ﰡ
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١ الى ٣]
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣)الإعراب:
سُبْحانَ منصوب بفعل مضمر متروك إظهاره، تقديره: أسبح الله سبحان، ثم نزل سُبْحانَ منزلة الفعل، فسدّ مسدّه.
لَيْلًا منصوب على الظرف.
أَلَّا تَتَّخِذُوا أي قلنا لهم: لا تتخذوا، وحذف القول كثير في كلامهم، وتكون «أن» على هذا زائدة، ويجوز أن تجعل «أن» بمعنى «أي» فيكون تقديره: وجعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا، أي لا تتخذوا، فيكون أَلَّا تَتَّخِذُوا تفسيرا لهدى. ولا يمتنع أن يكون التقدير:
وجعلناه هدى لبني إسرائيل بألا تتخذوا. وقرئ بالياء، ويكون المعنى: جعلناه لهم هدى، لئلا يتخذوا وكيلا من دوني.
ذُرِّيَّةَ بالنصب إما بدل من وَكِيلًا أو منصوب على النداء، أو منصوب على أنه مفعول أول لتتخذوا، ووَكِيلًا: المفعول الثاني، أو منصوب بتقدير: أعني، أو على الاختصاص. ومن قرأ بالرفع فهو بدل من واو أَلَّا تَتَّخِذُوا.
البلاغة:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى براعة استهلال لأنه لما كان الإسراء أمرا خارقا للعادة، بدأ السورة بما يشير إلى كمال القدرة وتنزهه تعالى عن صفات النقص.
بِعَبْدِهِ إضافة تشريف وتكريم.
وَآتَيْنا مُوسَى التفات أيضا عن الغيبة إلى الحضور.
المفردات اللغوية:
سُبْحانَ اسم علم كعثمان للرجل بمعنى التسبيح (المصدر) الذي هو التنزيه عن كل صفات العجز والنقص، مما لا يليق بجلال الله وكماله أَسْرى وسرى: سار بالليل خاصة، وكان ذلك قبل الهجرة بسنة، وحكمة الإسراء لبيت المقدس: أنه مجمع أرواح الأنبياء، وموطن نزول الوحي على الرسل والأنبياء، فشرفه الله بزيارته، وصلى بالأنبياء إماما. بِعَبْدِهِ محمد صلّى الله عليه وسلم، والعبد يشمل الروح والجسد معا، وقد وصفه الله هنا بالعبودية لأنه أشرف المقامات، كما وصفه في مقام الوحي بالوصف نفسه: فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
[النجم ٥٣/ ١٠] وكذلك وصفه بالوصف ذاته في مقام الدعوة: وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ [الجن ٧٢/ ١٩].
لَيْلًا فائدة ذكره: الإشارة بتنكيره إلى تقليل مدته مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أي مسجد مكة بعينه لما
روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق».
أو المراد به الحرم المكي كله أي مكة، وسماه المسجد الحرام لأن كله مسجد، لما
روي أنه صلّى الله عليه وسلم كان نائما في بيت أم هانئ، بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته، وقص القصة عليها، وقال: «مثل لي النبيون، فصليت بهم».
الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس، ووصف بالأقصى، لبعده بالنظر لمن هو في الحجاز الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين والدنيا لأنه مهبط الوحي، ومتعبد الأنبياء من لدن موسى عليه السلام، ومحفوف بالأنهار والأشجار والثمار لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا عجائب قدرتنا، كذهابه في برهة من الليل، مسيرة شهر، ومشاهدته بيت المقدس، وتمثل الأنبياء عليهم السلام له، ووقوفه على مقاماتهم السَّمِيعُ لأقوال النبي صلّى الله عليه وسلم الْبَصِيرُ بأفعاله، فيكرمه ويقربه على حسب ذلك، فاجتمع بالأنبياء، وعرج إلى السماء، ورأى عجائب الملكوت، وناجى ربه تعالى.
وقال ابن عطية: هذا وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدا صلّى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، أي هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة أَلَّا تَتَّخِذُوا أي لئلا تتخذوا، أو بألا تتخذوا، أو على ألا تتخذوا، ومن قرأ بالياء فهو بمعنى: لئلا يتخذوا وَكِيلًا ربا أو كفيلا يفوضون إليه أمرهم، دون غيره مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ في السفينة إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً كثير الشكر، يحمد الله تعالى في جميع أحواله.
ذكر رسول الله صلّى الله عليه وسلم لقريش الإسراء به وتكذيبهم له، فأنزل الله ذلك تصديقا له.
فبعد أن عاد النبي صلّى الله عليه وسلم من الإسراء والمعراج، خرج إلى المسجد الحرام، وأخبر به قريشا، فتعجبوا منه لاستحالة ذلك في نظرهم، وارتد ناس ممن آمن به، وسعى رجال إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه، فقال: إن كان قال، لقد صدق، فقالوا: تصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي «الصديق». واستنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فجلّي له، فطفق ينظر إليه، وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب، فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها، وقال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق «١»، فخرجوا ينشدون العير إلى الثنية، فصادفوا العير، كما أخبر، ثم لم يؤمنوا، وقالوا: ما هذا إلا سحر مبين.
رأي العلماء في الحادث:
الأكثر على أنه أسري بجسده إلى بيت المقدس، ثم عرج به إلى السموات، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ولذلك تعجبت قريش واستحالوه.
قال أبو حيان: والظاهر أن هذا الإسراء كان بشخصه، ولذلك كذبت قريش، وشنعت عليه، وحين قص ذلك على أم هانئ قالت: لا تحدّث الناس بها، فيكذبوك، ولو كان مناما، ما استنكر ذلك، وهو قول جمهور أهل العلم، وهو الذي ينبغي أن يعتقد. وحديث الإسراء مروي في المسانيد عن الصحابة في كل أقطار الإسلام، وذكر أنه رواه عشرون من الصحابة «٢».
(٢) البحر المحيط: ٦/ ٥.
ومناسبة آية وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لما قبلها: أنه لما ذكر تشريف النبي صلّى الله عليه وسلم وإكرامه بالإسراء، وإراءته الآيات، ذكر تشريف موسى وإكرامه بإيتائه التوراة من قبله.
التفسير والبيان:
أنزّه الله تنزيها من كل سوء، الذي أسرى بعبده محمد صلّى الله عليه وسلم في جزء من الليل، من المسجد الحرام في مكة المكرمة إلى المسجد الأقصى في بيت المقدس، وعاد إلى بلده في ليلته، وأبرئه تبرئة تامة عن كل صفات العجز والنقص وعما يقوله المشركون من وجود شريك أو ولد له، وأثبت له القدرة الكاملة الفائقة، فهو القادر على تحقيق ما هو أغرب من الخيال والتصور، فلا غرابة إن أسرى بعبده تلك المسافة البعيدة في جزء من الزمن غير طويل، تشريفا لنبيه، ورفعا لقدره وإعلاء لمجده، ليكون معجزة دائمة له مع مرور الزمان.
والمراد بِعَبْدِهِ بإجماع المفسرين محمد عليه الصلاة والسلام، وأتى بقوله لَيْلًا بلفظ التنكير لتقليل مدة الإسراء، وأنه أسرى به في بعض الليل لأن التنكير يدل على معنى البعضية، والمسافة من مكة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة بحسب وسائط النقل القديمة، وذلك قبل الهجرة بسنة، كما قال مقاتل «١»، وذكر الحربي: أنه أسري به ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخرة قبل الهجرة بسنة.
والمكان الذي أسري به منه: هو المسجد الحرام بعينه، كما يدل عليه ظاهر لفظ القرآن،
وما روي عنه صلّى الله عليه وسلم أنه قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت، بين النائم واليقظان، إذ أتاني جبريل بالبراق».
وقال الأكثرون: المراد بالمسجد الحرام: الحرم لإحاطته بالمسجد، والحرم كله مسجد، كما قال ابن عباس، وقد أسري به من دار أم هانئ بنت أبي طالب سنة ٦٢١ م.
والمسجد الأقصى بالاتفاق: هو بيت المقدس، وسمي بالأقصى لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام، وكان أبعد مسجد عن أهل مكة في الأرض يعظم بالزيارة.
والأكثرون من المسلمين اتفقوا على أنه أسري بجسد رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم. وفي رأي ضعيف: أنه ما أسري إلا بروحه، وذلك محكي عن حذيفة وعائشة ومعاوية. والأصح هو الرأي الأول وأنه تعالى أسرى بروح محمد صلّى الله عليه وآله وسلم وجسده، من مكة إلى بيت المقدس، لأن كلمة العبد في قوله: بِعَبْدِهِ اسم للجسد والروح، فوجب أن يكون الإسراء حاصلا لمجموع الجسد والروح، ولأن الخبر المروي عن أنس بن مالك وهو الحديث المشهور المروي في الصحاح عن المعراج والإسراء يدل على الذهاب من مكة إلى بيت المقدس، ثم منه إلى السموات العلا.
والخلاصة: أن الآية هنا دالة قطعا على إثبات الإسراء، وآية سورة النجم دالة على المعراج: وهو العروج والصعود إلى السموات، إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام، بعد وصوله إلى بيت المقدس.
وقد وصف الله المسجد الأقصى بأنه مبارك ما حوله، والبركة تشمل بركات
والهدف من الإسراء: أن يري الله عبده آياته الكبرى، وأدلته العظمى على وجوده ووحدانيته وعظم قدرته، فكانت فائدة الإسراء مختصة بالله تعالى وعائدة إليه على سبيل التعيين.
ولا عجب في ذلك كله، فالله سبحانه هو السميع لكل قول، البصير بكل نفس، الذي يضع الأمور في مواضعها على وفق الحكمة، وبمقتضى الحق والعدل.
ومن ذلك: سماعه أقوال المشركين وتعليقاتهم على حادث الإسراء واستهجانهم لوقوعه، واستهزاؤهم بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم في إسرائه من مكة إلى القدس. وبصره بما يفعل أولئك المشركون، وبما يكيدون لنبي الله ورسالته «١».
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ.. بعد أن ذكر الله إكرام محمد صلّى الله عليه وآله وسلم من نسل إسماعيل بالإسراء وإمامة الأنبياء في المسجد الأقصى، ذكر في هذه الآية إكرام موسى عليه السلام قبل محمد صلّى الله عليه وآله وسلم بالكتاب الذي آتاه وأعطاه إياه، وهو التوراة، الذي جعله الله هدى وهداية، ليخرج بني إسرائيل بواسطة ذلك الكتاب من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والدين الحق، وقلنا: لا تتخذوا من دوني وكيلا، أي لا تتخذوا من دون الله وكيلا تفوضون إليه أموركم، فقوله:
وَكِيلًا معناه: ربا تكلون إليه أموركم.
ثم انتقل إلى الحضور بقوله: وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يدل على الحضور أي الخطاب. وهذا يسمى الالتفات.
ثم أبان الله تعالى تشريفه لبني إسرائيل وإتمام نعمته عليهم، لحملهم على اتباع الرسل، فقال: ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ.. أي يا ذرية أو نسل وحفدة أولئك الذين نجاهم الله من الغرق مع نوح، وهداهم إلى طريق التوحيد والحق والخير، تشبّهوا بأصولكم، فأنتم أولى الناس بالتوحيد واتباع سيرة الأنبياء والمرسلين، وفي مقدمتهم أبوكم نوح عليه السلام الذي كان عبدا مبالغا في الشكر لنعم الله وعرفان قدره وعظمته، وإنما يكون العبد شكورا إذا كان موحدا لا يرى حصول شيء من النعم إلا من فضل الله، فاقتفوا أثره، واتبعوا منهجه وسنته، واقتدوا به كما أن آباءكم اقتدوا به.
ووصف نوح بكونه عَبْداً ووصف نبينا محمد بأنه «عبد» دليل واضح على مرتبة الأنبياء، وهي مرتبة العبودية الخالصة لله، فإن معجزة الإسراء والمعراج الخارقة لا يصح وصفها بغير حقيقتها، ولا وضع النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في منزلة تتجاوز موضعه الحقيقي وهو كونه عبدا لله، أي خاضعا لعزة الله وسلطانه، خلافا لما وصفت به النصارى المسيح، ووضعوه في غير موضعه الصحيح.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- ثبوت حادثة الإسراء بنص القرآن الكريم بدلالة قطعية، وثبت الإسراء أيضا في جميع مصنفات الحديث، وروي عن عشرين صحابيا، فهو من المتواتر.
روى مسلم في صحيحة عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «أتيت بالبراق- وهو دابة، أبيض طويل فوق الحمار، ودون البغل،
الحديث.
وروى مسلم أيضا حديثا آخر عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلم صلى بالأنبياء عليهم السلام وفيه: «.. فأممتهم، فلما فرغت من الصلاة، قال لي قائل: يا محمد، هذا مالك صاحب النار، فسلّم عليه، فالتفت إليه، فبدأني بالسلام».
٢- كان الإسراء بالروح والجسد يقظة راكبا البراق، لا في الرؤيا والمنام، بدليل نص الآية بِعَبْدِهِ وهو مجموع الروح والجسد، ولو كان مناما لقال:
«بروح عبده» ولم يقل: بِعَبْدِهِ، وقوله تعالى: ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى [النجم ٥٣/ ١٧] يدل على ذلك، ولو كان مناما لما كانت فيه آية ولا معجزة، ولما قالت له أم هانئ: لا تحدّث الناس فيكذبوك، ولا فضّل أبو بكر بالتصديق، ولما أمكن قريشا التشنيع والتكذيب، وقد كذبته قريش فيما أخبر به، حتى ارتدّ أقوام كانوا آمنوا، فلو كان بالرؤيا لم يستنكر «١».
وأما المعراج أو العروج إلى السموات وإلى ما فوق العرش، فلا تدل هذه الآية عليه، وإنما تدل عليه أوائل سورة النجم «٢».
والخلاصة: إن تلك الرؤيا لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلم كانت رؤيا عيان، لا رؤيا منام.
(٢) تفسير الرازي: ٢٠/ ١٥٣.
ولا خلاف بين العلماء وأهل السير أن الصلاة إنما فرضت بمكة ليلة الإسراء حين عرج بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلم إلى السماء، وذلك منصوص عليه في صحيحي البخاري ومسلم وغيرهما «١». وإنما اختلفوا في هيئتها حين فرضت، فروى البخاري ومسلم ومالك وأبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فرض الله الصلاة- حين فرضها- ركعتين، ثم أتمها في الحضر، وأقرت صلاة السفر على الفريضة الأولى».
وروى مسلم وأبو داود والنسائي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال:
«فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعا، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة».
٣- إن المقصود من الإسراء والمعراج أن يري الله نبيه الآيات العظمى الدالة على وجوده ووحدانيته وقدرته، ومن تلك الآيات: الجنة والنار وأحوال السموات والكرسي والعرش، فيصبح العالم في عينه حقيرا أمام عظمة الكون، وتقوى نفسه على احتمال المكاره والجهاد في سبيل الله. ومن تلك الآيات التي أراه الله العجائب التي أخبر بها النبي الناس، وإسراؤه في ليلة، وعروجه إلى السماء، ووصفه الأنبياء واحدا واحدا، كما ثبت في صحيح مسلم وغيره.
كما أن في الإسراء من مكة إلى بيت المقدس الإشارة إلى وحدة الأنبياء في الرسالة والهدف والتوجه إلى الله تعالى وحده، وإن اختلفت القبلتان، وتمايزت الشرائع، وتمادى الزمان في فترات إرسال الأنبياء عليهم السلام، فهم من أولهم آدم عليه السلام إلى خاتمهم محمد صلّى الله عليه وآله وسلم دعاة إلى توحيد الله وعبادته وإلى إصلاح
٤- كرّم الله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم بالإسراء والمعراج، وكرم موسى عليه السلام بالكتاب وهو التوراة الذي جعله الله هدى وهداية لبني إسرائيل من ظلمات الجهل والكفر إلى نور العلم والإيمان بالله تعالى وحده، وتحريم اتخاذ ربّ سواه يتوكلون عليه في أمورهم. والوكيل: من يوكل إليه الأمر.
٥- ثم نادى الله سبحانه البشرية قاطبة بأن ينضموا جميعا تحت راية واحدة هي راية الإيمان بالله تعالى وحده، قائلا: يا ذرية من حملنا مع نوح، وهم جميع من على الأرض، ومنهم موسى وقومه من بني إسرائيل: لا تشركوا مع الله إلها آخر.
وذكر الله تعالى نوحا لتذكير البشرية بنعمة الإنجاء من الغرق على آبائهم..
ومقصود الآية: إنكم أيها البشر من ذرية نوح، وقد كان عبدا شكورا موحدا الله تعالى، مقرا بآلائه ونعمه عليه، ولا يرى الخير إلا من عنده، فأنتم أحق بالاقتداء به، دون آبائكم الجهال.
ويمكن مما ذكر تلخيص العظات والحقائق التالية:
أولا- أدى حادث الإسراء والمعراج في ليلة واحدة إلى تمحيص المؤمنين، وتبيان صادق الإيمان، ومريض القلب منهم.
ثانيا- كان اطلاع الله رسوله صلّى الله عليه وآله وسلم على آيات الكون الأرضية والسماوية ذات العجائب درسا واقعيا لتعليم الرسول بالمشاهدة والنظر، ومن المعلوم أن التعليم المحسوس أوقع في النفس، وأرسخ في الذهن.
ثالثا- إن بشرية النبي صلّى الله عليه وآله وسلم واحتياجه إلى الهواء في طبقات الجو والسموات
وإن في غزو الفضاء الآن لدليلا مؤكدا على صحة الإسراء والمعراج، وأن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم هو أول رواد الفضاء، وأنه تجاوز أسرع ما توصلت إليه محطات الفضاء.
رابعا- إن جمع الأنبياء في المسجد الأقصى وإمامة نبينا بهم دليل واضح على وحدة رسالاتهم وختمها برسالة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وبلورتها وانصبابها في شريعته التي ختمت الشرائع السالفة.
أحوال بني إسرائيل في التاريخ
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤ الى ٨]
وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
الإعراب:
خِلالَ الدِّيارِ ظرف مكان منصوب، وعامله فَجاسُوا وقرئ: جاسوا وداسوا وهما بمعنى واحد، وحاسوا.
وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا كَما: مصدرية ظرفية زمانية، أي وليتبّروا مدّة علوهم، فحذف المضاف، كقولك: أتيتك مقدم الحاج، أي زمن مقدم الحاج، فحذف المضاف.
البلاغة:
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا جناس اشتقاق.
أَحْسَنْتُمْ أَسَأْتُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَقَضَيْنا أعلمناهم وأخبرناهم بذلك من طريق الوحي. فِي الْكِتابِ التوراة.
لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ أرض الشّام بالمعاصي، وهو جواب قسم محذوف. مَرَّتَيْنِ من الإفساد، أولاهما- مخالفة أحكام التوراة وقتل أشعيا، وثانيتهما- قتل زكريا ويحيى وقصد قتل عيسى.
وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرنّ عن طاعة الله تعالى، وتبغون بغيا عظيما، وتظلمون الناس.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما أولى مرّتي الفساد، ووعد عقاب أولاهما. بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة في الحرب والبطش، وهم بختنصّر وجنوده، وقيل: جالوت الخزري، وقيل: سنحاريب ملك بابل وجنوده. فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ تردّدوا وسط دياركم لطلبكم وقتلكم وسببكم، فقتلوا الكبار، وسبوا الصغار، وأحرقوا التوراة، وخرّبوا المسجد الأقصى وبيت المقدس. وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا وكان وعد عقابكم نافذا، لا بدّ منه.
الْكَرَّةَ الدّولة والغلبة. عَلَيْهِمْ بعد مائة سنة بقتل جالوت. نَفِيراً عشيرة.
إِنْ أَحْسَنْتُمْ بالطاعة. أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأن ثوابه لها. وَإِنْ أَسَأْتُمْ بالفساد.
فَلَها إساءتكم، ووبالها عليها. فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ أي جاء وعد المرة الآخرة.
لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أي ليجعلوها بادية آثار السوء فيها، بأن يحزنوكم بالقتل والسّبي حزنا يظهر في وجوهكم وحذف بعثناهم لدلالة ما ذكر أولا عليه. وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ بيت المقدس فيخربوه، وهو متعلّق بمحذوف هو: بعثناهم. كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما خربوه أول مرة. وَلِيُتَبِّرُوا يهلكوا. ما عَلَوْا ما غلبوا عليه أو استولوا عليه من بلادكم، أو مدة علوهم. تَتْبِيراً هلاكا، وذلك بأن سلّط الله عليهم الفرس، مرة أخرى، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف، اسمه: جوذرز أو خردوس، وقتل منهم ألوفا، وسبى ذريّتهم، وخرّب بيت المقدس.
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي وقلنا في الكتاب: عسى ربّكم، بعد المرة الثانية، إن تبتم.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى إنعامه على بني إسرائيل بإنزال التوراة عليهم، لتكون لهم هدى يهتدون بها، ذكر أنهم ما اتبعوا هداها، بل أفسدوا في الأرض بقتل الأنبياء وسفك الدّماء، فسلّط الله عليهم البابليين بقيادة بختنصّر، فقتلوهم ونهبوا أموالهم، وخربوا بيت المقدس، وسبوا أولادهم ونساءهم، وذلك أول الفسادين وعقابه.
ثم لما تابوا، أعاد الله لهم الدولة والغلبة، وأمدّهم بالأموال والبنين، ثم عادوا إلى فسادهم وعصيانهم، فقتلوا زكريا ويحيى عليهما السّلام، فسلّط الله عليهم الفرس، فقتلوهم، وسلبوهم، وخربوا بيت المقدس مرة أخرى، ثم وعدهم الله بالنصر إن أطاعوا، وبالعقاب بنار جهنم إن عصوا وأفسدوا.
التفسير والبيان:
هذه الآيات بيان لتأريخ بني إسرائيل وإخبار عما يرتكبون من وقائع وأحداث دامغة، ومفاسد عظيمة، والمعنى: وأعلمنا بني إسرائيل وأخبرناهم وأوحينا إليهم وحيا مقضيّا مقطوعا بحصوله فيما أنزلناه في التوراة على موسى أنهم سيفسدون في الأرض: أرض الشام وبيت المقدس أو أرض مصر، أو في كلّ أرض يحلّون فيها مرتين، ويعصون الله، ويخالفون شرع ربّهم في التوراة مخالفتين لا مخالفة واحدة، وهما:
الأولى- مخالفة التوراة وتغييرها، وقتل بعض الأنبياء، مثل شعيا عليه السّلام، وحبس إرميا حين أنذرهم سخط الله تعالى.
ثم إنهم يتجبّرون ويطغون ويفجرون ويستعلون على الناس بغير الحق استعلاء عظيما، ويظلمونهم ظلما شديدا، فقوله تعالى: عُلُوًّا كَبِيراً أراد به التّكبر والبغي والطغيان.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما.. أي فإذا حان موعد أولى المرتين من الإفساد، وجاء وعد الفساق ووقت العقاب الموعود به على المرة الأولى، سلّطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، أي قوة وشدّة وأصحاب عدّة في الحروب وعدد، وهم أهل بابل بقيادة بختنصّر، حين كذبوا إرمياء وجرحوه وحبسوه، كما قال ابن عباس وغيره. وقال قتادة: أرسل عليهم جالوت فقتلهم، فهو وقومه أولو بأس شديد. وقال مجاهد: هم جند من فارس، والظاهر الرأي الأول، والمهم العبرة والعظة من تسلّط فئة على فئة باغية، ولا يهم بيان الأشخاص والجماعات.
فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ.. ، أي أوغلوا في البلاد وتملكوها، وتردّدوا فيها وفي أوساطها ذهابا وإيابا، لا يخافون أحدا، يقتلون ويسلبون وينهبون، ويقتلون العلماء والكبراء، وكان من آثارهم إحراق التوراة، وتخريب بيت المقدس، وسبي عدد كثير من بني إسرائيل، وكان ذلك وعدا منجزا نافذا، وقضاء كائنا لا خلف فيه، أو قضاء حتما جزما لا يقبل النقض والنسخ لأنهم تمردوا وقتلوا خلقا من الأنبياء والعلماء.
وكان هذا الدّرس القاسي البليغ محقّقا الثّمرة والغاية، فاتّعظ بنو إسرائيل مما حدث، وثابوا لرشدهم، وعدلوا عن غيّهم وضلالهم، وتمسّكوا بمبادئ كتابهم ودينهم، فكان ذلك مؤذنا بنصر جديد كما قال تعالى:
ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ.. أي ثم أعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم،
وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران ٣/ ١٤٠] ولذا قال تعالى:
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ.. أي إن أحسنتم العمل، فأطعتم الله واتّبعتم أوامره واجتنبتم نواهيه، أو إن أحسنتم بفعل الطاعات، فقد أحسنتم إلى أنفسكم لأنكم بالطاعة تنفعونها، فيفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، ويدفع عنكم أذى أهل السوء في الدّنيا، ويثيبكم في الآخرة، وإن أسأتم بفعل المحرّمات أسأتم إلى أنفسكم لأنكم بالمعصية تضرّونها، فبشؤم تلك المعاصي يعاقبكم الله بالعقوبات المختلفة، من تسليط الأعداء في الدّنيا، وإيقاع العذاب المهين في الآخرة. وقوله تعالى: فَلَها أي فعليها، كما قال تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ، وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها [فصلت ٤١/ ٤٦].
وهذه سنّة الله في خلقه، إن عصوا سلّط الله عليهم القتل والنّهب والسّبي، وإن تابوا أزال عنهم تلك المحنة، وأعاد لهم الدولة، جَزاءً وِفاقاً [النبأ ٧٨: ٢٦]، وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت ٤١: ٤٦].
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ... أي فإذا حان موعد المرة الأخيرة، وجاء وقت العقاب على الكرة الثانية من الإفساد والإقدام على قتل زكريا ويحيى عليهما السّلام، أرسلنا أعداءكم ليسوؤا وجوهكم، أي ليظهروا المساءة في وجوهكم بالإهانة والقهر، وليدخلوا المسجد، أي بيت المقدس قاهرين، كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة، وَلِيُتَبِّرُوا، أي يدمّروا ويخرّبوا، ما عَلَوْا، أي ظهروا عليه، تَتْبِيراً، أي تخريبا وهلاكا شديدا، فلا يبقون شيئا من آثار الحضارة والعمران، ويبيدون الأرض ومن عليها، ويهلكون الحرث والزرع والثمر، وقد سلّط الله عليهم في هذه المرة
والخلاصة: إن بختنصّر هو الذي أغار على بني إسرائيل أولا فخرّب بيت المقدس، وكان ذلك في زمن إرميا عليه السّلام، وهذا موافق لتأريخ اليهود، أما في المرة الثانية فإن المغير هو بيردوس ملك بابل، كما ذكر البيضاوي، وهو أسبيانوس، قيصر الروم كما ذكر اليهود في تاريخهم، وكان بين الإغارتين نحو من خمس مائة سنة.
ثم فتح الله تعالى باب الأمل أمامهم مرة أخرى، فقال: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ أي لعل ربّكم أن يرحمكم يا بني إسرائيل، ويعفو عنكم بعد انتقامه منكم في المرة الثانية من تسليط الأعداء عليكم، إن تبتم وأقلعتم عن المعاصي، فيصرفهم عنكم، وقد وفى الله بوعده، فأعزّهم بعد الذّلة، وأعاد لهم الملك، وجعل منهم الأنبياء.
ثم أنذرهم الله بقوله: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا، أي وإن عدتم إلى الإفساد والمعاصي في المرة الثالثة، عدنا إلى إذلالكم، وتسليط الأعداء عليكم وعقوبتكم بأشدّ مما مضى في الدّنيا، مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنّكال، ولهذا قال تعالى:
وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً، أي مستقرّا وسجنا لا محيد عنه، كما قال ابن عباس، وقال الحسن البصري: فراشا ومهادا وبساطا، كما قال تعالى:
لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ [الأعراف ٧/ ٤١] ولأن العرب تسمّي البساط الصغير حصيرا.
والخلاصة: إن لبني إسرائيل بسبب عصيانهم ذلّ الدّنيا وعذاب جهنّم في الآخرة. وهذا عبرة لكلّ مخالف أوامر الله تعالى.
أرشدت الآيات الكريمة إلى ما يأتي:
١- صدق إخبار الله لبني إسرائيل أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي، لما علم الله منهم في علمه السابق الأزلي أنهم أرباب انحراف وفساد وتخريب، والمراد بالفساد: مخالفة أحكام التوراة.
٢- تكرر العقاب مرتين والإنقاذ من العذاب والذّل مرتين أيضا فيه رحمة من الله بعباده لأن العقاب قد يكون سبيلا للإصلاح والتّربية والتّهذيب، ولأن التّغلّب على الأزمات والتّخلّص من المهانة والإذلال فيه تجديد للنّفس، وعون على فتح باب الأمل، وطرد اليأس من النّفوس.
وقد عوقب اليهود أولا على يد بختنصّر، وثانيا على يد ملك بابل:
بيردوس الفارسي، أو قيصر الروم لأنهم في المرة الأولى قتلوا إرميا أو شعيا نبي الله عليه السّلام وجرحوه وحبسوه، وفي المرة الثانية قتلوا يحيى وزكريا عليهما السّلام قتلهما هيردوس أو لاخت أحد ملوك بني إسرائيل، وعزموا على قتل عيسى عليه السّلام، وكان العقاب شديدا في الحالتين، ومن أهم صنوفه إحراق التوراة وهدم بيت المقدس.
وكانت النّجاة بإعادة العزّة والدّولة لبني إسرائيل كما كانت بالإمداد بالأموال والبنين، وجعلهم أكثر عددا ورجالا من عدوّهم لأنهم صاروا بعد الهزيمة الأولى أكثر التزاما للطاعة وأصلح أحوالا، جزاء من الله تعالى لهم على عودهم إلى الطاعة.
٣- إن نفع الإحسان والاستقامة على الطاعة لله عائد للإنسان نفسه، وكذلك سوء الإساءة ومخالفة أوامر الله مردود للإنسان ذاته: وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ
[غافر ٤٠/ ٣١]، وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ [آل عمران ٣/ ١٠٨].
٤- تشير آية إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ إلى أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه لأنه تعالى لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال تعالى: وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها ولو لم يكن جانب الرّحمة غالبا، لما فرق بين التعبيرين «١».
أكّد تعالى ذلك بقوله: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ فهو وعد من الله بكشف العذاب عنهم إن تابوا وأنابوا إليه.
٥- إن عدل الله يقضي بأن من عاد إلى العصيان عاد الله إلى عقابه: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا ومن عاد إلى التوبة والرّشد والهداية والاستقامة عادت رحمة الله إليه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ.
٦- ليس عذاب العصاة مقصورا على الدّنيا بالإذلال والإهانة والقتل والنّهب والسّبي، وإنما هناك عذاب آخر ادّخره الله لهم في جهنّم، بإحاطة نارها بهم، وجعلها مقرّا ومحبسا وسجنا لهم، أو مهادا وفراشا وبساطا.
٧- إن ذكر ما قضي إلى بني إسرائيل دليل على نبوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، لمطابقة ما أخبر به القرآن الواقع الحادث.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١١]
إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١)
الإعراب:
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ فيه حذف، أي ويدعو الإنسان بالشّر دعاء مثل دعائه بالخير، ثم حذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت الصفة إليه مقامه.
المفردات اللغوية:
يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ يهدي إلى الطريقة التي هي أعدل وأصوب. وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ... عطفا على أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً أي يبشّر المؤمنين ببشارتين: ثوابهم وعقاب أعدائهم، أو عطفا على يُبَشِّرُ بإضمار: ويخبر أن أَعْتَدْنا أعددنا. أَلِيماً مؤلما هو النار. وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي يدعو عند غضبه بالشّر على نفسه وأهله وماله. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه له. وَكانَ الْإِنْسانُ جنس الإنسان. عَجُولًا بالدعاء على نفسه، وعدم النّظر في عاقبته.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى ما أكرم به محمدا صلّى الله عليه وآله وسلم وهو الإسراء وأكرم موسى عليه السّلام بالتوراة، وأنها هدى لبني إسرائيل، وما سلط عليهم بذنوبهم من عذاب الدّنيا والآخرة، مما يستدعي ردع العقلاء عن معاصي الله، ذكر ما شرّف الله به رسوله أيضا من القرآن الناسخ لحكم التوراة وكل كتاب إلهي، وأبان أهدافه من الهداية للطريقة أو الحالة التي هي أقوم، والتّبشير بالثواب العظيم لمن أطاعه، وإنذار الكافرين بالعذاب الأليم.
لم لا تؤمنون بالقرآن يا بني إسرائيل، والقرآن كالتوراة أنزله الله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو متّصف بثلاث صفات:
الصفة الأولى:
أنه يرشد للسبيل التي هي أقوم، فهو يهدي لأقوم الطرق وأوضح السّبل، وإلى الطريقة المثلى التي هي الدّين القيّم، والملّة الحنيفية السمحة التي تقوم على أساس التوحيد الخالص لله، وأنه الفرد الصمد، صاحب الملك، والعزّة والجبروت، المعزّ المذلّ الّذي يحيى ويميت، وتدعو إلى فضائل الأعمال، وإلى خيري الدّنيا والآخرة. فقوله تعالى: لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ معناه: الطريقة التي هي أسدّ وأعدل وأصوب.
الصفة الثانية:
أنه يبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا يوم القيامة، جزاء عملهم.
الصفة الثالثة:
أنه ينذر الذين لا يصدقون بوجود الله ووحدانيته، ولا بالمعاد والثواب والعقاب، ولا يعملون الخير بأن لهم عذاب جهنم، جزاء ما قدمت أنفسهم.
والمعنى أنه تعالى بشّر المؤمنين بنوعين من البشارة بثوابهم وبعقاب أعدائهم، وإطلاق البشارة على البشارة بالعذاب من قبيل التهكّم، كما في قوله تعالى:
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ [ال عمران: ٣/ ٢١]، أو من إطلاق اسم الشيء على ضدّه، كقوله تعالى: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى: ٤٢/ ٤٠].
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ.. أي إن صفة الإنسان العجلة، فيدعو في بعض الأحيان حين الغضب على نفسه أو ولده أو ماله بالشّر، أي بالموت أو الهلاك والدّمار واللعنة، كما يدعو ربّه بالخير، أي بالعافية والسّلامة والرزق، ولو استجيب دعاؤه لهلك، ولكن الله بفضله ورحمته لا يستجيب دعاءه، كما قال تعالى: وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ، لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ [يونس ١٠/ ١١]،
وروى أبو داود عن جابر أن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلم قال: «لا تدعوا على أنفسهكم، ولا أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة، يستجيب فيها».
والذي يحمل الإنسان على ذلك قلقه وعجلته، ولهذا قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي يتعجل تحصيل المطلوب دون تفكير في عواقبه.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- إن القرآن الكريم أنزله الله تعالى على محمد صلّى الله عليه وآله وسلم سبب اهتداء للبشرية قاطبة، يرشدها لأقوم الطرق، وأصح المناهج، وأعدل المسالك، وهي توحيد الله والإيمان برسله، والدعوة إلى مكارم الأخلاق، وأفضل مناهج الحياة.
٢- وللقرآن هدف آخر وهو التّبشير والإنذار، تبشير المؤمنين الذين يعملون الأعمال الصالحة بالجنّة، وإنذار أعدائهم الكفار بالعقاب في نار جهنم، والقرآن معظمة وعد ووعيد.
٣- إن طبع الإنسان القلق والعجلة، فيعجل بسؤال الشرّ كما يعجل بسؤال
التذكير بنعم الله في الدنيا ودلائل القدرة الإلهية
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٢ الى ١٧]
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦)
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
الإعراب:
مَنْشُوراً حال. بِذُنُوبِ متعلق بقوله: خَبِيراً بَصِيراً.
آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مجاز عقلي لأن النهار لا يبصر، بل يرى فيه، فهو مجاز من إسناد الشيء إلى زمانه.
طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أستعير الطائر لعمل الإنسان لأن العرب الذين كانوا يتفاءلون ويتشاءمون بالطير، سموا نفس الخير والشر بالطائر بطريق الاستعارة.
اقْرَأْ كِتابَكَ فيه إيجاز بالحذف، أي يقال له يوم القيامة: اقرأ كتابك، وكذلك أَمَرْنا مُتْرَفِيها
فيه إيجاز بالحذف، أي أمرناهم بطاعة الله فعصوا.
اهْتَدى ضَلَّ بينهما طباق.
تَزِرُ وازِرَةٌ جناس اشتقاق.
المفردات اللغوية:
آيَتَيْنِ علامتين دالتين على قدرة الله تعالى، بتعاقبهما على نسق واحد. فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الآية التي هي الليل ممحوّة لا نور فيها، والإضافة فيها للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس. لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، وتتوصلوا به إلى استبانة أعمالكم. وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعلموا باختلافهما أو بحركتهما عدد السنوات وجنس الحساب. والفرق بين العدد والحساب: أن العدد إحصاء أمثال الشيء المكونة له، والحساب: إحصاء طائفة معينة يتكون منها الشيء، فالسنة بالنظر إلى أنها أيام (٣٦٥ يوما) فقط فذلك العدد، وبالنظر إلى تكونها من اثني عشر شهرا، وكل شهر ثلاثون يوما، وكل يوم ٢٤ ساعة، فذلك هو الحساب، كما ذكر الشوكاني في فتح القدير وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء تحتاجون إليه من أمور الدين والدنيا، بيّناه بيانا غير ملتبس.
طائِرَهُ عمله من خير أو شر. فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق في عنقه إذ اعتادوا التفاؤل بالطير، ويسمونه زجرا، فإن مرّ بهم من اليسار إلى اليمين، تيمنوا به، وسموه سانحا، وإن مرّ من اليمين إلى اليسار تشاءموا منه، وسموه بارحا، وسموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. هو صحيفة عمله. مَنْشُوراً أي غير مطوي. حَسِيباً محاسبا عادّا يعد عليه أعماله.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ أي أن ثواب اهتدائه له. وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي أن إثمه عليها. وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ أي لا تحمل نفس آثمة وزر نفس أخرى، والوزر:
وإذا تعلقت إرادتنا بإهلاك قوم، لإنفاذنا قضاءنا السابق. أَمَرْنا مُتْرَفِيها
منعميها أي رؤساءها، بالطاعة على لسان رسلنا. فَفَسَقُوا فِيها
فخرجوا عن أمرنا. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
بالعذاب. فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي أهلكناها بإهلاك أهلها وتخريبها.
وَكَمْ أي كثيرا. الْقُرُونِ الأمم. خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنها وظواهرها.
سبب النزول: نزول الآية (١٥) :
مَنِ اهْتَدى قالت فرقة: نزلت الإشارة في الهدى إلى أبي سلمة بن عبد الأسود، وفي الضلال إلى الوليد بن المغيرة. وقيل: نزلت في الوليد هذا قال: يا أهل مكة، اكفروا بمحمد، وإثمكم علي.
المناسبة:
بعد أن بيّن الله تعالى ما أنعم به من نعم الدين على الناس وهو القرآن، أتبعه ببيان ما أنعم عليهم من نعم الدنيا، وهو في ذاته استدلال بالدلائل الواضحة على قدرة الله وحكمته.
وبعد أن أبان تعالى دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وأوضح أحوال الوعد والوعيد والترغيب والترهيب، ذكر مبدأ رفيعا ومهما جدا، وهو مبدأ المسؤولية الفردية أو الشخصية عن أعمال الإنسان وأن ذلك المبدأ قد تقرر بعد إرسال الرسل وبيان معالم الهدى، فلا تكليف قبل الشرع، ولا عقاب ولا عذاب قبل البيان والإنذار وأن العقاب العام للقرى والأمم لا يكون إلا بعد الأمر بالطاعات والخيرات، ومخالفة ذلك الأمر، والفسق.
التفسير والبيان:
وجعلنا الليل والنهار علامتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا، وفي
وجعلنا ظرف كل من الليل والنهار مناسبا للهدف المنشود والغاية المقصودة، ففي الليل ظلام دامس ومحو للضوء يتلاءم مع راحة النفس والعين والسمع، وفي النهار ضوء ونور يناسب الحركة والعمل وإبصار الأشياء.
فهذا امتنان من الله تعالى على خلقه بجعل الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء، وجعل النهار مبصرا، أي تبصر فيه الأشياء وتستبان.
لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي جعلنا تعاقب الليل والنهار لتتمكنوا كيف تتصرفون في أعمالكم، وتطلبون الرزق من الله ربكم الذي يربيكم ويمدكم من فضله وإحسانه شيئا فشيئا، وعلى وفق الزمان الدائر بكم صيفا وشتاء.
وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ولتعرفوا بتعاقب الليل والنهار عدد الأيام والشهور والأعوام، وتعلموا بحساب الأشهر والليالي والأيام أوقات مصالحكم من الدورات الزراعية، وآجال الديون والإجارات والمعاملات، وأزمان العبادات من صلاة وصيام وحج وزكاة، فلو لم يتغاير الليل والنهار، لما تمكن الإنسان من الراحة التامة ليلا واكتساب المعايش والأرزاق نهارا، ولو كان الزمان كله نسقا واحدا لما عرف الحساب على نحو صحيح يسير.
ونظير الآية قول الله تعالى: قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ؟ أَفَلا تَسْمَعُونَ؟ قُلْ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ، مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ؟ أَفَلا تُبْصِرُونَ؟ وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ، وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ، وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ؟! [القصص ٢٨/ ٧٠- ٧٣]
وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا أي وكل شيء لكم به حاجة في مصالح دينكم ودنياكم قد بيناه وشرحناه بيانا نافعا، وشرحا كاملا وافيا، كما قال تعالى:
ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام ٦/ ٣٨] وقال: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل ١٦/ ٨٩].
وبعد ذكر الزمان وما يقع فيه من أعمال الناس، ذكر تعالى مبدأ التبعية أي المسؤولية عن الأعمال من خير أو شر فقال: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ أي وجعلنا عمل كل إنسان ملازما له لزوم القلادة للعنق إن كان خبيرا، ولزوم الغلّ للعنق لا يفك عنه إن كان شرّا. فالمراد بالطائر: العمل الصادر من الإنسان. والعرب تعبر عن تلازم الشيء بالشيء بما يوضع في العنق، يقال:
جعلت هذا في عنقك، أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به.
وجعل العمل ملازما للإنسان أمر محتوم وقضاء معلوم، على وفق علم الله الأزلي السابق بالأشياء وبما يصدر عن الناس، وهذا لا يعني الإجبار ونفي الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب، فكل إنسان مخير في اختيار ما هو خير يقتضي ثوابا حسنا وما هو شرّ يقتضي عقابا سيئا.
وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً... أي سنخرج لكل إنسان يوم القيامة كتابا يراه ويستقبله منشورا أمامه، فيه جميع أعماله خيرها وشرها.
ذكر الحسن البصري حديثا قدسيا: «قال الله: يا بن آدم، بسطنا لك صحيفة، ووكّل بك ملكان كريمان: أحدهما عن يمينك، والآخر عن يسارك، فأما الذي عن يمينك
اقْرَأْ كِتابَكَ، كَفى بِنَفْسِكَ... ويقال لك حين تلقى كتابك: اقرأ كتابك أي كتاب عملك في الدنيا، كفى بنفسك حاسبا تحسب أعمالك وتحصيها. كان الحسن إذا قرأها قال: يا بن آدم، أنصفك- والله- من جعلك حسيب نفسك. والقائل: هو الله تعالى على ألسنة الملائكة.
مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ... أي إذا كان كل واحد مختصا بعمل نفسه، فمن اهتدى إلى الحق والصواب واتبع شرع الله وهدي النبوة، فإنما ينفع نفسه، ومن ضلّ في عمله وحاد عن شرع الله وكفر به وبرسله، فإنما يضرّ نفسه لأن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، لا يتجاوزه إلى غيره، وعقاب العمل السيء ملازم صاحبه، لا يفارقه.
ثم أكد تعالى معنى الشق الثاني بقوله: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تتحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، بل على كل نفس إثمها دون إثم غيرها، أو لا يحمل أحد ذنب أحد، ولا يجني جان إلا على نفسه.
وهذا ردّ واضح على الذين يحرضون غيرهم على ارتكاب المنكر، واقتراف الكفر، ويزعمون أنهم يتحملون عاقبة ذلك. روي عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة حين قال: اكفروا بمحمد وعليّ أوزاركم.
وهو ردّ أيضا على الجاهليين الذين كانوا يقولون: نحن لا نعذب في شيء، وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، ويؤكد ذلك قوله تعالى: قُلْ: لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا، وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ [سبأ ٣٤/ ٢٥].
وتقرير مبدأ المسؤولية الشخصية من مفاخر الإسلام ومبادئه التي صححت
ويتضاعف العقاب والإثم على دعاة الضلال بسبب تأثيرهم في الآخرين، دون إعفاء من يتبعونهم في ضلالهم من الوزر والعقاب، لقوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ، وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ [النحل ١٦/ ٢٥] وقوله سبحانه: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت ٢٩/ ١٣] فعلى الدعاة إثم ضلالتهم في أنفسهم، وإثم آخر بسبب إضلالهم غيرهم.
وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا أي لكن مقتضى العدل والحكمة والرحمة أننا لا نعذب أحدا في الدنيا أو الآخرة على فعل شيء أو تركه إلا بعد إنذار، ولا نعاقب الناس إلا بعد إعذار وبعث الرسل إليهم، لإقامة الحجة عليهم بالآيات المبينة للأحكام والحلال والحرام والثواب والعقاب، كما قال تعالى:
كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ؟ قالُوا: بَلى، قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ، فَكَذَّبْنا وَقُلْنا: ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ.. [الملك ٦٧/ ٨- ٩] وقال عز وجل: وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها: أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ، وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا، قالُوا: بَلى، وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ [الزمر ٣٩/ ٧١] ونحو ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحدا النار إلا بعد إرسال الرسول إليه، ودعوته إلى الخير، وتحذيره من الشرّ.
وأما كيفية وقوع العذاب بعد إرسال الرسل فهي كما أخبر تعالى:
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً...
أي إذا دنا وقت إهلاك قوم بعذاب الاستئصال أمرنا مترفيها بالطاعات والخيرات، أي الأمر بالفعل، فإذا خالفوا ذلك الأمر وفسقوا وخرجوا عن الطاعة وتمردوا، حق أو وجب عليهم العذاب جزاء وفاقا لعصيانهم، فدمرناهم تدميرا وأبدناهم إبادة تامة، شملت جميع أهل
ودمرناها: استأصلناها بالهلاك.
والإبادة الشاملة بسبب الأمر العام لجميع المكلفين، أغنياء كانوا أو فقراء، مترفين كانوا أو غير مترفين، لكن خصّ الأمر بالمترفين لأنهم القادة وغيرهم تبع لهم، وشأن العامة والأتباع تقليد الكبراء والزعماء دائما. قال ابن عباس في قوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيها
أي سلطنا أشرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب، وهو كقوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها [الأنعام ٦/ ١٢٣].
ثم أنذر الله تعالى كفار قريش وأمثالهم في تكذيبهم رسوله محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم بأن كثيرا من الأمم وجب عليهم العذاب بذنوبهم، فقال: وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ... أي وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح عليه السلام إلى زمانكم لما بغوا وعصوا، وجحدوا آيات الله، وكذبوا رسله، كما أنتم الآن، وأنتم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق، فعقوبتكم أولى وأحرى.
وهذا وعيد وتهديد لمكذبي الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم في كل زمان بشديد العقاب، وفيه دلالة على أن القرون التي مضت بين آدم ونوح كانت على الإسلام، قال ابن عباس: كان بين آدم ونوح عشرة قرون، كلهم على الإسلام.
وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي وكفى بالله خبيرا بذنوب خلقه مطلعا عليها، يحصي عليهم أعمالهم ومعاصيهم، فلا يخفى عليه شيء من أفعال المشركين وغيرهم، وهو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها، لا يخفى عليه منها خافية. والخبير: العليم بهم، والبصير: الذي يبصر أعمالهم. وفي هذا تنبيه
وكل ما ذكر حثّ للعقلاء على العمل الصالح النافع في الدنيا والآخرة، ودفع إلى الجد وعدم الكسل.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلت الآيات على ما يأتي:
١- إن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقص، وتعاقبهما، وضوء النهار وظلمة الليل، دليل على وحدانية الله تعالى ووجوده وكمال علمه وقدرته.
٢- ودورة الليل والنهار تعرفنا بعدد السنوات والأشهر والأيام المتماثلة، وتعلمنا حساب المدة المكونة من طوائف ومجموعات، كالسنة المكونة من اثني عشر شهرا، والشهر من ثلاثين يوما، واليوم من أربع وعشرين ساعة.
٣- النهار وقت مناسب للعمل والحركة والتقلب في الأرض لكسب المعايش وتحصيل الأرزاق.
٤- كل إنسان معلّق بعمله، وعمله مختص به ولازم له، خيرا أو شرا.
٥- إن كتاب الإنسان وسجله الذي يلقاه أمامه يوم القيامة حافل بكل ما قدم وما أخر. وكفى بالإنسان محاسبا لنفسه. قال الحسن البصري: يقرأ الإنسان كتابه أمّيا كان أو غير أمّي.
٦- كل أحد إنما يحاسب عن نفسه لا عن غيره، فمن اهتدى فثواب اهتدائه له، ومن ضلّ فعقاب كفره عليه.
٧- إقرار مبدأ المسؤولية الشخصية عدلا من الله ورحمة بعباده، فلا يحمل
وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى: نزلت في الوليد بن المغيرة قال لأهل مكة:
اتبعوني، واكفروا بمحمد، وعليّ أوزاركم، فنزلت هذه الآية. ومعناها: أن الوليد لا يحمل آثامكم، وإنما إثم كل واحد عليه.
أما ما روي عن عائشة رضي الله عنها في الرد على ابن عمر حيث قال النبي في حديث رواه الشيخان: «إن الميت ليعذّب ببكاء أهله» فلا وجه لإنكارها وتخطئتها إذ لا معارضة بين الآية والحديث فإن الحديث محمول على ما إذا كان النّوح من وصية الميت وسنته وبسببه، كما كانت الجاهلية تفعله، حتى قال طرفة:
إذا متّ فانعيني بما أنا أهله | وشقّي عليّ الجيب يا ابنة معبد |
إلى الحول، ثم اسم السلام عليكما | ومن يبك حولا كاملا فقد اعتذر |
وقالت المعتزلة بأن العقل يقبّح ويحسّن ويبيح ويحظر.
٩- تدل آية وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا على أن أهل الفترة (فترة انقطاع الرسل) الذين لم تصلهم رسالة، وماتوا ولم تبلغهم الدعوة وهم أهل الجاهلية وأمثالهم في الجزر النائية الذين لم يسمعوا بالإسلام في زماننا هم ناجون، من أهل الجنة. ومثلهم أولاد المشركين والكفار الذين ماتوا وهم صغار قبل التكليف، وآباؤهم كفار، وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف.
الأول- من لم تبلغهم دعوته، ولم يسمعوا به أصلا، فهؤلاء في الجنة.
الثاني- من بلغتهم دعوته ومعجزاته ولم يؤمنوا به كالكفار في زماننا، فهؤلاء في النار.
الثالث- من بلغتهم دعوته صلّى الله عليه وآله وسلّم بأخبار مكذوبة أو بنحو مشوه، فهؤلاء يرجى لهم الجنة.
١٠- إن عذاب الاستئصال لا يكون إلا بشيوع المعاصي والذنوب والمنكرات، فإذا أراد الله إهلاك قرية أمر مترفيها وغيرهم بالطاعة والرجوع عن المعاصي، ففسقوا وظلموا وبغوا، أي آثروا الفسوق على الطاعة، خلافا للأمر، فحق عليها القول بالتدمير والهلاك.
وعلى قراءة أمرنا بالتشديد يكون المعنى: سلطنا شرارها، فعصوا فيها، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم.
وذكر قتادة والحسن أن معنى أَمَرْنا
بكسر الميم: أكثرنا، يقال: أمر القوم- بكسر الميم-: إذا كثروا، ومنه
الحديث الذي رواه أحمد والطبراني عن سويد بن هبيرة: «خير مال المرء: مهرة مأمورة، أو سكّة مأبورة «١» »
أي مهرة كثيرة النتاج والنّسل، وصف من النخل مأبورة.
وفي حديث هرقل- الحديث الصحيح: «لقد أمر أمر ابن أبي كبشة «٢»، ليخافه ملك بني الأصفر»
أي كثر.
(٢) يريد: رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ابن أبي كبشة» شبهوه بأبي كبشة: رجل من خزاعة خالف قريشا في عبادة الأوثان.
١٢- إن المعاصي إذا ظهرت، ولم تغيّر، كانت سببا لهلاك الجميع.
١٣- دلّ قوله تعالى: وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، راء لجميع المرئيات، فلا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. وثبت أنه تعالى قادر على كل الممكنات، فكان قادرا على إيصال الجزاء إلى كل أحد بقدر استحقاقه، وأيضا أنه منزه عن العبث والظلم، وهذه الصفات الثلاث (العلم التام، والقدرة الكاملة، والبراءة عن الظلم) أمان لأهل الطاعة، وخوف لأهل الكفر والمعصية.
جزاء من أراد الدنيا ومن أراد الآخرة
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٨ الى ٢١]
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١)
الإعراب:
لِمَنْ نُرِيدُ بدل من الْعاجِلَةَ بدل البعض من الكل بإعادة حرف الجر، مثل قوله تعالى:
قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا، لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ [الأعراف ٧/ ٧٥] فقوله:
لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من قوله لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ حال
كَيْفَ فَضَّلْنا كَيْفَ: منصوب بفضلنا، وليس العامل فيه انْظُرْ لأن كَيْفَ معناها الاستفهام، والاستفهام له صدر الكلام، فلا يعمل فيه ما قبله.
دَرَجاتٍ تمييز منصوب، وكذلك تَفْضِيلًا.
المفردات اللغوية:
مَنْ كانَ يُرِيدُ بعمله. الْعاجِلَةَ أي الدنيا، مقصورا عليها همه، والمراد الدار العاجلة، فعبر بالنعت عن المنعوت. عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ قيد المعجّل والمعجّل له بالمشيئة والإرادة لأنه لا يجد كل متمنّ ما يتمناه ولا كل واحد جميع ما يهواه. ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ في الآخرة. يَصْلاها يدخلها. مَذْمُوماً ملوما. مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله تعالى.
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل عملها اللائق بها، وهو الإتيان بما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، لا التقرب بما يخترعون بآرائهم. وفائدة لام لَها اعتبار النية والخلوص.
وَهُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك فيه ولا تكذيب. فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة:
إرادة الآخرة، والسعي لها بحق، والإيمان. كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً عند الله تعالى، أي مقبولا عنده، مثابا عليه، فإن شكر الله: الثواب على الطاعة.
كُلًّا من الفريقين. نُمِدُّ نعطي مرة بعد أخرى. مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه في الدنيا. وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ فيها. مَحْظُوراً ممنوعا عن أحد، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن ولا كافر، تفضلا.
فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ في الرزق والجاه. وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ أعظم. وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا من الدنيا، أي إن التفاوت في الآخرة أكبر: لأن التفاوت فيها بالجنة ودرجاتها، والنار ودركاتها، فينبغي الاعتناء بالآخرة دون الدنيا.
المناسبة:
الآيات مرتبطة بما قبلها بنحو واضح، فبعد أن بيّن الله تعالى ارتباط كل إنسان بعمله، قسم العباد قسمين: قسم يريد الدنيا ويعمل لها، وعاقبته النار، وقسم يريد الآخرة، ومآله إلى الجنان.
التفسير والبيان:
هذه الآيات تصنيف عام لأحوال الناس في الدنيا، فهم فريقان: فريق يعمل للدنيا، وفريق يعمل للآخرة. أما الفريق الأول فهو: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ... أي من كان طلبه الدنيا العاجلة، وكانت الدنيا أكبر همه ومبلغ علمه، فخصها بكل جهده وعمله، ونسي الآخرة، عجل الله فيها تحقيق أمله حسبما يشاء ويريد، من سعة الرزق وترف الحياة، فليس كل من طلب الدنيا ونعمها يحصل له مراده، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، فالعطاء الدنيوي مقيد بالإرادة والمشيئة الإلهية، والقيد يشمل أمرين: ما يشاؤه الله لا ما يحبه العبد، ولمن يشاء الله، لا لكل من أراد الدنيا، فهؤلاء الماديون لا يعطون كل ما يريدون، وإنما يعطون بعض أمانيهم، والكثير من الماديين لا يعطون شيئا أبدا، فيجمعون بين فقر الدنيا وفقر الآخرة، وبين الحرمان من الدنيا والدين.
ولكل من هؤلاء الماديين، سواء أعطوا مرادهم أم لا جهنم يصلونها أي يقاسون حرها بصفة دائمة، مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين على قلة الشكر وسوء العمل والتصرف، مطرودين من رحمة الله تعالى.
فهذا العقاب ذو أوصاف ثلاثة في الآية: الدوام والخلود، والإذلال والإهانة، والطرد من رحمة الله. وهذا تهديد للماديين الكفرة وزجر شديد، فإنهم يحصرون همهم في الدنيا، وربما لم ينلهم شيء منها.
روى أحمد عن عائشة مرفوعا: «الدنيا دار من لا دار له، ومال من لا مال له، ولها يجمع من لا عقل له».
وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها... أي ومن طلب الآخرة، وكانت هي همّه ومقصده، فعمل لها ما استطاع من القرب والطاعات، وهو مؤمن مصدق بالله وبكتبه ورسله واليوم الآخر، فأولئك أهل الكمال المشكورون على طاعاتهم، المثابون على أعمالهم من قبل الله تعالى.
فلا يثاب هؤلاء ولا ينالون هذا الجزاء الحسن إلا بشروط ثلاثة:
الأول- إرادة ثواب الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، جاء في الحديث الذي رواه الشيخان عن عمر: «إنما الأعمال بالنيات».
الثاني- أن يكون العمل من القرب والطاعات ومتابعة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، لا من الأعمال الباطلة، فإن الكفار يتقربون إلى الله تعالى بعبادة الأوثان، والكواكب والملائكة وبعض البشر من الأنبياء، فقوله: وَسَعى لَها سَعْيَها أي أعطاها حقها من السعي بالأعمال الصالحة.
الثالث- أن يكون العمل في دائرة الإيمان والتصديق بالثواب والجزاء، فلا ينفع العمل بغير الإيمان الصحيح. وهذه هي الشرائط الثلاثة في كون السعي مشكورا.
قال بعض السلف: من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله: إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب، وتلا هذه الآية.
هؤلاء المؤمنون الصلحاء الذين اختاروا غنى الآخرة لا يبالون بشيء بعدها، فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن حرموا منه صبروا، ورضوا لأن ما عند الله خير وأبقى.
ثم أبان الله تعالى أن الرزق في الدنيا مضمون مكفول لكلا الفريقين، فقال:
مريدي الدنيا ومريدي الآخرة بالأموال والأرزاق والأولاد وغيرها من مظاهر العز والزينة في الدنيا، فإن عطاءه لا يمنع عن أحد، مؤمنا كان أو كافرا لأن الكل مخلوقون في دار العمل، فاقتضى عدل الله ورحمته ألا يترك لأحد مجالا للعذر، وأبان أن عطاءه ليس بمحظور، أي غير ممنوع، لتوفير متطلبات الحياة ومقوماتها.
ثم أوضح الله تعالى أن عطاءه لكلا الفريقين متفاوت فقال:
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ.. أي انظر بعين الاعتبار كيف جعلنا الفريقين متفاوتين في عطاء الدنيا، وكيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، فمنحناه مؤمنا، وحجبناه عن مؤمن آخر، وأعطيناه كافرا، ومنعناه عن كافر آخر، وذلك لحكمة بالغة نحن أعلم بها، كما قال: نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا، وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا [الزخرف ٤٣/ ٣٢] وفي آية أخرى: وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ، لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [الأنعام ٦/ ١٦٥] وقال سبحانه أيضا:
وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ، وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ، إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [الشورى ٤٢/ ٢٧].
وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ... أي والتفاوت في الآخرة أكبر وأعظم، والتفاضل في درجات منافع الآخرة أكبر من التفاضل في درجات منافع الدنيا، فالدرجات أكبر، والتفاضل أعظم لأن الآخرة ثواب وأعواض وتفضل وكلها متفاوتة، فأهل النار في دركات سفلى متفاوتة، وأهل الجنة في درجات عليا متفاضلة، فإن الجنّة مائة درجة، ما بين كل درجتين، كما بين السماء والأرض،
جاء في الصحيحين: «إن أهل الدرجات العلا ليرون أهل عليين، كما ترون
وهذه واقعة طريفة معبرة مناسبة للآية، رواها ابن عبد البر عن الحسن البصري قال: حضر جماعة من الناس فيهم الأشراف ومن دونهم من العامة باب عمر رضي الله عنه، وفيهم سهيل بن عمرو القرشي (أحد أشراف مكة) وأبو سفيان بن حرب، ومشايخ من قريش، فأذن لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، فقال أبو سفيان: ما رأيت كاليوم قط، إنه ليؤذّن لهؤلاء العبيد، ونحن جلوس لا يلتفت إلينا، فقال سهيل وكان أعقلهم: أيها القوم، إني والله قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، إنهم دعوا ودعينا- يعني إلى الإسلام- فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر، فكيف التفاوت في الآخرة؟
ولئن حسدتموهم على باب عمر، لما أعد الله لهم في الجنة أكبر.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الناس في مجال العمل في الدنيا صنفان: صنف يريد الدنيا، وصنف يريد الآخرة، أما الصنف الأول: فلا يعطيه الله من الدنيا إلا ما يشاء، ولمن يشاء، ثم يؤاخذه بعمله، وعاقبته دخول النار حال كونه مذموما على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مدحورا مطرودا مبعدا من رحمة الله. قال القرطبي: وهذه صفة المنافقين الفاسقين، والمرائين المداجين، يلبسون الإسلام والطاعة لينالوا عاجل الدنيا من الغنائم وغيرها، فلا يقبل ذلك العمل منهم في الآخرة، ولا يعطون في الدنيا إلا ما قسم لهم «١».
٢- اقتضت حكمة الله ورحمته أن يرزق المؤمنين والكافرين، فلا يكون عطاؤه محبوسا ممنوعا عن أحد، غير أن الناس في الدنيا متفاوتون في الرزق، بين مقلّ ومكثر، ولا يرتبط التفاوت في الرزق بالإيمان والكفر، فقد يكون مؤمن غنيا وآخر فقيرا، وقد يكون كافر موسرا مترفا وآخر معسرا معدما.
أما في الآخرة فدرجات تفاضل المؤمنين أكبر وأكثر، فالكافر وإن وسّع عليه في الدنيا مرة، وقتّر على المؤمن مرة، فالآخرة لا تقسم إلا مرة واحدة بأعمالهم، فمن فاته شيء منها لم يستدركه فيها.
٣- إن هذه الآية: عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ مقيدة لإطلاق آية هود: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها، نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها، وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ [١٥] وآية الشورى: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ، وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها، وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [٢٠].
٤- في الآية نفسها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ فوائد ثلاث:
الأولى- العقاب مضرة مقرونة بالإهانة والذم الدائمين.
الثانية- إن الرفاهية في الدنيا لا ينبغي أن يستدل بها على رضا الله تعالى لأن الدنيا قد تحصل مع أن عاقبتها المصير إلى عذاب الله وإهانته، وهذا تنبيه للجهال الذين يغترون بالدنيا إذا أقبلت عليهم، ويظنون أن ذلك لأجل كرامتهم على الله تعالى.
٥- إن قبول الأعمال عند الله مشروط بشرائط ثلاث: الإيمان الصحيح، والنية الطيبة الحسنة، والعمل الصالح الذي يرضي الله تعالى.
٦- إن رزق الله وعطاءه مكفول لكل إنسان بشرط السعي والعمل، وليس الرزق محظورا عن أحد من المؤمنين والكفار.
٧- ليس الرزق معطي بدرجة متساوية ونسبة واحدة، وإنما هناك تفاوت في الأرزاق، لا يرتبط ذلك بالإيمان والكفر، وإنما يقسمه الله تعالى بين الخلائق على وفق ما يراه من الحكمة والمصلحة.
٨- إن التفاوت في الدركات للكفار والفساق في نار جهنم وفي الدرجات للمؤمنين الأخيار الأتقياء في الجنة أشد بكثير من التفاوت في الدنيا، فالجنة مثلا مائة درجة، ما بين كل درجة ودرجة كما بين السماء والأرض.
أصول تنظيم المجتمع المسلم التوحيد أساس الإيمان وترابط الأسرة المسلمة دعامة المجتمع
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٢ الى ٣٠]
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦)
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
إِمَّا يَبْلُغَنَّ قرئ: يَبْلُغَنَّ: وحدّ الفعل لمجيء الفاعل بعده واحدا، فإن الفعل متى تقدم توحّد، والفاعل: أحدهما. ومن قرأ: يبلغان: فيكون أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بدلا من ألف يبلغان أو تكون الألف لمجرد التثنية ولا حظّ للاسمية فيها، فيرتفع أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما بالفعل الذي قبلهما على لغة من قال: قاما أخواك، وأكلوني البراغيث. وإِمَّا: هي إن الشرطية زيدت عليها ما تأكيدا.
أُفٍّ اسم من أسماء الأفعال، فكانت مبنية، والبناء إما على الكسر لالتقاء الساكنين، أو على الفتح لأنه أخف الحركات، أو على الضم لأنه أتبع الضمّ الضمّ. ومن نون أُفٍّ أراد به التنكير، ومن لم ينوّن أراد التعريف. وفي أُفٍّ إحدى عشرة لغة، مثل «هيهات».
ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها ابْتِغاءَ: مصدر منصوب في موضع الحال، أي:
وإما تعرضن عنهم مبتغيا رحمة من ربك ترجوها. وجملة تَرْجُوها حال منصوب، أي راجيا إياها.
البلاغة:
وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ استعارة مكنية، شبّه الذل بطائر ذي جناح، ثم حذف الطائر، ورمز له بشيء من لوازمه، وهو الجناح، فهذه استعارة في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما تذلل الرعية للأمير والخدم للسادة.
فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً لف ونشر مرتب، أعاد لفظ مَلُوماً إلى البخيل، ولفظ مَحْسُوراً إلى الإسراف.
يَبْسُطُ وَيَقْدِرُ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته، أو الخطاب لكل أحد.
فَتَقْعُدَ إما بمعناها الأصلي، أي فتعجز عن تحصيل الخيرات، أو بمعنى: تصير، مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة، أي صارت مثل الحربة. مَذْمُوماً يذمك الملائكة والمؤمنون. مَخْذُولًا يخذلك الله تعالى، وتصير: لا ناصر لك لأنك أشركت معه إلها آخر.
وهذا بناء على المفهوم يدل على أن الموحد يكون ممدوحا منصورا.
وَقَضى رَبُّكَ حكم وأمر أمرا مقطوعا به. أَلَّا تَعْبُدُوا بألا تعبدوا. إِلَّا إِيَّاهُ حصر العبادة بنفسه تعالى لأن غاية التعظيم لا يستحقها إلا لمن له غاية العظمة وغاية الإنعام وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وبأن تحسنوا لهما إحسانا، بأن تبروهما، أو وأحسنوا بالوالدين إحسانا لأنهما السبب الظاهر للوجود والمعيشة. ولا يجوز أن تتعلق الباء بالإحسان لأنه صلته وهي لا تتقدم عليه. أُفٍّ اسم صوت يدل على التضجر والاستثقال، أي تبا وقبحا. وَلا تَنْهَرْهُما تزجرهما، والنهر: الزجر بغلظة. قَوْلًا كَرِيماً جميلا لينا.
جَناحَ الذُّلِّ ألن لهما جانبك الذليل، والمراد به التواضع والتذلل، أو حسن الرعاية والعناية. مِنَ الرَّحْمَةِ أي لرقتك عليهما وفرط رحمتك بهما. ارْحَمْهُما كَما رحماني حين.
رَبَّيانِي صَغِيراً أو رحمة مثل رحمتهما علي. رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من إضمار البر والعقوق.
إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ طائعين لله، قاصدين للصلاح. لِلْأَوَّابِينَ للتوابين أو الرجاعين إلى طاعته. غَفُوراً لما صدر منهم في حق الوالدين من بادرة، وهم لا يضمرون عقوقا.
وَآتِ أعط. ذَا الْقُرْبى القرابة. حَقَّهُ من البر والصلة وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً التبذير: إنفاق المال في غير موضعه الموافق للشرع والحكمة. إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي قرناءهم وعلى طريقتهم كَفُوراً شديد الكفر لنعمه. فكذلك قرينه المبذر. وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ أي وإن أعرضت عن المذكورين من ذي القربى والمسكين وابن السبيل، حياء من الرد، فلم تعطهم.
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ أي لا تمسكها عن الإنفاق تماما، والمغلولة: المقيدة بالغل: وهو القيد الذي يوضع في اليدين والعنق، وهو تمثيل لمنع الشح وكناية عن البخل. وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ أي تتوسع في الإنفاق، وهو تمثيل وكناية لمنع الإسراف. فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند الله وعند الناس بالبخل، فهو راجع للأول: البخل. مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا لا شيء عندك، وهو راجع للثاني: الإسراف. إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسعه لمن يشاء. وَيَقْدِرُ يضيقه لمن يشاء. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما بسرهم وعلنهم، فيرزقهم على حسب مصالحهم.
سبب النزول:
نزول الآية (٢٦) :
وَآتِ ذَا الْقُرْبى: أخرج الطبراني وغيره عن أبي سعيد الخدري قال: لما نزلت: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ دعا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فاطمة، فأعطاها فدك.
قال ابن كثير: هذا مشكل، فإنه يشعر بأن الآية مدنية، والمشهور خلافه.
لكن ذكر في مطلع السورة أن هذه الآية مدنية. وروى ابن مردويه عن ابن عباس مثله.
نزول الآية (٢٨) :
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ: أخرج سعيد بن منصور عن عطاء الخراساني قال:
جاء ناس من مزينة يستحملون رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: لا أجد ما أحملكم عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا، ظنوا ذلك، من غضب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأنزل الله: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ الآية.
والرحمة: الفيء.
وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: نزلت في كل من كان يسأل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
نزول الآية (٢٩) :
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ: أخرج سعيد بن منصور عن سيار أبي الحكم قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم بزّ (ثياب) وكان معطيا كريما، فقسمه بين الناس، فأتاه قوم، فوجدوه قد فرغ منه، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها الآية.
وأخرج ابن مردويه وغيره عن ابن مسعود قال: جاء غلام إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقال: إن أمي تسألك كذا وكذا، قال: ما عندنا شيء اليوم، قال: فتقول لك: اكسني قميصا، فخلع قميصه، فدفعه إليه، فجلس في البيت حاسرا، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ... الآية.
وأخرج ابن مردويه أيضا عن أبي أمامة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال لعائشة: أنفق ما على ظهر كفي، قالت: إذن لا يبقى شيء، فأنزل الله: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ الآية. قال السيوطي: وظاهر ذلك أنها مدنية.
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى أن الناس فريقان: فريق يريد بعمله الدنيا فقط، وعاقبتهم العذاب والعقاب، وفريق يريد بعمله طاعة الله، وهم أهل الثواب بشروط ثلاثة: هي إرادة الآخرة، والسعي بحق لطلب الآخرة، وأن يكون مؤمنا، أتبعه ببيان حقيقة الإيمان وأن جوهره التوحيد ونفي الشركاء والأضداد.
وبعد أن ذكر الركن الأعظم في الإيمان، أتبعه بذكر شعائر الإيمان
التفسير والبيان:
يخاطب الله تعالى الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم لبيان حقيقة الإيمان وهو التوحيد ونفي الشركاء، والمراد بالخطاب: المكلفون من الأمة، إذ لم يكن له صلّى الله عليه وآله وسلّم في ذلك الوقت أبوان.
ومضمونه: لا تجعل أيها الإنسان المكلف شريكا مع الله تعالى في ألوهيته وعبادته، وإنما أفرد له الألوهية والربوبية، فلا إله غيره، ولا رب سواه، ولا معبود بحق إلا هو، فإن جعلت مع الله إلها آخر، صرت ملوما على إشراكك به، مخذولا لا ينصرك ربك، بل يتركك إلى من عبدته معه، وهو لا يملك ضرا ولا نفعا. روى أحمد وأبو داود والترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته، ومن أنزلها بالله، فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل». والخلاصة: إن أول دعامة للمجتمع المسلم: توحيد الله وعدم الشرك به.
وبعد بيان الركن الأعظم في العقيدة والإيمان وهو التوحيد، ذكر تعالى شعائر الإيمان ومظاهره، وهي ما يأتي:
أولا- عبادة الله تعالى وحده: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ أي أمر الله تعالى ألا تعبدوا غيره، وهذا يتضمن أمرين: الاشتغال بعبادة الله تعالى، والتحرز عن عبادة غير الله تعالى لأن العبادة نهاية التعظيم، ولا يستحق ذلك غير الله عز وجل لأنه مصدر النعم والإنعام من إعطاء الوجود والحياة والقدرة والعقل.
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ.. أي إذا بلغ الوالدان أو أحدهما سن الكبر، وصارا عندك في آخر العمر بحال من الضعف والعجز، كما كنت عندهما في بدء حياتك، فعليك اتباع الواجبات الخمسة التالية:
الأول- فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ أي لا تسمعهما قولا سيئا فيه أدنى تبرّم، حتى ولا التأفف وهو التضجر والتألم الذي هو أدنى مراتب القول السيء، وذلك في أي حال، ولا سيما حال الضعف والكبر والعجز عن الكسب، لأن الحاجة إلى الإحسان حينئذ أشد وأولى وألزم، لذا خص حالة الكبر لأنها الحالة التي يحتاجان فيها إلى البر، للضعف والكبر.
روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «رغم أنفه، رغم أنفه، رغم أنفه، قيل من يا رسول الله؟ قال: من أدرك والديه عند الكبر أحدهما أو كليهما ثم لم يدخل الجنة».
الثالث- وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي وقل لهما قولا لينا طيبا حسنا مقرونا بالتوقير والتعظيم والحياء والأدب الجم. ويلاحظ أنه تعالى قدم النهي عن المؤذي، ثم أمر بالقول الحسن والكلام الطيب لأن التخلي مقدم على التحلي، ومنع الأذى أولى من إحسان القول والفعل. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه مفسرا القول الكريم: هو أن يقول له: يا أبتاه يا أماه، أي لا يدعوهما بأسمائهما، ولا يرفع الصوت أمامهما، ولا يحملق بنظره فيهما، وسئل سعيد بن المسيّب عن القول الكريم فقال: هو قول العبد المذنب للسيد الفظّ.
الرابع- وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ أي تواضع لهما بفعلك، والمقصود منه المبالغة في التواضع وإلانة الجانب، فإن خفض الجناح كناية عن فعل التواضع، وتشبيه بحال الطائر إذا ضم إليه فرخه، فيخفض له جناحه.
والتواضع ينبغي أن يكون رحمة بهما وشفقة عليهما، لا لأجل امتثال الأمر وخوف العار والنقد فقط.
الخامس- وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي اطلب لهما الرحمة من الله في حال كبرهما وعند وفاتهما. قال القفال رحمه الله تعالى: إنه لم يقتصر في تعليم البر بالوالدين على تعليم الأقوال، بل أضاف إليه تعليم الأفعال، وهو أن يدعو لهما بالرحمة، فيقول: رَبِّ ارْحَمْهُما ولفظ الرحمة جامع لكل الخيرات في الدين والدنيا. وقوله كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي أحسن إليهما كما أحسنا إلي في تربيتهما إياي، والتربية: هي التنمية، وخصها بالذكر ليتذكر العبد شفقة الأبوين وتعبهما في التربية، فيزيده ذلك إشفاقا لهما وحنانا عليهما.
ما أخرجه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة وأنس رضي الله عنهما: أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم صعد المنبر، ثم قال: «آمين آمين آمين، قيل: يا رسول الله، علام أمّنت؟ قال: أتاني جبريل، فقال:
يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده، فلم يسل عليك، قل: آمين، فقلت:
آمين. ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان، ثم خرج، فلم يغفر له، قل: آمين، فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما، فلم يدخلاه الجنة، قل: آمين، فقلت: آمين».
والبر يكون في حال الحياة وبعد الموت أيضا بدليل
ما أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن مالك بن ربيعة الساعدي قال: بينما أنا جالس عند رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من برّ أبوي شيء بعد موتهما أبرّهما به؟ قال: «نعم، خصال أربع: الصلاة عليهما والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما، وصلة الرحم التي لا رحم لك إلا من قبلهما، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما».
فإذا كان الوالدان كافرين فللولد أن يدعو لهما حال الحياة بالهداية والإرشاد، وأن يطلب لهما الرحمة بعد حصول الإيمان. أما بعد الموت فقد نهى القرآن عن الاستغفار للمشركين الأموات، ولو كانوا أولي قربى في الآية:
ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى [التوبة ٩/ ١١٣]. فيعامل المسلم أبويه الذميين معاملة حسنة إلا الترحم لهما بعد موتهما على الكفر.
ويكفي في العمل بمقتضى هذه الآية طلب الرحمة لهما مرة واحدة لأن ظاهر الأمر للوجوب، وظاهر الأمر لا يقتضي التكرار. سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة أو في الشهر، أو في السنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات.
أخرج الترمذي عن عبد الله بن عمر حديثا: «رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخط الوالد».
ثم حذر الله تعالى من التهاون في بر الوالدين فقال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ... أي أن العبرة بما في القلب وما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص في الطاعة وعدم الإخلاص فيها، فإن الله تعالى مطلع على ما في نفوسكم، بل هو أعلم بتلك الأحوال منكم بها لاختلاطها بالسهو والنسيان وعدم الإحاطة بالكل، فمن بدرت منه بادرة غير مقصودة، فلا يعاقبه الله عليها ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، فإنه سبحانه غفور للتائبين الراجعين إلى الخير، النادمين على ما فرط منهم من غير قصد. والتائب من الذنب: هو الرجّاع من المعصية إلى الطاعة، مما يكره الله، إلى ما يحبه ويرضاه. والمقصود من الآية: التحذير من ترك الإخلاص.
ثالثا- الإحسان إلى ذوي القربى والمساكين وابن السبيل: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ لما ذكر تعالى بر الوالدين، عطف بذكر الإحسان إلى القرابة وصلة الأرحام، والمعنى: وأعط أيها الإنسان المكلف القريب والمسكين والمسافر المنقطع في الطريق إلى بلده حقه، من صلة الرحم والود، والزيارة وحسن المعاشرة، والنفقة إن كان محتاجا إليها، وإعانة المسكين ذي الحاجة، ومساعدة ابن السبيل بالمال الذي يكفيه زاده وراحلته إلى أن يبلغ مقصده.
والخطاب للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد به أمته من بعده.
جاء في الحديث الذي أخرجه أبو داود عن بكر بن الحارث الأنماري: «أمك وأباك، ثم أدناك أدناك» أو «ثم الأقرب فالأقرب»
وأخرج الشيخان عن أنس عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من أحبّ أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أثره، فليصل رحمه».
أما مساعدة المساكين وأبناء السبيل فهي من الصدقات المندوبة.
رابعا- منع التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً: لما أمر الله تعالى بالإنفاق والبذل نهى عن الإسراف وبيّن سياسة الإنفاق، أي لا تنفق المال إلا باعتدال وفي غير معصية وللمستحقين، بالوسط الذي لا إسراف فيه ولا تبذير، والتبذير لغة:
إفساد المال وإنفاقه في السرف، والوسطية والاعتدال هي سياسة الإسلام المالية والاجتماعية والدينية، قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا، وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً [الفرقان ٢٥/ ٦٧].
ثم نبّه الله تعالى على قبح التبذير بإضافته إلى أفعال الشياطين، فقال:
إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي إن المبذرين المنفقين أموالهم في معاصي الله يشبهون في هذا الفعل القبيح الشياطين، فهم قرناء الشياطين في الدنيا والآخرة، وأشباههم في ذلك في الصفة والفعل، كما قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً، فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [الزخرف ٤٣/ ٣٦] وقال تعالى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصافات ٣٧/ ٢٢] أي قرناءهم من الشياطين.
قال ابن مسعود: التبذير: الإنفاق في غير حق، وقال مجاهد: لو أنفق إنسان ماله كله في الحق، لم يكن مبذرا، ولو أنفق مدا في غير حق، كان مبذرا. وعن علي كرم الله وجهه قال: ما أنفقت على نفسك وأهل بيتك في غير سرف ولا تبذير، وما تصدقت فلك، وما أنفقت رياء وسمعة، فذلك حظ
وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي وكان الشيطان لنعمة ربه جحودا لأنه أنكر نعمة الله عليه، ولم يعمل بطاعته، بل أقبل على معصيته ومخالفته، فاستعمل نفسه في المعاصي والإفساد في الأرض، وإضلال الناس.
قال الكرخي: وكذلك من رزقه الله جاها أو مالا، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفورا لنعمة الله لأنه موافق للشيطان في الصفة والفعل.
وفي صفة الشيطان أنه كفور لربه دلالة على كون المبذر أيضا كفورا لربه.
وقال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفق عادة العرب، وذلك لأنهم كانوا يجمعون الأموال بالنهب والغارة، ثم كانوا ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريش وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن الإسلام وتوهين أهله، وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيها على قبح أعمالهم.
خامسا- الوعد الجميل بالعطاء أو القول الميسور: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ أي إن أعرضت عن ذي القربى والمسكين وابن السبيل حياء من التصريح بالرد بسبب الفقر والقلة، بعد أن سألوك، فقل لهم قولا سهلا لطيفا لينا، وعدهم وعدا بسهولة ولين بالصلة والعطاء إذا جاء رزق الله، واعتذر بعذر مقبول.
سادسا- القصد في الإنفاق: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.. لما أمر الله تعالى بالإنفاق ذكر هنا أدب الإنفاق، والاقتصاد في العيش، بذم البخل، والنهي عن السرف، أي لا تمسك عن الإنفاق بحيث تبخل على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرحم وسبيل الخيرات، ولا تسرف ولا تتوسع في الإنفاق توسعا
والخلاصة: إن أصول الإنفاق هو الاقتصاد في العيش، والتوسط في الإنفاق، دون بخل ولا سرف، فالبخل إفراط في الإمساك، والتبذير إفراط في الإنفاق، وهما مذمومان، وخير الأمور أوساطها، والفضيلة وسط بين رذيلتين.
روى أحمد عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما عال من اقتصد»
وأخرج البيهقي عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «الاقتصاد في النفقة نصف المعيشة».
وروى الديلمي في مسند الفردوس عن أنس مرفوعا: «التدبير نصف العيش، والتودد نصف العقل، والهمّ نصف الهرم، وقلة العيال أحد اليسارين» «١».
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه، إلا وملكان ينزلان من السماء، يقول أحدهما:
اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا».
وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعا: «ما نقص مال من صدقة، وما زاد الله عبدا أنفق إلا عزا، ومن تواضع لله رفعه الله».
وروى أبو داود عن عبد الله بن عمر مرفوعا: «إياكم والشح، فإنه أهلك من كان قبلكم، أمرهم بالبخل فبخلوا، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا، وأمرهم بالفجور ففجروا».
ثم أبان الله تعالى ربط الرزق بمشيئته وإرادته، ليدرك الناس أن تضييق الرزق أحيانا على بعضهم ليس لسوء حالهم عند الله، فقال: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي إن ربك أيها الرسول هو الرزاق، القابض الباسط، المتصرف في خلقه بما يشاء، فيغني من يشاء، ويفقر من يشاء، لما له في ذلك
جاء في الحديث الذي ذكره السيوطي في المسانيد (الجامع الكبير) :«إن من عبادي المؤمنين لمن لا يصلح إيمانه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه، وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلا الغنى، ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه».
وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجا، والفقر عقوبة.
والمقصود بالآية أنه تعالى عرف رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم كونه ربا، والرب: هو الذي يربي المربوب ويقوم بإصلاح مهماته ودفع حاجاته على مقدار الصلاح والصواب، فيوسع الرزق على البعض، ويضيقه على البعض.
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم مما ذكر أن الآيات ترشد إلى الأحكام التالية:
١- التوحيد أساس الإيمان، والإشراك رأس الكفر والضلال.
٢- الإحسان إلى الوالدين فرض لازم واجب، وقد أمر الله سبحانه بعبادته وتوحيده، وجعل بر الوالدين مقرونا بذلك، كما قرن شكرهما بشكره، فقال:
وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وقال: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ، إِلَيَّ الْمَصِيرُ.
٣- من البرّ بالأبوين والإحسان إليهما ألا يتعرض لسبّهما ولا لعقوقهما فإن ذلك من الكبائر بلا خلاف.
٤- عقوق الوالدين: مخالفتهما في أغراضهما الجائزة لهما، كما أن برّهما موافقتهما على أغراضهما، فتجب طاعتهما في المباح المعروف غير المعصية، ولا تجب طاعتهما في المعصية.
«يا عبد الله بن عمر، طلّق امرأتك».
٥- لا يختص برّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل يجب برهما ولو كانا كافرين، ويحسن إليهما إذا كان لهما عهد، قال الله تعالى: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ [الممتحنة ٦٠/ ٨].
وفي صحيح البخاري عن أسماء قالت: «قدمت أمّي وهي مشركة في عهد قريش ومدّتهم، إذ عاهدوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، مع أبيها، فاستفتيت النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقلت: إن أمي قدمت، وهي راغبة «١»، أفأصلها؟ قال: نعم، صلي أمّك».
٦- من الإحسان إلى الأبوين والبرّ بهما إذا لم يتعين الجهاد ألا يجاهد الولد إلا بإذنهما.
روى مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يستأذنه في الجهاد، فقال: «أحيّ والداك» ؟ قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد».
أما الوالدان المشركان فكان الثوري يقول: لا يغزو إلا بإذنهما، وقال الشافعي: له أن يغزو بغير إذنهما.
٧- من تمام برّ الوالدين: صلة أهل ودّهما،
ففي صحيح مسلم عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن من أبرّ البرّ: صلة الرجل أهل ودّ أبيه، بعد أن يولّي»
وقد ذكر حديث أبي أسيد الساعدي البدري.
٨- هناك رقابة خاصة من الله تعالى على معاملة الأبوين لقوله سبحانه:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من اعتقاد الرحمة بهما والحنو عليهما، أو من غير ذلك من العقوق، أو من جعل ظاهر برهما رياء.
١٠- يحرّم الإسلام التبذير، والتبذير كما قال الشافعي رضي الله عنه: إنفاق المال في غير حقه، ولا تبذير في عمل الخير. وهذا قول الجمهور. وقال مالك:
التبذير: هو أخذ المال من حقه ووضعه في غير حقه، وهو الإسراف، وهو حرام لقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ أي أنهم في حكمهم إذ المبذر ساع في إفساد كالشياطين.
١١- من أنفق ماله في الشهوات زائدا على قدر الحاجات، وعرّضه بذلك للنفاد فهو مبذر، ومن أنفق درهما في حرام فهو مبذر، ويحجر عليه. ومن أنفق ربح ماله في شهواته، مع المحافظة على أصل رأس المال، فليس بمبذر.
١٢- الأدب الرفيع هو رد ذوي القربى بلطف ووعدهم وعدا جميلا بالصلة عند اليسر، والاعتذار إليهم بما هو مقبول وفيه تطييب الخاطر، ولا يعرض الشخص عنهم إعراض مستهين، وهو في حال الغنى والقدرة، فيحرمهم حقهم.
لقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ أي إن أعرضت يا محمد عن إعطائهم لضيق يد، فأحسن القول، وابسط العذر، وادع لهم بسعة الرزق، وقل: إذا وجدت فعلت وأكرمت، فإن ذلك يعمل في مسرّة نفسه عمل المواساة.
١٣- الإنفاق في الإسلام: هو التوسط والاعتدال من غير بخل ولا إسراف، ولا تضييع المنفق عياله في المستقبل، أو ألا يبقى من يأتي بعد ذلك لا شيء له، فإن الإسراف وإتلاف المال بغير حق يوقع المسرف في الحسرة والندامة والملامة.
والملوم: الذي يلام على إتلاف ماله، أو يلومه من لا يعطيه.
١٤- إن الله أعلم بمصالح عباده وبأحوالهم، فيرزق من يشاء، ويمنع من يشاء على وفق الحكمة والمصلحة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٩]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩)
الإعراب:
وَساءَ سَبِيلًا نصب على التمييز، التقدير: وساء سبيله سبيلا، أي لأنه يؤدي إلى النار.
إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً الهاء إما أن تعود على القتل أو على المقتول أو على الولي.
وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً منصوب على المصدر، ومن قرأ: مَرَحاً بكسر الراء كان منصوبا على الحال.
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كُلُّ: مبتدا، وذلِكَ: إشارة إلى المذكور المتقدم من قوله تعالى: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع. وسَيِّئُهُ: اسم كانَ، ومَكْرُوهاً: خبر كانَ. وعِنْدَ رَبِّكَ ظرف حشو، أو أنه خبر كانَ أي كائنا عند ربك مكروها، ومَكْرُوهاً: حال من المضمر في الظرف. ومن قرأ: سَيِّئُهُ بالتنوين، جعل اسم كانَ ضميرا يعود إلى كُلُّ وسَيِّئُهُ: خبرها، ومَكْرُوهاً:
صفة ثانية. وقال: مكروها لا مكروهة لأن تأنيث السيئة مجازي غير حقيقي، أو أنه خبر آخر لكان، وذكّره لأن ضمير كُلُّ مذكر، ويكون عِنْدَ رَبِّكَ متعلقا بقوله: مَكْرُوهاً.
البلاغة:
وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى أبلغ من القول: لا تأتوه، أو لا تزنوا.
كُلُّ أُولئِكَ عبر عن السمع والبصر والفؤاد بأولئك لأنها حواس لها إدراك، وجعلها مسئولة، فهي حالة من يعقل، فعبر عنها بأولئك.
المفردات اللغوية:
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ بالوأد خَشْيَةَ إِمْلاقٍ خوف الفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ قدّم هنا رزق الأبناء على رزق الآباء لأن قتل الأولاد كان خشية وقوع الفقر بسببهم، فقدم رزقهم، وفي سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [١٥١] قدم رزق الآباء على رزق الأولاد، لأن قتلهم كان بسبب فقر الآباء خِطْأً إثما كَبِيراً عظيما.
فاحِشَةً فعلة قبيحة ظاهرة القبح وَساءَ سَبِيلًا بئس طريقا هو، لأنه اعتداء على الأعراض، وغصب الأبضاع المؤدي إلى اختلاط الأنساب وقطعها، وتهييج الفتن لِوَلِيِّهِ لوارثه سُلْطاناً تسلطا على القاتل بمؤاخذته على القتل، بإشراف الحاكم وحكمه، أو بالقصاص من القاتل، فإن قوله تعالى: مَظْلُوماً يدل على أن القتل قتل عمد عدوان لأن الخطأ لا يسمى ظلما فَلا يُسْرِفْ يتجاوز الحد المشروع فِي الْقَتْلِ بأن يقتل غير القاتل، أو بغير ما قتل به، أو أكثر من شخص، منعا لعادة الأخذ بالثأر في الجاهلية.
بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريق التي هي أحسن وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ عهد الله أي تكاليفه، أو عهد الناس الذي تبرمونه معهم إبراما موثقا مؤكدا مَسْؤُلًا عنه، ومطلوبا من المعاهد ألا يضيعه ويفي به وَأَوْفُوا الْكَيْلَ أتموه بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ الميزان السوي أو العدل
مَرَحاً فخرا وتكبرا، أو ذا مرح بالكبر والخيلاء لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ تثقبها حتى تبلغ آخرها بكبرك أو لن تجعل فيها طرقا بشدة ووطأتك وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تبلغ هذا المبلغ، فكيف تختال؟! كُلُّ ذلِكَ المذكور من قوله: وَقَضى رَبُّكَ إلى هذا الموضع مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ يا محمد مِنَ الْحِكْمَةِ هي معرفة الحق سبحانه لذاته، والخير والموعظة للعمل بهما.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرره للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه، فإن من لا قصد له لا يقبل عمله، ومن قصد بفعله أو تركه غير التوحيد، ضاع سعيه، وأنه- أي التوحيد- رأس الحكمة وملاكها مَلُوماً تلام نفسك مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله. ثم رتب على الشرك نتيجته في الآخرة، وهو الإلقاء في جهنم.
المناسبة:
بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا هي (التوحيد، والاشتغال بعبادة الله بإخلاص والاحتراز عن عبادة غير الله، والإحسان إلى الوالدين والتواضع لهما، وإيتاء ذوي القربى والمساكين وأبناء السبيل، والقول الميسور) ثم ذكر أدب الإنفاق وهو التوسط دون إسراف ولا تقتير، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء وهي (النهي عن الزنى، وعن القتل إلا بالحق، وعن قربان مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن).
ثم أتبعه بأوامر ثلاثة: هي الوفاء بالعهد، وإيفاء الكيل، ووزن الميزان بالقسط أو العدل. ثم نهى عن ثلاثة أشياء: اتباع ما لا علم له به، والتكبر والخيلاء، واتخاذ الشركاء آلهة مع الله.
والخلاصة: أنه تعالى جمع في هذه الآيات وما قبلها خمسة وعشرين نوعا من التكاليف وهي ما يأتي، مبتدئا بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك، مختتما به
١- نبذ الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
٢، ٣- الأمر بعبادة الله، والنهي عن عبادة غير الله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ.
٤- الإحسان إلى الوالدين: وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً.
٥، ٩- نواحي الإحسان للوالدين وهي خمسة: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ، وَلا تَنْهَرْهُما، وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً، وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَقُلْ: رَبِّ ارْحَمْهُما.
١٠، ١٢- إيتاء المستضعفين الثلاثة: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ.
١٣- عدم التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً.
١٤- القول الميسور: فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً.
١٥- عدم البخل والتقتير: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ.
١٦- تحريم وأد البنات أو قتل الأولاد: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ.
١٧- تحريم القتل إلا بالحق: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ.
١٨- حق الولي في القصاص: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.
١٩- تحريم الإسراف في القصاص: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ.
٢١- إيفاء الكيل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ.
٢٢- الوزن بالعدل: وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ.
٢٣- عدم اتباع الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.
٢٤- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً.
٢٥- تحريم الشرك: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.
التفسير والبيان:
هذا هو النوع الخامس من الطاعات المذكورة في هذه الآيات التي تبين دعائم المجتمع الإسلامي «١»، وهو تحريم وأد البنات، فبعد أن بيّن تعالى كيفية البر بالوالدين، بيّن كيفية البر بالأولاد.
والمعنى: ولا تقتلوا بناتكم خوف الفقر أو العار، فنحن نرزقهم لا أنتم، ونرزقكم أيضا، إن قتلهم خوف الفقر أو العار كان إثما وذنبا عظيما، وخطأ جسيما. وقدم الإخبار برزق الأولاد هنا لأنه خاطب الموسرين منهم وذكر الاهتمام برزقهم، وقدم الإخبار برزق الآباء في سورة الأنعام نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ [١٥١] لأنه خاطب الفقراء، ونهاهم عن قتلهم من فقر، فالأرزاق للآباء والأولاد بيد الله، وقتل الأولاد خوف الفقر من سوء الظن بالله، وإن كان خوف العار، والغيرة على البنات، فهو سعي في تخريب العالم.
والآية دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالد بولده لأنه نهى عن قتل الأولاد، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث. وكان أهل الجاهلية لا يورثون
جاء في الصحيحين عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله ندّا وهو خلقك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك، قلت: ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك».
النوع السادس- تحريم الزنى: وبعد أن أمر الله تعالى بالأشياء الخمسة المتقدمة، أتبعه بالنهي عن ثلاثة أشياء هي الزنى والقتل وأكل مال اليتيم، وبدأ بتحريم الزنى، لأنه نوع من الإسراف، عقب النهي عن قتل الأولاد الذي هو مظهر من مظاهر البخل، فقال سبحانه: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى، إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا أي لا تقتربوا من الزنى، ولا من أسبابه ودواعيه لأن تعاطي الأسباب مؤد إليه، والزنى فعلة فاحشة شديدة القبح، وذنب عظيم، وساء طريقا ومسلكا لأن فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، واقتحام الحرمات، والاعتداء على حقوق الآخرين، وتقويض دعائم المجتمع بهدم الأسرة، ونشر الفوضى، وفتح باب الاضطراب، وانتشار الأمراض الفتاكة، والوقوع في الفقر والذل والهوان. قال القفال: إذا قيل للإنسان: لا تقرب هذا، فهذا آكد من أن يقول له: لا تفعله، ثم إنه تعالى علل هذا النهي بكونه فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا.
أخرج ابن أبي الدنيا عن الهيثم بن مالك الطائي مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له».
وقال: «اللهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وأحصن فرجه»
فلم يكن ذلك الفتى بعد يلتفت إلى شيء.
أما بلاد الشرق والغرب التي تبيح الزنى ولو علانية، فإنها لا تهتم باختلاط الأنساب، ولا بما يسمى بالعرض، فقد رفع هذا من القيم الأخلاقية عندهم، وجعلوا الاستمتاع بالمرأة كالطعام والشراب، وهذا نذير سوء، وقلب للأوضاع، ونكسة في الفطرة الإنسانية.
وقد وصف الله تعالى الزنى بصفات ثلاث: كونه فاحشة، ومقتا في آية أخرى، وساء سبيلا. أما كونه فاحشة: فلاشتماله على فساد الأنساب الموجبة لخراب العالم، ولاشتماله على التقاتل والتواثب على الفروج، وهو أيضا يوجب خراب العالم. وأما المقت: فلأن الزانية تصير ممقوتة مكروهة، حتى في الأوساط المتحللة، وذلك يوجب عدم السكن والازدواج، وأن لا يعتمد الإنسان عليها في شيء من مهماته ومصالحه. وأما أنه ساء سبيلا: فلأنه لا يبقى فرق بين الإنسان وبين البهائم في عدم اختصاص الذكور بالإناث، وأيضا يبقى ذل هذا العمل وعيبه وعاره على المرأة، من غير أن يصير مجبورا بشيء من المنافع «١».
النوع السابع- تحريم القتل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ... هذا هو ثاني الأمور المنهي عنها، وسابع أحكام المجتمع، وناسب ذكره بعد الزنى لأن الزنى يؤدي إلى عدم وجود الإنسان، ويقلل من النسل البشري، أما القتل فيهدم وجود الإنسان، وهو إعدام الناس بعد وجودهم، وهو حرام لكونه اعتداء على خلق
ومعنى الآية: ولا تقتلوا النفس الإنسانية التي حرم الشرع قتلها إلا إذا كان بحق شرعي، وهو أحد أمور ثلاثة: كفر بعد إيمان (ردة) وزنى بعد إحصان، وقتل معصوم الدم عمدا،
ثبت في الصحيحين وغيرهما عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة».
وثبت في السنن للترمذي والنسائي عن ابن عمرو: «لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم».
فالقتل بغير حق جريمة عظمي لأنه إفساد والله تعالى لا يحب الفساد، وضرر واعتداء، وإخلال بالأمن، وإحداث للاضطراب في المجتمع، وسبيل لانقراض الإنسانية.
وبعد أن استثنى الله تعالى من تحريم القتل حالة القتل بالحق بقوله: إِلَّا بِالْحَقِّ أثبت الحق في تنفيذ القصاص بإشراف الدولة لولي الدم، مع تقييده بحصر القتل في القاتل نفسه دون غيره، فقال: وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.. أي ومن قتل ظلما وعدوانا بغير حق يوجب قتله، فقد جعلنا لمن يلي أمره من وارث أو سلطان حاكم عند عدم الوارث سلطة على القاتل ومنحه الخيار بأحد أمرين: إما القصاص (القود) منه بعد حكم قضائي وبإشراف القاضي، وإما العفو عنه على الدية أو مجانا كما ثبت في السنة، لقوله تعالى:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى [البقرة ٢/ ١٧٨]
وقوله صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أبو داود والنسائي عن أبي شريح الخزاعي: «من قتل له قتيل بعد مقالتي هذه، فأهله بين خيرتين: إما أن يأخذوا العقل- الدية- أو يقتلوا».
لا تسرف أيها الولي في استيفاء القتل، فإنك معان منصور على القاتل شرعا وقدرا، حيث وجب لك القصاص، ويعوضك الله خيرا في الدنيا والآخرة، بتكفير الخطايا، وتعذيب القاتل في النار.
والمقصود بذلك: أن الأولى ألا يقدم ولي الدم على استيفاء القتل، وأن يكتفي بأخذ الدية، أو يعفو مجانا لقوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ [البقرة ٢/ ١٧٨] وقوله سبحانه: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة ٢/ ٢٣٧].
النوع الثامن- تحريم أكل مال اليتيم:
وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ.. بعد أن حرم الله تعالى إتلاف الأنفس حرم إتلاف الأموال، والمعنى لا تتصرفوا في مال اليتيم ولا تقربوا منه أكلا وإتلافا إلا بما يحقق الفائدة أو المصلحة الظاهرة لليتيم، وهي الطريقة الحسنى بحفظ ماله وتثميره حتى يبلغ رشيدا، ويبلغ أشده مبلغ الرجال، ويكتمل عقله، فالمراد بالأشد: بلوغه إلى سن يتمكن فيه بسبب عقله ورشده القيام بمصالح ماله، وعند الرشد تزول ولاية غيره عنه، وهو حد البلوغ رشيدا. فإن بلغ غير عاقل أو غير رشيد، بقيت الولاية السابقة عليه. وبلوغ العقل: هو أن يكمل عقله وقواه الحسية والحركية.
ونظير الآية: وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا، وَمَنْ كانَ غَنِيًّا
[النساء ٤/ ٦]. فيجوز لولي اليتيم إذا كان فقيرا أن يأخذ شيئا من مال اليتيم للحاجة بقدر المعروف.
ولما نزلت آية وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ شق ذلك على الصحابة، فكانوا لا يخالطون اليتامى في طعام ولا غيره، مما أدى إلى إهمال شؤون الأيتام، فأنزل الله تعالى: وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ، وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ [البقرة ٢/ ٢٢٠].
النوع التاسع- الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا: بعد أن أمر الله تعالى بخمسة أشياء أولا، ثم نهى عن ثلاثة أشياء (الزنى، والقتل إلا بالحق، وقربان مال اليتيم) أمر بأوامر ثلاثة: أولها- الوفاء بالعهد، والمعنى: وفّوا بالعهد الذي تعاهدون عليه الناس، وبالعقود التي تعاملونهم بها، فإن العهد والعقد، كل منهما يسأل صاحبه عنه، ونظير الآية:
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ [المائدة ٥/ ١] فالعهد فضيلة وميثاق، والعقد التزام وارتباط، والإخلال بالعهد خيانة ونفاق، والتحلل من العقد إهدار للثقة وتضييع للحقوق، فيجب شرعا الوفاء بالعهد، وتنفيذ مقتضى العقد، فمن أخلف بوعده، ولم يوف بعهده، ولم ينفذ التزام عقده، وقع في الإثم والمعصية، وأخل بمقتضى الإيمان والدين، والعهد: أمر عام يشمل كل ما بين الإنسان وبين الله والنفس والناس. والعقد: كل التزام يلتزمه الإنسان، كعقد اليمين والنذر، وعقد البيع والشركة والإجارة والصلح والزواج.
وكل عقد لأجل توثيق الأمر وتوكيده، فهو عهد.
لذا تواردت الآيات الدالة على وجوب الوفاء بالعهود والعقود، كقوله تعالى: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا [البقرة ٢/ ١٧٧] وقوله: وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ [المؤمنون ٢٣/ ٨، المعارج ٧٠/ ٣٢] وقوله: وَأَحَلَّ اللَّهُ
[البقرة ٢/ ٢٧٥] وقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ [النساء ٤/ ٢٩].
والوفاء بالعهد أو بالعقد: تنفيذ مقتضاه، والحفاظ عليه على الوجه الشرعي، وعلى وفق التراضي الذي لا يصادم الشرع.
النوع العاشر- إيفاء الكيل والوزن بالعدل: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ، وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ... هذا هو الأمر الثاني من الأوامر الثلاثة المذكورة في هذه الآية، وهو إتمام الكيل وإتمام الوزن، أي أتموا الكيل من غير تطفيف ونقص، وأتموا الوزن بالعدل دون جور أو حيف، فإن كلتم لأنفسكم أو وزنتم فلا تزيدوا في الكيل أو الوزن، ولا مانع إن نقصتم عن حقكم. ذلِكَ خَيْرٌ.. أي فإن عاقبة الوفاء بالعهد وإيفاء الكيل والوزن بالعدل خير لكم في الدين والدنيا في معاشكم ومعادكم، وأحسن مآلا ومنقلبا في آخرتكم، فلا تؤاخذون أو تعاقبون يوم القيامة، ويرغب الناس في معاملتكم، ويثنون عليكم، ولا تتعرضون لإساءة السمعة، أو عقاب السلطة، فقد ثبت بالتجربة أن التاجر الثقة الصدوق هو المحبوب الرابح الذي يقبل عليه الناس، وأن التاجر الذي يطفف الكيل أو الوزن هو المنبوذ المبغوض الخاسر الذي يعرض الناس عنه.
وقد وردت آيات كثيرة في معنى هذه الآية، منها وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ، وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ [الرحمن ٥٥/ ٩] ومنها: وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ [هود ١١/ ٨٥] ومنها: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ
[سورة المطففين ٨٣/ ١- ٣].
وكل من الوفاء بالعقود والعهود وإتمام الكيل والميزان قاعدة حضارية اجتماعية سامية، وأساس راسخ ضروري في صرح التعامل بين الناس، يؤدي إلى
النوع الحادي عشر- التخمين وسوء الظن: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ.. أي أنه تعالى بعد بيان الأوامر الثلاثة عاد إلى ذكر النواهي، فنهى عن ثلاثة أشياء:
أولها- القول بالحدس والتخمين وسوء الظن، فهذا عيب في السلوك، وتشوية للحقائق، وطعن في الآخرين بغير حق، وإهدار لقدسية العلم والحقيقة. والمعنى: ولا تتبع ولا تقتف مالا علم لك به من قول أو فعل، والمقصود النهي عن الحكم على الأشياء بما لا يكون معلوما علما صحيحا، ولا دليل عليه.
وهذا يشمل نهي المشركين عن الاعتقاد الفاسد في القضايا الإلهية والنبوات، بسبب تقليد أسلافهم، واتباع الهوى: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [النجم ٥٣/ ٢٣].
ويشمل أيضا شهادة الزور وقول الزور، والقذف ورمي المحصنين والمحصنات (العفائف) بالأكاذيب، والكذب والبهتان والافتراء، والطعن في الآخرين بالظن وتتبع العورات، وتزييف الحقائق العلمية والأخبار وغير ذلك، فلا يصح لإنسان أن يقول مالا يعلم، أو يعمل بما لا علم له به، أو أن يذم أحدا بما لا يعلم.
وقد شاع هذا الخلق المذموم بين المسلمين، وصار التحدث بغير علم ولا معرفة ولا ثقة ظاهرة منتشرة بسبب ضعف الدين والإيمان، وتفسخ الأخلاق، وانحلال القيم، واتباع الأهواء، وضعف النفوس والانغماس في المادة، وتحلل القيم.
لذا حذر القرآن من تلك الظاهرة المرضية، فقال تعالى: إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ... أي إن مفاتيح العلوم والمعارف من السمع والبصر وهما واسطة العلوم الحسية والتجريبية، والفؤاد وبه تتحصل العلوم العقلية، يسأل عنها صاحبها يوم القيامة، وتسأل عنه، فإذا سمع الإنسان ما لا يحل له سماعه،
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة: «إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث».
بل إن هذه الأدوات تسأل عن صاحبها بأن يخلق الله فيها الحياة، ثم تشهد على الإنسان، بدليل قوله تعالى: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [النور ٢٤/ ٢٤].
قال ابن عباس: لا تشهد إلا بما رأت عيناك، وسمعته أذناك، ووعاه قلبك. وقال قتادة: لا تقل: سمعت ولم تسمع، ولا رأيت ولم تر، ولا علمت ولم تعلم.
النوع الثاني عشر- تحريم التكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً... هذا هو الأمر الثاني المنهي عنه هنا، وهو تحريم الكبر والتجبر والتبختر في المشية، والمعنى: ولا تمش في الأرض مرحا أي متبخترا متمايلا مشي الجبارين، فذلك المشي يدل على الكبرياء والعظمة، إنك لن تخرق الأرض أي تنقبها أو تقطعها بمشيك إذا سرت عليها، ولن تبلغ الجبال طولا، أي لن تصل بتطاولك وتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك إلى قمم الجبال، وهذا تهكم بالمتكبر والمختال.
بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده، كما
ثبت في صحيح مسلم: «بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم، وعليه بردان يتبختر فيهما، إذ خسف به الأرض، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة»
وأخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على
وفي الحديث الحسن الذي رواه أبو نعيم في الحلية عن أبي هريرة من تواضع لله رفعه الله»
فهو في نفسه حقير، وعند الله كبير.
ونظير الآية قوله تعالى: وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً [الفرقان ٢٥/ ٦٣] وقوله سبحانه: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ [لقمان ٣١/ ١٩].
خاتمة معبرة:
كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً كل ما تقدم من الخصال القبيحة المفهومة من الأوامر والنواهي، وهي خمس وعشرون، من قوله: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ إلى هنا، كان سيئه أي قبيحه مكروها عند ربك، أي مبغوضا عنده، ومنهيا عنه، ومعاقبا عليه، وإن كان مرادا له تعالى بالإرادة التكوينية التي لا تستدعي الرضا منه سبحانه، كما
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن».
وكلمة ذلِكَ تصلح للواحد والجمع والمؤنث والمذكر.
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي ذلك الذي أمرناك به من الأخلاق الحميدة، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة، هو مما أوحينا إليك يا محمد من أصول الشريعة والدين، والحكم به، لتأمر به الناس، والمراد بالحكمة: التكاليف المذكورة.
وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ.. لا تتخذ إلها آخر شريكا مع الله، فتعاقب بالإلقاء في جهنم ملوما: تلومك نفسك، ويلومك الله والخلق، مدحورا، أي مطرودا مبعدا من رحمة الله تعالى ومن كل خير.
والخطاب في هذه الآية للأمة، بواسطة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فإنه معصوم فيكون
أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إن التوراة كلها في خمس عشرة آية من سورة بني إسرائيل، ثم تلا: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الآية. أو إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام، وأولها:
لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وقد رتب الله تعالى على الإشراك وترك التوحيد في البداية كون الشخص مخذولا، وفي آخر الآيات كونه ملوما مدحورا، فثبت أن أول الأمر يصبر مخذولا، وآخره أن يصير مدحورا. والمخذول: ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، والمدحور: إهانته والاستخفاف به.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات الأحكام التالية:
١- تحريم وأد البنات خشية الفقر أو العار أو غير ذلك مطلقا.
٢- تحريم الاقتراب من الزنى ودواعيه وأسبابه التي تؤدي إليه عادة.
٣- تحريم قتل النفس بغير حق شرعي. وللولي الوارث سلطة استيفاء القصاص من القاتل وحده دون غيره، بغير تمثيل ولا قتل غير القاتل، فإنه معان عليه بظهور الحجة تارة وباستيفائها أخرى، وبمجموعها ثالثة، فأيها كان فهو نصر من الله سبحانه وتعالى.
٥- وجوب الوفاء بالعهد فالإنسان مسئول عنه، قال الزجاج: كل ما أمر الله به ونهى عنه فهو من العهد.
٦- إيفاء الكيل وإتمام الوزن بالحق والعدل دون بخس ولا زيادة ولا نقص، فذلك خير للإنسان عند ربه وأبرك، وأحسن عاقبة.
قال الحسن البصري: ذكر لنا أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «لا يقدر رجل على حرام، ثم يدعه، ليس لديه إلا مخافة الله تعالى إلا أبدله الله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك».
٧- عدم اتباع مالا يعلم به الإنسان ولا يعنيه، قال مجاهد: لا تذمّ أحدا بما ليس لك به علم. لكن يجوز الحكم بالقيافة لأن الآية وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ دل على جواز مالنا به علم، فكل ما علمه الإنسان أو غلب على ظنه، جاز أن يحكم به.
ويجوز أيضا إثبات الشيء بالقرعة، والخرص (التقدير والتخمين) لأنه نوع من غلبة الظن، فالقائف يلحق الولد بأبيه من طريق الشبه بينهما، كما يلحق الفقيه الفرع بالأصل من طريق الشبه. وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم العمل بالقيافة في إثبات نسب أسامة وكان أسود، من زيد بن حارثة وكان أبيض،
ثبت في صحيح مسلم عن عائشة: أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم دخل عليّ مسرورا، تبرق أسارير وجهه، فقال: «ألم تري أن مجززا- وكان قائفا- نظر إلى زيد بن حارثة وأسامة بن زيد، عليهما قطيفة، قد غطّيا رؤوسهما، وبدت أقدامهما، فقال:
«إن بعض هذه الأقدام لمن بعض».
واستدل جمهور العلماء على القيافة عند التنازع في الولد بسرور النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقول هذا القائف.
٨- يسأل كل واحد من السمع والبصر والفؤاد عما اكتسب، فالفؤاد يسأل عما افتكر فيه الإنسان واعتقده، والسمع والبصر عما رأى من ذلك وسمع.
٩- النهي عن الخيلاء وتحريمه، والأمر بالتواضع والحض عليه. وذكر القرطبي أن إقبال الإنسان على الصيد ونحوه ترفعا دون حاجة إليه داخل في هذه الآية، وفيه تعذيب الحيوان.
١٠- استدل العلماء بهذه الآية: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً على ذم الرقص وتعاطيه، قال الإمام أبو الوفاء بن عقيل: قد نص القرآن على النهي عن الرقص، فقال: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً وذمّ المختال. والرقص أشد المرح والبطر. قال القرطبي: أو لسنا الذين قسنا النبيذ على الخمر لاتفاقهما في الإطراب والسكر، فما بالنا لا نقيس القضيب وتلحين الشّعر معه على الطّنبور والمزمار والطبل لاجتماعهما «١».
١١- هذه الآداب والقصص والأحكام التي تضمنتها الآيات المتقدمة التي نزل بها جبريل تقتضيها حكمة الله عز وجل في عباده، وخلقها لهم من محاسن الأخلاق والحكمة وقوانين المعاني المحكمة والأفعال الفاضلة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٠ الى ٤٤]
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
البلاغة:
أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ؟ الهمزة للإنكار والتوبيخ.
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ وارد على سبيل الفرض والاحتمال.
المفردات اللغوية:
أَفَأَصْفاكُمْ اختاركم وخصكم يا أهل مكة، والإصفاء: جعله خالصا له إِناثاً بنات لنفسه بزعمكم لَتَقُولُونَ بذلك قَوْلًا عَظِيماً عظيم الإنكار، بإضافة الأولاد إليه صَرَّفْنا بينا فِي هذَا الْقُرْآنِ من الأمثال والوعد والوعيد لِيَذَّكَّرُوا يتعظوا ويتذكروا وَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً وما يزيدهم ذلك إلا نفورا عن الحق وقلة طمأنينة إليه، والنفور: البعد عن الشيء.
قُلْ لهم أي للمشركين لَوْ كانَ مَعَهُ أي مع الله لَابْتَغَوْا طلبوا إِلى ذِي الْعَرْشِ أي الله سَبِيلًا طريقا، وللكلام معنيان: الأول- هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى، لغلب بعضهم بعضا، والثاني- لو كانت هذه الأصنام كما تقولون أيها الكفار من أنها تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضا قربة إلى الله تعالى، وسبيلا إليه، وأعدت لأنفسها المراتب العالية، فلما لم تقدر على اتخاذ سبيل لأنفسها إلى الله، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله؟!
تُسَبِّحُ لَهُ تنزهه وَإِنْ ما مِنْ شَيْءٍ من المخلوقات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ إلا ينزهه تنزيها مقترنا بحمده، فيقول: سبحان الله وبحمده لا تَفْقَهُونَ لا تفهمون تَسْبِيحَهُمْ لأنه ليس بلغتكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وشرككم، غفورا لمن تاب منكم.
المناسبة:
بعد أن حذر الله تعالى من الشرك، نبّه إلى جهل من أثبت لله شريكا، وندّد بالمشركين وقرّع الذين أثبتوا لله ولدا، وجعلوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بعجزهم ونقصهم، ونسبوا البنات لله، مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، والجلال الذي لا غاية له، مما يدل على نهاية جهلهم.
ثم أبان أنه ضرب في القرآن الأمثال للناس ليتدبروا ويتأملوا فيها، وذكر أنه لو كانت هذه الأصنام تقرب إلى الله زلفى، لطلبت لنفسها القربة إلى الله، ولكنها لم تفعل ذلك، فبان خطؤهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله، وتبين إبطال تعدد الآلهة، وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له، لأن كل ما في الكون تدل أحواله على توحيد الله وتقديسه وعزته، ولكنكم بسبب الجهل والغفلة لا تدركون دلالة تلك الأدلة.
التفسير والبيان:
بعد أن فند الله تعالى زعم من نسب لله شريكا، شنع هنا على من نسب له الولد، وردّ الله تعالى في هذه الآية على المشركين الذين جعلوا الملائكة إناثا، ثم ادعوا أنهن بنات الله، ثم عبدوهن، مقرعا لهم ومنكرا عليهم، ومبينا خطأهم العظيم قائلا: أيكرمكم ربكم فيخصكم بالذكور من الأولاد، ويختار لنفسه على
تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم ٥٣/ ٢٢] أي جائرة.
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً، لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا، تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ، وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً، وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً، لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا، وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [مريم ١٩/ ٨٨- ٩٥].
ثم نبّه الله تعالى إلى كون هذه المناقشة وذلك الكلام غاية في الوضوح بقوله: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا... أي ولقد بينا في هذا القرآن الحجج والبينات والمواعظ، وأوضحنا الأمثال لهم، وحذرنا وأنذرنا ليتعظوا وينزجروا عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك، وهم مع ذلك ما يزيدهم التذكير إلا نفورا عن الحق وبعدا عنه.
ثم رد الله تعالى على المشركين الذين يتخذون شريكا لله، فقال:
قُلْ: لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ... قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يزعمون أن لله شريكا من خلقه، ويتخذون مع الله إلها آخر: لو كان الأمر كما تقولون، وأن الله معه آلهة تعبد لتقرب إليه، وتشفع لديه، لكان أولئك المعبودون المتخذون آلهة يعبدونه، ويتقربون إليه، ويبتغون إليه الوسيلة والقربة بعبادتهم، فاعبدوه أنتم وحده، كما يعبده من تدعونه من دونه، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه، فإنه تعالى لا يحب ذلك ولا يرضاه، بل يكرهه ويأباه، وقد نهى عن ذلك على ألسنة أنبيائه ورسله، ثم نزه نفسه الكريمة عن ذلك فقال:
وفي وصف العلو بالكبر إشارة إلى وجود التغاير المطلق بين ذاته وصفاته تعالى، وبين نسبة الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد إليه، لوجود المنافاة بين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج، منافاة لا يتصور الزيادة عليها، كما قال تعالى: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ، وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا، أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً [مريم ١٩/ ٩٠- ٩١].
ثم أبان الله تعالى مبلغ عظمته فقال: تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ... أي تقدسه وتنزهه السموات السبع والأرض ومن فيهن من المخلوقات عما يقول هؤلاء المشركون، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وألوهيته، وما من شيء من المخلوقات (الحيوانات والجمادات والنباتات) إلا يسبح بحمد الله تعالى، أي يشهد ويدل بخلقه من غيره على وجوب وجود الله تعالى الخالق لكل الأكوان، فالتسبيح من الناس هو قولهم: سبحان الله، وهذا حقيقة، ومن الجمادات وغيرها: معناه الدلالة على تنزيه الله تعالى، وهذا مجاز. وقال بعضهم: إنه حقيقة أيضا.
وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي ولكن لا تفهمون أيها البشر تسبيحهم، لأنه بخلاف لغاتكم، كما ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود أنه قال: كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. وقال قتادة: كل شيء فيه روح يسبح، من شجر أو غيره.
إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً إنه تعالى كان وما يزال حليما لا يعاجل بالعقوبة من عصاه، وإنما يمهل ويؤجل، ويغفر لمن تاب منكم.
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن نسبة الملائكة بجعلها بنات الله افتراء كبير وقول عظيم الإثم عند الله عز وجل. وهذا تنديد بقول بعض العرب الذين قالوا: الملائكة بنات الله.
٢- بالرغم من بيان القرآن الشافي للحجج والبينات الدالة على توحيد الله ووحدانيته المطلقة، والاتعاظ بما فيها، فإن المشركين المعاندين الظالمين لا يزدادون بعد هذا البيان إلا التباعد عن الحق، والغفلة عن النظر والاعتبار، لسوء نظرهم وخلل تفكيرهم، واعتقادهم في القرآن أنه حيلة وسحر، وكهانة وشعر.
٣- لو كان هناك آلهة شفعاء مع الله كما يزعم المشركون، لكانت هذه الآلهة بحاجة إلى التقرب إلى الله، بالعبادة والتعظيم، لتجعل لنفسها مكانة عند الله، وتلتمس الزّلفة عنده، لأنهم دونه، والمشركون اعتقدوا أن الأصنام تقرّبهم إلى الله زلفى، فإذا اعتقدوا في الأصنام أنها محتاجة إلى الله سبحانه وتعالى، فقد بطل أنها آلهة، وكان الأحرى بعبدتها أن يعبدوا الإله الحقيقي وهو الله جل جلاله.
وهذا ردّ على عباد الأصنام، كما أن الآية الأولى ردّ على الذين يجعلون الملائكة بنات الله.
٤- ما من مخلوق في السموات والأرض إلا يسبح بحمد الله تعالى، وتسبيح البشر العقلاء هو حقيقة بأن يقولوا: سبحان الله أي تنزيها لله تعالى وتمجيدا وتقديسا، وتسبيح غير البشر مجاز، والمراد به تسبيح الدلالة أي دلالة هذه المخلوقات بذاتها على وجود الإله الخالق، فكل محدث يشهد على نفسه بأن الله عز وجل خالق قادر. وقالت طائفة: هذا التسبيح أيضا حقيقة، وكل شيء بصفة
وهو رأي المذاهب الأربعة.
أخرج أحمد وابن مردويه عن ابن عمر: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن نوحا عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه: آمر كما بسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق كل شيء».
والخلاصة:
إن الرازي وجماعة يرون أن تسبيح الجمادات مجاز وهو تسبيح الدلالة، وأن القرطبي وآخرين يرون أن كل شيء من الموجودات على الصحيح يسبح، للأخبار الدالة عليه، ولو كان ذلك التسبيح تسبيح دلالة فأي تخصيص لداود؟ كما حكى القرآن: وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ [ص ٣٨/ ١٧- ١٨] وإنما ذلك تسبيح المقال بخلق الحياة والإنطاق بالتسبيح، وقد نصت السنة على ما دلّ عليه ظاهر القرآن من تسبيح كل شيء، فالقول به أولى.
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم- فيما رواه ابن ماجه ومالك عن أبي سعيد الخدري-: «لا يسمع صوت المؤذن جنّ ولا إنس ولا شجر ولا حجر ولا مدر ولا شيء إلا شهد له يوم القيامة».
٥- من صفات الله السامية أنه حليم عن ذنوب عباده في الدنيا، غفور للمؤمنين في الآخرة إذا تابوا وأنابوا إليه، وحلمه أنه لا يعاجل المشركين بالعقوبة على غفلتهم وسوء نظرهم وجهلهم بالتسبيح والشرك.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٨]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨)
الإعراب:
حِجاباً مَسْتُوراً أي ذا ستر، على النّسب، مثل: امرأة حائض وطالق وطامث أي ذات حيض وطمث وطلاق، أو بمعنى ساتر، فيجيء مفعول بمعنى فاعل، كما يجيء فاعل بمعنى مفعول، مثل: سرّ كاتم، وماء دافق، أي سر مكتوم، وماء مدفوق. وَحْدَهُ مصدر وقع موقع الحال، أي واحدا.
وَإِذْ هُمْ نَجْوى إما جمع نجيّ، كجريح وجرحى، وقتيل وقتلى، وإما مصدر، مثل قوله تعالى: ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة ٥٨/ ٧].
إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِذْ بدل من إِذْ قبله.
المفردات اللغوية:
حِجاباً وحجبا: أي منعا من الوصول إلى الشيء، والمراد: حاجبا. مَسْتُوراً أي ساترا لك عنهم، فلا يرونك. أَكِنَّةً أغطية، جمع كنان. أَنْ يَفْقَهُوهُ أي منعناهم أن يفهموه، أو كراهة أن يفهموه. وَقْراً ثقلا وصمما يمنعهم عن استماعه استماع تأمل في لفظه، وتدبر في معناه. وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم، قال الزمخشري: وحد يحد وحدا وحدة نحو وعد يعد وعدا وعدة، ووحده هنا: مصدر سادّ مسدّ الحال، أصله: يحد وحده بمعنى واحدا وحده.
مَسْحُوراً مخبول العقل، كقولهم: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ [المؤمنون ٢٣/ ٢٥].
كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ بالمسحور والكاهن والشاعر. فَضَلُّوا جاروا عن طريق الهدى.
فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا طريقا إليه.
سبب النزول:
نزول الآية (٤٥) :
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآية:
أخرج ابن المنذر عن ابن شهاب الزهري قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا تلا القرآن على مشركي قريش، ودعاهم إلى الكتاب قالوا يهزؤون به: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٥]، فأنزل الله في ذلك من قولهم: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ الآيات.
وروى ابن عباس: أن أبا سفيان، والنضر بن الحارث، وأبا جهل وغيرهم كانوا يجالسون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويستمعون إلى حديثه، فقال النضر يوما: ما أدري ما يقول محمد، غير أني أرى شفتيه تتحرك بشيء، وقال أبو سفيان: إني لأرى بعض ما يقوله حقا، وقال أبو جهل: هو مجنون، وقال أبو لهب: هو كاهن، وقال حويطب بن عبد العزّى: هو شاعر، فنزلت هذه الآية.
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آيات، وهي قوله في سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ، وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً [٥٧] وفي النحل: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ [١٠٨] وفي حم الجاثية: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ [٢٣] إلى آخر الآية
، فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين «١».
نزول الآية (٤٦) :
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ: قيل:
دخل ملأ قريش على أبي طالب يزورونه، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقرأ، ومرّ بالتوحيد، ثم قال:
يا معشر قريش، قولوا: لا إله إلا الله، تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، فولّوا، فنزلت هذه الآية.
قال أبو حيان: والظاهر أن الآية في حال الفارّين عند وقت قراءته القرآن، ومروره بتوحيد الله تعالى، والمعنى: إذا جاءت مواضع التوحيد، فرّ الكفار إنكارا له، واستبشاعا لرفض آلهتهم، واطراحها «١».
المناسبة:
بعد أن تكلّم الله تعالى في المسائل الإلهية، وجادل المشركين بضرب الأمثال لهم، تكلّم في هذه الآية فيما يتعلّق بتقرير النّبوة، والنّعي عليهم بعدم فهمهم للقرآن ونفورهم منه وهزئهم به، وإيذائهم النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، واتّهامهم له بأنه كاهن أو ساحر أو مجنون أو شاعر.
التفسير والبيان:
وإذا قرأت يا محمد القرآن على هؤلاء المشركين الذين لا يصدقون بالبعث ولا بالثواب والعقاب، جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، أي حائلا مانعا يمنع
ونظير الآية قوله تعالى: وَقالُوا: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ، وَفِي آذانِنا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت ٤١/ ٥].
والحجاب المستور أي الساتر، فهو يستر البصائر عن أن تبصر حقائق الأشياء، ومعنى جعل الأكنة على القلوب: أي جعل القلوب في الأكنّة، والأكنّة جمع كنان: الذي يغشى القلب، فصار التغليف والحيلولة دون الفهم من الظاهر والباطن والأعلى والأسفل، وأوصد الله الآذان وصمّها عن السّماع سماع وعي وفهم وتدبّر، فهم كانوا عقلاء سامعين فاهمين، والمراد بالآية منعهم عن الإيمان، ومنعهم عن سماع القرآن بحيث لا يقفون على أسراره، ولا يفهمون دقائقه وحقائقه، وذلك لتأصّل الشرك في نفوسهم، وعدم إعمال أفكارهم في حقائق الدّين.
وقد تقدّم ما روي أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم كان إذا قرأ القرآن، قام عن يمينه رجلان وعن يساره آخران من ولد قصيّ يصفّقون، ويصفرون، ويخلّطون عليه بالأشعار.
وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.. أي وإذا وحّدت الله في تلاوتك وقلت: لا إله إلا الله، ولم تقل: واللّات والعزّى، ولّوا أي أدبروا راجعين على أدبارهم نافرين نفورا، تكبّرا من ذكر الله وحده، كما قال تعالى: وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ [الزّمر ٣٩/ ٤٥] وذلك لأنهم مشركون، فإذا سمعوا بالتّوحيد نفروا.
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ.. نحن يا محمد أعلم بالنّحو الذي يستمعون به
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ.. أي تأمل يا محمد كيف مثّلوا لك الأمثال، وأعطوك الأشباه، فقالوا: هو مسحور، وهو شاعر مجنون، فحادوا عن سواء السّبيل، ولم يهتدوا إلى الحقّ لضلالهم، ولم يجدوا إليه مخلصا يتخلّصون من متاهة ما هم فيه من الضّياع. وهذا وعيد لهم وإيناس لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى ما يأتي:
١- الثّابت الذي دلّ عليه القرآن والسّيرة أن الله تعالى حجب رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم عن أبصار كفار قريش عند قراءة القرآن، فكانوا يمرّون به ولا يرونه.
٢- حجب الله القرآن عن أبصار المشركين وعقولهم وأفهامهم، وجعل على قلوبهم أغطية لئلا يفقهوه أو كراهية أن يفقهوه، أي أن يفهموا ما فيه من الأوامر والنّواهي، والحكم والمعاني، وجعل أيضا في آذانهم وقرا أي صمما وثقلا أن يسمعوه، وإذا ذكر النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ربه عند تلاوة القرآن فقال: لا إله إلا الله وحده، ولّى المشركون نافرين نفورا من سماع كلمة الحقّ والتّوحيد.
٣- الله تعالى أعلم بالنّحو الذي يستمع فيه المشركون إلى القرآن حين يقول الظالمون منهم كأبي جهل والوليد بن المغيرة وأمثالهما للناس لتنفيرهم عن النّبي:
ما تتبعون إلا رجلا مسحورا، قد خبله السّحر، فاختلط عليه أمره، يقولون بينهم متناجين: هو ساحر وهو مسحور، بعد أن قرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى التّوحيد،
وقال: «قولوا: لا إله إلا الله لتطيعكم العرب، وتدين لكم العجم»
فأبوا.
ساحر، وتارة مجنون، وتارة شاعر، فضلوا الطريق، فأصبحوا لا يستطيعون حيلة في صدّ النّاس عن النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وضلّوا عن الحقّ، فلا يجدون سبيلا إلى الهدى.
إنكار المشركين البعث والرّد عليهم
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٩ الى ٥٢]
وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
الإعراب:
أَإِذا كُنَّا عِظاماً عامل إِذا مقدّر، أي أإذا كنّا عظاما ورفاتا بعثنا؟ ولا يجوز أن يعمل فيه لَمَبْعُوثُونَ لأن ما بعد إن لا يعمل فيما قبلها. أَوْ خَلْقاً مصدر أو حال أي بعثا جديدا.
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ: يَوْمَ منصوب بفعل مقدر، تقديره: اذكروا يوم يدعوكم، أو نعيدكم يوم يدعوكم، دل عليه قوله تعالى: مَنْ يُعِيدُنا [الإسراء ١٧/ ٥١] فعلى التقدير الأول يكون مفعولا، وعلى التقدير الثاني يكون ظرفا، وهو أوجه الوجهين.
والباء في بِحَمْدِهِ للحال أي تستجيبون حامدين له.
البلاغة:
أَإِذا كُنَّا عِظاماً استفهام إنكاري. أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كرر الهمزة لتأكيد الإنكار، ثم أكّده بإنّ واللام، لإفادة قوة الإنكار.
قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً تعجيز وإهانة.
وَقالُوا أي قال المشركون منكرين للبعث. وَرُفاتاً بقايا ما تكسّر وبلي من كلّ شيء. قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي قل لهم يا محمد: كونوا أي شيء، حجارة أو حديدا، ولا تكونوا عظاما، فإنه يقدر على إحيائكم، والمعنى: أنكم تستبعدون أن يجدد الله خلقكم، ويردّه إلى حال الحياة، وإلى رطوبة الحي وغضاضته، بعد ما كنتم عظاما يابسة، مع أن العظام بعض أجزاء الحيّ، بل هي عمود خلقه الذي يبنى عليه سائره، فالله قادر على أن يردّها إلى حالتها الأولى.
ولو كنتم أبعد شيء عن الحياة ورطوبة الحي، بأن تكونوا حجارة يابسة، أو حديدا، مع أنها تتصف بالصّلابة، لكان الله قادرا على أن يردّكم إلى حال الحياة.
أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ يعني: أو خلقا مما يكبر عندكم عن قبول الحياة، ويعظم في زعمكم على الخالق إحياؤه، فإنه يحييه، وينفخ فيه الرّوح. مَنْ يُعِيدُنا إلى الحياة؟
فَطَرَكُمْ خلقكم. أَوَّلَ مَرَّةٍ ولم تكونوا شيئا لأن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل هي أهون. فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ سيحرّكون رؤوسهم تعجّبا واستهزاء. وَيَقُولُونَ
استهزاء. مَتى هُوَ أي البعث. أَنْ يَكُونَ قَرِيباً خبر أو ظرف أي في زمان قريب.
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ يناديكم من القبور على لسان إسرافيل. فَتَسْتَجِيبُونَ أي تجيبون الداعي.
بِحَمْدِهِ حال منهم، أي حامدين الله تعالى على كمال قدرته، أو منقادين لبعثه انقياد الحامدين عليه. وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا وتستقصرون مدة لبثكم في القبور كالذي مرّ على قرية، أو مدّة حياتكم، لما ترون من الهول.
المناسبة:
بعد أن تكلّم الله تعالى في الإلهيّات، ثم أتبعه بذكر شبهات المشركين في النبوّات، ذكر في هذه الآية شبهاتهم في إنكار البعث والمعاد والقيامة، وردّ عليها بما ينقضها.
ومن المعلوم أن مدار القرآن على المسائل الأربعة، وهي: الإلهيّات، والنّبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر.
وقال المشركون منكر والبعث والمعاد استفهام إنكار لذلك حين سماع القرآن وسماع أمر البعث: أإذا كنّا عظاما بالية في قبورنا، ورفاتا أي ترابا بسبب تكسر العظام وصيرورتها كالتّراب، أإنا لمبعوثون عائدون يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدما لا نذكر خلقا صحيحا جديدا كما كنّا قبل الممات، كما أخبر عنهم القرآن في موضع آخر: يَقُولُونَ: أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ؟ أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً، قالُوا: تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ [النازعات ٧٩/ ١٠- ١٢]. وقوله تعالى:
وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ، قالَ: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ، وَهِيَ رَمِيمٌ، قُلْ: يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس ٣٦/ ٧٨- ٧٩].
فأمر الله تعالى نبيّه أن يجيبهم بقوله:
قُلْ: كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً... أي قل يا محمد لهم: إن إعادة الميت إلى الحياة أمر يسير سهل، وهو أهون على الله من الخلق أول مرة، أي أهون في تصورنا وحكمنا على الأشياء وإلا فالخلق لأي شيء على الله يسير في أي حال لأن المادة المركبة إذا وجدت عناصرها وعرفت خواصها يسهل إحداث أشياء مماثلة لها، ولو فرض أنكم أيها المشركون كنتم أبعد شيء من الحياة، وأشدّ الأشياء صلابة من حجارة أو حديد إذ هما أشدّ امتناعا من العظام والرّفات عن قبول الحياة، أو أي خلق يعظم في تصوّركم وعقولكم كالسّماء والأرض والجبال عن قبول الحياة، فإن الله قادر على إحيائه وبعثه من جديد لأن المواد الجامدة متساوية في قبولها ما يطرأ عليها من حياة أو عقل إذ لو لم يكن هذا القبول والاحتمال قائما حاصلا، لما حصل العقل والحياة لها في أول الأمر، والله قادر على كل الممكنات، وعالم بجميع الجزئيات، فإعادة الحياة إلى تلك الأجزاء المادية ممكن قطعا، سواء صارت عظاما ورفاتا، أو صارت شيئا أبعد في تصور الحياة وقبولها، وهي أن تصير حجارة أو حديدا.
وبعد استبعاد الإعادة استبعدوا حدوثها كما قال تعالى:
فَسَيَقُولُونَ: مَنْ يُعِيدُنا؟.. أي فسيقولون لك يا محمد: من يعيدنا إلى الحياة إذا كنّا حجارة أو حديدا أو خلقا آخر شديدا، فقل لهم: المعيد هو الذي خلقكم ولم تكونوا شيئا مذكورا، ثم صرتم بشرا عديدين منتشرين في الدّنيا، فإنه سبحانه وتعالى قادر على إعادتكم، ولو صرتم إلى أي حال: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الرّوم ٣٠/ ٢٧].
والمتوقع حين سماع ذلك هو كما قال تعالى: فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي لتأصل إنكار البعث في نفوسهم سيحركون رؤوسهم استهزاء وتكذيبا.
وَيَقُولُونَ: مَتى هُوَ؟ أي يقولون: متى هذا البعث والإعادة؟
عنّا الحزن [فاطر ٣٥/ ٣٤] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.
قُلْ: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي إن ذلك قريب منكم سيأتيكم لا محالة، فكلّ ما هو آت قريب، كما قال سبحانه: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج ٧٠/ ٦- ٧].
وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه أحمد والشيخان والترمذي عن أنس: «بعثت أنا والساعة كهاتين»
وأشار بالسبابة والوسطى. فقوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً معناه أنه هو قريب لأن عَسى واجب، نظيره:
لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ [الشورى ٤٢/ ١٧].
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ أي يكون ذلك البعث يوم يدعوكم الرّب تبارك وتعالى، فتستجيبون له من قبوركم حامدين طائعين منقادين، وتقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته، وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث فقوله تعالى:
روى أنس مرفوعا: «ليس على أهل: لا إله إلا الله وحشة في قبورهم، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم، ينفضون التراب عن رؤوسهم، يقولون:
لا إله إلا الله» وفي رواية الطبراني عن ابن عمر: يقولون: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ [فاطر ٣٥/ ٣٤] وهي رواية ضعيفة، والمراد من الحمد في الأصح كما نحا الطبري: هو حمد الله من النبي على صدق خبره بحدوث القيامة.
وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا أي وتحسبون عند البعث يوم تقومون من قبوركم أنكم ما لبثتم في الدار الدنيا إلا زمنا قليلا، كقوله تعالى: كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [النازعات ٧٩/ ٤٦]، وقوله تعالى: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ، إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً [طه ٢٠/ ١٠٤]، وقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ [الروم ٣٠/ ٥٥].
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يلي:
١- لم يقتصر فساد عقيدة المشركين على الشرك واتخاذ آلهة أخرى مع الله تعالى، وإنما أنكروا وقوع البعث والمعاد، وكانت هذه الآية مبيّنة غاية الإنكار منهم.
٢- لا داعي للعجب من قدرة الله تعالى، فإن البشر إذا عجبوا من إعادة الحياة للعظام البالية والرّفات الفانية، فلقصور إدراكهم، وضعف قدراتهم، ونقص قواهم، وأما الله تعالى فلا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، حتى لو فرض أنهم حجارة أو حديد في غاية الشدة والقوة، لأعادهم كما بدأهم، بل
٣- لا يسع البشر حين دعوتهم بالخروج من قبورهم إلا الامتثال والطاعة والانقياد، وذلك يحصل بلحظة سريعة جدا، كما قال تعالى: وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل ١٦/ ٧٧].
ويستجيب الناس بأمر الله وقدرته ودعائه إياهم، وبحمده، أي باستحقاقه الحمد على الإحياء. ورجح المالكية أن المراد بقوله تعالى: بِحَمْدِهِ: بدعائه إياهم.
٤- يقدّر الناس بعد البعث أنهم ما لبثوا في الدنيا إلا زمنا قليلا لطول لبثهم في الآخرة.
مجادلة المخالفين باللين وبالتي هي أحسن
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
الإعراب:
يَقُولُوا: الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ يَقُولُوا: جواب «قولوا» المقدرة، أي قل لعبادي:
قولوا التي هي أحسن، يقولوها.
يَرْحَمْكُمْ ويُعَذِّبْكُمْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَقُلْ: لِعِبادِي المؤمنين. يَقُولُوا للكفار الكلمة الحسنى وباللين، ولا يخاشنوا المشركين. يَنْزَغُ يفسد بينهم بالوسوسة، ويهيج الشّر. عَدُوًّا مُبِيناً بيّن العداوة.
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ، إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة والإيمان. أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي وإن يشأ يعذّبكم تعذيبا بالموت على الكفر، وهذه الآية: تفسير للتي هي أحسن، وما بينهما اعتراض، أي قولوا لهم هذه الكلمة، ولا يصرحوا بأنهم من أهل النار، فإنه يهيجهم على الشّر، مع أن ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلا الله. وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا أو مفوضا إليك أمرهم، تقسرهم على الإيمان، وإنما أرسلناك مبشّرا ونذيرا، فدارهم، وأمر أصحابك بالاحتمال منهم.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فيخصّهم بما شاء على قدر أحوالهم، ويختار منهم لنبوّته وولايته من يشاء. وهو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا، وأن يكون العراة الجياع أصحابه.
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بتخصيص كلّ منهم بفضيلة، كموسى بالكلام، وإبراهيم بالخلّة، ومحمد بالإسراء وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً الزّبور: الكتاب الذي أنزل على داود عليه السّلام.
سبب النزول: نزول الآية (٥٣) :
وَقُلْ لِعِبادِي..: روي أن المشركين أفرطوا في إيذائهم رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فنزلت. وقيل: شتم عمر رجل منهم، فهمّ به، فأمره الله بالعفو.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى الحجة اليقينية في إبطال الشرك وهو قوله تعالى:
لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ، إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا [٤٢]، وذكر
ثم بيّن تعالى مهمة رسوله وهي التّبشير والإنذار، وأنه ليس مفوضا في حمل الناس على الإسلام أو إجبارهم عليه، وأنه تعالى العليم بكلّ شيء وبمن في السّموات والأرض، فيختار للنّبوة من يراه أهلا لها.
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله بأن يبلّغ عباد الله المؤمنين أن يقولوا في مخاطبات الناس من المشركين وغيرهم ومحاوراتهم معهم الكلام الأحسن للإقناع، والكلمة الطيّبة، وهو ألا يكون بيان الحجة مخلوطا بالشّتم والسّب والأذى، كما قال تعالى في آية أخرى: ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل ١٦/ ١٢٥]، وقوله تعالى: وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [العنكبوت ٢٩/ ٤٦].
وعلّة ذلك كما قال تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي إن لم يقولوا الكلام الأحسن والكلمة الطيبة، فإن الشيطان يفسد الأمور بين المؤمنين والمشركين، ويثير الفتنة والشّر، ويوقع المخاصمة والمقاتلة ويغري بعضهم لأنه عدو لآدم وذريّته عداوة ظاهرة بيّنة، ولهذا نهى الشرع أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة، فإن الشيطان ينزغ في يده، فربّما أصابه بها،
روى أحمد والشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «لا يشيرنّ
وسبب نزغ الشيطان للإنسان ما قاله تعالى: إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي إن الشيطان عدوّ ظاهر العداوة للإنسان، وقد أعلن عداوته منذ القدم كما حكى القرآن: ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ [الأعراف ٧/ ١٧].
ثم فسّر الله تعالى الطريق الأحسن الألين الذي لا مخاشنة فيه بقوله:
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ.. أي ربّكم أيها الناس أعلم بمن يستحق منكم الهداية والتوفيق للإيمان ومن لا يستحق، فإن شاء رحمكم فأنقذكم من الضلالة ووفقكم للطاعة والإنابة إليه، وإن شاء عذّبكم فلا يهديكم للإيمان، فتموتوا على شرككم، فهذه هي الكلمة ونحوها التي تقال لهم، ولا يقال لهم: إنكم من أهل النار، وإنكم معذبون، وما أشبه ذلك مما يغيظهم ويهيجهم على الشّر. وقوله تعالى: أَعْلَمُ بمعنى عليم، نحو قولهم: «الله أكبر» بمعنى كبير، فلا مجال للمقارنة أو الموازنة بينه وبين غيره.
وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي وما أرسلناك يا محمد عليهم حفيظا ورقيبا ووكيلا موكولا إليك أمرهم، تحاسبهم على أعمالهم، وتقرّهم على الإسلام وتجبرهم عليه، إنما أرسلناك نذيرا وبشيرا فقط، فمن أطاعك دخل الجنة، ومن عصاك دخل النار، فتلطّف في دعوتهم ولا تغلظ عليهم، ودارهم، ومر أصحابك بالمداراة والاحتمال.
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أي وربّك أعرف بكل من هو في السموات والأرض، وأعلم بأحوالهم ومقاديرهم كلّها علم إحاطة وانكشاف: أَلا
[الملك ٦٧/ ١٤] فهو أدرى وأعرف بما يستأهل كل واحد منهم.
وفي هذا ردّ على المشركين في جعل النّبوة والرّسالة بمن اصطفاهم وتفنيد لقولهم حين قالوا: نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزّخرف ٤٣/ ٣١] وحين تضايقوا من تقريب الفقراء كصهيب وبلال وخبّاب وإبعاد السّادة وزعماء قريش.
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ أي ولقد فضّلنا بعض الأنبياء والرّسل على بعض بالمزايا والكتب والخصائص، كاتّخاذ إبراهيم عليه السّلام خليلا، وموسى عليه السّلام كليما، ومحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، ونظير الآية:
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ، مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ، وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ [البقرة ٢/ ٢٥٣] وفي الآية إشارة إلى تفضيل رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم على جميع الأنبياء والمرسلين بالقرآن الكريم والإسراء والمعراج، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى عليهم السّلام على المشهور.
ولا خلاف أنّ الرّسل أفضل من بقية الأنبياء، وأنّ أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون في آيتين من القرآن هما: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ، وَمُوسى، وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [الأحزاب ٣٣/ ٧]. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً، وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ [الشورى ٤٢/ ١٣].
وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً أي فضلناه بإنزال الزّبور عليه، لا بالملك والسلطان، ومما ورد في الزّبور أنّ محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم خاتم النّبيين، وأن أمته خير
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى الأحكام التالية:
١- أمر الله تعالى في الآية الأولى جميع المؤمنين فيما بينهم بخاصة بحسن الأدب، وإلانة القول، وخفض الجناح، واطراح نزعات الشيطان، وفيما بينهم وبين الكفار أثناء المحاورة والنقاش بالكلمة الطيبة، والكلام الأحسن للإقناع لأن الشيطان يفسد بين الناس، ويلقي العداوة والبغضاء بينهم لأنه شديد العداوة للإنسان.
وتفويتا للفرصة عليه، وادّخارا للجهد في سبيل إبلاغ الدّعوة، ونشر الإسلام، وتوصّلا إلى الغاية المرجوة، يلزم أن يكون النقاش منطقيا عقليا هادئا، بعيدا عن السّبّ والشّتم والأذى.
٢- الآية الثانية رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ.. خطاب للمشركين مضمونه: إن يشأ الله يوفقكم للإسلام فيرحمكم، أو يميتكم على الشّرك فيعذّبكم. وهذا قول ابن جريج.
وقال الكلبي: الخطاب للمؤمنين مضمونه: إن يشأ يرحمكم بأن يحفظكم من كفار مكة، أو إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم.
٣- ليس أمر المشركين موكولا إلى النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لقسرهم على الإسلام وإجبارهم عليه، ومنعهم من الكفر، وإنما مهمته محصورة في التبليغ والتّبشير والإنذار، تبشير من أطاعه بالجنّة، وإنذار من عصاه بالنّار.
٤- قوله تعالى: وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بعد قوله:
٥- ليس كلّ الأنبياء في درجة واحدة متساوية، وإنما يوجد تفاضل بينهم، فقد فضل الله بعضهم على بعض عن علم منه بحالهم، كما بيّنا في التّفسير.
٦- أنزل الله تعالى الزّبور على داود عليه السّلام، والزّبور: كتاب ليس فيه حلال ولا حرام، ولا فرائض ولا حدود، وإنما هو دعاء وتحميد وتمجيد، والقصد من الإشارة إليه في الآية محاجّة اليهود، وإعلامهم أنه كما آتينا داود الزّبور، فلا تنكروا أن يؤتي محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم القرآن الكريم.
تفنيد آخر لشبهات المشركين
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٦٠]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ... أُولئِكَ: مبتدأ، والَّذِينَ: صفته، ويَدْعُونَ: صلة الَّذِينَ، والعائد محذوف، أي يدعونهم. والَّذِينَ يَدْعُونَ: صفة المبتدأ. ويَبْتَغُونَ: خبر المبتدأ. وأَيُّهُمْ أَقْرَبُ: مبتدأ وخبر، والجملة منصوبة بفعل مقدر، أي ينتظرون. ويحتمل أن تكون «أي» بمعنى الذي بدل من واو يَبْتَغُونَ فتكون «أي» مبنية.
أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ... : أَنْ الأولى: منصوبة بتقدير حذف حرف الجر، أي من أن نرسل، فلما حذف حرف الجر انتصب ب «منع». وأَنْ الثانية: فاعل منع، أي وما منعنا الإرسال بالآيات إلا تكذيب الأولين بمثلها. والمعنى أن تكذيب الأولين كان سببا لهلاكهم، فلو أرسلنا بالآيات إلى قريش، فكذبوها، لأهلكناهم، كما أهلكنا من تقدّمهم، وقد سبق في العلم القديم تأخير عقوبتهم إلى يوم القيامة، فلم نرسل بالآيات لذلك.
وَالشَّجَرَةَ.. منصوبة بالعطف على الرُّؤْيَا وهي مفعول أول ل جَعَلْنَا والثاني فِتْنَةً.
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً فاعل يَزِيدُهُمْ مقدر، أي التخويف، دلّ عليه نُخَوِّفُهُمْ. وطُغْياناً: مفعول ثان ل يَزِيدُهُمْ لأنه يتعدى إلى مفعولين.
البلاغة:
وَلا تَحْوِيلًا فيه إيجاز بالحذف، أي ولا تحويل الضّرّ عنكم، حذف لدلالة ما سبق.
يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ بينهما طباق.
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ المنع محال في حق الله تعالى إذ لا يمنعه شيء، فالمنع مجاز عن الترك، أي سبب ترك الإرسال هو التكذيب.
النَّاقَةَ مُبْصِرَةً مجاز عقلي علاقته السببية، أي أنه لما كانت الناقة سببا في إبصار الحقّ والهدى، نسب إليها الإبصار.
المفردات اللغوية:
زَعَمْتُمْ أنهم آلهة، أي كذبتم، والزعم في الأصل: القول المشكوك في صدقه، وقد يستعمل بمعنى الكذب، قال ابن عباس: كل موضع في كتاب الله تعالى ورد فيه زعم فهو كذب «١».
وَلا تَحْوِيلًا ولا تحويله عنكم إلى غيركم.
يَدْعُونَ أي يدعونهم آلهة أو ينادونهم. يَبْتَغُونَ يطلبون. الْوَسِيلَةَ القربة بالطاعة والعبادة، أي هؤلاء الآلهة يبتغون إلى الله تعالى القربة بالطاعة. أَيُّهُمْ أَقْرَبُ أي يبتغي القربة أو الوسيلة الذي هو أقرب منهم إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنهم آلهة؟ أو كيف تدعونهم آلهة؟ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً مخوّفا، حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرّسل والملائكة.
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ ما من قرية، والمراد أهلها. مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ بالموت.
أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً بالقتل وغيره. فِي الْكِتابِ اللوح المحفوظ. مَسْطُوراً مكتوبا. بِالْآياتِ التي اقترحها أهل مكة، فهي ما اقترحته قريش، مثل جعل الصّفا ذهبا.
إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي لما أرسلنا الآيات وكذبوا بها أهلكناهم، ولو أرسلناها إلى هؤلاء، لكذبوا بها، واستحقوا الإهلاك وعذاب الاستئصال، وقد كنّا حكمنا بإمهالهم، لإتمام نشر دعوة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
مُبْصِرَةً آية بيّنة واضحة، أو ذات إبصار لمن يتأملها ويفكر فيها. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها فأهلكوا، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها. وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المعجزات أو الآيات المقترحة. إِلَّا تَخْوِيفاً للعباد من نزول العذاب المستأصل، فيؤمنوا.
وَإِذْ قُلْنا واذكر إذ قلنا. أَحاطَ بِالنَّاسِ علما وقدرة، والمراد أنهم في قبضته وتحت قدرته، فبلغهم الرسالة ولا تخف أحدا، فهو يعصمك منهم، ولا يستطيعون إيصال الأذى إليك إلا بإذننا. الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ عيانا ليلة الإسراء، والرُّؤْيَا: هي ما عاينه النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة الإسراء من العجائب، والمراد بها هنا خلافا للغالب: الرؤية البصرية، قال ابن عباس: «هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به»، ولو كانت رؤيا منام، لما كانت فتنة للناس، ولما ارتدّ بعضهم عن الإسلام. إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أهل مكة، إذ كذّبوا بها، وارتدّ بعضهم، لما أخبرهم بها. وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وهي شجرة الزقوم التي تنبت في أصل الجحيم، جعلناها فتنة لهم، إذ قالوا: النار تحرق الشجر، فكيف تنبته؟ وَنُخَوِّفُهُمْ بها. فَما يَزِيدُهُمْ تخويفنا.
إِلَّا طُغْياناً الطغيان: تجاوز الحدّ في الفجور والضلال.
سبب النزول:
نزول الآية (٥٦) :
قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ: أخرج البخاري وغيره عن ابن مسعود قال: كان
وروي أنه لما أصاب القحط قريشا، وشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، أنزل الله هذه الآية.
نزول الآية (٥٩) :
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ:
أخرج أحمد والنسائي والحاكم والطّبراني عن ابن عباس قال: سأل أهل مكة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يجعل لهم الصّفا ذهبا، وأن ينحّي عنهم الجبال، فيزرعوا، فقيل له: إن شئت أن تستأني بهم، وإن شئت نؤتهم الذي سألوا، فإن كفروا أهلكوا، كما أهلكت من قبلهم، قال: «بل أستأني بهم» فأنزل الله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ.
نزول الآية (٦٠) :
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا: أخرج أبو يعلى عن أم هانئ أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم لما أسري به أصبح يحدّث نفرا من قريش يستهزئون به، فطلبوا منه آية، فوصف لهم بيت المقدس، وذكر لهم قصة العير، فقال الوليد بن المغيرة: هذا ساحر، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ. وأخرج ابن المنذر عن الحسن نحوه.
وأخرج ابن مردويه عن الحسين بن علي أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أصبح يوما مهموما، فقيل له: مالك يا رسول الله؟ لا تهتم، فإنها رؤيا تنالهم، فأنزل الله تعالى: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: لما ذكر الله الزقّوم، خوّف به هذا الحي من قريش، قال أبو جهل: هل تدرون ما هذا الزّقوم الذي يخوفكم به محمد؟ قالوا: لا، قال:
الثّريد بالزّبد، أما لئن أمكننا منها لنزقمنها زقما، فأنزل الله تعالى: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ، وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً، وأنزل تعالى:
إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [الدخان ٤٤/ ٤٣- ٤٤].
المناسبة:
بعد أن ندّد الله تعالى بإنكار المشركين البعث، عاد إلى الرّدّ عليهم في عبادتهم الملائكة والجنّ والمسيح وعزيرا، فهؤلاء يتوسّلون إلى الله بالطاعة والعبادة، ويخافون عذابه، فالمستحق للعبادة هو مالك هؤلاء، والقادر على النفع والضّر دونهم. وليس المراد الأصنام لأن ابتغاء الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتة.
ثم ذكر تعالى وعيده لهم وهو أن مصير قرى الكافرين إما الإبادة والاستئصال، وإما العذاب دون ذلك، كالقتل والسّبي واغتنام الأموال.
ثم ردّ تعالى على المشركين طالبي آيات حسيّة ومعجزات عظيمة قاهرة، مثل قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الآيات: ٩٠- ٩٣]، بأن تلبية اقتراحهم يهددهم، فلو جاء بالآيات، ثم كذبوا بها، عذبوا بعذاب الاستئصال، على وفق سنّة الله فيمن قبلهم، مثل آية ثمود البيّنة الواضحة.
وبالرغم من أن إظهار المعجزات ليس بمصلحة، فقد تجرأ أولئك الكفار بالطّعن بالنّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قائلين له: لو كنت رسولا حقّا من عند الله تعالى، لأتيت
ثم أردف ذلك بأن ليلة الإسراء كانت فتنة للناس وامتحانا لإيمانهم، كما أن شجرة الزّقوم في نار جهنم فتنة وامتحان أيضا.
التفسير والبيان:
قل أيّها الرّسول لهؤلاء المشركين الذين يعبدون غير الله: ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دون الله، وهي الأصنام والأنداد، هل يجيبونكم، وارغبوا إليهم حين وقوع الضّرّ بكم من فقر ومرض وقحط وعذاب ونحوها، وانتظروا هل يستطيعون كشف الضّرّ عنكم أو تحويله أو تبديله من مكان أو من واحد إلى آخر؟ إنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرّا، فلا يقدرون على ذلك لغيرهم.
وإنما الذي يقدر عليه هو الله وحده لا شريك له، الذي له الخلق والأمر.
قال ابن عباس: كان أهل الشّرك يقولون: نعبد الملائكة والمسيح وعزيرا، وهم الذين يدعون، يعني الملائكة والمسيح وعزيرا.
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ هؤلاء الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربّهم، يقصدون ويطلبون التّوسل إليه والتّقرّب منه بالطاعات والقربات، ويخصونه بالعبادات، والوسيلة: هي القربة.
أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ أي ويطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى، فكيف بغير الأقرب؟ أو أن معنى يبتغون الوسيلة:
يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى، وذلك بالطاعة وازدياد الخير
أخرج الترمذي وابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «سلوا الله الوسيلة، قالوا: وما الوسيلة؟ قال: القرب من الله، ثم قرأ هذه الآية».
وأما رجاء الرّحمة وخوف العذاب، فلأن العبادة لا تتم إلا بالخوف والرجاء، فبالخوف يبتعد الإنسان عن المعاصي، وبالرجاء يكثر من الطاعات.
والعلّة في الخوف من العذاب هي كما قال تعالى: إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي إن عذاب ربّك كان مخوّفا لا أمان لأحد منه، فينبغي أن يحذره ويخاف من وقوعه وحصوله العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم، فكيف أنتم؟! ثم أبان الله تعالى مصير الظالمين، فقال:
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها.. أي وما من قرية في علم الله المكتوب عنده في اللوح المحفوظ، من قرى الظالمين بالكفر والمعاصي إلا سيهلكها الله، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم عذاب استئصال، إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء، لا ظلما، وإنما بسبب ذنوبهم وخطاياهم، كما قال تعالى: وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [هود ١١/ ١٠١].
كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً أي كان ذلك حكما عاما ثابتا مسجّلا في علم الله أو في اللوح المحفوظ.
أخرج الترمذي عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «إن أول ما خلق الله القلم، فقال له: اكتب، فقال:
ما أكتب؟ قال: اكتب المقدّر وما هو كائن إلى يوم القيامة».
ثم أوضح الله تعالى سبب عدم تلبية طلبات أهل مكة فقال:
والآيات التي اقترحها أهل مكة- كما بيّنا في سبب النزول- مثل جعل الصّفا ذهبا، وتنحية الجبال عنهم، وجعل أراضيهم صالحة للزراعة.
وأما الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذّبوا بها لما أرسلت، فأهلكوا جميعا، مثل ناقة صالح لثمود، فلما عقروها أخذتهم الصيحة، وبقيت آثار هلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم، يبصرها الذاهب والعائد كما قال تعالى هنا: وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها أي وأعطينا قبيلة ثمود الناقة حجّة واضحة دالّة على وحدانية من خلقها، وصدق رسوله الذي لبى الله دعاءه فيها. وقوله تعالى: مُبْصِرَةً أي بيّنة أو ذات إبصار يدركها الناس، وإنما خصّت بالذّكر هنا دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة من بلاد العرب وفي طريقهم. وقوله تعالى: فَظَلَمُوا بِها أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها، فأبادهم الله عن آخرهم وانتقم منهم.
وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً أي ولا نبعث بالآيات إلا تخويفا للناس من نزول العذاب العاجل لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون، فإن لم يخافوا وقع عليهم.
ذكر ابن كثير أن الكوفة رجفت (زلزلت) على عهد ابن مسعود رضي الله عنه، فقال: يا أيها الناس، إن ربّكم يستعتبكم فأعتبوه، وروي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات، فقال عمر: أحدثتم والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ،
وفي الحديث المتّفق عليه بين الشيخين: «إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته،
ثم حرّض الله تعالى رسوله على إبلاغ رسالته، وأخبره بأنه قد عصمه من الناس، فقال: وَإِذْ قُلْنا لَكَ: إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي واذكر إذ أوحينا إليك أن الله هو القادر على عباده، وهم في قبضته وتحت قهره وغلبته، وقد عصمك من أعدائك قريش وغيرهم، وأن الله سينصرك عليهم كما قال: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧]، وقال مبشّرا بالنّصر في بدر: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر ٥٤/ ٤٥]، قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ [آل عمران ٣/ ١٢].
ولما بيّن تعالى أن إنزال آيات القرآن تتضمن التّخويف، ذكر آية الإسراء، فقال:
وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ أي وما جعلنا ما أطلعناك عليه ليلة الإسراء إلا اختبارا وامتحانا للنّاس، لمعرفة المؤمنين الصادقين، والكافرين المكذّبين، معرفة ينكشف بها حالهم أمام الناس، لا بالنّسبة إلينا، فنحن على علم سابق بكل ما سيحصل، وقد كذّب بها قوم وكفروا، وصدّق بها آخرون.
ذكر البخاري عن ابن عباس في هذه الآية قال: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به. ويقال في العربية: رأيته بعيني رؤية ورؤيا.
وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ فيه تقديم وتأخير أي وما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أي اختبارا لهم، مثل حادث الإسراء والمعراج. وتلك الشجرة هي شجرة الزّقوم، قال تعالى:
وَنُخَوِّفُهُمْ، فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي ونخوّف الكفار بالوعيد والعذاب والنّكال في الدّنيا والآخرة، فما يزيدهم التّخويف إلا تماديا في الطّغيان وفيما هم فيه من الكفر والضّلال، فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحون من الآيات؟!
فقه الحياة أو الأحكام:
أفهمت الآيات المبادئ والأحكام التالية:
١- لا يملك أحد غير الله عزّ وجلّ كشف الضّر من فقر أو مرض أو بلاء أو غيره، أو تحويله وتبديله من مكان إلى مكان أو من شخص إلى آخر. وقد تحدّى الله المشركين في مكة بآية قُلِ: ادْعُوا الَّذِينَ.. بأن يدعوا ما يعبدون من دون الله، ويزعمون أنهم آلهة لكشف ما أحدق بهم من قحط سبع سنين.
٢- لا فائدة ولا جدوى من الاستعانة بغير الله من الآلهة المزعومة، فإن تلك المخلوقات كالملائكة وعيسى وعزير يطلبون من الله الزلفة والقربة، ويتضرّعون إلى الله تعالى في طلب الجنة. والوسيلة هي القربة.
وهذا إخبار من الله تعالى بأن المعبودين يبتغون القربة إلى ربّهم، فهم بأنفسهم بحاجة إلى ربّهم، فكيف يؤمل منهم الخير ودفع الضرّ والشّرّ لأتباعهم وعابديهم؟! ٣- ما من قرية ظالمة إلا وسيهلكها وأهلها الله أو يعذّبها عذابا شديدا قبل
ولا يكون الإهلاك إلا بظلم من الناس، قال تعالى: وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ [القصص ٢٨/ ٥٩].
٤- لا مانع يمنع الله سبحانه من الإرسال بالآيات التي اقترحها مشركو مكة إلا أن يكذّبوا بها، فيهلكوا كما فعل بمن كان قبلهم، لذا أخّر الله تعالى العذاب عن كفار قريش، لعلمه أن فيهم من يؤمن، وفيهم من يولد مؤمنا.
٥- كان إيتاء ثمود الناقة آية دالّة مضيئة نيّرة على صدق صالح عليه السّلام، وعلى قدرة الله تعالى. ولما ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أو جحدوا بها، وكفروا بأنها من عند الله تعالى، استأصلهم الله بالعذاب.
٦- لا يكون الإرسال بآيات الانتقام إلا تخويفا من المعاصي والكفر.
٧- بشّر الله نبيّه عليه الصّلاة والسّلام بأنه أحاط بالناس، أي أهل مكة، وإحاطته بهم: إهلاكه إياهم، أو أحاطت قدرته بجميع الناس، فهم في قبضته لا يقدرون على الخروج من مشيئته.
٨- إن آية الإسراء وشجرة الزّقّوم اختبار للناس وامتحان لهم، ليكفر من سبق عليه الكفر، ويصدّق من سبق له الإيمان.
والثابت والأصح أن حادث الإسراء رؤيا عين أريها النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ليلة أسري به إلى بيت المقدس.
والشجرة الملعونة هي شجرة الزّقّوم، وهي في أبعد مكان من الرّحمة.
والله تعالى يخوف المشركين وغيرهم بالزّقوم، فما يزيدهم التّخويف إلا الكفر.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦١ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
الإعراب:
لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً: طِيناً: إما تمييز منصوب، أو حال من هاء خَلَقْتَ المحذوفة، وإما منصوب بحذف حرف الجرّ (منصوب بنزع الخافض)، وتقديره: خلقت من طين، فلما حذف حرف الجرّ، اتّصل الفعل به، فنصبه.
لَئِنْ اللام: لام القسم. أَرَأَيْتَكَ هذَا الكاف لتأكيد الخطاب، لا محل له من الإعراب، وهذا مفعول به أول، والَّذِي صفته. والمفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه، أي أخبرني عن هذا الذي كرمته علي بأمري بالسّجود له، لم كرمته علي.
جَزاءً مَوْفُوراً منصوب على المصدر بإضمار فعله، أو حال موطئة لقوله تعالى:
مَوْفُوراً.
البلاغة:
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ استعارة تمثيلية، شبّه حال الشيطان في تسلّطه على الغاوين بالفارس الذي يصيح بجنده للهجوم على الأعداء، للغلبة عليهم.
وَإِذْ قُلْنا واذكر حين قلنا. اسْجُدُوا لِآدَمَ سجود تحيّة بالانحناء أَأَسْجُدُ استفهام إنكار وتعجّب. أَرَأَيْتَكَ أخبرني. كَرَّمْتَ فضّلت. عَلَيَّ بالأمر بالسّجود له، وأنا خير منه، خلقتني من نار. لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ لأستأصلنّهم بالإغواء إلا قليلا، لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم، كأنه أصبح يملكهم. والظاهر أنه قال ذلك قبل أكل آدم من الشجرة.
إِلَّا قَلِيلًا منهم، ممن عصمته.
قالَ تعالى له. اذْهَبْ امض لشأنك، منظرا إلى وقت النّفخة الأولى، فقد خلّيتك وما سولت لك نفسك. جَزاءً مَوْفُوراً وافرا كاملا. وَاسْتَفْزِزْ واستخف وأزعج.
بِصَوْتِكَ بدعائك إلى معصية الله أو الفساد. وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ وصح عليهم، من الجلبة:
وهي الصياح. بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وهم الفرسان الركاب، والمشاقة في المعاصي. وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ المحرمة كالرّبا والغصب. وَالْأَوْلادِ من الزّنى. وَعِدْهُمْ بأن لا بعث ولا جزاء، وغير ذلك من المواعيد الباطلة كشفاعة الآلهة، والاتّكال على كرامة الآباء، وتأخير التوبة لطول الأمل. وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ بذلك. إِلَّا غُرُوراً باطلا. وهو اعتراض لبيان مواعيده، والغرور: تزيين الخطأ أو الباطل بما يوهم أنه صواب أو حقّ.
إِنَّ عِبادِي المؤمنين المخلصين. سُلْطانٌ تسلّط وقوة على إغوائهم. وَكِيلًا حافظا لهم منك، ورقيبا، فهم يتوكّلون على الله في الاستعاذة منك على الحقيقة.
المناسبة:
مناسبة هذه الآية لما قبلها من وجهين:
أحدهما- عقد مشابهة بين محنة النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ومحنة آدم عليه السّلام من إبليس، فلما نازع المشركون النّبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في النّبوة، وكذّبوه حين أخبرهم عن الإسراء وشجرة الزّقّوم، واقترحوا عليه الآيات، كبرا منهم وحسدا له على النّبوة، ناسب ذكر قصة آدم عليه السّلام وإبليس، حيث حمله الكبر والحسد على الامتناع من السجود، فالحسد داء قديم.
والثاني- أنه لما قال تعالى: فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً بيّن ما سبب هذا الطغيان، وهو قول إبليس: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا.
التفسير والبيان:
واذكر أيّها الرسول للنّاس عداوة إبليس لآدم وذريته، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم، والدليل أنه تعالى أمر الملائكة بالسّجود لآدم سجود تحيّة ومحبّة وتكريم، لا سجود عبادة وخضوع، فسجدوا كلّهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له، افتخارا عليه واحتقارا له، قائلا: أأسجد له وهو طين، وأنا مخلوق من النار، كما أخبر تعالى عنه: قالَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص ٣٨/ ٧٦].
وقال هنا جرأة وكفرا: قالَ: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي أخبرني عن هذا الذي فضّلته: لم كرّمته علي، وأنا خير منه؟ فإنه نسب الجور إلى ربّه في زعمه أنه أفضل من آدم بسبب عنصر الخلق، فإن عنصر النار أسمى وأرفع، وعنصر الطين أدنى وأقرب للخمول، والحقيقة أن العناصر كلها من جنس واحد، أوجدها الله، بل إن الطين أنفع من النار، فبالأول البناء والعمران، وبالثاني الخراب والهدم والدّمار.
لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي قسما لئن أبقيتني إلى يوم القيامة لأستأصلنّ ذريته بالإغواء، ولأستولينّ عليهم بالإضلال جميعا، أو لأضلنّ ذريته إلا قليلا منهم، وهم العباد المخلصون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ [الحجر ١٥/ ٤٢] أي إن عبادي الصالحين لا تقدر أن تغويهم.
فأجابه الله إلى طلبه حين سأل التأخير وأخّره:
قالَ: اذْهَبْ، فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ.. أي امض لشأنك الذي اخترته
وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ أي استخف واستنفر بدعوتك إلى معصية الله، بكلّ ما أوتيت من قوة وإغراء ووسوسة، وصوته: دعاؤه إلى معصية الله تعالى.
وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي واجمع عليهم جندك فرسانا ومشاة، وهذا تمثيل، والمراد به: تسلّط عليهم بكلّ ما تقدر عليه، واجمع لهم كلّ مكايدك، ولا تدّخر وسعا في إغوائهم، مستخدما كلّ الأتباع والأعوان.
وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أي بتحريضهم على كسب الأموال وإنفاقها في معاصي الله تعالى من ربا وسرقة وغصب وغش وخديعة، وعلى إنجاب الأولاد بالزّنى أو التّخلّص منهم بالقتل أو الوأد أو إدخالهم في غير الدّين الذي ارتضاه الله تعالى، وغير ذلك من تسميات غير شرعية، وتجاوز حدود الشّرع في الزّواج والطّلاق والرّضاع والنّسب والنّفقة وغيرها.
وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي عدهم المواعيد الكاذبة الباطلة من شفاعة الآلهة المزعومة، والكرامة على الله بالأنساب الشريفة، أو بالتّسويف في التوبة ومغفرة الذّنوب بدونها، والاتّكال على الرّحمة، وشفاعة الرّسول في الكبائر، وإيثار العاجل على الآجل، وألا جنّة ولا نار، ونحو ذلك، مما سيظهر بطلانه حينما يقول إبليس يوم القضاء بالحقّ: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ، وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ [إبراهيم ١٤/ ٢٢].
وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي لا يعدهم الشيطان إلا كذبا وباطلا وإظهارا للباطل في صورة الحقّ، فمواعيده كلها خدعة وتزيين كاذب، وهذه الأوامر للشيطان واردة على سبيل التّهديد والخذلان والتّخلية، كما يقال للعصاة:
اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ [فصلت ٤١/ ٤٠].
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي إن عبادي المخلصين الصالحين لا تقدر أن تغويهم، فهم محفوظون محروسون من الشيطان الرّجيم.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي كفى بالله حافظا ومؤيّدا ونصيرا للمؤمنين الصالحين المتوكّلين عليه، الذين يستعينون به على التّخلّص من وساوس الشيطان.
وهذا دليل على أن المعصوم من عصمه الله، وأن الإنسان بحاجة إلى عون الله جلّ جلاله.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يلي:
١- إن تمادي المشركين وعتوهم على ربّهم يذكّر بقصة إبليس حين عصى ربّه وأبى السّجود، وقال: إن آدم من طين، وهو من نار، وجوهر النار خير من جوهر الطين، مع أن الجواهر متماثلة، وقال مخاطبا ربّه: أخبرني عن هذا الذي فضّلته عليّ، لم فضّلته؟ وقال أيضا متحدّيا: لأستأصلنّ ذرية آدم بالإغواء والإضلال، ولأجتاحنّهم ولأضلنّهم إلا القليل المعصومين منهم الذين ذكرهم الله في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ.
وإنما قال إبليس ذلك ظنّا، كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ
[سبأ ٣٤/ ٢٠]، أو علم من طبع البشر تركب الشهوة فيهم، أو بنى كلامه على قول الملائكة: أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ [البقرة ٢/ ٣٠].
والظاهر أن المأمور بالسجود لآدم هم جميع الملائكة في الأرض والسماء، وسجد الملائكة لآدم من أول ما كملت حياته.
٢- كان جواب الحقّ تبارك وتعالى في غاية الإهانة والتّحقير، فقال له:
اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ... الآية، أي اجهد جهدك فقد أنظرناك، فمن أطاعك من ذرية آدم، فجزاؤكم جميعا جهنّم.
واستزلّ واستخفّ بدعوتك إلى معصية الله تعالى، واجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك، واجعل لنفسك شركة في الأموال بإنفاقها في معصية، وفي الأولاد بجعلهم أولاد الزّنى، وعدهم الأماني الكاذبة، وأنه لا قيامة ولا حساب.
ولكن عبادي المؤمنين الصالحين لا سلطان ولا تسلّط لك عليهم. وكفى بالله عاصما من القبول من دعاوى إبليس، وحافظا من كيده وسوء مكره.
٣- قال القرطبي: دلّت آية وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ على تحريم المزامير والغناء واللهو لأن صوته: كلّ داع يدعو إلى معصية الله تعالى، وكلّ ما كان من صوت الشيطان أو فعله وما يستحسنه فواجب التّنزه عنه.
وروى نافع عن ابن عمر أنه سمع صوت زمّارة، فوضع أصبعيه في أذنيه، وعدل راحلته عن الطريق وهو يقول: يا نافع، أتسمع؟ فأقول: نعم، فمضى حتى قلت له:
لا، فوضع يديه وأعاد راحلته إلى الطريق، وقال: رأيت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم سمع صوت زمّارة راع، فصنع مثل هذا «١».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٧٠]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠)
الإعراب:
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ بِكُمْ حال أو صلة ليخسف. إِلَّا إِيَّاهُ الظاهر أنه استثناء منقطع لأنه لم يندرج في قوله: مَنْ تَدْعُونَ إذ المعنى: ضلت آلهتهم أي معبوداتهم، وهم لا يعبدون الله.
البلاغة:
إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً تذييل كالتعليل لما سبق من تسيير السفن بقصد التجارة وطلب الرزق.
وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كالتعليل للإعراض عن الإيمان والتوحيد.
أَفَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، والفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنجوتم فأمنتم، فحملكم ذلك على الإعراض.
يُزْجِي يجري ويسيّر، والأصل فيه أنه يسوق حينا بعد حين. الْفُلْكَ السفن.
لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ تطلبوا من فضله تعالى بالتجارة وفَضْلِهِ: هو رزقه. إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً في تسخيرها لكم، وتهيئة ما تحتاجون إليه، وتسهيل ما تعسر من الأسباب. الضُّرُّ الشدة أو خوف الغرق بتقاذف الأمواج. ضَلَّ غاب عنكم وعن ذاكرتكم. مَنْ تَدْعُونَ تعبدون من الآلهة، فلا تدعونه إِلَّا إِيَّاهُ تعالى، فإنكم تدعونه وحده لأنكم في شدة لا يكشفها إلا هو. فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق. أَعْرَضْتُمْ عن الإيمان والتوحيد كَفُوراً جحودا للنعم، والمراد بالإنسان الكفار.
أَفَأَمِنْتُمْ أي أنجوتم فأمنتم، فأعرضتم، فإن من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق، قادر أن يهلككم في البر بالخسف وغيره. أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي يقلبه الله وأنتم عليه، أو يقلبه بسببكم، كما فعل بقارون، والخسف: انهيار الأرض. وفي ذكر الجانب تنبيه على أنهم لما وصلوا الساحل، كفروا وأعرضوا، وإن الجوانب والجهات في قدرته سواء، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك.
أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي يرميكم بالحصباء والحجارة كقوم لوط، والمراد: الريح الشديدة الحاصبة، وهي التي ترمي بالحصى الصغيرة. وَكِيلًا حافظا منه. أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ في البحر. تارَةً أُخْرى مرة ثانية. قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ أي ريحا شديدة لا تمر بشيء إلا قصفته فهي تكسر الشجر وغيره.
والخلاصة: إن الحاصب: الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء، والقاصف: الريح التي تقصف الشجر وغيره وتكسره أو هي الريح الشديدة الصوت. بِما كَفَرْتُمْ بكفركم. تَبِيعاً ناصرا ومعينا وتابعا يطالبنا بما فعلنا بكم.
كَرَّمْنا فضلنا. بَنِي آدَمَ بحسن الصورة والمزاج الأعدل واعتدال القامة، والتمييز بالعقل والعلم، والإفهام بالنطق والإشارة، والاهتداء إلى أسباب المعاش والمعاد، والتسلط على ما في الأرض، والتمكن من الصناعات، والطهارة بعد الموت، أي أن التكريم بالخلق في أحسن تقويم، وبالعقل أداة العلم والمعرفة والتقدم والتمدن. وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أركبناهم في الماضي والحاضر على الدواب، وفي الحاضر على السيارات والطائرات ونحوها. وَالْبَحْرِ على السفن. الطَّيِّباتِ المستلذات. وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا كالبهائم والوحوش، ومن: بمعنى ما، أو بمعناها الأصلي وتشمل الملائكة، والمراد تفضيل الجنس، ولا يلزم منه تفضيل أفراده، إذ الملائكة أفضل من البشر غير الأنبياء. والمراد: فضلناهم بالغلبة والاستيلاء، أو بالشرف والكرامة.
بعد أن ذكر الله تعالى وصف المشركين في اعتقادهم آلهتهم، وأنها تضر وتنفع، وأتبع ذلك بقصة إبليس مع آدم، وتمكينه من وسوسة ذريته، ذكر ما يدل من أفعاله على وحدانيته، وأنه هو النافع الضارّ، المتصرف في خلقه بما يشاء، وتلك المخلوقات هي نعم إلهية على الإنسان، سواء في البر والبحر، ودلائل القدرة الإلهية، فهو تعالى الذي يزجى الفلك في البحر، وينجي من الغرق، ومن تمام نعمته: تكريم الناس ورزقهم وتفضيلهم على جميع الخلق، مما يستوجب الإفراد بالعبادة.
التفسير والبيان:
ربكم اللطيف بعباده هو الذي يوفر مصالح خلقه ويسهل لهم سبل الحياة، فيجري ويسيّر لكم السفن في البحر بمختلف القوى كالريح أو الطاقة البخارية أو الكهربائية أو الذرية، لنقل الأشخاص للسياحة أو للارتزاق بين بلاد الدنيا، ونقل البضائع والسلع التجارية من إقليم إلى إقليم، وطلب الرزق من فضل الله، إنه كان بكم رحيما، أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم.
ومن رحمته تعالى وفضله ما أخبر به: وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ.. أي وإذا أصابكم أيها الناس ضر أو شدة وجهد في البحر، ذهب عن تصوراتكم وخواطركم كل من تدعونه في حوادثكم وتعبدونه من دون الله من صنم أو ملك أو بشر إلا إياه سبحانه، فلا تتذكرون إلا الله، ولا تلجؤون لسواه لكشف الضر عنكم.
وذلك كما حدث لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فارّا من رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حين فتح مكة، وركب في البحر ليدخل الحبشة، فجاءتها ريح عاصف، فقال القوم بعضهم لبعض: إنه لا يغني عنكم إلا أن تدعوا الله وحده، فقال عكرمة في نفسه:
فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي فلما أمنتم وأنقذكم، وأوصلكم إلى شاطئ البر والسلامة، واستجاب دعاءكم، أعرضتم، أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر، وأعرضتم عن دعائه، وعدتم إلى الإشراك به.
وعلة ذلك ما قال تعالى: وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي وكانت سجية الإنسان وطبعه أن ينسى النعم ويجحدها إلا من عصم الله تعالى.
ثم ناقشهم تعالى محذرا من جحود النعمة فقال:
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ.. أي أفحسبتم بخروجكم إلى البر أنكم أمنتم من انتقام الله وعذابه، بأن يخسف بكم جانب البر الذي تقطنون فيه بتغييبه في باطن الأرض، أو أن يرسل عليكم حاصبا، وهو المطر الذي فيه حجارة من السماء أو الريح التي تحصب أي ترمي بالحصباء وهي الحصى الصغار، كما فعل بقوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي لا تجدون بعدئذ ناصرا تكلون إليه أموركم، وينقذكم منه، ومن يتوكل بصرف ذلك عنكم. وجانب البر: ناحية الأرض.
والحاصب أخبر تعالى عنه في آيات، مثل: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ [القمر ٥٤/ ٣٤] ومثل وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ [الحجر ١٥/ ٧٤].
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ... أي أم أمنتم أيها المعرضون عنا، بعد ما اعترفتم في البحر بتوحيدنا، وخرجتم إلى البر، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية، فيرسل عليكم وأنتم راكبون في السفن ريحا قاصفا تقصف السواري، وتغرق
فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي يغرقكم بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى.
ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً أي نفعل ما نفعل بكم، ثم لا تجدوا أحدا يطالبنا بما فعلنا، انتصارا منا، ودركا للثأر من جهتنا، أي لا تجدوا أحدا يأخذ بثأركم بعدكم. وقوله تَبِيعاً أي نصيرا يأخذ بالثأر، أو يطالب بالحق.
ونظير هذا قوله تعالى: وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس ٩١/ ١٥]. وفي قوله وعيد شديد وتهديد بسوء العاقبة.
ومن تمام نعمة الله وفضله ورحمته تكريم الإنسان في قوله: وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ.. أي ولقد كرمنا بني آدم، أي جعلنا لهم كرما أي شرفا وفضلا «١»، بخلقهم على أحسن صورة وهيئة، ومنحناهم السمع والبصر والفؤاد للفقه والفهم، وجمّلناهم وميزناهم بالعقل الذي يدركون به حقائق الأشياء، ويهتدون به إلى الصناعات والزراعات والتجارات، ومعرفة اللغات، ويفكرون في اكتشاف خيرات الأرض، والإفادة من الطاقات، وتسخير ما في العالم العلوي والسفلي، وما في الكون من وسائل النقل وأسباب الحياة والمعيشة، والتمييز بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية.
وحملناهم في البر على الدواب من الأنعام والخيل والبغال، وفي الوقت الحاضر على القطارات والطائرات وغيرها، وفي البحر أيضا على السفن الكبيرة والصغيرة، وهو حمل لا يصح لغير بني آدم بإرادته وقصده وتدبيره.
ورزقناهم من الطيبات، أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة، والمناظر الحسنة، والملابس الرفيعة، والخلاصة: أن
وفضلناهم على كثير ممن خلقنا وهو ما سوى الملائكة، أو فضلناهم على أصناف المخلوقات وسائر أنواع الحيوانات بالغلبة والاستيلاء والحفظ والتمييز والثواب والجزاء.
وعلى التفسير الثاني استدل بهذه الآية الكريمة كما ذكر ابن كثير على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة، روى الطبراني عن عبد الله بن عمرو، وعبد الرزاق عن زيد بن أسلم موقوفا،
وابن عساكر عن أنس بن مالك مرفوعا عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إن الملائكة قالت: يا ربنا، أعطيت بني آدم الدنيا، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون، ونحن نسبّح بحمدك، ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو، فكما جعلت لهم الدنيا، فاجعل لنا الآخرة، قال: لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي، كمن قلت له: كن فيكون».
وقد عرفنا أن الحق تفضيل الملائكة على البشر.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستفاد من الآيات ما يأتي:
١- لله تعالى على الإنسان أفضال ونعم كثيرة غير الرزق والحياة، منها تسخير السفن في البحار، لركوب الركاب وتيسير وسائل المواصلات ونقل التجارات، مما يقتضي شكر تلك النعم، وعدم الإشراك به شيئا آخر.
٢- من نعمه تعالى ورحمته إنقاذ الإنسان من مخاطر البحر وأهواله أثناء هياجه واضطرابه، فلا يجد المضطر ملجأ غير الله يلجأ إليه لكشف الضر عنه.
وكل واحد يعلم بالفطرة علما يقينيا أن الأصنام لا فعل لها في الشدائد العظام.
لكن الإنسان ظلوم كفار للنعم إلا من عصمه الله، والمراد بالإنسان في
والله قادر على إهلاك الناس في البر، وإن سلموا من البحر، ولن يجدوا من دون الله حافظا ونصيرا يمنع من بأس الله، والله تعالى إما أن يهلك الناس بالزلزال (خسف جانب من الأرض) أو بإرسال ريح شديدة وهي التي ترمي بالحصباء.
وإذا تم الإنجاء من الغرق، فربما يعود الإنسان إلى ركوب البحر، فيتم الإغراق بقاصف من الريح: وهو الريح الشديدة التي تكسر بشدة، بسبب الكفر والضلال، دون أن يجد الناس من يثأر لهم أو يوجد نصير يطلب لهم بثأر أو غيره.
٣- ومن نعم الله تعالى الجليلة على الإنسان: الأشياء الأربعة التي بها فضل الإنسان على غيره: وهي تكريم بني آدم بخلقهم في أحسن تقويم وبالعقل والتفكير، والحمل في البر على الخيل والبغال والحمير والإبل وغيرها من الوسائل الحديثة، وفي البحر على السفن، والرزق من الطيبات، والتفضيل على كثير من المخلوقات، لا على الكل.
والفرق بين التكريم والتفضيل: أن الأول يكون بالأمور الخلقية الطبيعية الذاتية مثل العقل والنطق والتخطيط والصورة الحسنة والقامة المديدة، والثاني يكون بتمكينه بالعقل والفهم من اكتساب العقائد الحقة والأخلاق الفاضلة «١».
وهل الإنسان أفضل أو الملائكة؟
يحتمل أن الملائكة أفضل، ويحتمل العكس، ويحتمل التساوي، وليس في الآية نص على التفضيل بين الصنفين، كالآية التي تصرح بتفضيل بعض الأنبياء على بعض.
بالحديث المتقدم عن عبد الله بن عمرو أو أنس أو زيد بن أسلم، وبما قال أبو هريرة: «المؤمن أكرم على الله من الملائكة الذين عنده».
وقال آخرون بأن الملائكة أفضل من البشر على الإطلاق، عملا بهذه الآية، وهو دليل الخطاب: وهو أن تخصيص الكثير بالذكر يدل على أن الحال في القليل بالضد.
والظاهر هو الرأي الثاني، فإن قوله تعالى: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا هو ما سوى الملائكة، قال الزمخشري: وحسب بني آدم تفضيلا أن ترفع عليهم الملائكة ذوو المنزلة العالية عند الله «١».
أحوال الناس مع قادتهم يوم القيامة
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧١ الى ٧٢]
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢)
الإعراب:
يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يَوْمَ: ظرف منصوب متعلق بفعل دل عليه: وَلا يُظْلَمُونَ فكأنه قال: لا يظلمون فتيلا يوم ندعو كل أناس بإمامهم، ولا يجوز أن يعمل فيه نَدْعُوا لأنه مضاف إليه، والمضاف إليه لا يعمل فيما قبله وهو المضاف، ولا يجوز أن يعمل فيه «فضلنا» في الآية المتقدمة، لأن الماضي لا يعمل في المستقبل.
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى هو من عمى القلب، ولو كان من عمى العين، لقال: فهو في الآخرة أشد عمى لأن عمى العين شيء ثابت كاليد والرجل، فلا يتعجب منه إلا بأشد أو نحوه من الثلاثي. وأفعل: الذي للتفضيل يجري مجرى التعجب.
البلاغة:
كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ استعارة، استعار الإمام الذين يتقدم الناس في الصلاة لكتاب الأعمال، لملازمته الإنسان وتقدمه يوم القيامة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا استعارة تمثيلية، أي لا ينقصون من ثواب أجورهم ولو بمقدار خيط شق النواة، وهو مثل للقلة.
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى تفصيل بعد إجمال، بعد ذكر كتاب الأعمال.
المفردات اللغوية:
يَوْمَ نَدْعُوا اذكر يوم ندعو، وهو يوم القيامة. بِإِمامِهِمْ بمن ائتموا به من نبي أو مقدم في الدين، أو كتاب، أو دين، فيقال: يا أتباع فلان، يا أهل دين كذا، وكتاب كذا، وقيل: بكتاب أعمالهم، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، ويا أصحاب كتاب الشر، كقوله تعالى:
وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس ٣٦/ ١٢] فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ أي فمن أوتي منهم كتابه بيمينه، وهم السعداء أولو البصائر في الدنيا. فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ قيل أولئك لأن من أوتي في معنى الجمع، وخص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم لشعورهم بالسعادة، فهم يقرءون كتابهم أحسن قراءة وأبينها ولا يقنعون بقراءتهم وحدهم، حتى يقول القارئ لأهل المحشر: هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ [الحاقة ٦٩/ ١٩] وأما أصحاب الشمال فكأنهم لا يقرءون كتابهم، لعجزهم عن النطق السوي والقول الصحيح، بسبب ما ينتابهم أمام العقاب من حياء وخجل وانخزال وحبس لسان وتعتعة.
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء، كقوله تعالى: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٠] فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه ١٠/ ١١٢] والفتيل: الخيط المستطيل في شقّ النواة. وهو يضرب به المثل في الشيء الحقير التافة القليل، ومثله: النقير والقطمير.
المناسبة:
لما ذكر الله تعالى أنواعا من كرامات الإنسان وأفضاله عليه في الدنيا، ذكر من أحوال الآخرة وما فيها من تفاوت شديد بين أهل السعادة وأهل الضلال والانحراف عن معالم الهدى الإلهي وأنه تعالى يحاسب كل أمة بإمامهم، أي بنبيهم فيقال: يا أمة إبراهيم، يا أمة موسى، يا أمة عيسى، يا أمة محمد أو بكتابهم الذي أنزل على نبيهم أو بكتبهم التي فيها رصد أعمالهم، وهو الأرجح.
التفسير والبيان:
اذكر يا محمد ذلك اليوم الذي نحاسب فيه كل أمة بإمامهم أي بكتاب أعمالهم، وهو القول الأرجح كما ذكر ابن كثير لقوله تعالى: وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ [يس ٣٦/ ١٢] وقوله سبحانه: وَوُضِعَ الْكِتابُ، فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [الكهف ١٨/ ٤٩] فالكتاب يسمى إماما لأنه يرجع إليه في تعرّف أعمالهم.
ويحتمل أن المراد بِإِمامِهِمْ أي بقائدهم الذي يأتمون به، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم، كما قال تعالى:
وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ [القصص ٢٨/ ٤١]. إلا أن الراجح هو ما ذكر ابن كثير، بدليل قوله تعالى بعده:
فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ، فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ أي فمن أعطي من هؤلاء المدعوين كتابه بيمينه، فأولئك يقرءونه بفرح وسرور بما فيه من العمل
وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثوابهم أدنى شيء، والفتيل:
هو الخيط المستطيل في شق النواة، ونحو الآية: وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً [مريم ١٩/ ٦٠] وآية فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً [طه ٢٠/ ١١٢].
أخرج الترمذي والحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قول الله تعالى: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ قال: «يدعى أحدهم، فيعطى كتابه بيمينه، ويمدّ له في جسمه، ويبيّض وجهه، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد، فيقولون:
اللهم أتنا بهذا، وبارك لنا في هذا، فيأتيهم فيقول لهم: أبشروا، فإن لكل رجل منكم مثل هذا. وأما الكافر فيسودّ وجهه، ويمدّ له في جسمه، ويراه أصحابه فيقولون: نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا، اللهم لا تأتنا به، فيأتيهم فيقولون: اللهم أخزه، فيقول: أبعدكم الله، فإن لكل رجل منكم مثل هذا».
وعاقبة الحساب معروفة في الدنيا قبل الآخرة، فقال سبحانه:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا أي ومن كان في الحياة الدنيا أعمى عن حجج الله وبيناته وآياته التي أبانها في الكون، فهو يكون كذلك أعمى في الآخرة، لا يجد طريق النجاة، بل وأضل سبيلا من الأعمى في الدنيا. وليس المراد بالأعمى عمى البصر، بل المراد منه عمى القلب.
والأعمى مستعار لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أما في الدنيا فلفقد النظر، وأما في الآخرة فلأنه لا ينفعه الاهتداء إليه.
أرشدت الآيتان إلى ما يلي:
١- الحساب بين الخلائق يوم القيامة يكون مدعما بالوثائق والمستندات، فكل إنسان يدعى للحساب بكتابه الذي فيه عمله، كما قال تعالى: وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً، كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا، الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية ٤٥/ ٢٨].
والدعوة تكون في الآخرة بأسمائهم وأسماء آبائهم، خلافا لمن قال كمحمد بن كعب أن الدعوة تكون بأسماء أمهاتهم لأن في ذلك سترا على آبائهم، بدليل
حديث الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة، يرفع لكل غادر لواء، فيقال: هذه غدرة فلان بن فلان» فقوله: «هذه غدرة فلان بن فلان»
دليل على أن الدعوة تكون بأسماء الآباء لا بأسماء الأمهات.
٢- ليس هناك فرحة بعد أهوال الحساب أشد وأغبط للنفس من فرحة تلقي الكتاب باليمين لأنه دليل النجاة والفوز والسعادة الأبدية، فاللهم اجعلنا من أهل اليمين.
٣- إن الأعمى في الدنيا عن الاعتبار وإبصار الحق والاستدلال بآيات الله في الكون الدالة على وجوده ووحدانيته هو في الآخرة أعمى، وأضل سبيلا، لا يهتدي إلى طريق النجاة، ولا يجد طريقا إلى الهداية، كما قال تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً، وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى [طه ٢٠/ ١٢٤] وقال سبحانه: وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا، مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ [الإسراء ١٧/ ٩٧].
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٣ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
الإعراب:
وَإِنْ كادُوا إِنْ: مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة، وكذلك في قوله:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ.. سُنَّةَ: منصوب على المصدر المؤكد لما قبله، والتقدير: أهلكناهم إهلاكا مثل سنة من قد أرسلنا قبلك، أو سن الله ذلك سنة، فحذف المصدر وصفته، وأقيم ما أضيفت إليه الصفة مقامه.
البلاغة:
ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَإِنْ كادُوا قاربوا. لَيَفْتِنُونَكَ ليستنزلونك وليخدعونك في ظنهم، لا أنهم قاربوا ذلك، إذ هو معصوم صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يقاربوا فتنته عما أوحى الله إليه. عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من الأحكام. لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ غير ما أوحينا إليك. وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي لو فعلت ذلك، واتبعت مرادهم لاتخذوك بافتتانك وليا لهم، بريئا من ولايتي.
إِذاً لَأَذَقْناكَ أي لو قاربت لأذقناك. ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي ضعف عذاب الدنيا وضعف عذاب الآخرة، أي مثلي ما يعذب غيرك في الدنيا والآخرة. نَصِيراً مانعا منه، يدفع العذاب عنك.
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ ليزعجونك ويثيرونك بمعاداتهم ومكرهم لإخراجك من أرض مكة، وقال السيوطي: أرض المدينة. قال قتادة: همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك، ما أمهلوا، ولكن الله تعالى منعهم من الخروج، حتى أمره بالخروج «١». وَإِذاً لو أخرجوك. لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ لا يمكثون أو لا يبقون فيها بعدك أي بعد خروجك. إِلَّا قَلِيلًا إلا زمانا قليلا، ثم يهلكون.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا أي سنتنا بك سنة الرسل قبلك، أي كسنتنا فيهم من إهلاك من أخرجهم. تَحْوِيلًا أي تبديلا وتغييرا.
سبب النزول:
نزول الآية (٧٣) :
وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ
أخرج ابن مردويه وابن أبي حاتم وابن إسحاق وغيرهم عن ابن عباس قال: خرج أمية بن خلف، وأبو جهل بن هشام، ورجال من قريش، فأتوا رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فقالوا: يا محمد، تعال تمسّح بآلهتنا، وندخل معك في دينك، وكان يحب إسلام قومه، فرقّ لهم، فأنزل الله: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ إلى قوله: نَصِيراً.
وأخرج أبو الشيخ ابن حيان الأنصاري عن سعيد بن جبير قال: كان
وقيل: نزلت الآية في ثقيف وقد سألوه صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يحرّم واديهم، وألحوا عليه.
نزول الآية (٧٦) :
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ:
أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عبد الرحمن بن غنم: أن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فقالوا: إن كنت نبيا فالحق بالشام، فإن الشام أرض الحشر، وأرض الأنبياء، فصدّق رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ما قالوا، فغزا غزوة تبوك يريد الشام، فلما بلغ تبوك، أنزل الله آيات من سورة بني إسرائيل، بعد ما ختمت السورة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وأمره بالرجوع إلى المدينة، وقال له جبريل: سل ربك، فإن لكل نبي مسألة، فقال: ما تأمرني أن أسأل قال: قل: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً
[الإسراء ١٧/ ٨٠] فهؤلاء نزلن في رجعته من تبوك. قال السيوطي: هذا مرسل ضعيف الإسناد، وله شاهد من مرسل سعيد بن جبير عند ابن أبي حاتم، ولفظه: قالت المشركون للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: كانت الأنبياء تسكن الشام، فمالك والمدينة؟ فهم أن يشخص، فنزلت. وله طريق أخرى مرسلة عند ابن جرير:
أن بعض اليهود قال له. والمراد أن هذه الروايات يقوي بعضها بعضا، فتصبح مقبولة، أي أن هذه الآية نزلت لما قال اليهود للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: إن كنت نبيا، فالحق بالشام فإنها أرض الأنبياء.
روي أنه لما نزلت قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم:
«اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
لما عدّد الله تعالى نعمه على بني آدم، وذكر حالهم في الآخرة من إيتاء الكتاب باليمين لأهل السعادة، ومن عمى أهل الشقاوة، أتبع ذلك بما يهمّ به الأشقياء في الدنيا من المكر والخداع والتلبيس على النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سيد أهل السعادة، المقطوع له بالعصمة.
وسبب هذه المساومات والخديعات: رجاؤهم أن يفتري على الله غير ما أوحى الله إليه من تبديل الوعد وعيدا، وبالعكس، وما اقترحته ثقيف من أن يضيف إلى الله ما لم ينزل عليه.
التفسير والبيان:
المعنى وإن همّ المشركون وقاربوا بمكائدهم وخداعهم أن يصرفوك عما أوحينا إليك من الشرائع والأحكام من أوامر ونواه ووعد ووعيد، لتفتري علينا غير الذي أوحيناه إليك، وتتقول علينا ما لم نقل، وتخترع غيره وتبدل فيه كما أرادوا من تبديل الوعد وعيدا، والوعيد وعدا، وما اقترحته ثقيف من أن تضيف إلى الله ما لم ينزل عليك.
وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي وحينئذ لو اتبعت ما يريدون، وفعلت ما يطلبون لاتخذوك صديقا لهم، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على ما هم عليه من الشرك، ولكنت لهم وليا مناصرا، وخرجت من ولايتي.
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي ولولا تثبيتنا لك على الحق وعصمتنا إياك، لقاربت أن تميل إلى خداعهم ومكرهم، ميلا وركونا قليلا.
وهذا تهييج من الله لنبيه، وبيان فضل تثبيته له، ولطف بالمؤمنين، أي أنه ربما هادنتهم، لا لضعف إيمانك، بل لشدة مبالغتهم في المكر والحيلة
وهو دليل على تأييد الله لرسوله وتثبيته وعصمته وتسليمه من مكائد الكفار، وأنه تعالى هو المتولي أمره وحافظه وناصره، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه.
قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين».
وإمعانا في العصمة والصون توعده الله على ما قد يكون على سبيل الاحتمال والافتراض، وإن لم يحصل فقال:
إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت ذلك لعاقبناك بعقوبة مضاعفة في الدنيا والآخرة ويكون المراد بالآية ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات أي عذاب الدنيا وعذاب الآخرة لأن ذنب القائد أو العظيم يستحق عقابا أشد وأعظم، لذا يعاقب العالم القدوة أشد من عقوبة العامي التابع له،
قال صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما أخرجه مالك وأحمد ومسلم وأصحاب السنن إلا أبا داود عن أبي جحيفة وواثلة بن الأسقع: «من سنّ سنة سيئة، فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة».
والضعف: أن يضم إلى الشيء مثله.
وهذا وارد أيضا في عقوبة نساء النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ [الأحزاب ٣٣/ ٣٠].
ومن مكائد أهل مكة محاولة إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، كما قال تعالى:
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها أي ولقد قارب أهل مكة أيضا أن يزعجوك بعداوتهم ومكرهم، ويخرجوك من أرضهم التي أنت فيها أي أرض مكة.
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا.. أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم أن يأتيهم العذاب، بخروج الرسول من بينهم، فكل قوم أخرجوا رسولهم من بين ظهرانيهم، فسنة الله أن يهلكهم، ولولا أنه صلّى الله عليه وآله وسلّم الرحمة المهداة، لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به، قال تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [الأنفال ٨/ ٣٣].
وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي لا تغيير لسنة الله ونظامه وعادته، ولا خلف في وعده.
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدتنا الآيات إلى العبر والعظات والأحكام التالية:
١- تعرض النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنواع شتى من مكائد المشركين في مكة وألوان خداعهم ومساوماتهم، ومن أخطرها محاولات افتراء تغيير الوحي وتبديله، وإخراجه وطرده من مكة موطنه الأصلي.
أما محاولة تبديل الوحي وإقرارهم على شيء من قواعد شركهم وجاهليتهم فباءت بالفشل والخيبة، ولم يتم لهم ما أرادوا، لا قليلا ولا غيره بتأييد الله وعصمته.
وأما محاولة الإخراج من مكة فتم لهم مرادهم حينما أمره الله بالخروج، ولكنهم بعدها تعرضوا للقتل في بدر، وإلى فتح مكة موطنهم، وإسلام بعض
٢- لا يشكن أحد في أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم معصوم، وأنه لم يهادن الكفر والكفار والشرك والمشركين، بل ولم يهمّ في ذلك، وإنما كانت الآيات تهييجا له، وتهديدا على مجرد الاحتمال والافتراض.
فقوله تعالى: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ يدل على قرب وقوعه في الفتنة، لا على الوقوع في تلك الفتنة، فلو قلنا: كاد الأمير أن يضرب فلانا، لا يفهم منه أنه ضربه.
وقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لا يدل على قرب ركونه إلى دينهم والميل إلى مذهبهم لأن كلمة لولا تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، تقول:
لولا علي لهلك عمر، معناه أن وجود علي منع من حصول الهلاك لعمر، فكذلك معنى الآية: أنه حصل تثبيت الله تعالى لمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، فكان حصول ذلك التثبيت مانعا من حصول ذلك الركون.
والوعيد الشديد في قوله تعالى: إِذاً لَأَذَقْناكَ.. لا يدل على سبق وجود جرم وجناية لأن التهديد على المعصية لا يدل على الإقدام عليها، كما في آيات أخرى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٦]. لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر ٣٩/ ٦٥]. وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ.. [الأحزاب ٣٣/ ٤٨].
٣- احتج أهل السنة بقوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا على أنه لا عصمة عن المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى، فالله عاصمه وناصره ومؤيده ومثبّته.
٤- منع الله أهل مكة من إخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم من مكة، ولو فعلوا ذلك
فالأصح الذي عليه المفسرون هو قول قتادة ومجاهد: أن هذه الآية وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ نزلت في همّ أهل مكة بإخراج النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، ولو أخرجوه لما أمهلوا، ولكن الله أمره بالهجرة فخرج لأن السورة مكية، ولأن ما قبلها خبر عن أهل مكة. فقوله مِنَ الْأَرْضِ يريد أرض مكة، وقوله: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ [محمد ٤٧/ ١٣] يعني مكة، ومعناه: همّ أهلها بإخراجه.
٥- سنة الله الثابتة الدائمة تعذيب كل قوم أخرجوا رسولهم من بلده، فإذا أخرجوه أهلكوا ودمّروا.
أوامر وتوجيهات وتعليمات للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٨ الى ٨٥]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢)
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥)
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ اللام لام الوقت والأجل لأن الوقت سبب الوجوب.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ معطوف منصوب على قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ أي أقم الصلاة وقرآن الفجر، أو منصوب بفعل مقدّر، أي واقرؤوا قرآن الفجر.
مَقاماً مَحْمُوداً منصوب على الظرف بإضمار فعله، أي فيقيمك مقاما، أو بتضمين يبعثك معناه، أو حال أي أن يبعثك ذا مقام.
وَمِنَ اللَّيْلِ الجار والمجرور متعلق بمحذوف تقديره: قم، ومِنَ للتبعيض، والمعنى قم بعض الليل.
البلاغة:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ مجاز مرسل من إطلاق الجزء على الكل، أي قراءة الفجر، وهي صلاة الفجر لأن القراءة جزء منها.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً إظهار محل الإضمار لمزيد العناية والاهتمام. بعد قوله:
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ.
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ بينهما مقابلة، وكذا بين جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ.. وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فيه إسناد الخير إلى الله والشر لغيره، لتعليم الأدب مع الله تعالى.
مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: للتبيين أو للتبعيض.
المفردات اللغوية:
لِدُلُوكِ الشَّمْسِ هو زوال الشمس عن منتصف كبد السماء نصف النهار، وتحولها من جهة المشرق إلى جهة المغرب إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ إقبال ظلمته، وقدوم سواد الليل وشدة الظلمة، وهذا يشمل أربع صلوات: الظهر والعصر والمغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ صلاة الصبح كانَ
تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار، أو شواهد القدرة من تبدل بالظلمة الضياء، وبالنوم اليقظة والحركة، وبهذا تكون الآية جامعة الصلوات الخمس.
فَتَهَجَّدْ بِهِ فصل صلاة التهجد، والضمير للقرآن. والتهجد: ترك الهجود أي النوم للصلاة، أي الاستيقاظ من النوم للصلاة نافِلَةً لَكَ فريضة زائدة لك على الصلوات المفروضة، أو فضيلة لك، لاختصاص وجوبه بك، دون أمتك أَنْ يَبْعَثَكَ يقيمك رَبُّكَ في الآخرة مَقاماً مَحْمُوداً يحمدك فيه الأولون والآخرون، وهو مقام الشفاعة العظمى في فصل القضاء لما
روى أبو هريرة رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال: «هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي».
أَدْخِلْنِي المدينة مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيا لا أرى فيه ما أكره وَأَخْرِجْنِي من مكة مُخْرَجَ صِدْقٍ إخراجا لا ألتفت بقلبي إليه سُلْطاناً نَصِيراً قوة تنصرني بها على أعدائك، والسلطان: الحجة البينة، والنصير: الناصر والمعين وَقُلْ عند دخولك مكة جاءَ الْحَقُّ الإسلام وَزَهَقَ الْباطِلُ ذهب أو بطل وزال، أو اضمحل الشرك والكفر زَهُوقاً مضمحلا زائلا. روى الشيخان عن ابن مسعود أنه عليه الصلاة والسلام دخل مكة يوم الفتح، وفيها ثلاث مائة وستون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول ذلك- أي جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ- حتى سقطت، وبقي صنم خزاعة فوق الكعبة، وكان من صفر- نحاس- فقال:
يا علي، ارم به، فصعد، فرمى به وكسره.
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مِنَ: لبيان الجنس وقيل: للتبعيض ما هُوَ شِفاءٌ من الضلالة وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ به، والمعنى على أن مِنَ للبيان فإن كله كذلك: ننزل القرآن الذي فيه تقويم دينهم واستصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى، والمعنى على أن مِنَ للتبعيض: أن منه ما يشفي من المرض كالفاتحة وآيات الشفاء. وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً ولا يزيد الكافرين إلا خسارة، لتكذيبهم وكفرهم به.
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحة والسعادة على جنس الإنسان، وقيل: الكافر أَعْرَضَ عن الشكر وعن ذكر الله وَنَأى بِجانِبِهِ لوى جانبه (عطفه) عن الطاعة وولاه ظهره متبخترا وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر أو شدة كانَ يَؤُساً قنوطا من رحمة الله أو شديد اليأس من روح الله.
قُلْ: كُلٌّ قل يا محمد: كل منا ومنكم يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ مذهبه وطريقته التي تشاكل حاله في الهدى والضلالة، فالشاكلة: الطبيعة والعادة والدين أَهْدى سَبِيلًا أسدّ طريقا وأقوم منهجا، فيكافئه حسبما يستحق.
وَيَسْئَلُونَكَ أي اليهود عَنِ الرُّوحِ أي عن ماهيتها وحقيقتها وهي ما يحيى به
سلوه عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبي، وإن أجاب عن بعض وسكت عن بعض، فهو نبي، فبين لهم القصتين، وأبهم أمر الروح، وهو مبهم في التوراة وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا بالنسبة إلى علمه تعالى، وهو ما تستفيدونه بحواسكم.
سبب النزول:
نزول الآية (٨٠) :
وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي الآية: أخرج الترمذي وابن مردويه عن ابن عباس قال: كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بمكة، ثم أمر بالهجرة، فنزلت عليه: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ، وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ....
نزول الآية (٨٥) :
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ: أخرج البخاري عن ابن مسعود قال: كنت أمشي مع النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالمدينة، وهو متوكئ على عسيب، فمر بنفر من قريش، فقال بعضهم: لو سألتموه، فقالوا: حدّثنا عن الروح، فقام ساعة، ورفع رأسه، فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي، ثم قال: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
وأخرج الترمذي عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: علمونا شيئا نسأل هذا الرجل، فقالوا: سلوه عن الروح، فسألوه، فأنزل الله:
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ، قُلِ: الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي لكن حديث البخاري يدل على أن الآية مدنية، مع أن السورة كلها مكية، وأن سؤال قريش يدل على أنها مكية.
قال ابن كثير: يجمع بين الحديثين بتعدد النزول، أي قد تكون نزلت عليه
والحقيقة، كما سنذكر في سبب نزول قصة أصحاب الكهف أن النفر من قريش قدموا إلى المدينة، واستشاروا اليهود، كما ذكر ابن إسحاق، وتظل الآية مكية.
المناسبة:
بعد أن ذكر الله تعالى كيد الكفار واستفزازهم للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، وما كانوا يرومون به، أمره تعالى بالإقبال على عبادة ربه، وألا يشغل قلبه بهم. وقد تقدم القول في الإلهيات والمعاد والنبوات، فأردف ذلك بالأمر بأشرف العبادات والطاعات بعد الإيمان، وهي الصلاة.
ثم وعده ربه في الآخرة بالمقام المحمود وهو الشفاعة العظمى باتفاق المفسرين، ولما أمره تعالى بإقامة الصلاة والتهجد ووعده بالمقام المحمود، أمره بأن يدعوه بما يشمل الأمور الدينية والأخروية بقوله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي...
والظاهر- كما قال أبو حيان- أنه عام في جميع موارده ومصادره دنيوية وأخروية. والصدق هنا: لفظ يقتضي رفع المذامّ، واستيعاب المدح.
ثم أبان الله تعالى أن ما أنزل عليه من القرآن فيه شفاء النفوس والقلوب من الداء الحسي والمعنوي وهو مرض الاعتقاد، ثم عرّض بما أنعم به، وما حواه من
التفسير والبيان:
يأمر الله تعالى رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم في الآية الأولى بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها، والمعنى: أيها الرسول، أدّ الصلاة المفروضة عليك وعلى أمتك تامة الأركان والشروط، من بعد زوال الشمس إلى ظلمة الليل، وذلك يشمل الصلوات الأربعة: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء. والدلوك: ميل الشمس وزوالها عن كبد السماء ووسطها وقت الظهر. وإنما وجه الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم والمراد أمته أيضا لمكانة المأمور به وهو الصلاة.
وَقُرْآنَ الْفَجْرِ أي وأقم صلاة الفجر، وتلك هي الصلاة الخامسة. وقد أبانت السنة المتواترة من أقوال الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وأفعاله مقادير أوقات الصلاة بدءا وانتهاء، على النحو المعروف اليوم.
إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي إن صلاة الفجر تشهدها ملائكة الليل والنهار، ينزل هؤلاء ويصعد هؤلاء في وقت تبادل المهام والوظائف. وسميت صلاة الصبح قرآنا وهو القراءة لأنها ركن، كما سميت الصلاة ركوعا وسجودا وقنوتا. ويجوز أن يكون وَقُرْآنَ الْفَجْرِ حثا على طول القراءة في صلاة الفجر، ولذلك كانت الفجر أطول الصلوات قراءة «١».
روى أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجه عن أبي هريرة عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ، إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً قال: «تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار».
وقال عبد الله بن مسعود: يجتمع الحرسان في صلاة الفجر، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء.
وقد يكون المراد بقوله مَشْهُوداً الترغيب في أن تؤدى هذه الصلاة بجماعة، والمعنى كونها مشهودة بالجماعة الكثيرة، أو شهود كمال قدرة الله تعالى، من اختلاط الظلمة بالضوء، والظلمة مناسبة للموت والعدم، والضوء مناسب للحياة والوجود، وينتقل العالم من الظلمة إلى الضوء، ومن الموت بالمنام إلى الحياة، ومن السكون إلى الحركة، ومن العدم إلى الوجود «١».
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ هذا فرض آخر خاص بالنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وهو صلاة التهجد، والمعنى: قم للصلاة في جزء من الليل وهو أول أمر للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بقيام الليل، زيادة على الصلوات المفروضة (المكتوبة).
روى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سئل: أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال: «صلاة الليل»
ولهذا أمر الله تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل، فإن التهجد:
ما كان بعد نوم. وثبت عن جماعة من الصحابة أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يتهجد بعد نومه.
وقوله نافِلَةً لَكَ أي عبادة زائدة لك على الصلوات الخمس، مخصوصة بك دون الأمة، وهي فريضة عليك خاصة، دون غيرك، وأما أمتك فهي لهم مندوبة أو تطوع لهم. وهذا هو الراجح. وقيل: المراد أن قيام الليل في
عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أي افعل هذا الذي أمرتك به، لنقيمك يوم القيامة مقاما محمودا، يحمدك فيه الخلائق كلهم، وخالقهم تبارك وتعالى، كما قال ابن كثير.
وأجمع المفسرون- كما ذكر الواحدي- على أنه مقام الشفاعة العظمى في إسقاط العقاب. وهو- كما ذكر ابن جرير- مقام النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم يوم القيامة للشفاعة بالناس، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم.
وكلمة عَسى في كلام العرب تفيد التوقع، وهي هنا للوجوب لأنها تفيد الإطماع، ومن أطمع إنسانا في شيء ثم حرمه، كان غارّا، وهذا المعنى مستحيل على الله تعالى، فهذه الكلمة من الكريم إطماع محقق الوقوع، وهي من الله باتفاق المفسرين واجب.
والمقام المحمود: هو المكان المرموق، والمركز المعلوم المعدّ للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وهو كما بينا مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، أما
الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم فيقول: «أنا لها أنا لها»
، فيشفع بالخلق جميعا لتقديمهم للحساب، وتخليصهم من وهج الشمس الشديد التي تدنو من الرؤوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار.
روى مسلم بسنده عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم في قوله تعالى: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً قال: «هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه».
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء: اللهم ربّ هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة».
وروى أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي بن كعب، عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم، وصاحب شفاعتهم، غير فخر».
وبمناسبة أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة أنزل الله: وَقُلْ: رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ... أي وقل يا محمد داعيا: ربّ أدخلني في الدنيا والآخرة إدخالا مرضيا حسنا، لا يكره فيه ما يكره، يوصف صاحبه بأنه صادق في قوله وفعله، وأخرجني إخراجا مرضيا حسنا، مكللا بالكرامة، آمنا من السخط، يستحق الخارج منه أن يوصف بأنه صادق.
وهذا يشمل كل مدخل للنبي وكل مخرج كدخوله المدينة وخروجه من مكة، ودخوله القبر وخروجه منه للبعث، ودخوله مكة فاتحا وخروجه منها آمنا.
وخصص بعضهم الآية بأنها نزلت حين أمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالهجرة، يريد إدخال
وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي واجعل لي حجة بينة تنصرني على من خالفني، أو ملكا وعزا قويا، ناصرا للإسلام على الكفر، ومظهرا له عليه، قال الحسن البصري: وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس، وليجعلنه له، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له.
وقد أنجز له وعده، وأجيبت دعوته، فتحقق له العصمة الشخصية:
وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة ٥/ ٦٧] وانتشار الإسلام وتفوقه على الأديان كلها: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة ٩/ ٣٣] وانتصار الدولة والملك:
فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ [المائدة ٥/ ٥٦] لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النور ٢٤/ ٥٥].
وطلبه السلطة والملك ليس لشهوة السلطة وإنما لحماية حرمات الإسلام لأنه لا بد للحق من قهر لمن عاداه وناوأه، وناصر وحام له، لذا قال تعالى:
لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ، وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ، وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ... الآية [الحديد ٤٧/ ٢٥] فقرن الله بين الرسالة والبيان وبين الحديد والقوة، وفي الأثر عن عثمان: «إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن» أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن وما فيه من الوعد الأكيد والتهديد الشديد، وهذا هو الواقع.
ثم هدد كفار قريش وأوعدهم بقوله: وَقُلْ: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ أي وقل للمشركين: جاء الحق من الله الذي لا مرية فيه، وهو الإسلام، وما بعثه الله به من القرآن والإيمان، والعلم النافع، واضمحل وهلك الباطل وهو الشرك،
إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي إن الباطل كان مضمحلا لا قرار له، غير ثابت في كل وقت.
وقد تلا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم هذه الآية حين كسر الأصنام، وهو يفتح مكة.
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن عبد الله بن مسعود، قال: دخل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ستون وثلاث مائة نصب، فجعل يطعنها بعود في يده، ويقول: جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ، إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً، جاءَ الْحَقُّ، وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ [سبأ ٣٤/ ٤٩].
وقال الحافظ أبو يعلى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: دخلنا مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مكة، وحول البيت ثلاث مائة وستون صنما تعبد من دون الله، فأمر بها رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأكبّت على وجوهها، وقال:
جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً.
ثم أخبر الله عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه شفاء ورحمة، فقال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي وننزل عليك أيها النبي قرآنا فيه شفاء، فكل شيء نزل من القرآن فهو شفاء للمؤمنين، يزدادون به إيمانا، ويستصلحون به دينهم، فهو يذهب ما في القلوب من أمراض الشك والنفاق، والشرك والزيغ والإلحاد، والجهل والضلالة، فالقرآن يشفي من ذلك كله وهو أيضا رحمة لمن آمن به وصدقه واتبعه لأنه يرشد إلى الإيمان والحكمة والخير، فيؤدي إلى دخول الجنة والنجاة من العذاب،
وعن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما رواه الديلمي في الفردوس: «من لم يستشف بالقرآن، فلا شفاه الله».
وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا يزيد سماع القرآن الكافر الظالم نفسه إلا بعدا عن الإيمان وكفرا بالله لتأصل الكفر في نفسه.
قال قتادة: إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين.
ثم يخبر الله تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو، إلا من عصمه الله فقال:
وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ أي وإذا أمددنا الإنسان بنعمة من مال وعافية ورزق ونصر ونال ما يريد، أعرض عن طاعة الله وعبادته، ونأى بجانبه، وهذا تأكيد للإعراض لأن الإعراض: التولي بالوجه، والنأي بالجانب: لوي الجانب وتولية الظهر، والمراد بذلك الاستكبار والتباعد لأن ذلك عادة المتكبرين.
وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً أي وإذا أصابه الشر وهو المصائب والحوادث، كان يئوسا قنوطا من رحمة الله ومن الخير بعدئذ. والآية مثل قوله تعالى: وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً، فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ، مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ، كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [يونس ١٠/ ١٢]. وقوله سبحانه: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً، ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ، إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ، لَيَقُولَنَّ: ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي، إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [هود ١١/ ٩- ١٠].
قُلْ: كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قل يا محمد: كل أحد يعمل على مذهبه وطريقته التي تشاكل وتشبه حاله من الهدى والضلالة.
والآية مثل قوله تعالى: وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ، وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ [هود ١١/ ١٢١- ١٢٢].
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ... أي ويسألك المشركون عن حقيقة الروح التي تحيى بها الأبدان، فقل: الروح من شأن ربي، يحدث بتكوينه وإيجاده، وقد استأثر بعلمه، فلا يعلمه إلا هو، ولا يستطيعه إلا هو، وما أوتيتم أيها الناس من العلوم والمعارف إلا علما قليلا، مصدره إحساس الحواس وملاحظة المرئيات، أما ما وراء ذلك فلا قدرة لكم عليه، ولا اطلاع لأحد على حقيقته.
فقه الحياة أو الأحكام:
يستنبط من الآيات ما يأتي:
١- دلت آية أَقِمِ الصَّلاةَ... على فرضية الصلوات الخمس المفروضة، وعلى أوقاتها في الجملة التي فصلتها وحددتها السنة النبوية.
٢- في قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ فوائد وهي أن الصلاة لا تتم إلا بالقراءة، ووجوب إقامة صلاة الفجر من أول طلوعه. وأبانت السنة أن تكون القراءة في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات، فالمقصود من قوله: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ الحث على تطويل القراءة فيها، ووصف قرآن الفجر بأنه مشهود معناه أن ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصبح خلف الإمام، وهو دليل قوي على أن التغليس (الصلاة وقت الظلمة) أفضل، وهذا قول مالك والشافعي.
واجتماع ملائكة الليل والنهار في صلاة الصبح وكذا في صلاة العصر، كما جاء في الحديث المتقدم لا يعني أن هاتين الصلاتين ليستا من صلاة الليل ولا من صلاة النهار، كما فهم بعض العلماء، وإنما هما من النهار، بدليل الصيام فيه.
٣- كانت صلاة التهجد (قيام الليل) مطلوبة من النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم نافلة زيادة وكرامة له، واختلف العلماء في تخصيص النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالذّكر دون أمته، فقال جماعة: كانت صلاة الليل فريضة واجبة عليه لقوله نافِلَةً لَكَ أي فريضة زائدة على الفريضة الموظفة على الأمة، ثم نسخت، فصارت نافلة، أي تطوعا وزيادة على الفرائض.
وقال آخرون: صلاة الليل تطوع في حق النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وفي حق أمته، فيكون الأمر بالتنفل على جهة الندب، ويكون الخطاب للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنه مغفور له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فكل طاعة يأتي بها سوى المكتوبة تكون زيادة في الدرجات، وأما غيره من الأمة فتطوعهم كفارات لذنوبهم، وتدارك الخلل الذي يقع في الفرض.
٤- للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام المحمود وهو الشفاعة العظمى للناس يوم القيامة، ولأجل ذلك
قال فيما رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد الخدري: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة، ولا فخر»
قال النقّاش: لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم ثلاث شفاعات: العامة، وشفاعة في السبق إلى الجنة، وشفاعة في أهل الكبائر.
وقال ابن عطية: والمشهور أنهما شفاعتان فقط: العامة، وشفاعة في إخراج المذنبين من النار. وهذه الشفاعة الثانية ثابتة أيضا للأنبياء وللعلماء. وذكر أبو الفضل عياض خمس شفاعات: العامة، ولإدخال قوم الجنة دون حساب، ولإخراج عصاة الأمة من النار، وللحيلولة دون إدخال بعض المذنبين من
وقال القاضي عياض: وعرف بالنقل المستفيض سؤال السلف الصالح لشفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم ورغبتهم فيها، وعلى هذا لا يلتفت لقول من قال: إنه يكره أن تسأل الله أن يرزقك شفاعة النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم لأنها لا تكون إلا للمذنبين، فإنها قد تكون كما قدمنا لتخفيف الحساب وزيادة الدرجات.
ومع الشفاعة لواء الحمد،
روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر، وبيدي لواء الحمد ولا فخر، وما من نبي يومئذ، آدم فمن سواه إلا تحت لوائي».
٥- وللنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم المقام السامي المرضي الحسن في الدنيا والآخرة، فيشمل كل دخول وخروج كإدخاله المدينة مهاجرا، ومكة فاتحا، وفي القبر مغفورا له آمنا، وإخراجه من مكة مهاجرا، وإخراجه من القبر للبعث مطمئنا موصوفا بالصدق.
٦- ومن خصائص النبي عليه الصلاة والسلام قوة الحجة، والسلطان والقهر والقدرة والعصمة من الناس، فكانت له حجة بينة ظاهرة ينتصر بها على جميع من خالفه، ورزقه الله السلطة والتفوق والنصر على أعدائه، وأظهر دينه على الدين كله أي على الأديان والشرائع، وعصمه من أذى الناس ومكرهم.
٧- أيد الله تعالى نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بما أنزله عليه من القرآن والإيمان والحق الذي لا مرية ولا جدال فيه، فبه جاء الحق، وهو الإسلام والقرآن، واضمحل الباطل وهو الشرك والشيطان.
٨- في آية جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ دليل على كسر نصب المشركين والأصنام وجميع الأوثان. قال القرطبي: ويدخل بالمعنى: كسر آلة الباطل
قال ابن المنذر: وفي معنى الأصنام الصّور المتخذة من المدر (الطين المتحجر) والخشب وشبهها، وكل ما يتخذه الناس مما لا منفعة فيه إلا اللهو المنهي عنه. ولا يجوز بيع شيء منه إلا الأصنام التي تكون من الذهب والفضة والحديد والرصاص، إذا غيّرت عما هي عليه وصارت سبيكة أو قطعا، فيجوز بيعها والشراء بها.
٩- القرآن الكريم شفاء ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد سماعه الكافرين الظالمين أنفسهم إلا خسارا لتكذيبهم وزيادتهم غيظا وغضبا وحقدا وحسدا. قال قتادة:
ما جالس أحد القرآن إلا قام عنه بزيادة أو نقصان، ثم قرأ: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الآية.
وللعلماء قولان في كونه شفاء:
أحدهما- أنه شفاء للقلوب: بزوال الجهل عنها وإزالة الرّيب، وكشف غطاء القلب من مرض الجهل لفهم المعجزات والأمور الدالة على الله تعالى.
الثاني- شفاء من الأمراض الظاهرة بالرقى والتعوذ ونحوه.
وقد أقر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم- فيما رواه الأئمة- الاستشفاء بالقرآن، والرقية بالفاتحة بقراءتها سبع مرات على لديغ، وإعطاء قارئها عوضا عن الرقية ثلاثين شاة.
وأجاز سعيد بن المسيب ما يسمى بالنّشرة: وهي أن يكتب شيئا من أسماء الله تعالى، أو من القرآن، ثم يغسله بالماء، ثم يمسح به المريض، أو يسقيه.
وقال الإمام مالك: لا بأس بتعليق الكتب التي فيها أسماء الله عزّ وجلّ على
وكره بعض أهل العلم تعليق التميمة على كل حال، قبل نزول البلاء وبعده.
قال القرطبي: والقول الأول أصح في الأثر والنظر إن شاء الله تعالى.
وعلى كل حال، إن الفاعل الحقيقي المؤثر هو الله تعالى، أما الأدعية المأثورة، وتلاوة آيات الشفاء، والفاتحة والمعوذات وغير ذلك فهي من وسائل الفرج والبرء بإذن الله تعالى، بشرط تعظيم القرآن في الصدور، والإيمان الصادق به، والبعد عما لا يتناسب مع تعظيم آيات الله تعالى. ولا يعني هذا الاكتفاء بالرقى عن المداواة والعلاج بالأدوية الناجعة، فذلك كله من الوسائل التي أذن الشرع بها، بل وأوجبها لصيانة حق الحياة. أما ما يفعله بعض العوام من إهمال علاج المريض المحموم أو المبتلى بداء خطير مثلا، اعتمادا على مجرد التلاوة لشيء من القرآن أو التميمة، فهذا جهل بحقائق الدين، وإهدار لقدسية العلم الذي عظمه الله، ورفع شأن علمائه وأتباعه.
وأما ما روي عن ابن مسعود: «إن التمائم والرقى والتّولة من الشرك، قيل:
ما التّولة؟ قال: ما تحبّبت به لزوجها»
فيجوز أن يريد بما ذكره تعليق غير القرآن أشياء مأخوذة عن العرّافين والكهّان إذ الاستشفاء بالقرآن معلّقا وغير معلّق لا يكون شركا.
١٠- إن هؤلاء الذين يزيدهم القرآن خسارا صفتهم الإعراض عن تدبر آيات الله والكفران لنعمه. وكذلك شأن الإنسان عموما النسيان وكفران النعم إلا من عصمه الله، فتراه إذا كان منعما مترفا بعد عن القيام بحقوق الله عزّ وجلّ، وإذا ناله شدة من فقر أو سقم أو بؤس يئس وقنط لأنه لا يثق بفضل الله تعالى.
١١- إذا أفلس نداء العقل والقلب والوجدان، لتعطيل الفكر والبصر
١٢- سأل المشركون عن الروح الذي هو سبب الحياة، فأجابهم القرآن جوابا مبهما يدل على أن خلق الروح من الله، وهو أمر عظيم وشأن كبير من أمر الله تعالى، تاركا تفصيله، ليعرف الإنسان يقينا عجزه عن علم حقيقة نفسه، مع العلم بوجودها، وإذا كان الإنسان في معرفة نفسه جاهلا حقيقتها، كان عجزه عن إدراك حقيقة الحق أولى، وحكمة ذلك تعجيز العقل عن إدراك ومعرفة مخلوق مجاور له، للدلالة على أنه عن إدراك خالقه أعجز، وبذلك ثبت أن أكثر الماهيات والحقائق مجهولة للإنسان، ولكن لا يلزم من كونها مجهولة نفيها.
وأما حقيقة الروح فللعلماء فيها قولان:
القول الأول للرازي وابن القيم في كتاب الروح: إن الروح جوهر بسيط مجرد، وجسم نوراني مخالف بطبعه للجسم المحسوس، سار فيه سريان الماء في الورد، لا يحدث إلا بمحدث، وهو قوله تعالى: كُنْ فَيَكُونُ.
والقول الثاني للغزالي وأبي القاسم الراغب الأصفهاني: الروح ليس بجسم ولا جسماني، متعلق بالبدن تعلق التدبير والتصرف.
١٣- لم يؤت العالم كله من العلم إلا القليل، ويظل الكثير مختصا بعلم الله تعالى، قال القرطبي: والصحيح أن المراد بالخطاب في قوله تعالى:
فالله تعالى لم يطلع الناس من علمه إلا على القليل، ولا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والخلاصة: أن علم الناس في علم الله قليل، والذي يسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى.
إعجاز القرآن
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٦ الى ٨٩]
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
الإعراب:
وَلَئِنْ شِئْنا اللام لام القسم، أو الموطئة للقسم، ولَنَذْهَبَنَّ: جوابه النائب مناب جواب الشرط، أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور.
لَئِنِ اجْتَمَعَتِ اللام لام القسم أو الموطئة للقسم، وإن: حرف شرط، وجوابه محذوف قام مقامه قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وليس هذا جوابا للشرط، لإثبات نون يَأْتُونَ وإنما هو جواب قسم مقدر هيّأته لام لَئِنْ. والتقدير: قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فو الله لا يأتون بمثله.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ الاستثناء منقطع، أي لكن رحمة من ربك تركه ولم يذهب به، ويجوز أن يكون متصلا.
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ أي إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من المصاحف والصدور وَكِيلًا يتوكل ويلتزم استرداده محفوظا مسطورا، بعد الذهاب به إِلَّا رَحْمَةً استثناء متصل، أي إلا إن نالتك رحمة الله، فلعلها تسترده عليك، ويجوز أن يكون استثناء منقطعا بمعنى:
لكن رحمة من ربك أبقيناه، فيكون ذلك امتنانا بإبقائه بعد المنة في تنزيله إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً عظيما، بإبقائه في حفظه، كإرساله وإنزاله، وكذلك بإعطائك المقام المحمود، وغير ذلك من الفضائل.
عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في الفصاحة والبلاغة، وحسن النظم، وكمال المعنى لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وفيهم العرب العرباء، وأرباب البيان، وأهل النثر والنظم. وهو جواب قسم محذوف، دل عليه اللام الموطئة للقسم. ظَهِيراً معينا في تحقيق المراد. وهو رد لقولهم: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [الأنفال ٨/ ٣١].
صَرَّفْنا بينا، وكررنا ورددنا بوجوه مختلفة، زيادة في التقرير والبيان. مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كل معنى هو كالمثل في غرابته ووقوعه موقعا في الأنفس أو هو صفة لمحذوف أي مثلا من جنس كل مثل، ليتعظوا أَكْثَرُ النَّاسِ أهل مكة وغيرهم إِلَّا كُفُوراً جحودا للحق.
سبب النزول: نزول الآية (٨٨) :
قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. الآية:
أخرج ابن إسحاق وابن جرير عن ابن عباس قال: أتى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم سلام بن مشكم في عامة من يهود سماهم، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وإن هذا الذي جئت به، لا نراه متناسقا، كما تناسق التوراة، فأنزل علينا كتابا نعرفه، وإلا جئناك بمثل ما تأتي به، فأنزل الله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ الآية.
المناسبة:
بعد أن امتن الله تعالى على نبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم بالنبوة وبإنزال وحيه عليه، وبتنزيل القرآن شفاء للناس، امتن عليه أيضا ببقاء القرآن محفوظا، رحمة بالناس، وذكّر
التفسير والبيان:
بعد أن ذكر الله تعالى أنه ما آتى الناس من العلم إلا قليلا، أبان أنه لو شاء أن يأخذ منهم هذا القليل لفعل، فقال:
وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أي ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل، وسلب هذا القرآن الذي أوحينا به إليك يا محمد من الصدور والمصاحف، ولم نترك له أثرا، فهو تعالى قادر على أن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب.
ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا أي ثم لا تجد بعدئذ من تتوكل عليه وتستنصر به في رد شيء منه وإعادته محفوظا.
أخرج الحاكم والبيهقي والطبراني وسعيد بن منصور عن ابن مسعود قال:
«إن هذا القرآن الذي بين أظهركم يوشك أن ينزع منكم، قيل: كيف ينزع منا، وقد أثبته الله في قلوبنا، وثبتناه في مصاحفنا؟! قال: يسرى عليه في ليلة واحدة، فينزع ما في القلوب، ويذهب ما في المصاحف، ويصبح الناس منه فقراء» ثم قرأ: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.
إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ أي إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، ويجوز أن
إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي إن فضل الله عليك أيها الرسول عظيم وكبير بإرسالك للناس بشيرا ونذيرا، وبإنزال القرآن عليك وبحفظه في صدرك وفي المصاحف، وبحفظ أتباعك، وبسبب جعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك، وإعطائك المقام المحمود.
والخلاصة: إن الله تعالى يذكر في هذه الآية نعمته وفضله على عبده ورسوله الكريم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، وأما بقية النعم والأفضال فهي تبع لذلك، فالقرآن الكريم مصدر العلوم والمعارف، ومنبع الحضارات والثقافات التي ظهرت في ربوع المسلمين.
ثم نبه الله تعالى على شرف هذا القرآن العظيم وأهميته وخطورته، فقال:
قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ.. قل يا محمد متحديا: والله لئن اجتمعت الإنس والجن كلهم، واتفقوا وتعاونوا وتظاهروا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن المنزل، في بلاغته، وحسن نظمه وبيانه، ومعانيه وأحكامه، وفيهم العرب العاربة أرباب البيان والفصاحة، لعجزوا عن الإتيان بمثله، حتى ولو كان الجميع متعاونين متآزرين فيما بينهم لتلك الغاية، فإن هذا أمر غير مستطاع، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل؟! ثم أبان تعالى مضمون القرآن، فقال:
فقوله مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي من كل معنى، هو كالمثل في غرابته وحسنه ومع ذلك فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي فأبى أكثر الناس، أي أهل مكة وأمثالهم إلا جحودا وإنكارا للحق، وردا للصواب، وبقاء على الكفر.
فقه الحياة أو الأحكام:
تبين الآيات مدى فضل الله ونعمته على نبيه بإنزال القرآن عليه وحفظه في صدره وتثبيته في المصاحف، وانتفاع أمته به إلى يوم القيامة. وكما أن الله قادر على إنزاله، قادر على إذهابه حتى ينساه الخلق، ولكن لم يشأ الله ذلك رحمة منه بعباده.
ومن فضل الله على نبيه أيضا أن جعله سيد ولد آدم، وأعطاه المقام المحمود، كما أعطاه الكتاب العزيز.
والقرآن هو المعجزة الباقية، والحجة الدائمة التي تحدى الله بها العرب كلهم، فعجزوا عن الإتيان بمثله، وهم فرسان الفصاحة، وأئمة البلاغة والبيان، ولم تنقصهم ثقافة الحياة بدليل المأثور عنهم في الجاهلية من الحكم والمعاني والقيم الإنسانية في النثر والخطابة والشعر.
فو الله لئن تعاونوا مع البشر قاطبة ومع الجن، وكان بعضهم لبعض معينا ونصيرا، كما يتعاون الشعراء على بيت شعر، لا يستطيعون الإتيان بمثل القرآن،
فظل القرآن هو المعجزة الباقية الناطقة بأنه من عند الله تعالى، وأنه وحي منه لرسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأنه حجة الله على خلقه إلى يوم القيامة، فمن آمن به نجا، ومن كفر به خسر وهلك.
وكان بيان القرآن شاملا لكل شيء من شؤون الحياة، شافيا بلسم كل معذب ومحروم، موضحا كل ما يحتاجه البشر من قضايا الدين والدنيا والآخرة، مبينا الحق الأبلج، فأبى أهل مكة وأشباههم إلا الكفر بعد بيان الحق وتمييزه من الباطل، مع قدرتهم على طلب الحق ومعرفة الصواب.
اقتراح المشركين إنزال إحدى آيات ست
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٣]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
الإعراب:
كِسَفاً جمع كسفة، جمع تكسير، نحو كسرة وكسر، وقطعة وقطع، وسدرة وسدر.
وقرئ كسفا فهو اسم جنس كثمرة وثمر، ودرّة ودرّ، وبرّة وبرّ، ونحو ذلك مما يفرق بين واحده وجمعه التاء.
قَبِيلًا مقابلا فهو حال من الله، وحال الملائكة محذوفة، لدلالتها عليها، فإن كان بمعنى جماعة فيكون حالا من الملائكة.
تَفْجِيراً رَسُولًا سجع.
المفردات اللغوية:
فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة يَنْبُوعاً عينا ينبع منها الماء دون أن ينضب جَنَّةٌ بستان تغطي أشجاره الأرض خِلالَها وسطها كِسَفاً جمع كسفة، كقطع وقطعة، لفظا ومعنى قَبِيلًا مقابلة وعيانا، والمراد رؤيتهم عيانا، أو جماعة فيكون حالا من الملائكة.
زُخْرُفٍ ذهب، وأصله: الزينة تَرْقى تصعد فِي السَّماءِ على السلم وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ لو رقيت فيها حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا منها كِتاباً فيه تصديقك قُلْ لهم سُبْحانَ رَبِّي تعجب هَلْ ما كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا كسائر الرسل، فهم لم يكونوا يأتون بآية إلا بإذن الله تعالى.
سبب النزول:
أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن رؤساء قريش اجتمعوا عند الكعبة، فقالوا: ابعثوا إلى محمد، فكلّموه وخاصموه، حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا ليكلموك، فجاءهم سريعا- وكان حريصا على رشدهم- فقالوا:
- يا محمد، إنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك، لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفّهت الأحلام، وفرّقت الجماعة، فإن كنت إنما جئت بهذا لتطلب مالا، جعلنا لك من أموالنا ما تكون به أكثرنا مالا.
- وإن كنت إنما تطلب الشّرف فينا، سوّدناك علينا.
- وإن كان هذا الذي يأتيك رئيّا «١»، بذلنا أموالنا في طلب الطّب حتى
فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: «ما بي ما تقولون، ما جئتكم أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولا، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله، حتى يحكم الله بيني وبينكم».
فقالوا: يا محمد، إن كنت غير قابل منا ما عرضنا، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا، ولا أشدّ عيشا منا، فسل ربك يسيّر لنا هذه الجبال، ويجري لنا أنهارا، ويبعث من مضى من آبائنا، حتى نسألهم أحقّ ما تقول؟ وسله أن يجعل لك جنانا وكنوزا وقصورا من ذهب وفضة، تغنيك عنا.
فأنزل الله: وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً الآيات «١».
وفي لفظ: فأنزل عليه ما قال له عبد الله بن أبي أمية.
وأخرج سعيد بن منصور في سننه عن سعيد بن جبير في قوله: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ: قال: نزلت في أخي أم سلمة: عبد الله بن أبي أمية، مرسل صحيح شاهد لما قبله، يجبر المبهم في إسناده.
المناسبة:
بعد ما تحدى الله المشركين بأن يأتوا بمثل هذا القرآن، وبعد ما ألزمهم الحجة، وغلبوا على أمرهم، ببيان إعجاز القرآن، مع ظهور معجزات أخرى غيره، فتبين عجزهم عن ذلك، وإعجاز القرآن، أخذوا يتعللون، ويقترحون آيات أخرى تعنتا وحيرة، فطلبوا إحدى آيات ست.
بعد أن أثبت الله تعالى كون القرآن معجزا لأنه كلام الله، فأثبت بذلك كون محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم نبيا صادقا، وبعد أن أخرستهم الحجة، ولم يجدوا ردا مقنعا، راوغ رؤساء قريش باقتراح إنزال إحدى ستة أنواع من المعجزات فقالوا:
١- وَقالُوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ.. أي وقال زعماء مكة وهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة وأبو سفيان بن حرب وأبو جهل بن هشام والوليد بن المغيرة والنضر بن الحارث وأمية بن خلف وأبو البختري: لن نصدق برسالتك حتى تخرج لنا من الأرض ينبوعا يتدفق. وهو العين الجارية، فإننا في صحراء مجدبة قاحلة من أرض الحجاز، وذلك سهل على الله تعالى يسير.
٢- أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ.. أو يكون لك بستان من نخيل وأعناب وغيرهما تتدفق فيه الأنهار تدفقا بقوة، حتى يسقى الزرع والشجر وتخرج الأثمار.
٣- أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أو تسقط السماء علينا قطعا قطعا كما زعمت أن ربك يفعل ذلك إن شاء، ونظيره آية أخرى: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ، فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ
[الأنفال ٨/ ٣٢] لأنك وعدتنا أن السماء تنشق يوم القيامة، وتتساقط أطرافها، فعجّل ذلك في الدنيا، وأسقطها كسفا، أي قطعا. وهذا مشابه لما طلبه قوم شعيب إذ قالوا:
فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [الشعراء ٢٦/ ١٨٧].
٤- أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أو تأتي بالله والملائكة معاينة ومواجهة، فيحدثونا بأنك رسول من عند الله، والمعنى: أو تأتي بالله قبيلا، وبالملائكة قبلا أي بأصناف الملائكة قبيلا قبيلا. كما في قوله تعالى: أُنْزِلَ
والقبيل: الكفيل الضامن يضمنون لنا إتيانك به، أو الشاهد (الشهيد).
٥- أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أو أن يكون لك بيت من ذهب، كما في قراءة ابن مسعود، فإنك يتيم فقير.
٦- أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ.. أو أن تصعد في السماء على سلّم تضعها، ثم ترقى عليه، ونحن ننظر، ثم تأتي بصك معه أربعة ملائكة يشهدون لك أن الأمر كما تقول، أو تأتي بكتاب فيه تصديقك أنك رسول من عند الله، ونقرؤه كعادتنا.
قُلْ: سُبْحانَ رَبِّي، هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا قل يا محمد متعجبا من اقتراحاتهم: تنزه ربي وتقدس أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته، فهو الفعال لما يشاء، وما أنا إلا رسول بشر كسائر الرسل أبلّغكم رسالات ربي، وأنصح لكم، وليس للرسل أن يأتوا بشيء إلا بما يظهره الله على أيديهم على وفق الحكمة والمصلحة، وأمركم فيما سألتم إلى الله عز وجل، إن شاء أجابكم وإن شاء لم يجبكم.
بل إنهم لن يؤمنوا ولو جاءت الآيات كما اقترحوا، كما ذكر تعالى في آية أخرى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ. وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ [يونس ١٠/ ٩٦- ٩٧].
فقه الحياة أو الأحكام:
إن ضعفاء العقول ومحدودي التفكير يظنون أن الإله يفعل لهم ما يريدون، كما يحاول زعماء البشر من استرضاء الأتباع، لتحقيق المصالح المادية وجلب المنافع، وتسيير الأمور.
ثم إن طلبهم مقرون بالتحدي والمراوغة والتعجيز، لا من أجل التوصل إلى
إنهم طلبوا إحدى آيات ست:
إما تفجير الينابيع (العيون الغزيرة) بكثرة من الأرض- أرض مكة، وإما تملك الرياض والبساتين والحدائق الغناء تجري الأنهار وسطها، وإما إسقاط السماء عليهم قطعا قطعا، كما زعم محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، يعنون قول الله تعالى: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ، أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ [سبأ ٣٤/ ٩]، وإما الإتيان بالله والملائكة معاينة ومواجهة، كفيلا بما تقول، شاهدا بصحته، وإما أن يكون لك بيت أو قصر من ذهب، وإما الصعود في معارج السماء، ولن نؤمن من أجل رقيك أو صعودك، حتى تنزل علينا كتابا من السماء فيه تصديقك، أي كتابا من الله تعالى إلى كل رجل منا كما قال تعالى: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً [المدثر ٧٤/ ٥٢].
فرد الله عليهم بالجواب الحاسم: قل يا محمد: سُبْحانَ رَبِّي أي تنزيها لله عز وجل عن أن يعجز عن شيء، وعن أن يعترض عليه في فعل. وقيل: هذا كله تعجب من فرط كفرهم واقتراحاتهم.
فما أنا إلا بشر رسول أتبع ما يوحى إليّ من ربي، ويفعل الله ما يشاء من هذه الأشياء التي ليست في قدرة البشر، فهل سمعتم أحدا من البشر أتى بهذه الآيات؟! والخلاصة: أن التدبير ليس إلى الناس، وإنما التدبير إلى الله تعالى.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٤ الى ١٠٠]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
الإعراب:
فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ مَلائِكَةٌ: اسم كانَ المرفوع، ويَمْشُونَ: جملة فعلية صفة له. وفِي الْأَرْضِ خبر كانَ، ومُطْمَئِنِّينَ:
حال.
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ مبتدأ وخبر كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً جملة حالية من جَهَنَّمُ ولا يجوز أن تكون صفة لأن جَهَنَّمُ معرفة، والجملة لا تكون إلا نكرة، والمعرفة لا توصف
وكلما خبت.
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ مبتدأ وخبر وبِأَنَّهُمْ في موضع نصب لأنه يتعلق بجزاؤهم لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ أَنْتُمْ: مرفوع بفعل مقدر، يفسره تَمْلِكُونَ أي لو تملكون، فلما حذف الفعل، صار الضمير المرفوع المتصل في تَمْلِكُونَ ضميرا منفصلا، وهو أَنْتُمْ ولا يجوز أن يكون أَنْتُمْ مبتدأ لأن لو حرف يختص بالأفعال كإن الشرطية.
وخَشْيَةَ الْإِنْفاقِ مفعول لأجله.
البلاغة:
أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا استفهام إنكاري.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ التفات من الغيبة إلى التكلم، اهتماما بأمر الحشر.
مَنْ يَهْدِ وَمَنْ يُضْلِلْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي وما منعهم الإيمان بعد نزول الوحي وظهور الحق إِلَّا أَنْ قالُوا إلا قولهم منكرين أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا أي لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم والقرآن إلا إنكارهم أن يرسل الله بشرا، ولم يبعث ملكا.
قُلْ لهم جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ بدل البشر مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها مقيمين لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكنهم من الاجتماع به والتلقي منه، فلم يرسل الله إلى قوم رسولا إلا من جنسهم يمكنهم مخاطبته والفهم عنه شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ على صدقي وعلى أني رسول إليكم، بإظهار المعجزة على وفق دعواي إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً عالما ببواطنهم وظواهرهم. وفيه تسلية للرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم وتهديد للكفار.
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ يهدونهم من دونه، والمعنى:
ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدي الموفق لأن نفسه ميّالة إلى ذلك، ومن يضلله الله ويخذله، لإعراضه عن هداية ربه، فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره، ويدافعون عنه.
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ أي يسحبون عليها تجرهم الزبانية من أرجلهم إلى جهنم، أو يمشون بها،
روى الشيخان عن أنس أنه قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: كيف يمشون على
وفيه التفات من الغيبة إلى التكلم.
عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا قال البيضاوي: لا يبصرون ما يقر أعينهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم لأنهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات والعبر، وتصاموا عن استماع الحق، وأبوا أن ينطقوا بالصدق. ويجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار معطّلي القوى والحواس.
كُلَّما خَبَتْ سكن لهبها بأن أكلت جلودهم ولحومهم زِدْناهُمْ سَعِيراً توقدا وتلهبا واشتعالا، بأن تبدل جلودهم ولحومهم، فتعود ملتهبة مستعرة «ورفاتا» ما بلي من الشيء.
أَوَلَمْ يَرَوْا يعلموا فهي رؤية القلب، وهو استفهام إنكار وتوبيخ لهم على ما كانوا يستبعدونه من الإعادة بعد الإفناء قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنهم ليسوا أشد خلقا منهم، وليست الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا للموت والبعث فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحق إِلَّا كُفُوراً إلا جحودا خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه وسائر نعمه، والمطر من أهم المصادر لَأَمْسَكْتُمْ لبخلتم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ خوف نفادها بالإنفاق قَتُوراً بخيلا.
المناسبة:
بعد أن أنكر المشركون الآية الباقية التي هي القرآن وسائر الآيات، وليست بدون ما اقترحوه، بل هي أعظم، أخبر الله تعالى عن السبب الواهي الضعيف الذي منعهم من الإيمان، وهو استبعاد أن يبعث الله رسولا إلى الناس واحدا بشرا منهم، ولم يكن ملكا. فهذه شبهة أخرى وهي استبعاد كون الرسل بشرا، بعد الرد عليهم بأن وظيفة الرسل إبلاغ الناس، وليس تلبية اقتراح الآيات، ثم الرد على شبهتهم بأن الرسول يكون عادة من جنس المرسل إليهم.
ثم ذكر شبهة أخرى أيضا وهي إنكار البعث، ولما أنكروا البعث، نبّههم تعالى على عظيم قدرته وباهر حكمته، بخلق السموات والأرض.
ولما طلب المشركون إجراء الأنهار والعيون في بلدهم لتكثر أقواتهم وتتسع عليهم، بيّن تعالى أنهم لو ملكوا خزائن رحمة الله، لبقوا على بخلهم وشحهم، ولما أقدموا على نفع أحد.
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا... أي وما منع أكثر الناس ومنهم مشركو مكة أن يؤمنوا بالله، ويتبعوا الرسل، حين مجيء الوحي المعجز الذي يستهدف الهداية والإسعاد والنجاة إلا استغرابهم وتعجبهم من بعثة البشر رسلا، غير متصورين كون الرسول من جنس البشر المرسل إليهم، وأنه كان لا بد من أن يكون من الملائكة، وهذا تحكم فاسد وتعنت باطل. والآية مثل قوله تعالى:
أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [يونس ١٠/ ٢] وقوله سبحانه: ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ، فَقالُوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا؟ [التغابن ٦٤/ ٦]. والآيات في هذا كثيرة.
ثم أجابهم الله تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، وعلى منطق الأمور، فقال: قُلْ: لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ.. أي قل لهم يا محمد: إن مقتضى الحكمة ومنطق الأشياء والرحمة بالناس أن يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليناقشهم ويخاطبهم، ويفقهوا عنه ويفهموا منه، فليس إرسال الرسول لمجرد إلقاء الموحى به إليه، ولو كان الرسول ملكا لما استطاعوا مواجهته، ولا الأخذ عنه، فإن الشيء يألف لجنسه، ويأنس به، فطبيعة الملك لا تصلح للاجتماع بالبشر، وعقد حوار معه حول أحكام التشريع وتبيان أصول العقيدة، وأداء الرسالة، كما قال تعالى: وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا، وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [الأنعام ٦/ ٩].
بل إن إرسال الرسول من البشر نعمة وحكمة ومنّة عظمي، لذا قال تعالى:
كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ، يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا، وَيُزَكِّيكُمْ، وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ، وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [البقرة ٢/ ١٥١] وقال سبحانه: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ [آل عمران ٣/ ١٦٤] وقال عز وجل: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ [التوبة ٩/ ١٢٨].
ثم أرشد الحق تعالى إلى حجة أخرى هي:
قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي إن القول الفصل بيني وبينكم، وإقامة الحجة الدامغة عليكم أن الله شاهد علي وعليكم، وحكم بيني وبينكم، عالم بما جئتكم به، فلو كنت كاذبا لانتقم مني أشد الانتقام، كما قال تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ، لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ [الحاقة ٦٩/ ٤٤- ٤٦] وقال: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام ٦/ ٢١].
إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً أي إن الله سبحانه عليم بأحوال عباده، يعلم ظواهرهم وبواطنهم، وخبير بمن يستحق الهداية، ممن يستحق الضلالة، مطلع على ما في قلوبهم، فهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا حسدا وحبا للزعامة، وإعراضا عن قبول الحق. وفي ذلك تهديد ووعيد، وإيناس للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم فيما يلقاه من صدود قومه وعنادهم.
ثم يخبر الله تعالى عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه، وأنه لا معقب له، فقال:
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ.. أي من يهده الله للإيمان فهو المهتدي إلى الحق، ومن يضلل الله، فلن تجد لهم أنصارا يهدونهم من دون الله إلى الحق والصواب.
والمقصود إيناس الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم، فمن سبق لهم حكم الله بالإيمان والهداية،
ولا يقصد بوجود العلم والحكم السابق إجبار البشر على الإيمان والكفر، فإن الإنسان مختار في حدود ما اختاره الله له، أي إن الإنسان، وهو يختار بمشيئته فإنه في الحقيقة التي لا يعلمها لا يختار إلا ما اختاره الله له، فلا مشيئة للإنسان ولا لشيء إلا ما يشاؤه الله. وهذه المشيئة الكلية والشاملة لله في كل شيء كفلت للإنسان حرية الاختيار بقين الأمرين، كفلت مشيئة الله في عدله ورحمته أن يكون له «الخيار» بين الهدى والأمن مع الله، أو الضلال والشك، كما بيّن تعالى: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ: إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الدهر ٧٦/ ٣] وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد ٩٠/ ١٠].
وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي ونجمعهم يوم القيامة في موقف الحساب بعد الخروج من القبور، مسحوبين على وجوههم، كما قال تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ [القمر ٥٤/ ٤٨] عميا لا يبصرون، بكما لا ينطقون، صمّا لا يسمعون، أي أنهم كما كانوا في الدنيا معطلين هذه الحواس عن الانتفاع الحقيقي بها، وإن كانوا في الظاهر مبصرين ناطقين سامعين، فهم في الآخرة لا يبصرون طريق النجاة الذي يقر أعينهم، ولا ينطقون بما يقبل منهم، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم، كما قال تعالى:
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى، فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا [الإسراء ١٧/ ٧٢] قال ابن كثير: وهذا يكون في حال دون حال، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا، بكما وعميا وصما عن الحق، فجوزوا في محشرهم بذلك.
يا رسول الله، كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم، قادر على أن يمشيهم على وجوههم».
وأخرج الترمذي: «إن الناس يكونون ثلاثة أصناف في الحشر: مشاة، وركبانا، وعلى وجوههم»
وفي معناه
أخرج الإمام أحمد عن حذيفة بن أسيد، قال: قام أبو ذر فقال: يا بني غفار، قولوا ولا تحلفوا، فإن الصادق المصدوق حدثني: أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج: فوج راكبين طاعمين كاسين، وفوج يمشون ويسعون، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار».
مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ، كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً أي منقلبهم ومصيرهم إلى جهنم، كلما سكن لهيبها زدناهم لهبا ووهجا وجمرا، بأن تأكل جلودهم ولحومهم وتفنيها، فيسكن لهبها، ثم يبدلون غيرها، فترجع ملتهبة مستعرة، ويتكرر الإفناء والإعادة، ليزيد ذلك في تحسرهم على تكذيبهم بالبعث، كما قال تعالى:
فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً [النبأ ٧٨/ ٣٠].
وعلة تعذيبهم ما قال تعالى: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا.. أي إن ذلك الجزاء والعقاب الذي جازيناهم به من البعث عميا وبكما وصمّا هو جزاؤهم الذي يستحقونه على كفرهم بالله تعالى، وتكذيبهم آياته أي أدلته وحجته على وجوده ووحدانيته وعلى البعث، وعلى قولهم منكرين وقوع البعث: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا بالية وترابا منتشرا، نعود خلقا جديدا آخر؟ أبعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه من البلى والهلاك، والتفرق والذهاب في أنحاء الأرض، نعاد مرة ثانية؟
فنبههم الله على قدرته على البعث بأنه خلق السموات والأرض، فقال:
لكن للبعث والقيامة أو الموت وقتا محددا، فقال تعالى: وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ أي وجعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلا معينا، ومدة مقدرة، لا بدّ من انقضائها، وبعد مضي تلك المدة تكون القيامة أمرا محتما لا شكّ فيه.
فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي وبالرغم من إقامة تلك الحجة الدامغة عليهم أبى الكافرون الظالمون أنفسهم إلا تماديا في باطلهم وضلالهم، وجحودا للثابت الصحيح، وإنكارا للبعث.
وسبب عدم إجابتهم لمطالبهم من القصور والجنات والعيون هو الشح، فقال الله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي.. أي قل لهم يا محمد:
لو أنكم ملكتم التصرف في خزائن أرزاق الله لبقيتم على الشح والبخل، ولأمسكتم عن الإنفاق، أي الفقر، كما قال ابن عباس، أي خشية الزوال والذهاب والنفاد والفراغ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفذ أبدا لأن هذا من طباعكم وسجاياكم.
وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي بخيلا منوعا، كما قال سبحانه: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ، فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً [النساء ٤/ ٥٣]. أي لو أن لهم نصيبا في ملك الله تعالى، لما أعطوا أحدا شيئا، ولا مقدار نقير، وهو الخيط في
والآية دليل واضح على شح الإنسان وكرم الله تعالى وجوده وإحسانه،
جاء في الصحيحين: «يد الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحّاء، الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السموات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يده».
فقه الحياة أو الأحكام:
يفهم من الآيات ما يأتي:
١- إن كفار قريش قوم متكبرون معاندون، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: أنت مثلنا، فلا يلزمنا الانقياد لك، وغفلوا عن القرآن المعجزة الذي يثبت صدقه في رسالته.
وادعاؤهم أن الرسول لا يصلح أن يكون بشرا: ادعاء مردود عليهم لأن أداء الرسالة وما تقتضيه من إقناع ونقاش، ومراعاة لموجب الحكمة والمصلحة أن يكون الرسول من جنس المرسل إليهم.
فالملك إنما يرسل إلى الملائكة لأنه لو أرسل الله تعالى ملكا إلى بني آدم لم يقدروا أن يروه على الهيئة التي خلق عليها، وإنما أقدر الأنبياء على رؤيته، وخلق فيهم ما يقدرون به ليكون ذلك آية لهم ومعجزة.
٢- كفى بالله شاهدا ومصدقا يشهد أن محمدا صلّى الله عليه وآله وسلّم رسول الله، يروى أن كفار قريش قالوا حين سمعوا قوله تعالى: هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [الإسراء ١٧/ ٩٣] : فمن يشهد لك أنك رسول الله؟ فنزل قُلْ: كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ، إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً.
٤- يحشر الكفار يوم القيامة على وجوههم، وفيه وجهان:
أحدهما- أن ذلك عبارة عن الإسراع بهم إلى جهنم، كما يقول العرب: قدم القوم على وجوههم: إذا أسرعوا.
والثاني- أنهم يسحبون يوم القيامة على وجوههم إلى جهنم، كما يفعل في الدنيا بمن يبالغ في هوانه وتعذيبه، قال القرطبي: وهذا هو الصحيح لحديث أنس المتقدم. فإنهم يحشرون عميا عما يسرّهم، بكما عن التكلم بحجة مقبولة، صما عما ينفعهم، وهذا يدل على أن حواسهم باقية على ما كانت عليه. وقيل: إنهم يحشرون على الصفة التي وصفهم الله بها، ليكون ذلك زيادة في عذابهم، ثم يخلق ذلك لهم في النار، فأبصروا لقوله تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها [الكهف ١٨/ ٥٣]، وتكلموا لقوله تعالى: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً [الفرقان ٢٥/ ١٣]، وسمعوا لقوله تعالى: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً [الفرقان ٢٥/ ١٢].
٥- مأوى الكفار ومستقرهم ومقامهم جهنم، كلما سكنت نارها، زادها الله نارا تلتهب، وسكون التهابها من غير نقصان في آلامهم ولا تخفيف عنهم.
٦- ذلك العذاب جزاء كفرهم بآيات الله تعالى وحججه الدالة على وجوده وتوحيده، وجزاء جحودهم وإنكارهم البعث إنكار تعجب من إعادة ما بلي من العظام، وتفتت من الجسد، وزالت معالمه، وغفلوا عن أن الله هو الذي خلقهم أول مرة، والإعادة أهون عليه من الابتداء، كما قال الله تعالى: كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ [الأنبياء ٢١/ ١٠٤]، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ، ثُمَّ يُعِيدُهُ، وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [الروم ٣٠/ ٢٧].
٧- لو وسّع الله الرزق على العباد لبخلوا أيضا، فإن قوله تعالى: قُلْ: لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن الأرزاق والنعم إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ من البخل، هو جواب قولهم: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠] حتى نتوسع في المعيشة، والمعنى: لو توسعتم لبخلتم أيضا، وكان الإنسان قتورا أي بخيلا مضيّقا، والآية على الصحيح عامة في المشركين وغيرهم.
الآيات التسع لموسى عليه السلام وصفة إنزال القرآن
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٩]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥)
وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ بَيِّناتٍ إما وصف مجرور لآيات، أو وصف منصوب لتسع.
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ، وَبِالْحَقِّ نَزَلَ الباء في بِالْحَقِّ في الموضعين: إما متعلقة بالفعلين على جهة التعدي، وإما أن الأولى حال من هاء أَنْزَلْناهُ والثانية حال من ضمير نَزَلَ.
وَقُرْآناً إما منصوب بفعل مقدر، وتفسيره فَرَقْناهُ أي فرقنا قرآنا فرقناه، أو معطوف على قوله: مُبَشِّراً وَنَذِيراً على تقدير: وصاحب قرآن، ثم حذف المضاف، فيكون فَرَقْناهُ وصفا لقرآن. وعَلى مُكْثٍ: حال، أي متمهلا مترفّقا.
البلاغة:
مُبَشِّراً وَنَذِيراً بينهما طباق.
مَسْحُوراً مَثْبُوراً بينهما جناس ناقص لتغير بعض الحروف.
إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً بينهما مقابلة، وفيهما سجع.
المفردات اللغوية:
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي والله لقد أعطينا موسى تسع آيات واضحات الدلالة على نبوته، وصحة ما جاء به من عند الله، وهي العصا، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم، وهذه سبع باتفاق، وأما الثنتان فقيل: انفلاق البحر، والسنون، وقيل: انفلاق البحر ونتق الطور على بني إسرائيل، وقيل: انفلاق البحر، وحل عقدة لسان موسى. وهما مرويان عن ابن عباس، وقيل عن مجاهد وآخرين: السنون، ونقص الثمرات.
وقيل بغير ذلك كما ذكرنا في سورة الأعراف.
خمس منها ذكرت في سورة الأعراف: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ، وَالضَّفادِعَ، وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ [١٣٣] والباقي متفرقات.
أخرج أحمد والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه: «أن يهوديين قال أحدهما لصاحبه: انطلق بنا إلى هذا النبي فنسأله، فأتياه صلّى الله عليه وآله وسلّم، فسألاه عن قول الله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فقال: لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ولا تسرقوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تمشوا ببريء إلى ذي سلطان ليقتله، ولا تقذفوا محصنة، وأنتم يا يهود عليكم خاصة ألا تعدوا في السبت، فقبّلا يده ورجله، وقالا: نشهد إنك نبي، قال: فما يمنعكما أن تسلما؟ قال: إن داود دعا ألا يزال من ذريته نبي، وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا يهود»
قال الشهاب الخفاجي: وهذا هو التفسير الذي عليه المعوّل في الآية.
فَسْئَلْ يا محمد. بَنِي إِسْرائِيلَ عنه سؤال تقرير للمشركين على صدقك، أو: فقلنا له: اسأل. مَسْحُوراً سحرت، فأصبحت متخبط العقل مخبولا. هؤُلاءِ الآيات.
بَصائِرَ بينات واضحات وعبرا، ولكنك تعاند. مَثْبُوراً هالكا، أو مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشر. فَأَرادَ فرعون. أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يخرج موسى وقومه وينفيهم من الأرض: أرض مصر، أو الأرض مطلقا بالقتل والاستئصال.
اسْكُنُوا الْأَرْضَ التي أراد أن يستفزكم منها. وَعْدُ الْآخِرَةِ أي الساعة أو الدار الآخرة يعني قيام القيامة. لَفِيفاً جميعا أنتم وهم، واللفيف: الجمع العظيم المختلط من الطائعين والعصاة وغيرهم. فَرَقْناهُ نزلناه مفرقا على مدى ثلاث وعشرين سنة. مُكْثٍ مهل وتؤدة وتأن ليفهموه. وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا شيئا بعد شيء على حسب المصالح والحوادث.
قُلْ لكفار مكة. آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا تهديد لهم ووعيد. مِنْ قَبْلِهِ قبل نزوله، وهم مؤمنو أهل الكتاب. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر الله، وشكرا لإنجازه وعده في تلك الكتب ببعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم على فترة من الرسل وإنزاله القرآن عليه.
والمعنى: إن لم تؤمنوا به، فقد آمن به من هو خير منكم، وهم العلماء الذين قرءوا الكتب السابقة، وعرفوا حقيقة الوحي، وأمارات النبوة، وتمكنوا من التمييز بين الحق والمبطل، أو رأوا نعتك وصفة ما أنزل إليك في تلك الكتب. فالخرور: السقوط بسرعة، والأذقان جمع ذقن: وهو مجتمع اللحيين.
سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها له عن خلف الوعد. سُبْحانَ مخففة من الثقيلة. كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا بإنزال القرآن وبعث النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم. وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ عطف بزيادة صفة.
وَيَزِيدُهُمْ القرآن. خُشُوعاً تواضعا لله.
المناسبة:
بعد أن حكى الله تعالى عن قريش تعنتهم في اقتراحهم وعنادهم للرسول
وبعد أن ذكر تعالى إعجاز القرآن بقوله: قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء ١٧/ ٨٨] عاد إلى بيان صفة نزول القرآن منجما، وأنه حق ثابت لا يزول. وهكذا طريقة كلام العرب وأسلوبها، تأخذ في شيء وتستطرد منه إلى شيء آخر ثم إلى آخر، ثم تعود إلى ما ذكرته أولا «١». وهدد تعالى من لم يؤمن به، وأنه قد آمن به علماء أهل الكتاب.
التفسير والبيان:
أجاب الله تعالى المشركين في هذه الآيات عن قولهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بهذه المعجزات القاهرة، فقال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي لقد أمددنا موسى عليه السلام وأعطيناه تسع آيات بيّنات، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه، فيما أخبر به، حين أرسله إلى فرعون وقومه، فلم يؤمنوا بها، كما قال تعالى: فَاسْتَكْبَرُوا، وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق [النمل ٢٧/ ١٤].
والآيات التسع هي كما
ذكر ابن عباس فيما رواه عنه عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر: «العصا، واليد، والسنين، والبحر، والطوفان، والجراد، والقمّل، والضفادع، والدم آيات مفصلات».
وقد ذكر القرآن المجيد ست عشرة معجزة لموسى عليه السلام ذكرها الرازي «١» وهي: إزالة العقدة من لسانه أي إذهاب العجمة وصيرورته فصيحا، وانقلاب العصا حية، وتلقف الحية حبالهم وعصيهم على كثرتها، واليد البيضاء، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وشق البحر: وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ [البقرة ٢/ ٥٠] والحجر: أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ [الأعراف ٧/ ١٦٠] وإضلال الجبل: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ [الأعراف ٧/ ١٧١] وإنزال المن والسلوى عليه وعلى قومه، والجدب، ونقص الثمرات: وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ، وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ [الأعراف ٧/ ١٣٠] والطمس على أموالهم من النحل والدقيق والأطعمة والنقود.
وقال الرازي «٢» بعد أن ذكر أن الروايات ظنية غير يقينية في بيان الآيات التسع: أجود الروايات في تفسير قوله تعالى: تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ ما
روى صفوان بن عسّال المرادي أنه قال: إن يهوديا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع آيات، فذهبا إلى النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وسألاه عنها، فقال: «هن ألا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا، ولا تسحروا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تولوا الفرار يوم الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن تعدلوا في السبت، فقام اليهوديان، فقبّلا يديه ورجليه، وقالوا:
نشهد إنك نبي، ولولا نخاف القتل، وإلا اتبعناك» «٣».
فالمراد بالآيات:
الأحكام.
(٢) المرجع السابق.
(٣) أخرجه أحمد والترمذي والبيهقي والطبراني والنسائي وابن ماجه.
إِذْ جاءَهُمْ، فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي فاسألهم حين جاءهم موسى بتلك الآيات، وبلغها فرعون، فقال فرعون: إني لأظنك يا موسى أن الناس سحروك وخبلوك، فصرت مختلط العقل.
قالَ: لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ أي قال موسى لفرعون: لقد علمت علم اليقين أن هذه الآيات التسع ما أنزلها خالق الأرض والسموات إلا حججا وأدلة على صدق ما جئتك به، فهي تهدي الإنسان إلى الطريق الحق، وأنها من عند الله لا من عند غيره.
وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً أي مغلوبا هالكا مصروفا عن الخير، ميالا إلى الشر.
فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي فأراد فرعون أن يخرج موسى وقومه بني إسرائيل من أرض مصر بالقتل، أو بالطرد.
فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي فأهلكناه وجنوده جميعا بالإغراق في البحر.
وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ: اسْكُنُوا الْأَرْضَ أي ونجينا موسى وقومه بني إسرائيل، وقلنا لهم بعد هلاك فرعون: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون إخراجكم منها وهي أرض مصر، أو أرض الشام التي وعدتم بها.
فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي فإذا جاء يوم القيامة جئنا بكم أنتم وعدوكم جميعا، مختلطين أنتم وهم، ثم نحكم بينكم وبينهم. واللفيف: الجمع
وبعد أن ردّ الله تعالى على الكفار بأنه لا حاجة للمعجزات لأن قوم موسى آتاهم الله تسع آيات بينات، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، ولأنه لو جاءهم بتلك المعجزات التي اقترحوها ثم كفروا بها، لأنزل بهم عذاب الاستئصال، فاقتضت الحكمة عدم تلبية مطالبهم لعلمه تعالى أن منهم من يؤمن، ومنهم من لا يؤمن...
بعد هذا عاد الله تعالى إلى تذكيرهم بالمعجزة الخالدة وهي القرآن، وإلى تعظيم شأنه، والاكتفاء به، فقال:
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ... أي إننا أنزلنا القرآن متضمنا للحق من تبيان براهين الوحدانية والوجود، وحاجة الناس إلى الرسل، والأمر بالعدل ومكارم الأخلاق، والنهي عن الظلم وقبائح الأفعال والأقوال، والأحكام التشريعية والأوامر والنواهي المنظمة لحياة الفرد والجماعة والدولة وغير ذلك من أصول التشريع الرفيع.
ونزل إليك يا محمد هذا القرآن محفوظا محروسا، لم يختلط بغيره، ولم يطرأ عليه زيادة فيه ولا نقص منه، بل وصل إليك مع الحق وهو جبريل عليه السلام، الشديد القوي، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى.
وبعد بيان خواص القرآن أبان تعالى مهام النبي عليه الصلاة والسلام، فقال: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً أي وما أرسلناك يا محمد إلا مبشرا لمن أطاعك من المؤمنين بالجنة، ونذيرا لمن عصاك من الكافرين بالنار.
ثم عاد إلى بيان كيفية نزول القرآن منجما، أي مقسطا بحسب الوقائع والمناسبات، فقال تعالى:
وذلك لتبلغه للناس وتتلوه عليهم على مهل، ونزلناه تنزيلا أي شيئا بعد شيء، على الحد المذكور والصفة المذكورة. وفائدة قوله: وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا بعد قوله فَرَقْناهُ بيان كون التنزيل على حسب الحوادث.
ثم هددهم الله محتقرا لهم غير مبال بشأنهم بقوله: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا أي قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الذين لم يقتنعوا بكون القرآن معجزة كافية، وقالوا لك: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً [الإسراء ١٧/ ٩٠] آمنوا بهذا القرآن أو لا تؤمنوا به، فهو حق في نفسه أنزله الله، وكتاب خالد إلى أبد الدهر.
إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ... أي إن علماء أهل الكتاب الصالحين الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولم يحرفوه، إذا يتلى عليهم هذا القرآن يسجدون على وجوههم تعظيما لله عز وجل، وشكرا على ما أنعم به عليهم، وعبر عن السجود بقوله لِلْأَذْقانِ لأن الإنسان كلما ابتدأ بالخرور والإقبال على السجود فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض: الذقن، أو هو كناية عن المبالغة في الخضوع والخشوع والخوف من الله تعالى.
ويقولون في سجودهم: سُبْحانَ رَبِّنا... أي تنزيها لله تعالى وتعظيما وتوقيرا على قدرته التامة، وأنه لا يخلف الميعاد، لذا قال: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا
أي منجزا واقعا آتيا لا محالة.
وهؤلاء كما قال مجاهد: ناس من أهل الكتاب، حين سمعوا ما أنزل على محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم خرّوا سجدا، منهم زيد بن عمرو بن نفيل، وورقة بن نوفل، وعبد الله بن سلام.
وهذا السجود من هؤلاء تعريض بأهل الجاهلية والشرك، فإنهم إن لم يؤمنوا بالقرآن، فإن خيرا منهم وأفضل علماء أهل الكتاب الذين قرءوا الكتب، وعلموا ما الوحي، وما الشرائع، فآمنوا وصدقوا به، وثبت لديهم أنه النبي الموعود به في كتبهم، فإذا تلي عليهم خروا سجدا لله، تعظيما لأمره، ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة، وبشر به من بعثة محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، وإنزال القرآن عليه، وهو المراد بالوعد في الآية: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي بإنزال القرآن وبعثة محمد.
وصفة سجودهم ما قال تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي ويخرون ساجدين باكين خاشعين خاضعين لله عز وجل من خشية الله، وإيمانا وتصديقا بكتابه ورسوله.
ويزيدهم السجود خشوعا، أي إيمانا وتسليما، كما قال تعالى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً، وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ [محمد ٤٧/ ١٧].
وقد امتدح النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم البكاء في أحاديث كثيرة منها:
ما رواه الترمذي عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يقول: «عينان لا تمسّهما النار: عين بكت من خشية الله تعالى، وعين باتت تحرس في سبيل الله تعالى».
فقه الحياة أو الأحكام:
أرشدت الآيات إلى التالي:
١- أيد الله نبيه موسى عليه السلام بمعجزات أو آيات تسع، كما ذكرت الآية
ولم تكن الإحالة بالسؤال إلى بني إسرائيل عن هذه الآيات إلا من قبيل الاستفهام والإلزام، ليعرف اليهود صحة ما يقول محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وبالرغم من دعم موسى بهذه الآيات، فلم يؤمن فرعون برسالته، وإنما قال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً أي ساحرا بغرائب أفعالك، أو مسحورا من غيرك مختلط العقل مخبولا. والظن هنا على حقيقته المفيد رجحان الوقوع.
٢- لم يجد موسى جوابا لفرعون إلا الاعتصام بربه، وإعلانه أن هذه الآيات منزلة من رب السماء والأرض بصائر، أي دلالات يستدل بها على قدرته ووحدانيته وتصديقه موسى في نبوته، وقال له: إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً والظن هنا بمعنى التحقيق والتيقن، والثبور: الهلاك والخسران.
٣- لم يجد الطاغية فرعون غير استخدام السلطة والقوة، وصمم على إخراج موسى وبني إسرائيل إما بالقتل أو بالإبعاد، فأهلكه الله عز وجل، وأسكن بني إسرائيل من بعد إغراقه أرض الشام ومصر. ثم يأتي الله بالجميع يوم القيامة من قبورهم مختلطين من كل موضع، قد اختلط المؤمن بالكافر دون تمييز ولا تحيز، ويحاسب كل امرئ على ما قدم.
٤- أنزل الله القرآن متضمنا الحق والعدل والشريعة والحكم الأمثل، والجمع بين الإنزالين لمعنيين، فقوله: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ أي أوجبنا إنزاله بالحق، وقوله: وَبِالْحَقِّ نَزَلَ أي ونزل وفيه الحق، أو أن الأول معناه: مع الحق، والثاني بالحق أي بمحمد صلّى الله عليه وآله وسلّم، أي نزل عليه.
٦- هدد الله تعالى مشركي قريش وأبدى إعراضه عنهم، لا على وجه التخيير قائلا لهم: قُلْ: آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإن العلماء السابقين من أهل الكتاب وهم مؤمنوا أهل الكتاب آمنوا به عن يقين، ولم يتمالكوا أنفسهم عند سماعه إلا السجود لله خاضعين خاشعين باكين من خشية الله، قائلين: سُبْحانَ رَبِّنا، إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي منجزا بإنزال القرآن وبعث محمد صلّى الله عليه وآله وسلّم.
٧- قوله يَبْكُونَ دليل على جواز البكاء في الصلاة من خوف الله تعالى، أو على معصيته في دين الله، وأن البكاء لا يقطعها ولا يضرها. وقيد ذلك بعض الفقهاء بألا يكون مقرونا بصوت وكلام.
أما الأنين فلا يقطع الصلاة للمريض، ويكره للصحيح في رأي مالك.
وكذلك التنحنح والنفخ لا يقطع الصلاة عند مالك. وقال الشافعي: إن كان له حروف تسمع وتفهم يقطع الصلاة. وقال أبو حنيفة: إن كان من خوف الله لم يقطع، وإن كان من وجع قطع.
دعاء الله بالأسماء الحسنى
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
أَيًّا ما تَدْعُوا أَيًّا: شرطية، منصوب بتدعوا، والتنوين في أَيًّا عوض عن المضاف إليه، وما: زائدة للتأكيد، وتَدْعُوا: مجزوم بأي، وفاء فَلَهُ جواب الشرط، وقوله ادْعُوا يتعدى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا.
البلاغة:
تَجْهَرْ وتُخافِتْ بينهما طباق.
المفردات اللغوية:
ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أي سموه بأي واحد من هذين الاسمين، أو نادوه بأن تقولوا: يا الله، يا رحمن أَيًّا ما تَدْعُوا أي هذين تدعوا فهو حسن، والدعاء هنا: التسمية فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فلله الأسماء الحسنى، وهذان منها، وكونها أسماء حسنى لدلالتها على صفات الجلال والإكرام. وقوله: فَلَهُ للمسمى لأن التسمية له، لا للاسم، وكان أصل الكلام: أيّا ما تدعو فهو حسن، فوضع موضعه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة والدلالة على ما هو الدليل على الله تعالى.
والأسماء الحسنى تسع وتسعون، كما
جاء في الحديث الذي رواه الترمذي: الله الذي لا إله إلا هو: الرحمن، الرحيم، الملك، القدّوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبّار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصوّر، الغفار، القهّار، الوهّاب، الرزّاق، الفتّاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعزّ، المذلّ، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف، الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحقّ، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحيّ، القيّوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدّم، المؤخّر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الولي، المتعال، البرّ، التواب، المنتقم، العفوّ، الرءوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضارّ، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور.
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءتك فيها، فيسمعك المشركون، فيسبوك ويسبوا القرآن ومن
شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهية وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ متولي أمره ينصره مِنَ الذُّلِّ من أجل الذل، أي لم يذل، فيحتاج إلى ناصر، أي لم يكن له ولي يواليه من أجل مذلّة به، ليدفعها بموالاته وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً عظّمه تعظيما تاما منزها عن اتخاذ الولد والشريك والذل وكل مالا يليق به.
وترتيب الحمد على ذلك للدلالة على أنه المستحق لجميع المحامد، لكمال ذاته وتفرده في صفاته.
وفيه تنبيه على أن العبد، وإن بالغ في التنزيه والتمجيد، واجتهد في العبادة والتحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقه في ذلك.
روى الإمام أحمد في مسنده عن معاذ الجهني عن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ إلى آخر السورة».
سبب النزول:
نزول الآية: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ... :
أخرج ابن جرير وابن مردويه عن ابن عباس قال: صلى صلوات الله عليه بمكة ذات يوم، فدعا الله تعالى، فقال في دعائه: يا الله، يا رحمن، فقال المشركون: انظروا إلى هذا الصابئ، ينهانا أن ندعو إلهين، وهو يدعو إلهين، فنزل: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ... الآية.
وقال ميمون بن مهران: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يكتب في أول ما يوحى إليه:
باسمك اللهم، حتى نزلت هذه الآية: إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مشركو العرب: هذا الرحيم نعرفه، فما الرحمن؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الضحاك: قال أهل التفسير: قيل لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم: إنك لتقلّ ذكر الرحمن، وقد أكثر الله في التوراة هذا الاسم، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
أخرج أحمد والشيخان والترمذي وغيرهم عن ابن عباس في قوله تعالى:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم مختف بمكة، وكانوا إذا سمعوا القرآن، سبّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فقال الله عز وجل لنبيه صلّى الله عليه وآله وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ أي بقراءتك فيسمع المشركون، فيسبوا القرآن وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا يسمعون وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا.
وروي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يخفت في قراءته، ويقول: أناجي ربي، وقد علم حاجتي، وعمر كان يجهر بها ويقول: أطرد الشيطان، وأوقظ الوسنان، فلما نزلت الآية، أمر رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم أبا بكر أن يرفع صوته قليلا، وعمر أن يخفض قليلا.
نزول الآية (١١١) :
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ: أخرج ابن جريج عن محمد بن كعب القرظي قال: إن اليهود والنصارى قالوا: اتخذ الله ولدا وقالت العرب: لبيك لا شريك لك إلا شريكا هو لك تملكه وما ملك، وقال الصابئون والمجوس، لولا أولياء الله لذل، فأنزل الله: وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً... الآية.
المناسبة:
بعد أن الله أثبت تعالى أنه أنزل القرآن على رسوله صلّى الله عليه وآله وسلّم، وأن العرب عجزوا عن معارضته، وأنه صلّى الله عليه وآله وسلّم قد جاءهم بتوحيد الله ورفض آلهتهم، عدلوا إلى رميه عليه الصلاة والسلام بأن ما نهاهم عنه رجع هو إليه، فرد الله تعالى عليهم بقوله: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ.. الآية.
التفسير والبيان:
هذا رد على المشركين الذين أنكروا إطلاق اسم الرحمن على الله عز وجل، فقال: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ.. أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين في مكة المنكرين صفة الرحمة لله تعالى، المانعين من تسميته بالرحمن: لا فرق في دعائكم لله باسم الله أو باسم الرحمن فإنه ذو الأسماء الحسنى. قال في الكشاف: الله والرحمن المراد بهما الاسم، لا المسمى، وأو للتخيير، فمعنى ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ سموا بهذا الاسم أو بهذا، واذكروا إما هذا، وإما هذا، والدعاء بمعنى التسمية، لا بمعنى النداء «١».
وقوله أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التقدير: أيّ هذين الاسمين سميتم وذكرتم، فكل أسمائه حسنى، فيها تعظيمه وتقديسه، كما قال: لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى، يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الحشر ٥٩/ ٢٤] فأي اسم تدعونه به فهو حسن.
ثم أرشد الله إلى كيفية القراءة والدعاء، فقال:
وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي ولا تجهر
ثم علّمنا تعالى كيفية الحمد، فقال:
وَقُلِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ... أي وقل: لله الحمد والشكر على ما أنعم على عباده، وهو الموصوف بالصفات الثلاث التالية لتنزيه نفسه عن النقائص:
الأولى- إنه لم يتخذ ولدا: فهو غير محتاج إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث، وهو منزه عنها. وفي هذا رد على اليهود القائلين: عزيز ابن الله، والنصارى القائلين: المسيح ابن الله.
الثانية- ليس له شريك في الملك والسلطان: لأنه أيضا غير محتاج إليه، ولو احتاج إلى شريك لكان عاجزا، ولأن تعدد الآلهة يؤدي إلى الفساد والنزاع:
لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء ٢١/ ٢٢]. ولم يعرف المستحق للعبادة والحمد والشكر.
الثالثة: لم يكن له ولي من الذل: أي ليس بذليل حتى يوالي أحدا لمذلة، من ولي أو وزير أو مشير، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له، ومدبرها ومقدرها بمشيئته «١».
ومجموع هذه الصفات في قوله سبحانه:
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا، فذلك التعظيم الذي يتناسب مع جلاله وعظمته وقدسيته، فهو الكبير المتعال في ذاته باعتقاد أنه واجب الوجود لذاته وأنه غني عن كل الوجود وفي صفاته فله صفات الكمال المنزه عن كل صفات النقصان وفي أفعاله، فلا يحدث شيء في ملكه إلا بمقتضى حكمته ومشيئته وفي أحكامه، فله مطلق الأمر والنهي والعز والذل، لا معقب لحكمه، ولا اعتراض لأحد على شيء من أحكامه وفي أسمائه فلا يذكر إلا بأسمائه الحسنى ولا يوصف إلا بصفاته المقدسة العالية «١».
روى أحمد عن معاذ الجهني أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم كان يقول: «آية العز:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً الآية».
وروى عبد الرزاق عن عبد الكريم بن أبي أمية قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم يعلّم الغلام من بني هاشم إذا أفصح:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إلى آخر الآية، سبع مرات».
فقه الحياة أو الأحكام:
أوضحت الآيات أن دعاء الله وتسميته يكون بكل اسم من أسمائه الحسنى، التي منها الله والرحمن، وليس ذلك تعددا في الآلهة كما فهم المشركون خطأ، وإنما التسمية بأسماء متعددة لمسمى واحد.
والدعاء أو القراءة في الصلاة يكون بطريقة متوسطة بين الجهر والإسرار، وإذا كان السبب الداعي لذلك وهو تفادي سماء المشركين وسبهم القرآن ومن أنزله ومن جاء به، أو نفرتهم عنه وإبائهم سماعه، فإننا نحتفظ بالتزام هذه الطريقة، تذكرا لحال التشريع وظروفه الأولى التي صاحبته.
وقد عبر الله تعالى بالصلاة في الآية هنا عن القراءة، كما عبر بالقراءة عن
وقوله سبحانه: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً رد على اليهود والنصارى والعرب في قولهم: عزير وعيسى والملائكة ذرية الله سبحانه، فهو تعالى لا والد له ولا صاحبة ولا ولد، وهو واحد لا شريك له في ملكه وعبادته، وليس له ناصر مدافع عنه يجيره من الذل، لم يحالف أحدا، ولا ابتغى نصر أحد.
وهو تعالى يستحق التعظيم التام والإجلال، ويقال: أبلغ لفظة للعرب في معنى التعظيم والإجلال: الله أكبر، أي أنه أكبر من كل شيء،
وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم إذا دخل في الصلاة قال: الله أكبر.
وقال عمر بن الخطاب: «قول العبد: الله أكبر خير من الدنيا وما فيها».
وهذه الآية الْحَمْدُ لِلَّهِ... هي خاتمة التوراة. قال عبد الله بن كعب:
افتتحت التوراة بفاتحة سورة الأنعام، وختمت بخاتمة هذه السورة.
وفي خبر معاذ بن جبل عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم: «أنها آية العز»
، كما بينا.
وقال عبد الحميد بن واصل: سمعت عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم أنه قال: «من قرأ:
وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الآية، كتب الله له من الأجر مثل الأرض والجبال لأن الله تعالى يقول فيمن زعم أن له ولدا: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا [مريم ١٩/ ٩٠].
وجاء في الخبر أن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم «أمر رجلا شكا إليه الدّين بأن يقرأ: قُلِ: ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ إلى آخر السورة، ثم يقول: توكّلت على الحي الذي لا يموت ثلاث مرات».
بسم الله الرّحمن الرّحيم
سورة الكهفمكية، وهي مائة وعشر آيات.
تسميتها:
سميت سورة الكهف، لبيان قصة أصحاب الكهف العجيبة الغريبة فيها في الآيات [٩- ٢٦] مما هو دليل حاسم ملموس على قدرة الله الباهرة.
وهي إحدى سور خمس بدئت ب الْحَمْدُ لِلَّهِ: وهي الفاتحة، الأنعام، الكهف، سبأ، فاطر. وهو استهلال يوحي بعبودية الإنسان لله تعالى، وإقراره بنعمه وأفضاله، وتمجيد الله عز وجل، والاعتراف بعظمته وجلاله وكماله.
مناسبتها لما قبلها:
تظهر مناسبة وضع هذه السورة بعد سورة الإسراء من نواح: هي افتتاح الإسراء بالتسبيح، وهذه بالتحميد، وهما مقترنان في القرآن وسائر الكلام بحيث يسبق التسبيح التحميد، نحو: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ [الحجر ١٥/ ٩٨] وفي الحديث: «سبحان الله وبحمده». كما أن الإسراء اختتمت بالتحميد أيضا، فتشابهت الأطراف أيضا.
ولما أمر اليهود المشركين أن يسألوا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن ثلاثة أشياء: عن الروح، وعن قصة أصحاب الكهف، وعن قصة ذي القرنين، أجاب تعالى في آخر سورة بني إسرائيل عن السؤال الأول، وقد أفرد فيها لعدم الجواب عن الروح، ثم أجاب تعالى في سورة الكهف عن السؤالين الآخرين، فناسب اتصالهما ببعضهما.
ولما قال تعالى في الإسراء: فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً [١٠٤] أعقبه في سورة الكهف بالتفصيل والبيان بقوله: فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي، جَعَلَهُ دَكَّاءَ، وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا إلى قوله: وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً [٩٨- ١٠٠] «١».
والخلاصة: أنه تعالى لما قال في آخر الإسراء: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وذكر المؤمنين به أهل العلم، وأنه يزيدهم خشوعا، وأنه تعالى أمر بالحمد له وأنه لم يتخذ ولدا، أمره تعالى بحمده على إنزال هذا الكتاب السالم من العوج، القيم على كل الكتب، المنذر من اتخذ ولدا، المبشر المؤمنين بالأجر الحسن.
ثم استطرد إلى حديث كفار قريش، والتفت من الخطاب في قوله:
وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً إلى الغيبة في قوله: عَلى عَبْدِهِ لما في عبده من الإضافة المقتضية تشريفه.
ما اشتملت عليه السورة:
استهلت السورة ببيان وصف القرآن بأنه قيم مستقيم لا اختلاف فيه ولا تناقض في لفظه ومعناه، وأنه جاء للتبشير والإنذار.
ثم لفتت النظر إلى ما في الأرض من زينة وجمال وعجائب تدل دلالة واضحة على قدرة الله تعالى.
واتبع الله تعالى تلك القصة بأمر النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم بالتواضع ومجالسة الفقراء المؤمنين وعدم الفرار منهم إلى مجالسة الأغنياء لدعوتهم إلى الدين: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ.. [٢٨].
ثم هدد الله تعالى الكفار بعد إظهار الحق، وذكر ما أعده لهم من العذاب الشديد في الآخرة: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ.. [٢٩] وقارن ذلك بما أعده سبحانه من جنات عدن للمؤمنين الصالحين [٣٠- ٣١].
وأما قصة موسى مع الخضر في الآيات [٦٠- ٧٨] فكانت مثلا للعلماء في التواضع أثناء طلب العلم، وأنه قد يكون عند العبد الصالح من العلوم في غير أصول الدين وفروعه ما ليس عند الأنبياء، بدليل قصة خرق السفينة، وحادثة قتل الغلام، وبناء الجدار.
وأما قصة ذي القرنين في الآيات [٨٣- ٩٩] فهي عبرة للحكام والسلاطين، إذ أن هذا الملك تمكن من السيطرة على العالم، ومشرق الأرض ومغربها، وبنائه السد العظيم بسبب ما اتصف به من التقوى والعدل والصلاح.
وتخللت هذه القصص أمثلة ثلاثة بارزة رائعة مستمدة من الواقع، لإظهار أن الحق لا يقترن بالسلطة والغنى، وإنما يرتبط بالإيمان، وأول هذه الأمثلة:
قصة أصحاب الجنتين [٣٢- ٤٤] للمقارنة بين الغني المغتر بماله، والفقير المعتز
وثانيها: مثل الحياة الدنيا [٤٥- ٤٦] لإنذار الناس بفنائها وزوالها. وأردف ذلك بإيراد بعض مشاهد القيامة الرهيبة من تسيير الجبال، وحشر الناس في صعيد واحد، ومفاجأة الناس بضائف أعمالهم [٤٧- ٤٩].
وثالثها: قصة إبليس وإبائه السجود لآدم [٥٠- ٥٣] للموازنة بين التكبر والغرور، وما أدى إليه من طرد وحرمان وتحذير الناس من شر الشيطان، وبين العبودية لله والتواضع، وما حقق من رضوان الله تعالى.
وأردف ذلك بيان عناية القرآن بضرب الأمثال للناس للعظة والذكرى، وإيضاح مهام الرسل للتبشير والإنذار، والتحذير من الإعراض عن آيات الله [٥٤- ٥٧].
وأن سياسة التشريع اقتران الرحمة بالعدل، فليست الرحمة فوق العدل ولا العدل فوق الرحمة: وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ [٥٨- ٥٩].
وختمت السورة بموضوعات ثلاثة: أولها- إعلان تبديد أعمال الكفار وضياع ثمرتها في الآخرة [١٠٠- ١٠٦] وثانيها- تبشير المؤمنين الذين عملوا الصالحات بالنعيم الأبدي الأخروي [١٠٧- ١٠٨] وثالثها- أن علم الله تعالى لا يحده حد ولا نهاية له [١٠٩- ١١٠].
فضل هذه السورة:
ورد في فضائل سورة الكهف أحاديث صحاح ثابتة، منها:
ما رواه مسلم وأبو داود والنسائي والترمذي عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف، عصم من الدجال».
ومنها:
ما رواه الإمام أحمد ومسلم والنسائي، عن أبي الدرداء عن النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم