تفسير سورة الإسراء

تفسير الثعالبي
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب الجواهر الحسان في تفسير القرآن المعروف بـتفسير الثعالبي .
لمؤلفه الثعالبي . المتوفي سنة 875 هـ
سورة الإسراء.
مكية، وآياتها : ١١١.
هذه السورة مكية إلا ثلاث آيات. قال ابن مسعود في " بني إسرائيل "، و " الكهف " : إنهما من العِتاق الأُول، وهن من تِلادي "، يريد أنهن من قديم كسبه.

تفسير سورة الإسراء
هذه السورة مكّيّة إلا ثلاث آيات، قال ابن مسعود: في «بني إسرائيل»، و «الكهف» :
إنها من العتاق الأول، وهنّ من تلادي، يريد أنّهنّ من قديم كسبه «١».
[سورة الإسراء (١٧) : آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
قوله عزَّ وجلَّ: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: جل العلماء على أن الإسراء كان بشخصه صلّى الله عليه وسلّم، وأنه ركِب البُرَاق من مكَّة، ووصل إِلى بيت المقدس، وصلَّى فيه، وقالتْ عائشة ومعاوية: إِنما أُسْرِي بِرُوحه «٢»، والصحيحُ ما ذهب إليه الجمهورُ، ولو كانتْ منامةً، ما أمكن قريشاً التشنيعُ، ولا فُضِّل أبو بكر بالتصديق، ولا قالَتْ له أمُّ هانىء: لا تحدِّث الناس بهذا، فيكذِّبوك، إِلى غير هذا من الدلائل، وأما قول عائشة فإنها كانت صغيرة، ولا حدثت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وكذلك معاوية.
قال ابن «٣» العربيِّ: قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا قال علماؤنا: لو كان للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم اسم هو أشرَفُ منه، لسماه اللَّه تعالى به في تلك الحَالةِ العَلِيَّة، وقد قال الأستاذ جمال الإِسلام أبو القاسم عبد الكريم بن هَوَازِنَ: لما رَفَعه اللَّه إِلى حضرته السَّنِيَّةِ وأرقاه فوق الكواكِب العُلْويَّة الزمه اسم العبوديَّة، تواضُعاً وإِجلالاً للألوهية. انتهى من «الأحكام».
وسُبْحانَ مصدر معناه: تنزيهاً للَّه، وروى طلحة بن عبيد اللَّه الفَيَّاض أحد العَشَرة، أنه قال للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: ما معنى سبحان اللَّه؟ قال: تَنْزِيهُ اللَّه من كلّ سوء «٤»، وكان
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٣٤).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٦) برقم: (٢٢٠٣٣)، وذكره البغوي، وابن عطية (٣/ ٤٣٤).
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١١٩٢).
(٤) ذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٩٧- ٩٨). وقال: رواه البزار وفيه عبد الرحمن بن حماد الطلحي، وهو ضعيف بسبب هذا، وغيره.
الإسراء فيما قال مقاتِلٌ وقتادةُ: قبل الهجرة بعامٍ «١»، وقيل: بعام ونصفٍ، والمتحقِّق أن ذلك كان بَعْدَ شَقِّ الصحيفة، وقبل بيعة العقبة، ووقع في «الصحيحين» لشَرِيك بن أبي نَمِرٍ، وَهْمٌ في هذا المعنى فإنه روى حديثَ الإِسراء، فقال فيه: وذلك قبل أنْ يوحى إِليه، ولا خلاف بين المحدِّثين أن هذا وَهْمَ من شريك.
قال ص: أَسْرى بِعَبْدِهِ بمعنى: سَرَى، وليست همزتُهُ للتعدية، بل ك «سقى وأسقى»، والباء للتعدية، ولَيْلًا ظرفٌ للتأكيد لأن السُّرَى لا يكون لغةً إِلا بليلٍ، وقيل: يعنى به في جوف الليل، فلم يكن إِدْلاجاً ولا ادلاجا انتهى.
والْمَسْجِدِ الْأَقْصَى: بيت المقدس، «والأقصى» البعيدُ، والبركة حولَهُ منْ وجهين:
أحدهما، النبوَّة والشرائعُ والرسُل الذين كانوا في ذَلِكَ القُطْر، وفي نواحيه.
والآخر: النِّعَم من الأشجار والمياه والأرض المفيدة.
وقوله سبحانه: لِنُرِيَهُ يريد لنري محمَّداً بعينه آياتنا في السموات والملائكة والجَنَّةَ والسِّدْرةَ وغير ذلك من العجائبِ، مما رآه تلك الليلة، ولا خلاف أنَّ في هذا الإِسراء فُرِضَت الصلواتُ الخمسُ على هذه الأمة.
وقوله سبحانه: إِنَّهُ هُوَ/ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ وعيد للمكذِّبين بأمر الإِسراء، أي: هو السميع لما تقولون، البصير بأفعالكم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢ الى ٤]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ، أي: التوراة.
وقوله: أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا... الآية: التقديرُ: فعلنا ذلك لَئِلاَّ تتخذوا يا ذرية ف ذُرِّيَّةَ: منصوب على النداء، وهذه مخاطبة للعالَم، ويتجه نصبُ (ذرِّيَّة) على أنه مفعول ب «تتخذوا»، ويكون المعنى أَلاَّ يتخذوا بشراً إِلاها من دون الله، وقرأ أبو عمرو «٢»
(١) ذكره البغوي (٣/ ٩٢)، وابن عطية (٣/ ٤٣٥)، والسيوطي في «الدر المنثور»، وعزاه لابن مردويه، عَن عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عن أَبِيهِ، عَنْ جده.
(٢) وحجته أن الفعل قرب من الخبر عن بني إسرائيل، فجعل الفعل مسندا إليهم، والمعنى حينئذ: جعلناه هدى لبني إسرائيل، لئلا يتخذوا من دوني وكيلا.
450
وحده: «أَلاَّ يَتَّخِذُوا» بالياء، على لفظ الغائب، «والوكيل» هنا من التوكيل، أي: متوكَّلاً عليه في الأمور، فهو ندٌّ للَّه بهذا الوجه، وقال مجاهد: وَكِيلًا: شريكاً «١»، ووصف نوح بالشُّكْر لأنه كان يحمد اللَّه في كل حالٍ، وعلى كل نعمةٍ من المطعم والمشرب والملبس والبراز وغير ذلك صلّى الله عليه وسلّم، قاله سلمانُ الفارسيُّ وغيره «٢»، وقال ابن المبارك في «رقائقه» : أخبرنا ابنُ أبي ذئبٍ عن سعيدٍ المُقْبُرِيِّ عن أبيه عن عبد الله بن سَلاَمٍ: أن موسى عليه السلام قال: يا ربِّ، ما الشكْرُ الذي ينبغي لَكَ؟ قَالَ: يَا مُوسَى لا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِي «٣»، انتهى، وقد رُوِّيناه مسنداً عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أعني قوله: «لاَ يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْباً مِنْ ذِكْرِ اللَّه» «٤».
وقوله سبحانَهُ: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ... الآية: قالتْ فرقة: قَضَيْنا معناه:
في أم الكتاب.
قال ع «٥» : وإنما يُلْبِسُ في هذا المكان تعديةُ قَضَيْنا ب «إلى»، وتلخيصُ المعنى عندي: أنَّ هذا الأمر هو مما قضاه اللَّه عزَّ وجلَّ في أمِّ الكتاب على بني إسرائيل،
ينظر: «السبعة» (٣٧٨)، و «الحجة» (٥/ ٨٣)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٦٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٨٧)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٢٢)، و «العنوان» (١١٩)، و «شرح شعلة» (٤٦١)، و «حجة القراءات» (٣٩٦)، و «إتحاف» (٢/ ١٩٣).
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٧) برقم: (٢٢٠٣٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٤)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٩) برقم: (٢٢٠٤٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٤)، وعزاه للفريابي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم وصححه، والبيهقي في «شعب الإيمان».
(٣) أخرجه ابن المبارك في «الزهد» ص: (٣٣٠) رقم: (٩٤٢).
(٤) أخرجه الترمذي (٥/ ٤٥٨) كتاب «الدعوات» باب: ما جاء في فضل الذكر حديث (٣٣٧٥)، وابن ماجه (٢/ ١٢٤٦) كتاب «الأدب» باب: فضل الذكر، حديث (٣٧٩٣)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٣٠١) رقم:
(٥٩٠٢)، وأحمد (٤/ ١٩٠)، وفي «الزهد» ص: (٣٥)، والحاكم (١/ ٤٩٥)، وابن حبان (٢٣١٧- موارد)، وأبو نعيم في «الحلية» (٩/ ٥١)، وابن المبارك في «الزهد» ص: (٣٢٨) رقم: (٩٣٥)، والبيهقي (٣/ ٣٧١) كتاب «الجنائز» باب: طوبى لحسن طال عمره وحسن عمله، كلهم من طريق عمرو بن قيس الكندي، عن عبد الله بن بسر قال: جاء أعرابيان إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال أحدهما: يا رسول الله أخبرني بأمر أتشبث به، قال: فذكر الحديث.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، وصححه ابن حبان.
(٥) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٣٧). [.....]
451
وألزمهم إياه، ثم أخبرهم به في التَّوْرَاة على لسان موسى، فلما أراد هنا الإعلام لنا بالأمريْنِ جميعاً في إيجازٍ، جعل قَضَيْنا دالَّة على النفوذ في أم الكتاب، وقَرَن بها «إِلى» دالَّةً على إنزال الخير بذلك إلى بني إسرائيل، والمعنى المقصودُ مفهومٌ خلالَ هذه الألفاظ، ولهذا فسر ابنُ عباس مرةً بأن قال: قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ، معناه: أعلمناهم «١»، وقال مرّة:
«قضينا عليهم «٢» »، والْكِتابِ هنا التوراةُ لأن القَسَم في قوله: لَتُفْسِدُنَّ غير متوجِّه مع أنْ نجعل الْكِتابِ هو اللوح المحفوظ.
وقال ص: وقَضَيْنا: مضمَّنٌ معنى «أوْحَيْنَا» ولذلك تعدَّى ب «إلى»، وأصله أنْ يتعدَّى بنفسه إِلى مفعولٍ واحدٍ كقوله سبحانه: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [القصص:
٢٩] انتهى، وهو حسنٌ موافق لكلام ع، وقوله «ولتعلُنَّ» أي: لتتجبَّرُنَّ، وتطلبون في الأرض العُلوَّ، ومقتضى الآيات أن اللَّه سبحانه أعْلَمَ بني إسرائيل في التوراة، أنه سيقع منهم عصيانٌ وكفرٌ لِنِعمِ اللَّه، وأنه سيرسل عليهم أمةً تغلبهم وتذلُّهم، ثم يرحمهم بعد ذلك، ويجعل لهم الكَرَّة ويردُّهم إلى حالهم من الظهور، ثم تقع منهم أيضاً تلك المعاصِي والقبائِحَ، فيبعث اللَّه تعالى عليهم أمةً أخرى تخرِّب ديارهم، وتقتلُهم، وتجليهم جلاءً، مبرِّحاً، وأعطى الوجودَ بعد ذلك هذا الأمْرَ كلَّه، قيل: كان بين المرتَيْنِ مِائَتَا سنةٍ، وعَشْرُ سنينَ مُلْكاً مؤيّدا بأنبياء، وقيل: سبعون سنة.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥ الى ٨]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨)
وقوله سبحانه: فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما الضمير في قوله: أُولاهُما عائدٌ/ على قوله مَرَّتَيْنِ، وعبَّر عن الشر ب «الوعد» لأنه قد صرَّح بذكْرِ المعاقبة.
قال ص: وَعْدُ أُولاهُما، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠) برقم: (٢٢٠٥١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٠) برقم: (٢٢٠٥٢) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٢٩٦)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس رضي الله عنهما.
452
بذلك، وقيلَ: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدَّم واختلف الناس في العبيد المبعوثِينَ، وفي صورة الحال اختلافا شديداً متباعِداً، عيونُهُ أنَّ بني إِسرائيل عَصَوْا وقتلوا زكريَّاء عليه السلام، فغزاهُمْ سِنْجارِيبُ مَلِك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جَبْير «١».
وقال ابن عباس: غزاهُمْ جالوتُ من أهْل الجزيرة «٢»، وقيل: غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ، وروي أنه دخل قَبْلُ في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مَطْبَخ الملك، فاطلع مِنْ جور بني إِسرائيل على ما لم تعلمه الفُرْسُ، فَلمَّا انصرف الجيشُ، ذكر ذلك للملك الأعظَمِ، فلما كان بعد مدَّة، جعله الملك رئيسَ جيشٍ، وبعثه فخرَّب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرَفَ، فوجد المَلِكَ قد ماتَ، فمَلَكَ موضعه، واستمرت حاله حتى ملك الأرْضَ بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ في المرَّة الأخيرة حين عَصَوْا وقتلوا يحيى بن زَكَرِيَّاءَ، وصورة قتله: أن الملك أراد أنْ يتزوج بِنْتَ امرأته، فنهاه يحيى عَنْها، فعزَّ ذلك على امرأته، فزَّينت بنْتَها، وجعَلَتها تسقي المَلِك الخمر، وقالت لها:
إِذا راوَدَكَ عن نفسك، فتمنَّعي حَتَّى يعطيَكِ المَلِكُ ما تَتَمَنَّيْنَ، فإِذا قال لك: تَمنِّي عَلَيَّ ما أردتِّ، فقولي: رأسَ يحيى بن زكرياء، ففعلَتِ الجارية ذلك، فردَّها الملك مرَّتَيْنِ، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأْسِ في طَسْتٍ، ولسانُهُ يتكلَّم، وهو يقول: لا تحلُّ لك، وجرى دمُ يحيى، فلم ينقطعْ، فجعل الملك عليه التُرابَ، حتى ساوى سور المدينةِ، والدمُ ينبعث، فلما غزاهم المَلِكُ الذي بُعِثَ عليهم بحسب الخِلاَفِ الذي فيه، قَتَلَ منهم على الدمِ سبعين ألْفاً حتى سكَنَ، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقصٌ، وقرأ الناس:
«فَجَاسُوا»، وقرأ أبو السَّمَّال «٣» : بالحاء، وهما بمعنى الغلبةِ والدخولِ قهراً، وقال مُؤَرِّجٌ:
جاسوا خلال الأزقّة.
ت قال ص: فَجاسُوا مضارعه يجوس، ومصدره جوس وجوسان،
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٢٧) برقم: (٢٢٠٦٨)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٦)، وابن عطية (٣/ ٤٣٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٥).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٢٢٧) برقم: (٢٢٠٦٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٣٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٥).
(٣) ينظر: «المحتسب» (٢/ ١٥)، وقرأ بها طلحة كما في «الكشاف» (٢/ ٦٤٩)، وينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٣٩)، و «البحر المحيط» (٦/ ٩)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٧٢)، ووقع في «مختصر الشواذ» ص:
(٧٨)، نسبتها إلى أبي السمال بالحاء والشين «فحاشوا».
453
ومعناه: التردّد، وخِلالَ ظرف، أي: وسط الديار انتهى.
وقوله سبحانه: ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ... الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إِسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نَرُدُّ»، لما كان وعد اللَّه في غاية الثِّقَة، وأنه واقع لا محالة، فعبَّر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفْنا، فغَلَبَتْ بنو إِسرائيل على بيت المقدس، وملَكُوا فيه، وحَسُنت حالهم بُرْهةً من الدهْرِ، وأعطاهم اللَّه الأموالَ والأولادَ وجعلَهم إِذا نفروا إِلى أمْرٍ أكثر النَّاس، فلما قال اللَّه: إِني سأفعل بكم هكذا، عقّب بوصيَّتهم في قوله: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ... الآية، المعنى: إنكم بعملكم تجازون، ووَعْدُ الْآخِرَةِ معناه: من المرّتين.
وقوله: لِيَسُوؤُا اللام لام أمْرِ، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كْيِ كلّها، والضمير للعباد أولي البأس الشديد، والْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس، «وتَبَّر» معناه: أفسد بغشمٍ وركوب رأْس.
وقوله: مَا عَلَوْا، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: «ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.
وقوله سبحانه: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ... الآية: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ لبقية بني إِسرائيل: عسى ربكم إِن أطعتم في أنفسكم واستقمتم أنْ يرحمكم، وهذه العِدَةُ ليست برجوعِ دولةٍ، وإِنما هي بأنْ يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة اتباعهم لعيسى ومحمَّد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقابُ اللَّه عليهم بِضَرْبِ الذَّلة عليهم، وقتلِهمْ وإذلالِهمْ بِيَدِ كلِّ أمة، و «الحصير» : من الحَصْر بمعنى السَّجْن، وبنحو هذا فسَّره مجاهد وغيره «١»، وقال الحسن: «الحصير» في الآية: أراد به ما يفترشُ ويُبْسَطُ كالحصير المعروف عند الناس «٢».
قال ع «٣» : وذلك الحصيرُ أيضا هو مأخوذ من الحصر.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٤٢) برقم: (٢٢١٠٦)، ذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٤٢) برقم: (٢٢١٠٩)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٧)، وابن عطية (٣/ ٤٤٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٠).
454

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩ الى ١٠]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠)
وقوله سبحانه: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ... الآية: يَهْدِي، في هذه الآية بمعنى يرشدُ، ويتوجَّه فيها أن تكون بمعنى «يدعو» و «التي» يريد بها الحالَةَ والطريقةَ، وقالتْ فرقة: «التي هي أقوم» : لا إله إِلا اللَّه، والأول أعمُّ، «والأجر الكبير» الجنة وكذلك حيثُ وقع في كتاب اللَّه فضْلُ كبير، وأجرٌ كبيرٌ، فهو الجنة، قال البَاجِيُّ قال ابنُ وَهْبٍ: سمعتُ مالكاً يقول: إِن استطعت أن تجعل القرآن إِماماً، فافعلْ، فهو الإِمام الذي يهدي إِلى الجَنَّة. قال أبو سليمان الدارانيُّ: ربَّما أقَمْتُ في الآية الواحدةِ خَمْسَ ليالٍ، ولولا أني أدَعُ التفكُّر فيها، ما جزتها، وقال: إنما يُؤتَى على أحدكم من أنه إِذا ابتدأ السورة، أراد آخرها. قال الباجيُّ. وروى ابن لبابة عن العتبي عن سُحْنُون أنه رأى عبد الرحمن بن القاسم في النومِ، فقال له: ما فعلَ اللَّهُ بك؟ قال: وَجَدتُّ عنده ما أَحْبَبْتُ! قال له: فأي أعمالِكَ وجدتَّ أفضلَ؟ قال: تلاوة القرآن، قال: قلتُ له:
فالمسائلُ، فكان يشير بأصبعه كأنه يلشيها، فكنت أسأله عن ابن وَهْب، فيقول لي: هو في عِلِّيِّينَ. انتهى من «سنن الصالحين».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١ الى ١٢]
وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
وقوله سبحانه: وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا: سقطت الواوُ من يَدْعُ في خطِّ المصحف «١».
قال ابن عباس وقتادة ومجاهد: هذه الآية نزلَتْ ذامَّة لما يفعله الناس من الدعاء على أموالهم في وقت الغَضَبَ والضَّجَر، فأخبر سبحانه أنهم يدْعُون بالشرِّ في ذلك الوقتِ، كما يدعون بالخير في وقت التثبُّت، فلو أجاب اللَّه دعاءهم، أهلكهم، لكَّنه سبحانه يصفَحُ ولا يجيبُ دعاء الضَّجر المستعجل «٢»، ثم عَذَرَ سبحانه بعض العُذْرَ في أن الإنسان له عجلة
(١) قال الشيخ البنا: «واتفقوا على كتابة «ويدع الإنسان» بحذف الواو». ينظر: «إتحاف فضلاء البشر» (٢/ ٢٠٧).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٤٤) برقم: (٢٢١١٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠١)، وعزاه لابن جرير.
فطرية، والْإِنْسانُ هنا: يراد به/ الجنْس قاله مجاهد وغيره «١».
وقال ابن عباس وسليمان: الإِشارة إِلى آدم لما نفخ الرَّوح في رأسه، عَطَس وأبصر، فلما مشى الرُّوح في بدنه قبل ساقيه، أعجبته نفسه، فذهب ليمشي مستعجلاً لذلك «٢»، فلم يقدر، والمعنى على هذا فأنتم ذَوُوا عجَلةٍ موروثةٍ من أبيكم، وقالت فرقة: معنى الآية:
معاتبة الناس في دعائهم بالشرِّ مكانَ ما يجبُ أنْ يدعوه بالخير.
ت: قول هذه الفرقة نقله ع «٣» غير ملخَّص، فأنا لخَّصته.
وقوله سبحانه:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية هنا العلامةُ المنْصُوبة للنَّظَر والعبرة.
وقوله سبحانه: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ قالتْ فيه فرقة: سببُ تعقيب الفاء أن اللَّه تعالى خَلَق الشمْسَ والقَمَر مضيئَيْنِ، فمحا بعد ذلك القَمَرَ، محاه جبريلُ بجناحه ثلاثَ مرَّات، فمِنْ هنالك كَلَفُهُ، وقالت فرقة: إِن قوله: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ إِنما يريدُ في أصْلِ خلقته، وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً، أي: يُبْصَرُ بها ومعها، ليبتغي الناس الرزَقَ وَفَضْلَ اللَّهِ، وجعَلَ سبحانه القمَرَ مخالفاً لحالِ الشمْسِ ليعلم به العدَدُ من السنينَ والحسابُ للأشهرِ والأيامِ، ومعرفةُ ذلك في الشرْعِ إِنما هو من جهة القمرِ، لا من جهة الشمس، وحكى عياضٌ في «المدارك» في ترجمة الغازي بن قَيْس قال: روي عن الغازي بن قَيْس أنه كان يقول: ما مِنْ يومٍ يأتي إِلاَّ ويقولُ: أَنَا خَلْقٌ جَدِيد، وعَلَى مَا يُفْعَلُ فيَّ شَهِيد، فَخُذُوا مِنِّي قَبْلَ أنْ أَبِيد، فإِذا أمْسى ذلك اليومُ، خَرَّ للَّهِ ساجِداً، وقال: الحَمْدُ للَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلنِي الَيْوَم العَقيم. انتهى. «والتفصيل» البيان.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٣ الى ١٥]
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥)
وقوله سبحانه: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ قال ابن عباس: طائِرَهُ ما قدّر له
(١) ذكره الطبري (٨/ ٤٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤١).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٤٥) برقم: (٢٢١١٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤١)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠١)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر، وابن عساكر.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤١).
وعليه «١»، وخاطب اللَّه العربَ في هذه الآية بما تَعْرِف، وذلك أنه كان مِنْ عادتها التيمُّنُ والتشاؤم بالطَّيْر في كونها سانحةً وبارحةً، وكَثُر ذلك حتَّى فعلته بالظِّباء وحيوانِ الفَلاَ، وسمَّت ذلك كلَّه تَطَيُّراً، وكانتْ تعتقدُ أنَّ تلك الطِّيَرَةَ قاضية بما يلقي الإِنسان من خيرٍ وشرٍّ، فأخبرهم اللَّه تعالى في هذه الآية بأوجز لفظٍ، وأبلغِ إشارةٍ، أن جميع ما يلقى الإنسانُ من خير وشر قد سَبَقَ به القضاء، وألزم حظه وعمله وتكسُّبه في عنقه، وذلك في قوله عزَّ وجلَّ: وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ، فعَّبر عن الحظِّ والعمل إِذ هما متلازمانِ، بالطائر قاله مجاهد وقتادة «٢»، بحسب معتقد العرب في التطيُّرِ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً: هذا الكتابُ هو عمل الإِنسان وخطيئاته، اقْرَأْ كِتابَكَ أي: يقال له:
اقرأ كتابك، وأسند الطبريُّ عن الحسن، أنه قال: يا ابن آدم بُسِطَتْ لك صحيفةُ، ووُكِلَ بك مَلَكَانِ كريمانِ أحدهما عن يمينِكَ يكتُبُ حسناتِكَ، والآخر عن شمالِكَ يحفظُ سيئاتكَ، فأَمْلِلْ ما شئْتَ وأقلِلْ أو أكِثْر حتَّى إِذا مُتَّ طُوِيَتْ صحيفتُكَ فجعلَتْ في عنقك معَكَ في قَبْرك حتى تَخْرُجَ لك/ يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً قد عَدَلَ واللَّه فيكَ، مَنْ جعلك حسيبَ نَفْسك «٣».
قال ع «٤» فعلى هذه الألفاظِ التي ذكر الحسنُ يكون الطائرُ ما يتحصَّل مع ابْنِ آدم من عمله في قَبْره، فتأمَّل لفظه، وهذا قول ابن عباس «٥»، وقال قتادة في قوله: اقرأ كتابك:
إِنه سيقرأ يومئذ من لم يكن يقرأ «٦».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٦ الى ٢٠]
وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠)
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٤٧) برقم: (٢٢١٣٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٣)، وعزاه لابن المنذر، وابن أبي حاتم. [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٤٧) برقم: (٢٢١٣٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٣)، وعزاه لأبي داود في كتاب «القدر»، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٣)، وذكره ابن كثير (٣/ ٢٨) بنحوه، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤٤٣).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٤٩) برقم: (٢٢١٤١)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٢٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير.
(٦) أخرجه الطبري (٨/ ٥٠) برقم: (٢٢١٤٥)، وذكره البغوي (٣/ ١٠٨)، وابن عطية (٣/ ٤٤٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
457
وقوله سبحانه: وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
قرأ الجمهور «١» :«أَمَرْنَا» على صيغة الماضي، وعن نافع وابن كثير، في بعض ما رُوِيَ عنهما: «آمَرْنَا» بمد الهمزة بمعنى كَثَّرنا، وقرأ أبو عمرو بخلاف عنه: «أَمَّرْنَا» بتشديد الميم، وهي قراءة أبي عثمان النَّهْديِّ، وأبي العاليةِ وابن عبَّاسِ، ورُوِيَتْ عن علي، قال الطبري «٢» القراءة الأولى معناها:
أمرناهم بالطَّاعة، فعصَوْا وفَسَقُوا فيها، وهو قولُ ابن عباس «٣» وابنِ جبير، والثانية: معناها:
كَثَّرناهم، والثالثة: هي من الإِمارَةِ، أي ملَّكناهم على الناس، قال الثعلبي: واختار أبو عُبَيْد وأبو حاتمٍ قراءة الجمهور، قال أبو عُبَيْد: وإِنما اخترْتُ هذه القراءة، لأنَّ المعاني الثلاثةَ مجتمعةٌ فيها، وهي معنى الأمْرِ والإِمارة والكثرة انتهى.
ت: وعبارة ابن العربي «٤» : أَمَرْنا مُتْرَفِيها
يعني بالطاعة، ففسقوا بالمخالَفَة انتهى من كلامه على الأفعال الواقعة في القرآن، «والمترف» : الغنيُّ من المالِ المتنعِّم، والتُّرْفَةُ: النِّعمة، وفي مُصْحف أبيِّ بن كعب: «قَرْيَةً بَعَثْنَا أكابِرَ مُجْرِمِيها فَمَكَرُوا فيها».
وقوله سبحانه: فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
، أي: وعيدُ اللَّه لها الذي قاله رسولهم، «والتدميرُ» الإِهلاك مع طَمْس الآثار وهَدْمِ البناء.
وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ... الآية: مثال لقريشٍ ووعيدٌ لهم، أي: لستم ببعيد مما حصلوا فيه إِن كذبتم، واختلف في القرن، وقد روى محمَّد بن القاسم في خَتْنِهِ «٥» عَبْد اللَّه بن بُسْر، قال: وضع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يَدَهُ على رأسه، وقال: «سَيَعِيشُ هَذَا الغُلاَمُ قرنا»
(١) ينظر: اختلاف القراء في هذا الحرف في: «السبعة» (٣٧٩)، و «الحجة» (٥/ ٩١)، و «معاني القراءات» (٢/ ٨٩)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٢٦)، و «إتحاف» (٢/ ١٩٥)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٤)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٧)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٧٩)، و «المحتسب» (٢/ ١٥).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٥١).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٥١) برقم: (٢٢١٥٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٣٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٠٧)، وعزاه لابن جرير.
(٤) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١١٩٦).
(٥) في الحديث: علي ختن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أي زوج ابنته.
ينظر: «لسان العرب» (ختن).
458
قُلْتُ: كم القَرْنُ؟ قالَ: مِائَةُ سنة «١» قال محمد بن القاسِمِ: فما زِلْنَا نَعُدُّ له حتى كمل مائة سنة، ثم مات رحمه الله.
والباء في قوله: بِرَبِّكَ زائدةٌ، التقديرٌ وكفَى ربُّكَ، وهذه الباء إِنما تجيء في الأغلب في مَدْحٍ أو ذمٍّ، وقد يجيء «كَفَى» دون باء، كقول الشاعر: [الطويل]... كَفَى الشَّيْبُ وَالإِسْلاَمُ لِلمَرْءِ ناهِيَا «٢» وكقول الآخر: [الطويل] وقوله سبحانه: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها مَا نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ... الآية:
وَيُخْبرُني عَنْ غَائِبِ المَرْءِ هَدْيُهُ كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرْءُ مُخْبِرَا «٣»
المعنى فإِن اللَّه يعجِّل لمن يريدُ من هؤلاء ما يشاء سبحانه على قراءة النون «٤»، أو ما يشاء هذا المريد على قراءة الياء، وقوله: لِمَنْ نُرِيدُ شرط كافٍ على القراءتين، وقال أبو إسحاق الفَزَارِيُّ: المعني: لِمَنْ نريدُ هَلَكَتَه «٥»، و «المدحورُ» : المهان المُبْعَدُ المذَّلل المسخُوطُ عليه.
وقوله سبحانه: وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ، أي: إِرادَة يقينِ وإِيمانٍ بها، وباللَّهِ ورسالاتِهِ، ثم شرَطَ/ سبحانه في مريدِ الآخرة أنْ يَسَعى لها سَعْيَها، وهو ملازمة أعمال الخير على
(١) أخرجه الطبري في «تفسيره» (١٥/ ٤٤)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٥/ ٧١)، وزاد نسبته إلى ابن أبي حاتم.
(٢) عجز بيت وصدره:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا...
ينظر: «الإنصاف» (١/ ١٦٨)، و «خزانة الأدب» (١/ ٢٦٧)، (٢/ ١٠٢- ١٠٣)، و «سر صناعة الإعراب» (١/ ١٤١)، و «شرح التصريح» (٢/ ٨٨)، و «شرح شواهد المغني» (١/ ٣٢٥)، و «الكتاب» (٢/ ٢٦)، (٤/ ٢٢٥)، و «لسان العرب» (١٥/ ٢٢٦) (كفى)، و «مغني اللبيب» (١/ ١٠٦)، و «المقاصد النحويّة» (٣/ ٦٦٥)، وبلا نسبة في «أسرار العربيّة» ص: (١٤٤)، و «أوضح المسالك» (٣/ ٢٥٣)، و «شرح الأشموني» (٢/ ٣٦٤)، و «شرح عمدة الحافظ» ص: (٤٢٥)، و «شرح قطر الندى» ص: (٣٢٣)، و «شرح المفصل» (٢/ ١١٥)، (٧/ ٨٤)، (١٤٨)، (٨/ ٢٤، ٩٣، ١٣٨)، و «لسان العرب» (١٥/ ٣٤٤) (نهى).
(٣) البيت لزياد بن زيد العدوي، ينظر: في «الغراء» (٢/ ١١٩)، و «التهذيب»، و «اللسان» (هدى)، و «البحر» (٦/ ١٤)، و «الدر» (٤/ ٣٧٧).
(٤) قرأ الجمهور بالنون «نشاء». ونافع «يشاء» بالياء من تحت. ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٦)، و «البحر المحيط» (٦/ ١٨). [.....]
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٥٥) برقم: (٢٢١٧١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٦).
459
حُكْم الشرع، فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً ولا يشكر اللَّه سعياً ولا عملاً إِلا أثابَ عليه، وغفر بسببه ومنه قوله صلّى الله عليه وسلّم في حديثِ الرجُلِ الذي سَقَى الكَلْبَ العاطِشَ: «فَشَكَرَ اللَّهُ لَهُ فَغَفَرَ له «١» ».
وقوله سبحانه: كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يحتملُ أنْ يريد ب «العطاء» الطاعات لمريد الآخرةِ، والمعاصي لمريد العاجلةِ، وروي هذا التأويل عن ابن «٢» عباس، ويحتمل أن يريد بالعطاء رزقَ الدنيا، وهو تأويل الحسن بن أبي الحسن، وقتادة «٣»، المعنى أنه سبحانه يرزقُ في الدنيا من يريد العاجلَة ومريدَ الآخرة، وإِنما يقع التفاضُلُ والتبايُنُ في الآخرةِ، ويتناسَبُ هذا المعنى مع قوله: وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً، أي: ممنوعاً، وقَلَّمَا تصلح هذه العبارةُ لمن يمدّ بالمعاصي.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢١ الى ٢٢]
انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢)
وقوله: انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ الآية تُدلُّ دلالةً ما على أن العطاء في التي قبلها الرْزُق، وباقي الآية معناه أوضَحُ من أن يبيَّن.
وقوله سبحانه: لاَّ تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا هذه الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد لجميعِ الخلقِ، قاله الطبري «٤» وغيره، ولا مريةَ في ذمِّ مَنْ نحت عوداً أو حجراً، وأشركه في عبادة ربه.
قال ص: فَتَقْعُدَ، أي: فتصير بهذا فسره الفراء وغيرهُ اه.
«والخذلان» في هذا بإِسلام اللَّه لعبده، ألا يتكفَّل له بنصرٍ، والمخذولُ الذي أسلمه ناصروه، والخاذل من الظباء التي تترك ولدها.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٣ الى ٢٨]
وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧)
وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨)
(١) أخرجه البخاري (١٠/ ٤٥٢) كتاب «الأدب» باب: رحمة الناس والبهائم، حديث (٦٠٠٩) من حديث أبي هريرة.
(٢) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٦).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٥٦) برقم: (٢٢١٧٥) وبرقم: (٢٢١٧٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٤٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» ((٤/ ٣٠٨)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبي نعيم في «الحلية».
(٤) ينظر: «الطبري» (٨/ ٥٧).
460
وقوله سبحانه: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ... الآية: قَضى، في هذه الآية: هي بمعنى أمر وألزم وأوجب عليكم وهكذا قال الناس، وأقول: إن المعنى وقَضَى ربك أمره، فالمقضِيُّ هنا هو الأمْرُ، وفي مصحفِ ابن مسعود «١» :«وَوَصَّى رَبُّكَ»، وهي قراءة ابن عباس وغيره، والضمير في تَعْبُدُوا لجميع الخلق وعلى هذا التأويل مضى السلفُ والجمهور، ويحتمل أنْ يكون قَضى على مشهورها في الكلامِ، ويكون الضمير في تَعْبُدُوا للمؤمنين من الناس إِلى يوم القيامة.
وقوله: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ معنى اللفظة أنها اسمُ فعل كأن الذي يريد أن يقول:
أَضْجَرُ أو أتقذَّرُ أو أكْرَه، ونحوَ هذا، يعبِّر إيجازاً بهذه اللفظة، فتعطي معنى الفعْل المذكورِ، وإذا كان النهْيُ عن التأفيفِ فما فوقه من باب أحَرى، وهذا هو مفهومُ الخِطَابِ الذي المسكُوتُ عنه حُكْمُهُ حكْمُ المذكور.
قال ص: وقرأ الجمهور الذُّلِّ بضم الذال، وهو ضد العِزِّ، وقرأ ابن عباس «٢» وغيره بكسرها، وهو الانقيادُ ضدُّ الصعوبة انتهى، وباقي الآية بيِّن.
قال ابن الحاجب في «منتهى الوُصول»، وهو المختصَرُ الكَبِير: المفهومُ ما دَلَّ عليه اللفظُ في غَيْرِ مَحَلِّ النُّطْق، وهو: مفهوم موافقة، ومفهومُ مخالفة، فالأول: أنْ يكون حُكْمُ المفهومِ موافقاً للمنطوق في الحُكْم، ويسمَّى فَحْوَى الخطابِ، ولَحْنَ الخِطَابِ، كتحريم الضَّرْبِ من قوله تعالى: فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وكالجَزَاء/ بما فَوْقَ المِثْقالِ من قوله تعالى:
(١) وقال ابن عباس: إنما التصقت الواو بالصاد.
ينظر: «مختصر شواذ ابن خالويه» ص: (٧٩)، و «الكشاف» (٢/ ٦٥٧)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٧)، وزاد نسبتها إلى النخعي، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران، وأبي بن كعب.
وينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٢٣).
(٢) وقرأ بها سعيد بن جبير، وعروة بن الزبير، والجحدري، وحماد الأسدي، عن أبي بكر رضي الله عنه، ورويت عن عاصم بن أبي النجود.
قال أبو الفتح: الذل في الدابة: ضد الصعوبة، والذّل في الإنسان، وهو ضد العز.
ينظر: «المحتسب» (٢/ ١٨)، و «الشواذ» ص: (٧٩)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٤٩)، و «البحر المحيط» (٦/ ٢٦)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٨٦).
461
وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة: ٧]، وكتأديةِ ما دُونَ القْنطار من قوله تعالى: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: ٧٥] وعدم تأدية ما فوق الدينار من قوله تعالى: بِدِينارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ [آل عمران: ٧٥] وهو من قبيل التنبيه بالأدنى على الأعلى، والأعلى على الأدنى، فلذلك كان الحُكم في المسكوتِ أولى، وإِنما يكون ذلك إِذا عُرِفَ المقصودُ من الحُكْم، وأنه أشدُّ مناسبةً في المسكوت كهذه الأمثلة، ومفهومُ المخالفة: أنْ يكونَ المَسْكُوتُ عنه مخالفاً للمنطوقِ به في الحُكْم ويسمَّى دليلَ الخطاب «١» وهو أقسامٌ: مفهومُ الصفة «٢» مثل: «في الغَنَمِ السَّائِمَةِ الزَّكَاةُ»، ...
(١) تقدم التعريف ب «دليل الخطاب».
(٢) مفهوم الصّفة: هو ما يفهم من تعليق الحكم على الذّات بصفة من صفاتها، كما في قوله صلّى الله عليه وسلّم: «في سائمة الغنم زكاة»، فإن الغنم ذات، والسوم والعلف وصفان لها يعتورانها، وقد علق الحكم وهو وجوب الزكاة بأحد وصفيها، وهو السوم، فيفهم منه نفي الوجوب عن المعلوفة لانتفاء الصّفة التي علق الحكم بها، وهي السوم، وكما في قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ [النساء: ٢٥]، فالفتيات: جمع فتاة، وهي ذات يعتورها الإيمان والشرك، وقد علق الحكم بأحدهما، وهو الإيمان، فيدل على نفيه عن غير المؤمنات.
والمراد بالصفة عند الأصوليين: لفظ مقيد لآخر، وليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية، وبعبارة أخرى:
هي تقييد لفظ مشترك المعنى بلفظ آخر يختصّ ببعض معانيه ليس بشرط، ولا استثناء، ولا غاية بعد أن كان صالحا لما له تلك الصفة ولغيرها، سواء كان ذلك اللفظ المختص نعتا نحويا مثل: «في الغنم السّائمة زكاة»، أو مضافا مثل: «في سائمة الغنم زكاة»، أو مضافا إليه مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «مطل الغنيّ ظلم»، أو ظرف زمان مثل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «من ابتاع نخلا بعد أن تؤبّر فثمرتها للبائع»، أو ظرف مكان مثل «بع في مكان كذا»، أو حالا نحو: «أحسن إلى العبد مطيعا» لأن المخصوص بالكون في مكان أو زمان موصوف بالاستقرار فيه، والحال وصف لصاحبها في المعنى، أو كان ذلك اللفظ المختص علة مثل:
«أعط السائل لحاجته»، فالمفهوم في المثال «الأول»، و «الثاني» : عدم وجوب الزكاة في الغنم المعلوفة.
«وفي الثالث» : أن مطل الفقير ليس ظلما.
«وفي الرابع» : أن ثمرة النخلة المؤبّرة بعد البيع ليست للبائع، وإنما تكون للمشتري.
«وفي الخامس» : عدم البيع في غير المكان المخصوص.
«وفي السادس» : عدم الإحسان إليه إذا كان عاصيا.
«وفي السابع» : عدم الإعطاء عند عدم الحاجة لأن المعلول ينتفي بانتفاء علّته، فإن الحكم لما علق في هذه الأمثلة بصفة خاصة صار ثبوته مرتبطا بثبوت تلك الصفة، وعليه فانتفاؤها يدل على انتفائه.
«والفرق بين مطلق الصفة، وخصوص العلة». أن الصّفة قد تكون علّة كالإسكار، وقد لا تكون، بل هي متممة لها، كالسّوم، فإن وجوب الزكاة في الغنم السائمة ليس للسوم فقط، وإلا لوجبت في الوحوش السائمة، وإنما وجبت لنعمة الملك، وهي مع السوم أتم منها مع العلف، فالصفة أعم من العلة. وبذلك يعلم أن الصفة عند الأصوليين أعم منها عند النحويين.
462
ومفهومُ الشرط «١»، مثل: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ [الطلاق: ٦]...
وقد اختلف في الحكم على المشتقّ نحو: «في السّائمة زكاة» هل ذلك يجري مجرى المقيد بالصفة مثل:
«في الغنم السّائمة زكاة» ؟
فقيل: لا يجري مجراه لاختلال الكلام بدونه، فيكون كاللقب.
وقيل: إنه يجري مجراه لدلالته على السّوم الزائد على الذات، بخلاف اللقب، فيفيد نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا، كما يفيد إثباتها للسائمة مطلقا، ويؤخذ من كلام ابن السمعاني، كما قال الجلال المحليّ: إن الجمهور على الثاني حيث قال: «الاسم المشتق، كالمسلم، والكافر والقاتل، والوارث يجري مجرى المقيد بالصفة عند الجمهور، قال شيخ الإسلام: وهو قوي لأن تعريف الوصف صادق عليه.
غايته أن الموصوف مقدر، وذكر الموصوف أو تقديره لا تأثير له فيما نحن بصدده، وذلك نحو قوله صلّى الله عليه وسلّم:
الثّيّب أحقّ بنفسها من وليّها»
فمنطوقه ثبوت أحقية الثيب في تزويج نفسها من وليها، ومفهومه المخالف عدم أحقّية غير الثيب، وهي البكر في تزويج نفسها لانتفاء الصفة التي علّق بها الحكم، وهي الثيوبة.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٣٠)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٦)، و «التمهيد» للأسنوي (٣٤٥)، و «نهاية السول» له (٢/ ٢٠٥)، و «غاية الوصول» للشيخ زكريا الأنصاري (٣٩)، و «المنخول» للغزالي (٢١٣)، و «حاشية البناني» (١/ ٢٤٩)، و «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٣٧٠)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٢٦)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٢٦)، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (٢/ ١٧٤)، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (١/ ١٤٣)، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (١/ ٥٧٩)، و «نشر البنود» للشنقيطي (١/ ٩٦)، وينظر: «العدة» (٢/ ٤٥٣)، و «التبصرة» (٢١٨)، و «المنخول» (٢٠٨)، و «المسودة» (٣٥١، ٣٦٠).
(١) مفهوم الشّرط هو: ما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة شرط ك «إن»، و «إذا» مما يدل على سببية الأول، ومسبّبيّة الثاني، كما في قوله عزّ وجلّ: وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطلاق: ٦] فإنه يفهم منه عند القائلين بمفهوم المخالفة أو غير أولات الأحمال من المطلقات طلاقا بائنا- لا يجب الإنفاق عليهنّ، لأن المشروط ينتفي شرطه، وإنما قيدنا الطلاق ب «البائن» لأن المطلقة طلاقا رجعيّا يجب الإنفاق عليها في العدة، حاملا كانت أو لا بالإجماع، والخلاف إنما هو في المبانة.
«والشرط في اللّغة» : هو العلامة، وجاء منه أشراط الساعة، أي: علاماتها، وفي العرف العام: ما يتوقّف عليه وجود الشّيء، وفي اصطلاح المتكلمين: ما يتوقف عليه تحقق الشيء، ولا يكون في ذلك الشيء، ولا مؤثرا فيه.
«وفي اصطلاح النحاة» : ما دخل عليه شيء من الأدوات المخصوصة الدالّة على سببية الأول ومسببية الثاني ذهنا أو خارجا، سواء كان علّة للجزاء مثل: «إن كانت الشمس طالعة، فالنهار موجود» - أو معلولا مثل: «إن كان النهار موجودا، فالشمس طالعة» أو غير ذلك مثل: إن دخلت الدّار، فأنت طالق».
ويسمى شرطا لغويا أيضا لأن المركب من «إن» وأخواتها، ومن مدخولها- لفظ مركب وضع لمعنى يعرف من اللغة، وإن كان النحوي يبحث عنه من وجه آخر، وهو المقصود بالذات، هنا لا الشرعي
463
كالطهارة للصلاة، ولا العقلي كالحياة للعلم، ولا العادي كنصب السّلّم لصعود السطح، وإنما كان المقصود هو النحوي لأن الكلام هنا فيما يفهم من تعليق الحكم على شيء بأداة مخصوصة، كما هو مقتضى تعريف مفهوم الشرط، وهذا إنما يتأتى في خصوص الشرط النحوي على ما لا يخفى.
هذا حاصل القول في تعريف مفهوم الشرط.
قبل الشروع في بيان مذاهب العلماء في حجية مفهوم الشرط واستدلالهم ينبغي أن نحرر محلّ النزاع في هذا المقام، ومجمل القول في ذلك أنه لا نزاع بين العلماء في انتفاء الحكم عند انتفاء شرطه، وإنما النزاع في الدال على هذا الانتفاء هل هو التعليق بالشرط، أو البراءة الأصلية؟ - وبيان ذلك أن في تعليق الحكم بالشرط مثل: «إن دخلت الدار، فأنت طالق» - أمورا أربعة:
«الأمر الأول» : ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط.
«الأمر الثاني» : عدم الجزاء عند عدم الشرط.
«الأمر الثالث» : دلالة التعليق على الأول.
«الأمر الرابع» : دلالته على الثاني.
واتفق العلماء على الثلاثة الأول، وإنما النزاع في الأمر الرابع بعد الاتفاق على أن عدم الجزاء ثابت عند عدم الشرط.
فعند القائلين بالمفهوم: ثبوته لدلالة التعليق عليه، وعند النفاة ثابت بمقتضى البراءة الأصلية، فالنزاع إنما هو في دلالة حرف الشرط على العدم، لا على أصل العدم عند العدم فإنّ ذلك ثابت قبل أن ينطق الناطق بكلام، وهذا الكلام في سائر المفاهيم.
قال أبو زيد الدّبّوسي، وهو من المنكرين له: «انتفاء المعلّق حال عدم الشرط، لا يفهم من التعليق، بل يبقى على ما كان قبل ورود النص».
هذا هو تحرير محل النزاع، وإذا تحقّق هذا، فنقول: اختلف العلماء والأصوليون في حجية مفهوم الشرط على مذهبين:
«المذهب الأول» : أنه حجة، أي: أن تعليق الحكم بالشرط يدل على انتفاء ذلك الحكم عند انتفاء الشرط وإلى هذا ذهب جميع القائلين بمفهوم الصّفة، وبعض من لم يقل به، كالإمام فخر الدين الرّازي، وابن سريج، وأبي الحسن البصري، وأبي الحسن الكرخي، ونقله أبو الحسين السهيلي في «آداب الجدل» عن أكثر الحنفية، وابن القشيري عن معظم أهل العراق، وإمام الحرمين عن أكثر العلماء.
«المذهب الثاني» : أنّه ليس بحجة، أي: أن تعليق الحكم بالشرط لا يدلّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط بل يبقى الحكم عند انتفاء الشرط على العدم الأصلي، وهذا مذهب أبي حنيفة والمحققين من أصحاب مذهبه، وأكثر المعتزلة كما نقله عنهم صاحب «المحصول»، ونقله ابن التلمساني عن الإمام مالك كما اختاره القاضي أبو بكر الباقلاني، وحجة الإسلام الغزّالي، وسيف الدين الآمدي، والقفال الشاشي، وأبو حامد المروزيّ من الشافعية.
ينظر: «حاشية البناني» (١/ ٢٥١)، و «الإبهاج» لابن السبكي (١/ ٣٨٠)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٣٠)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٢٩)، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١/ ١٠٠)، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (٢/ ١٨٠)، و «شرح التلويح على التوضيح» لسعد الدين مسعود بن عمر التفتازاني (١/ ١٥٥)، و «ميزان الأصول» للسمرقندي (١/ ٥٨٠)،
464
ومفهوم الغاية «١»، مثل: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠].
و «نشر البنود» للشنقيطي (١/ ٩٨).
(١) «مفهوم الغاية» : هو ما يفهم من تقييد الحكم بأداة غاية ك «إلى»، و «حتى»، وغاية الشيء آخره، وذلك كما في قوله عزّ وجلّ: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ
[البقرة: ٢٢٢]، فمنطوق الآية تحريم قربان النساء مدة زمان الحيض، وقبل الغسل، وتدل بمفهومها المخالف على جواز القربان منهن بعد انقضاء زمان الحيض، والاغتسال- وقوله تعالى:
فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [البقرة: ٢٣٠]، فمنطوقه أن عدم حلّ المطلقة ثلاثا لمطلّقها- مغيا بنكاح الزوج الآخر، ومفهومه المخالف أنها تحل له بعد نكاح الزّوج الآخر لها بشرطه- وقول النّبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا زكاة في مال، حتّى يحول عليه الحول» فالمنطوق عدم وجوب الزكاة في المال قبل حولان الحول عليه، والمفهوم المخالف وجوب الزكاة في المال بعد حولان الحول عليه- وقوله عزّ وجلّ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ [البقرة: ١٨٧] فإنه يفهم منه عدم وجوب الصيام في الليل.
واختلف الأصوليون في حجية مفهوم الغاية، وبعبارة أخرى في القول به إثباتا، ونفيا- على مذهبين:
«المذهب الأول» : أنه حجّة، بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية يدل على انتفاء ذلك الحكم عما بعدها وإليه ذهب جميع القائلين بمفهوم الصفة والشرط، وبعض من لم يقل بهما كحجة الإسلام الغزالي، وعبد الجبار المعتزلي، والإمام أبي الحسين البصري، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض الأصوليين من الحنفية.
وفي هذا يقول سليم الرازي: لم يختلف أهل العراق في ذلك.
وقال القاضي في «التّقريب» : صار معظم نفاة دليل الخطاب إلى أن التقييد بحرف الغاية يدل على انتفاء الحكم عما وراء الغاية.
قال: ولهذا أجمعوا على تسميتها غاية.
«المذهب الثاني» : أنّه ليس حجّة، بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية لا يدل على انتفاء الحكم عما بعدها، بل هو مسكوت عنه غير متعرّض له بنفي أو إثبات وهو مذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة من الفقهاء والمتكلمين، واختاره سيف الدين الآمدي طردا لباب المنع من العمل بالمفاهيم.
هذا حاصل في حجية مفهوم الغاية، وقد اتضح لك أنه مفروض فيما وراء الغاية لا في الغاية نفسها وذهب بعضهم إلى أنه مفروض في الغاية نفسها بمعنى أن تقييد الحكم بالغاية، هل يدلّ على انتفاء ذلك الحكم في الغاية نفسها أو لا يدلّ؟ - فالذي يقول بمفهومها، يقول بانتفاء الحكم فيها، ومن لا فلا، وهو مردود لتصريح أكثر العلماء، لا سيما المحققين منهم أن النزاع هنا إنما هو فيما بعد الغاية لا في الغاية نفسها، نعم في الغاية خلاف أيضا، ولكنه خلاف آخر:
وحاصل هذا الخلاف: هل الغاية داخلة في حكم المغيا أو خارجة عنه؟ وهو خلاف لا دخل له في هذا المقام فإن الكلام هنا في دلالة المخالفة وعدمها، والخلاف هناك في الدخول والخروج، وأين أحدهما من الآخر؟! فإنه على التقدير الثاني لا يستلزم المخالفة فإن الخروج أعم من أن يدل على المخالفة، أو يكون مسكوتا عنه بخلاف الأول، وهو ظاهر، على أنا إن قلنا: بخروج الغاية عن المغيّا يأتي خلاف المفهوم فيها أيضا، وبالجملة فهما خلافان متغايران: [.....]
465
ومفهوم إنَّما «١» مثل: «إنما الرِّبَا في النَّسِيئَةِ» ومفهومُ الاستثناء «٢» مِثل: لا إله إلا الله ومفهوم العددِ الخاصِّ «٣»، مثلَ: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤]، ومفهوم حصر
«أحدهما» : أن تقييد الحكم بالغاية، هل يدل على نفي الحكم عما بعدها أو لا؟
«والثاني» : أن هذه الغاية، هل هي داخلة في حكم المغيا أو لا؟ ولا ربط لأحدهما بالآخر، والمبحوث عنه هنا هو الأول دون الثاني، والثاني يجتمع مع القول بالمفهوم وعدمه كما أن النزاع الأول يجتمع مع القول بالدخول والخروج، ولا تنافي بينهما.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٤٦)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٦)، و «نهاية السول» للأسنوي (٢/ ٢٠٥)، و «حاشية البناني» (١/ ٢٥١)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٣٠)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٣٠)، و «تيسير التحرير» لأمير بادشاه (١/ ١٠٠)، و «حاشية التفتازاني» والشريف على «مختصر المنتهى» (٢/ ١٨١)، و «الوجيز» للكراماستي (٢٤)، وينظر: «المسودة» (٣٥١)، و «الآيات البينات» (٢/ ٣٠).
(١) اختلف العلماء في إفادة «إنّما» للحصر على مذهبين:
«المذهب الأول» : إنها تفيد الحصر بمعنى قصر الأول على الثاني من مدخوليها بحيث لا يتجاوزه إلى غيره بمعنى أن تقييد الحكم بها يدل على إثباته للمذكور في الكلام آخرا ونفيه عن غيره مثل «إنّما الشّفعة فيما لم يقسم» فإنه يدل على إثبات الشفعة في غير المقسوم، ونفيها عما قسم، وهذا مذهب أكثر العلماء.
«المذهب الثاني» : إنها لا تفيد الحصر، بمعنى: أن تقييد الحكم بها لا يدل إلا على تأكيد إثبات الشفعة فيما لم يقسم، ولا دلالة له على نفيها عن غيره، بل هو مسكوت عنه غير متعرض له لا بنفي، ولا بإثبات، وإليه ذهب أصحاب أبي حنيفة، وجماعة ممن أنكر دليل الخطاب، واختاره سيف الدين الآمدي، وأبو حيان، ونسبه إلى النّحويّين، غير أن الكمال بن الهمام تعقب نسبة هذا المذهب إلى الحنفية: بأن الحنفية كثر منهم نسبتهم الحصر إلى «إنّما» كما في «كشف الأسرار»، و «الكافي»، و «جامع الأسرار» وغيرها.
هذا هو حاصل الخلاف في مفهوم الحصر ب «إنّما».
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٥٠)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٧)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٤٣)، و «حاشية التفتازاني»، والشريف على «مختصر المنتهى» (٢/ ١٨٢- ١٨٣)، و «نشر البنود» للشنقيطي (١/ ٩٦).
(٢) «المقصود بمفهوم الاستثناء» : هو ما يفهم من تقييد الحكم بأداة الاستثناء، والاستثناء: هو إخراج ما لولاه لوجب دخوله، والمراد بالاستثناء هنا الاستثناء من الكلام التام الموجب، وذلك مثل: «قام القوم إلّا زيدا» فإنّه يفهم منه انتفاء الحكم الثابت للمستثنى منه، وهو القوم عن المستثنى، وهو زيد، وإنما قيدنا الاستثناء بكونه من الإثبات لإخراج الاستثناء من النفي، فإنه نوع من أنواع الحصر.
ينظر: «البحر المحيط» للزركشي (٤/ ٤٩)، و «الإحكام في أصول الأحكام» للآمدي (٣/ ٦٧)، و «الآيات البينات» لابن قاسم العبادي (٢/ ٢٧)، و «حاشية العطار على جمع الجوامع» (١/ ٣٢٩).
(٣) إذا علق حكم بعدد معين، مثل: فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً [النور: ٤] فهل يدلّ ذلك على نفي الحكم عما عدا ذلك العدد أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على طريقين:
«الطريق الأول» : أنه يدل، وإليه ذهب مالك ونقله عن الشافعي أبو حامد، وأبو الطيب الطبري،
466
المبتدإِ «١» مثل: العِالمُ زَيْد، وشرطُ مفهومِ المخالفة عْند قائله ألاَّ يظهر أن المسكوتَ عنه أولى ولا مساوياً كمفهومِ الموافَقَةِ، ولا خرج مخرج الأعمّ الأغلب، مثل: وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [النساء: ٢٣] فأما مفهومُ الصفةِ، فقال به الشافعيُّ، ونفاه الغَزَّاليُّ وغيره. انتهى.
وفسَّر الجمهوُرُ الأوَّابين بالرَّجَّاعين إلى الخير، وهي لفظة لزم عُرْفُها أهْلَ الصلاح.
ت: قال عَبْدُ الحقِّ الأشَبِيليُّ: وأعَلَمْ أنَّ الميت كالحيِّ فيما يُعْطَاه ويُهْدى إِليه، بل الميت أكثر وأكثر لأن الحي قد يستقلُّ ما يُهْدَى إِليه، ويستحقرُ ما يُتْحَفُ به، والميت لا يستحقر شيئاً من ذلك، ولو كان مقدارَ جناحِ بعوضةٍ، أو وزْنَ مثقالِ ذرةٍ، لأنه يعلم قيمته، وقد كان يقدر عليه، فضيَّعه، وقد قال عليه السلام: «إِذَا مَاتَ الإِنسانُ انقطع عمله إلّا من ثلاث: إِلاَّ مِنْ صَدَقَةَ جَارِيَةٍ، أَوْ علْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» «٢» فهذا دعاء
والماوردي وغيرهم، ونقله أبو الخطاب الحنبليّ في «تمهيده» عن أحمد بن حنبل، وإليه ذهب داود الظاهري، وكذا الطحاوي، وصاحب «الهداية» والكرخي، ورضي الدين صاحب «المحيط» من الحنفية.
«الطّريق الثّاني» : أنّه لا يدلّ، وإليه ذهب أصحاب الشافعي، وأبو حنيفة وأصحابه، وابن داود، والمعتزلة، والأشعرية، والقاضي أبو بكر الباقلاني، واختاره إمام الحرمين، والإمام البيضاوي في «المنهاج»، وجرى عليه الإمام الرازي في «المحصول» والآمدي في «الإحكام».
(١) اختلف العلماء في دلالة تعريف المبتدأ باللام أو الإضافة على الحصر بمعنى نفي الحكم عن غير المذكور وعدمه على مذهبين:
«المذهب الأول» : إنه يدل على الحصر، وهذا مذهب حجة الإسلام الغزالي، وإمام الحرمين، والإمام الرازي، والجمهور من الفقهاء والمتكلمين.
«المذهب الثاني» : إنه لا يدل على الحصر، وإليه ذهب كثير من الحنفية، والقاضي أبو بكر الباقلاني وجماعة من الفقهاء والمتكلمين وهو ما اختاره الآمدي.
(٢) أخرجه مسلم (٣/ ١٢٥٥) كتاب «الوصية» باب: ما يلحق الإنسان من الثواب، حديث (١٤/ ١٦٣١)، والبخاري في «الأدب المفرد» رقم: (٣٨)، وأبو داود (٢/ ١٣١) كتاب «الوصايا» باب: ما جاء في فضل الصدقة عن الميت، حديث (٢٨٨٠)، والترمذي (٣/ ٦٦٠) كتاب «الأحكام» باب: في الوقف، حديث (١٣٧٦)، والنسائي (٦/ ٢٥١) كتاب «الوصايا» باب: فضل الصدقة على الميت، وأحمد (٢/ ٣٧٢)، وابن خزيمة (٤/ ١٢٢) رقم: (٢٤٩٤)، وأبو يعلى (١١/ ٣٤٣) رقم: (٦٤٥٧)، وابن الجارود في «المنتقى» رقم: (٣٧٠)، والدولابي في «الكنى والأسماء» (١/ ١٩٠)، والطحاوي في «مشكل الآثار» (١/ ١٩٠)، والبيهقي (٦/ ٢٧٨) كتاب «الوصايا» باب: الدعاء للميت، وابن عبد البر في «جامع بيان العلم وفضله» (١/ ١٥)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٣٧- بتحقيقنا). كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاثة، صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
467
الولدِ يصلُ إِلى والده، وينتفعُ به، وكذلك أمره عليه السلام بالسَّلاَمِ على أهْلِ القُبُورِ والدعاءِ لهمْ «١» ما ذاك إِلا لكونِ ذلك الدعاءِ لهُمْ والسلام عليهمْ، يصلُ إليهم ويأتيهم، والله
(١) أخرجه مالك (١/ ٢٨- ٢٩) كتاب «الطهارة» باب: جامع الوضوء، حديث (٢٨)، ومسلم (١/ ٢١٨) كتاب «الطهارة» باب: استحباب إطالة الغرة والتحجيل، حديث (٣٩/ ٢٤٩)، وأبو داود (٢/ ٢٣٨) كتاب «الجنائز» باب: ما يقول إذا زار القبور أو مرّ بها، حديث (٣٢٣٧)، والنسائي (١/ ٩٣- ٩٥) كتاب «الطهارة» باب: حلية الوضوء، وابن ماجه (٢/ ١٤٣٩) كتاب «الزهد» باب: ذكر الحوض، حديث (٤٣٠٦)، وأحمد (٢/ ٣٠٠، ٤٠٨)، وأبو عوانة (١/ ١٣٨)، وأبو يعلى (١١/ ٣٨٧- ٣٨٨) رقم:
(٦٥٠٢)، وابن حبان (١٠٣٢، ٣١٦٨)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة». رقم (١٨٩)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٥٣- بتحقيقنا). كلهم من طريق العلاء بن عبد الرحمن، عن أبيه، عن أبي هريرة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى المقبرة فقال: «السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا بكم إن شاء الله لاحقون... ».
وفي الباب عن عائشة وبريدة.
حديث عائشة: أخرجه مسلم (٢/ ٦٦٩) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (١٠٢/ ٩٧٤)، والنسائي (٤/ ٩٣- ٩٤)، كتاب «الجنائز» باب: الأمر بالاستغفار للمؤمنين، والبيهقي (٤/ ٧٨- ٧٩) كتاب «الجنائز» باب: ما يقول إذا دخل مقبرة (٥/ ٢٤٩) كتاب «الحج» باب: في زيارة القبور التي في بقيع الغرقد، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٣٠٦- بتحقيقنا)، وأبو يعلى (٨/ ١٩٩) رقم: (٤٧٥٨) كلهم من طريق شريك بن أبي نمر، عن عطاء بن يسار، عن عائشة قالت: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كلما كانت ليلتها من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخرج من آخر الليل إلى البقيع فيقول:
«السلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا وإياكم متواعدون غدا ومؤجلون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، اللهم اغفر لأهل بقيع الغرقد».
وأخرجه مسلم (٢/ ٦٦٩) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (١٠٣/ ٩٧٤) وعبد الرزاق (٦٧١٢) من طريق محمد بن قيس بن مخرمة، عن عائشة.
وأخرجه ابن ماجه (١/ ٤٩٣) كتاب «الجنائز» باب: ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، حديث (١٥٤٦)، وأبو يعلى (٨/ ٦٩) رقم (٤٥٩٣) كلاهما من طريق شريك بن عبد الله، عن عاصم بن عبيد الله، عن عبد الله بن عامر، عن عائشة به. بلفظ: فقدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاتبعته فأتى البقيع فقال:
«السلام عليكم دار قوم مؤمنين أنتم لنا فرط وإنا بكم لاحقون، اللهم لا تحرمنا أجرهم ولا تفتنا بعدهم».
وأخرجه أبو يعلى (٨/ ٨٥- ٨٦) رقم: (٤٦١٩) من طريق يحيى بن سعيد، عن القاسم بن محمد، عن عائشة.
حديث بريدة: أخرجه مسلم (٢/ ٦٧١) كتاب «الجنائز» باب: ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها، حديث (١٠٤/ ٩٧٥)، والنسائي (٤/ ٩٤) كتاب «الجنائز» باب: الأمر بالاستغفار للمؤمنين، وابن ماجه (١/ ٤٩٤) كتاب «الجنائز»، باب: ما جاء فيما يقال إذا دخل المقابر، حديث (١٥٤٧) وابن أبي شيبة (٤/ ١٣٨)، وابن السني في «عمل اليوم والليلة» رقم: (٥٨٢)، وأحمد (٥/ ٣٥٣، ٣٥٩، ٣٦٠)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٣٠٤- بتحقيقنا)، عن بريدة قال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر: «السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون أنتم لنا فرط ونحن لكم تبع نسأل الله العافية».
468
أعلم، وروي عنه عليه السلام أنه قال: «لكون الميِّتُ في قَبْرِهِ كالغَرِيقِ يَنْتَظرُ دَعْوَةً تَلْحَقُهُ من ابْنِهِ أَو أَخِيهِ أو صَدِيقِهِ، فَإِذَا لَحِقَتْهُ، كَانَتْ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنَ الدَّنْيا وَمَا فِيهَا» والأخبارُ في هذا الباب كثيرةٌ انتهى من «العاقبة».
ت: وروى مالك في «الموطإ» عن يحيى بن سعيدٍ، عن سعيد بن المسيَّب، أنه قال: كان يقال: إِن الرجُلَ ليُرْفَعُ بدعاءِ ولده من بعده وأشارَ بيَدِهِ نحو السماء «١». قال أبو عمرو: وقد روّيناه بإسناد جيِّدٍ، ثم أسند عن أبي هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْفَعُ العَبْدَ الدَّرَجَةَ، فَيقُولُ: أَيْ رَبِّ، إِنَّى لي هَذِهِ الدَّرَجَةُ؟ فَيقالُ: باسْتِغْفَارَ وَلَدِكَ لَكَ» انتهى من «التمهيد» «٢»، وروِّينا في «سنن أبي داود» أنَّ رجُلاً مِنْ بني سَلَمَةَ قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقيَ مِنْ برِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ، أَبُّرُهُمَا/ بِهِ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: نَعَمْ الصَّلاَةُ عَلَيْهما، والاسْتِغْفَارُ لَهُما وإِنْفَاذُ عَهْدِهِما مِنْ بَعْدِهِمَا، وَصَلَةُ الرَّحِمِ التي لاَ تُوَصَلُ إِلاَّ بِهمَا، وإِكْرَامُ صَدِيِقِهَما» «٣» انتهى.
وقوله سبحانه: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ... الآية: قال الجمهورُ: الآية وصيةٌ للنَّاس كلِّهم بصلة قرابتهم، خوطِبَ بذلك النبيّ صلّى الله عليه وسلّم والمراد الأمة، «والحَقُّ»، في هذه الآية، ما يتعيَّن له مِنْ صلة الرحم، وسدِّ الخُلْة، والمواساةِ عند الحاجة بالمالِ والمعونةِ بكلِّ وجْه قال بنحو هذا الحسنُ وابن عباس وعكرمة «٤» وغيرهم، «والتبذير» إِنفاق المال في فسادٍ أو في سرفٍ في مباحٍ.
وقوله تعالى: وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ، أي: عمَّن تقدَّم ذكره من المساكين وابن السبيل، فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً، أي: فيه ترجيةٌ بفضل اللَّه، وتأنيسٌ بالميعاد الحسنِ، ودعاءٌ في توسعة اللَّه وعطائه، وروي أنه صلّى الله عليه وسلّم كان يقولُ بَعْدَ نزولِ هذه الآية، «إِذَا لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يُعْطِي: يَرْزُقُنا اللَّهُ وإيّاكم من فضله» «٥» والرحمة على هذا التأويل: الرزق
(١) أخرجه مالك في «الموطأ» (١/ ٢١٧) كتاب «القرآن» باب: العمل في الدعاء، حديث (٣٨).
(٢) أخرجه أحمد (٢/ ٥٠٩) من حديث أبي هريرة، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (١٠/ ٢١٣)، وقال:
رواه أحمد، والطبراني في «الأوسط»، ورجالهما رجال الصحيح غير عاصم بن بهدلة، وقد وثق.
(٣) أخرجه أبو داود (٢/ ٧٥٨) كتاب «الأدب» باب: في برّ الوالدين، حديث (٥١٤٢)، وابن ماجه (٢/ ١٢٠٨- ١٢٠٩) كتاب «الأدب» باب: «صل من كان أبوك يصل»، حديث (٣٦٦٤)، والحاكم (٤/ ١٥٤- ١٥٥)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٦٧) برقم: (٢٢٢٤٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣١٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن المنذر، عن الحسن رضي الله عنه.
(٥) ينظر: «القرطبي» (١٠/ ٢٤٩).
469
المنتظر، وهذا قول ابن عباس «١» وغيره، والميسور: من اليسر.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٢٩ الى ٣٠]
وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ استعارةٌ لليد المقبوضةِ عن الانفاق جملةً، واستعير لليد التي تستنفِذُ جميعَ ما عنْدها غايةَ البَسْطِ ضِدّ الغُلِّ، وكلُّ هذا في إِنفاق الخير، وأما إِنفاق الفساد، فقليله وكثيره حرامٌ، أو الملامة هنا لاحقةٌ ممن يطلب من المستحقين، فلا يجدُ ما يعطى، «والمحسورُ» الذي قد استنفدَتْ قوته، تقولُ: حَسَرْتُ البَعِيرَ إِذا أتْعَبْتَهُ حتى لم تَبْقَ له قوة ومنه البَصَرِ الحَسِير.
قال ابنُ العربيِّ «٢» وهذه الآية خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد أمته، وكثيراً ما جاء هذا المعنى في القرآن، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم لمَّا كان سيِّدَهم وواسطَتَهم إِلى ربِّهم، عبِّر به عنهم، على عادة العرب في ذلك. انتهى من «الأحكام»، و «الحسير» : هو الكالُّ.
إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ معنى يَقْدِرُ: يضيِّق.
وقوله سبحانه: إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً، أي: يعلم مصلحة قَوْمٍ في الفقر، ومصلحةَ آخرين في الغنى.
وقال بعضُ المفسِّرين: الآية إِشارةٌ إِلى حال العرب التي كانَتْ يصلحها الفَقْرَ، وكانت إِذا شبعتْ، طَغَتْ.
ت: وهذا التأويلُ يَعْضُدُهُ قوله تعالى: وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ... الآية [الشورى: ٢٧] ولا خصوصيَّة لذكْر العرب إِلا مِنْ حيث ضرب المثل.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣١ الى ٣٥]
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وقوله سبحانه: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ... الآية: نهي عن الوأد الذي
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٧٠) برقم: (٢٢٢٥٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٢١)، وعزاه لابن جرير. [.....]
(٢) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٠٤).
470
كانت العرب تفعله، «والإِملاق». الفقر وعَدَم المال، وروى أبو داود عن ابن عباس، قال:
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ ابْنَةٌ فَلمْ يَئِدْهَا، ولَمْ يُهِنْهَا، وَلَمْ يُؤثِرْ وَلَدَهُ عَلَيْهَا- قال:
يَعْني الذُّكُورَ- أدْخَلَهُ اللَّهُ الجَنة»
«١» انتهى. والحق الذي تقتل به النفس: قد فسّره النبي صلّى الله عليه وسلّم في قوله: «لاَ يُحِلُّ دَمَ المُسْلِمِ إلاَّ إحْدَى ثَلاَثِ خِصَالٍ: كُفْرُ بَعْدَ/ إِيمَانٍ، أو زناً بَعْدَ إِحْصَانٍ، أوْ قَتْلُ نَفْسٍ» «٢» أي: وما في هذا المعنى مِنْ حرابةٍ أو زندقةً ونحو ذلك.
وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً أي: بغير الوجوه المذكورة، فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً، ولا مدخل للنساء في ولاية الدَّمِ عند جماعة من العلماءِ، ولهنَّ ذلك عند آخرين، «والسلطان» : الحجة والملك الذي جُعِلَ إِليه من التخيير في قبول الدية أو العفو قاله ابن عبَّاس «٣». قال البخاريُّ: قال ابن عباس: كلُّ سلطانٍ في القرآن فهو حُجَّة «٤». انتهى، وقال قتادة: «السلطان» : القود «٥».
(١) تقدم تخريجه.
(٢) أخرجه الشافعي (٢/ ٩٦) كتاب «الديات»، الحديث (٣١٨)، والطيالسي ص: (١٣)، الحديث (٧٢)، وأحمد (١/ ٦١)، والدارمي (٢/ ٢١٨) كتاب «السير» باب: لا يحل دم رجل يشهد أن لا إله إلا الله، والترمذي (٤/ ١٩) كتاب «الديات» باب: ما جاء، لا يحل دم امرئ مسلم، الحديث (١٤٠٢)، والنسائي (٧/ ١٠٣) كتاب «تحريم الدم» باب: الحكم في المرتد، وابن ماجه (٢/ ٨٤٧) كتاب «الحدود» باب: لا يحل دم امرئ مسلم إلا في ثلاث، الحديث (٢٥٣٣)، والحاكم (٤/ ٣٥٠) كتاب «الحدود»، وابن الجارود ص: (٢١٣) رقم (٨٣٦) من حديث عثمان.
وقال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
وأخرجه الطيالسي ص: (٢١٦)، الحديث (١٥٤٣)، وأحمد (٦/ ٢١٤)، وأبو داود (٤/ ٥٢٢) كتاب «الحدود» باب: الحكم فيمن ارتد، الحديث (٤٣٥٣)، والنسائي (٧/ ١٠١- ١٠٢) باب: الصلب، والحاكم (٤/ ٣٦٧) من حديث عائشة، وقال الحاكم صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.
وأخرجه البخاري (١٢/ ٢٠١) كتاب «الديات» باب: قوله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ، حديث (٦٨٧٨).
ومسلم (٣/ ٧٣٠٢) كتاب «القسامة» باب: ما يباح به دم المسلم (٢٥/ ١٦٧٦)، والترمذي (١٤٠٢)، وأبو داود (٤٣٥٢)، والنسائي (٧/ ٩٢)، وابن ماجه (٢٥٣٤)، والدارمي (٢/ ٢١٨)، والدارقطني (٣/ ٨٢)، والبيهقي (٨/ ١٩)، وأحمد (١١/ ٣٨٢، ٤٢٨، ٤٤٤، ٤٦٥)، عن عبد الله بن مسعود مرفوعا بنحوه.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٧٥) برقم: (٢٢٢٨٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٢٦)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٧٥) برقم: (٢٢٢٨٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٣).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٧٥) برقم: (٢٢٢٨٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٣)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٢٦)، وعزاه لابن أبي حاتم.
471
وقوله سبحانه: فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ المعنى: فلا يَتَعَدَّ الوليُّ أمْرَ اللَّه بأنْ يقتل غير قاتِلِ وليِّه، أو يقتل اثنين بواحدٍ إلى غير ذلك من وجوه التعدِّي، وقرأ «١» حمزة والكسائيُّ، وابن عامر: «فَلاَ تُسْرِفْ» - بالتاء من فوق-، قال الطبري «٢» : على الخطاب للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم والأئمة بعده.
قال ع: ويصحَّ «٣» أنْ يراد به الوليُّ، أي: فلا تسرفْ أيُّها الولي، والضميرُ في «إِنه» عائدٌ على «الوليِّ»، وقيل: على المقتول، وفي قراءة أبي بن «٤» كعب: «فَلاَ تُسْرُفوا في القِتَال إِنَّ وليَّ المَقْتُول كانَ مَنْصُوراً»، وباقي الآية تقدَّم بيانه، قال الحسن:
بِالْقِسْطاسِ هو «٥» القَبَّان «٦»، وهو القرسطون، وقيل: القِسْطَاسِ: هو الميزانُ، صغيراً كان أو كبيراً.
قال ع «٧» : وسمعت أبي رحمه الله تعالى يَقُولُ: رأيْتُ الواعِظَ أبا الفضْلِ الجَوْهَرِيَّ رحمه الله في جامعِ عمرو بن العاص يعظُ النَّاسَ في الوزْن، فقال في جملة كلامه: إِن في هيئة اليَدِ بالميزانِ عِظَةً، وذلك أنَّ الأصابعَ يجيءُ منها صُوَرةُ المكتوبة ألف ولامَانِ وهاء، فكأنَّ الميزان يقولُ: اللَّه، اللَّه.
قال ع «٨» : وهذا وعظٌ جميلٌ، «والتأويل»، في هذه الآية المآل قاله «٩» قتادة،
(١) وحجتهم: قراءة عبد الله: «فلا تسرفوا في القتل». وحجة الباقين: أن هذا الكلام أتى عقيب خبر عن غائب، وهو قوله: مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً.
ينظر: «السبعة» (٣٨٠)، و «الحجة» (٥/ ٩٨- ٩٩)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٧٢)، و «معاني القراءات» (٢/ ٩٤)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٣٠)، و «العنوان» (١١٩)، و «حجة القراءات» (٤٠٢)، و «شرح شعلة» (٤٦٣)، و «إتحاف» (٢/ ١٩٧).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٧٦).
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٣).
(٤) ينظر: «الشواذ» ص: (٨٠)، و «الكشاف» (٢/ ٦٦٥)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٣)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣١).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٧٩) برقم: (٢٢٣٠٤)، وذكره البغوي (٣/ ١١٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٢٩)، وعزاه لابن المنذر، عن الضحاك.
(٦) هو الميزان ذو الذراع الطويلة المقسمة أقساما، ينقل عليها جسم ثقيل يسمى الرمانة لتعين وزن ما يوزن.
ينظر: «المعجم الوسيط» (٧٢٠).
(٧) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٥).
(٨) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٥). [.....]
(٩) أخرجه الطبري (٨/ ٧٩) برقم: (٢٢٣٠٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٥)، وابن كثير في «تفسيره»
472
ويحتمل أنْ يكون التأويلُ مصدر تأولَّ، أي: يتأول عليكم الخَيْر في جميع أموركم، إِذا أحسنتم الكيلَ والوَزْن.
وقال ص: تَأْوِيلًا أي: عاقبة انتهى.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٦ الى ٣٨]
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)
وقوله سبحانه: وَلا تَقْفُ معناه لا تقُلْ ولا تتَّبع، واللفظة تستعملُ في القَذْف ومنه قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «نَحْنُ بَنُو النَّضْرِ لاَ نَقْفُوا أُمَّنَا، وَلاَ نَنْتِفى مِنْ أَبِينَا»، وأصل «١» هذه اللفظة من اتباع الأثر، تقول: قَفَوْتُ الأَثَرَ، وحكى الطبريُّ «٢» عن فرقةٍ أنها قالَتْ: قَفَا وقَافَ، مثل عَثَا وعَاث، فمعنى الآية: ولا تتبع لسانَكَ من القول ما لا عِلْمَ لك به، وبالجملة: فهذه الآية تنهى عن قول الزور والقذفِ وما أشبه ذلك من الأقوال الكاذبة والمُرْدِيَة.
إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا عبَّر عن هذه الحواسِّ ب أُولئِكَ. لأن لها إدراكاً وجعلها في هذه الآية مسؤولة، فهي حالَةُ مَنْ يعقل.
ت: قال ص: وما توهمه ابنُ عطية أُولئِكَ تختصُّ بمن يعقل ليس كذلك إِذ لا خلاف بين النحاة في جواز إطلاق «أولاء» و «أولئك» على مَنْ لا يعقل.
ت: وقد نقل ع «٣» الجَوَازَ عن الزَّجَّاجِ وفي ألفِيَّةِ ابْنِ مالك: [الرجز] وبأولى أشر لجمع مطلقا «٤»...
(٣/ ٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٢٨)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(١) أخرجه ابن ماجه (٢/ ٨٧١) كتاب «الحدود» باب: من نفى رجلا من قبيلة، حديث (٢٦١٢) من طريق عقيل بن طلحة، عن مسلم بن هيضم، عن الأشعث بن قيس قال: أتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في وفد كندة ولا يروني إلا أفضلهم فقلت: يا رسول الله ألستم منا؟ فقال: فذكره، وقال البوصيري في «الزوائد» : هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات عقيل بن طلحة وثقه ابن معين والنسائي، وذكره ابن حبان في الثقات، وباقي رجال الإسناد على شرط مسلم.
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ٨٠) بنحوه.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٦).
(٤) وبعده:
............... والمدّ أولى ولدي البعد انطقا
473
فقال ولده بدر الدين: أي سواءٌ كان مذكَّراً أو مؤنَّثاً، وأكثر ما يستعمل فيمن يعقل، وقد يجيء/ لغيره كقوله: [الكامل]
ذُمَّ المَنَازِلَ بَعْدَ مَنْزِلَةِ اللِّوَى والعَيْشَ بَعْدَ أُوَلئِكَ الأَيَّامِ «١»
وقد حكى «٢» ع البيْتَ، وقال: الرواية فيه «الأقوامِ»، واللَّه أعلم انتهى.
والضمير في عَنْهُ يعودُ على ما ليس للإِنسان به عِلْم، ويكون المعنى: إِن اللَّه تعالى يَسْأَل سَمْعَ الإِنسان وبَصَره وفُؤَاده عمَّا قال مما لاَ عْلَم له به، فيقع تكذيبه مِنْ جوارحه، وتلك غايةُ الخزْي، ويحتمل أنْ يعود على كُلُّ التي هي السمْعُ والبصر والفؤاد، والمعنى: إن اللَّه تعالى يسأل الإِنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده.
قال صاحبُ «الكَلِمِ الفَارِقِيَّة» : لا تَدَعْ جَدْوَلَ سمِعْكَ يجرى فيه أُجَاج الباطل فيلهب باطنك بنار الحِرْص على العاجل، السَّمْعُ قُمْعٌ تغور فيه المعاني المَسْمُوعة إِلى قرار وعاء القَلْب، فإنْ كانَتْ شريفةً لطيفةً، شرَّفَتْه ولطَّفَتْه وهذَّبَتْه وزكَّتْه، وإِن كانَتْ رذيلةً دنيَّةً، رذَّلَتْه وخبَّثَتْه، وكذلك البصَرُ منْفُذٌ مِنْ منافذ القلب، فالحواسّ الخمس كالجداول والرواضع
بالكاف حرفا دون لام أو معه واللّام إن قدّمت «ها» ممتنعة
أي: يشار إلى الجمع- مذكرا كان أو مؤنثا- ب «أولى» ممدودا أو مقصورا، والمد أولى، لأنه لغة الحجاز، وبه جاء التنزيل، قال تعالى: ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ والقصر لغة تميم.
وأشار بقوله: «ولدي البعد انطقا... » إلخ: إلى أن المشار إليه له رتبتان: قربى، وبعدي:
أما المرتبة القربى: فتكون بدون كاف الخطاب ولام البعد، سواء مع «ها» التنبيه أو بدونها، تقول: (ذا- هذا)، و (ذي- هذي)، و (ذان- هذان)، و (تان- هاتان)، و (أولى- هؤلى)، و (أولاء- هؤلاء).
والمرتبة البعدى: تكون بكاف الخطاب دون لام البعد أو معها، فإن جاءت معها اللام امتنعت «ها» التنبيه، وكنا إن تقدمت «ها» امتنعت اللام، وهذا ما أشار إليه الناظم بقوله: «واللام إن قدمت «ها» ممتنعه»، فتقول: (ذاك- هذاك- ذلك)، و (تيك- هاتيك- تلك)، وعلى ذلك قس، وعلى هذاك قول طرفة [من الطويل] :
رأيت بني غبراء لا ينكرونني ولا أهل هذاك الطّراف الممدّد
(١) البيت لجرير في «ديوانه» ص: (٩٩٠)، وفيه «الأقوام» مكان «الأيّام»، و «تخليص الشواهد» ص:
(١٢٣)، و «خزانة الأدب» (٥/ ٤٣٠)، و «شرح التصريح» (١/ ١٢٨)، و «شرح شواهد الشافية» ص:
(١٦٧)، و «شرح المفصّل» (٩/ ١٢٩)، و «لسان العرب» (١٥/ ٤٣٧) (أولي)، و «المقاصد النحويّة» (١/ ٤٠٨)، وبلا نسبة في «أوضح المسالك» (١/ ١٣٤)، و «شرح الأشموني» (١/ ٦٣)، و «شرح ابن عقيل» ص: (٧٢)، و «المقتضب» (١/ ٨٥).
واستشهد فيه بقوله: «أولئك الأيام» حيث أشار ب «أولاء» إلى «الأيّام» ممّا يدلّ على جواز الإشارة ب «أولاء» إلى جمع غير العاقل. ويروى «الأقوام» مكان «الأيّام»، ولا شاهد فيه حينئذ.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٦).
474
تَرْضَعُ من أثداءِ الأشياء التي تُلاَبِسُها، وتأخذ ما فيها من معانيها وأوصافها، وتؤدِّيها إلى القَلْب وتنهيها. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً قرأ الجمهور «١» مَرَحاً بفتح الحاء مصدر: مَرِحَ يَمْرَحُ إِذا تسيَّب مسروراً بدنياه، مقبلاً على راحته، فنُهِيَ الإِنسانُ أنْ يكون مشيه في الأرض على هذا الوجه، وقرأت فرقةٌ «٢» :«مَرِحاً» بكسر الراء، ثم قيل له: إنك أيها المرح المختال الفخور، لن تَخْرِقَ الأرض، ولن تطاول الجبال بفخْرك وكبْرك، «وخرق الأرض» قَطْعها ومَسْحها واستيفاؤها بالمشْي.
وقوله سبحانهُ: كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ قرأ نافعٌ وابن كثير «٣» وأبو عمرو: «سَيِّئَةً» فالإِشارة بذلك على هذه القراءةِ إلى ما تقدَّم ذكره مما نهي عنه كقوله: أُفٍّ [الإسراء:
٢٣] وقذف الناس، والمَرَحِ، وغيرِ ذلك، وقرأ عاصم وابن عامرٍ وحمزةُ والكسائيُّ «سَيِّئُهُ» على إضافة «سَيِّىء» إلى الضمير، فتكون الإِشارة على هذه القراءة إلى جميع ما ذَكَرَ في هذه الآيات من برّ ومعصية، ثم اختص ذكر السّيّئ منه، بأنه مكروه عند الله تعالى.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٣٩ الى ٤٠]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠)
وقوله سبحانه: ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ... الآية: الإِشارةُ ب ذلِكَ إلى هذه الآداب التي تضّمنتها هذه الآيات المتقدّمة، والْحِكْمَةِ: قوانينُ المعاني المُحِكَمة، والأفْعَالِ الفاضلة.
ت: فينبغي للعاقل أنْ يتأدَّب بآداب الشريعة، وأنْ يحسن العشرْة مع عَبادِ اللَّه، قال الإِمام فَخْرُ الدِّين ابْنُ الخَطِيب في «شرح أسماء اللَّه الحسَنى» كان بعضُ المشايِخِ يقولُ: مَجَامِعُ الخَيْرَاتِ محصُورَةٌ في أمرَيْنِ صِدْقٍ مَعَ الحَقِّ، وخُلُقٍ مع الخَلْقِ انتهى، وذكر هشامُ بنُ عبْدِ اللَّهِ القرطبيُّ في تاريخه المسمَّى ب «بهجة النّفس»، قال: دخل عبد
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٦)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٩١).
(٢) وقرأ بها يحيى بن يعمر. ينظر: «مختصر الشواذ» ص: (٨٠)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٧)، و «البحر المحيط» (٦/ ٣٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٣٩١).
(٣) وحجتهم فيما قال أبو عمرو: «ولا يكون فيما نهى الله عنه شيء حسن، فيكون سيئه مكروها».
وينظر: «السبعة» (٣٨٠)، و «الحجة» (٥/ ١٠٢)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٧٣)، و «معاني القراءات» (٢/ ٩٥)، و «العنوان» (١٢٠)، و «شرح الطيبة» (٤/ ٤٣١)، و «حجة القراءات» (٤٠٣)، و «شرح شعلة» (٤٦٣)، و «إتحاف» (٢/ ١٩٧).
الملكِ بْنُ مَرْوَانَ على معاويةَ، وعنده عَمْرُو بن العاص، فلم يَلْبَثْ أنْ نَهَضَ، فقال معاوية/ لعمْرٍو: ما أكْمَلَ مُرُوءَةَ هذا الفتى! فقال له عمرو: إنه أخذ بأخْلاَقٍ أربعةٍ، وترك أخلاقاً ثلاثةً، أخذ بأحْسَنِ البشر إِذا لقي، وبأحْسن الاستماع إِذا حُدِّثَ، وبأحْسَنِ الحديثِ إِذَا حَدَّث، وبأحسنِ الرَّدِّ إِذا خولِفَ، وتركَ مُزَاحَ من لا يُوثَقُ بعقله، وتَرَكَ مخالَطَةَ لِئَامِ النَّاس، وتَرَكَ مِنَ الحديثِ ما يُعْتَذَرُ منْه. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ... الآية: خطاب للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والمراد غيره، «والمدحورُ» المهانُ المُبْعَدُ.
وقوله سبحانه: أَفَأَصْفاكُمْ... الآية خطابٌ للعرب، وتشنيعٌ عليهم فَسَادَ قولهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤١ الى ٤٤]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤)
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا، أي صرَّفنا فيه الحِكَمَ والمواعظ.
وقوله سبحانه: إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا قال سعيدُ بن جُبَيْر وغيره: معنى الكلام: لاَبْتَغَوْا إِليه سبيلاً في إِفساد مُلْكِهِ ومُضَاهَاته في قُدْرته «١»، وعلى هذا: فالآية بيان للتمانُع، وجاريةٌ مع قوله تعالى: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [الأنبياء: ٢٢].
قال ع «٢» : ونقتضب شيئاً من الدليل على أنه لا يجوزُ أَنْ يكونَ مَعَ اللَّهِ تبارَكَ وتعالى إله غيره على ما قال أبو المَعَالي وغيره: أنا لو فَرَضَناه، لفَرَضْنا أن يريد أحدهما تسكينَ جِسْمٍ والآخرُ تحريكَهُ، ومستحيلٌ أن تنفذ الإِرادتانِ ومستحيلٌ ألاَّ تنفذَا جميعاً، فيكون الجسْمُ لا متحِّركاً، ولا ساكناً، فإِن صحَّت إِرادة أحدهما دون الآخر، فالذي لم تتمَّ إِرادته ليس بإله، فإِن قيل: نفرضهما لا يختلفانِ، قُلْنا: اختلافُهما جائزٌ غيرُ مُمْتَنعٍ عقلاً، والجائز في حُكْمِ الواقعِ، ودليلٌ آخر: أنَّه لو كان الاثنانِ، لم يمتنعْ أنْ يكونوا ثلاثةً، وكذلك ويتسلسل إِلى ما لا نهاية له، ودليلٌ آخر: أنَّ الجزء الذي لا يتجزَّأُ من المخترعات لا تتعلَّق به إِلا قدرةٌ واحدةٌ لا يصحُّ فيها اشتراك، والآخر كذلك دأبا، فكل جزء إنما يخترعه
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٥٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٣١)، وعزاه لابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٤٥٩). [.....]
واحدٌ، وهذه نبذة شرحُهَا بحَسَبِ التقصِّي يطولُ.
وقوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ... الآية: اختلف في هذا «التسبيح»، هل هو حقيقةٌ أو مجاز، ت: والصوابُ أنه حقيقة، ولولا خشية الإطالة، لأتينا من الدلائل على ذلك بما يثلج له الصّدر.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٥ الى ٤٧]
وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧)
وقوله سبحانه: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يعني كفَّارَ مكّة وحِجاباً مَسْتُوراً يحتمل أن يريد به حمايةَ نبيِّه منهم وقْتَ قراءته وصلاتِهِ بالمَسْجد الحرام كما هو معلوم مشهورٌ ويحتمل أنه أراد أنه جعل بين فَهْم الكفرة وبَيْنَ فَهْم ما يقرؤه صلّى الله عليه وسلّم حجاباً، فالآية على هذا التأويل: في معنى التي بعدها.
وقال الواحديُّ: قوله تعالى: وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ... الآية: نزلَتْ في قومٍ كانوا يؤذون النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، إِذا قرأ القرآن فحَجَبَه اللَّه عن أعينهم عنْدَ قراءة القرآن، حتى يكونوا يَمُرُّونَ به ولا يَرَوْنَه.
وقوله: مَسْتُوراً معناه: ساتراً انتهى.
«والأكنَّة» جمع كِنَان، وهو ما غطى الشيء، «والوَقْرُ» : الثِّقَل في الأُذُن، المانِعُ/ من السمعِ، وهذه كلُّها استعاراتٌ للإِضلالِ الذي حَفَّهم اللَّه به.
وقوله سبحانُهُ: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ... الآية: هذا كما تقولُ: فلان يستمعُ بإِعراضٍ وتغافلٍ واستخفافٍ، «وما» بمعنى «الذي»، قيل: المراد بقوله: وَإِذْ هُمْ نَجْوى اجتماعُهم في دار الندوة، ثم انتشرت عنهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٤٨ الى ٥١]
انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
وقوله سبحانه: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ... الآية: حكى الطبري «١» أنها
(١) ينظر: «الطبري» (٨/ ٨٨).
نزلَتْ في الوليدِ بْنِ المُغِيرة وأصحابه.
وقوله سبحانه: فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا، أي: إلى إِفساد أمرك وإطفاء نورك، وقولهم: أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً الآية في إِنكارهم البَعْثَ، وهذا منهم تعجُّب وإنكار واستبعاد و «الرُّفَاتُ» من الأشياء: ما مَرَّ عليه الزمانُ حتى بلغ غايةَ البِلَى، وقربه مِنْ حالة التُّرَابَ.
وقال ابن عباس: رُفاتاً غباراً «١» وقال مجاهد: تُرَاباً «٢»، وقوله سبحانه: قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً... الآية: المعنى: قل لهم، يا محمَّد، كونوا إِن استطعتم هذه الأشياءَ الصَّعبة الممتَنِعَةَ التأتِّي لا بُدَّ من بعثكم، ثم احتَجَّ عليهم سبحانه في الإعادة بالفِطْرة الأولى من حيثُ خلقُهم واختراعهم من تُرَاب.
وقوله سبحانه: فَسَيُنْغِضُونَ معناه يرفعون ويُخْفِضُون، يريد على جهة التكذيب والاستهزاء. قال الزَّجَّاج: وهو «٣» تحريك مَنْ يبطل الشيء ويَسْتَبْطِئُهُ ومنه قول الشاعر:
[الرجز]
أَنْغَضَ نَحْوِي رَأْسَهُ وَأَقْنَعَا كَأَنَّمَا أَبْصَرَ شَيْئاً أَطْمَعَا «٤»
ويقال: أَنْغَضَتِ السِّنُّ إِذا تحرَّكَتْ، قال الطبري «٥» وابنُ سَلاَّمٍ: عَسى من اللَّه واجبةٌ، فالمعنى: هو قريبٌ، وفي ضمن اللفْظِ توَّعد.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٢]
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢)
وقوله سبحانه: يَوْمَ يَدْعُوكُمْ: بدل من قوله: قَرِيباً ويظهر أن يكون المعنى «هو يَوْمَ» جواباً لقولهم: «متى هو»، ويريد يدعوكم من قبوركم بالنفْخ في الصُّور لقيامِ الساعة.
وقوله: فَتَسْتَجِيبُونَ، أي: بالقيامِ، والعودة والنهوض نحو الدعوة.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ٨٩) برقم: (٢٢٣٤٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٣٩)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ٨٨) برقم: (٢٢٣٤٥)، وذكره البغوي (٣/ ١١٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٣٩)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ٢٤٥).
(٤) البيت من شواهد: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٥٢).
(٥) ينظر: «الطبري» (٨/ ٩٢).
وقوله: بِحَمْدِهِ قال ابن جُبَيْر: إِن جميع العالمين يقومُونَ، وهم يَحْمَدُون اللَّه ويمَجِّدونه، لما يظهر لهم مِنْ قُدْرته «١» ص: أبو البقاء بِحَمْدِهِ أي: حامدين، وقيل: بِحَمْدِهِ من قول الرسول، أي: وذلك بحمد اللَّه على صدْقِ خَبَري، ووقع في لفظ ع حين قرر هذا المعنى: «عَسَى أن الساعة قريبةٌ» وهو تركيبٌ لا يجوزُ لا تقولُ: عَسَى أنَّ زيداً قائمٌ انتهى.
وقوله سبحانه: وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا يحتملُ معنيين.
أحدهما: أنهم لَمَّا رجعوا إلى حالة الحياةِ، وتصرُّف الأجساد، وقع لهم ظَنٌّ أنهم لم ينفصلوا عن حال الدُّنْيا إِلا قليلاً لمغيبِ عِلْم مقدار الزمان عنهم إِذ مَنْ في الآخرة لا يقدِّر زمن الدنيا إِذ هم لا محالة أشدُّ مفارقةً لها من النائمين، وعلى هذا التأويل عوَّل الطبري «٢».
والآخر: أنْ يكون الظنُّ بمعنى اليقينِ، فكأنه قال: يوم يَدْعُوكم فتستجيبون بَحْمِدِه، وتتيقنون أنَّكم إِنما لبثتم قليلاً من حيثُ هو منقضٍ منحصرٌ.
وحكى الطبريُّ عن قتادة أنهم لما رأوا هولَ يوم القيامة، احتقروا/ الدُّنْيا، فظنوا أنهم لبثوا فيها قليلاً «٣».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٣ الى ٥٥]
وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥)
وقوله سبحانه: وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ اختلف الناس في الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: فقالت فرقةٌ: هي لا إله إِلا اللَّه وعلى هذا، ف «العباد» : جميعُ الخلق، وقال الجمهور الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ: هي المحاورة الحَسَنة، بحسب معنى معنى، قال الحسن يقول: يَغْفِرُ اللَّه لك، يَرْحَمُكَ اللَّه «٤» وقوله: لِعِبادِي خاصُّ بالمؤمنين، قالت فرقة: أمر
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٣٩)، وعزاه لعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٠٣).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ٩٣) برقم: (٢٢٣٦٩)، وذكره البغوي (٣/ ١١٩)، وابن عطية (٣/ ٤٦٣)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ٩٣) برقم: (٢٢٣٧٠)، وذكره البغوي (٣/ ١١٩) بنحوه، وذكره ابن عطية (٤/ ٤٦٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٠)، وعزاه لابن جرير.
اللَّه المؤمنين فيما بينهم بُحْسن الأدب، وخَفْضِ الجناحِ، وإلانة القَوْلَ، واطِّراحِ نَزَعاتِ الشيطان، ومعنى النَّزْغُ: حركاتُ الشيطانِ بُسْرعة ليوجب فساداً، وعداوةُ الشيطان البيِّنة:
هي من قصة آدم عليه السلام، فما بعد، وقالَتْ فرقة: إِنما أمر اللَّه في هذه الآية المؤمنين بإِلانة القوْلِ للمشركين بمكَّة أيام المُهَادنة، ثم نُسِخَتْ بآية السيف.
وقوله سبحانه: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ: يقوِّي هذا التأويل إِذ هو مخاطبةٌ لكفَّار مكَّة بدليل قوله: وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا فكأن اللَّه عزَّ وجل أمر المؤمنين ألاَّ يخاشنوا الكُفَّار في الدين، ثم قال للكفَّار إِنه أعلم بهم ورجَّاهم وخوفهم، ومعنى يَرْحَمْكُمْ بالتوبة عليكم من الكُفْر قاله ابن جُرَيْج وغيره «١».
وقوله سبحانه: وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً قرأ الجمهور «٢» :«زَبُوراً» بفتح الزاي، وهو فَعُولٌ بمعنى مَفْعُولٍ، وهو قليلٌ لم يَجِىءْ إلا في قَدُوعِ وَرَكُوبٍ وَحَلُوب، وقرأ حمزة «٣» :
بَضَمِّ الزاي قال قتادة: زبور دَاوُدَ مَواعظُ ودعاء، وليس فيه حلال ولا حرام «٤».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٥٦ الى ٥٨]
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨)
وقوله سبحانه: قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلًا هذه الآيةُ ليستُ في عبدة الأصنام، وإِنما هي في عَبَدَةِ مَنْ يعقل، كعيسَى وأمِّه وعُزَيْرٍ وغيرهم. قاله ابن عباس «٥»، فلا يملكُونَ كَشْفَ الضرِّ ولا تحويله، ثم أخبر تعالى،
(١) أخرجه الطبري (٣/ ٩٣) برقم: (٢٢٣٧١)، وذكره البغوي (٣/ ١١٩)، وابن عطية (٣/ ٤٦٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٠)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٦٥).
(٣) وقرأ بها يحيى والأعمش. ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٦٥)، و «السبعة» (٣٨٢)، و «الحجة» (٥/ ١٠٨)، و «إعراب القراءات» (١/ ٣٧٦)، و «العنوان» (١٢٠)، و «إتحاف» (٢/ ٢٠٠).
(٤) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤١)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم. [.....]
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ٩٦) برقم (٢٢٣٨٥)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٠)، وابن عطية (٣/ ٤٦٥)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٣)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
أنَّ هؤلاء المعبودين يَطْلُبُون التقرُّب إِلى اللَّه والتزلُّف إِليه، وأنَّ هذه حقيقة حالهِمْ.
وقوله سبحانه: وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ... الآية: قال عزُّ الدين بْنُ عَبْدِ السَّلاَمِ، في اختصاره ل «رِعَايَة المُحَاسِبِيِّ» : الخوفُ والرجاءُ: وسيلَتَانِ إِلى فعْلِ الواجباتِ والمندوباتِ، وتركِ المحرَّمات والمكروهاتِ، ولكنْ لا بدَّ من الإِكباب على استحضار ذلك واستدامته في أكثر الأوقات حتى يصير الثواب والعقاب نُصُبَ عينيه، فَيَحُثَّاه على فعْلِ الطاعات، وتركِ المخالفات، ولَنْ يحصُلَ له ذلك إِلا بتَفْريغ القَلْبِ مِنْ كل شيء سِوَى ما يفكر فيه، أو يعينه على الفِكْرِ، وقد مُثِّلَ القلْبُ المريضُ بالشهوات بالثوْبِ المتَّسِخِ الذي لا تَزُولُ أدرانه إِلا بتَكْرير غَسْله وحَتِّه وقَرْضِهِ، انتهى. وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها... الآية: أخبر سبحانه في هذه الآية أنَّه ليس مدينَةٌ من المُدُنِ إِلا هي هَالِكَة قبل يوم القيامة بالموتِ والفناءِ، هذا مع السَّلامة وأخْذِها جُزْءاً جُزْءاً، أو هي معذَّبة مأخوذةٌ مرةً واحدةً.
وقوله: فِي الْكِتابِ: يريد في سابقِ القَضَاء، وما خَطَّه القلم في اللوْحِ المحفوظ، «والمسطور» : المكتوب أسطارا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٥٩]
وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩)
وقوله سبحانه: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ... الآية: هذه العبارة في مَنَعَنا هي على ظاهر ما تَفْهَمُ العربُ، فسمى سبحانه سبْقَ قضائِهِ بتَكْذيب مَنْ كذَّب وتعذيبِهِ- مَنْعاً وسبب هذه الآية أن قريشاً اقترحوا على النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَن يجعل لهم الصَّفَا ذَهَباً، ونحو هذا من الاقتراحات، فأوحى اللَّه إِلى نبيه عليه السلام: إِن شئْتَ أفعلُ لهم ذلك، ثم إِن لم يؤمنوا، عاجَلْتُهُمْ بالعقوبة، وإِن شئْتَ، استأْنَيْتُ بهم عسى أن أَجْتَبِيَ منهم مؤمنين، فقال عليه السلام: بل استأذن بِهِمْ يَا رَبِّ «١»، فأخبر سبحانه في هذه الآية أنه لم يمنعه جلَّ وعلاَ من إرسال الآيات المقترحة إلا الاستثناء إِذ قد سلفت عادته سبحانه بمعاجلة الأمم الذين
(١) أخرجه أحمد (١/ ٢٥٨)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٣٨٠) كتاب «التفسير» باب: قوله تعالى: وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ، حديث (١١٢٩٠)، والطبري في «تفسيره» (١٥/ ٧٤)، والحاكم (٢/ ٣٦٢)، والبيهقي في «دلائل النبوة» (٢/ ٢٧١) من طريق سعيد بن جبير، عن ابن عباس، وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.
وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٤)، وزاد نسبته إلى البزار وابن المنذر، والطبراني، وابن مردويه.
جاءتهم الآيات المقترحة، فلم يؤمنوا كثمودَ وغيرهم. قال الزَّجَّاجِ «١» : أخبر تعالى أنَّ موعد كفار هذه الأمة الساعة بقوله سبحانه: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ [القمر: ٤٦] فهذه الآية تنظُرُ إِلى ذلك، ومُبْصِرَةً أي: ذاتُ إِبصار وهي عبارةٌ عن بيان أمْر الناقة، ووضوح إعجازها، وقوله: فَظَلَمُوا بِها، أي: بِعَقْرِها، وبالكُفْر في أمرهَا، ثم أخبر تعالى أنه إِنما يرسل بالآياتِ غيرِ المُقْتَرَحةِ تخويفاً للعباد، وهي آيات معها إِمهال، فمن ذلك الكُسْوفُ والرعْدُ والزلزلةُ وقَوْسُ قُزَحَ، وغَيْرُ ذلك، وآيات اللَّه المعَتَبرُ بها ثلاثَةُ أقْسَامٍ: فقسمٌ عامٌّ في كل شيء، إِذ حيث ما وضَعْتَ نَظَرك، وجدتَّ آيةً، وهنا فِكْرة للعلماء، وقِسْمٌ معتاد غالباً كالكسوف ونحوه، وهنا فِكْرَة الجَهَلَةِ، وقسْمٌ خَارِقٌ للعادة، وقد انقضى بانقضاء النبوَّة، وإِنما يعتبر به، توهُّماً لما سلف منه.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٠ الى ٦٥]
وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥)
وقوله سبحانه: وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ هذه الآية إخبار للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه محفوظٌ من الكَفَرة آمِنٌ، أي: فَلْتُبْلِّغْ رسالةَ ربِّك، ولا تتهَّيب أحداً من المخلوقين قاله الطبريُّ «٢» ونحوه للحَسَن «٣» والسُّدِّيِّ.
وقوله سبحانه: وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ... الآية: الجمهورُ أنَّ هذه الرؤيا رؤيا عين ويقظة، وذلك أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما كان صَبِيحَةَ الإِسراء، وأخبر بما رأى في تلك الليلة من العجائب، قال الكفَّار: إِن هذا لعجب، واستبعدوا ذلك فافتتن بهذا قومٌ من ضَعَفَةِ المسلمين فارتدوا وشقَّ ذلك على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية فعلى هذا يحسن
(١) ينظر: «تفسير الزجاج» (٣/ ٢٤٧).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٠٠).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٠) برقم: (٢٢٤٠٨)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٧)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٥)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
482
أنْ يكون معنى قوله: أَحاطَ بِالنَّاسِ في إِضلالهم وهدايتهم، أي: فلا تهتمَّ/، يا محمَّد، بكُفْر من كفر، وقال ابن عباس: الرؤيا في هذه الآية هي رؤيا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنه يدخُلُ مكَّة، فعجَّل في سنة الحُدَيْبِيَة، فصدّ فافتنن المسلمون لذلك، يعني بعَضهم، وليس بفتْنَة كُفْر «١».
وقوله: وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ معطوفة على قوله: الرُّؤْيَا، أي جعلنا الرؤيا والشَّجرةَ فتنةً وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ في قول الجمهورِ: هي شجرةٌ الزَّقُّوم، وذلك أن أمرها لما نَزَلَ في سورة «والصَّافَّات» قال أبو جَهْل وغيره: هذا محمَّد يتوعَّدكم بنَارٍ تَحْرِقُ الحِجَارة، ثم يزعُمُ أنها تُنْبِتُ الشجَرَ، والنار تأكلُ الشجَر، وما نعرفُ الزَّقُّوم إِلا التمر بالزُّبْد، ثم أحضر تمراً وزُبْداً، وقال لأصحابه، تَزقَّمُوا، فافتتن أيضاً بهذه المقالةِ بعْضُ الضعفاء، قال الطبري عن «٢» ابن عباس: أن الشجرة الملعونة، يريد الملعون أُكُلُهَا لأنها لم يَجْرِ لها ذكر «٣».
قال ع «٤» ويصحُّ أَن يريد الملعونَةِ هنا، فأكَّد الأمر بقوله: فِي الْقُرْآنِ، وقالت فرقة: الْمَلْعُونَةَ، أي: المُبْعَدَة المكْروهة، وهذا قريب في المعنى من الذي قبله، ولا شك أن ما ينبت في أصْل الجحيمِ هو في نهاية البُعْدِ من رحمة الله سبحانه.
وقوله سبحانه: وَنُخَوِّفُهُمْ يريد كفّار مكّة.
وقوله: أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ الكافُ في «أَرَأَيْتَكَ» هي كافُ خطابٍ ومبالغةٍ في التنبيه، لا موضعَ لها من الإِعراب، فهي زائدةٌ، ومعنى «أَرأَيْتَ» : أتأملت ونحوه، كأنَّ المخاطِبَ بها ينبِّه المخاطَبَ ليستَجْمِعَ لما ينصُّه بعْدُ.
وقوله: لَأَحْتَنِكَنَّ معناه لأُمِيلَنَّ ولأَجُرَّنَّ، وهو مأخوذ من تَحْنِيكِ الدابَّة، وهو أن يشدَّ على حَنَكِها بحَبْل أو غيره، فتقاد، والسَّنةُ تَحْتَنِكُ المالَ، أي: تجتره، وقال الطبري «٥» «لأحتنكَنَّ» معناه لأستأصلنَّ، وعن ابن عباس: لأستولين «٦»، وقال ابن زيد «٧» : لأضلّنّ.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٣) برقم: (٢٢٤٣٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٦)، وعزاه لابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والبيهقي في «البعث».
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٠٣).
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٦٨).
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٦٨).
(٥) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٠٧).
(٦) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٧) برقم: (٢٢٤٦١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٧)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٧) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٧) برقم: (٢٢٤٦٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/
483
قال ع «١» وهذا بدلُ اللفظ، لا تفسير.
وقوله: اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ، وما بعده من الأوامر: هي صيغةُ «افْعَلْ» بمعنى التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ [فصلت: ٤٠] «الموفور»، المُكْمَل، وَاسْتَفْزِزْ معناه: استخف واخدع، وقوله: بِصَوْتِكَ: قيل: هو الغِنَاء والمزامير والمَلاَهي، لأنها أصواتٌ كلُّها مختصة بالمعاصي، فهي مضافةٌ إِلى الشيطانِ، قاله مجاهد «٢»، وقيل: بدعائك إِياهم إِلى طاعتك. قال ابن عباس: صوته دعاءُ كُلِّ مَنْ دعا إِلى معصيةِ «٣» اللَّه، والصوابُ أنْ يكون الصوتُ يعمُّ جميع ذلك.
وقوله: وَأَجْلِبْ، أي: هوِّل، و «الجَلَبة» الصوتُ الكثير المختلِطُ الهائل.
وقوله: بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ قيل: هذا مجازٌ واستعارة بمعنى اسع سعيك، وابلغ جهدك، وقيل: حقيقة وإنَّ له خيلاً ورَجُلاً من الجنِّ، قاله «٤» قتادة، وقيل: المراد فرسان الناس، ورجالتهم المتصرِّفون في الباطل، فإِنهم كلهم أعوان لإِبليس على غيرهم «٥» قاله مجاهد.
وَشارِكْهُمْ/ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ عامٌّ لكل معصية يصنعها الناس بالمال، ولكلِّ ما يصنع في أمر الذرِّية من المعاصي، كالإيلاد بالزنا وكتسميتهم عَبْدَ شَمْس، وأبا الكُوَيْفِر، وعَبْدَ الحارِثِ، وكلَّ اسْمٍ مكروه ومن ذلك: وأد البنات ومن ذلك: صبغهم في أديان الكفر، وغير هذا، وما أدخله النَّقَّاش من وطْء الجنِّ، وأنه يُحْبِلُ المرأة من الإِنسِ، فضعيفٌ كلُّه.
ت: أما ما ذكره من الحبل، فلا شك في ضَعْفه، وفسادِ قولِ ناقله، ولم أر في ذلك حديثاً لا صحيحاً ولا سقيماً، ولو أمكن أنْ يكون الحبل من الجنّ، كما زعم ناقله،
٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٧)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(١) ينظر: «المحرر» (٣/ ٤٧٠). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٨) برقم: (٢٢٤٦٦)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٨)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي الدنيا في «ذم الملاهي» وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٨) برقم (٢٢٤٦٨)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٤٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٤٨)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٨) برقم: (٢٢٤٧١)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠)، وذكره ابن كثير (٣/ ٤٩).
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ١٠٩) برقم: (٢٢٤٧٤) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٠).
484
لكان ذلك شُبْهَةً يدرأُ بها الحَدُّ عمَّن ظهر بها حَبَلٌ من النساء اللواتِي لا أزواج لهنَّ لاحتمال أنْ يكون حَبَلُها من الجنِّ كما زعم هذا القائلُ، وهو باطلٌ، وأما ما ذكره من الوطء، فقد قيل ذلك وظواهر الأحاديث تدلُّ عليه، وقد خرَّج البخاريُّ ومسلم وأبو داودَ والترمذيُّ والنسائي وابنُ ماجَه، عن ابن عبَّاس، قال: قَالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: «لَوْ أنَّ أحَدَكُمْ إِذَا أرَادَ أنْ يَأْتِيَ أَهْلَهُ قَالَ: بِاسْمِ اللَّهِ، اللَّهُمَّ جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ، وجَنّب الشَّيْطَانَ مَا رَزَقْتَنَا، فَإِنَّهُ إِنْ يُقَدَّرْ بَيْنَهُمَا وَلَدٌ في ذَلِكَ، لَمْ يَضُرَّهُ الشَّيْطَانُ أَبداً» «١» فظاهر قوله عليه السلام: «اللَّهُمَّ، جَنِّبْنَا الشَّيْطَانَ وَجَنِّبَ الشَّيْطَانَ مَا رَزقتنا» - يقتضي أنَّ لهذا اللعين مشاركةً مَّا في هذا الشأنِ، وقد سمعتُ من شيخنا أبي الحسن عليِّ بن عِثمانَ الزَّواويِّ المَانْجَلاَتِيِّ سَيِّدِ علماء بِجَايَةَ في وقَتْه، قال: حدَّثني بعضُ الناس ممَّن يوثَقُ به يخبر عن زوجته أنها تجدُ هذا الأمْرَ، قال المخبِرُ: وأصْغَيْتُ إِلى ما أخبرت به الزوجَةُ، فسمعتُ حِسَّ ذلك الشىءِ، والله أعلم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٦٦ الى ٦٩]
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
وقوله سبحانه: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ: إِزجاء الفُلْك: سَوْقه بالريحِ الليِّنة والمجاذيف، ولِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ لفظ يعمُّ التَّجْر وغيره، وهذه الآية المباركة
(١) أخرجه البخاري (١/ ٢٩١) كتاب «الوضوء» باب: التسمية على كل حال وعند الوقاع، حديث (١٤١)، وفي (٦/ ٣٨٨)، كتاب «بدء الخلق» باب: صفة إبليس، وجنوده، حديث (٣٢٨٣)، وفي (٩/ ١٣٦) كتاب «النكاح» باب: ما يقول الرجل إذا أتى أهله، حديث (٥١٦٥)، وفي (١٠/ ١٩٥) كتاب «الدعوات» باب: ما يقول إذا أتى أهله، حديث (٦٣٨٨)، وفي (١٣/ ٣٩٠- ٣٩١)، كتاب «التوحيد» باب: السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها، حديث (٧٣٩٦)، ومسلم (٢/ ١٠٥٨) كتاب «النكاح» باب: ما يستحب أن يقوله عند الجماع، حديث (١٦/ ١٤٣٤)، وأبو داود (٢/ ٦٥٥) كتاب «النكاح» باب: في جامع النكاح، حديث (٢١٦١)، والترمذي (٣/ ٣٩٢) كتاب «النكاح» باب: ما يقول إذا دخل على أهله، حديث (١٠٩٢)، والنسائي في «الكبرى» (٦/ ٧٥) كتاب «عمل اليوم والليلة» باب: ما يقول إذا واقع أهله، وابن ماجه (١/ ٦١٨) كتاب «النكاح» باب: ما يقول الرجل إذا دخلت عليه أهله، حديث (١٩١٩)، وأحمد (١/ ٢١٧، ٢٢٠، ٢٤٣، ٢٨٣، ٢٨٦)، وابن أبي شيبة (١٠/ ٣٩٤)، وعبد الرزاق (٦/ ١٩٤) رقم: (١٠٤٦٦)، وابن حبان (٩٨٤- الإحسان)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ١٢٣- بتحقيقنا). كلهم من طريق كريب، عن ابن عباس مرفوعا.
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
توقيفٌ على آلاء اللَّه وفَضْلِهِ ورحمته بعباده، والضُّرُّ، هنا لفظ يعمُّ الغرق وغيره، وأهوال حالات البحر واضطرابه وتموجه، وضَلَّ معناه تلف وفُقِدَ.
وقوله: أَعْرَضْتُمْ، أي: فلم تفكِّروا في جميل صنع اللَّه بكم.
وقوله: كَفُوراً أي: بالنعم والْإِنْسانُ هنا: الجنس، «والحاصب» : العارض الرامي بالبَرَدِ والحجارةِ ومنه الحاصب الذي أصَابَ قوْمَ لوطٍ، «والحَصْبُ» الرمْيُ بالحَصْبَاء، «والقاصف» : الذي يَكْسِر كلَّ ما يلقى ويقصفه، و «تارة» معناه: مرَّة أخرى، «والتبيع» الذي يطلب ثأْراً أو دينا ومن هذه اللفظة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ على مَلِيٍّ فَلْيُتْبِعْ» فالمعنى: لا تجدون مَنْ يَتَتَبَّع فعلنا بكم، ويطلب نصرتكم وهذه الآيات أنوارها واضحة للمهتدين.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٠ الى ٧٣]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣)
وقوله جلَّت عظمته وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ... الآية: عدَّد اللَّه سبحانه على بني آدم ما خصَّهم به من المزايا مِنْ بين سائر الحيوان، ومن أفضل ما أكْرَم به الآدِميَّ/ العقْلُ الذي به يعرفُ اللَّه تعالى، ويفهم كلامه، ويوصِّل إِلى نعيمه.
وقوله سبحانه: عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا المراد ب «الكثير المفضولِ» الحيوانُ والجنُّ، وأما الملائكة، فهم الخارجون عن الكثير المفضول، وليس في الآية ما يقتضي أن الملائكة أفضَلُ من الإِنسِ كما زعمت فرقة بل الأمر محتملٌ أنْ يكونوا أفضَلَ من الإِنس، ويحتمل التساوي.
وقوله سبحانه: يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ يحتمل أن يريد باسْمِ إِمامهم، فيقول: يا أمة محمَّد، ويا أتباع فِرْعَوْنَ، ونحو هذا، ويحتمل أن يريد: مع إِمامهم أنْ تجيء كل أمَّة معها إِمامها من هادٍ ومضلٍّ، واختلف في «الإمام»، فقال ابن عباس والحسن:
كتابهم الذي فيه أعمالهم «١»، وقال قتادة ومجاهد: نبيهم «٢»، وقال ابن زيد: كتابهم الذي
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١١٦) برقم: (٢٢٥٢١)، وبرقم: (٢٢٥٢٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥١)، وعزاه لابن جرير.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١١٥) برقم: (٢٢٥١٥)، وبرقم: (٢٢٥١٩)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٥)،
486
نَزَلَ عليهم «١»، وقالت فرقة: متَّبَعُهُمْ مِنْ هادٍ أو مُضِلٍّ، ولفظة «الإِمام» تعمُّ هذا كلَّه.
وقوله سبحانه: فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ: حقيقةٌ في أن في القيامة صحائفَ تتطاير، وتوضعُ في الأيْمَان لأهل الأَيْمانَ، وفي الشمائل لأهل الكُفْر والخذلان، وتوضع في أيمان المذْنِبِين الذين يَنْفُذُ عليهم الوعيد، فيستفيدون منها أنهم غَيْرُ مخلّدين في النار.
وقوله سبحانه: يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ: عبارةٌ عن السرور بها، أي: يردِّدونها ويتأمَّلونها.
وقوله سبحانه: وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي: ولا أقلَّ، وقوله سبحانه: وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى: قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: الإِشارة ب هذِهِ إلى الدنيا، أي:
مَنْ كان في هذه الدارِ أعمى عن النظرِ في آيات اللَّه وعِبَرِه، والإِيمان بأنبيائه «٢»، فهو في الآخرة أعمى على معنى أنه حيرانُ لا يتوجَّه لصوابٍ ولا يلوحُ له نُجْحٌ. قال مجاهد: فهو في الآخرةِ أعمى عن حُجَّته «٣»، ويحتمل أنْ يكون صفةَ تفضيلٍ، أي: أشدُّ عمًى وحيرةً لأنه قد باشر الخَيْبة ورأى مخايل العذاب ويقوِّي هذا التَّأويل قوله، عطفاً عليه: وَأَضَلُّ سَبِيلًا الذي هو «أَفْعَلُ مِنْ كَذَا» والعمى في هذه الآية هو عَمَى القلب، وقولُ سِيَبَوَيْه: لا يقال أعمى مِنْ كَذَا، إِنما هو في عمى العينِ الذي لا تفاضُلَ فيه، وأما في عمى القْلبِ، فيقال ذلك لأنه يقع فيه التفاضل ت: وكذا قال ص وقوله سبحانه: وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ... الآية: الضمير في قوله: كادُوا هو لقريشٍ، وقيل: لثقيفٍ، فأما لقريش، فقال ابن جبير ومجاهد: نزلَتِ الآية، لأنهم قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لاَ نَدَعُكَ تستلمُ الحَجَرَ الأسْوَدَ حتى تَمَسَّ أيضاً أوثانَنَا على معنى التشرُّع «٤»، وقال ابن إسحاق وغيره: إِنهم اجتمعوا إليه ليلةً، فعظَّموه، وقالوا له: أنْتَ سيِّدنا، ولكنْ أَقْبِلْ على بعض أمْرنا، ونُقْبِلُ على بعض أمرك، فنزلَتِ الآية في ذلك «٥».
وابن عطية (٣/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١١٦) برقم: (٢٢٥٢٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٢).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١١٧) برقم: (٢٢٥٣٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٤)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٢)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٢)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١١٨) برقم: (٢٢٥٣٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٤).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١١٨) برقم: (٢٢٥٣٦)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٦)، وابن عطية (٣/ ٤٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٢)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٥) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٥).
487
قال ع «١» : فهي في معنى قوله: وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ [القلم: ٩]، وأما لثقيفٍ، فقال ابن عباس وغيره: لأنهم طلبوا من رسولِ اللَّه صلّى الله عليه وسلّم أن يؤخرهم بعد إسلامهم س نة يعبدون فيها اللاَّتَ، وقالوا: إِنما نريد أن نأخذ ما يُهْدَى لها ولكن إنْ خفْتَ أنْ تنكر/ ذلك عليك العربُ، فقل: أَوْحَى اللَّهُ ذلك إِلَيَّ، فنزلَتِ الآية في ذلك «٢». ت: واللَّه أعلم بصحَّة هذه التأويلاتِ، وقد تقدَّم ما يجبُ اعتقاده في حَقِّ النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فالتزمه تُفْلِحْ.
وقوله: وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا: توقيفٌ على ما نجاه اللَّه منه من مُخَالَّةِ الكفّار، والولاية لهم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٤ الى ٧٥]
وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥)
وقوله سبحانه: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ... الآية تعديدُ نعمه على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وروي أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لما نزلَتْ هذه الآيةُ، قال: «اللَّهُمَّ، لاَ تَكِلْنِي إِلَى نَفْسِي طَرْفَةَ «٣» عينٍ» وقرأ الجمهور «٤» (تركن) بفتح الكاف، والنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يركَنْ، لكنَّه كاد بَحسَب هَمِّه بموافقتهم طمعاً منه في استئلافهم، وذهب ابن الأنباريِّ إِلى أن معنى الآية: لقد كادوا أن يخبروا عنْكَ أنَّك ركَنْتَ ونحو هذا ذهب في ذلك إلى نفْي الهمِّ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم، فحمَّل اللفظ ما لا يحتملُ وقوله: شَيْئاً قَلِيلًا يبطلُ ذلك.
ت: وجزى اللَّه ابنَ الأنباريِّ خيراً، وإن تنزيه سائر الأنبياء لواجبٌ، فكيف بسيِّد ولد آدم صلى الله عليه وعليهم أجمعين.
قال أبو الفَضْل عياضٌ في «الشِّفَا» : قوله تعالى: وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا: قال بعض المتكلِّمين: عاتب اللَّه تعالى نبيَّنا عليه السلام قبل وقوع ما يوجبُ العتاب ليكون بذلك أشدَّ انتهاءً ومحافظةً لشرائط المحبَّة، وهذه غاية العناية، ثم انظُرْ كيف بدأ بثباته وسلامته قبل ذِكْر ما عاتبه عليه، وخيف أنْ يركن إليه، وفي أثناء عتبه
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٧٥). [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١١٩) برقم: (٢٢٥٤٠)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٦) بنحوه، وابن عطية (٣/ ٤٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٣)، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه.
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) وقرأ ابن مصرف، وقتادة، وعبد الله بن أبي إسحاق «تركن» بضم الكاف.
ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٧٥)، و «البحر المحيط» (٦/ ٦٢)، و «الدر المصون» (٤/ ٤١٠).
بَرَاءَتُه، وفي طَيِّ تخويفه تأمينُه.
قال عياضٌ رحمه الله: ويجبُ على المؤمن المجاهِدِ نفسَهُ الرائِضِ بزمامِ الشريعةِ خُلُقَهُ أن يتأدَّب بآداب القرآن في قوله وفعله ومعاطاته ومحاوراته فهو عنصر المعارف الحقيقة، وروضَةُ الآداب الدينية والدنيوية انتهى.
قال ع «١» : وهذا الهمّ من النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إِنما كان خَطْرة مما لا يمكِنُ دفعه، ولذلك قيل: كِدْتَ وهي تعطي أنه لم يقعْ ركونٌ، ثم قيل: شَيْئاً قَلِيلًا إِذ كانت المقاربة التي تضمنتها كِدْتَ قليلةً خطرةً لم تتأكَّد في النفْس.
وقوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ... الآية: يبطل أيضاً ما ذهب إليه ابنُ الأنباريّ.
ت: وما ذكره ع رحمه الله تعالى من البطلان لا يصحُّ، وما قدَّمناه عن عياضٍ حسنٌ فتأمَّله.
وقوله: ضِعْفَ الْحَياةِ: قال ابن عباس وغيره: يريد ضِعْفَ عذاب الحياة، وضعف عذاب الممات «٢».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٦ الى ٧٧]
وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧)
وقوله سبحانه: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها... الآية: قال الحَضْرَمِيُّ: الضمير في «كادوا» ليهود المدينة وناحيتها، ذهبوا إِلى المَكْرِ بالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا له: إِن هذه الأرضَ ليست بأرض الأنبياء، فإِن كنت نبيًّا، فاخرج إِلى الشام، فإِنها أرض الأنبياء، فنزلَت الآية، وأخبر سبحانه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو خَرَج، / لم يلبثوا بعده إِلا «٣» قليلاً، وقالت فرقة: الضمير لقريشٍ، قال ابن عباس: وقد وقع استفزازهم وإِخراجهم له، فلم يلبثوا خلفه إلا قليلا يوم بدر «٤».
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٧٥).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٢٠) برقم: (٢٢٥٤٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٣)، وعزاه لابن جرير.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٢١) برقم: (٢٢٥٤٩)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٧)، وابن كثير (٣/ ٥٣) عن عبد الرحمن بن غنم، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٣)، وعزاه لابن جرير.
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١٢١) برقم: (٢٢٥٥٤)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٦)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٤)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
وقال مجاهد: ذهبَتْ قريش إلى هذا، ولكنه لم يقعْ منها لأنه لما أراد اللَّه سبحانه استبقاء قريش، وألّا يستأصلها، أذن لرسوله في الهجْرة، فخرج من الأرض بإِذن اللَّه، لا بَقْهر قريشٍ، واسْتُبْقِيَتْ قريشٌ لِيُسِلمَ منها ومِنْ أعقابها مَنْ أسْلَم «١».
ت: قال ص: قوله لاَّ يَلْبَثُونَ جوابُ قسَمٍ محذوفٍ، أي: واللَّهِ، إِن استُفْزِزْتَ، فخرجْتَ، لا يلبثون خلفك إِلا قليلاً. انتهى.
وقوله سبحانه: سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا... الآية: معنى الآية الإِخبار أن سنة اللَّه تعالى في الأمم الخالية وعادته أنها إذا أخْرجَتْ نبيَّها من بين أظهرها، نالها العذاب، واستأصلها، فلم تلبث خلفه إلا قليلا.
[سورة الإسراء (١٧) : آية ٧٨]
أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨)
وقوله سبحانه: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ... الآية: إِجماع المفسِّرين على أنَّ الإِشارة هنا إلى الصلوات المفروضة، والجمهورُ أنَّ دلوك الشمس زوالُها، والإشارة إلى الظهر والعصر، وغَسَقِ اللَّيْلِ: أشير به إلى المغرب والعشاء، وقُرْآنَ الْفَجْرِ: يريد به صلاةَ الصبح، فالآية تعم جميعَ الصلواتِ، «والدلوكُ» في اللغة: هو الميلُ، فأول الدلوكِ هو الزوالُ، وآخره هو الغروبُ، قال أبو حيان «٢» : واللام في لِدُلُوكِ الشَّمْسِ: للظرفية بمعنى بعد انتهى، وغَسَقِ اللَّيْلِ: اجتماعه وتكاثُف ظلمته، وعَبَّر عن صلاة الصبْحِ خاصَّة بالقرآن، لأن القرآن هو عظمها إِذ قراءتها طويلةٌ مجهورٌ بها.
وقوله سبحانه: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً معناه: يشهده حَفَظَة النهار وحَفَظَة الليل من الملائكة حَسْبما ورد في الحديث الصَّحيح: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلاَئِكَةٌ بِاللَّيْلِ، وَمَلاَئِكَةٌ بالنَّهَارِ فَيَجْتَمِعُونَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ وَصَلاَةِ العَصْرِ... » الحديث «٣» بطوله، وفي «مسند «٤» البَزَّار» عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، أنَّهُ قال: «إنَّ أَفْضَلَ الصَّلَواتِ صَلاَةُ الصُّبْحِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، في جَمَاعَةَ، ومَا أَحْسِبُ شَاهِدَهَا مِنْكُمْ إِلاَّ مَغْفُور له» «٥» انتهى من «الكوكب الدري».
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٢١) برقم: (٢٢٥٥٢)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٦).
(٢) ينظر: «البحر المحيط» (٦/ ٦٨).
(٣) تقدم تخريجه.
(٤) ذكره المتقي الهندي في «كنز العمال» (٧/ ٣٦٨) برقم: (١٩٣٠٧)، وعزاه للطبراني، عن ابن عمر.
(٥) أخرجه البزار (١/ ٢٩٨- كشف)، برقم: (٦٢١)، من طريق عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، عن القاسم، عن أبي أمامة به، وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٢/ ١٧١)، وقال: رواه البزار والطبراني في «الكبير» و «الأوسط» كلهم من رواية عبيد الله بن زحر، عن علي بن يزيد، وهما ضعيفان. اه.

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٧٩ الى ٨١]

وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ «مِنْ» للتبعيض، التقدير: ووقتاً مِنَ الليلِ، أيَّ: قم وقتاً، والضمير في «به» عائدٌ على هذا المقدَّر، ويحتملُ أن يعود على القرآن، و «تهجَّد» معناه:
اطرح الهجودَ عَنْك، «والهُجُود» : النوم، المعنى: ووقتاً من الليل اسهر به في صلاةٍ وقراءة، وقال علقمة وغيره: التهجُّد بعد نومة «١»، وقال الحَجَّاج بن عمرو: إِنما التهجُّد بعد رقدة «٢»، وقال الحسن: التهجُّد ما كان بعد العشاء الآخرة «٣».
وقوله: نافِلَةً لَكَ قال ابن عباس: معناه: زيادةً لك في الفَرْضٍ، قال: وكان قيامُ الليل فرضا على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم «٤»، وقال مجاهد: إنما هي نافلة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم لأنه مغفورٌ له، والناس يحطُّون بمثل ذلك خطاياهم، يعني: ويجبرون بها فرائضهم حَسْبما/ ورد في الحديثِ «٥»، قال صاحب «المدخل»، وهو أبو عبد الله بن الحَاجِّ وقد قالوا: إِنَّ مَنْ كان يتفلَّت منه القرآن، فليقُمْ به في الليْلَ، فإن ذلك يثبته له ببركة امتثال السُّنَّة سِيَمَا الثُّلُثُ الأخير من الليلِ لما ورد في ذلك من البركَات والخَيْرَات، وفي قيامِ اللَّيْلِ من الفوائد جملةٌ، فلا ينبغي لطالب العلْم أنْ يفوته منْها شَيْءٌ.
فمنها: أنه يحطُّ الذنوب كما يحطُّ الريحُ العاصف الورق اليابس من الشجرة.
وله شاهد من حديث ابن عمر.
أخرجه أبو نعيم في «الحلية» (٧/ ٢٠٧)، بلفظ: «أفضل الصلوات عند الله صلاة الصبح يوم الجمعة في جماعة».
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٢٩) برقم: (٢٢٦١١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٥)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، ومحمد بن نصر في كتاب «الصلاة». [.....]
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٢٩) برقم: (٢٢٦١٦)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٨).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٢٩) برقم: (٢٢٦١٥)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٤).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١٣٠) برقم: (٢٢٦١٧)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٤)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٥)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه.
(٥) أخرجه الطبري (٨/ ١٣٠) برقم: (٢٢٦١٨)، وذكره البغوي (٣/ ١٢٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٨)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٥)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٥٦)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، ومحمد بن نصر، والبيهقي في «الدلائل».
491
الثاني: أنه ينوِّر القلب.
الثالث: أنه يحسِّن الوجه.
الرابع: أنه يذهب الكسل، وينشِّط البدن.
الخامس: أن موضعه تراه الملائكَة من السماء كما يتراءى الكوكب الدُّرِّيُّ لنا في السماءِ، وقد روى الترمذيُّ عن أبي أمامة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: «عَلْيُكُمْ بِقَيِامِ اللَّيْلِ، فإِنَّهُ مِنْ دأْبِ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وإِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ قُرْبَةٌ إِلى اللَّهِ تعالى، ومَنْهَاةٌ عَنِ الآثَامِ، وتَكْفِيرٌ للسَّيِّئَاتِ، وَمَطْرَدَةٌ للِدَّاءِ عَنِ الجَسَدِ» «١» وروى أبو داودَ في «سُنَنِهِ» عن عبد اللَّه بن عمرو بن العاص، قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «مَنْ قَامَ بِعَشْرِ آياتٍ لَمْ يُكْتَبْ مِنَ الغَافِلِينَ، ومَنْ قَامَ بِمِائَةِ آيَةٍ كُتِبَ مِنَ القَانِتِينَ، ومَنْ قَامَ بِأَلْفِ آيَةِ، كُتِبَ مِنَ المُقَنْطِرِين» انتهى «٢» من «المدخل».
وقوله سبحانه: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً: عِدَةٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ لنبيِّه، وهو أمر الشَّفاعة الذي يتدافعه الأنبياء حتى ينتهي إليه صلّى الله عليه وسلّم، والحديث بطوله في البخاريِّ ومسلمٍ.
قال ابنُ العربيِّ في «أحكامه «٣» » : واختلف في وَجْهِ كوْنِ قيامِ الليْلِ سَبَباً للمقامِ المْحُمودِ على قَوْلين للعلماء:
أحدهما: أن البارِي تعالى يجعلُ ما يشاء مِنْ فضله سبباً لفضله من غير معرفة لنا
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٥٥٢- ٥٥٣) كتاب «الدعوات» باب: في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم، حديث (٣٥٤٩)، من طريق بكر بن خنيس، عن محمد القرشي، عن ربيعة بن يزيد، عن أبي إدريس الخولاني، عن بلال به، وقال الترمذي: هذا حديث غريب لا نعرفه من حديث بلال إلا من هذا الوجه من قبل إسناده، قال:
سمعت محمد بن إسماعيل يقول: محمد القرشي هو: محمد بن سعيد الشامي وهو ابن أبي قيس، وهو محمد بن حسان، وقد ترك حديثه، وقد روى هذا الحديث معاوية بن صالح، عن ربيعة بن يزيد، عن ابن إدريس الخولاني، عن أبي أمامة، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «عليكم بقيام الليل فإنه دأب الصالحين قبلكم وهو قربة إلى ربكم ومكفرة للسيئات ومنهاة للإثم»، وقال الترمذي: وهذا أصحّ من حديث إدريس عن بلال اه. قلت: ومن الوجه الذي ذكره الترمذي، أخرجه الحاكم (١/ ٣٠٨)، والبيهقي (٢/ ٥٠٢)، والبغوي في «شرح السنة» (٢/ ٤٥٨- بتحقيقنا)، وقال الحاكم: صحيح على شرط البخاري، ووافقه الذهبي.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) ينظر: «أحكام القرآن» (٣/ ١٢٢٣).
492
بَوْجهِ الحكمة.
الثاني: أنَّ قيام الليل فيه الخَلْوَة بالباري تعالى، والمناجاة معه دون الناسِ، فيعطى الخَلْوة به ومناجاتَه في القيامةِ، فيكون مقاماً محموداً، ويتفاضل فيه الخَلْق بحسب درجاتهم، وأجلّهم فيه درجة نبيّنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، فيعطى من المحامدِ ما لم يعطَ أحدٌ، ويَشْفَعُ فَيُشَفَّع. انتهى.
وقوله سبحانه: وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ...
الآية: ظاهر الآية: والأحْسَنُ أن يكون دعا عليه السلام في أن يحسِّن اللَّه حالته في كلِّ ما يتناول من الأمور ويحاولُ من الأسفار والأعمال، وينتظر من تصرُّف المقادير في المَوْت والحياة، فهي على أتمِّ عمومٍ، معناه: ربِّ، أصْلِحْ لي وِرْدِي في كلِّ الأمور، وَصَدَري.
وذهب المفسِّرون إِلى تخصيص اللفْظِ، فقال ابن عبَّاس وغيره: أدْخِلْنِي المدينة، وأخرجني من مكَّة «١»، وقال ابن عباس أيضاً: الإِدخال بالمَوْت في القبرِ، والإِخراج:
البعث «٢»، وقيل غير هذا، وما قدَّمت من العموم التَّامِّ الذي يتناول هذا كلَّه أصوبُ، «والصِّدق» هنا صفة تقتضي رفْعَ المذامِّ واستيعاب المَدْح، وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً قال مجاهدٌ: يعني حجَّةً تنصرني بها على الكفَّار «٣».
وقوله سبحانه: وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ... الآية: قال قتادة: الْحَقُّ القُرآن، والْباطِلُ الشيطان «٤».
وقالت فرقة: الْحَقُّ: الإيمان، والْباطِلُ: الكُفْران، وقيل غير هذا، والصواب تعميمُ اللفظ بالغايةِ المُمْكنة فيكون التفسيرُ: جَاءَ الشرع بجميع ما انطوى فيه، وزَهَق الكُفْر بجميع ما انطوى فيه، وهذه الآية نزَلْت بمكَّة، وكان يستشهد بها النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يَوْمَ فتحِ مكَّة وقْتَ طعنه الأصنام وسقوطَها لطعنه إياها بالمخصرة.
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٠٤) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة بني إسرائيل، حديث (٣١٣٩)، وقال الترمذي: حسن صحيح.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٣٦) برقم: (٢٢٦٤٩)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٧٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٦٠)، وعزاه لابن جرير، وابن أبي حاتم.
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٣٧) برقم: (٢٢٦٥٧)، وذكره البغوي (٣/ ١٣٢)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٨٠)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٥٩).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١٣٨) برقم: (٢٢٦٦١)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٨٠)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٦٠)، وعزاه لعبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
493

[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٢ الى ٨٤]

وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
وقوله سبحانه: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفاءٌ... الآية: أي شفاءٌ بحسب إِزالته للرَّيْب، وكشفه غطاء القَلْب، وشفاءٌ أيضاً من الأمراض بالرقى والتعويذِ ونحوه.
وقوله سبحانه: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ: يحتمل أن يكون الْإِنْسانِ عامَّا للجنْسِ، فالكافرُ يبالغ في الإعراض، والعاصي يأخذ بحظّ منه وَ (نَأَى) أي: بَعُد، قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ، أي: على ما يليق به، قال ابن عباس: عَلى شاكِلَتِهِ معناه: على ناحيته «١»، وقال قتادة: معناه: على ناحيته وعلى ما ينوي «٢». وقوله سبحانه: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا توعّد بيّن.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٥ الى ٨٧]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧)
وقوله سبحانه: وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ روى ابن مسعود أن اليهود قال بعضُهم لبعْض: سَلُوا محمداً عن الرُّوحِ فإِن أجاب فيه، عرفْتم أنه ليس بنبي.
قال ع «٣» : وذلك أنه كان عندهم في التوراة أَن الروح ممَّا انفرد اللَّه بعلْمه، ولا يَطَّلع عليه أحَدٌ من عباده، فسألوه، فنزلَتِ الآية.
وقيل: إن الآية مكِّية، والسائلون هم قريشٌ، بإِشارة اليهودِ، واختلف الناس في الرّوح المسئول عَنْه، أيُّ رُوحٍ هو؟ فقال الجمهُور: وقع السؤال عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيَّة ما هي، فالرُّوح: اسم جنسٍ على هذا، وهذا هو الصوابُ، وهو المُشِكْل الذي لا تفسير له.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٤١) برقم (٢٢٦٧٠) وذكره البغوي (٣/ ١٣٣) وابن عطية (٣/ ٤٨١)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٦٠) والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٦١)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٤١) برقم: (٢٢٦٧٣)، وذكره البغوي (٣/ ١٣٣) بنحوه، وابن عطية (٣/ ٤٨١)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٦٠) بنحوه.
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨١). [.....]
494
وقوله سبحانه: مِنْ أَمْرِ رَبِّي يحتملُ أن يريد أنَّ الرُّوح مِنْ جملة أمور اللَّه التي استأثر سبحانه بعلْمها، وهي إِضافةُ خَلْقٍ إِلى خَالِقٍ، قال ابنُ رَاشِدٍ في «مرقبته» : أخبرني شيخي شهابُ الدِّينِ القَرِافِيُّ عن ابْنِ دَقِيقِ العِيد أنَهَ رأى كتاباً لبعض الحكماءِ في حقيقة النفْسِ، وفيه ثَلاَثُمِائَةِ قولٍ، قال رحمه اللَّه: وكثرُة الخلافِ تؤذنُ بكثرة الجهالاتِ، ثم علماءُ الإِسلام اختلفوا في جوازِ الخَوْضِ فيها على قولَيْن، ولكلٍّ حُجَجٌ يطُولُ بنا سَرْدُها، ثم القائلون بالجوازِ اختلفوا، هَلْ هي عَرَضٌ أو جوهرٌ، أو ليستْ بجوهرٍ ولا عرضٍ، ولا توصَفُ بأنها داخلُ الجسمِ ولا خارجُه، وإِليه ميل الإِمام أبي حامد وغيره، والذي عليه المحقِّقون من المتأخِّرين أنها جسْمٌ نوارنيٌّ شفَّافٌ سارٍ في الجسْمِ سَرَيانَ النارِ في الفَحْم والدليلُ على أنها في الجسْم قوله تعالى: فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ [الواقعة: ٨٣] فلو لم تكن في الجِسْمِ، لما قال ذلك، وقد أخبرني الفقيهُ الخطيبُ أبو/ محمد البرجيني رحمه الله عن الشيخ الصّالح أبي الطاهر الرّكراكيّ رحمه الله قال: حَضَرْتُ عند وَلِيٍّ من الأولياء حين النَّزْعِ، فشاهدتُّ نَفْسَهُ قد خَرَجَتْ من مواضع من جَسَده، ثم تشكَّلت على رأْسِه بشَكْله وصُورَته، ثم صَعِدت إِلى السماء، وصَعِدت نفْسي معها، فلما انتهينا إلى السماء الدنيا، شاهَدتُّ باباً ورجْلَ مَلَكٍ ممدودةً عليه، فأزال ذلك المَلَكُ رِجْله، وقال لنفْسِ ذلك الوليِّ:
اصْعَدِي، فَصَعِدَتْ، فأرادَتْ نفْسي أنْ تَصْعَدَ معها، فقال لها: ارْجِعي، فقد بقي لك وقْتٌ، قال: فرجعت فشاهدت الناسَ دائرين على جسْمي، وقائلٌ يقولُ: ماتَ، وآخر يقول: لم يَمُتْ، فدخلَتْ من أنْفي، أو قال: مِنْ عَيْني، وقَمْتُ. انتهى.
ت: وهذه الحكايةُ صحيحةٌ، ورجال إِسنادها ثقاتٌ معروفون بالفَضْل، فابنَ راشِدٍ هو شارِحُ ابنِ الحاجِبِ الفَرْعِيِّ، والبرجينيُّ معروفٌ عند أهْل إفريقيّة وأبو الطاهر من أكابر الأولياء معظّم عند أهل تُونُسَ، مزاره وقبره بالزلاج معروفٌ زرته رحمه الله، وقرأ الجمهور «١» :«وما أوتيتم»، واختلف فيمَنْ خوطب بذلك، فقالت فرقة: السَّائِلُونَ فقَطْ، وقالت فرقة: العالم كلّه، وقد نص على ذلك صلّى الله عليه وسلّم على ما حكاه الطبريُّ «٢».
وقوله: وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ... الآية: المعنى وما أوتيتم أنْت يا محمَّد، وجميعُ الخلائق من العلْم إِلا قليلاً، فاللَّه يُعلِّم مَنْ علَّمه بما شاء، ويَدَعُ ما شاء، ولو شاء لذهب بالوحْيِ الذي آتاك، وقوله إِلَّا رَحْمَةً استثناءٌ منقطعٌ، أي: لكن رحمة من ربّك تمسك
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨٢).
(٢) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٤٤).
495
عليك قال الداوديّ: وما روي عن ابن مسعود من أنه سَيُنْزَعُ القرآنُ من الصدور، وتُرْفَعُ المصاحف «١» لا يَصِحُّ وإِنما قال سبحانه: وَلَئِنْ شِئْنا فلم يشأ سبحانه، وفي الحديث عنه صلّى الله عليه وسلّم: «لا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ، وَهُمْ ظَاهِرُونَ» «٢» قال البخاريُّ: وهم أهل العِلْم، ولا يكون العلم مع فقد القرآن. انتهى كلام الداوديّ، وهو حَسَن جدًّا، وقد جاء في الصحيح ما هو أبْيَنُ من هذا، وهو قوله صلّى الله عليه وسلّم: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَنْتَزِعُ العِلْمَ انْتِزَاعاً ولَكِنْ يقبض العلم بقبض العلماء... «٣»، الحديث.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٨٨ الى ٨٩]
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩)
وقوله سبحانه: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ...
الآية: سببُ هذه الآية أنَّ جماعة من قريش قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم: لَوْ جِئْتَنَا بآيةٍ غَرِيبَةٍ غَيْرِ هذا القرآن، فإِنا نَقْدِرُ نَحنُ عَلَى المَجِيءِ بمثله، فنزلَتْ هذه الآية المصرِّحة بالتعجيز لجميع الخلائق.
قال ص: واللام في لَئِنِ اجْتَمَعَتِ اللام الموطِّئة للقسم، وهي الداخلة على الشرطِ، كقوله: لَئِنْ أُخْرِجُوا [الحشر: ١٢] وَلَئِنْ قُوتِلُوا [الحشر: ١٢] والجوابُ بعدُ للقَسَمِ لتقدُّمه، إِذا لم يسبق ذو خبره لا للشرطِ، هذا مذهبُ البصريِّين خلافاً للفراء في إجازته الأَمرين، إِلا أنَّ الأكثر أنْ يجيء جواب قَسَمٍ، «والظهير» المعين.
قال ع «٤» : وفهمت العرب الفصحاء بُخُلوصِ فهمها في مَيْزِ الكلامِ وَدُرْبتها به
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٤٤) برقم: (٢٢٦٩٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٨٢)، وذكره ابن كثير (٣/ ٦٢)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٦٣)، وعزاه لسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني، والحاكم، وابن مردويه.
(٢) تقدم تخريجه.
(٣) أخرجه البخاري (١/ ٢٣٤) كتاب «العلم» باب: كيف يقبض العلم، حديث (١٠٠)، وفي (١٣/ ٢٩٥) كتاب «الاعتصام» باب: ما يذكر من ذم الرأي، حديث (٧٣٠٧)، ومسلم (٤/ ٢٠٥٨) كتاب «العلم» باب: رفع العلم وقبضه وظهور الجهل والفتن، حديث (١٣/ ٢٦٧٣)، والترمذي (٥/ ٣١)، كتاب «العلم» باب: ما جاء في ذهاب العلم، حديث (٢٦٥٢)، وابن ماجه (١/ ٢٠) «المقدمة» باب: اجتناب الرأي والقياس، حديث (٥٢)، والدارمي (١/ ٧٧)، وأحمد (٢/ ١٦٢، ١٩٠)، والبغوي في «شرح السنة» (١/ ٢٤٧- بتحقيقنا)، من حديث عبد الله بن عمرو، وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.
(٤) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨٣).
ما لا نفهمه نَحْنُ ولا كُلُّ من خالطته حضارةٌ، ففهموا العَجْزَ عنه ضرورةً ومشاهدةً، وعلمه الناس بعدهم استدلالاً ونظراً، ولكلٍّ حصل عِلْم قطعيٌّ، لكن ليس في مرتبةٍ واحدةٍ.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٠ الى ٩٥]
وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤)
قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥)
وقوله سبحانه: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً... الآية:
روي في قول هذه المقالة للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم حديثٌ طويلٌ، مقتضاه: أنَّ عُتْبَة وشَيْبة ابْنَيْ ربيعَةَ، وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَبي أميَّةَ، والنَّضْرَ بْنَ الحَارِثِ وغيرهم من مَشْيَخَةِ قريشٍ وسادَاتِها، اجتمعوا عليه، فعرَضُوا عليه أنْ يملِّكوه إِن أراد المُلْك، أو يجمعوا له كثيراً من المالِ إِن أراد الغنى ونحو هذا من الأقاويل، فدعاهم صلّى الله عليه وسلّم عند ذلك إِلى اللَّه، وقال: إِنما جئتُكُمْ بأمرٍ منَ اللَّهِ فيه صَلاحُ دنياكم ودِينِكُم، فإِن أطعتم، فَحَسَن، وإِلا صَبَرْتُ حتَّى يحكم اللَّه بيني وبينكم «١» فقالوا له حينئذٍ: فإِن كان ما تَزْعُمُ حقًّا، ففجِّر لنا من الأرض ينبوعاً... الحديث بطوله، «واليَنْبُوع» : الماء النابع، وخِلالَها ظرف، ومعناه أثناءها وفي داخلها.
وقوله: كَما زَعَمْتَ إِشارة إلى ما تلا عليهم قبل ذلك في قوله سبحانه: إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ... الآية [سبأ: ٩] «والكِسَفُ» الشيء المقطوع، وقال الزجَّاج «٢» المعنى: أو تسقط السماء علينا طبقاً، وقوله: قَبِيلًا قيل: معناه مقابلةً وعياناً، وقيل: معناه ضامناً وزعيماً بتصديقك ومنه القبالة «٣» وهي الضمان، وقيل: معناه نوعاً وجنساً لا نظير له عندنا، أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ، قال المفسِّرون: الزُّخْرُفُ الذَّهَب في هذا الموضع، أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ، أي: في الهواء
(١) أخرجه الطبري، وابن إسحاق، وابن أبي حاتم، وابن المنذر كما في «الدر المنثور» (٤/ ٣٦٥- ٣٦٦)، عن ابن عباس.
(٢) ينظر: «تفسير الزجاج» (٣/ ٢٥٩).
(٣) القبالة: الكفالة، وهي في الأصل: مصدر قبل: إذا كفل، وقبل «بالضم» - إذا صار قبيلا، أي: كفيلا، وتقبّل به: إذا تكفّل.
ينظر: «لسان العرب» (٣٥٢).
علوًّا، ويحتمل أن يريد السماء المعروفَة، وهو أظهر.
ت: وذكر ع «١» هنا كلماتٍ الواجبُ طرحها، ولهذا أعرضت عنها، وتَرْقى معناه تصعد، ويروى أن قائل هذه المقالة هو عبدُ اللَّهِ بْنُ أبي أميَّةِ، ويروى أن جماعتهم طلبَتْ هذه النْحوَ منه، فأمره عزَّ وجلَّ أن يقول: سُبْحانَ رَبِّي، أي: تنزيهاً له من الإِتيان إِليكم مع الملائكةِ قبيلاً، ومن اقتراحِي أنا عليه هذه الأشياءَ، وهل أنا إِلا بشر، إِنما عليَّ البلاغ المبين فقطْ.
وقوله: مُطْمَئِنِّينَ، أي: وادعين فيها مقيمين.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٦ الى ٩٨]
قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨)
وقوله سبحانه: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ روي أن من تقدَّم الآن ذكرهم من قريش، قالوا للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم في آخر قولهم: فَلْتَجِىءْ مَعَكَ بطائفةٍ من الملائكة تَشْهَدُ لك بِصِدْقك في نبوَّتك، وروي أنهم قالوا: فمن يشهدُ لك؟ ففي ذلك نزلَتِ الآية، أي: اللَّه يشهد بيني وبينكم، ثم أخبر سبحانه أنه يحشرهم على الوُجُوه حقيقةً، وفي هذا المعنى حديثٌ، «قيل: يَا رَسُولَ اللَّهِ، كَيْفَ يَمْشِي الكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قال: أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ في الدُّنْيَا عَلَى رِجْلَيْنِ قَادِراً عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ/ في الآخِرَةِ عَلَى وَجهِهِ «٢» ؟» قال قتادة: بَلَى، وَعِزَّةِ رَبِّنا «٣».
ت: وهذا الحديثُ قد خرَّجه الترمذيُّ من طريق أبي هريرة، قال: قال رسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: «يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَة عَلَى ثَلاَثَةِ أَصْنَافٍ: ركبانا، ومشاة، وعلى
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨٥).
(٢) أخرجه البخاري (٨/ ٣٥٠) كتاب «التفسير» باب: الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ، حديث (٤٧٦٠)، ومسلم (٤/ ٢١٦١) كتاب «صفات المنافقين» باب: يحشر الكافر على وجهه، حديث (٢٨٠٦)، والطبري (١٩/ ١٢)، وأبو يعلى (٥/ ٣٨٥- ٣٨٦) برقم (٣٠٤٦)، وأحمد (٣/ ٢٢٩)، وابن حبان (٧٣٢٣)، وأبو نعيم في «الحلية» (٢/ ٣٤٣) من حديث أنس، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٦٨)، وزاد نسبته إلى أبي نعيم في «المعرفة»، وابن مردويه، والبيهقي في «الأسماء والصفات».
(٣) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٨٧).
وُجُوهِهِم... » «١» الحديثَ، وقوله: كُلَّما خَبَتْ أي: كلما فرغَتْ من إِحراقهم، فسكن اللهيبُ القائمُ عليهم قَدْرَ ما يعادون، ثم يثورُ، فتلك زيادة السعير، قاله ابن عَبَّاس «٢».
قال ع «٣» : فالزيادة في حيِّزهم، وأما جهنَّم، فعلى حالها من الشدَّة، لا فتور، وخَبَتِ النارُ، معناه: سَكَن اللهيبُ، والجَمْرُ على حاله، وخَمَدَتْ معناه، سكَن الجَمْر وضَعُف، وهَمَدَتْ معناه: طُفِئت جملةً.
وقوله سبحانه: ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا... الآية: الإِشارة ب ذلِكَ إِلى الوعيد المتقدِّم بجهنم.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ٩٩ الى ١٠٠]
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠)
قوله عز وجل: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ... الآية:
الرؤيةُ في هذه الآية هي رؤية القَلْبِ، وهذه الآية احتجاجٌ عليهم فيما استبعدوه من البعث، «والأجل» هاهنا: يحتمل أن يريد به القيامة، ويحتمل أن يريد أَجَلَ الموت.
وقوله سبحانه: قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي... الآية: ال رَحْمَةِ، في هذه الآية: المال والنِّعم التي تُصْرَفُ في الأرزاق.
وقوله: خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ المعنى: خشية عاقبةِ الإِنفاق، وهو الفَقْر، وقال بعض اللُّغويِّين، أنْفَقَ الرجُلُ معناه: افتقَرَ كما تقول أَتْرَبَ وأَقْتَرَ.
وقوله: وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي: ممسِكاً، يريدُ أنَّ في طبعه ومنتهى نظره أن الأشياء تتناهى وتفنى، فهو لو ملك خزائنَ رحمة الله، لأمسك خشيةَ الفَقْر، وكذلك يظنُّ أن قدرة اللَّه تقفُ دون البَعْث، والأمر ليس كذلك، بل قدرته لا تتناهى.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠١ الى ١٠٤]
وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٠٥)، كتاب «التفسير» باب: ومن سورة الإسراء، حديث (٣١٤٢)، من حديث أبي هريرة، وقال الترمذي: هذا حديث حسن، وأخرجه أحمد (٢/ ٣٥٤).
(٢) أخرجه الطبري (٨/ ١٥٣) برقم: (٢٢٧٢٦) بنحوه، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٨٧)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٣/ ٣٦٩)، وعزاه لابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن الأنباري في كتاب «الأضداد». [.....]
(٣) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨٧).
499
وقوله سبحانه: وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ... الآية: اتفق المتأوِّلون والرواةُ أن الآياتِ الخَمْسَ التي في «سورة الأعراف» هي من هذه التسْعِ، وهي: الطُّوفانُ والجَرَادُ والقُمَّل والضَّفادع والَّدمُ، واختلفوا في الأربَعِ. ت: وفي هذا الاتفاق نظَرٌ، وَرَوَى في هذا صفوانُ بنُ عَسَّال أن يهوديًّا من يهودِ المدينةِ، قال لآخَرَ: سِرْ بِنَا إِلى هذا النبيِّ نسأله عن آيات موسى، فقال له الآخر: لا تقل له إنَّه نَبيٌّ، فإِنه لَوْ سَمِعَها، صَارَ له أربعة أعيُنٍ، قال: فَسَارَا إِلى النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فسألاه، فقال: «هي لا تُشْرِكُوا باللَّه شيئاً، ولا تسرِقُوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إِلا بالحق، ولا تمشوا ببريءٍ إلى السلطان ليقتله، ولا تَسْحَرُوا، ولا تأكلوا الربا، ولا تقذفوا المُحْصَنَات، ولا تَفِرُّوا يَوْمَ الزَّحْف، وعليْكُمْ- خاصَّةَ معْشَرِ اليهودِ ألاَّ تَعْدُوا في السبت» «١». انتهى، وقد ذكر ع «٢» هذا الحديث.
وقوله سبحانه: فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ، أي: إِذ جاءهم موسى واختلف في قوله: مَسْحُوراً فقالتْ فرقة: هو مفعولٌ على بابه، وقال الطبري «٣» : هو بمعنى ساحرٍ، كما قال/ حِجاباً مَسْتُوراً [الاسراء: ٤٥] وقرأ الجمهور: «لَقَدْ عِلمْتَ»، وقرأ الكسائيُّ: «لَقَدْ عَلِمْتُ» بتاء المتكلِّم مضمومةً، وهي قراءة علي بن أبي طالب وغيره، وقال: ما علم عَدُوُّ اللَّه قطُّ، وإِنما علم موسى والإِشارة ب هؤُلاءِ إِلى التسع.
وقوله: بَصائِرَ: جمعُ بصيرةٍ، وهي الطريقةُ، أي طرائِقَ يُهْتَدَى بها، و «المثبور» المُهْلَكُ قاله مجاهد «٤»، فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ، أي: يستخفهم ويقتلهم،
(١) أخرجه الترمذي (٥/ ٣٠٥- ٣٠٦) كتاب «التفسير» باب: ومن سورة بني إسرائيل، حديث (٣١٤٤)، وأحمد (٤/ ٢٣٩- ٢٤٠)، والنسائي (٧/ ١١١- ١١٢)، كتاب «تحريم الدم» باب السحر، حديث (٤٠٧٨)، والحاكم (١/ ٩)، وأبو نعيم في «الحلية» (٥/ ٩٧- ٩٨)، والطبري (١٥/ ١٧٢)، والطبراني في «الكبير» (٨/ ٨٣- ٨٤) برقم: (٧٣٩٦)، وأخرجه ابن ماجه مختصرا برقم: (٣٧٠٥)، وذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٧٠)، وزاد نسبته إلى سعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وأبي يعلى، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن قانع، وابن مردويه، وأبي نعيم، والبيهقي كلاهما في «الدلائل».
(٢) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٨٨).
(٣) ينظر: «الطبري» (٨/ ١٥٨).
(٤) أخرجه الطبري (٨/ ١٥٩) برقم: (٢٢٧٥٩)، وذكره البغوي (٣/ ١٤٠)، وابن عطية (٣/ ٤٨٩)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٦٧).
500
والأرض هنا أرْضُ مِصْر، ومتى ذكرت الأرض عموماً، فإِنما يراد بها ما يناسب القصَّة المتكلَّم فيها، واقتضبَتْ هذه الآيةُ قصص بني إِسرائيل مع فرعون، وإِنما ذكرت عِظَمَ الأمر وخطيره، وذلك طرفاه أراد فرعون غلبتهم وقتلهم، وهذا كان بَدْءَ الأمر فأغرقه اللَّه وجُنُودَهُ، وهذا كان نهايةَ الأمر، ثم ذكر سبحانه أمْرَ بني إسرائيل بعد إِغراق فرَعوْنَ بسُكْنَى أرض الشام ووَعْدُ الْآخِرَةِ هو يوم القيامة، «واللفيفُ» : الجَمْعُ المختلطُ الذي قد لفّ بعضه إلى بعض.
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
وقوله سبحانه: وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ يعني القرآن نَزَلَ بالمصالح والسّداد للناس، وبِالْحَقِّ نَزَلَ يريد: بالحقِّ في أوامره ونواهيه وأخباره، وقرأ جمهور «١» الناس: «فَرْقَنَاهُ» بتخفيف الراء، ومعناه: بيَّنَّاه وأوضَحْناه وجَعَلْناه فرقاناً، وقرأ جماعةٌ خارجَ السبْعِ «٢» :
«فَرَّقْنَاهُ» بتشديد الراء، أي: أنزلناه شيئاً بعد شيء، لا جملةً واحدة، ويتناسق هذا المعنى مع قوله: لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ، وتأوّلت فرقةٌ قوله: عَلى مُكْثٍ أي: على ترسُّل في التلاوةِ، وترتُّل، هذا قول مجاهد وابن عباس وابن جُرَيْج وابن زيد «٣»، والتأويلُ الآخر، أي على مُكْثٍ وتطاوُلٍ في المدة شيئاً بعد شيء.
وقوله سبحانه: قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوا فيه تحقيرٌ للكفّار، وضرب من التوعّد، والَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ: قالت فرقة: هم مؤمنو أهل الكتاب، والْأَذْقانِ: أسافل الوجوه حيث يجتمع اللّحيان.
(١) ينظر: «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٩٠)، و «البحر المحيط» (٦/ ٨٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٢٦).
(٢) وهي قراءة أبيّ، وابن عباس، ومجاهد، وابن مسعود، وعلي، وأبي رجاء، وقتادة، والشعبي، وحميد، وعمرو بن فائد، وزيد بن علي، وعمرو بن ذر، وعكرمة، والحسين.
ينظر: «مختصر الشواذ» (٨١)، و «المحتسب» (٢/ ٢٣)، و «المحرر الوجيز» (٣/ ٤٩٠)، و «البحر المحيط» (٦/ ٨٤)، و «الدر المصون» (٤/ ٤٢٧).
(٣) أخرجه الطبري (٨/ ١٦٢) برقم: (٢٢٧٨٣)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٩١)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٧٢)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
قال الواحِدِيُّ: إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا أي: بإِنزال القرآن، وبعَث محمَّد لَمَفْعُولًا.
انتهى.
وقوله سبحانه: وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً هذه مبالغةٌ في صفتهم، ومَدْحٌ لهم وحضٌّ لكل من توسَّم بالعلم، وحصَّلَ منه شيئاً أنْ يجري إلى هذه الرتبة النفيسَةِ وحكَى الطبريُّ عن التميميِّ أن من أوتي من العلْمِ ما لم يُبْكِهِ لخَلِيقِ ألاَّ يكونَ أُوتِيَ عْلماً ينفعه لأَنَّ اللَّه سبحانه نعت العلماء، ثم تَلاَ هذه الآية كلَّها.
ت: وإِنه واللَّهِ لكذلكَ، وإِنما يخشَى اللَّهَ مِنْ عباده العلماءُ، اللهمَّ انْفَعْنَا بما عَلَّمتنا، ولا تجعْلُه علينا حجَّةً بفضلك، ونقل الغَزَّاليُّ عن ابن عبَّاس أنه قال: إِذا قرأتم سَجْدَةَ «سُبْحَانَ»، فلا تعجلوا بالسُّجُود حتى تَبْكُوا، فإِن لم تَبْكِ عينُ أحدِكُمْ، فَلْيبكِ قلبه.
قال الغَزَّالِيُّ: فإن لم يحضرْهُ حُزْن وبكاءٌ كما يحضر أرباب القلوب الصافيَةِ فليَبْكِ على فَقْدِ الحُزْن والبكاء، فإِن ذلك من أعظم المصِائبِ. قال الغَزَّالِيُّ: واعلم أنَّ الخشوع ثمرةُ الإِيمان، ونتيجةُ/ اليقينِ الحاصلِ بعظمةِ اللَّه تعالى، ومَنْ رُزِقَ ذلك، فإِنه يكون خاشعاً في الصلاة وغيرها فإِن موجب الخشوع استشعارُ عظمة اللَّه، ومعرفةُ اطلاعه على العَبْد، ومعرفةُ تقصير العَبْد، فمن هذه المعارفِ يتولَّد الخشوعُ، وليْسَتْ مختصَّةً بالصلاة، ثم قال:
وقد دلَّت الأخبار على أن الأصل في الصَّلاة الخشوعُ، وحضورُ القَلْب، وأن مجرَّد الحركاتِ مع الغَفْلة قليلُ الجدوى في المعادِ، قال: وأعلم أنَّ المعاني التي بها تتمُّ حياة الصلاة تجمعها ستُّ جُمَلٍ، وهي: حضورُ القَلْبِ، والتفهُّمُ، والتعظيمُ، والهَيْبَة، والرجاءُ، والحياءُ، فحضور القَلْب: أن يفرِّغه من غير ما هو ملابسٌ له، والتفهُّم: أمر زائد على الحُضُور، وأما التعظيم، فهو أمر وراءَ الحضور والفَهْمِ، وأما الهَيْبة، فأمر زائد علي التعظيمِ، وهي عبارة عن خَوْفٍ مَنْشَؤه التعظيم، وأما التعظيم، فهو حالةٌ للقَلْب تتوَّلد من معرفتين: إِحداهما: معرفة جلالِ اللَّه سبحانه وعظمته، والثانية: معرفة حقارة النفْسِ، واعَلَمْ أَنَّ حضور القلب سببه الهِمَّة، فإِن قلبك تَابِعٌ لهمَّتك، فلا يحضر إِلا فيما أهمَّك، ومهما أهمَّك أمر، حَضَر القَلْب، شاء أم أبى، والقلب إذا لم يحضُرْ في الصلاة، لم يَكُنْ متعطِّلاً بل يكون حاضراً فيما الهمة مصروفةٌ إِليه. انتهى من «الإحياء».
[سورة الإسراء (١٧) : الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
502
وقوله سبحانه: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ... الآية: سبب نزول هذه الآية:
أنَّ بعض المشركين سمع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يدعو: يا اللَّه يا رَحْمَانَ، فقالوا: كان محمَّدٌ يأمرنا بدعاءِ إله واحدٍ، وهو يدْعو إِلَهْين، قاله ابن عباس «١»، فنزلَتِ الآية مبيِّنةً، أنها أسماء لمسمًّى واحد، وتقدير الآية: أيُّ الأسماءِ تدعو به، فأنت مصيبٌ، فله الأسماءُ الحسنى، وفي «صحيحِ البخاريِّ» بسنده عن ابن عباس في قوله سبحانه: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قَالَ: نَزَلَتْ ورسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم مُخْتَفٍ بمكَّةَ، كان إِذَا صَلَّى بأصحابه، رَفَعَ صَوْتَهُ بالقرآن، فإِذا سمعه المشْرِكُون، سَبُّوا القرآن، ومن أنزله، ومن جاء به، فقال اللَّه تبارك وتعالى لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ، أي: بقراءتك، فيسمَعَ المشركونَ فيسبوا القرآن، وَلا تُخافِتْ بِها عن أصحابك فلا تسمعهم، وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «٢»، وأسند البخاريُّ عن عائشة: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها قالتُ: أنزل ذلك في الدعاءِ انتهى «٣».
قال الغَزَّاليُّ في «الإِحياء» : وقد جاءت أحاديثُ تقتضي استحبابَ السِّرِّ بالقرآن، وأحاديثُ تقتضي استحبابَ الجَهْر به، والجَمُع بينهما أنْ يقال: إِن التالي إِذا خاف على نفسه الرِّياءَ والتصنُّع أو تشويش مُصَل، / فالسر أفضلُ، وإِن أَمِنَ ذلك، فالجهر أَفَضَلُ لأن العمل فيه أكثر ولأن فائدته أيضاً تتعدَّى إلى غيره والخير المتعدِّي أفضلُ من اللازم ولأنه يوقظ قلب القارئ، ويجمع همَّته إلى الفكْر فيه، ويصرف إِليه سَمْعَه، ويطرد عنه النوْمَ برفْعِ صوته، ولأنه يزيدُ في نشاطه في القراءة، ويقلِّل من كسله ولأنه يرجو بجهره تيقُّظ نائمٍ، فيكون سَبَباً في إِعانته على الخير، ويسمعه بَطَّال غافلٌ، فينشط بسببه، ويشتاقُ لخدمة خالقه، فمهما حَضَرَتْ نيَّةٌ من هذه النيَّات، فالجهر أفضلُ، وإِن اجتمعتْ هذه النيَّاتُ، تضاعَفَ الأجر، وبكثرة النياتِ يزْكُو عمل الأبرار وتتضاعف أجورهم. انتهى.
وقوله سبحانه: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ هذه الآية رادَّة على كَفَرة العرب في
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٦٥) برقم: (٢٢٨٠١)، وذكره البغوي (٣/ ١٤٢)، وابن عطية (٣/ ٤٩٢)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٦٨)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٧٣)، وعزاه لابن جرير، وابن مردويه.
(٢) أخرجه البخاري (. / ٢٥٧)، كتاب «التفسير» باب: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، حديث (٤٧٢٢).
(٣) أخرجه البخاري (٨/ ٢٥٧) كتاب «التفسير» باب: وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها، حديث (٤٧٢٣).
503
قولهم: لولا أولياءُ اللَّه، لَذَلَّ- تعالى اللَّه عن قولهم- وقَّيد سبحانه نَفْيَ الولاية له بطريقِ الذُّلِّ، وعلى جهة الانتصار إِذ ولايته سبحانه موجُوَدةٌ بفضله ورحمته لمن والى من صَالح عباده.
قال مجاهد: المعنى لم يخالِفْ أحداً ولا ابتغى نصْرَ أحد سبحانه، لا إله إِلا هو «١» وصلَّى اللَّه على سيدِّنا ومولانا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما.
(١) أخرجه الطبري (٨/ ١٧٢) برقم: (٢٢٨٥٠)، وذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٣)، وابن كثير في «تفسيره» (٣/ ٦٩)، والسيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٧٦)، وعزاه لابن أبي شيبة، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم.
504
تفسير سورة الكهف
بسم الله الرّحمن الرّحيم هذه السورة مكّيّة في قول جميع المفسّرين، وروي عن قتادة أنّ أول السورة نزل بالمدينة إلى قوله: جُرُزاً والأول أصحّ، وهي من أفضل سور القرآن «١»، وروي أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ألا أخبركم بسورة عظمها ما بين السّموات والأرض، ولمن جاء بها من الأجر مثل ذلك؟ قالوا: أيّ سورة هي، يا رسول الله؟ قال: سورة الكهف، من قرأ بها يوم الجمعة، غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجُمُعَةِ الأخرى، وزيادة ثلاثة أيّام» «٢» وفي رواية أنس: «من قرأ بها، أعطي نورا بين السّماء والأرض، ووقي بها فتنة القبر».
ت: وعن البراء بن عازب، قال: كان رجل يقرأ سورة الكهف، وإلى جانبه فرس مربوط بشطنين فغشيته سحابة، فجعلت تدنو وتدنو، وجعل فرسه ينفر، فلما أصبح أتى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فذكر ذلك له، فقال: «تلك السّكينة نزلت بالقرآن» »
رواه البخاريّ، واللفظ له، ومسلم والترمذيّ والنسائيّ، والرجل المبهم في الحديث هو أسيد بن حضير، وفي الحديث الصحيح من طريق النّوّاس بن سمعان، عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «فمن أدرك الدّجّال منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف... » وذكر الحديث. رواه مسلم «٤» وغيره، زاد أبو داود:
«فإنّها جوازكم من فتنته». وعن أبي الدرداء أن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قرأ عشر آيات من أوّل سورة الكهف، عصم من الدّجّال» «٥» رواه مسلم وأبو داود والترمذيّ/ والنسائي، واللفظ
(١) ذكره ابن عطية (٣/ ٤٩٤).
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٤/ ٣٧٩)، وعزاه إلى ابن مردويه، عن عائشة. [.....]
(٣) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.
(٤) تقدم تخريجه في أوائل التفسير.
(٥) أخرجه مسلم (١/ ٥٥٥) كتاب «صلاة المسافرين» باب: فضل سورة الكهف، وآية الكرسي، حديث (٢٥٧/ ٨٠٩)، وأبو داود (٢/ ٥٢٠) كتاب «الملاحم» باب: في ذكر خروج الدجال، حديث (٤٣٢٣)، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» برقم: (٩٥١)، وأحمد (٥/ ١٩٦)، (٦/ ٤٤٩)، والحاكم (٢/ ٣٦٨)، وابن حبان (٧٨٥- ٧٨٦)، والبيهقي (٣/ ٢٤٩)، والبغوي في «شرح السنة» (٣/ ٢٥- بتحقيقنا) من حديث أبي الدرداء.
505
Icon