تفسير سورة الإسراء

تفسير الخازن
تفسير سورة سورة الإسراء من كتاب لباب التأويل في معاني التنزيل المعروف بـتفسير الخازن .
لمؤلفه الخازن . المتوفي سنة 741 هـ
قال ابن الجوزي : هي مكية في قول الجماعة، إلا أن بعضهم يقول : فيها مدني. فروي عن ابن عباس أنه قال : هي مكية إلا ثمان آيات : من قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾، إلى قوله :﴿ نصيرا ﴾. وهذا قول قتادة. وقال مقاتل : فيها من المدني :﴿ وقل رب أدخلني مدخل صدق ﴾ الآية، وقوله تعالى :﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾، وقوله :﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾، وقوله تعالى :﴿ وإن كادوا ليفتنونك ﴾، وقوله تعالى :﴿ ولولا أن ثبتناك ﴾ والتي تليها. وهي مائة وعشر آيات. وقيل : إحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا.

سورة الإسراء

فصل في نزولها


قال ابن الجوزي: هي مكية في قول الجماعة إلا أن بعضهم يقول فيها مدني فروي عن ابن عباس أنه قال هي مكية إلا ثمان آيات من قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ إلى قوله نَصِيراً وهذا قول قتادة وقال مقاتل فيها من المدني وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ- الآية وقوله تعالى إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ- وقوله إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ- وقوله تعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ- وقوله تعالى وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ والتي تليها- وهي مائة وعشر آيات وقيل وإحدى عشرة آية وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة وثلاثة آلاف وأربعمائة وستون حرفا.

بسم الله الرّحمن الرّحيم

[سورة الإسراء (١٧): آية ١]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)
قوله عز وجل سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا روى ابن الجوزي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه سئل عن تفسير سبحان الله فقال: تنزيه الله عن كل شيء. هكذا ذكره بغير سند وقال النحويون: سبحان اسم علم على التسبيح يقال سبحت الله تسبيحا فالتسبيح هو المصدر وسبحان الله علم للتسبيح وتفسير سبحان الله، تنزيه الله عن كل سوء ونقيصة وأصله في اللغة التباعد فمعنى سبحان الله بعده ونزاهته عن كل ما لا ينبغي «الذي أسرى» يقال سري به وأسري به لغتان «بعبده» أجمع المفسرون والعلماء والمتكلمون، أن المراد به محمد صلّى الله عليه وسلّم لم يختلف أحد من الأمة في ذلك، وقوله بعبده إضافة تشريف وتعظيم وتبجيل وتفخيم وتكريم ومنه قول بعضهم.
لا تدعني إلا بياعبدها... فإنه أشرف أسمائي
قيل: لما بلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الدرجات العالية والرتب الرفيعة ليلة المعراج، أوحى الله عز وجل إليه يا محمد بم شرفتك؟ قال: رب حيث نسبتني إلى نفسك بالعبودية. فأنزل الله سبحانه وتعالى: سبحان الذي أسرى بعبده ليلا. فإن قلت: الإسراء لا يكون إلا بالليل فما معنى ذكر الليل. قلت: أراد بقوله ليلا بلفظ التنكير تقليل مدة الإسراء وأنه أسري به في بعض ليلة من مكة إلى الشام مسيرة شهر أو أكثر، فدل تنكير الليل على البعضية مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ قيل كان الإسراء من نفس مسجد مكة وفي حديث مالك بن صعصعة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر» وذكر حديث المعراج، وسيأتي بكماله فيما بعد وقيل عرج به من دار أم هانئ بنت أبي طالب وهي بنت عمه أخت علي رضي الله تعالى عنه، فعلى هذا أراد بالمسجد الحرام الحرم إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى يعني إلى بيت المقدس سمي أقصى لبعده عن المسجد الحرام أو لأنه
109
لم يكن حينئذ وراءه مسجد الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ يعني بالأنهار والأشجار والثمار، وقيل سماه مباركا لأنه مقر الأنبياء ومهبط الملائكة والوحي وقبلة الأنبياء قبل نبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإليه تحشر الخلق يوم القيامة. فإن قلت:
ظاهر الآية يدل على أن الإسراء كان إلى بيت المقدس والأحاديث الصحيحة تدل على أنه عرج به إلى السماء فكيف الجمع بين الدليلين، وما فائدة ذكر المسجد الأقصى فقط؟ قلت: قد كان الإسراء على ظهر البراق إلى المسجد الأقصى، ومنه كان عروجه إلى السماء على المعراج وفائدة ذكر المسجد الأقصى فقط أنه صلّى الله عليه وسلّم لو أخبر بصعوده إلى السماء أولا لاشتد إنكارهم لذلك فلما أخبر أنه أسرى به إلى بيت المقدس، وبان لهم صدقه فيما أخبر به من العلامات التي فيه وصدقوه عليها أخبر بعد ذلك بعروجه إلى السماء، فجعل الإسراء إلى المسجد الأقصى كالتوطئة لمعراجه إلى السماء. وقوله تعالى لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا يعني من عجائب قدرتنا فقد رأى محمد صلّى الله عليه وسلّم في تلك الليلة الأنبياء وصلى بهم ورأى الآيات العظام. فإن قلت لفظة من في قوله من آياتنا تقتضي التبعيض وقال في حق إبراهيم عليه السلام وكذلك نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض، وظاهر هذا يدل على فضيلة إبراهيم عليه السلام على محمد صلّى الله عليه وسلّم ولا قائل به فما وجهه. قلت: ملكوت السموات والأرض من بعض آيات الله أيضا ولآيات الله أفضل من ذلك وأكثر والذي أراه محمدا صلّى الله عليه وسلّم من آياته وعجائبه تلك الليلة كان أفضل من ملكوت السموات والأرض، فظهر بهذا البيان فضل محمد صلّى الله عليه وسلّم على إبراهيم صلّى الله عليه وسلّم إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقواله ودعائه الْبَصِيرُ لأفعاله الحافظة له في ظلمة الليل وقت إسرائه وقيل إنه هو السميع لما قالته له قريش حين أخبرهم بمسراه إلى بيت المقدس الْبَصِيرُ بما ردوا عليه من التكذيب. وقيل: إنه هو السميع لأقوال جميع خلقه البصير بأفعالهم فيجازي كل عامل بعمله. وحمله على العموم أولى.

فصل


في ذكر حديث المعراج وما يتعلق به من الأحكام، وما قال العلماء فيه (ق) حدثنا قتادة عن أنس بن مالك عن مالك بن صعصعة أن نبي الله صلّى الله عليه وسلّم حدثهم عن ليلة أسري به قال: «بينما أنا في الحطيم وربما قال في الحجر مضطجعا، ومنهم من قال بين النائم واليقظان إذ أتاني آت فقد قال وسمعته يقول: فشق ما بين هذه إلى هذه فقلت للجارود وهو إلى جنبي ما يعني به قال من ثغرة نحره إلى شعرته وسمعته يقول من قصته إلى شعرته، فاستخرج قلبي ثم أتيت بطست من ذهب مملوءة إيمانا، فغسل قلبي ثم حشى ثم أعيد ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض فقال له الجارود: أهو البراق يا أبا حمزة؟ قال أنس: نعم يضع خطوه عند أقصى طرفه فحملت عليه، فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل: وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا فيها آدم فقال: هذا أبوك آدم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالابن الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح. قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد قيل: وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا خالة قال: هذا يحيى وعيسى فسلم عليهما فسلمت فردا ثم قالا: مرحبا بالأخ الصالح، والنبي الصالح. ثم صعد بي إلى السماء الثالثة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال: نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت إذا يوسف، قال: هذا يوسف فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد بي حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك؟
قال: محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت، فإذا إدريس قال:
هذا إدريس فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم صعد بي حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل
110
مرحبا به فنعم المجيء جاء ففتح فلما خلصت فإذا هارون قال: هذا هارون فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال:
مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح. ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة فاستفتح قيل من هذا قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قال مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا موسى قال:
هذا موسى فسلم عليه فسلمت عليه فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح فلما تجاوزت بكى قيل له:
ما يبكيك؟ قال: أبكي لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ثم صعد بي إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل قيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد أرسل إليه قال نعم قيل مرحبا به فنعم المجيء جاء فلما خلصت فإذا إبراهيم قال: هذا أبوك إبراهيم فسلم عليه فسلمت عليه فرد السلام ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، ثم رفعت إلى سدرة المنتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة قال: هذه سدرة المنتهى فإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران، فقلت:
ما هذان يا جبريل قال: أما الباطنان فنهران في الجنة وأما الظاهران فالنيل والفرات، ثم رفع لي البيت المعمور ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل فأخذت اللبن فقال: هي الفطرة أنت عليها وأمتك ثم فرضت علي الصلوات خمسين صلاة كل يوم فرجعت، فمررت على موسى فقال بم أمرت قلت: أمرت بخمسين صلاة كل يوم. قال: إن أمتك لا تستطيع خمسين صلاة كل يوم وإني والله قد جربت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك، فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فوضع عني عشرا، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بعشر صلوات كل يوم، فرجعت إلى موسى فقال مثله فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم فرجعت إلى موسى، قال: بم أمرت؟ قلت: بخمس صلوات كل يوم قال: إن أمتك لا تستطيع خمس صلوات كل يوم وإني قد جربت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك قال سألت: ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم قال: فلما جاوزت نادى منادي أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي» زاد في رواية أخرى «وأجزي بالحسنة عشرا» وفي رواية أخرى «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان وفيه ثم غسل البطن بماء زمزم ثم ملئ إيمانا وحكمة، وفيه فرفع إلى البيت المعمور فسألت جبريل فقال هذا البيت المعمور يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك، إذا خرجوا لم يعودوا مرة أخرى» (ق) «عن أنس بن مالك قال: كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: فرج سقف بيتي وأنا بمكة فنزل جبريل، ففرج صدري ثم غسله من ماء زمزم ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيمانا، فأفرغها في صدري ثم أطبقه ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء فلما جئنا السماء الدنيا قال جبريل لخازن السماء الدنيا: افتح قال من هذا قال هذا جبريل قيل هل معك أحد قال: نعم معي محمد صلّى الله عليه وسلّم قال: فأرسل إليه قال نعم فافتح ففتح قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة قال فإذا نظر قبل يمينه ضحك، وإذا نظر قبل شماله بكى فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح، قال: قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم، وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة، والأسودة التي عن شماله أهل النار، فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى، قال: ثم عرج بي جبريل حتى أتى السماء الثانية فقال لخازنها: افتح. فقال له خازنها مثل ما قال خازن السماء الدنيا ففتح. قال أنس بن مالك: فذكر أنه وجد في السموات آدم وإدريس وعيسى وموسى وإبراهيم، ولم يثبت كيف منازلهم غير أنه ذكر أنه قد وجد آدم في السماء الدنيا وإبراهيم في السماء السادسة، قال: فلما مر جبريل ورسول الله بإدريس قال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح، قال: ثم مر فقلت من هذا قال هذا إدريس قال: ثم مررت بموسى فقال مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قال: فقلت من هذا قال: هذا موسى. قال ثم مررت بعيسى فقال مرحبا
111
بالنبي الصالح والأخ الصالح قلت من هذا قال: هذا عيسى ابن مريم قال ثم مررت بإبراهيم فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح قال فقلت من هذا قال هذا إبراهيم. قال ابن شهاب: وأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حبة الأنصاري كانا يقولان: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام. قال ابن حزم وأنس بن مالك قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ففرض الله على أمتي خمسين صلاة قال: فرجعت بذلك حتى مررت بموسى فقال موسى: ماذا فرض ربك على أمتك؟ قلت: فرض عليهم خمسين صلاة. قال لي موسى: فراجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال فراجعت ربي فوضع شطرها. قال فرجعت إلى موسى فأخبرته قال: راجع ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك قال: فراجعت ربي فقال: هي خمس وهن خمسون لا يبدل القول لدي قال فرجعت إلى موسى فقال: راجع ربك فقلت قد استحييت من ربي قال: ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة
المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي؟ قال: ثم أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ وإذا ترابها المسك» (ق) عن شريك بن أبي نمر «أنه سمع أنس بن مالك يقول: ليلة أسري برسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مسجد الكعبة أنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام. فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم هو خيرهم فقال آخرهم خذوا خيرهم فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب فيه نور من ذهب محشوا إيمانا، وحكمة فحشا به صدره ولغاد يده يعني عروق حلقه ثم أطبقه ثم عرج به إلى السماء الدنيا، فضرب بابا من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا فقال جبريل قالوا: ومن معك قال معي محمد قالوا: وقد بعث إليه قال نعم قالوا: مرحبا به وأهلا يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء ما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم فوجد في السماء الدنيا آدم عليه السلام فقال له جبريل: هذا أبوك آدم فسلم عليه ورد عليه السلام وقال:
مرحبا وأهلا يا بني نعم الابن أنت فإذا هو في السماء الدنيا، بنهرين يطردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟
قال: هذان النيل والفرات عنصر هما ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد فضرب بيده، فإذا هو مسك أذفر قال ما هذا يا جبريل قال: هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ثم عرج إلى السماء الثانية فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى من هذا؟ قال جبريل قالوا: ومن معك قال محمد قالوا: وقد بعث إليه قال: نعم قالوا: مرحبا به وأهلا ثم عرج به إلى السماء الثالثة. وقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية.
ثم عرج به إلى الرابعة فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء الخامسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السادسة. فقالوا له مثل ذلك. ثم عرج به إلى السماء السابعة. فقالوا له مثل ذلك. كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة ولم أحفظ اسمه وإبراهيم في السادسة وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله فقال موسى: رب لم أظن أن يرفع علي أحد، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة فتدلى فكان منه قاب قوسين أو أدنى فأوحى الله فيما أوحى إليه خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى فاحتبسه موسى فقال:
يا محمد ماذا عهد إليك ربك قال عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم فالتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت فعلا به إلى الجبار تعالى، فقال: وهو مكانه يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت خمس صلوات، ثم احتبسه موسى عند الخمس فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا، فضعفوا فتركوه فأمتك أضعف أجسادا وقلوبا وأبدانا وأبصارا وأسماعا، فارجع فليخفف عنك ربك كل ذلك يلتفت النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى جبريل عليه
112
السلام ليشير عليه، فلا يكره ذلك جبريل فرفعه عند الخامسة فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم، فخفف عنا. فقال الجبار: يا محمد. قال: لبيك وسعديك قال: إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب قال: فكل حسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في أم الكتاب وهي خمس عليك فرجع إلى موسى فقال: كيف فعلت؟ قال: خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها. قال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضا قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: يا موسى قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه. قال: فاهبط بسم الله فاستيقظ وهو في المسجد الحرام» هذا لفظ حديث البخاري وأدرج مسلم حديث شريك عن أنس الموقوف عليه في حديث ثابت البناني المسند، فذكر من أول حديث شريك طرفا ثم قال: وساق الحديث نحو حديث ثابت قال مسلم، وقدم وأخر وزاد ونقص وليس في حديث ثابت من هذه الألفاظ إلا ما نورده على نصه، أخرجه مسلم وحده وهو حدثنا حماد بن سلمة عن ثابت البناني عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قال أتيت بالبراق وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه. قال: فركبته حتى أتيت بيت المقدس قال فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ثم خرجت فجاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فقال جبريل عليه السلام اخترت الفطرة قال ثم عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل فقيل: من أنت؟ قال جبريل قيل ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال قد بعث إليه، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل، فقيل: من أنت قال جبريل قيل ومن معك قال: محمد. قيل: وقد بعث إليه، قال قد بعث إليه ففتح لنا، فإذا أنا با بني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا فرحبا بي ودعوا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة، فاستفتح جبريل فقيل من أنت قال جبريل، قيل ومن معك قال محمد، قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام فإذا هو قد أعطى شطر الحسن، قال: فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا؟ قال جبريل قيل: ومن معك؟ قال: محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحب ودعا لي بخير. قال الله تعالى ورفعناه مكانا عليا ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة. فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بهارون فرحب ودعا لي بخير، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل، فقيل من هذا قال جبريل قيل: ومن معك قال محمد قيل وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بموسى فرحب بي ودعا لي بخير ثم عرج بنا إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل: من هذا قال: جبريل قيل: ومن معك؟ قال محمد قيل: وقد بعث إليه قال: قد بعث إليه ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى
وإذا ورقها كأذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال فلما غشيها من أمر الله ما غشي تغيرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن ينعتها من حسنها، فأوحى إلي ما أوحى ففرض علي خمسين صلاة في كل يوم وليلة، فنزلت إلى موسى فقال: ما فرض ربك على أمتك قلت خمسين صلاة قال: ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا يطيقون ذلك فإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال: فرجعت إلى ربي فقلت: يا رب خفف على أمتي فحط عني خمسا فرجعت إلى موسى فقلت: قد حط عني خمسا قال: إن أمتك لا تطيق ذلك فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف قال: فلم أزل أرجع بين ربي تبارك وتعالى وبين موسى حتى قال يا محمد إنهن خمس صلوات كل يوم وليلة لكل صلاة عشر فذلك خمسون صلاة، ومن هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة، فإن عملها كتبت له عشرا ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب شيئا، فإن عملها كتبت واحدة قال فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته قال ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فقلت قد رجعت إلى ربي حتى استحييت منه»
113
هذه رواية مسلم وأخرجه الترمذي مختصرا وفيه «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتي بالبراق ليلة أسرى به ملجما مسرجا، فاستصعب عليه فقال له جبريل أبمحمد تفعل هكذا ما ركبك أحد أكرم على الله منه فارفض عرقا» وأخرجه النسائي مختصرا، والمعنى واحد وفي آخره قال: فرجعت إلى ربي فسألته التخفيف فقال إني يوم خلقت السموات والأرض فرضت عليك وعلى أمتك خمسين صلاة فخمس بخمسين فقم بها أنت وأمتك، فعرفت أن أمر الله جرى بقول حتم فلم أرجع.

فصل


قال البغوي: قال بعض أهل الحديث ما وجدنا للبخاري ومسلم في كتابيهما شيئا لا يحتمل مخرجا إلا حديث شريك بن أبي نمر عن أنس، وأحال الأمر فيه على شريك وذلك أنه ذكر فيه إن ذلك كان قبل الوحي، واتفق أهل العلم على أن المعراج كان بعد الوحي بنحو من اثنتي عشرة سنة وفيه أن الجبار تبارك وتعالى دنا فتدلى وذكرت عائشة أن الذي تدلى هو جبريل عليه السلام. قال البغوي: وهذا الاعتراض عندي لا يصح لأن هذا كان رؤيا في النوم أراه الله ذلك قبل أن يوحى إليه بدليل آخر الحديث، فاستيقظ وهو في المسجد الحرام ثم عرج به في اليقظة بعد الوحي، وقبل الهجرة بسنة تحقيقا لرؤياه التي رآها من قبل كما أنه رأى فتح مكة في المنام عام الحديبية سنة ست من الهجرة، ثم كان تحقيقها سنة ثمان، ونزل قوله سبحانه وتعالى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق. وقال الشيخ محيي الدين النووي رحمه الله تعالى في كتابه شرح مسلم: قد جاء من رواية شريك في هذا الحديث أوهام أنكرها عليه العلماء وقد نبه مسلم على ذلك بقوله قدم وأخر وزاد ونقص منها قوله وذلك قبل أن يوحى إليه وهو غلط لم يوافق عليه فإن الإسراء أقل ما قيل فيه أنه كان بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمسة عشر شهرا.
وقال الحربي: كانت ليلة الإسراء ليلة سبع وعشرين من شهر ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة. وقال الزهري: كان ذلك بعد مبعثه صلّى الله عليه وسلّم بخمس سنين. وقال ابن إسحاق: أسري به صلّى الله عليه وسلّم وقد فشا الإسلام بمكة والقبائل. قال الشيخ محيي الدين: وأشبه الأقوال قول الزهري وابن إسحاق وأما قوله في رواية شريك وهو نائم وفي الرواية الأخرى بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان، فقد يحتج به من يجعلها رؤيا نوم، ولا حجة فيه إذ قد يكون ذلك حالة أول وصول الملك إليه، وليس في الحديث ما يدل على كونه نائما في القصة كلها هذا كلام القاضي عياض، وهذا الذي قاله في رواية شريك وأن أهل العلم قد أنكروها قد قاله غيره، وقد ذكر البخاري في رواية شريك هذه عن أنس في كتاب التوحيد من صحيحه، وأتى بالحديث مطولا. قال الحافظ من رواية شريك بن أبي نمر عن أنس قد زاد فيه زيادة مجهولة، وأتى فيه بألفاظ غير معروفة وقد روى حديث الإسراء جماعة من الحفاظ المتقنين، والأئمة المشهورين كابن شهاب وثابت البناني وقتادة يعني عن أنس فلم يأت أحد منهم بما أتى شريك، وشريك ليس بالحافظ عند أهل الحديث قال: والأحاديث التي تقدمت قبل هذا هي المعول عليها.

فصل


في شرح بعض ألفاظ حديث المعراج وما يتعلق به، كانت ليلة الإسراء قبل الهجرة بسنة يقال كانت في رجب ويقال في رمضان وقد تقدم زيادة على هذا القدر في الفصل الذي قبل هذا واختلف الناس في الإسراء برسول الله صلّى الله عليه وسلّم. فقيل: إنما كان ذلك في المنام والحق الذي عليه أكثر الناس، ومعظم السلف وعامة الخلف من المتأخرين والفقهاء والمحدثين والمتكلمين أنه أسري بروحه وجسده صلّى الله عليه وسلّم ويدل عليه قوله سبحانه وتعالى:
سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا ولفظ العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد، والأحاديث الصحيحة التي تقدمت تدل على صحة هذا القول لمن طالعها، وبحث عنها وحكى محمد بن جرير الطبري في تفسيره عن حذيفة أنه قال: كل ذلك كان رؤيا وأنه ما فقد جسد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإنما أسري بروحه. وحكي هذا القول عن عائشة
114
أيضا وعن معاوية ونحوه والصحيح ما عليه جمهور العلماء من السلف والخلف والله أعلم قوله صلّى الله عليه وسلّم أتيت بالبراق هو اسم للدابة التي ركبها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسري به واشتقاقه من البرق لسرعته، أو لشدة صفائه وبياضه ولمعانه وتلألؤه ونوره والحلقة بإسكان اللام، ويجوز فتحها والمراد بربط البراق بالحلقة الأخذ بالاحتياط في الأمور وتعاطي الأسباب، وإن ذلك لا يقدح في التوكل إذا كان الاعتماد على الله تعالى وقوله جاءني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن فيه اختصار والتقدير، قال لي اختر فاخترت اللبن وهو قول جبريل اخترت الفطرة يعني فطرة الإسلام، وجعل اللبن علامة للفطرة الصحيحة السليمة لكونه سهلا طيبا سائغا للشاربين وأنه سليم العاقبة، بخلاف الخمر فإنها أم الخبائث وجالبة لأنواع الشر. قوله: ثم عرج بي حتى أتى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل: من أنت قال: جبريل فيه بيان الأدب لمن استأذن وأن يقول: أنا فلان ولا يقول: أنا فإنه مكروه وفيه أن للسماء أبوابا وبوابين وأن عليها حرسا وقول بواب السماء وقد أرسل إليه، وفي الرواية الأخرى وقد بعث إليه معناه للإسراء وصعوده السماء وليس مراده الاستفهام عن أصل البعثة والرسالة، فإن ذلك لا يخفى عليه إلى هذه المدة هذا هو الصحيح في معناه، وقيل غيره وقوله فإذا أنا بآدم وذكر جماعة من الأنبياء فيه استحباب لقاء أهل الفضل والصلاح بالبشر والترحيب والكلام اللين الحسن، وإن كان الزائر أفضل من المزور وفيه جواز مدح الإنسان في وجهه إذا أمن عليه من الإعجاب، وغيره من أسباب الفتنة وقوله فإذا أنا بإبراهيم مسندا ظهره إلى البيت المعمور فيه دليل على جواز الاستناد إلى القبلة، وتحويل ظهره إليها. وقوله ثم ذهب بي إلى السدرة هكذا، وقع في هذه الرواية السدرة بالألف واللام وفي باقي الروايات إلى سدرة المنتهى قال ابن عباس وغيره من المفسرين: سميت بذلك لأن علم الملائكة ينتهي إليها. ولم يجاوزها أحد غير رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال ابن مسعود: سميت بذلك لكونها ينتهي إليها ما يهبط من فوقها، وما يصعد من تحتها من أمر الله عز وجل وقوله وإذا ثمرها كالقلال، هو بكسر القاف جمع قلة بضمها، وهي الجرة الكبيرة التي تسع قربتين أو أكثر قوله فرجعت إلى ربي. قال الشيخ محيي الدين النووي: معناه رجعت إلى الموضع الذي ناجيته فيه أولا فناجيته فيه ثانيا وقوله: فلم أزل أرجع بين موسى وبين ربي معناه وبين موضع مناجاة ربي عز وجل. قلت: وأما الكلام على معنى الرؤية وما يتعلق بها فإنه سيأتي إن شاء الله تعالى في تفسير سورة والنجم، عند قوله تعالى ثم دنا فتدلى قوله ففرض الله سبحانه وتعالى على أمتي خمسين صلاة إلى قوله فوضع شطرها وفي الرواية الأخرى فوضع عني عشرا وفي الأخرى خمسا ليس بين هذه الرواية منافاة، لأن المراد بالشطر الجزء وهو الخمس، وليس المراد منه التنصيف، وأما رواية العشر فهي رواية شريك ورواية الخمس رواية ثابت البناني وقتادة، وهما أثبت من شريك فالمراد حط عني خمسا إلى آخره ثم قال: هي خمس وهن خمسون يعني خمسين في الأجر والثواب لأن الحسنة بعشر أمثالها، واحتج العلماء بهذا الحديث على جواز نسخ الشيء قبل فعله وفي أول الحديث أنه شق صدره صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج، وقد شق أيضا في صغره وهو عند حليمة التي كانت ترضعه، فالمراد بالشق الثاني زيادة التطهير لمن يراد به من الكرامة ليلة المعراج. وقوله: أتيت بطست من ذهب، قد يتوهم متوهم أنه يجوز استعمال إناء الذهب لنا وليس الأمر كذلك لأن هذا الفعل من فعل الملائكة، وهو مباح لهم استعمال الذهب أو يكون هذا
قد كان قبل تحريمه وقوله ممتلئ إيمانا وحكمة فأفرغها في صدري. فان قلت الحكمة والإيمان معان والإفراغ صفة الأجسام، فما معنى ذلك؟ قلت: يحتمل أنه جعل في الطست شيء يحصل به كمال الإيمان والحكمة وزيادتهما، فسمي إيمانا وحكمة لكونه سببا لهما وهذا من أحسن المجاز. وقوله في صفة آدم عليه السلام: فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة هو جمع سواد، وقد فسره في الحديث بأنه نسم بنيه يعني أرواح بنيه وقد اعترض على هذا، بأن أرواح المؤمنين في السماء وأرواح الكفار تحت الأرض السفلى فكيف تكون في السماء والجواب عنه أنه يحتمل أن أرواح الكفار، تعرض على آدم عليه السلام، وهو في السماء فوافق وقت عرضها
115
على آدم مرور النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبر بما رأى. وقوله: فإذا نظر عن يمينه ضحك، وإذا نظر عن شماله بكى فيه شفقة الوالد على أولاده وسروره وفرحه بحسن حال المؤمن منهم، وحزنه على سوء حال الكفار منهم. وقوله في إدريس مرحبا بالنبي الصالح والأخ الصالح قد اتفق المؤرخون على أن إدريس، هو أخنوخ وهو جد نوح عليهما السلام فيكون جد النبي صلّى الله عليه وسلّم كما أن إبراهيم جده، فكان ينبغي أن يقول بالنبي الصالح والابن الصالح كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام: فالجواب عن هذا أنه قيل: إن إدريس المذكور هنا هو إلياس، وهو من ذرية إبراهيم فليس هو جد نوح هذا جواب القاضي عياض. قال الشيخ محيي الدين: ليس في الحديث ما يمنع كون إدريس أبا لنبينا محمد صلّى الله عليه وسلّم وإن قوله: الأخ الصالح يحتمل أن يكون قاله تلطفا وتأدبا، وهو أخ وإن كان أبا لأن الأنبياء إخوة والمؤمنين إخوة والله أعلم.

فصل


في ذكر الآيات التي ظهرت بعد المعراج الدالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم وسياق أحاديث تتعلق بالإسراء قال البغوي روي أنه لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة أسرى به وكان بذي طوى قال: يا جبريل إن قومي لا يصدقون. قال:
يصدقك أبو بكر وهو الصديق. قال ابن عباس وعائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لما كانت ليلة أسري بي إلى السماء أصبحت بمكة فضقت بأمري وعرفت أن الناس يكذبوني فروي أنه صلّى الله عليه وسلّم قعد معتزلا حزينا، فمر به أبو جهل فجلس إليه فقال كالمستهزئ هل استفدت من شيء؟ قال: نعم أسري بي الليلة قال إلى أين قال إلى بيت المقدس قال: أبو جهل: ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم. فلم ير أبو جهل أن ينكر ذلك مخافة أن يجحده الحديث، ولكن قال: أتحدث قومك بما حدثتني به. قال: نعم قال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلموا، فانقضت المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما قال: حدث قومك بما حدثتني قال: نعم أسري بي الله قالوا إلى أين؟ قال: إلى بيت المقدس قالوا ثم أصبحت بين أظهرنا؟ قال: نعم قال فبقي الناس بين مصفق وبين واضع يده على رأسه متعجبا وارتد أناس ممن كان قد آمن به وصدقه، وسعى رجل من المشركين إلى أبي بكر فقال له هل لك في صاحبك يزعم أنه أسري به الليلة إلى بيت المقدس قال: أو قد قال ذلك قال نعم قال لئن كان قال ذلك لقد صدق قالوا: أو تصدقه أنه ذهب إلى بيت المقدس وجاء في ليلة قبل أن يصبح؟ قال: نعم إني أصدقه بما هو أبعد من ذلك أصدقه بخبر السماء في غدوة أو روحة فلذلك سمي أبو بكر الصديق. قال: وكان في القوم من أتى المسجد الأقصى. قالوا: هل تستطيع أن تنعت لنا المسجد قال: نعم قال فذهبت أنعت حتى التبس علي قال فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل فنعت المسجد وأنا أنظر إليه، فقال القوم: أما النعت فو الله لقد أصاب فيه ثم قالوا يا محمد أخبرنا عن عيرنا فهي أهم إلينا هل لقيت منها شيئا؟ قال: نعم مررت بعير بني فلان وهي بالروحاء وقد أضلوا بعيرا وهم في طلبه، وفي رحالهم قدح من ماء فعطشت فأخذته فشربته، ثم وضعته كما كان فسلوا هل وجدوا الماء في القدح حين رجعوا قالوا: هذه آية قال ومررت بعير بني فلان وفلان راكبان قعودا لهما بذي طوى فنفر بعيرهما مني فرمى بفلان، فانكسرت يده فسلوهما عن ذلك قالوا وهذه آية أخرى قالوا: فأخبرنا عن عيرنا قال مررت بها بالتنعيم قالوا فما عدتها وأحمالها وهيئتها؟ فقال: كنت في شغل عن ذلك ثم مثلت له بعدتها وأحمالها وهيئتها ومن فيها وكانوا بالحزورة قال: نعم هيئتها كذا وكذا وفيها فلان وفلان يقدمها جمل أورق عليه غرارتان مخيطتان تطلع عليكم عند طلوع الشمس قالوا: وهذه آية. ثم خرجوا يشتدون نحو الثنية وهم يقولون والله لقد قص محمد شيئا وبينه حتى أتوا كداء فجلسوا عليه فجعلوا ينظرون متى تطلع الشمس فيكذبونه إذ قال قائل منهم: هذه الشمس قد طلعت. وقال آخر: وهذه العير قد طلعت يقدمها بعير أورق فيه فلان وفلان كما قال: فلم يؤمنوا وقالوا: هذا سحر مبين (م) عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
116
قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني عن مسراي، فسألتني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كربة ما كربت مثلها قط. قال: فرفعه الله لي أنظر إليه ما يسألوني عن شيء إلا أنبأتهم به وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء فإذا موسى قائم يصلي فإذا رجل ضرب جعدا كأنه من رجال شنوءة وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس به شبها عروة بن مسعود الثقفي، وإذا إبراهيم قائم يصلي أشبه الناس به صاحبكم يعني به نفسه صلّى الله عليه وسلّم فحانت الصلاة فأممتهم فلما فرغت من الصلاة قال لي قائل: يا محمد يا محمد هذا مالك صاحب النار، فسلم عليه فالتفّت إليه فبدأني بالسلام» (ق) عن جابر أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لما كذبتني قريش قمت إلى الحجر فجلى الله إلي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه زاد البخاري في رواية: لما كذبني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس» وذكر الحديث (م) عن أنس أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال:
أتيت على موسى ليلة أسري بي عند الكثيب الأحمر، فإذا هو قائم يصلي في قبره. عن بريدة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لما انتهينا إلى بيت المقدس قال جبريل كذا بإصبعه فخرق به الحجر وشد به البراق» أخرجه الترمذي. فإن قلت: كيف رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موسى يصلي في قبره وكيف صلى بالأنبياء في بيت المقدس ثم وجدهم على مراتبهم في السموات، وسلموا عليه وترحبوا به وكيف تصح الصلاة من الأنبياء بعد الموت، وهم في الدار الآخرة؟ قلت أما صلاته صلّى الله عليه وسلّم بالأنبياء في بيت المقدس يحتمل أن الله سبحانه وتعالى، جمعهم له ليصلي بهم ويعرفوا فضله وتقدمه عليهم ثم إن الله سبحانه وتعالى، أراه إياهم في السموات على مراتبهم ليعرف هو مراتبهم وأما مروره بموسى، وهو قائم يصلي في قبره عند الكثيب الأحمر، فيحتمل أنه كان بعد رجوعه من المعراج، وأما صلاة الأنبياء وهم في الدار الآخرة فهم في حكم الشهداء بل أفضل منهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء فالأنبياء أحياء بعد الموت، وأما حكم صلاتهم فيحتمل أنها الذكر والدعاء وذلك من أعمال الآخرة فإن الله تعالى قال دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وورد في الحديث أنهم يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس، ويحتمل أن الله سبحانه وتعالى خصّهم بخصائص في الآخرة كما خصهم في الدنيا بخصائص لم يخص بها غيرهم. منها أنه صلّى الله عليه وسلّم أخبر أنه رآهم يلبون، ويحجون، فكذلك الصلاة والله أعلم بالحقائق. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٢ الى ٤]
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (٤)
وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني التوراة هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا يعني وقلنا لهم: لا تتخذوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا يعني ربا كفيلا ذُرِّيَّةَ يعني يا ذرية مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً يعني أن نوحا كان كثير الشكر، وذلك أنه كان إذا أكل طعاما أو شرب شرابا أو لبس ثوبا قال: الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا لذلك. قوله عز وجل وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ: يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وقال ابن عباس: وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام، وبيت المقدس وَلَتَعْلُنَّ يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس عُلُوًّا كَبِيراً فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما يعني أولى المرتين قيل: إفسادهم في المرة الأولى هو ما خالفوا من أحكام التوراة، وركبوا من المحارم وقيل: إفسادهم في المرة الأولى قتلهم شعياء في الشجرة وارتكابهم المعاصي
117
بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتله داود وقيل: هو سنحاريب وهو من أهل نينوى وقيل هو بختنصر البابلي وهو الأصح أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني ذوي بطش وقوة في الحرب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ يعني طافوا بين الديار وسطها يطلبونكم ليقتلوكم وَكانَ وَعْداً مَفْعُولًا يعني قضاء كائنا لازما لا خلف فيه ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، حين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً يعني أكثر عددا إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ يعني لها ثوابها وجزاء إحسانها وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها يعني فعليها إساءتها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ يعني ليحزنوكم وقرئ بالنون أي ليسوء الله وجوهكم وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ يعني بيت المقدس ونواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ يعني وقت إفسادهم الأول وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكا.
ذكر القصة في هذه الآية
قال محمد بن إسحاق: كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزا عنهم ومحسنا إليهم وكان أول ما نزل بهم بسبب ذنوبهم أن ملكا منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبيا ليسدده ويرشده، ولا ينزل عليهم كتابا إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلّم فقال:
أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير. فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زمانا، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فلم يزل سائرا حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعياء النبي إليه، وقال: يا ملك بني إسرائيل إن سنحاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده؟ بستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال: يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء: لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي، أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال: إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص: اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك. فاستجاب الله له وكان عبدا صالحا فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجدا لله وقال:
إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أنت الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء عالم الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبدا من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشعياء: سل ربك أن يجعل لنا علما بما هو صانع بعدونا هذا. قال الله لشعياء: قل له إني قد كفيتك
118
عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنحاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر. فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنحاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنحاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمس نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجدا لله تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنحاريب: كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون؟ فقال سنجاريب: قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشدا ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة: الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذابا في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوما حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنحاريب للملك صديقة: القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنحاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنحاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته: يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنحاريب تخويفا لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكرة وعبرة ثم إن سنحاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن ابنه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشرة سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضا، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله لشعياء: - قم في قومك حتى أوحي على لسانك. فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال: يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضا، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين. إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولوا الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلا فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كانت خرابا زمانا لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه
وهو قوي أو يقال: ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جدارا وشيد فيها قصرا وأنبط فيها نهرا وصفّ فيها غراسا من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّما ذا رأي وهمة حفيظا قويا فلما أطلعت جاء طلعها خروبا. فقالوا: بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خرابا مواتا، لا عمران فيها قال الله تعالى: قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم ولا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح
119
الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها. يقولون: صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزكّ صدقتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله: فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما استمع قول المستضعف المستكين، وان من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي: إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلا مؤجلا لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاءون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاءون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلّاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبيا أميا ليس أعمى من عميان، ولا ضالا من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر توحيدا لي وإيمانا بي وإخلاصا لي يصلون قياما وقعودا، وركعا وسجودا، ويقاتلون في سبيلي صفوفا وزحوفا، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير، والتوحيد
والتسبيح والتحميد والتهليل والمدحة والتمجيد لي في مسيرهم ومجالسهم، ومضاجعهم ومتقلبهم ومثواهم يكبرون ويهللون ويقدسون على رؤوس الأشراف يطهرون لي، الوجوه والأطراف ويعقدون لي الثياب على الأنصاف قربانهم دماؤهم، وأناجيلهم في صدورهم رهبان بالليل ليوث بالنهار ذلك فضلي أوتيه من أشاء أنا ذو الفضل العظيم. فلما فرغ شعياء من مقالته عدوا عليه ليقتلوه فهرب منهم فلقيته شجرة، فانفلقت له فدخل فيها فأدركه الشيطان، فأخذ بهدبة من ثوبه فأراهم إياها فوضعوا المنشار في وسطها فنشروها حتى قطعوها، وقطعوه في وسطها واستخلف الله على بني إسرائيل بعد ذلك رجلا منهم يقال: ناشة بن أموص وبعث لهم أرمياء بن حلقيا نبيا، وكان من سبط هارون بن عمران، وذكر ابن إسحاق أنه الخضر واسمه أرمياء الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء، فقام عنه وهي تهتز خضراء فبعث الله أرمياء إلى ذلك الملك ليسدده ويرشده، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل، وركبوا المعاصي واستحلوا المحارم فأوحى
120
﴿ ذرية ﴾ يعني يا ذرية ﴿ من حملنا مع نوح إنه كان عبداً شكوراً ﴾ يعني أن نوحاً كان كثير الشكر، وذلك أنه كان إذا أكل طعاماً أو شرب شراباً أو لبس ثوباً قال : الحمد لله فسماه الله عبداً شكوراً لذلك.
وقوله عز وجل ﴿ وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب ﴾ : يعني أعلمناهم وأخبرناهم فيما آتيناهم من الكتاب أنهم سيفسدون وهو قوله تعالى ﴿ لتفسدن في الأرض مرتين ﴾ وقال ابن عباس : وقصينا عليهم في الكتاب فإلى بمعنى على، والمراد بالكتاب اللوح المحفوظ واللام في لتفسدن لام القسم تقديره والله لتفسدن في الأرض يعني بالمعاصي والمراد بالأرض أرض الشام، وبيت المقدس ﴿ ولتعلن ﴾ يعني ولتستكبرن ولتظلمن الناس.
الله إلى أرمياء، أن ائت قومك من بني إسرائيل فاقصص عليهم ما آمرك به وذكرهم نعمي وعرفهم بأحداثهم. فقال أرمياء: يا رب إني ضعيف إن لم تقوني عاجز إن لم تبلغني مخذول إن لم تنصرني قال الله تعالى: أو لم تعلم أن الأمور كلها تصدر عن مشيئتي وأن القلوب والألسنة بيدي، أقلبها كيف شئت إني معك، ولن يصل إليك شيء معي فقام أرمياء فيهم، ولم يدر ما يقول فألهمه الله عز وجل في الوقت خطبة بليغة بين لهم فيها ثواب الطاعة، وعقاب المعصية وقال في آخرها: عن الله عز وجل حلفت بعزتي لأقيضن لهم فتنة يتحير فيها الحليم، ولأسلطن عليهم جبارا قاسيا ألبسه الهيبة، وأنزع من صدره الرحمة يتبعه عدد مثل سواد الليل المظلم، ثم أوحى الله إلى أرمياء أني مهلك بني إسرائيل بيافث ويافث من أهل بابل فسلط الله عليهم بختنصر فخرج في ستمائة ألف راية ودخل بيت المقدس بجنوده ووطئ الشام وقتل بني إسرائيل حتى أفناهم وخرب بيت المقدس وأمر جنوده أن يملأ كل رجل منهم ترسه ترابا، يقذفه في بيت المقدس ففعلوا ذلك حتى ملؤوه. ثم أمرهم أن يجمعوا من بلدان بيت المقدس كلهم، فاجتمع عنده كل صغير وكبير من بني إسرائيل فاختار منهم سبعين ألف صبي، فلما خرجت غنائم جنده وأراد أن يقسمها فيهم، قالت له الملوك الذين كانوا معه: أيها الملك لك غنائمنا كلها واقسم بيننا هؤلاء الصبيان الذين اخترتهم من بني إسرائيل، فقسمهم بين الملوك الذين كانوا معه فأصاب كل رجل منهم أربعة غلمان، وفرق من بقي من بني إسرائيل ثلاث فرق ثلثا أقرهم بالشام وثلثا سباهم وثلثا قتلهم وذهب باناث بيت المقدس، وبالصبيان السبعين ألفا حتى أقدمهم بابل فكانت هذه الوقعة الأولى التي أنزل الله عز وجل ببني إسرائيل بظلمهم فذلك قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٥ الى ٧]
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (٧)
فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء الله ثم رأى رؤيا عجيبة إذ رأى شيئا أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا: أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال: ما أذكرها ولئن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا: رأيت تمثالا قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال: صدقتم قالوا: فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال: صدقتم فما تأويلها قالوا: تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكا، وبعضهم، كان أحسن ملكا وبعضهم كان أشد ملكا، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء، فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر: أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا: يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر
121
منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله تعالى هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل: أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا ما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكا فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا: ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال: لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد. كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له: يا عزير ما يبكيك؟ قال: أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره. قال:
أفتحب أن يرد إليك قال: نعم قال: ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غدا فرجع عزيز فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكا بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حبا لم يحبوا حبه شيئا قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل ففريقا يكذبون وفريقا يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكا من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليه الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأسا من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له: إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحدا أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دما يغلي فسألهم عنه فقال: يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي؟
أخبروني خبره. فقالوا: هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال: ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحا، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم: يا بني إسرائيل ويلكم اصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا: إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا. وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا: يحيى بن زكريا قال: الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجدا وقال لمن حوله: أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال: يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ باذن
122
﴿ ثم رددنا لكم الكرة عليهم ﴾ يعني رددنا لكم الدولة والغلبة على الذين بعثوا عليكم، حين تبتم من ذنوبكم ورجعتم عن الفساد ﴿ وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً ﴾ يعني أكثر عدداً.
جزء ذو علاقة من تفسير الآية السابقة:﴿ فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليك عباداً لنا أولي بأس شديد ﴾ يعني بختنصر وأصحابه، ثم إن بختنصر أقام في سلطانه ما شاء ثم رأى رؤيا عجيبة إذا رأى شيئاً أصابه فأنساه الذي رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا ومشائيل وكانا من ذراري الأنبياء، وسألهم عنها فقالوا : أخبرنا بها نخبرك بتأويلها فقال : ما أذكرها ولئن لم تخبرني بها وبتأويلها لأنزعن أكتافكم فخرجوا من عنده، فدعوا الله وتضرعوا إليه فأعلمهم الله بالذي سألهم عنه فجاؤوه فقالوا : رأيت تمثالاً قدماه وساقاه من فخار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضة وصدره من ذهب، ورأسه وعنقه من حديد قال : صدقتم قالوا : فبينما أنت تنظر إليه وقد أعجبك أرسل الله صخرة من السماء فدقته فهي التي أنستكها قال : صدقتم فما تأويلها قالوا : تأويلها أنك رأيت الملوك بعضهم كان ألين ملكاً، وبعضهم، كان أحسن ملكاً وبعضهم كان أشد ملكاً، والفخار أضعفه ثم فوقه النحاس أشد منه ثم فوق النحاس الفضة أحسن من ذلك وأفضل والذهب أحسن من الفضة، وأفضل ثم الحديد ملكك فهو أشد وأعز مما قبله، والصخرة التي رأيت أرسل الله من السماء، فدقته فنبي يبعثه الله من السماء فيدق ذلك أجمع ويصير الأمر إليه، ثم إن أهل بابل قالوا لبختنصر : أرأيت هؤلاء الغلمان من بني إسرائيل الذين سألناك أن تعطيناهم ففعلت فإنا قد أنكرنا نساءنا منذ كانوا معنا، لقد رأينا نساءنا انصرفت وجوههن عنا إليهم فأخرجهم من بين أظهرنا أو اقتلهم فقال شأنكم بهم فمن أحب منكم أن يقتل من كان في يده، فليفعل فلما قربوهم للقتل بكوا وتضرعوا إلى الله عز وجل، وقالوا : يا ربنا أصابنا البلاء بذنوب غيرنا فوعدهم الله أن يحييهم فقتلوا إلا من كان منهم مع بختنصر منهم دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، ثم لما أراد الله هلاك بختنصر انبعث فقال لمن في يده من بني إسرائيل : أرأيتم هذا البيت الذي خربت والناس الذي قتلت منكم، وما هذا البيت ؟ قالوا هو بيت الله وهؤلاء أهله كانوا من ذراري الأنبياء فظلموا وتعدوا فسلطت عليهم بذنوبهم وكان ربهم رب السموات والأرض ورب الخلائق كلهم يكرمهم ويعزهم، فلما فعلوا أهلكهم وسلط عليهم غيرهم فاستكبر وتجبر، وظن أنه بجبروته فعل ذلك ببني إسرائيل، قال فأخبروني كيف لي أن أطلع إلى السماء العليا، فأقتل من فيها وأتخذها لي ملكاً فإني قد فرغت من أهل الأرض، قالوا : ما يقدر عليها أحد من الخلائق قال : لتفعلن أو لأقتلنكم عن آخركم فبكوا وتضرعوا إلى الله تعالى فبعث الله عز وجل عليه بقدرته بعوضة، فدخلت منخره حتى عضت أم دماغه فما كان يقر ولا يسكن، حتى يوجأ له رأسه على أم دماغه فلما مات شقوا رأسه فوجدوا البعوضة عاضة على أم دماغه، ليري الله العباد قدرته ونجى الله من بقي من بني إسرائيل في يده، وردهم إلى الشام فبنوا فيه وكثروا حتى كانوا على أحسن ما كانوا عليه، ويزعمون أن الله سبحانه وتعالى أحيا أولئك الذين قتلوا فلحقوا بهم ثم إنهم لما دخلوا الشام دخلوها، وليس معهم من الله عهد. كانت التوراة قد احترقت وكان عزير من السبايا الذين كانوا ببابل، فلما رجع إلى الشام جعل يبكي ليله ونهاره، وخرج عن الناس فبينما هو كذلك إذ جاءه رجل فقال له : يا عزير ما يبكيك ؟ قال : أبكي على كتاب الله وعهده الذي كان بين أظهرنا الذي لا يصلح ديننا وآخرتنا غيره. قال : أفتحب أن يرد إليك قال : نعم قال : ارجع فصم وتطهر وطهر ثيابك ثم موعدك هذا المكان غداً فرجع عزير فصام وتطهر وطهر ثيابه ثم عمد إلى المكان الذي وعده، فجلس فيه فأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء وكان ملكاً بعثه الله إليه فسقاه من ذلك الإناء، فمثلت التوراة في صدره فرجع إلى بني إسرائيل فوضع لهم التوراة، فأحبوه حباً لم يحبوا حبه شيئاً قط، ثم قبضه الله تعالى وجعلت بنو إسرائيل بعد ذلك يحدثون الأحداث، ويعود الله عليهم، ويبعث فيهم الرسل ففريقاً يكذبون وفريقاً يقتلون حتى كان آخر من بعث إليهم من أنبيائهم زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام، وكانوا من بيت آل داود فزكريا مات، وقيل قتل وقصدوا عيسى ليقتلوه فرفعه الله من بين أظهرهم وقتلوا يحيى، فلما فعلوا ذلك بعث الله عليهم ملكاً من ملوك بابل يقال له خردوش، فسار إليهم بأهل بابل حتى دخل عليهم الشام، فلما ظهر عليهم أمر رأساً من رؤساء جنوده يقال له بيورزاذان صاحب القتل فقال له : إني قد كنت حلفت بإلهي لئن أنا ظفرت على أهل بيت المقدس لأقتلنهم حتى يسيل الدم في وسط عسكري، إلا أن لا أجد أحداً أقتله فأمره أن يقتلهم حتى يبلغ ذلك منهم، ثم إن بيورزاذان دخل بيت المقدس فقام في البقعة التي كانوا يقربون فيها قربانهم، فوجد فيها دماً يغلي فسألهم عنه فقال : يا بني إسرائيل ما شأن هذا الدم يغلي ؟ أخبروني خبره. فقالوا : هذا دم قربان لنا قرّبناه فلم يقبل منا فلذلك يغلي ولقد قربنا القربان من ثمانمائة سنة، فتقبل منا إلا هذا فقال : ما صدقتموني فقالوا لو كان كأول زماننا لتقبل منا، ولكن قد انقطع منا الملك والنبوة والوحي فلذلك لم يقبل منا فذبح بيورزاذان منهم على ذلك الدم سبعمائة وسبعين روحاً، من رؤوسهم فلم يهدأ الدم فأمر سبعمائة غلام من غلمانهم، فذبحهم على الدم فلم يهدأ فأمر بسبعة آلاف من شيبهم وأزواجهم فذبحهم على الدم فلم يهدأ، فلما رأى بيورزاذان أن الدم لا يهدأ قال لهم : يا بني إسرائيل ويلكم أصدقوني واصبروا على أمر ربكم فقد طالما ملكتم في الأرض تفعلون ما شئتم قبل أن لا أترك منكم نافخ نار من ذكر ولا أنثى إلا قتلته، فلما رأوا الجهد وشدة القتل صدقوه الخبر فقالوا : إن هذا دم نبي كان ينهانا عن أمور كثيرة من سخط الله تعالى فلو كنا أطعناه كنا أرشدنا. وكان يخبرنا عن أمركم فلم نصدقه فقتلناه فهذا دمه فقال لهم بيورزاذان ما كان اسمه قالوا : يحيى بن زكريا قال : الآن صدقتموني لمثل هذا ينتقم ربكم منكم فلما علم بيورزاذان أنهم صدقوه خر ساجداً وقال لمن حوله : أغلقوا أبواب المدينة، وأخرجوا من كان هاهنا من جيش خردوش، وخلا في بني إسرائيل ثم قال : يا يحيى بن زكريا قد علم ربي وربك ما أصاب قومك من أجلك، ومن قتل منهم فاهدأ بإذن ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحداً إلا قتلته فهدأ الدم بإذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال : آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره. وقال لبني إسرائيل : إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقاً، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال الحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم اليونانيين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس المقدس ابن أسبيانيوس الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصَّغار والجزية وبقي بيت المقدس خراباً إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام : أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثياباً رقاقاً حمراً وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت : لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت : رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا. قالت : ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول : لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفاً حتى سكن دمه.
﴿ إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم ﴾ يعني لها ثوابهاً وجزاء إحسانها ﴿ وإن أسأتم فلها ﴾ يعني فعليها إساءتها ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ يعني المرة الآخرة من إفسادكم وهو قصدكم قتل عيسى فخلصه الله منهم، ورفعه إليه، وقتلوا زكريا ويحيى عليهما السلام، فسلط عليهم الفرس والروم فسبوهم وقتلوهم وهو قوله تعالى ﴿ ليسوءوا وجوهكم ﴾ يعني ليحزنوكم وقرئ بالنون أي ليسوء الله وجوهكم ﴿ وليدخلوا المسجد ﴾ يعني بيت المقدس ونواحيه ﴿ كما دخلوه أول مرة ﴾ يعني وقت إفسادهم الأول ﴿ وليتبروا ما علوا تتبيراً ﴾ يعني وليهلكوا ما غلبوا عليه من بلاد بني إسرائيل إهلاكاً.
ذكر القصة في هذه الآية
قال محمد بن إسحاق : كانت بنو إسرائيل فيهم الأحداث والذنوب وكان الله في ذلك متجاوزاً عنهم ومحسناً إليهم وكان أول ما نزل بسبب ذنوبهم أن ملكاً منهم كان يدعى صديقة وكان الله إذا ملّك عليهم الملك بعث معه نبياً ليسدده ويرشده، ولا ينزل عليهم كتاباً إنما يؤمرون اتباع التوراة والأحكام التي فيها، فلما ملك صديقة بعث الله معه شعياء وذلك قبل مبعث زكريا ويحيى وشعياء هو الذي بشر بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم فقال : أبشري أورشليم الآن يأتيك راكب الحمار ومن بعده صاحب البعير. فملك ذلك الملك يعني صديقة بني إسرائيل وبيت المقدس زماناً، فلما انقضى ملكه عظمت الأحداث فيهم وكان معه شعياء فبعث الله سنجاريب ملك بابل ومعه ستمائة ألف راية، فلم يزل سائراً حتى نزل حول بيت المقدس، والملك مريض من قرحة كانت في ساقه، فجاء شعياء النبي إليه، وقال : يا ملك بني إسرائيل إن سنجاريب ملك بابل، قد نزل بك هو وجنوده ؟ بستمائة ألف راية، وقد هابهم الناس وفرقوا منهم فكبر ذلك على الملك وقال : يا نبي الله هل أتاك من الله وحي فيما حدث فتخبرنا به وكيف يفعل الله بنا وبسنجاريب وجنوده فقال شعياء : لم يأتني وحي في ذلك فبينما هم على ذلك أوحى الله إلى شعياء النبي، أن ائت ملك بني إسرائيل فمره أن يوصي وصيته، ويستخلف على ملكه من يشاء من أهل بيته فأتى شعياء ملك بني إسرائيل وقال : إن ربك قد أوحى إلي أن آمرك أن توصي وصيتك وتستخلف من شئت على ملكك من أهل بيتك فإنك ميت، فلما قال ذلك شعياء لصديقة الملك أقبل على القبلة فصلى ودعا فقال وهو يبكي ويتضرع إلى الله تعالى بقلب مخلص : اللهم رب الأرباب وإله الآلهة يا قدوس يا متقدس يا رحمن يا رحيم يا رؤوف، يا من لا تأخذه سنة ولا نوم اذكرني بعملي وفعلي وحسن قضائي على بني إسرائيل، وذلك كله كان منك وأنت أعلم به مني سري وعلانيتي لك. فاستجاب الله له وكان عبداً صالحاً فأوحى الله إلى شعياء أن يخبر صديقة أن ربه قد استجاب له ورحمه، وأخر أجله خمس عشرة سنة وأنجاه من عدوه سنجاريب فأتاه شعياء فأخبره، فلما قال له ذلك ذهب عنه الوجع وانقطع عنه الحزن وخر ساجداً لله وقال : إلهي وإله آبائي لك سجدت وسبحت وكبرت وعظمت أن الذي تعطي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وتعز من تشاء وتذل من تشاء على الغيب والشهادة أنت الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنت ترحم وتستجيب دعوة المضطرين أنت الذي أجبت دعوتي ورحمت تضرعي، فلما رفع رأسه أوحى الله إلى شعياء أن قل للملك صديقة فيأمر عبداً من عبيده، فيأتيه بماء التين فيجعله على قرحته فيشفى فيصبح وقد برأ ففعل ذلك فشفي فقال الملك لشيعاء : سل ربك أن يجعل لنا علماً بما هو صانع بعدونا هذا. قال الله لشعياء : قل له إني قد كفيتك عدوك وأنجيتك منهم، وأنهم سيصبحون موتى كلهم إلا سنجاريب، وخمسة نفر من كتابه أحدهم بختنصر. فلما أصبحوا جاء صارخ يصرخ على باب المدينة يا ملك بني إسرائيل إن الله قد كفاك عدوك، فاخرج فإن سنجاريب ومن معه هلكوا فخرج الملك، والتمس سنجاريب فلم يوجد في الموتى فبعث الملك في طلبه فأدركه الطلب في مفازة ومعه خمس نفر من كتابه، أحدهم بختنصر فجعلوهم في الجوامع ثم أتوا بهم الملك فلما رآهم خر ساجداً لله تعالى، من حين طلعت الشمس إلى العصر ثم قال لسنجاريب : كيف رأيت فعل ربنا بكم ألم يقتلكم بحوله وقوته ونحن وأنتم غافلون ؟ فقال سنجاريب : قد أتاني خبر ربكم ونصره إياكم ورحمته التي يرحمكم بها قبل أن أخرج من بلادي فلم أطع مرشداً ولم يلقني في الشقوة إلا قلة عقلي ولو سمعت أو عقلت ما غزوتكم فقال الملك صديقة : الحمد لله رب العالمين الذي كفاناكم بما شاء، وإن ربنا لم يمتعك ومن معك لكرامتك عليه، ولكنه إنما أبقاك ومن معك لتزدادوا شقوة في الدنيا وعذاباً في الآخرة ولتخبروا من وراءكم بما رأيتم من فعل ربنا بكم، فتنذروا من بعدكم ولولا ذلك لقتلك ومن معك ولدمك ودم من معك أهون على الله من دم قراد لو قتلت. ثم إن ملك بني إسرائيل أمر أمير حرسه أن يقذف في رقابهم الجوامع، ففعل وطاف بهم سبعين يوماً حول بيت المقدس وإيلياء، وكان يرزقهم في كل يوم خبزين من شعير لكل رجل منهم فقال سنجاريب للملك صديقة : القتل خير مما نحن فيه وما تفعل بنا فأمر بهم إلى السجن فأوحى الله إلى شعياء النبي أن قل لملك بني إسرائيل يرسل سنجاريب ومن معه لينذروا من وراءهم وليكرمهم وليحملهم حتى يبلغوا بلادهم. فبلغ ذلك شعياء للملك ففعل وخرج سنجاريب ومن معه، حتى قدموا بابل فلما قدم جمع الناس فأخبرهم كيف فعل الله تعالى بجنوده فقال له كهانه وسحرته : يا ملك بابل قد كنا نقص عليك خبر ربهم وخبر نبيهم ووحي الله إلى نبيهم، فلم تطعنا وهي أمة لا يستطيعها أحد مع ربهم وكان أمر سنجاريب تخويفاً لبني إسرائيل، ثم كفاهم الله تعالى ذلك تذكرة وعبرة ثم إن سنجاريب لبث بعد ذلك سبع سنين، ثم مات، واستخلف على ملكه بختنصر ابن ابنه فعمل بعمله وقضى بقضائه فلبث سبع عشر سنة ثم قبض الله ملك بني إسرائيل صديقة فمرج أمر بني إسرائيل وتنافسوا الملك حتى قتل بعضهم بعضاً، وشعياء نبيهم معهم لا يقبلون منه فلما فعلوا ذلك، قال الله لشعياء : قم في قومك حتى أوحي على لسانك. فلما قام أطلق الله لسانه بالوحي فقال : يا سماء استمعي ويا أرض أنصتي، فإن الله يريد أن يقص شأن بني إسرائيل الذين رباهم بنعمته واصطفاهم لنفسه وخصهم بكرامته، وفضلهم على عباده وهم كالغنم الضائعة التي لا راعي لها، فآوى شاردتها وجمع ضالتها وجبر كسيرها وداوى مريضها، وأسمن مهزولها وحفظ سمينها، فلما فعل ذلك بطرت فتناطحت كباشها فقتل بعضها بعضاً، حتى لم يبق منها عظم صحيح يجبر إليه آخر، فويل لهذه الأمة الخاطئة الذين لا يدرون أنى جاءهم الحين.
إن البعير مما يذكر وطنه فينتابه وأن الحمار مما يذكر الأرى الذي يشبع عليه فيراجعه وأن الثور مما يذكر المرج الذي سمن فيه فينتابه وإن هؤلاء القوم لا يذكرون من حيث جاءهم الخير، وهم أولو الألباب والعقول ليسوا ببقر ولا حمير وإني ضارب لهم مثلاً فليسمعوه، قل كيف ترون في أرض كان خراباً زماناً لا عمران فيها، وكان لها رب حكيم قوي فأقبل عليها بالعمارة، وكره أن تخرب أرضه وهو قوي أو يقال : ضيع وهو حكيم فأحاط عليها جداراً وشيد فيها قصراً وأنبط فيها نهراً وصفّ فيه غراساً من الزيتون والرمان والنخيل والأعناب وألوان الثمار كلها، وولى ذلك واستحفظه قيّماً ذا رأي وهمة حفيظاً قوياً فلما أطلعت جاء طلعها خروباً. فقالوا : بئست الأرض هذه فنرى أن يهدم جدارها وقصرها ويدفن نهرها، ويقبض قيّمها ويحرق غراسها حتى تصير كما كانت أول مرة خراباً مواتاً، لا عمران فيها قال الله تعالى : قل لهم الجدار ديني والقصر شريعتي وإن النهر كتابي وأن القيّم نبيي وأن الغراس هم، وأن الخروب الذي أطلع الغراس أعمالهم الخبيثة وإني قد قضيت عليهم قضاءهم على أنفسهم، وأنه مثل ضربته لهم يتقربون إليّ بذبح البقر والغنم، وليس ينالني اللحم و لا آكله ويدّعون أن يتقربوا إلي بالتقوى والكف عن ذبح الأنفس التي حرمتها، وأيديهم مخضوبة منها وثيابهم متزملات بدمائها يشيدون لي البيوت مساجد، ويطهرون أجوافها وينجسون قلوبهم وأجسادهم، ويدنسونها ويزوقون لي المساجد ويزينونها، ويخربون عقولهم وأخلاقهم ويفسدونها فأي حاجة لي إلى تشييد البيوت ولست أسكنها، وأي حاجة إلى تزويق المساجد ولست أدخلها إنما أمرت برفعها لأذكر وأسبح فيها. يقولون : صمنا فلم يرفع صيامنا وصلينا فلم تنور صلاتنا، وتصدقنا فلم تزكَّ صدقتنا، ودعونا بمثل حنين الحمام وبكينا بمثل عواء الذئاب في كل ذلك لا يستجاب لنا، قال الله : فاسألهم ما الذي يمنعني أن أستجيب لهم ألست أسمع السامعين، وأبصر الناظرين وأقرب المجيبين وأرحم الراحمين فكيف أرفع صيامهم وهم يلبسونه بقول الزور، ويتقوون عليه بطعمة الحرام أم كيف أنور صلاتهم وقلوبهم صاغية إلى من يحاربني ويحادني وينتهك محارمي، أم كيف تزكو عندي صدقاتهم وهم يتصدقون بأموال غيرهم إنما آجر عليها أهلها المغصوبين أم كيف أستجيب لهم دعاءهم وإنما هو قولهم بألسنتهم، والفعل من ذلك بعيد وإنما أستجيب للداعي اللين، وإنما استمع قول المستضعف المستكين، وأن من علامة رضاي رضى المساكين يقولون لما سمعوا كلامي وبلغتهم رسالتي : إنها أقاويل منقولة، وأحاديث متواترة وتآليف مما تؤلف السحرة والكهنة، وزعموا أنهم لو شاؤوا أن يأتوا بحديث مثله فعلوا، ولو شاؤوا أن يطلعوا على علم الغيب بما توحي إليهم الشياطين اطلعوا، وإني قد قضيت يوم خلقت السموات والأرض قضاء أثبته وحتمته على نفسي وجعلت دونه أجلاً مؤجلاً لا بد أنه واقع فإن صدقوا فيما ينتحلون من علم الغيب، فليخبروك متى أنفذه أو في أي زمان يكون وإن كانوا يقدرون على أن يأتوا بما يشاؤون فليأتوا بمثل هذه القدرة التي بها أمضيت فإني مظهره على الدين كله ولو كره المشركون، وإن كانوا يقدرون على أن يؤلفوا ما يشاؤون فيؤلفوا مثل هذه الحكمة التي أدبر بها ذلك القضاء، إن كانوا صادقين وإني قد قضيت يوم خلقت السماء والأرض، أن أجعل النبوة في الأجراء، وأن أجعل الملك في الرعاء والعز في الأذلاء والقوة في الضعفاء والغنى في الفقراء، والعلم في الجهلة والحكمة في الأميين فسلهم متى هذا ومن القائم بهذا، ومن أعوان هذا الأمر وأنصاره إن كانوا يعلمون وإني باعث لذلك نبياً أمياً ليس أعمى من عميان، ولا ضالاً من ضالين وليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب في الأسواق ولا مترين بالفحش، ولا قوال للخنا أسدده بكل جميل وأهب له كل خلق كريم أجعل السكينة لباسه، والبر شعاره والتقوى ضميره والحكمة معقوله والصدق والوفاء طبيعته والعفو والمعروف خلقه، والعدل سيرته والحق شريعته والهدى إمامه والإسلام ملته وأحمد اسمه أهدي به بعد الضلالة، وأعلم به بعد الجهالة وأرفع به بعد الخمالة وأشهر به بعد النكرة، وأكثر به القلة وأغني به بعد العيلة، وأجمع به بعد الفرقة وأؤلف به بين قلوب مختلفة وأهواء متشتتة وأمم متفرقة، وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر توحيداً لي وإيماناً بي وإخلاصاً لي يصلون قياماً وقعوداً، وركعاً وسجوداً، ويقاتلون في سبيلي صفوفاً وزحوفاً، ويخرجون من ديارهم وأموالهم ابتغاء مرضاتي ألهمهم التكبير، والتوحيد والتسبيح والتحميد والته
ربك قبل أن لا أبقي من قومك أحدا إلا قتلته فهدأ الدم باذن الله تعالى، ورفع بيورزاذان عنهم القتل وقال: آمنت بما آمنت به بنو إسرائيل، وأيقنت أنه لا رب غيره. وقال لبني إسرائيل: إن خردوش أمرني أن أقتل منكم حتى تسيل دماؤكم وسط عسكره، وإني لا أستطيع أن أعصيه قالوا له افعل ما أمرت به، فأمرهم فحفروا خندقا، وأمرهم بأموالهم من الخيل والبغال والحمير والإبل والبقر والغنم فذبحها حتى سال الدم في العسكر، وأمر بالقتلى الذين قتلوا قبل ذلك فطرحوه على ما قتل من المواشي، فلم يظن خردوش إلا أن ما في الخندق من دماء بني إسرائيل فلما بلغ الدم عسكره، أرسل إلى بيورزاذان أن ارفع عنهم القتل ثم انصرف إلى بابل وقد أفنى بني إسرائيل أو كاد يفنيهم، ونهى الوقعة الأخيرة التي أنزل الله ببني إسرائيل في قوله لتفسدن في الأرض مرتين فكانت الوقعة الأولى بختنصر وجنوده، والأخرى خردوش وجنوده وكانت أعظم الوقعتين، فلم تقم لهم بعد ذلك راية وانتقل الملك بالشام ونواحيها إلى الروم واليونانيين، إلا أن بقايا بني إسرائيل كثروا وكانت لهم الرياسة ببيت المقدس ونواحيها على غير وجه الملك، وكانوا في نعمة إلى أن بدلوا وأحدثوا الأحداث فسلط الله عليهم ططوس ابن أسبيانيوس الرومي، فخرب بلادهم وطردهم عنها، ونزع الله عنهم الملك والرياسة وضربت عليهم الذلة والمسكنة، فما لبثوا في أمة إلا وعليهم الصّغار والجزية وبقي بيت المقدس خرابا إلى خلافة عمر بن الخطاب فعمره المسلمون بأمره، وقيل في سبب قتل يحيى عليه السلام: أن ملك بني إسرائيل كان يكرمه ويدني مجلسه، وأن الملك هوى بنت امرأته، وقال ابن عباس ابنة أخيه فسأل يحيى تزويجها فنهاه عن نكاحها، فبلغ ذلك أمها فحقدت على يحيى وعمدت حين جلس الملك على شرابه فألبستها ثيابا رقاقا حمرا وطيبتها وألبستها الحلي، وأرسلتها إلى الملك وأمرتها أن تسقيه فإن هو راودها عن نفسها أبت عليه حتى يعطيها ما سألته فإذا أعطاها ما سألت سألت رأس يحيى بن زكريا، وأن يؤتى به في طست ففعلت فلما راودها قالت: لا أفعل حتى تعطيني ما أسألك قال فما تسأليني قالت: رأس يحيى بن زكريا في هذا الطست فقال ويحك سليني غير هذا. قالت:
ما أريد غير هذا فلما أبت عليه، بعث فأتي برأسه حتى وضع بين يديه والرأس يتكلم يقول: لا يحل لك فلما أصبح إذا دمه يغلي، فأمر بتراب فألقي عليه فرقى الدم يغلي فلا زال يغلي، ويلقى عليه التراب، وهو يغلي حتى بلغ سور المدينة وهو في ذلك يرقى ويغلي وسلط الله عليهم ملك بابل فخرب بيت المقدس، وقتل سبعين ألفا حتى سكن دمه قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٨ الى ١٩]
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (٨) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (١٢)
وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (١٥) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (١٧)
مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩)
123
عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ يعني يا بني إسرائيل بعد انتقامه منكم فيرد الدولة إليكم وَإِنْ عُدْتُمْ أي إلى المعصية عُدْنا أي إلى العقوبة. قال قتادة فعادوا فبعث الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم: فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً أي سجنا ومحبسا من الحصر الذي هو مجلس الحبس، وقيل:
فراشا من الحصير الذي يبسط ويفترش. قوله تعالى إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله وَيُبَشِّرُ يعني القرآن الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً يعني الجنة وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً يعني النار في الآخرة وَيَدْعُ الْإِنْسانُ أي على نفسه وولده وماله بِالشَّرِّ يعني قوله عند الغضب: اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس: ضجرا لا صبر له على سرّاء ولا ضراء. قوله تعالى وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان: أحدهما: أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبرا يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب. والقول الثاني: أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموسا مظلما لا يستبان فيه شيء وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة. قال ابن عباس: جعل الله نور الشمس سبعين جزءا ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءا، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء عليا عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم وَلِتَعْلَمُوا أي باختلاف الليل والنهار عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة. واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب: الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بيانا شافيا واضحا غير ملتبس قيل: إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلا قوله عز وجل وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ قال ابن عباس:
عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان. وقيل: خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقيل: ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وقيل: هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزوم كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما
124
يزين أو يشين فإن كان عمله خيرا كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شرا كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه ويخرج له بقول تبارك وتعالى وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً قيل:
بسطت للإنسان صحيفتان ووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته. فإذا مات طويت الصحيفتان، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة اقْرَأْ كِتابَكَ أي يقال له: اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئا كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً أي محاسبا قال الحسن: لقد عدل عليك «١» من جعلك حسيب نفسك، وقيل: يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي. فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا. قوله سبحانه وتعالى مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضا، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا لإقامة الحجة وقطعا للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل. قوله سبحانه وتعالى وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها
في معنى الآية قولان: أحدهما: أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين: معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا. والقول الثاني:
أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها. يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة» أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذا قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل. والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش فَفَسَقُوا فِيها
أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي وجب عليها العقاب فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب (ق)، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فزعا يقول: «لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها». قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال: «نعم إذا كثر الخبث» قوله: ويل للعرب. ويل كلمة تقال: لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر قوله تعالى وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ أي المكذبة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش. قال عبد الله بن أبي أوفى: القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره. وقيل: القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وضع يده على رأسه وقال: «سيعيش هذا الغلام قرنا» قال محمد ابن القاسم: ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات. وقيل: القرن ثمانون سنة. وقيل: أربعون وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات، لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق. قوله عز وجل مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ أي الدار العاجلة يعني الدنيا عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ أي من البسط أو التقتير لِمَنْ نُرِيدُ أن نفعل به ذلك أو إهلاكه، وقيل في معنى الآية. عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئا، قدرناه له وهذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له، ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ أي في الآخرة جَهَنَّمَ يَصْلاها أي يدخلها مَذْمُوماً مَدْحُوراً أي مطرودا مباعدا. قوله سبحانه وتعالى وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها أي عمل لها عملها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً أي مقبولا قيل: في الآية ثلاث
(١). قوله عدل عليك هكذا في الأصل الطبع وفي بعض النسخ إليك سيدل عليك وفي الخطيب عدل والله في خلقك من إلخ وفي الكشاف: يا ابن آدم أنصفك والله من إلخ اهـ.
125
قوله تعالى ﴿ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ﴾ أي إلى الطريقة التي هي أصوب وقيل : إلى الكلمة التي هي أعدل وهي شهادة أن لا إله إلا الله ﴿ ويبشر ﴾ يعني القرآن ﴿ المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً كبيراً ﴾ يعني الجنة.
﴿ وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة أعتدنا لهم عذاباً أليماً ﴾ يعني النار في الآخرة.
﴿ ويدع الإنسان ﴾ أي على نفسه وولده وماله ﴿ بالشر ﴾ يعني قوله عند الغضب : اللهم أهلكه اللهم العنه ونحو ذلك ﴿ دعاءه بالخير ﴾ أي كدعائه ربه أن يهب له النعمة والعافية ولو استجاب الله دعاءه على نفسه لهلك، ولكن الله لا يستجيب بفضله وكرمه ﴿ وكان الإنسان عجولاً ﴾ أي بالدعاء على ما يكره أن يستجاب له فيه، وقال ابن عباس : ضجراً لا صبر له على سّراء ولا ضراء.
قوله تعالى ﴿ وجعلنا الليل والنهار آيتين ﴾ أي علامتين دالتين على وحدانيتنا وقدرتنا وفي معنى الآية قولان : أحدهما : أن يكون المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، وهو أنه جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدنيا والدين، أما في الدين فلأن كل واحد منهما مضاد للآخر مغاير مع كونهما متعاقبين على الدوام ففيه أقوى دليل على أن لهما مدبراً يدبرهما، ويقدرهما بالمقادير المخصوصة وأما في الدنيا، فلأن مصالح العباد لا تتم إلا بهما ففي الليل يحصل السكون، والراحة وفي النهار يحصل التصرف في المعاش والكسب. والقول الثاني : أن يكون المراد وجعلنا نيرى الليل والنهار آيتين يريد الشمس والقمر ﴿ فمحونا آية الليل ﴾ أي جعلنا الليل ممحو الضوء مطموساً مظلماً لا يستبان فيه شيء ﴿ وجعلنا آية النهار مبصرة ﴾ أي تبصر فيه الأشياء رؤية بينة. قال ابن عباس : جعل الله نور الشمس سبعين جزءاً ونور القمر كذلك فمحا من نور القمر تسعة وستين جزءاً، فجعلها مع نور الشمس وحكي أن الله أمر جبريل فأمر جناحه على وجه القمر ثلاث مرات، فطمس عليه الضوء وبقي فيه النور وسأل ابن الكواء علياً عن السواد الذي في القمر، فقال هو أثر المحو ﴿ لتبتغوا فضلاً من ربكم ﴾ أي لتتوصلوا ببياض النهار إلى استبانة أعمالكم، والتصرف في معايشكم ﴿ ولتعلموا ﴾ أي باختلاف الليل والنهار ﴿ عدد السنين والحساب ﴾ أي ما يحتاجون إليه ولولا ذلك، لما علم أحد حساب الأوقات ولتعطلت الأمور، ولو ترك الله الشمس والقمر، كما خلقهما لم يعرف الليل من النهار ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يعرف وقت الحج ولا وقت حلول الديون المؤجلة. واعلم أن الحساب يبنى على أربع مراتب : الساعات والأيام والشهور والسنين، فالعدد للسنين والحساب لما دونها من الشهور والأيام والساعات، وليس بعد هذه المراتب الأربعة إلا التكرار ﴿ وكل شيء فصلناه تفصيلاً ﴾ يعني وكل شيء تفتقرون إليه من أمر دينكم ودنياكم قد بينّاه بياناً شافياً واضحاً غير ملتبس قيل : إنه سبحانه وتعالى لما ذكر أحوال آيتي الليل والنهار وهما من وجه دليلان قاطعان على التوحيد ومن وجه آخر نعمتان من الله تعالى على أهل الدنيا، وكل ذلك تفضل منه فلا جرم قال، وكل شيء فصلناه تفصيلاً.
قوله عز وجل ﴿ وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ﴾ قال ابن عباس : عمله وما قدر عليه فهو ملازمه أينما كان. وقيل : خيره وشره معه لا يفارقه حتى يحاسب به. وقيل : ما من مولود إلا وفي عنقه ورقة مكتوب فيها شقي أو سعيد، وقيل : أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، وقيل : هو من قولك طار له سهم إذا خرج يعني ألزمناه ما طار له من عمله لزوم القلادة أو الغل، لا ينفك عنه والعنق في قوله في عنقه كناية عن اللزوم كما يقال : جعلت هذا في عنقك أي قلدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به وإنما خص العنق من بين سائر الأعضاء لأنه موضع القلائد والأطواق والغل مما يزين أو يشين فإن كان عمله خيراً كان له كالقلادة أو الحلي في العنق وهو ما يزينه، وإن كان عمله شراً كان له كالغلّ في عنقه وهو ما يشينه و يخرج له بقول تبارك وتعالى ﴿ ونخرج له يوم القيامة كتاباً يلقاه منشوراً ﴾ قيل : بسطت للإنسان صحيفتان ووكل به ملكان يحفظان عليه حسناته وسيئاته. فإذا مات طويت الصحيفتان، وجعلتا معه في عنقه فلا ينشران إلا يوم القيامة.
﴿ اقرأ كتابك ﴾ أي يقال له : اقرأ كتابك قيل يقرأ يوم القيامة من لم يكن قارئاً ﴿ كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ﴾ أي محاسباً قال الحسن : لقد عدل عليك١ من جعلك حسيب نفسك، وقيل : يقول الكافر إنك لست بظلام للعبيد فاجعلني أحاسب نفسي. فيقال له اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً.
١ قوله عدل عليك هكذا في الأصل الطبع وفي بعض النسخ إليك سيدل عليك وفي الخطيب عدل والله في خلقك من الخ وفي الكشاف: يا ابن آدم أنصفك والله من الخ اهـ..
قوله سبحانه وتعالى ﴿ من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ﴾ يعني أن ثواب العمل الصالح مختص بفاعله، وعقاب الذنب مختص بفاعله أيضاً، ولا يتعدى منه إلى غيره وهو قوله تعالى ﴿ ولا تزر وازرة وزر أخرى ﴾ أي لا تحمل حاملة ثقل أخرى من الآثام، ولا يؤاخذ أحد بذنب أحد بل كل أحد مختص بذنبه ﴿ وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً ﴾ لإقامة الحجة وقطعاً للعذر وفيه دليل على أن ما وجب إنما وجب بالسمع لا بالعقل.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ﴾ في معنى الآية قولان : أحدهما : أن المراد منه الأمر بالفعل، ثم إن لفظ الآية يدل على أنه تعالى بماذا أمرهم فقال أكثر المفسرين : معناه أنه تعالى أمرهم بالأعمال الصالحة، وهي الإيمان والطاعة وفعل الخير والقوم خالفوا ذلك الأمر وفسقوا. والقول الثاني : أمرنا مترفيها أي كثرنا فساقها. يقال أمر القوم إذا كثروا وأمرهم الله إذا كثرهم، ومنه الحديث «خير المال مهرة مأمورة » أي كثيرة النتاج والنسل فعلى هذه قوله تعالى أمرنا ليس من الأمر بالفعل. والمترف هو الذي أبطرته النعمة وسعة العيش ﴿ ففسقوا فيها ﴾ أي خرجوا عما أمرهم الله به من الطاعة ﴿ فحق عليها القول ﴾ أي وجب عليها العقاب ﴿ فدمرناها تدميراً ﴾ أي أهلكناها إهلاك استئصال والدمار الهلاك والخراب ( ق )، عن أم المؤمنين زينب بنت جحش أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل عليها فزعاً يقول :" لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه، وحلق بأصبعيه الإبهام والتي تليها ". قالت زينب : قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال :«نعم إذا كثر الخبث » قوله : ويل للعرب. ويل كلمة تقال : لمن وقع في هلكة، أو أشرف أن يقع فيها وقوله إذا كثر الخبث أي الشر.
قوله تعالى ﴿ وكم أهلكنا من القرون ﴾ أي المكذبة ﴿ من بعد نوح ﴾ وهم عاد وثمود وغيرهم من الأمم الخالية يخوف الله بذلك كفار قريش. قال عبد الله بن أبي أوفى : القرن عشرون ومائة سنة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول قرن ويزيد بن معاوية في آخره. وقيل : القرن مائة سنة وروي عن محمد بن القاسم بن عبد الله بن بشر المازني أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على رأسه وقال :«سيعيش هذا الغلام قرناً » قال محمد ابن القاسم : ما زلنا نعد له حتى تمت له مائة سنة ثم مات. وقيل : القرن ثمانون سنة. وقيل : أربعون ﴿ وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيراً ﴾ يعني أنه عالم بجميع المعلومات راء لجميع المرئيات لا يخفى عليه شيء من أحوال الخلق.
قوله عز وجل ﴿ من كان يريد العاجلة ﴾ أي الدار العاجلة يعني الدنيا ﴿ عجلنا له فيها ما نشاء ﴾ أي من البسط أو التقتير ﴿ لمن نريد ﴾ أن نفعل به ذلك أو إهلاكه، وقيل في معنى الآية. عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد أي القدر الذي نشاء نعجله له في الدنيا، الذي يشاء هو ولمن نريد أن نعجل له شيئاً، قدرناه له هذا ذم لمن أراد بعمله ظاهر الدنيا ومنفعتها وبيان أن من أرادها لا يدرك منها إلا ما قدر له، ﴿ ثم جعلنا له ﴾ أي في الآخرة ﴿ جهنم يصلاها ﴾ أي يدخلها ﴿ مذموماً مدحوراً ﴾ أي مطروداً مباعداً.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها ﴾ أي عمل لها عملها ﴿ وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكوراً ﴾ أي مقبولاً قيل : في الآية ثلاث شرائط في كون السعي مشكوراً إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار
الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت، وعن بعض السلف الصالح. من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب.
شرائط في كون السعي مشكورا إرادة الآخرة بعمله بأن يعقد بها همه ويتجافى عن دار الغرور، والسعي فيما كلف من الفعل والترك، والإيمان الصحيح الثابت، وعن بعض السلف الصالح. من لم يكن معه ثلاث لم ينفعه عمله، إيمان ثابت، ونية صادقة، وعمل مصيب. وتلا هذه الآية. قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٢٠ الى ٢٥]
كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (٢١) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥)
كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ أي نمد كلا الفريقين من يريد الدنيا، ومن يريد الآخرة مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ يعني يرزقهما جميعا ثم يختلف الحال بهما في المآل وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً
أي ممنوعا عن عباده والمراد بالعطاء العطاء في الدنيا إذ لا حظ للكافر في الآخرة انْظُرْ يا محمد كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى، لأنها دار المقامة. قوله تعالى لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلها آخر وهذا أولى فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً أي من غير حمد مَخْذُولًا أي بغير ناصر. قوله سبحانه وتعالى: وَقَضى رَبُّكَ أي وأمر ربك. قاله ابن عباس:
وقيل معناه وأوجب ربك. وقيل: معناه الحكم والجزم. وقيل: ووصى ربك. وحكي عن الضحاك أنه قرأها ووصى ربك وقال: إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافا وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جدا لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ فيه وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي وأمر بالوالدين إحسانا أي برا بهما وعطفا عليهما وإحسانا إليهما إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء: الأول قوله تعالى فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وهي كلمة تضجّر وكراهية، وقيل: إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد، ونفخت فيه تزيله تقول: أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم. والثاني: قوله وَلا تَنْهَرْهُما أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال: نهره وانتهره بمعنى. فإن قلت: المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت: المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله ولا تنهرهما، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها. الثالث: قوله وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً أي حسنا جميلا لينا كما
126
يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل: هو يا أماه يا أبتاه وقيل: لا يكنيهما وقيل: هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ. الرابع: قوله عز وجل وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه مِنَ الرَّحْمَةِ أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما كنت في حال الصغر مفتقرا إليهما. الخامس: قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى وقيل:
يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما. وقيل في معنى هذه الآية: إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما.

فصل


في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين، (ق) عن أبي هريرة قال: «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك» (م) عنه قال سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: رغم أنفه، رغم أنفه رغم أنفه قيل من يا رسول الله؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة» (م) عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكا فيشتريه فيعتقه» (ق) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاستأذنه في الجهاد فقال: أحيّ والداك قال: نعم قال ففيهما فجاهد» وعنه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «رضا الرب في رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين» أخرجه الترمذي مرفوعا وموقوفا قال: وهو أصح عن أبي الدرداء قال «فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه» أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح (م) «عن عبد الله بن مسعود قال:
سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى»
. قوله سبحانه وتعالى رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ أي من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، عدم عقوقهما إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ أي أبرارا مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، أو غيرهما أو قيل فرط منكم في حال الغضب، وعند حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله، واستغفرتم مما فرط منكم فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوابين غَفُوراً قال سعيد بن جبير في هذه الآية: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما. وقال سعيد بن المسيب: الأوّاب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس: الأوّاب الرجاع إلى الله فيما يحزنه، وينوبه وعنه أنهم المسبحون. وقيل: هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم. قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال «صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال» أخرجه مسلم قوله: إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها.
والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الصغار وقيل: الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال: إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين. قوله سبحانه وتعالى:
127
﴿ انظر ﴾ يا محمد ﴿ كيف فضلنا بعضهم على بعض ﴾ أي في الرزق والعمل يعني طالب العاجلة وطالب الآخرة ﴿ وللآخرة أكبر درجات وأكبر تفضيلاً ﴾ يعني أن تفاضل الخلق في درجات منافع الدنيا محسوس فتفاضلهم في درجات منافع الآخرة أكبر وأعظم فإن نسبة التفاضل في درجات الآخرة إلى التفاضل في درجات الدنيا، كنسبة الآخرة إلى الدنيا فإذا كان الإنسان تشتد رغبته في طلب الدنيا فلأن تقوى وتشتد رغبته في طلب الآخرة أولى، لأنها دار المقامة.
قوله تعالى ﴿ لا تجعل مع الله إلهاً آخر ﴾ الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد غيره وقيل معناه لا تجعل أيها الإنسان مع الله إلهاً آخر وهذا أولى ﴿ فتقعد مذموماً ﴾ أي من غير حمد ﴿ مخذولاً ﴾ أي بغير ناصر.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ وقضى ربك ﴾ أي وأمر ربك. قاله ابن عباس : وقيل معناه وأوجب ربك. وقيل : معناه الحكم والجزم. وقيل : ووصى ربك. وحكي عن الضحاك أنه قرأها ووصى ربك وقال : إنهم ألصقوا الواو بالصاد فصار قافاً وهي قراءة علي وابن مسعود. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير هذا القول بعيد جداً لأنه يفتح باب أن التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن ولو جوزنا ذلك لارتفع الأمان على القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة، ولا شك أنه طعن عظيم في الدين ﴿ ألاَّ تعبدوا إلا إياه ﴾ فيه وجوب عبادة الله، والمنع من عبادة غيره وهذا هو الحق لأن العبادة عبارة عن الفعل المشتمل على نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن له الإنعام والإفضال على عباده ولا منعم إلا الله، فكان هو المستحق للعبادة لا غيره ﴿ وبالوالدين إحساناً ﴾ أي وأمر بالوالدين إحساناً أي براً بهما وعطفاً عليهما وإحساناً إليهما ﴿ إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ﴾ معناه أنهما يبلغان إلى حالة الضعف، والعجز فيصيران عندك في آخر العمر كما كنت عندهما في أول العمر واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما ذكر هذه الجملة، كلف الإنسان في حق الوالدين خمسة أشياء : الأول قوله تعالى ﴿ فلا تقل لهما أف ﴾ وهي كلمة تضجَّر وكراهية، وقيل : إن أصل هذه الكلمة أنه إذا سقط عليك تراب أو رماد، ونفخت فيه تزيله تقول : أف ثم إنهم توسعوا بذكر هذه الكلمة إلى كل مكروه يصل إليهم. والثاني : قوله ﴿ ولا تنهرهما ﴾ أي تزجرهما عما يتعاطيانه مما لا يعجبك يقال : نهره وانتهره بمعنى.
فإن قلت : المنع من التأفيف أبلغ من المنع من الانتهار فما وجه الجمع قلت : المراد من قوله ولا تقل لهما أف المنع من إظهار الضجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله ولا تنهرهما، المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليها. الثالث : قوله ﴿ وقل لهما قولاً كريماً ﴾ أي حسناً جميلاً ليناً كما يقتضيه حسن الأدب معهما، وقيل : هو يا أماه يا أبتاه وقيل : لا يكنيهما وقيل : هو أن يقول لهم كقول العبد الذليل المذنب للسيد الفظ الغليظ. الرابع : قوله عز وجل﴿ واخفض لهما جناح الذل ﴾.
قوله عز وجل ﴿ واخفض لهما جناح الذل ﴾ أي ألن لهما جناحك واخفضه لهما حتى لا تمتنع عن شيء أحباه ﴿ من الرحمة ﴾ أي من الشفقة عليهما لكبرهما وافتقارهما اليوم إليك، كما كنت في حال الصغر مفتقراً إليهما. الخامس : قوله سبحانه وتعالى ﴿ وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ﴾ أي وادع الله لهما أن يرحمهما برحمته الباقية، وأراد به إذا كانا مسلمين فأما إذا كانا كافرين فإن الدعاء منسوخ في حقهما بقوله سبحانه وتعالى ﴿ ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى ﴾ وقيل : يجوز الدعاء لهما بأن يهديهما الله إلى الإسلام فإذا هداهما فقد رحمهما. وقيل في معنى هذه الآية : إن الله سبحانه وتعالى بالغ في الوصية بهما حيث افتتحها بالأمر بتوحيده وعبادته، ثم شفعه بالإحسان إليهما ثم ضيق الأمر في مراعاتهما حتى لم يرخص في أدنى كلمة تسوؤهما وأن يذل، ويخضع لهما ثم ختمها بالأمر بالدعاء لهما والترحم عليهما.

فصل


في ذكر الأحاديث التي وردت في بر الوالدين، ( ق ) عن أبي هريرة قال :« جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحبتي ؟ قال : أمك ثم أمك ثم أباك ثم أدناك فأدناك » ( م ) عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :« رغم أنفه، رغم أنفه قيل من يا رسول الله ؟ قال من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما ثم لم يدخل الجنة » ( م ) عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لن يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه » ( ق ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد : فقال : أحيّ والداك قال : نعم قال ففيهما فجاهد » وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « رضا الرب من رضا الوالدين وسخط الرب في سخط الوالدين » أخرجه الترمذي مرفوعاً وموقوفاً قال : هو أصح عن أبي الدرداء قال « فإن شئت فضيع ذلك الباب أو احفظه ». أخرجه الترمذي. وقال حديث صحيح ( م ) « عن عبد الله بن مسعود قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله تعالى قال الصلاة لوقتها قلت، ثم أي قال بر الوالدين قلت ثم أي قال الجهاد في سبيل الله تعالى ».
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ربكم أعلم بما في أنفسكم ﴾ أي من بر الوالدين، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير، عدم عقوقهما ﴿ إن تكونوا صالحين ﴾ أي أبراراً مطيعين قاصدين الصلاح والبر بعد تقصير كان منكم في القيام بما لزمكم من حق الوالدين، أو غيرهما أو قيل فرط منكم في حال الغضب، وعن حرج الصدر وما لا يخلو منه البشر مما يؤدي إلى أذاهما ثم أنبتم إلى الله، واستغفرتم مما فرط منكم ﴿ فإنه كان للأوابين ﴾ للتوابين ﴿ غفوراً ﴾ قال سعيد بن جبير في هذه الآية : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ بهما. وقال سعيد بن المسيب : الأواب الذي يذنب ثم يتوب وعنه أنه الرجاع إلى الخير. وقال ابن عباس : الأواب الرجاع إلى الله فيما يحزنه، وينوبه وعنه أنهم المسبحون. وقيل : هم المصلون وقيل هم الذين يصلون صلاة الضحى يدل عليه ما روي عن زيد بن أرقم. قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على أهل قباء وهم يصلون الضحى فقال « صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال » أخرجه مسلم قوله : إذا رمضت الفصال يريد ارتفاع الضحى وأن تحمى الرمضاء وهو الرمل بحر الشمس فتبرك الفصال من الحر وشدة إحراقه أخفافها. والفصال جمع فصيل وهي أولاد الإبل الصغار وقيل : الأوّاب الذي يصلي بين المغرب والعشاء يدل عليه ما روي عن ابن عباس : إن الملائكة لتحف بالذين يصلون بين المغرب والعشاء وهي صلاة الأوّابين.

[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٢٦ الى ٣٨]

وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠)
وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (٣٥)
وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (٣٦) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (٣٧) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (٣٨)
وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ قيل: الخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل: إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل: أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً أي لا تنفق مالك في المعصية. وقيل: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذرا ولو أنفق درهما أو مدا في باطل كان مبذرا. وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقيل: هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل: إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل: أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم: هو أخوهم وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً أي جحودا للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله. قوله عز وجل وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية. والمعنى: وإن تعرض عن هؤلاء الذين أمرت أن تؤتيهم ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي لينا جميلا أي عدهم وعدا طيبا، تطيب به قلوبهم. وقيل: هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ قال جابر: أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعا ولم يكن لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتا آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عريانا فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عريانا فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها وَلا تَبْسُطْها أي بالعطاء كُلَّ الْبَسْطِ أي فتعطي جميع ما عندك. وقيل: هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء
128
المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير فَتَقْعُدَ مَلُوماً أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوما عند نفسك وأصحابك أيضا يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل: يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم مَحْسُوراً أي منقطعا لا شيء عندك تنفقه وقيل: محسورا أي نادما على ما فرط منك. ثم سلّى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ أي يوسع الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أي فاقة وفقر نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً أي إثما
كبيرا وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي قبيحة زائدة على حد القبح وَساءَ سَبِيلًا أي بئس طريقا طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل: إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منها المعصية وإيجاب الحد على نفسه، ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم. قوله عز وجل وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة». أخرجاه في الصحيحين وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً
أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل: سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ أي الولي قال ابن عباس: لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه. وقيل معناه إذا كان القتيل واحدا فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفا فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً قيل الضمير راجع للمقتول ظلما يعني أنه منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله، وقيل:
الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه: إنه كان منصورا على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله:
فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المتعدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ أي الإتيان بما أمر الله به والانتهاء عما نهي عنه وقيل: أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا أي عنه وقيل مطلوبا وقيل: العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموءودة تسأل فيم قتلت. قوله عز وجل وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ المراد منه إتمام الكيل وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ قيل هو الميزان صغيرا كان أو كبيرا، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل:
هو القبان قيل هو رومي وقيل: سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل، أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم،
129
﴿ إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين ﴾ يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل : أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم : هو أخوهم ﴿ وكان الشيطان لربه كفوراً ﴾ أي جحوداً للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله.
قوله عز وجل ﴿ وإما تعرضن عنهم ﴾ نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية. والمعنى : وإن تعرض عن هؤلاء الذي أمرت أن تؤتيهم ﴿ ابتغاء رحمة من ربك ترجوها ﴾ أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك، ﴿ فقل لهم قولاً ميسوراً ﴾ أي ليناً جميلاً أي عدهم وعداً طيباً، تطيب به قلوبهم. وقيل : هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ﴾ قال جابر : أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي : من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتاً آخر فعاد إلى أمه فقالت : قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها ﴿ ولا تبسطها ﴾ أي بالعطاء ﴿ كل البسط ﴾ أي فتعطي جميع ما عندك. وقيل : هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير ﴿ فتقعد ملوماً ﴾ أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوماً عند نفسك وأصحابك أيضاً يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل : يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم ﴿ محسوراً ﴾ أي منقطعاً لا شيء عندك تنفقه وقيل : محسوراً أي نادماً على ما فرط منك. ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك.
قال تعالى ﴿ إن ربك يبسط ﴾ أي يوسع ﴿ الرزق لمن يشاء ويقدر ﴾ أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد ﴿ إنه كان بعباده خبيراً بصيراً ﴾ يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد.
قوله عز وجل ﴿ ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق ﴾ أي فاقة وفقر ﴿ نحن نرزقهم وإياكم ﴾ وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء ﴿ إن قتلهم كان خطئاً كبيراً ﴾ أي إثماً كبيراً.
﴿ ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة ﴾ أي قبيحة زائدة على حد القبح ﴿ وساء سبيلاً ﴾ أي بئس طريقاً طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل : إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منه المعصية وإيجاب الحد على نفسه، ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم.
قوله عز وجل ﴿ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ﴾ الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث : الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة ». أخرجاه في الصحيحين ﴿ ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً ﴾ أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل : سلطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا ﴿ فلا يسرف في القتل ﴾ أي الولي قال بان عباس : لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه. وقيل معناه إذا كان القتيل واحداً فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل ﴿ إنه كان منصوراً ﴾ قيل الضمير راجع للمقتول ظلماً يعني أنه منصور في الدنيا بإيجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وإيجاب النار لقاتله، وقيل : الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه : إنه كان منصوراً على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله : فلا يسرف في القتل أراد به القاتل المعتدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ﴾ أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه ﴿ حتى يبلغ أشده ﴾ وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر ﴿ وأوفوا بالعهد ﴾ أي الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهي عنه وقيل : أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه ﴿ إن العهد كان مسؤولاً ﴾ أي عنه وقيل مطلوباً وقيل : العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموؤدة تسأل فيم قتلت.
قوله عز وجل ﴿ وأوفوا الكيل إذا كلتم ﴾ المراد منه إتمام الكيل ﴿ وزنوا بالقسطاس المستقيم ﴾ قيل هو ميزان صغيراً كان أو كبيراً، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل : هو القبان قيل هو رومي وقيل : سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل، أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعياً في إبقاء الأموال على أربابها ﴿ ذلك خير وأحسن تأويلاً ﴾ أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ولا تقفُ ﴾ أي ولا تتبع ﴿ ما ليس لك به علم ﴾ أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم. وقيل : معناه لا ترم أحداً بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل : هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن ﴿ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً ﴾ معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع البصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها. عن شكل بن حميد قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا نبي الله علمني تعويذاً أتعوذ به قال : فأخذ بيدي ثم قال :« قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها » أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال حديث حسن غريب. قوله : وشر منيي يعني ماءه وذكره.
قوله عز وجل ﴿ ولا تمش في الأرض مرحاً ﴾ أي بطراً وكبراً وخيلاء ﴿ إنك لن تخرق الأرض ﴾ أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها ﴿ ولن تبلغ الجبال طولاً ﴾ أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. وقيل : إن الذي يمشي مختالاً يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له : إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولاً إن مشيت على صدور قدميك. عن علي قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب. أخرجه الترمذي في الشمائل. قوله تكفؤاً : التكفؤ التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفؤ أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال : ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع من مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا. وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي. قوله : لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان.
﴿ كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً ﴾ أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم. فإن قلت : كيف قيل : سيئة مع قوله مكروهاً ؟ قلت : قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروهاً سيئة عند ربك وقوله : مكروهاً على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر.
فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما عظم الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعيا في إبقاء الأموال على أربابها ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره. قوله سبحانه وتعالى وَلا تَقْفُ أي ولا تتبع ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم. وقيل: معناه لا ترم أحدا بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع والبصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها. عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذا أتعوذ به قال: فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال حديث حسن غريب.
قوله: وشر منيي يعني ماءه وذكره. قوله عز وجل وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي بطرا وكبرا وخيلاء إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئا كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. وقيل: إن الذي يمشي مختالا يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له:
إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولا إن مشيت على صدور قدميك. عن علي قال:
كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى تكفأ تكفؤا كأنما ينحط من صبب. أخرجه الترمذي في الشمائل. قوله تكفؤا: التكفؤ التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفؤ أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئا أحسن من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحدا أسرع في مشيه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا. وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي. قوله:
لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم. فإن قلت: كيف قيل: سيئة مع قوله مكروها؟ قلت: قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروها سيئة عند ربك وقوله: مكروها على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروها وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٣٩ الى ٤٦]
ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (٣٩) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (٤٠) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (٤١) قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (٤٢) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (٤٣)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (٤٤) وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (٤٥) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (٤٦)
ذلِكَ إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال
130
فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار. وقيل: إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة. قيل: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: ولا تجعل مع الله إلها آخر. قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى: افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر فيه التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموما مخذولا وقال في هذه الآية وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموما فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموما ثم يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير. قوله سبحانه وتعالى أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة بِالْبَنِينَ يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات. قوله سبحانه وتعالى وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير لِيَذَّكَّرُوا أي ليتعظوا ويعتبروا وَما يَزِيدُهُمْ أي تصريفنا وتذكيرنا إِلَّا نُفُوراً أي تباعدا عن الحق قُلْ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لَابْتَغَوْا أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقيل: معناه لتقربوا إليه. وقيل: معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال عز وجل سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه. قوله عز وجل تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ يعني الملائكة والإنس والجن وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: وإن من شيء حي إلا يسبح. وقيل: جميع الحيوانات والنباتات. قيل: إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح. وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح. وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جاريا فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح مادام جديدا فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل:
كل الأشياء تسبح الله حيوانا كان أو جمادا وتسبيحها: سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفا كنا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في سفر فقل الماء فقال: «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلّى الله عليه وسلّم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله». فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري (م) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «إن بمكة حجرا كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن» (خ) عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان
131
قوله سبحانه وتعالى ﴿ أفأصفاكم ربكم ﴾ يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة ﴿ بالبنين ﴾ يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون ﴿ واتخذ من الملائكة إناثاً ﴾ لأنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول ﴿ إنكم لتقولون قولاً عظيماً ﴾ يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ولقد صرفنا في هذا القرآن ﴾ يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير ﴿ ليذكروا ﴾ أي ليتعظوا ويعتبروا ﴿ وما يزيدهم ﴾ أي تصريفنا وتذكيرنا ﴿ إلا نفوراً ﴾ أي تباعداً عن الحق.
﴿ قل ﴾ أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ﴿ لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا ﴾ أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة ﴿ إلى ذي العرش سبيلاً ﴾ أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقيل : معناه لتقربوا إليه. وقيل : معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه.
فقال عز وجل ﴿ سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً ﴾ معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه.
قوله عز وجل ﴿ تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن ﴾ يعني الملائكة والإنس والجن ﴿ وإن من شيء إلا يسبح بحمده ﴾ قال ابن عباس : وإن من شيء حي إلا يسبح. وقيل : جميع الحيوانات والنباتات. قيل : إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح. وقيل : إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح. وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح ما دام جديداً فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل : كل الأشياء تسبح الله حيواناً كان أو جماداً وتسبيحها : سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال : كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال :« اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال : حي على الطهور المبارك، والبركة من الله » فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري ( م ) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال « إن بمكة حجراً كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن » ( خ ) عن ابن عمر قال :« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه » وفي رواية « فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء » ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني : تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأولاد أصح كما دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف. واعلم أن لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه. وقوله تعالى ﴿ ولكن لا تفقهون تسبيحهم ﴾ أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم ﴿ إنه كان حليماً غفوراً ﴾ أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح.
قوله عز وجل ﴿ وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً ﴾ أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل : معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال :« لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب معها حجر والنبي صلى لله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر : أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر : ما رأتك يا رسول الله. قال :« لا لم يزل ملك بين وبينها ».
﴿ وجعلنا على قلوبهم أكنة ﴾ أي أغطية ﴿ أن يفقهوه ﴾ أي لئلا يفهموه ﴿ وفي آذانهم وقراً ﴾ أي ثقلاً لئلا يسمعوه ﴿ وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ﴾ يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن ﴿ ولَّوا على أدبارهم نفوراً ﴾ جمع نافر.
الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأول أصح كما دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف. واعلم أن لله تعالى علما في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه. وقوله تعالى وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح. قوله عز وجل وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل: معناه مستورا عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: «لما نزلت تبت يدا أبي لهب جاءت امرأة أبي لهب ومعها حجر والنبي صلّى الله عليه وسلّم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله. قال: لا لم يزل ملك بيني وبينها» وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي أغطية أَنْ يَفْقَهُوهُ أي لئلا يفهموه وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً أي ثقلا لئلا يسمعوه وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً جمع نافر.
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٤٧ الى ٥٧]
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (٤٧) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (٤٨) وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٤٩) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (٥٠) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (٥١)
يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (٥٢) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (٥٣) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (٥٤) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (٥٥) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (٥٦)
أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (٥٧)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ أي من الهزء بك وبالقرآن وقيل: معناه نحن أعلم بالوجه الذي يستمعون به وهو التكذيب إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أي وأنت تقرأ القرآن وَإِذْ هُمْ نَجْوى أي وبما يتناجون به في أمرك، وقيل: معناه ذوو نجوى بعضهم يقول: هو مجنون وبعضهم يقول هو كاهن وبعضهم يقول ساحر أو شاعر إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً أي مطبوبا وقيل مخدوعا وقيل: معناه أنه سحر فجن. وقيل: هو من السحر وهو الرئة، ومعناه أنه بشر مثلكم يأكل ويشرب قال الشاعر:
أرانا موضعين لأمر غيب ونسخر بالطعام وبالشراب
أي يغذى بهما انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي الأشباه فقالوا: ساحر شاعر كاهن مجنون فُضِّلُوا أي في جميع ذلك وحاروا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا أي إلى طريق الحق وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً أي بعد الموت وَرُفاتاً أي ترابا وقيل: الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً فيه أنهم استبعدوا الإعادة بعد الموت والبلى. فقال سبحانه وتعالى ردا عليهم قُلْ أي قل يا محمد كُونُوا حِجارَةً
132
أي في الشدة أَوْ حَدِيداً أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم، أنكم حجارة أو حديد في القوة أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ قيل: يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات. وقيل: يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا أي من يبعثنا بعد الموت قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أي خلقكم أَوَّلَ مَرَّةٍ فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ يعني البعث والقيامة قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً أي هو قريب يَوْمَ يَدْعُوكُمْ أي من قبوركم إلى موقف القيامة فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ قال ابن عباس: بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وقيل: هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ أي في الدنيا وقيل في القبور إِلَّا قَلِيلًا وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفا من السنين، عد ذلك قليلا بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة، وقيل: إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة. قوله سبحانه وتعالى وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأنزل الله عز وجل. وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو. وقيل: أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ أي يفسد ويلقي العداوة بينهم إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً أي ظاهر العداوة. قوله عز وجل: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ أي يميتكم على الشرك فتعذبوا، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا أي حفيظا وكفيلا قيل: نسختها آية القتال وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل: معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلا وكلم موسى تكليما، وقال لعيسى: كن فكان وآتى سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبورا وذلك قوله تعالى وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسين سورة، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام. فإن قلت: لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء؟ قلت: فيه وجوه: أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى: وآتينا داود زبورا وذلك أن داود أعطي مع النبوة الملك، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيها على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال. الوجه الثاني: أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمدا خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر. الوجه الثالث: أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب
بعد التوراة فكذبهم الله بقوله: وآتينا داود زبورا ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلّى الله عليه وسلّم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة، وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أن يفضل محمدا صلّى الله عليه وسلّم على جميع الخلائق ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. قوله عز وجل قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم ليدعو لهم فقال الله عز وجل: قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ أي الجوع والقحط وَلا تَحْوِيلًا أي إلى
133
﴿ انظر كيف ضربوا لك الأمثال ﴾ أي الأشباه فقالوا : ساحر شاعر كاهن مجنون ﴿ فضلّوا ﴾ أي في جميع ذلك وحاروا ﴿ فلا يستطيعون سبيلاً ﴾ أي إلى طريق الحق.
﴿ وقالوا أئذا كنا عظاماً ﴾ أي بعد الموت ﴿ ورفاتاً ﴾ أي تراباً وقيل : الرفات هي الأجزاء المتفتتة من كل شيء تكسر ﴿ أئنا لمبعوثون خلقاً جديداً ﴾ فيه أنهم استبعدوا الإعادة بعد الموت والبلى.
قال سبحانه وتعالى ﴿ قل ﴾ أي قل يا محمد ﴿ كونوا حجارة ﴾ أي في الشدة ﴿ أو حديداً ﴾ أي في القوة وليس هذا بأمر إلزام بل هو أمر تعجيزي أي استشعروا في قلوبكم، أنكم حجارة أو حديد في القوة.
﴿ أو خلقاً مما يكبر في صدوركم ﴾ قيل : يعني السماء والأرض والجبال لأنها أعظم المخلوقات. وقيل : يعني به الموت لأنه لا شيء في نفس ابن آدم أكبر من الموت، ومعناه لو كنتم الموت بعينه لأميتنكم ولأبعثنكم ﴿ فسيقولون من يعيدنا ﴾ أي من يبعثنا بعد الموت ﴿ قل الذي فطركم ﴾ أي خلقكم ﴿ أول مرة ﴾ فمن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة ﴿ فسينغضون إليك رؤوسهم ﴾ أي يحركونها إذا قلت لهم ذلك مستهزئين بما تقول ﴿ ويقولون متى هو ﴾ يعني البعث والقيامة ﴿ قل عسى أن يكون قريباً ﴾ أي هو قريب.
﴿ يوم يدعوكم ﴾ أي من قبوركم إلى موقف القيامة ﴿ فتستجيبون بحمده ﴾ قال ابن عباس : بأمره وقيل بطاعته وقيل مقرين بأنه خالقهم وباعثهم ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وقيل : هذا خطاب مع المؤمنين فإنهم يبعثون حامدين ﴿ وتظنون إن لبثتم ﴾ أي في الدنيا وقيل في القبور ﴿ إلا قليلاً ﴾ وذلك لأن الإنسان لو مكث في الدنيا وفي القبر ألوفاً من السنين، عد ذلك قليلاً بنسبة مدة القيامة والخلود في الآخرة، وقيل : إنهم يستحقرون مدة الدنيا في جنب القيامة.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن ﴾ وذلك أن المشركين كانوا يؤذون المسلمين، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عز وجل. وقل لعبادي يقولوا يعني للكفار التي هي أحسن، أي لا يكافئوهم على سفههم بل يقولون لهم يهديكم الله وكان هذا قبل الإذن في القتال والجهاد. وقيل : نزلت في عمر بن الخطاب وذلك أنه شتمه بعض الكفار، فأمره الله بالعفو. وقيل : أمر الله المؤمنين أن يقولوا ويفعلوا الخلة التي هي أحسن وقيل الأحسن كلمة الإخلاص لا إله إلا الله ﴿ إن الشيطان ينزغ بينهم ﴾ أي يفسد ويلقي العداوة بينهم ﴿ إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً ﴾ أي ظاهر العداوة.
قوله عز وجل :﴿ ربكم أعلم بكم إن شاء يرحمكم ﴾ أي يوفقكم للإيمان فتؤمنوا ﴿ أو إن يشأ يعذبكم ﴾ أي يميتكم على الشرك فتعذبوا، وقيل معناه إن يشأ يرحمكم فينجيكم من أهل مكة، وإن يشأ يعذبكم أي يسلطهم عليكم ﴿ وما أرسلناك عليهم وكيلاً ﴾ أي حفيظاً وكفيلاً قيل : نسختها آية القتال.
﴿ وربك أعلم بمن في السموات والأرض ﴾ يعني أن علمه غير مقصور عليكم بل علمه متعلق بجميع الموجودات والمعدومات ومتعلق بجميع ذات الأرضين والسموات، ويعلم حال كل أحد ويعلم ما يليق به من المصالح والمفاسد وقيل : معناه أنه عالم بأحوالهم واختلاف صورهم وأخلاقهم ومللهم وأديانهم ﴿ ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ﴾ وذلك أنه اتخذ إبراهيم خليلاً وكلم موسى تكليماً، وقال لعيسى : كن فكان وآتى سليمان ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده وآتى داود زبوراً وذلك قوله تعالى ﴿ وآتينا داود زبوراً ﴾ وهو كتاب أنزله الله على داود يشتمل على مائة وخمسون سورة، كلها دعاء وثناء على الله تعالى وتحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ولا أحكام. فإن قلت : لم خص داود في هذه الآية بالذكر دون غيره من الأنبياء ؟ قلت : فيه وجوه : أحدها أن الله ذكر أنه فضل بعض النبيين على بعض ثم قال تعالى : وآتينا داود زبوراً وذلك أن داود أعطي من النبوة الملك، فلم يذكره بالملك وذكر ما آتاه من الكتاب تنبيهاً على أن الفضل المذكور في هذه الآية المراد به العلم لا الملك والمال. الوجه الثاني : أن الله سبحانه وتعالى كتب له في الزبور أن محمداً خاتم الأنبياء، وأن أمته خير الأمم فلهذا خصه بالذكر. الوجه الثالث : أن اليهود زعمت أن لا نبي بعد موسى، ولا كتاب بعد التوراة فكذبهم الله بقوله : وآتينا داود زبوراً ومعنى الآية أنكم لن تنكروا تفضيل النبيين، فكيف تنكرون تفضيل النبي صلى الله عليه سلم وإعطاءه القرآن وأن الله آتى موسى التوراة، وداود الزبور وعيسى الإنجيل فلم يبعد أن يفضل محمد صلى الله عليه وسلم على جميع الخلائق ﴿ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ﴾ وهذا خطاب مع من يقر بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
قوله عز وجل ﴿ قل ادعوا الذين زعمتم من دونه ﴾ وذلك أن الكفار أصابهم قحط شديد حتى أكلوا الكلاب والجيف، فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فقال الله عز وجل : قل ادعوا الذين زعمتم أنهم آلهة من دونه ﴿ فلا يملكون كشف الضر عنكم ﴾ أي الجوع والقحط ﴿ ولا تحويلاً ﴾ أي إلى غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومقصود الآية الرد على المشركين، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن نعبد المقربين إليه، وهم الملائكة.
ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالاً وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم.
ثم قال تعالى ﴿ أولئك الذين يدعون ﴾ أي الذين يدعون المشركون آلهة ﴿ يبتغون إلى ربهم الوسيلة ﴾ أي القربة والدرجة العليا. قال ابن عباس : هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم. وقال عبد الله بن مسعود : نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية. قوله تعالى ﴿ أيهم أقرب ﴾ معناه، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل : أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة ﴿ ويرجون رحمته ﴾ أي جنته ﴿ ويخافون عذابه ﴾ وقيل : معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة ﴿ إن عذاب ربك كان محذوراً ﴾ أي حقيقاً بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب، ونبي مرسل فضلاً عن غيرهم من الخلائق.
غيركم أو تحويل الحال من العسر إلى اليسر، ومقصود الآية الرد على المشركين، حيث قالوا ليس لنا أهلية أن نشتغل بعبادة الله فنحن نعبد المقربين إليه، وهم الملائكة. ثم إنهم اتخذوا لذلك الملك الذي عبدوه تمثالا وصورة وقد اشتغلوا بعبادته فاحتج على بطلان قولهم بهذه الآية وبين عجز آلهتهم ثم قال تعالى أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ أي الذين يدعون المشركون آلهة يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أي القربة والدرجة العليا. قال ابن عباس:
هم عيسى وأمه وعزير والملائكة والشمس والقمر والنجوم. وقال عبد الله بن مسعود: نزلت هذه الآية في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرا من الجن فأسلم أولئك الجن، ولم يعلم الإنس بذلك فتمسكوا بعبادتهم فعيرهم الله وأنزل هذه الآية. قوله تعالى أَيُّهُمْ أَقْرَبُ معناه، ينظرون أيهم أقرب إلى الله فيتوسلون به، وقيل: أيهم أقرب يبتغي الوسيلة إلى الله، ويتقرب إليه بالعمل الصالح وازدياد الخير والطاعة وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ أي جنته وَيَخافُونَ عَذابَهُ وقيل: معناه يرجون ويخافون كغيرهم من عباد الله فكيف يزعمون أنهم آلهة إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً أي حقيقا بأن يحذره كل أحد من ملك مقرب، ونبي مرسل فضلا عن غيرهم من الخلائق. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٥٨ الى ٦٤]
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (٥٨) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (٥٩) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (٦٠) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (٦١) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (٦٢)
قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (٦٣) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (٦٤)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أي بالموت والخراب أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً أي بالقتل وأنواع العذاب إذا كفروا وعصوا، وقيل: الإهلاك في حق المؤمنين الإماته وفي حق الكفار العذاب قال عبد الله بن مسعود: إذا ظهر الزنا والربا في قرية أذن الله في هلاكها كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ أي في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أي مكتوبا مثبتا. عن عبادة بن الصامت قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «إن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب فقال: ما أكتب قال: القدر وما هو كائن إلى يوم القيامة إلى الأبد» أخرجه الترمذي.
قوله سبحانه وتعالى وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ قال ابن عباس «سأل أهل مكة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم لا بل تستأني بهم» فأنزل الله عز وجل وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ أي التي سألها الكفار قومك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى وَآتَيْنا
134
ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً
أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم فَظَلَمُوا بِها أي جحدوا أنها من عند الله. وقيل: فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفا من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. وقيل: معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفا أي إنذارا بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون. قوله عز وجل وَإِذْ قُلْنا لَكَ أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ الأكثرون من المفسرين على أن المراد منها ما رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري. وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم. والعرب تقول: رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيمانا. وقال قوم: أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف. وقال قوم كان له معراجان: معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام. وقيل: أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعد ما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك. فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه: طعام ملعون، والفتنة فيها أن أبا جهل قال: إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلّى الله عليه وسلّم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر. وقيل: إن عبد الله بن الزبعري قال: إن محمدا يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل: يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ الآيات. فإن قلت: أين لعنت شجرة
الزقوم في القرآن؟ قلت: لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس: في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ أي التخويف إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً أي تمردا وعتوا عظيما قوله سبحانه وتعالى وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي قالَ يعني إبليس أَرَأَيْتَكَ الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ أي فضلته لَئِنْ أَخَّرْتَنِ أي أمهلتني إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ أي لأستأصلنهم بالإضلال. وقيل: معناه لأقودنهم كيف شئت. وقيل:
لأستولين عليهم بالإغواء إِلَّا قَلِيلًا يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ قالَ الله تعالى اذْهَبْ أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء فَمَنْ
135
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون ﴾ قال ابن عباس « سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً وفضة وأن ينحي الجبال عنهم ليزرعوا فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إن شئت أن أستأني بهم فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما سألوا فعلت، فإن لم يؤمنوا أهلكتهم كما أهلكت من كان قبلهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم لا بل تستأني بهم » فأنزل الله عز وجل ﴿ وما منعنا أن نرسل الآيات ﴾ أي التي سألها الكفار قومك ﴿ إلا أن كذب بها الأولون ﴾ أي فأهلكناهم فإن لم يؤمن قومك بعد إرسال الآيات أهلكناهم، لأن من سنتنا في الأمم إذا سألوا الآيات ثم لم يؤمنوا بعد إتيانها أن نهلكهم ولا نمهلهم وقد حكمنا بإمهال هذه الأمة إلى يوم القيامة، ثم ذكر من تلك الآيات التي اقترحها الأولون ثم كذبوا بها لما أرسلت فأهلكوا فقال تعالى ﴿ وآتينا ثمود الناقة مبصرة ﴾ أي بينة، وذلك لأن آثار إهلاكهم في بلاد العرب قريبة من حدودهم يبصرها صادرهم وواردهم ﴿ فظلموا بها ﴾ أي جحدوا أنها من عند الله. وقيل : فظلموا أنفسهم بتكذيبها فعاجلناهم بالعقوبة ﴿ وما نرسل بالآيات ﴾ المقترحة ﴿ إلا تخويفاً ﴾ أي وما نرسل بالآيات إلا تخويفاً من العذاب، فإن لم يخافوا وقع عليهم. وقيل : معناه وما نرسل بالآيات يعني العبر والدلالات، إلا تخويفاً إي إنذاراً بعذاب الآخرة إن لم يؤمنوا فإن الله سبحانه وتعالى يخوف الناس بما شاء من آياته لعلهم يرجعون.
قوله عز وجل ﴿ وإذ قلنا لك ﴾ أي واذكر يا محمد إذ قلنا لك ﴿ إن ربك أحاط بالناس ﴾ أي إن قدرته محيطة بهم فهم في قبضته وقدرته لا يقدرون على الخروج من مشيئته وإذا كان الأمر كذلك فهم لا يقدرون على أمر من الأمور إلا بقضائه وقدره وهو حافظك ومانعك منهم، فلا تهبهم وامض لما أمرك من التبليغ للرسالة، فهو ينصرك ويقويك على ذلك ﴿ وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس ﴾ الأكثرون من المفسرين على أن المراد منها ما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج من العجائب والآيات. قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه سلم ليلة المعراج وهي ليلة أسري به إلى بيت المقدس أخرجه البخاري. وهو قول سعيد بن جبير والحسن ومسروق وقتادة ومجاهد وعكرمة وابن جريج وغيرهم. والعرب تقول : رأيت بعيني رؤية ورؤيا فلما ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أنكر بعضهم ذلك وكذبوا فكانت فتنة للناس، وازداد المخلصون إيماناً. وقال قوم : أسري بروحه دون جسده وهو ضعيف. وقال قوم كان له معراجان : معراج رؤية عين في اليقظة ومعراج رؤيا منام. وقيل : أراد بهذه الرؤيا ما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية، أنه دخل مكة هو وأصحابه فعجل المسير إلى مكة قبل الأجل، فصده المشركون فرجع إلى المدينة فكان رجوعه في ذلك العام بعدما أخبر أنه يدخلها فتنة لبعضهم، ثم دخل مكة في العام المقبل وأنزل الله عز وجل لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق، وقيل : إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى في المنام أن ولد الحكم بن أمية يتداولون منبره كما يتداول الصبيان الكرة فساءه ذلك. فإن اعترض معترض على هذا التفسير وقال السورة مكية وهاتان الواقعتان كانتا بالمدينة أجيب بأنه لا إشكال فيه فإنه لا يبعد أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ذلك بمكة، ثم كان ذلك حقيقة بالمدينة ﴿ والشجرة الملعونة في القرآن ﴾ يعني شجرة الزقوم التي وصفها الله تعالى في سورة الصافات والعرب تقول لكل طعام كريه : طعام ملعون، والفتنة فيها أن أبا جهل قال : إن ابن أبي كبشة يعني النبي صلى الله علي وسلم توعدكم بنار تحرق الحجارة، ثم يزعم أنه تنبت فيها شجرة وتعلمون أن النار تحرق الشجر. وقيل : إن عبد الله بن الزبعري قال : إن محمداً يخوفنا بالزقوم ولا نعرف الزقوم إلا الزبد والتمر، فقال أبو جهل : يا جارية تعالي فزقمينا فأتت بزبد وتمر فقال يا قوم فإن هذا ما يخوفكم به محمد، فأنزل الله سبحانه وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر ﴿ إنا جعلناها فتنة للظالمين ﴾ الآيات. فإن قلت : أين لعنت شجرة الزقوم في القرآن ؟ قلت : لعنت حيث لعن الكفار الذين يأكلونها لأن الشجرة لا ذنب لها حتى تلعن، وإنما وصفت بلعن أصحابها على المجاز. وقيل وصفها الله تعالى باللعن لأن اللعن الإبعاد من الرحمة، وهي في أصل جهنم في أبعد مكان من الرحمة، وقال ابن عباس : في رواية عنه إن الشجرة الملعونة هي الكشوث الذي يلتوي على الشجر والشوك فيجففه ﴿ ونخوفهم فما يزيدهم ﴾ أي التخويف ﴿ إلا طغياناً كبيراً ﴾ أي تمرداً وعتواً عظيماً.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس قال أأسجد لمن خلقت طيناً ﴾ أي من طين وذلك أن آدم خلق من تراب الأرض من عذبها وملحها، فمن خلق من العذب فهو سعيد ومن خلق من الملح فهو شقي.
﴿ قال ﴾ يعني إبليس ﴿ أرأيتك ﴾ الكاف للمخاطب والمعنى أخبرني ﴿ هذا الذي كرمت علي ﴾ أي فضلته ﴿ لئن أخرتن ﴾ أي أمهلتني ﴿ إلى يوم القيامة لأحتنكن ذريته ﴾ أي لأستأصلنهم بالإضلال. وقيل : معناه لأقودنهم كيف شئت. وقيل : لأستولين عليهم بالإغواء ﴿ إلا قليلاً ﴾ يعني المعصومين الذي استثناهم الله تعالى في قوله ﴿ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ﴾.
﴿ قال ﴾ الله تعالى ﴿ اذهب ﴾ أي امض لشأنك وليس هو من الذهاب الذي هو ضد المجيء ﴿ فمن تبعك منهم فإن جهنم جزاؤكم ﴾ أي جزاؤك وجزاء أتباعك ﴿ جزاء موفوراً ﴾ أي مكملاً.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ واستفزز ﴾ أي استخفف واستزل واستعجل وأزعج ﴿ من استعطت منهم ﴾ أي من ذرية آدم ﴿ بصوتك ﴾ قال ابن عباس : معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس. وقيل : أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب ﴿ واجلب عليهم بخيلك ورجلك ﴾ أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل : معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. يقال : إن له خيلاً ورجلاً من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس. وقيل : المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك ﴿ وشاركهم في الأموال والأولاد ﴾ أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل : هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموؤودة، وقيل : أولاد الزنا. وعن ابن عباس أيضاً هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل : هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها. وقيل إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما نزل الرجل. وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال : وما المغربون قال : الذين شارك فيهم الجن. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال : إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال : ذلك من وطء الجن ﴿ وعدهم ﴾ أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل : قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا المعصية فلا بد أن يقرر أولاً أنه لا مضرة في فعلها البتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وأنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها. وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل. فإن قلت : كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول : إن الله لا يأمر بالفحشاء ؟ قلت : هذا على طريق التهديد كقوله تعالى : اعلموا ما شئتم. وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله سبحانه وتعالى ﴿ وما يعدهم الشيطان إلا غروراً ﴾ أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال : وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله : وما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غروراً.
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ
أي جزاؤك وجزاء أتباعك جَزاءً مَوْفُوراً أي مكملا. قوله سبحانه وتعالى وَاسْتَفْزِزْ أي استخف واستزل واستعجل وأزعج مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أي من ذرية آدم بِصَوْتِكَ قال ابن عباس: معناه بدعائك إلى معصية الله وكل داع إلى معصية الله فهو من جند إبليس. وقيل: أراد بصوتك الغناء والمزامير واللهو واللعب وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ أي أجمع عليهم مكايدك وحبائلك، واحثثهم على الإغواء. وقيل: معناه استعن عليهم بركبان جندك ومشاتهم. يقال: إن له خيلا ورجلا من الجن والإنس فكل من قاتل أو مشى في معصية الله، فهو من جند إبليس. وقيل: المراد منه ضرب المثل كما تقول للرجل المجد في الأمر جئتنا بخيلك ورجلك وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ أما المشاركة في الأموال فكل مال أصيب من حرام أو أنفق في حرام، وقيل هو الربا، وقيل: هو ما كانوا يذبحونه لآلهتهم ويحرمونه كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. وأما المشاركة في الأولاد فروي عن ابن عباس أنها الموءودة، وقيل: أولاد الزنا. وعن ابن عباس أيضا هي تسميتهم أولادهم بعبد العزى، وعبد الحارث وعبد شمس ونحوه، وقيل: هو أن يرغبوا أولادهم في الأديان الباطلة الكاذبة، كاليهودية والنصرانية والمجوسية ونحوها. وقيل: إن الشيطان يقعد على ذكر الرجل وقت الجماع فإذا لم يقل بسم الله أصاب معه امرأته وأنزل في فرجها كما ينزل الرجل. وروي في بعض الأخبار أن فيكم مغربين قال: وما المغربون قال: الذين شارك فيهم الجن. وعن ابن عباس أنه سأله رجل فقال: إن امرأتي استيقظت وفي فرجها شعلة نار قال: ذلك من وطء الجن وَعِدْهُمْ أي منهم الجميل في طاعتك، وقيل: قل لهم لا جنة ولا نار ولا بعث، وذلك أن الشيطان إذا دعا إلى المعصية فلا بد أن يقرر أولا أنه لا مضرة في فعلها البتة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال له لا معاد ولا جنة ولا نار ولا حياة بعد هذه الحياة، فيقرر عند المدعو أنه لا مضرة في هذه المعاصي وإذا فرغ من هذا النوع قرر عنده أن هذا الفعل يفيد أنواعا من اللذة والسرور ولا حياة للإنسان في الدنيا إلا به، فهذا طريق الدعوة إلى المعصية ثم ينفره عن فعل الطاعات وهو أنه يقرر عنده أن لا جنة ولا نار ولا عقاب فلا فائدة فيها. وقيل معنى عدهم أي شفاعة الأصنام عند الله وإيثار العاجل على الأجل. فإن قلت: كيف ذكر الله هذه الأشياء بصيغة الأمر، والله سبحانه وتعالى يقول: إن الله لا يأمر بالفحشاء؟ قلت: هذا على طريق التهديد كقوله تعالى: اعملوا ما شئتم. وكقول القائل اجتهد جهدك فسترى ما ينزل بك. وقوله سبحانه وتعالى وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً أي يزين الباطل بما يظن أنه حق واعلم أن الله سبحانه وتعالى لما قال:
وعدهم، أردفه بما هو زاجر عن قبول وعده بقوله: وما يعدهم الشيطان إلا غرورا والسبب فيه أنه إنما يدعو إلى قضاء الشهوة وطلب الرياسة ونحو ذلك، ولا يدعو إلى معرفة الله تعالى، ولا إلى عبادته وتلك الأشياء التي يدعو إليها خيالية لا حقيقة لها ولا تحصل إلا بعد متاعب ومشاق عظيمة، وإذا حصلت كانت سريعة الذهاب والانقضاء وينغصها الموت والهرم وغير ذلك، وإذا كانت هذه الأشياء بهذه الصفة كانت الرغبة فيها غرورا.
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٦٥ الى ٦٩]
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (٦٥) رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (٦٦) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (٦٧) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (٦٨) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (٦٩)
إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ يعني بعبادة الأنبياء وأهل الفضل والصلاح لأنه لا يقدر على إغوائهم
قوله ﴿ ربكم الذين يزجي ﴾ أي يسوق ويجري ﴿ لكم الفلك ﴾ أي السفن ﴿ في البحر لتبتغوا من فضله ﴾ أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها ﴿ إنه كان بكم رحيماً ﴾ أي حيث يسر لكم هذه المنافع، والمصالح وسهلها عليكم.
﴿ وإذا مسكم الضر في البحر ﴾ أي الشدة وخوف الغرق في البحر ﴿ ضل من تدعون ﴾ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها ﴿ إلا إياه ﴾ أي إلا الله وحده فإنكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم﴿ فلما نجاكم ﴾ أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم ﴿ إلى البر أعرضتم ﴾ أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى ﴿ وكان الإنسان كفوراً ﴾ أي جحوداً.
﴿ أفأمنتم ﴾ أي بعد إنجائكم ﴿ أن يخسف بكم جانب البر ﴾ أي تغوره. والمعنى : أن الجهات كلها له، وفي قدرته براً كان أو بحراً بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء ﴿ أو يرسل عليكم حاصباً ﴾ أي نمطر عليكم حجارة من السماء، كما أمطرناها على قوم لوط ﴿ ثم لا تجدوا لكم وكيلاً ﴾ أي مانعاً وناصراً.
﴿ أم أمنتم أن يعيدكم فيه ﴾ أي في البحر ﴿ تارة ﴾ أي مرة ﴿ أخرى فيرسل عليكم قاصفاً من الريح ﴾ قال ابن عباس : أي عاصفاً وهي الريح الشديدة. وقيل : الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره ﴿ فيغرقكم بما كفرتم ﴾ أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم ﴿ ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعاً ﴾ التبيع المطالب. والمعنى : أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحداً يطالبنا بما فعلنا انتصاراً لكم ودركاً للثأر من جهتنا. وقيل : معناه من يتبعنا بالإنكار علينا.
وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي حافظا. والمعنى: أنه سبحانه وتعالى لما أمكن إبليس أن يأتي بما يقدر عليه من الوسوسة كان ذلك سببا لحصول الخوف في قلب الإنسان، قال تعالى وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا أي فالله سبحانه وتعالى أقدر منه وأرحم بعباده فهو يدفع عنهم كيد الشيطان ووساوسه، ويعصمهم من إغوائه وإضلاله. وفي بعض الآثار أن إبليس لما خرج إلى الأرض قال: يا رب أخرجتني من الجنة لأجل آدم فسلطني عليه وعلى ذريته قال: أنت مسلط. قال: لا أستطيعه إلا بك فزدني. قال: استفزز من استطعت منهم الآية. فقال آدم: يا رب سلطت إبليس علي وعلى ذريتي وإني لا أستطيعه إلا بك قال: لا يولد لك ولد إلا وكلت به من يحفظه قال رب زدني قال الحسنة بعشر أمثالها والسيئة بمثلها قال رب زدني قال: التوبة معروضة ما دام الروح في الجسد قال رب زدني فقال يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله الآية. وفي الخبر قال إبليس: يا رب بعثت أنبياء وأنزلت كتبا فما قراءتي؟ قال: الشعر. قال: فما كتابتي؟ قال: الوشم، قال: ومن رسلي؟ قال الكهنة.
قال: أي شيء مطعمي؟ قال ما لم يذكر عليه اسمي قال فما شرابي قال كل مسكر قال: وأين مسكني؟ قال الحمامات- قال- وأين مجلسي؟ قال في الأسواق قال: وما حبائلي قال: النساء قال: وما أذاني؟ قال المزمار.
قوله رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي أي يسوق ويجري لَكُمُ الْفُلْكَ أي السفن فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي لتطلبوا من رزقه بالأرباح في التجارة وغيرها إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي حيث يسر لكم هذه المنافع، والمصالح وسهلها عليكم وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ أي الشدة وخوف الغرق في البحر ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ أي ذهب عن أوهامكم وخواطركم كل من تدعون في حوادثكم من الأصنام وغيرها إِلَّا إِيَّاهُ أي إلا الله وحده فإنكم لا تذكرون سواه ولا يخطر ببالكم غيره لأنه القادر على إعانتكم ونجاتكم فَلَمَّا نَجَّاكُمْ أي أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر وشدته وأخرجكم إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ أي عن الإيمان والإخلاص والطاعة، وكفرتم النعمة وهو قوله تعالى وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً أي جحودا أَفَأَمِنْتُمْ أي بعد إنجائكم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أي تغوره. والمعنى: أن الجهات كلها له، وفي قدرته برا كان أو بحرا بل إن كان الغرق في البحر ففي جانب البر ما هو مثله وهو الخسف لأنه يغيب تحت الثرى كما أن الغرق يغيب تحت الماء أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي نمطر عليكم حجارة من السماء، كما أمطرناها على قوم لوط ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا أي مانعا وناصرا أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي في البحر تارَةً أي مرة أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ قال ابن عباس: أي عاصفا وهي الريح الشديدة. وقيل: الريح التي تقصف كل شيء من شجر وغيره فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ أي بكفرانكم النعمة وإعراضكم حين أنجيناكم ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً التبيع المطالب.
والمعنى: أنا نفعل ما نفعل بكم ثم لا تجدون لكم أحدا يطالبنا بما فعلنا انتصارا لكم ودركا للثأر من جهتنا.
وقيل: معناه من يتبعنا بالإنكار علينا. قوله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٧٠ الى ٧١]
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (٧٠) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧١)
وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ قال ابن عباس: هو أنهم يأكلون بالأيدي وغير الآدمي يأكل بفيه من الأرض وقال أيضا بالعقل وقيل بالنطق والتمييز والخط والفهم، وقيل باعتدال القامة وامتدادها وقيل بحسن الصورة وقيل:
الرجال باللحى والنساء بالذوائب. وقيل: بتسليطهم على جميع ما في الأرض وتسخيره لهم وقيل: بحسن تدبيرهم أمر المعاش والمعاد. وقيل بأن منهم خير أمة أخرجت للناس وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ أي على الإبل
قوله عز وجل :﴿ يوم ندعو كل أناس بإمامهم ﴾ أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس : إمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر. وقيل : بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا ﴿ فمن أوتي كتابه بيمينه فأولئك يقرؤون كتابهم ﴾ فإن قلت : لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أن أصحاب الشمال يقرؤونه أيضاً. قلت : الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملاً على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملاً على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها ﴿ ولا يظلمون فتيلاً ﴾ أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء.
والخيل والحمير وَالْبَحْرِ أي وحملناهم في البحر على السفن، وهذا من مؤكدات التكريم لأن الله تعالى سخر لهم هذه الأشياء لينتفعوا بها، ويستعينوا بها على مصالحهم وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ يعني لذيذ المطاعم والمشارب وقيل الزبد والتمر والحلواء، وجعل رزق غيرهم مما لا يخفى، وقيل: إن جميع الأغذية إما نباتية وإما حيوانية ولا يتغذى الإنسان إلا بأطيب القسمين بعد الطبخ الكامل والنضج التام ولا يحصل هذا لغير الإنسان وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا واعلم أن الله تعالى قال في أول الآية: ولقد كرمنا بني آدم وفي آخرها وفضلناهم، ولا بد من الفرق بين التكريم والتفضيل والإلزام التكرار والأقرب أن يقال: إن الله تعالى كرم الإنسان على سائر الحيوان بأمور خلقية ذاتية طبيعية، مثل العقل والنطق والخط وحسن الصورة، ثم إنه سبحانه وتعالى عرفه بواسطة ذلك العقل والفهم اكتساب العقائد الصحيحة والأخلاق الفاضلة، فالأول هو التكريم والثاني هو التفضيل. ثم قال سبحانه وتعالى: على كثير ممن خلقنا تفضيلا. ظاهر الآية يدل على أنه فضل بني آدم على كثير ممن خلق لا على الكل فقال: قوم فضلوا على جميع الخلق إلا على الملائكة وهذا مذهب المعتزلة. وقال الكلبي: فضلوا على الخلائق كلهم إلا على طائفة من الملائكة مثل جبريل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل وأشباههم. وقيل: فضلوا على جميع الخلائق وعلى الملائكة كلهم. فإن قلت: كيف تصنع بكثير؟ قلت: يوضع الأكثر موضع الكل كقوله تعالى يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ أراد كلهم وفي الحديث عن جابر يرفعه قال:
«لما خلق الله آدم وذريته قالت الملائكة يا رب خلقتهم يأكلون ويشربون وينكحون فاجعل لهم الدنيا، ولنا الآخرة فقال: لا أجعل من خلقته بيدي ونفخت فيه من روحي كمن قلت له كن فكان» وقيل بالتفضيل وهو الأولى والراجح أن خواص بني آدم وهم الأنبياء أفضل من خواص الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر من بني آدم، وهذا التفضيل إنما هو بين الملائكة والمؤمنين من بني آدم لأن الكفار لا حرمة لهم قال الله سبحانه وتعالى إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال:
المؤمن أكرم على الله تعالى من الملائكة الذين عنده. قوله عز وجل يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ أي بنبيهم وقيل بكتابهم الذي أنزل عليهم، وقيل بكتاب أعمالهم وعن ابن عباس: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إما إلى هدى وإما إلى ضلالة وذلك أن كل قوم يجتمعون إلى رئيسهم في الخير والشر. وقيل: بمعبودهم وقيل بإمامهم جمع أم يعني بأمهاتهم والحكمة فيه رعاية حق عيسى عليه السلام وإظهار شرف الحسن والحسين رضي الله تعالى عنهما، وأن لا يفتضح أولاد الزنا فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ فإن قلت: لم خص أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أن أصحاب الشمال يقرءونه أيضا. قلت: الفرق أن أصحاب الشمال إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملا على مشكلات عظيمة فيستولي عليهم الخجل والدهشة فلا يقدرون على إقامة حروفه فتكون قراءتهم كلا قراءة، وأصحاب اليمين إذا طالعوا كتابهم وجدوه مشتملا على الحسنات والطاعات فيقرؤونه أحسن قراءة وأبينها وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا أي ولا ينقصون من ثواب أعمالهم أدنى شيء.
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٧٢ الى ٧٦]
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (٧٢) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (٧٣) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (٧٤) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (٧٥) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (٧٦)
وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى المراد عمى القلب والبصيرة لا عمى البصر. والمعنى: ومن كان في هذه الدنيا أعمى، أي عن هذه النعم التي قد عدها في هذه الآيات المتقدمة فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أي التي لم تعاين ولم تر
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك ﴾ قيل في سبب نزولها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش وقالوا : لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر. وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس : قد وفد ثقيف على النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. قال : وما هن ؟ قالوا : لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني و لا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلى الله عليه وسلم :« لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها » قالوا : يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا -أي هموا- ليفتنونك -أي ليصرفونك- عن الذي أوحينا إليك ﴿ لتفتري ﴾ أي لتختلق وتبتعث ﴿ علينا غيره ﴾ ما لم تقله ﴿ وإذاً ﴾ أي لو فعلت ما دعوك إليه ﴿ لاتخذوك خليلاً ﴾ أي والوك ووافوك وصافوك.
﴿ ولولا أن ثبتناك ﴾ أي على الحق بعصمتنا إياك ﴿ لقد كدت تركن ﴾ أي تميل ﴿ إليهم شيئاً قليلاً ﴾ أي قربت من الفعل. فإن قلت كان النبي صلى الله عليه وسلم معصوماً فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه. قلت : كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزماً وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد ذلك « اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين »، والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم.
﴿ إذاً لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات ﴾ أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ﴿ ثم لا تجد لك علينا نصيراً ﴾ أي ناصراً يمنعك من عذابنا.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ﴾ قيل : هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة، وذلك حسداً فأتوه فقالوا : يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض أنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، فإن كنت نبياً مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلى الله عليه وسلم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى : همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية. وقيل : همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الإزعاج ﴿ وإذاً لا يلبثون خلافك إلا قليلاً ﴾ إي لا يبقون بعد إخراجك إلا زماناً قليلاً حتى يهلكوا.
أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا قاله ابن عباس: وقيل معناه ومن كان في هذه الدنيا أعمى القلب عن رؤية قدرة الله وآياته ورؤية الحق فهو في الآخرة أعمى أي أشد عمى وأضل سبيلا، أي أخطأ طريقا. وقيل: معناه ومن كان في الدنيا كافرا ضالا، فهو في الآخرة أعمى لأنه في الدنيا تقبل توبته، وفي الآخرة لا تقبل توبته. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قيل في سبب نزولها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريش وقالوا: لا ندعك حتى تلم بآلهتنا وتمسها فحدث نفسه ما علي أن أفعل ذلك، والله يعلم إني لها كاره بعد أن يدعوني أستلم الحجر. وقيل طلبوا منه أن يذكر آلهتهم حتى يسلموا، ويتبعوه فحدث نفسه فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس: قد وفد ثقيف على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصال. قال: وما هن؟ قالوا: لا نحبي في الصلاة أي لا ننحني ولا نكسر أصنامنا بأيدينا وأن تمتعنا باللات سنة من غير أن نعبدها فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: لا خير في دين لا ركوع فيه ولا سجود، وأما أن لا تكسروا أصنامكم بأيديكم، فذاك لكم وأما الطاغية يعني اللات والعزى فإني غير ممتعكم بها قالوا: يا رسول الله إنا نحب أن تسمع العرب أنك أعطيتنا ما لم تعط غيرها فإن خشيت أن تقول العرب أعطيتهم ما لم تعطنا فقل الله أمرني بذلك فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم فطمع القوم في سكوته أن يعطيهم ذلك فأنزل الله تعالى وإن كادوا- أي هموا- ليفتنونك- أي ليصرفونك- عن الذي أوحينا إليك لِتَفْتَرِيَ أي لتختلق وتبتعث عَلَيْنا غَيْرَهُ ما لم تقله وَإِذاً أي لو فعلت ما دعوك إليه لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا أي والوك ووافوك وصافوك وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ أي على الحق بعصمتنا إياك لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ أي تميل إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا أي قربت من الفعل. فإن قلت كان النبي صلّى الله عليه وسلّم معصوما فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه.
قلت: كان ذلك خاطر قلب ولم يكن عزما وقد عفا الله تعالى عن حديث النفس وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول بعد ذلك «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» والجواب الصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى قال ولولا أن ثبتناك وقد ثبته الله فلم يركن إليهم إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ أي لو فعلت لأذقناك عذاب الحياة وضعف عذاب الممات يعني ضعفنا لك العذاب في الدنيا والآخرة ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً أي ناصرا يمنعك من عذابنا. قوله سبحانه وتعالى وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها قيل: هذه الآية مدنية وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما قدم المدينة كره اليهود مقامه بالمدينة، وذلك حسدا فأتوه فقالوا: يا أبا القاسم لقد علمت ما هذه بأرض أنبياء، وإن أرض الأنبياء الشام، وهي الأرض المقدسة وكان بها إبراهيم والأنبياء عليهم السلام، فإن كنت نبيا مثلهم فأت الشام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافة الروم، وإن الله سيمنعك من الروم إن كنت رسوله فعسكر النبي صلّى الله عليه وسلّم على ثلاثة أميال من المدينة وفي رواية إلى ذي الحليفة حتى يجتمع إليه أصحابه، فيخرج فأنزل الله هذه الآية فالأرض هنا أرض المدينة، وقيل الأرض أرض مكة والآية مكية والمعنى: همّ المشركون أن يخرجوه منها فكفهم الله عنه حتى أمره بالخروج للهجرة فخرج بنفسه وهذا أليق بالآية لأن ما قبلها خبر عن أهل مكة والسورة مكية. وقيل: همّ المشركون كلهم وأرادوا أن يستفزوه من أرض العرب باجتماعهم وتظاهرهم عليه فمنع الله رسوله ولم ينالوا منه ما أملوه والاستفزاز الإزعاج وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا أي لا يبقون بعد إخراجك إلا زمانا قليلا حتى يهلكوا. قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٧٧ الى ٧٩]
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (٧٧) أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (٧٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (٧٩)
سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا يعني أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم فسنة الله أن
139
يهلكهم وأن لا يعذبهم مادام نبيهم بينهم فإذا خرج من بين أظهرهم عذبهم وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا أي تبديلا.
قوله سبحانه وتعالى أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ روي عن ابن مسعود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي. قال ابن عباس وابن عمر وجابر: هو زوال الشمس. وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين. ومعنى اللفظ: يجمعهما، لأن أصل الدلوك الميل والشمس: تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين: لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس: بدو الليل وهذا يتناول المغرب والعشاء وَقُرْآنَ الْفَجْرِ يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار (خ). عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءا وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر ثم يقول أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهودا. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره: هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل. قوله سبحانه وتعالى وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ أي قم بعد نومك، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم. والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا نِصْفَهُ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخا في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وبقي الوجوب ثابتا في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل قوله تعالى نافِلَةً لَكَ أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل» وقيل: إن الوجوب صار منسوخا في حقه كما في حق الأمة: فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال: نافلة لك ولم يقل عليك. فإن قلت: ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلّى الله عليه وسلّم؟ قلت: فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلّى الله عليه وسلّم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات.

فصل


في الأحاديث الواردة في قيام الليل (ق) عن المغيرة بن شعبة قال: «قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى انتفخت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ قال: أفلا أكون عبدا شكورا» (م) عن زيد بن خالد الجهني: قال لأرمقن صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقام فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود (ق)، «عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشرة ركعة يصلي أربعا، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثا، قالت عائشة: فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة: إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي» (ق) عنها قالت «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلي فيما بين أن يفرغ من
140
صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة» (خ) عنها قالت: «كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين» عن عوف بن مالك الأشجعي قال: «قمت مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه. سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة النساء» أخرجه أبو داود النسائي. «عن عائشة قالت: قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بآية من القرآن ليلة» أخرجه الترمذي (ق) عن الأسود قال: «سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج» عن أنس قال: «ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الليل مصليا إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائما إلا رأيناه» أخرجه النسائي. زاد في رواية غيره قال: «وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئا ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئا». وقوله عز وجل: عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظة عسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنسانا في شيء ثم أحرمه كان ذلك عارا عليه والله أكرم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه. والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون (ق) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبأت دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئا» (م) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشرا ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة» (م) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة» (ق) عن أنس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى
ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول: لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحا أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحا فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلا فيأتون إبراهيم، فيقول: لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول: لست هناكم ولكن ائتوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته، وقعت ساجدا فيدعني ما شاء فيقال: يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجدا فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي: ارفع يا محمد رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حدا فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود»
وفي رواية للبخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا، قال وهذا المقام المحمود
141
الذي وعده نبيكم صلّى الله عليه وسلّم زاد في رواية «فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة» قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال: هيا، فقلنا: لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم، ثم قال:
ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجدا فيقال لي يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال: ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قوله: وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي. عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول: إني أذنبت ذنبا عظيما فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحا فيأتون نوحا فيقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفسا ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول: إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمدا فيأتوني فأنطلق معهم» قال: ابن جدعان: قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها، فيقال من هذا؟ فيقال: محمد فيفتحون لي ويقولون مرحبا فأخرج ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى: عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. قال سفيان: ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فاقعقعها فيقال: من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون: مرحبا فأخر ساجدا فيلهمني الله من الثناء والحمد» أخرجه الترمذي. قوله: ما حل المماحلة: المخاصمة والمجادلة. والمعنى: أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه. قوله: فاقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت. عن أنس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أنا أول الناس خروجا إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر» أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي: وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور» (م) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع» زاد الترمذي، قال: «أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري. عنه عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال: إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده فيه أهل الجمع كلهم (م) عن يزيد بن صهيب قال:
كنت قد شغفني رأي من رأي الخوارج فخرجنا في عصابة ذوي عدد نريد أن نحج ثم نخرج على الناس قال:
فمررنا على المدينة فإذا جابر بن عبد الله جالس إلى سارية يحدث عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وإذا هو قد ذكر الجهنميين فقلت يا صاحب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما هذا الذي تحدثونه والله يقول إنك من تدخل النار فقد أخزيته وكلما أرادوا أن
142
قوله سبحانه وتعالى ﴿ أقم الصلاة لدلوك الشمس ﴾ وروي عن ابن مسعود أنه قال الدلوك الغروب وهو قول النخعي ومقاتل والضحاك والسدي. قال ابن عباس وابن عمر وجابر : هو زوال الشمس. وهو قول عطاء وقتادة ومجاهد والحسن وأكثر التابعين. ومعنى اللفظ : يجمعهما، لأن أصل الدلوك الميل والشمس : تميل إذا زالت وإذا غربت والحمل على الزوال أولى القولين : لكثرة القائلين به وإذا حملناه عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلها فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر ﴿ إلى غسق الليل ﴾ أي ظهور ظلمته وقال ابن عباس : بدو الليل وهذا يتناول المغرب والعشاء ﴿ وقرآن الفجر ﴾ يعني صلاة الفجر سمى الصلاة قرآنا لأنها لا تجوز إلا بالقرآن ﴿ إن قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ أي يشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ( خ ). عن أبي هريرة قال :« سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تفضل صلاة الجمع صلاة أحدكم وحده بخمس وعشرين جزءاً وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » ثم يقول أبو هريرة : اقرؤوا إن شئتم إن قرآن الفجر كان مشهوداً. قال الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره : هذا دليل قاطع قوي على أن التغليس أفضل من التنوير لأن الإنسان، إذا شرع فيها من أول الصبح ففي ذلك الوقت الظلمة باقية فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثم إذا امتدت الصلاة بسبب ترتيل القرآن وتكثيرها زالت الظلمة وظهر الضوء، وحضرت ملائكة النهار أما إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت الإسفار فهناك لم يبق أحد من ملائكة الليل، فلا يحصل المعنى المذكور في الآية فثبت أن قوله تعالى ﴿ إن قرآن الفجر كان مشهوداً ﴾ دليل على أن الصلاة في أول وقتها أفضل.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ ومن الليل فتهجد به ﴾ أي قم بعد نومك، والتهجد لا يكون إلا بعد القيام من النوم. والمراد من الآية قيام الليل للصلاة، وكانت صلاة الليل فريضة على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الأمة في الابتداء لقوله تعالى ﴿ يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه ﴾ ثم نزل التخفيف فصار الوجوب منسوخاً في حق الأمة بالصلوات الخمس، وبقي قيام الليل على الاستحباب بدليل قوله تعالى ﴿ فاقرؤوا ما تيسر منه ﴾ وبقي الوجوب ثابتاً في حق النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله تعالى ﴿ نافلة لك ﴾ أي زيادة لك يريد فريضة زائدة على سائر الفرائض التي فرضها الله عليك روي عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :« ثلاث هن عليّ فريضة وهن سنة لكم الوتر والسواك وقيام الليل » وقيل : إن الوجوب صار منسوخاً في حقه كما في حق الأمة : فصار قيام الليل نافلة لأن الله سبحانه وتعالى قال : نافلة لك ولم يقل عليك. فإن قلت : ما معنى التخصيص إذا كان زيادة في حق المسلمين كما في حقه صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : فائدة التخصيص أن النوافل كفارات لذنوب العباد والنبي صلى الله عليه وسلم، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فكانت له نافلة وزيادة في رفع الدرجات.

فصل


في الأحاديث الواردة في قيام الليل ( ق ) عن المغيرة بن شعبة قال :« قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى انفتحت قدماه فقيل له أتتكلف هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ قال : أفلا أكون عبداً شكوراً » ( م ) عن زيد بن خالد الجهني : قال لأرمقن صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوسدت عتبته أو فسطاطه فقال فصلى ركعتين خفيفتين، ثم صلى ركعتين طويلتين طويلتين طويلتين ثم صلَّى ركعتين دون اللتين قبلهما، ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم صلى ركعتين دون اللتين قبلهما ثم أوتر فذلك ثلاث عشرة ركعة لفظ أبي داود ( ق )، « عن أبي سلمة عبد الرحمن أنه سأل عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ؟ قالت : ما كان يزيد في رمضان ولا في غيره على أكثر من إحدى عشر ركعة يصلي أربعاً، فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ثم يصلي ثلاثاً، قالت عائشة : فقلت يا رسول الله أتنام قبل أن توتر فقال يا عائشة : إنّ عيني تنامان ولا ينام قلبي » ( ق ) عنها قالت « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي فيما بين أن يفرغ من صلاة العشاء إلى الفجر إحدى عشر ركعة يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة، ويسجد سجدتين قدر ما يسجد، ويقرأ أحدكم خمسين آية قبل أن يرفع رأسه فإذا سكت المؤذن من صلاة الفجر، وتبين له الفجر قام فركع ركعتين خفيفتين ثم اضطجع على شقه الأيمن حتى يأتيه المؤذن للإقامة » ( خ ) عنها قالت :« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته بركعتين خفيفتين » عن عوف بن مالك الأشجي قال :« قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام فقرأ سورة البقرة لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ولا يمر بآية عذاب، إلا وقف وتعوذ ثم ركع بقدر قيامه، يقول في ركوعه. سبحانه ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة، ثم سجد بقدر قيامه ثم قال في سجوده مثل ذلك ثم قام فقرأ بآل عمران ثم قرأ سورة النساء « أخرجه أبو داود النسائي » عن عائشة قالت :«قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بآية من القرآن ليلة » أخرجه الترمذي ( ق ) عن الأسود قال :«سألت عائشة كيف كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل قالت كان ينام أوله ويقوم آخره فيصلي ثم يرجع إلى فراشه، فإذا أذن المؤذن وثب، فإن كانت به حاجة اغتسل وإلا توضأ وخرج » عن أنس قال :«ما كنا نشاء أن نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الليل مصلياً إلا رأيناه ولا نشاء أن نراه نائماً إلا رأيناه » أخرجه النسائي. زاد في رواية غيره قال :«وكان يصوم من الشهر حتى نقول لا يفطر منه شيئاً ويفطر حتى نقول لا يصوم منه شيئاً ». وقوله عز وجل :﴿ عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً ﴾ أجمع المفسرون على أن عسى من الله واجب وذلك لأن لفظه عيسى تفيد الإطماع ومن أطمع إنساناً في شيء ثم أحرمه كان ذلك عاراً عليه والله أكرم من أن يطمع أحداً ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه. والمقام المحمود هو مقام الشفاعة لأنه يحمده فيه الأولون والآخرون ( ق ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :«إن لكل نبي دعوة مستجابة وإني اختبات دعوتي شفاعة لأمتي، فهي نائلة منكم إن شاء الله من مات لا يشرك بالله شيئاً » ( م ) عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :«إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا عليّ فمن صلى عليّ صلاة صلى الله عليه بها عشراً ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تبتغى إلا لعبد من عباد الله وأرجو أن أكون أنا هو فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة » ( م ) عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :» من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة « ( ق ) عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :«يجمع الله الناس يوم القيامة فيهتمون لذلك وفي رواية فيلهمون لذلك فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا، فيريحنا من مكاننا فيأتون آدم فيقولون أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، وأسكنك جنته وأسجد لك ملائكته وعلمك أسماء كل شيء اشفع لنا عند ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا فيقول : لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا نوحاً أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض فيأتون نوحاً فيقول لست هناكم فيذكر خطيئته التي أصاب، فيستحي ربه منها ولكن ائتوا إبراهيم الذي اتخذه الله خليلاً فيأتون إبراهيم، فيقول : لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا موسى الذي كلمه الله، وأعطاه التوراة قال فيأتون موسى فيقول لست هناكم ويذكر خطيئته التي أصاب فيستحي ربه منها، ولكن ائتوا عيسى روح الله وكلمته فيأتون عيسى روح الله وكلمته فيقول : لست هناكم ولكن ائتوا محمداً صلى الله عليه وسلم عبداً قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر. قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيأتوني فأستأذن على ربي تعالى فيؤذن لي فإذا أنا رأيته، وقعت ساجداً فيدعني ما شاء فيقول : يا محمد ارفع رأسك قل تسمع سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة ثم أعود فأقع ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني، ثم يقال لي : ارفع يا محمد رأسك قل تسمع، سل تعطه اشفع تشفع فأرفع رأسي فأحمد ربي بتحميد يعلمنيه ربي ثم أشفع فيحد لي حداً فأخرجهم من النار، وأدخلهم الجنة قال فلا أدري في الثالثة أو في الرابعة فأقول يا رب ما بقي في النار إلا من حبسه القرآن أي من وجب عليه الخلود » وفي رواية البخاري ثم تلا هذه الآية عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً، قال وهذا المقام المحمود الذي وعده نبيكم صلى الله عليه وسلم زاد في رواية « فقال النبي صلى الله عليه وسلم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلا الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة » قال يزيد بن زريع في حديث شعبة ذرة وفي رواية من إيمان مكان خير، وفي حديث معبد بن هلال العنزي عن أنس في حديث الشفاعة، وذكر نحوه وفيه فأقول يا رب أمتي أمتي فيقال انطلق فمن كان في قلبه أدنى أدنى أدنى من مثقال حبة من خردل من إيمان فأخرجه من النار فانطلق فافعل قال فلما خرجنا من عند أنس، مررنا بالحسن فسلمنا عليه فحدثناه بالحديث إلى هذا الموضع فقال : هيا، فقلنا : لم يزدنا على هذا فقال لقد حدثني، وهو يومئذ جميع منذ عشرين سنة كما حدثكم، ثم قال : ثم أعود في الرابعة فأحمده بتلك المحامد ثم أخرّ له ساجداً فيقال لي يا محمد ارفع رأسك، وقل يسمع لك وسل تعط واشفع تشفع فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال : ليس ذاك لك أو قال ليس ذاك إليك ولكن وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائي، لأخرجن منها من قال لا إله إلا الله. قوله : وهو يومئذ جميع أي مجتمع الذهن والرأي. عن أبي سعيد قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أنا سيد ولد آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد، ولا فخر وما من نبي يومئذ آدم فمن سواه إلا تحت لوائي وأنا أول من تنشق عنه الأرض، ولا فخر قال فيفزع الناس ثلاث فزعات فيأتون آدم فيقولون أنت أبونا اشفع لنا إلى ربك فيقول : إني أذنبت ذنباً عظيماً فأهبطت به إلى الأرض ولكن ائتوا نوحاً فيأتون نوحاً فيقول : إني دعوت على أهل الأرض دعوة فأهلكوا ولكن اذهبوا إلى إبراهيم فيأتون إبراهيم فيقول : إني كذبت ثلاث كذبات ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دينه الله ولكن ائتوا موسى فيأتون موسى فيقول قد قتلت نفساً ولكن ائتوا عيسى فيأتون عيسى فيقول : إني عبدت من دون الله ولكن ائتوا محمداً فيأتوني فأنطلق معهم » قال : ابن جدعان : قال أنس فكأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه سلم قال فآخذ بحلقة باب فأقعقعها، فيقال من هذا ؟ فيقال : محمد فيفتحون لي ويقولون مرحباً فأخرج ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد فيقال لي ارفع رأسك وسل تعطه، واشفع تشفع وقل يسمع لقولك وهو المقام المحمود الذي قال الله سبحانه وتعالى : عسى أن يبعثك ربك مقاماً محموداً. قال سفيان : ليس عن أنس غير هذه الكلمة فآخذ بحلقة باب الجنة فأقعقعها فيقال : من هذا فيقال محمد فيفتحون لي ويرحبون فيقولون : مرحباً فأخر ساجداً فيلهمني الله من الثناء والحمد » أخرجه الترمذي. قوله : ماحل المماحلة : المخاصمة المجادلة. والمعنى : أنه عليه الصلاة والسلام خاصم وجادل عن دين الله بتلك الألفاظ التي صدرت منه. قوله : فأقعقعها أي أحركها حركة شديدة والقعقعة حكاية أصوات الترس وغيره مما له صوت. عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم » أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا، وأنا خطيبهم إذا وفدوا وأنا مبشرهم إذا أيسوا ولواء الحمد يومئذ بيدي، وأنا أكرم ولد آدم على ربي ولا فخر » أخرجه الترمذي زاد في رواية غير الترمذي : وأنا مستشفعهم إذا حبسوا الكرامة، والمفاتيح يومئذ بيدي يطوف علي خدم كأنهم بيض مكنون أو لؤلؤ منثور » ( م ) عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من تنشق عنه الأرض، وأول شافع وأول مشفع » زاد الترمذي، قال :«أنا أول من تنشق عنه الأرض فأكسى حلة من حلل الجنة ثم أقوم عن يمين العرش فليس أحد من الخلائق يقوم ذلك المقام غيري » عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه قال : إن الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلغ العرق نصف الأذن فبينما هم كذلك، استغاثوا بآدم ثم بموسى ثم بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام، فيشفع ليقضي بين الخلائق فيمشي حتى يأخذ بحلقة الباب، فيومئذ يبعثه الله مق
يخرجوا منها أعيدوا فيها، فما هذا الذي تقولون قال: أتقرأ القرآن؟ قلت: نعم. قال: فاقرأ ما قبله إنه في الكفار ثم قال فهل سمعت بمقام محمد الذي يبعثه الله فيه قلت: نعم قال فإن مقام محمد صلّى الله عليه وسلّم المحمود الذي يخرج الله به من يخرج من النار قال ثم نعت وضع الصراط ومر الناس عليه، قال وأخاف أن لا أكون أحفظ ذاك. قال غيره أنه قد زعم أن قوما يخرجون من النار بعد أن يكونوا فيها. قال: يعني فيخرجون كأنهم عيدان السماسم قال فيدخلون نهرا من أنهار الجنة فيغتسلون فيه، فيخرجون منه كأنهم القراطيس فرجعنا فقلنا ويحكم أترون هذا الشيخ يكذب على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فرجعنا فلا والله ما خرج غير رجل واحد أو كما قال، والأحاديث في الشفاعة كثيرة وأول من أنكرها عمرو ابن عبيد وهو مبتدع باتفاق أهل السنة. وروى أبو وائل عن ابن مسعود أنه قال: إن الله اتخذ إبراهيم خليلا وإن صاحبكم خليل الله وأكرم الخلق عليه. ثم قرأ عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا قال يقعده على العرش. وعن مجاهد مثله وعن عبد الله بن سلام قال يقعد على الكرسي. قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٨٠ الى ٨١]
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (٨٠) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (٨١)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ المراد منهما الإدخال والإخراج قال ابن عباس:
معناه أدخلني مدخل صدق المدينة وأخرجني مخرج صدق من مكة نزلت حين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالهجرة.
وقيل: معناه أخرجني من مكة آمنا من المشركين، وأدخلني مكة ظاهرا عليها بالفتح، وقيل: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة مدخل صدق، وأخرجني من الدنيا، وقد قمت بما وجب علي من حق النبوة مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني في طاعتك مدخل صدق وأخرجني من المناهي مخرج صدق وقيل: معناه أدخلني حيثما أدخلتني بالصدق، وأخرجني بالصدق ولا تجعلني ممن يخرج بوجه ويدخل بوجه فإن ذا الوجهين لا يكون آمنا عند الله وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً أي حجة بينة وقيل: ملكا قويا تنصرني به على من عاداني وعزا ظاهرا أقيم به دينك فوعده الله لينزعن ملك فارس والروم وغيرهما ويجعله له، وأجاب دعاءه فقال له والله يعصمك من الناس، وقال يظهره على الدين كله وقال: وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض الآية. قوله تعالى وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ يعني الإسلام والقرآن وَزَهَقَ الْباطِلُ أي الشرك والشيطان إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً أي مضمحلا غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال (ق). عن عبد الله بن مسعود قال: دخل النبي صلّى الله عليه وسلّم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلاثمائة وستون صنما فجعل يطعنها بعود في يده ويقول: جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا- جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد- قوله تعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٨٢ الى ٨٤]
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (٨٢) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (٨٣) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (٨٤)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس. والمعنى: ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها. وقيل: هو شفاء للأمراض
قوله تعالى ﴿ وقل جاء الحق ﴾ يعني الإسلام والقرآن ﴿ وزهق الباطل ﴾ أي الشرك والشيطان ﴿ إن الباطل كان زهوقاً ﴾ أي مضمحلاً غير ثابت، وذلك أن الباطل وإن كان له دولة وصولة في وقت من الأوقات فهو سريع الذهاب والزوال ( ق ). عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة يوم الفتح وكان حول البيت ثلثمائة وستون صنماً فجعل يطعنها يعود في يده ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً جاء الحق، وما يبدئ الباطل وما يعيد.
قوله تعالى :﴿ وننزل من القرآن ما هو شفاء ﴾ من في قوله تعالى من القرآن لبيان الجنس والمعنى : ننزل من هذا الجنس الذي هو القرآن ما هو شفاء أي بيان من الضلالة والجهالة، يتبين به المختلف فيه ويتضح به المشكل، ويستشفى به من الشبهة ويهتدى به من الحيرة وهو شفاء القلوب بزوال الجهل عنها. وقيل : هو شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين١ أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فساداً والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وإبطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع. وأما النوع الثاني : وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض. يدل عليه ما روي عن البني صلى الله عليه وسلم في فاتحة الكتاب، « وما يدريك أنها رقية » ﴿ ورحمة للمؤمنين ﴾ لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين ﴿ ولا يزيد الظالمين إلا خساراً ﴾ لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخساراً للظالمين، وقيل : لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة : لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خساراً.
١ قوله لأنها تنقسم إلى نوعين أي الأمراض الغير الجسمانية بدليل قوله بعد وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية والعبارة في الفخر الرازي بغاية التهذيب فليراجع..
قوله سبحانه وتعالى :﴿ وإذا أنعمنا على الإنسان ﴾ أي بالصحة والسعة ﴿ أعرض ﴾ أي عن ذكرنا ودعائنا ﴿ ونأى بجانبه ﴾ أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل : معناه تكبر وتعظم ﴿ وإذ مسه الشر ﴾ أي الشدة والضر ﴿ كان ﴾ أي يائساً قنوطاً، وقيل : معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة.
قوله عز وجل ﴿ قل كل ﴾ أي كل أحد ﴿ يعمل على شاكلته ﴾ قال ابن عباس : على ناحيته. وقيل : الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة ﴿ فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلاً ﴾ أي أوضح طريقاً وأحسن مذهباً واتباعاً للحق.
الباطنة والظاهرة، وذلك لأنها تنقسم إلى نوعين «١» أحدهما الاعتقادات الباطلة، والثاني الأخلاق المذمومة أما الاعتقادات الباطلة فأشدها فسادا والاعتقادات الفاسدة في الذات والصفات والنبوات والقضاء والقدر والبعث بعد الموت، فالقرآن كتاب مشتمل على دلائل المذهب الحق في هذه الأشياء وابطال المذاهب الفاسدة، لا جرم، كان القرآن شفاء لما في القلوب من هذا النوع. وأما النوع الثاني: وهو الأخلاق المذمومة فالقرآن مشتمل على التنفير منها، والإرشاد إلى الأخلاق المحمودة والأعمال الفاضلة، فثبت أن القرآن شفاء من جميع الأمراض الباطنة وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية، فلأن التبرك بقراءته يدفع كثيرا من الأمراض. يدل عليه ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في فاتحة الكتاب، «وما يدريك أنها رقية»: وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لما كان القرآن شفاء للأمراض الباطنة والظاهرة، فهو جدير بأن يكون رحمة للمؤمنين وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً لأن الظالم لا ينتفع به، والمؤمن ينتفع به فكان رحمة للمؤمنين وخسارا للظالمين، وقيل: لأن كل آية تنزل يتجدد لهم تكذيب بها فيزداد خسارهم قال قتادة: لم يجالس القرآن أحد إلا قام عنه بزيادة أو نقصان قضاه الله الذي قضى شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا. قوله سبحانه وتعالى: وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أي بالصحة والسعة أَعْرَضَ أي عن ذكرنا ودعائنا وَنَأى بِجانِبِهِ أي تباعد منا بنفسه وترك التقرب إلينا بالدعاء وقيل: معناه تكبر وتعظم وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ أي الشدة والضر كانَ أي يائسا قنوطا، وقيل: معناه إنه يتضرع ويدعو عند الضر والشدة، فإذا تأخرت الإجابة يئس فلا ينبغي للمؤمن أن يدع الدعاء ولو تأخرت الإجابة. قوله عز وجل قُلْ كُلٌّ أي كل أحد يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ قال ابن عباس: على ناحيته. وقيل: الشاكلة الطريقة أي على طريقته التي جبل عليها، وفيه وجه آخر وهو أن كل إنسان يعمل على حسب جوهر نفسه، فإن كانت نفسه شريفة طاهرة، صدرت عنه أفعال جميلة وأخلاق زكية طاهرة وإن كانت نفسه كدرة خبيثة صدرت عنه أفعال خبيثة فاسدة رديئة فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أي أوضح طريقا وأحسن مذهبا واتباعا للحق قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٨٥ الى ٨٨]
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (٨٥) وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (٨٦) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (٨٧) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (٨٨)
وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (ق) عن عبد الله بن مسعود قال: بينما أنا أمشي مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يتوكأ على عسيب معه فمر بنفر من اليهود فقال بعضهم لبعض: سلوه عن الروح. وقال بعضهم:
لا تسألوه يسمعكم ما تكرهون فقاموا إليه، وفي رواية، فقام إليه رجل منهم فقال: يا أبا القاسم ما الروح؟
فسكت وفي رواية، فقالوا حدثنا عن الروح، فقام ساعة ينتظر الوحي، وعرفت أنه يوحى إليه فتأخرت حتى صعد الوحي قال: ويسئلونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا. فقال بعضهم لبعض: قد قلنا لكم لا تسألوه. وفي رواية، وما أوتوا من العلم إلا قليلا. قال الأعمش هكذا في قراءتنا. العسيب: جريد النخل وسعفه. وقال ابن عباس: إن قريشا اجتمعوا وقالوا إن محمدا نشأ فينا بالأمانة والصدق وما اتهمناه بكذب قط، وقد ادعى ما ادعى فابعثوا نفرا إلى اليهود بالمدينة واسألوهم عنه فإنهم أهل كتاب، فبعثوا جماعة إليهم فقالت اليهود سلوه عن ثلاثة أشياء فإن أجاب عن كلها، أو لم يجب عن شيء منها فليس بنبي وإن أجاب عن
(١). قوله لأنها تنقسم إلى نوعين أي الأمراض الغير الجسمانية بدليل قوله بعد وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية والعبارة في الفخر الرازي بغاية التهذيب فليراجع.
144
اثنتين ولم يجب عن واحد فهو نبي فسألوه عن فتية فقدوا في الزمن الأول ما كان شأنهم، فإنه كان لهم حديث عجيب، وعن رجل بلغ مشرق الأرض ومغربها ما خبره وعن الروح قال فسألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: أخبركم بما سألتم غدا، ولم يقل إن شاء الله فلبث الوحي. قال مجاهد: اثني عشر يوما وقيل: خمسة عشر يوما وقيل أربعين يوما وأهل مكة يقولون: قد وعدنا محمد غدا وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيء، حتى حزن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من مكث الوحي وشق عليه ما يقوله أهل مكة ثم نزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ونزل في الفتية أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب، قوله وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ ونزل في الروح وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي واختلفوا في الذي وقع السؤال عنه، فروي عن ابن عباس أنه جبريل وعن علي أنه ملك له سبعون ألف وجه في كل وجه سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بكلها. وقال مجاهد: خلق على صورة بني آدم، لهم أيد وأرجل ورؤوس ليسوا بملائكة ولا ناس يأكلون الطعام. وقال سعيد بن جبير: لم يخلق الله خلقا أعظم من الروح غير العرش لو شاء أن يبتلع السموات والأرض ومن فيها بلقمة واحدة لفعل ذلك صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة وجه الآدميين، يقوم يوم القيامة على يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله تعالى اليوم عند الحجب السبعين وأقرب الخلق إلى الله يوم القيامة وهو ممن يشفع لأهل التوحيد، ولولا أن بينه وبين الملائكة سترا من نور لاحترق أهل السموات من نوره. وقيل: الروح هو القرآن لأن الله سماه روحا ولأن به حياة القلوب. وقيل: هو الروح المركب في الخلق الذي به يحيى الإنسان وهو أصح الأقوال. وتكلم قوم في ماهية الروح فقال بعضهم: هو الدم ألا ترى أن الإنسان إذا مات لا يفوت منه شيء إلا الدم. وقال قوم: هو نفس الحيوان بدليل أنه يموت باحتباس النفس. وقال قوم: هو عرض. وقال قوم: هو جسم لطيف يحيا به الإنسان. وقيل: الروح معنى اجتمع فيه النور والطيب والعلم والعلو والبقاء، ألا ترى أنه إذا كان موجودا يكون الإنسان موصوفا بجميع هذه الصفات إذا خرج منه ذهب الكل. وأقاويل الحكماء والصوفية في ماهية الروح كثيرة، وليس هذا موضع استقصائها وأولى الأقاويل أن يوكل علمه إلى الله عز وجل وهو قول أهل السنة قال عبد الله بن بريدة: إن الله لم يطلع على الروح ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا بدليل قوله: قل الروح من أمر ربي أي من علم ربي الذي استؤثر به وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ من علم ربي إِلَّا قَلِيلًا أي في جنب علم الله عز وجل الخطاب عام. وقيل: هو خطاب لليهود فإنهم كانوا يقولون: أوتينا التوراة وفيها العلم الكثير، فقيل لهم: إن علم التوراة قليل في جنب علم الله. وقيل إن القلة والكثرة تدوران مع الإضافة فوصف الشيء بالقلة مضافا إلى ما فوقه، وبالكثرة مضافا إلى ما تحته وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم علم معنى الروح ولكن لم يخبر به لأن ترك الإخبار به كان علما لنبوته. والقول الأصح هو أن الله عز وجل استأثر بعلم الروح. قوله عز وجل وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثرا وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظا مستورا إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظا، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل؟ قلت: المراد منه محو ما في المصاحف
وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود: «اقرءوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع» قيل: هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال:
يسرى عليه ليلا فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئا، ولا يجدون مما في المصاحف شيئا ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال «لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل. له
145
قوله عز وجل ﴿ ولئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ﴾ ومعناه أنا كما منعنا علم الروح عنك وعن غيرك، إن شئنا ذهبنا بالقرآن ومحوناه من الصدور والمصاحف، فلم نترك له أثراً وبقيت كما كنت ما تدري ما الكتاب ﴿ ثم لا تجد لك به علينا وكيلاً ﴾ معناه لا تجد بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده عليك، وإعادته محفوظاً مستوراً.
﴿ إلا رحمة من ربك ﴾ معناه إلا أن يرحمك ربك فيرده عليك، وقيل هو على الاستثناء المنقطع. معناه لكن رحمة من ربك تركته غير مذهوب به، وهذا امتنان من الله تعالى ببقاء القرآن محفوظاً، فإن قلت كيف يذهب بالقرآن وهو كلام الله عز وجل ؟ قلت : المراد منه محو ما في المصاحف وإذهاب ما في الصدور وقال عبد الله بن مسعود :« اقرؤوا القرآن قبل أن يرفع فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع » قيل : هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الناس قال : يسرى عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئاً، ولا يجدون مما في المصاحف شيئاً ثم يفيضون في الشعر وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال « لا تقوم الساعة حتى يرفع القرآن من حيث نزل. له دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب : ما لك ؟ فيقول : يا رب أتلى ولا يعمل بي " ﴿ إن فضله كان عليك كبيرا ﴾ أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود.
قوله سبحانه وتعالى ﴿ قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ﴾ أي لا يقدرون على ذلك ﴿ ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ﴾ أي عوناً. نزلت حين قال المشركون : لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقاً لأتوا بمثله.
دوي حول العرش كدوي النحل، فيقول الرب: ما لك؟ فيقول: يا رب أتلى ولا يعمل بي» إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً أي بسبب بقاء العلم والقرآن عليك وجعلك سيد ولد آدم، وختم النبيين بك وإعطائك المقام المحمود.
قوله سبحانه وتعالى قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ أي لا يقدرون على ذلك وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً أي عونا. نزلت حين قال المشركون: لو نشاء لقلنا مثل هذا فكذبهم الله عز وجل، فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق لأنه كلام الخالق وهو غير مخلوق ولو كان مخلوقا لأتوا بمثله قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٨٩ الى ٩٣]
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (٨٩) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (٩٠) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (٩١) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (٩٢) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (٩٣)
وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ أي رددنا وكررنا من كل معنى هو كالمثل في غرابته وحسنه. وقيل: معناه من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد والقصص وغيرها فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا. قوله سبحانه وتعالى وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي لن نصدقك حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا: لن نؤمن لك. روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيها ومنبها ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إليّ محمدا فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سريعا وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصا يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، وما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالا جعلنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكا ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولا وأنزل عليّ كتابا، وأمرني أن أكون لكم بشيرا ونذيرا، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا: يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلادا ولا أشد عيشا منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى. قالوا: فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكا يصدقك، وسله أن يجعل لك
قوله سبحانه وتعالى ﴿ وقالوا لن نؤمن لك ﴾ أي لن نصدقك ﴿ حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً ﴾ لما تبين إعجاز القرآن وانضمت إليه معجزات أخر وبينات، ولزمتهم الحجة وغلبوا أخذوا يتغالون باقتراح الآيات، فقالوا : لن نؤمن لك. روى عكرمة عن ابن عباس أن عتبة وشيبة ابني ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البختري بن هشام والأسود بن عبد المطلب، وزمعة بن الأسود والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل، ونبيهاً ومنبهاً ابني الحجاج اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إليّ محمداً فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سريعاً وهو يظن أنه بدا لهم في أمره بدء، وكان حريصاً يحب رشدهم حتى جلس إليهم فقالوا :«يا محمد إن بعثنا إليك لنعذر فيك وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك. لقد شتمت الآباء، وعبت الدين، وسفهت الأحلام، وشتمت الآلهة، وفرقت الجماعة، ما بقي من قبيح إلا وقد جئته فيما بيننا وبينك فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جعلنا لك من أموالنا حتى أكثرنا مالاً وإن كنت تريد الشرف سودناك علينا وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي بك رئي تراه قد غلب عليك لا تستطيع رده بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه ونعذر فيك وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به لطلب أموالكم، ولا للشرف عليكم ولا للملك عليكم ولكن الله بعثني إليكم رسولاً وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم فإن تقبلوا مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن ترده عليَّ أصبر لأمر الله حتى يحكم بيني وبينكم فقالوا : يا محمد إن كنت غير قابل منّا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد أضيق بلاداً ولا أشد عيشاً منا، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا، ويبسط لنا بلادنا ويفجر لنا فيها الأنهار كأنهار الشام والعراق وليبعث لنا من مضى من آبائنا، وليكن منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخاً صدوقاً فنسألهم عما تقول أحق هو أم باطل فإن صدقوك صدقناك. فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : ما بهذا بعثت فقد بلغتكم ما أرسلت به، فإن تقبلوه فهو حظكم وإن تردوه أصبر لأمر الله تعالى. قالوا : فإن لم تفعل هذا فسل لنا ربك أن يبعث ملكاً يصدقك، وسله أن يجعل لك جنات وقصوراً وكنوزاً من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال : ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً. قالوا : فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل. فقال : ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم » وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلاً فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، هو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فوالله ما أؤمن لك أبداً حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك. فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً من مباعدتهم فأنزل الله تعالى :﴿ وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ﴾ يعني أرض مكة ﴿ ينبوعاً ﴾ أي عيوناً.
﴿ أو تكون لك جنة من نخيل وعنب ﴾ أي بستان فيه نخيل وعنب ﴿ فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً ﴾ أي تشقيقاً.
﴿ أو تسقط السماء كما زعمت علينا كسفاً ﴾ أي قطعاً ﴿ أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً ﴾ قال ابن عباس : كفيلاً أي يكفلون بما تقول. وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول. وقيل : معناه تراهم مقابلة عياناً.
﴿ أو يكون لك بيت من زخرف ﴾ أي من ذهب وأصله الزينة ﴿ أو ترقى ﴾ أي تصعد ﴿ في السماء ولن نؤمن لرقيك ﴾ أي لأجل رقيك ﴿ حتى تنزل علينا كتاباً نقرؤه ﴾ أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية ﴿ قل ﴾ أي قل يا محمد ﴿ سبحان ربي ﴾ أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب ﴿ هل كنت إلا بشراً رسولاً ﴾ أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طوق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتين، ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم.
جنات وقصورا وكنوزا من ذهب وفضة يعينك بها على ما تريد، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه فقال: ما بعثت بهذا ولكن الله بعثني بشيرا ونذيرا. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت إن ربك إن شاء فعل.
فقال: ذلك إلى الله إن شاء فعل ذلك بكم. وقال قائل منهم: لن نؤمن لك حتى تأتينا بالله والملائكة قبيلا فلما قالوا ذلك قام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقام معه عبد الله بن أبي أمية، وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم، ثم سألوك لأنفسهم أمورا يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب، فلم تفعل فو الله ما أؤمن لك أبدا حتى تتخذ إلى السماء مرقى ترقى فيه، وأنا أنظر حتى تأتيها فتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدقك. فانصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى أهله حزينا من مباعدتهم فأنزل الله تعالى: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يعني أرض مكة يَنْبُوعاً أي عيونا أو أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ أي بستان فيه نخيل وعنب فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أي تشقيقا أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي قطعا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا قال ابن عباس: كفيلا أي يكفلون بما تقول. وقيل هو جمع القبيلة أي بأصناف الملائكة قبيلة قبيلة، يشهدون لك بصحة ما تقول. وقيل: معناه تراهم مقابلة عيانا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أي من ذهب وأصله الزينة أَوْ تَرْقى أي تصعد فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ أي لأجل رقيك حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ أمرنا فيه باتباعك وهذا قول عبد الله بن أبي أمية قُلْ أي قل يا محمد سُبْحانَ رَبِّي أمره بتنزيهه وتمجيده وفيه معنى التعجب هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا أي كسائر الرسل لأممهم وكان الرسل لا يؤتون قومهم إلا بما يظهره الله عليهم من الآيات، فليس أمر الآيات إليهم إنما هو إلى الله تعالى، ولو أراد أن ينزل ما طلبوا لفعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما اقترحه البشر وما أنا إلا بشر، وليس ما سألتم في طوق البشر واعلم أن الله سبحانه وتعالى قد أعطى النبي صلّى الله عليه وسلّم من الآيات والمعجزات ما يغني عن هذا كله، مثل القرآن وانشقاق القمر ونبع الماء من بين أصابعه وما أشبهها من الآيات، وليست بدون ما اقترحوه بل هي أعظم مما اقترحوه والقوم عامتهم كانوا متعنتين، ولم يكن قصدهم طلب الدليل ليؤمنوا فرد الله تعالى عليهم سؤالهم قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٩٤ الى ٩٧]
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (٩٤) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (٩٥) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٩٦) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧)
وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى أي الوحي. والمعنى: وما منعهم الإيمان بالقرآن وبنبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إلا شبهة تلجلجت في صدورهم هي إنكارهم أن يرسل الله البشر وهو قوله تعالى إِلَّا أَنْ قالُوا أي جهلا منهم أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا وذلك أن الكفار كانوا يقولون لن نؤمن لك لأنك بشر وهلا بعث الله إلينا ملكا فأجابهم الله بقوله: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ أي مستوطنين مقيمين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ أي على أني رسوله إليكم وأني قد بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ يعني المنذرين والمنذرين خَبِيراً بَصِيراً أي عالما بأحوالهم، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ووعيد للكفار وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أي يهدونهم وفيه أيضا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو
﴿ قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ﴾ أي مستوطنين مقيمين فيها ﴿ لنزلنا عليهم من السماء ملكاً رسولاً ﴾ أي من جنسهم لأن الجنس إلى الجنس أميل.
﴿ قل كفى بالله شهيداً بيني وبينكم ﴾ أي على أني رسوله إليكم وإني قد بلغت ما أرسلت به إليكم، وأنكم كذبتم وعاندتم ﴿ إنه كان بعباده ﴾ يعني المنذرين والمنذرين ﴿ خبيراً بصيراً ﴾ أي عالماً بأحوالهم، فهو مجازيهم وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم ووعيد الكفار.
﴿ ومن يهد الله فهو المهتد ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه ﴾ أي يهدونهم وفيه أيضاً تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك ﴿ ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم ﴾ ( ق ) عن أنس أن رجلاً قال : يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله : صلى الله عليه وسلم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادراً على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة ؟ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا » وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفاً مشاة، وصنفاً ركباناً، وصنفاً على وجوههم. قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال : إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك » أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض ﴿ عمياً وبكماً وصماً ﴾ أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون. فإن قلت : كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى ﴿ ورأى المجرمون النار ﴾ وقال ﴿ دعوا هنالك ثبوراً ﴾ وقال ﴿ سمعوا لها تغيظاً وزفيراً ﴾ فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع. قلت فيه أوجه : أحدها قال ابن عباس معناه عمياً لا يبصرون ما يسرهم بكماً لا ينطقون بحجة صماً لا يسمعون ما يسرهم. الوجه الثاني : قيل معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى : ثم تعاد إليهم هذه الأشياء. الوجه الثالث : قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عمياً وبكماً وصماً لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون ﴿ مأواهم جهنم كلما خبت ﴾ أي سكن لهيبها. وقيل : ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى قال : لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو ﴿ زدناهم سعيراً ﴾ أي وقوداً وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه، وزيد في سعير النار لتحرقهم.
أن الذين حكم لهم بالإيمان والهداية وجب أن يصيروا مؤمنين ومن سبق لهم حكم الله بالضلال والجهل استحال أن ينقلبوا عن ذلك وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ (ق) «عن أنس أن رجلا قال: يا رسول الله قال الله الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم أيحشر الكافر على وجهه قال رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم أليس الذي أمشاه على الرجلين في الدنيا، قادرا على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة؟ قال قتادة حين بلغه بلى وعزة ربنا» وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «يحشر الناس يوم القيامة ثلاثة أصناف صنفا مشاة، وصنفا ركبانا، وصنفا على وجوههم. قيل يا رسول الله وكيف يمشون على وجوههم قال: إن الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم أما إنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك» أخرجه الترمذي الحدب كل ما ارتفع من الأرض عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا أي لا يبصرون ولا ينطقون ولا يسمعون. فإن قلت: كيف وصفهم بأنهم عمي وبكم وصم وقد قال الله تعالى وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ وقال دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً وقال سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً فأثبت لهم الرؤية والكلام والسمع. قلت فيه أوجه: أحدها قال ابن عباس معناه عميا لا يبصرون ما يسرهم بكما لا ينطقون بحجة صما لا يسمعون ما يسرهم. الوجه الثاني: قيل: معناه يحشرون على ما وصفهم الله وتعالى: ثم تعاد إليهم هذه الأشياء. الوجه الثالث: قيل معناه هذا حين يقال لهم اخسئوا فيها، ولا تكلمون فيصيرون بأجمعهم عميا وبكما وصما لا يرون ولا ينطقون ولا يسمعون مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ أي سكن لهيبها. وقيل: ضعفت وهدأت من غير أن يوجد نقصان في إيلام الكفار، لأن الله سبحانه وتعالى قال: لا يفتر عنهم وقيل معناه أرادت أن تخبو زِدْناهُمْ سَعِيراً أي وقودا وقيل معناه خبت أي نضجت جلودهم واحترقت أعيدوا إلى ما كانوا عليه، وزيد في سعير النار لتحرقهم.
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ٩٨ الى ١٠١]
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (٩٩) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (١٠٠) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (١٠١)
ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا لما ذكر الوعيد المتقدم قال: ذلك جزاؤهم بما كفروا يعني ذلك العذاب جزاؤهم بسبب كفرهم بآياتنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً أجابهم الله ورد عليهم بقوله أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أي في عظمها وشدتها قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أي في صغرهم وضعفهم وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا أي وقتا لعذابهم لا رَيْبَ فِيهِ أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت، وقيل يوم القيامة فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُوراً أي جحودا وعنادا قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي أي خزائن نعمه ورزقه وقيل: إن خزائن الله غير متناهية. والمعنى: لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ أي لبخلتم وحبستم خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً أي ممسكا بخيلا. فان قلت: قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم، فكيف وصفه بالبخل؟ قلت: الأصل في الإنسان البخل، لأنه خلق محتاجا والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل. قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أي دلالات واضحات. قال ابن عباس: هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه، فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وقيل عوض فلق البحر، واليد والسنون ونقص من الثمرات وقيل: الطمس والبحر بدل السنين
﴿ أولم يروا أن الله الذي خلق السموات والأرض ﴾ أي في عظمها وشدتها ﴿ قادر على أن يخلق مثلهم ﴾ أي في صغرهم وضعفهم ﴿ وجعل لهم أجلاً ﴾ أي وقتاً لعذابهم ﴿ لا ريب فيه ﴾ أي لا شك فيه أنه يأتيهم قبل الموت، وقيل يوم القيامة ﴿ فأبى الظالمون إلا كفوراً ﴾ أي جحوداً وعناداً.
﴿ قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي ﴾ أي خزائن نعمه ورزقه وقيل : إن خزائن الله غير متناهية. والمعنى : لو أنكم ملكتم من النعم خزائن لا نهاية لها ﴿ إذاً لأمسكتم ﴾ أي لبخلتم وحبستم ﴿ خشية الإنفاق ﴾ والفقر والنفاد وهذا مبالغة عظيمة في وصفهم بهذا الشيء ﴿ وكان الإنسان قتوراً ﴾ أي ممسكاً بخيلاً. فإن قلت : قد يوجد في جنس الإنسان من هو جواد كريم، فكيف وصفه بالبخل ؟ قلت : الأصل في الإنسان البخل، لأن خلق محتاجاً والمحتاج لا بد وأن يحب ما يدفع به عنه ضرر الحاجة، ويمسكه لنفسه إلا أنه قد يجود لأسباب خارجة مثل أن يحب المدحة أو رجاء ثواب، فثبت بها أن الأصل في الإنسان البخل.
قوله تعالى ﴿ ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات ﴾ أي دلالات واضحات. قال ابن عباس : هي العصا واليد البيضاء والعقدة التي كانت بلسانه، فحلها وفلق البحر والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم وقيل عرض فلق البحر، واليد والسنون نقص من الثمرات وقيل : الطمس والبحر بدل السنين والنقص. قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز، وقد صارت حجراً وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر : هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه. فإذا فيه بيض مكسر نصفين، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة. وقيل : التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهودياً قال لصاحبه : تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر : لا تقل نبي. فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين، فأتياه فسألاه عن هذه الآية. ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال :« لا تشركوا بالله شيئاً ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا : نشهد إنك نبي قال : فما يمنعكم أن تتبعوني قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود ﴿ فاسأل ﴾ يا محمد ﴿ بني إسرائيل ﴾ يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم ﴿ إذا جاءهم ﴾ يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل ﴿ فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحوراً ﴾ قال ابن عباس : مخدوعاً وقيل : مطبوباً أي سحروك وقيل معناه ساحراً معطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك.
والنقص. قيل كان الرجل منهم مع أهله في الفراش وقد صارا حجرين والمرأة قائمة تخبز، وقد صارت حجرا وقد روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب القرظي عن الآيات فذكر منها الطمس فقال عمر: هذا يجب أن يكون الفقيه ثم قال يا غلام اخرج ذلك الجراب فأخرجه. فإذا فيه بيض مكسر نصفين، وجوز مكسر نصفين وثوم وحمص وعدس كلها حجارة. وقيل: التسع آيات هي آيات الكتاب وهي الأحكام يدل عليه ما روي عن صفوان بن غسان أن يهوديا قال لصاحبه: تعال حتى نسأل هذا النبي فقال الآخر: لا تقل نبي. فإنه لو سمع صارت له أربعة أعين، فأتياه فسألاه عن هذه الآية. ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فقال: لا تشركوا بالله شيئا ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا تزنوا ولا تأكلوا الربا، ولا تسحروا ولا تمشوا بالبريء إلى سلطان ليقتله ولا تسرفوا ولا تقذفوا المحصنات ولا تفروا من الزحف، وعليكم خاصة اليهود أن لا تعدوا في السبت فقبلا يده وقالا: نشهد إنك نبي قال: فما يمنعكم أن تتبعوني قالا إن داود دعا ربه أن لا يزال في ذريته نبي، وإنا نخاف إنا اتبعناك أن تقتلنا اليهود فَسْئَلْ يا محمد بَنِي إِسْرائِيلَ يجوز الخطاب معه والمراد غيره ويجوز أن يكون خاطبه وأمره بالسؤال ليتبين كذبهم مع قومهم إِذْ جاءَهُمْ يعني جاء موسى إلى فرعون بالرسالة من عند الله عز وجل فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً قال ابن عباس: مخدوعا وقيل: مطبوبا أي سحروك وقيل معناه ساحرا معطى علم السحر، فهذه العجائب التي تفعلها من سحرك.
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ١٠٢ الى ١٠٤]
قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (١٠٢) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (١٠٣) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (١٠٤)
قالَ موسى لَقَدْ عَلِمْتَ خطابا لفرعون. قال ابن عباس: علمه فرعون ولكنه عانده ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يعني الآيات التسع بَصائِرَ أي بينات يبصر بها وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً قال ابن عباس: ملعونا. وقيل: هالكا. وقيل: مصروفا عن الخير فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ معناه أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ أي من بعد هلاك فرعون لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ يعني أرض مصر والشام فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ يعني القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً أي جميعا إلى موقف القيامة، واللفيف: الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل: أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء قوله سبحانه وتعالى:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ١٠٥ الى ١٠٩]
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (١٠٥) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (١٠٦) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (١٠٧) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (١٠٨) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (١٠٩)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل. وقيل: معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبسا بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً يعني بالجنة للمطيعين وَنَذِيراً أي مخوفا بالنار للعاصين. قوله عز وجل وَقُرْآناً فَرَقْناهُ أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق والباطل، وقيل: معناه أنزلنا نجوما لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ أي على تؤدة وترسل في ثلاث
﴿ فأراد أن يستفزهم من الأرض ﴾ معناه أراد فرعون أن يخرج موسى وبني إسرائيل من أرض مصر ﴿ فأغرقناه ومن معه جميعاً ﴾ أي أغرقنا فرعون وجنوده ونجينا موسى وقومه.
﴿ وقلنا من بعده ﴾ أي من بعد هلاك فرعون ﴿ لنبي إسرائيل اسكنوا الأرض ﴾ يعني أرض مصر والشام ﴿ فإذا جاء وعد الآخرة ﴾ يعني القيامة ﴿ جئنا بكم لفيفاً ﴾ أي جميعاً إلى موقف القيامة، واللفيف : الجمع الكثير إذا كانوا مختلفين من كل نوع فيهم المؤمن والكافر والبر والفاجر وقيل : أراد بوعد الآخرة نزول عيسى من السماء.
قوله سبحانه وتعالى :﴿ وبالحق أنزلناه وبالحق نزل ﴾ يعني أنا ما أردنا بإنزال القرآن إلا تقريره للحق فلما أردنا هذا المعنى فكذلك وقع وحصل. وقيل : معناه وما أنزلنا القرآن إلا بالحق المقتضي لإنزاله وما نزل إلا ملتبساً بالحق لاشتماله على الهداية إلى كل خير ﴿ وما أرسلناك إلا مبشراً ﴾ يعني بالجنة للمطيعين ﴿ ونذيراً ﴾ أي مخوفاً بالنار للعاصين.
قوله عز وجل ﴿ وقرآناً فرقناه ﴾ أي فصلناه وبيناه وقيل فرقنا به بين الحق والباطل، وقيل : معناه أنزلنا نجوماً لم ينزل مرة واحدة بدليل قوله تعالى ﴿ لتقرأه على الناس على مكث ﴾ أي على تؤدة وترسل في ثلاث وعشرين سنة ﴿ ونزلناه تنزيلاً ﴾ أي على حسب الحوادث.
﴿ قل آمنوا به أو لا تؤمنوا ﴾ فيه وعيد وتهديد ﴿ إن الذين أوتوا العلم من قبله ﴾ قيل : هم مؤمنو أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم ﴿ إذا يتلى عليهم ﴾ يعني القرآن ﴿ يخرون للأذقان ﴾ قال ابن عباس : أراد بها الوجوه ﴿ سجداً ﴾ أي يقعون على الوجوه سجداً.
﴿ ويقولون سبحان ربنا ﴾ أي تعظيماً لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ﴿ إن كان وعد ربنا لمفعولاً ﴾ أي كائناً واقعاً.
﴿ ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعاً ﴾ أي خضوعاً لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن. عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جنهم » أخرجه الترمذي والنسائي. وزاد النسائي « في منخري مسلم أبداً » الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول « عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله » أخرجه الترمذي.
وعشرين سنة وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا أي على حسب الحوادث قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا فيه وعيد وتهديد إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ قيل: هم مؤمنو أهل الكتاب الذين كانوا يطلبون الدين قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم أسلموا بعد مبعثه مثل زيد بن عمرو بن نفيل وسلمان الفارسي وأبي ذر وغيرهم إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يعني القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ قال ابن عباس: أراد بها الوجوه سُجَّداً أي يقعون على الوجوه سجدا وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا أي تعظيما لربنا لإنجازه ما وعد في الكتب المنزلة، من بعثة محمد صلّى الله عليه وسلّم إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا أي كائنا واقعا وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً أي خضوعا لربهم وقيل يزيدهم القرآن لين قلب، ورطوبة عين فالبكاء مستحب عند قراءة القرآن. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا يلج النار رجل بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا اجتمع على عبدي غبار في سبيل الله ودخان جهنم» أخرجه الترمذي والنسائي.
وزاد النسائي «في منخري مسلم أبدا» الولوج الدخول والمنخر الأنف عن ابن عباس قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول «عينان لا تمسهما النار عين بكت من خشية الله وعين باتت تحرس في سبيل الله» أخرجه الترمذي قوله عز وجل:
[سورة الإسراء (١٧): الآيات ١١٠ الى ١١١]
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١١٠) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (١١١)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ قال ابن عباس: سجد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذات ليلة فجعل يقول في سجوده:
يا الله يا رحمن فقال أبو جهل: إن محمدا ينهانا عن آلهتنا وهو يدعو إلهين فأنزل الله هذه الآية ومعناه أنهما اسمان لله تعالى فسموه بهذا الاسم أو بهذا الاسم أَيًّا ما تَدْعُوا ما صلة ومعناه أي هذين الاسمين سميتم وذكرتم، أو من جميع أسمائه فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يعني إذا حسنت أسماؤه كلها فهذان الاسمان منها ومعنى كونها حسنى أنها مشتملة على معاني التقديس، والتعظيم والتمجيد وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها (ق) عن ابن عباس في قوله: ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها قال: نزلت ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم مختف بمكة وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به فقال الله تبارك وتعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم: ولا تجهر بصلاتك أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن، ولا تخافت بها عن أصحابك فلا تسمعهم وابتغ بين ذلك سبيلا زاد في رواية وابتغ بين ذلك سبيلا أسمعهم، ولا تجهر حتى يأخذوا عنك القرآن وقيل نزلت الآية في الدعاء وهو قول عائشة والنخعي ومجاهد ومكحول. (ق) عن عائشة «ولا تجهور بصلاتك ولا تخافت بها» قالت: نزل ذلك في الدعاء. وقيل: كان أعراب من بني تميم إذا سلم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قالوا: اللهم ارزقنا مالا وولدا يجهرون بذلك فأنزل الله عز وجل «ولا تجهر بصلاتك أي لا ترفع صوتك بقراءتك ودعائك ولا تخافت بها» المخافتة خفض الصوت، والسكوت وَابْتَغِ أي اطلب بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا أي طريقا وسطا بين الجهر والإخفاء. عن أبي قتادة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لأبي بكر: «مررت بك وأنت تقرأ القرآن وأنت تخفض من صوتك فقال إني أسمعت من ناجيت فقال ارفع قليلا وقال لعمر مررت بك، وأنت تقرأ وأنت ترفع من صوتك فقال إني أوقظ الوسنان وأطرد الشيطان فقال: اخفض قليلا» أخرجه الترمذي وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يحمده على وحدانيته. وقيل: معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولدا وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده. وقيل: إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ
150
والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك، لم يكن مستحقا للحمد والشكر وكذا قوله وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي. وقيل: إذا كان منزها عن الولد والشريك والولي كان مستوجبا لجميع أنواع المحامد. عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء» عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده» عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله» أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «أحب الكلام إلى الله أربع لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت» أخرجه مسلم. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
151
﴿ وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ﴾ أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يحمده على وحدانيته. وقيل : معناه الحمد لله الذي عرفني أنه لم يتخذ ولداً وقيل إن كل من له ولد فهو يمسك جميع النعم لولده وإذا لم يكن له ولد أفاض نعمه على عبيده. وقيل : إن الولد يقوم مقام والده بعد انقضائه والله عز وجل يتعالى عن جميع النقائص فهو المستحق لجميع المحامد ﴿ ولم يكن له شريك في الملك ﴾ والسبب في اعتبار هذه الصفة أنه لو كان له شريك، لم يكن مستحقاً للحمد والشكر وكذا قوله ﴿ ولم يكن له ولي من الذل ﴾ ومعناه أنه لم يذل فيحتاج إلى ناصر يتعزز به ﴿ وكبره تكبيراً ﴾ أي وعظمه عن أن يكون له ولد أو شريك أو ولي. وقيل : إذا كان منزهاً عن الولد والشريك والولي كان مستوجباً لجميع أنواع المحامد. عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :« أول ما يدعى إلى الجنة يوم القيامة، الذين يحمدون الله في السراء والضراء » عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « الحمد لله رأس الشكر ما شكر الله عبد لا يحمده » عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :« أفضل الدعاء الحمد لله وأفضل الذكر لا إله إلا الله » أخرجه الترمذي. وقال حديث حسن غريب عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « أحب الكلام إلى الله لا إله إلا الله والله أكبر وسبحان الله والحمد لله لا يضرك بأيهن بدأت » أخرجه مسلم. والله أعلم بمراده وأسرار كتابه.
Icon