتلى عليهم القرآن،
ويقولون في سجودهم :
﴿ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ﴾ إن وعده كان محققا.
فالله سبحانه وتعالى غني عن كل معين أن نصير أو شريك أو ولد، وهو مالك هذا الملك، وهو أكبر من كل شيء، فكبره تكبيرا.