ﰡ
مكيةٌ إلا قولَه: ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ﴾ إلى آخرِ ثماني آياتٍ، قدرُ آيها مئةٌ وإحدى عشرةَ آيةً، وحروفُها ستةُ آلافٍ وأربعُ مئةٍ وستونَ حرفًا، وكَلِمُها ألفٌ وخمسُ مئةٍ وثلاثٌ وثلاثونَ كلمةً.
﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (١)﴾.
[١] ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا﴾ (سُبْحَانَ) تنزيهُ اللهِ من كلِّ سوءٍ، ووصفُه بالبراءةِ من كلِّ نقصٍ، وتكونُ (سُبْحَانَ) بمعنى التعجُّبِ، (أَسْرَى)؛ أي: سَيَّرَهُ، و (العبدُ) هو محمدٌ - ﷺ -، لم يختلفْ في ذلكَ أحدٌ من الأمة، و (ليلًا) نصبٌ على الظرف.
﴿مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ هو المسجدُ المحيطُ بالكعبةِ، وقيلَ: من بيتِ أُمِّ هانِئ من الحرم، قالَ ابنُ عباسٍ: "الحرمُ كلُّهُ مسجِدٌ" (١).
﴿إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى﴾ هو مسجدُ بيتِ المقدسِ، وبينَهما مسيرةُ شهرٍ،
﴿الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾ والبركةُ حولَه من جهتين: إحداهُما: بالنبوةِ والشرائعِ والرسلِ الذين كانوا في ذلك القطرِ في نواحيهِ وبواديه، والأخرى: النِّعَمُ من الأشجارِ والمياهِ والأرضِ المفيدةِ التي خَصَّ اللهُ الشامَ بها، وعنه - ﷺ - أنه قال: "إِنَّ اللهَ بَارَكَ فِيمَا بَيْنَ الْعَرِيشِ إِلَى الفُراتِ" (٢)، وخصَّ فلسطينَ بالتقديسِ، ولو لم يكنْ له من الفضيلةِ غيرُ هذهِ الآيةِ، لكانَتْ كافيةً فيه؛ لأنه إذا بورِكَ حولَهُ، فالبركَةُ فيه مضاعَفَةٌ.
﴿لِنُرِيَهُ﴾ أي: محمدًا - ﷺ - بعينِه ﴿مِنْ آيَاتِنَا﴾ في السمواتِ والملائكةِ والجنةِ والنارِ، ولقيا الأنبياءِ، وغيرِ ذلكَ مما رآه تلكَ الليلةَ من العجائبِ، وذهابِه ورجوعِه في جزءٍ من ليلةٍ.
﴿إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ﴾ لِما تقولون ﴿الْبَصِيرُ﴾ بأفعالِكم، وعيدٌ من اللهِ للكفارِ على تكذيبِهم محمدًا - ﷺ - في أمرِ الإسراءِ.
وأما قصةُ الإسراءِ، فملَخَّصُها: أن الله سبحانه وتعالى بعثَ رسوله - ﷺ -، وأنزلَ عليهِ الوحيَ، وأمرهُ بإظهارِ دينهِ، وأَيَّدَهُ بالمعجزاتِ الظاهرةِ، والآياتِ الباهِرَةِ، أسرى به ليلًا من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى، وهو بيتُ المقدسِ من إيليا، وقد فشا الإسلامُ في قريشٍ وفي
(٢) انظر: "تاريخ دمشق" لابن عساكر (١/ ١٤١)، (١/ ١٤٩ - ١٥٠).
وقال ابن الجوزيِّ: وقد قيلَ: كانَ في ليلةِ سبعٍ وعشرينَ من شهرِ رجبٍ.
وقيل: في شهرِ رمضانَ، والنبيُّ - ﷺ - ابنُ إحدى وخمسينَ سنةً وتسعةِ أشهرٍ وثمانيةٍ وعشرين يومًا.
واختلِفَ في الإسراءِ برسولِ الله - ﷺ -، فقيل: إنما كانَ جميعُ ذلكَ في المنام، والحقُّ الذي عليه أكثرُ الناسِ ومعظمُ السَّلَفِ، وعامةُ المتأخرين من الفقهاءِ والمحدِّثينَ والمتكلِّمين أنه أُسري بجسدِهِ - ﷺ - يقظةً؛ لأَن قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ﴾ [الإسراء: ٦٠] تدلُّ على ذلك، ولو كانت رؤيا نومٍ، ما افتتنَ بها الناسُ حتى ارتدَّ كثيرٌ ممن كانَ أسلمَ، وقالَ الكفارُ: يزعمُ محمدٌ أنه أَتى بيتَ المقدسِ ورجعَ إلى مكةَ في ليلةٍ واحدةٍ، والعيرُ تطردُ إليه شهرًا مدبرةً، وشهرًا مقبلةً، ولو كانت رؤيا نوم، لم يُستبعَدْ ذلك منه.
قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنهما: "هي رُؤْيا عينٍ رآها النبيُّ - ﷺ - لا رُؤْيا مَنامٍ" (١)، قالَ الله تعالى: ﴿مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى﴾ [النجم: ١٧] أضافَ الأمرَ للبصرِ، وقوله تعالى: ﴿مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى﴾ [النجم: ١١]؛ أي: لم يُوهِمِ القلبُ العينَ غيرَ الحقيقة، بل صدق رُؤْيتَها.
واختلفَ السلفُ والخلفُ هل رأى نبيُّنا - ﷺ - ربَّهُ ليلةَ الإسراءِ؟ فأنكرته
واختلفوا في أنَّ نبينا - ﷺ - هل كَلَّمَ ربَّه عز وجل ليلةَ الإسراءِ؟ فذكِرَ عن جعفرٍ بنِ محمدٍ الصادقِ أنه قال: "أُوحِيَ إِلَيْه بِلا واسِطَةٍ"، وإلى هذا ذهبَ بعضُ المتكلِّمينَ أن محمدًا كلَّمَ ربَّهُ ليلةَ الإسراءِ، وحكوه عن ابنِ عباس، وابنِ مسعود.
واختلِفَ في المكانِ الذي أُسري به منه، فروي عنه - ﷺ -: أنه قالَ: "بَيْنَا أَنَا فِي الْحَطِيمِ وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الْحِجْرِ مُضْطَجِعٌ، ومنهم من قال: بَيْنَ النَّائِمِ وَالْيَقْظَانِ" (٤)، وفي رواية أنه قال: "بَيْنَا أَنا نَائِمٌ فِي بَيْتِ أُمِّ هَانِئ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ" والذي رجَّحه الطبريُّ أنه من المسجدِ المحيطِ بالكعبةِ، قالَ:
(٢) انظر: "عمدة القاري" للعيني (١٥/ ١٤٤).
(٣) رواه الطبراني في "المعجم الكبير" (١١٩١٤)، والحاكم في "المستدرك" (٤٠٩٨)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" (٦١/ ١٠٤).
(٤) رواه البخاري (٣٦٧٤)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: المعراج، عن مالك بن صعصعة -رضي الله عنه-.
وكان من حديثِ المعراجِ الشريفِ ما رُوي عن النبيِّ - ﷺ - أنه قال: "أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ قال: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتيتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بِهَا الأَنِبْيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَصلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ"، وفي روايةٍ: "فَلَمَّا دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، إِذَا أَنَا بِالأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ قَدْ حُشِرُوا إِلَيَّ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَمَثَلُوا لي (٢)، وَقَدْ قَعَدُوا صُفُوفًا صُفُوفًا يَنْتَظِرُونِي، فَسَلَّمُوا عَلَيَّ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَؤُلاَءِ؟ قَالَ: إِخْوَانُكَ الأَنْبيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ، زَعَمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ للهِ شَرِيكًا، وَزَعَمَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى أَنَّ للهِ وَلَدًا، اسْأَلْ هَؤُلاَءِ النَّبِيِّينَ هَلْ كَانَ للهِ عز وجل شَرِيكٌ؟ ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ﴾ [الزخرف: ٤٥]، فَلَمْ يشْكُكْ - ﷺ -، وَلَمْ يَسْأَلْهُمْ، وَكَانَ أَثْبَتَ يَقِينًا مِنْ ذَلِكَ".
قالَ أبو القاسمِ الحسنُ بنُ محمدِ بنِ حبيبٍ المفسِّرُ في "كتاب التنزيل" له: أن هذهِ الآيةَ أُنزلت على النبيِّ - ﷺ - ببيتِ المقدسِ ليلةَ أُسريَ به، وقد عدَّها غيرُه من العلماء في الشاميِّ، والذي قالَه أبو القاسم أخصُّ مما ذكروه.
وقال جماعةٌ من المفسِّرينَ: فلما أُنزلت، وسمعَها الأنبياءُ عليهم السلام، أقروا لله عز وجل.
(٢) في "ت": "إِليَّ".
(٢) رواه البخاري (٧٠٧٩)، كتاب: التوحيد، باب: قوله تعالى: ﴿وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا﴾.
...
(٢) قال ابن كثير في "تفسيره" (٣/ ٨): بعد أن ذكر السياق الذي نقله المصنف هنا: هذا سياق فيه غرائب عجيبة.
[٢] ﴿وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ﴾ التوراةَ ﴿وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا﴾ أي: هديناهم لئلَّا ﴿تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا﴾ أي: رَبًّا يَكِلونَ إليهِ الأمورَ.
قرأ أبو عمرٍو: (يَتَّخِذُوا) بالغيب؛ لأنه خبرٌ عنهم، وقرأ الباقون: بالخطاب، يعني: قلْنا لهم: (لا تتَّخِذُوا) (١).
...
﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (٣)﴾.
[٣] ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ﴾ منادًى؛ أي: يا ذريةَ قومِ نوحٍ! وهذا مِنَّةٌ على جميعِ الناسِ؛ لأنهم كلَّهم من ذريةِ مَنْ أُنْجِيَ في السفينةِ من الغرقِ، وهو إيماءٌ إلى توبيخِ مَنْ أشركَ بالله؛ لأنهم موجودون من ذريةِ مَنْ أُنجيَ في السفينةِ، المعنى: كانوا مؤمنينَ، فكونوا مثلَهم واسْتَنُّوا بسنَّتِهم، ثم زادَهم توبيخًا بقوله:
﴿إِنَّهُ﴾ أي: نوحًا ﴿كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾ كثيرَ الشكرِ، فكونوا مثلَه، وكانَ - ﷺ - يستعظمُ القليلَ من فضلِ اللهِ عليه، ويستصغرُ كثيرَ خدمتِه له.
...
﴿وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤)﴾.
﴿لَتُفْسِدُنَّ﴾ لامُ القسم، مجازُهُ: واللهِ لَتُفْسِدُنَّ ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ أي: أرضِ الشامِ وبيتِ المقدسِ ﴿مَرَّتَيْنِ﴾ بالمعاصي.
﴿وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا﴾ لَتَسْتكبِرُنَّ عن طاعةِ الله.
...
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (٥)﴾.
[٥] ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا﴾ أي: وعدُ عقابِ أولاهما، وهي مخالفةُ التوراةِ، وإحداثُهم المعاصي، وقتلُ أشعياءَ النبيِّ، الذي بَشَّرَ بعيسى ومحمدٍ عليهم الصلاة والسلام.
﴿بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا﴾ هو بُخْتَ نَصَّر وأصحابهُ على الأظهَرِ ﴿أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ﴾ ذوي قوة وبطش ﴿فَجَاسُوا﴾ طافوا ﴿خِلَالَ الدِّيَارِ﴾ وسطَ المنازلِ ﴿وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا﴾ أي: قضاءً كائناَ لا خُلْفَ فيه، وتقدَّمَ خبرُ قصةِ بخت نَصَّرَ وتخريبِه بيتَ المقدس في سورةِ البقرةِ عند تفسيرِ قوله تعالى: ﴿أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا﴾ [البقرة: ٢٥٩].
...
﴿ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (٦)﴾.
[٦] وقد روي أن سيدنا سليمانَ بنَ داودَ عليهما السلام عمرَ بيتَ المقدسِ من ذهبٍ وفضةٍ وياقوتٍ وزبرجدٍ، وكان عمدُه ذهبًا، أعطاهُ اللهُ ذلكَ، وسخَّرَ له الجنَّ والشياطينَ يأتونَه بهذه الأشياءِ في طَرْفةِ عين، وعملَ
﴿عَلَيْهِمْ﴾ أي: على الذين قتلوكم حينَ تبتُمْ.
﴿وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ﴾ رُوي أنَّ الله تعالى أوحى إلى أرمياءَ النبيِّ عليه السلام أَنَّ كورشَ يعمرُ بيتَ المقدسِ، وهو ملكٌ من ملوكِ الفرسِ، وكان مؤمنًا، فسار كورشُ ببني إسرائيلَ، وحُلِّي بيتُ المقدسِ حتى ردَّه إليه، وعمر بيت المقدس، وعادَ البلدُ أحسنَ مما كانَ، وأصعدَ إليها من بني إسرائيل أربعينَ ألفًا، وقَرَّبوا القرابينَ على رسومِهم الأولى، ورجعت إليهم دولتُهم، وعظم محلُّهم عندَ الأممِ، واستمرَّ بيتُ المقدسِ عامرًا سبعَ مئةٍ وإحدى وعشرينَ سنةً.
﴿وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا﴾ عددًا، والنفيرُ: من يَنْفِرُ مع الرجلِ من قومِه.
...
﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (٧)﴾.
[٧] ﴿إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ﴾ لأن ثوابه لها.
﴿وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا﴾ فإنَّ وبالَها عليها.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ أي: عقابُ المرةِ الآخرةِ من إفسادِكم، وذلكَ قصدُهم قتلَ عيسى عليه السلام حينَ رُفِعَ، وتقدَّمَ ذكرُ قصتِهم مستوفىً في سورةِ آلِ عمرانَ، وقتلهم يحيى عليه السلام، وسببُه أنَّ عيسى عليه السلام كان قد حَرَّمَ نكاحَ بنتِ الأخِ، فكانَ لهرودوس، وهو الحاكمُ على بني
﴿لِيَسُوءُوا﴾ أي: بعثناهم ليسوؤوا ﴿وُجُوهَكُمْ﴾ يُخْزوها، ويُدْخِلوا عليها الغمَّ والحزنَ، والضميرُ لأولي البأسِ الشديدِ. قرأ الكسائيُّ: (لنَسُوءَ) بالنونِ ونصبِ الهمزةِ على التعظيم إخبارًا من الله عن نفسه، وقرأ ابنُ عامرٍ، وحمزةُ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (لِيَسُوءَ) بالياءِ ونصبِ الهمزةِ؛
﴿وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ﴾ أي: بيتَ المقدسِ.
﴿كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ من المرتينِ.
﴿وَلِيُتَبِّرُوا﴾ يُهْلِكوا ﴿مَا عَلَوْا﴾ غَلَبوا عليه ﴿تَتْبِيرًا﴾ مصدرٌ.
...
﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (٨)﴾.
[٨] ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ﴾ بعدَ انتقامِه منكُم إن تبتُمْ، فيردَّ الدولةَ إليكم، فتابوا، فرحمهم ﴿وَإِنْ عُدْتُمْ﴾ إلى المعصيةِ ﴿عُدْنَا﴾ إلى العقوبةِ، فعادوا بتكذيبِ محمدٍ - ﷺ -، فعاد الله بتسليطِه عليهم، فقتلَ قريظةَ وأجلى بني النضيرِ، وضربَ الجزيةَ على الباقينَ، فهم يُعطونها عن يَدٍ وهم صاغِرونَ.
﴿وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا﴾ سِجْنًا؛ من الحَصْرِ، لا يقدرون على الخروج منها، واستمرَّ بيتُ المقدسِ ومسجدُه خرابًا إلى أنْ تراجعَ البلدُ إلى العمارةِ قليلًا قليلًا، وترمَّمَ شعثُه، وملكَهُ الرومُ واستوطنوه، واستمرَّ المسجدُ الأقصى خرابًا يُلْقى فيه القماماتُ، وبقيَ الحالُ على ذلك حتى جاءَ الإسلامُ، وقدمَ أميرُ المؤمنينَ عمرُ بنُ الخطاب رضي الله عنه، وفتحَ القدسَ، وعمرَ المسجدَ الأقصى زادَ اللهُ شرفهَ في سنةِ خمسَ عشرةَ من
...
﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (٩)﴾.
[٩] ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي﴾ أي: للطريقة التي ﴿هِيَ أَقْوَمُ﴾ أَصْوَبُ، وهي الإيمانُ ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ: (وَيَبْشُرُ) بفتحِ الياءِ وتخفيفِ الشينِ وضمِّها، من البشرِ، وهو البُشرى والبشارةُ، وقرأ الباقون: بضم الياءِ وتشديد الشينِ مكسورةً من بَشَّرَ المضعَّفِ على التكثير (١).
...
﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (١٠)﴾.
[١٠] ﴿وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا﴾ وهو النارُ، عطفٌ على (وَيُبَشِّرُ)؛ أي: يبشرُ المؤمنين بِشارتين: بثوابِهم في الآخرةِ، وبعقابِ أعدِائهم.
...
﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (١١)﴾.
[١١] ﴿وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ﴾ عندَ غضبِهِ ﴿بِالشَّرِّ﴾ على نفسِه ﴿دُعَاءَهُ﴾ أي:
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا﴾ ضجرًا لا صبرَ له على السَّراءِ والضَّراءِ. وحُذفت الواوُ من (يَدْعُ) في اللفظِ والخطِّ، ولم تحذفْ في المعنى؛ لأنها في موضعِ رفعٍ، فكان حذفُها باستقبالِها اللامَ الساكنة؛ كقوله: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ [العلق: ١٨] ﴿وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ﴾ [الشورى: ٢٤] ﴿وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [النساء: ١٤٦].
...
﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (١٢)﴾.
[١٢] ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ﴾ علامتينِ يُستدَلُّ باختلافِهما على الوحدانيةِ والقدرةِ ﴿فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ طَمَسْنا ضوءَهُ.
﴿وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ أي: بَيِّنَةً يُبْصَرُ بها الأشياءُ.
﴿لِتَبْتَغُوا﴾ لِتَطْلُبوا ﴿فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ﴾ في النهارِ أسبابَ معاشِكم.
﴿وَلِتَعْلَمُوا﴾ بها ﴿عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ﴾ أي: لو تركَ اللهُ الشمسَ والقمرَ كما خَلَقَهما، لم يُعْرَفِ الليلُ من النهار، ولم يُعْلَمْ وقتُ فطرِ الصائمِ، ولا وقتُ الحجِّ ونحوِهما ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا﴾ بيناه بيانًا ظاهرًا.
***
[١٣] ﴿وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ﴾ عملَه ﴿فِي عُنُقِهِ﴾ لا يفارقُه، وخُصَّ العنقُ بالذكرِ؛ لأنَّ الإلزامَ فيها أشدُّ.
﴿وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا﴾ هي صحيفةُ عملِه ﴿يَلْقَاهُ مَنْشُورًا﴾ مبينًا مشروحًا. قرأ أبو جعفرٍ: (وَيُخْرَجُ) بالياءِ وضمِّها وفتح الراء، مجهولٌ، وعنهُ وجهٌ بكسرِ الراء؛ أي: الفاعلُ اللهُ تعالى، وقرأ يعقوبُ: بالياءِ وفتحِها وضمِّ الراء؛ أي: ويخرجُ له الطائر يوم القيامة كتابًا، وقرأ الباقون: بالنونِ وضمِّها وكسرِ الراء (١)؛ أي: يقول الله: ونحنُ نخرجُ له يومَ القيامةِ كتابًا، واتفقوا على نصبِ (كتابًا)، ووجهُ نصبِه على قراعة أبي جعفرٍ أنْ يكونَ حالًا؛ أي: ويخرج الطائرُ كتابًا، وكذا وجهُ النصبِ على قراءة يعقوبَ أيضًا، فتتفقُ القراءتانِ في التوجيهِ على الصحيحِ الفصيحِ الذي لا يختلَفُ فيه، وقرأ أبو جعفرٍ وابنُ عامر: (يُلَقَّاهُ) بضمِّ الياءِ وفتحِ اللامِ وتشديدِ القاف، يعني: يُلَقَّى الإنسانُ ذلكَ الكتابَ؛ أي: يُؤْتاه، وقرأ الباقون: بفتح الياءِ وإسكانِ اللامِ وتخفيفِ القاف (٢)؛ أي: يراه منشورًا، وأمالَهُ ابنُ ذكوانَ راوي ابنِ عامرٍ بخلافٍ عنه.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٨)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣١٢).
[١٤] ﴿اقْرَأْ﴾ أي: يقال له: اقرأ ﴿كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا﴾ أي: محاسبًا، ونصبهُ على التمييز، وفَوَّضَ تعالى حسابَ العبدِ إليه لئلَّا يُنْسَبَ إلى الظلمِ، ولتجبَ الحجةُ عليهِ باعترافِه.
﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (١٥)﴾.
[١٥] ﴿مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ أي: من اجتهدَ حتى يهتديَ، فلها ثوابُه.
﴿وَمَنْ ضَلَّ﴾ أي: تغافلَ حتى ضلَّ.
﴿فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا﴾ لأنَّ عليها عقابَه.
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ﴾ ولا تحملُ نفسٌ آثمةٌ ﴿وِزْرَ﴾ إثمَ نفس ﴿أُخْرَى﴾ لأن كُلًّا مطالَبٌ بعملِه، وأصلُ الوزرِ: الثقلُ، رُوي أنَّ سببَها أنَّ الوليدَ بنَ المغيرةِ المخزوميَّ قالَ لأهلِ مكَّةَ: اكفُروا بمحمدٍ، وإثْمُكُمْ عليَّ، فنزلَتْ هذهِ الآية (١)؛ أي: إن الوليدَ لا يحملُ آثامَكم، وإنما إثمُ كُلِّ واحدٍ عليهِ.
﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾ ينذرُ ويبينُ الشرائعَ، فلا حكمَ قبلَ الشرع، بل الأمرُ موقوفٌ إلى ورودِهِ بالاتفاقِ.
...
[١٦] ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا﴾ مُنَعَّمِيها. قراءة العامة: (أَمَرْنَا) بالقصر؛ أي: أمرناهم بالطاعةِ، وقرأ يعقوبُ: (آمَرْنَا) بالمدِّ؛ أي: كَثَّرْنا، وَ (أَمَّرْنا) بالتشديدِ سَلَّطْنا، والتلاوةُ بالأولِ والثاني (١).
﴿فَفَسَقُوا فِيهَا﴾ فخرجوا عن الطاعةِ ﴿فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ﴾ وجبَ عليها الوعيدُ.
﴿فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ أهلكناها وما فيها هلاكَ استئصالٍ.
...
﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (١٧)﴾.
[١٧] ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ﴾ المكذِّبَةِ ﴿مِنْ بَعْدِ نُوحٍ﴾ كعادٍ وثمودَ مثالٌ لقريشٍ ووعيدٌ؛ أي: لستُمْ ببعيدٍ مما حصلوا فيه من العذابِ إذْ أنتم كَذَّبْتُم نبيَّكم، والقرنُ مئةُ سنةٍ على الأصحِّ، يعضُدُه الحديثُ في قولِه عليه السلام: "خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي" (٢)، وروى محمدُ بنُ القاسمِ في ختنِهِ عبدِ اللهِ بنِ بِشْرٍ قال: وضعَ رسولُ اللهِ - ﷺ - على رأسِهِ وقالَ: "سَيَعِيشُ
(٢) رواه البخاري (٢٥٠٩)، كتاب: الشهادات، باب: لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد، ومسلم (٢٥٣٣)، كتاب: فضائل الصحابة، باب: فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، عن ابن مسعود -رضي الله عنه-.
﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ فيعاقِبُ عليها، والباءُ في (بِرَبِّكَ) زائدةٌ، والتقديرُ: وكفى ربُّك، هذه الباءُ إنما تجيءُ في الأغلبِ في مدحٍ أو ذمٍّ، فكأنها تُعطي معنى: اكْتَفِ بِرَبِّكَ؛ أي: ما أكفاه في هذا!
...
﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (١٨)﴾.
[١٨] ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ﴾ يعني: الدنيا، مقصورًا عليها هَمُّهُ، وجوابُ (مَنْ كَانَ) ﴿عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ﴾ من البسطِ والتقتيرِ وغيرِهما، لا ما يشاء هو.
﴿لِمَنْ نُرِيدُ﴾ أن نفعلَ له ذلكَ، أو إهلاكُه قَيَّدَ المعجَّلَ، والمعجَّلَ له بالمشيئةِ والإرادةِ؛ لأنه لا يجدُ كُلُّ مُتَمَنٍّ ما يتمناه، ولا كلُّ واحدِ جميعَ ما يهواه.
﴿ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا﴾ يدخُلُها.
﴿مَذْمُومًا مَدْحُورًا﴾ مطرودًا من رحمةِ اللهِ.
...
[١٩] ﴿وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ﴾ إرادةَ يقينٍ بها، وإيمانٍ باللهِ وبرسالاته.
﴿وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا﴾ وهي ملازمةُ أعمالِ الخيرِ وأقواله على حكمِ الشرعِ.
﴿وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ مقبولًا، ولا يشكرُ اللهُ عملًا ولا سعيًا إلا أثابَ عليهِ، وغفرَ بسببِهِ.
...
﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (٢٠)﴾.
[٢٠] ﴿كُلًّا﴾ نصبٌ بقولهِ: ﴿نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ﴾ أي: نُمِدُّ كلَّ واحدٍ من الخلائقِ الطائعَ والعاصي ﴿مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ﴾ رزقِهِ.
﴿وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ ممنوعًا في الدنيا عن مؤمنٍ وكافرٍ تفضُّلًا.
...
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (٢١)﴾.
[٢١] ﴿انْظُرْ﴾ يا محمدُ ﴿كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ﴾ في الرزقِ والعملِ، يعني: طالبَ العاجلةِ وطالبَ الآخرةِ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ،
﴿وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ﴾ للمؤمنينَ.
﴿وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا﴾ لأَن التفاوتَ فيها بالجنةِ ودرجاتِها، والنارِ ودَرَكاتِها.
...
﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (٢٢)﴾.
[٢٢] ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ﴾ فتصيرَ.
﴿مَذْمُومًا﴾ من غيرِ حمدٍ.
﴿مَخْذُولًا﴾ ذليلًا بلا ناصرٍ، الخطابُ مع النبي - ﷺ -، والمرادُ غيرُه.
...
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (٢٣)﴾.
[٢٣] ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ مقتصرينَ على عبادتِه تعالى.
﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ بِرًّا بهما، وعَطْفًا عليهما.
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ (يَبْلُغَانِ) بألفٍ مطولةٍ بعدَ الغينِ وكسرِ النونِ على التثنية، وقرأ الباقونَ: بغير ألفٍ، وفتحِ النون على
﴿عِنْدَكَ﴾ إشارةً إلى كفالتِهِ ﴿الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾ المعنى: إذا أسنَّ والداك، أو أحدُهما، واحتاجا، أو أحدُهما في حالِ كبرِهما إلى أن تتولَّىَ منهما ما كانا يتولَّيانِهِ منكَ في حالِ الطفولةِ. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (كِلاَهُمَا) بالإمالةِ (٢).
﴿فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ﴾ لفظٌ يقال لما يضجَرُ منه، وهي كلمةُ كراهيةٍ، وهذه اللفظةُ مثالٌ لجميعِ ما يمكنُ أن يقابَلَ به الآباءُ مما يكرهون، فلم تُرَدْ هذه في نفسِها، وإنما هي مثالٌ لأعظمَ منها. قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ، ويعقوبُ: (أُفَّ) بفتح الفاءِ من غير تنوينٍ، وقرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: بكسر الفاءِ مع التنوينِ، وقرأ الباقون: بكسرِ الفاءِ من غيرِ تنوينٍ، والقراءاتُ الثلاثُ لغاتٌ معناها واحدٌ (٣).
﴿وَلَا تَنْهَرْهُمَا﴾ تَزْجُرْهما، والانتهارُ: إظهارُ الغضبِ في الصوتِ واللفظِ.
﴿وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ لينًا جيدَ المعنى.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٣)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٥٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣١٦).
(٣) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٧٩)، و"التيسير" للداني (ص: ١٣٩)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٧٦)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٦ - ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣١٦ - ٣١٧).
[٢٤] ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ تَدلَّلْ لهما وتواضَعْ.
﴿مِنَ الرَّحْمَةِ﴾ من أجلِ رحمتِكَ لهما.
﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾ وهذا كلُّه في الأبوينِ المؤمنينِ، وقد نهى القرآنُ عن الاستغفارِ للمشركينَ الأمواتِ، ولو كانوا أُولي قربى، قالَ - ﷺ -: "رِضَا اللهِ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُهُ في سَخَطِ الوالدِ" (١)، وقال: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنَّانٌ وَلاَ عَاقٌّ وَلا مُدْمِنُ خَمْرٍ" (٢).
...
﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (٢٥)﴾.
[٢٥] ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ﴾ من برِّ الوالدينِ وعقوقِهما.
﴿إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ﴾ أبرارًا مطيعينَ بعدَ تقصيرِكم في حقِّ الوالدينِ وغيرِه.
﴿فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ﴾ الراجعينَ بالتوبةِ ﴿غَفُورًا﴾ ما فرط منكُمْ.
(٢) رواه النسائي (٥٦٧٢)، كتاب: الأشربة، باب: الرواية في المدمنين في الخمر، والإمام أحمد في "المسند" (٢/ ٢٠١)، وغيرهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما-.
[٢٦] ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ والمرادُ: صلةُ الرحمِ، خوطبَ بذلكَ النبيُّ - ﷺ -، والمرادُ: الأمة ﴿وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ﴾ من الزكاةِ المفروضةِ.
﴿وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا﴾ التبذيرُ: الإتلافُ وإنفاقُ المالِ في فسادٍ.
...
﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (٢٧)﴾.
[٢٧] ﴿إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ﴾ أي: أمثالَهم؛ لأنهم أَطاعوهم.
﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا﴾ مبالِغًا في الكفرِ.
...
﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (٢٨)﴾.
[٢٨] ﴿وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ﴾ عن ذَوي القربى والمذكورينَ قبلُ حياءً من الرَّدِّ.
﴿ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا﴾ انتظارَ رزقٍ من اللهِ ترجوهُ أن يأتيَكَ.
﴿فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا﴾ طَيِّبًا؛ أي: عِدْهُم جميلًا، وقلْ: يرزقُنا اللهُ وإياكم.
***
[٢٩] ونزل لما أعطى رسولُ الله - ﷺ - قميصَه، ولم يبقَ له ثوبٌ يخرجُ بهِ إلى الصلاةِ:
﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾ (١) كنايةٌ عن نهايةِ الإمساكِ.
﴿وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ﴾ كنايةٌ عن نهايةِ البَذْلِ.
﴿فَتَقْعُدَ مَلُومًا﴾ تُلامَ على إتلافِ مالِكَ.
﴿مَحْسُورًا﴾ منقَطِعًا عن النفقةِ والتصرُّفِ.
...
﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٣٠)﴾.
[٣٠] ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ﴾ يوسِّعُ ﴿الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ يُضَيِّقُ.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا﴾ فيعلَمُ من مصالِحهم ما يَخْفى عليهم.
...
﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (٣١)﴾.
[٣١] ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ﴾ مخافةَ فقرٍ.
﴿نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ﴾ وذلكَ أنَّ الجاهليةَ كانوا يَئِدُونَ بناتِهم خشيةَ
﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾ إثمًا عظيمًا. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (خَطَأً) بفتحِ الخاءِ والطاءِ مقصورًا، وقرأ ابنُ كثيرٍ: بكسرِ الخاءِ وفتحِ الطاءِ ممدودًا، وقرأ الباقون: بكسر الخاء وجزم الطاءِ، والقراءاتُ الثلاثُ معناها واحدٌ (١).
...
﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (٣٢)﴾.
[٣٢] ﴿وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا﴾ نهيٌ عن مقدِّماتِه؛ كالنظرةِ والغمزةِ، فَضْلًا عن مباشرتِه، وإذا نُهي عن مقدماتِه، فالنهيُ عنه أَوْلى، ولو أرادَ النهيَ عن نفسِ الزنى لقالَ: ولا تزنوا.
﴿إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً﴾ فعلةً ظاهرةَ القبحِ.
﴿وَسَاءَ سَبِيلًا﴾ بئسَ طريقًا طريقُه.
...
﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (٣٣)﴾.
[٣٣] ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ قولُه (وَلاَ تَقْتُلُوا) وما قبلَه من الأفعال جزمٌ بالنهيِ، والألفُ واللامُ التي في النفس هي
﴿وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا﴾ نصبٌ على الحالِ، ومعناه: بغيرِ هذهِ الوجوهِ المذكورةِ.
﴿فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ﴾ أي: لقرابتِهِ الذي يَلي دمَهُ ﴿سُلْطَانًا﴾ تسلُّطًا على القاتلِ، إنْ شاءَ قتلَ، وإن شاءَ عفا، وإن شاءَ أخذَ الديةَ.
﴿فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (تُسْرِفْ) بالخطاب لوليِّ القتيلِ، وقرأ الباقونَ: بالغيب (٢)؛ أي: لا يُسْرِفِ الوليُّ في القتلِ، والإسرافُ: أَنْ يقتلَ غيرَ القاتلِ، أو يقتلَ اثنينِ أو أكثرَ بالواحدِ.
﴿إِنَّهُ﴾ أي: الوليُّ ﴿كَانَ مَنْصُورًا﴾ بنصرةِ الشرعِ والسلطانِ، وقيل: الضميرُ عائدٌ على المقتولِ، ونصرُهُ قتلُ قاتلِهِ، وحصولُ الأجير له، واختارَ
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٠)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٥)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٨٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢٠)، وثمة رواية عن ابن عامر أنه قرأ "تسرف" بالتاء.
...
﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (٣٤)﴾.
[٣٤] ﴿وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾ أي: بالفعلَةِ التي هي أسرعُ إلى إصلاحِ حالِه ومالِه.
﴿حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ﴾ منتهى بلوغِه، وتقدَّمَ الكلامُ على الرشدِ، وأحكامِ البلوغِ، واختلافُ الأئمةِ فيه مستوفىً في سورةِ النساء عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: ﴿فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا﴾ [النساء: ٦].
﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ﴾ إذا عاهدْتُم لكلِّ أحدٍ ﴿إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ عنهُ.
...
﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (٣٥)﴾.
[٣٥] ﴿وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ﴾ ولا تَبْخَسوا فيه.
﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ﴾ بالميزانِ السَّوِيِّ، وهو رومِيٌّ عُرِّبَ، ولا يقدحُ ذلكَ في عربيةِ القرآنِ؛ لأنَّ العجميَّ إذا استعملَتْه العربُ وأَجرته مُجرى كلامِهم في الإعرابِ والتعريفِ والتنكيرِ ونحوها، صار عربيًّا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (بالْقِسْطَاسِ) بكسرِ
﴿ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ عاقبةً وما يؤول إليه الأمرُ.
...
﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (٣٦)﴾
[٣٦] ﴿وَلَا تَقْفُ﴾ لا تتْبَعْ ولا تَقُلْ ﴿مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾ والقفوُ: اتِّباعُ الأثرِ، وأصلُه من القَفَا؛ أي: لا تقلْ سمعتُ ولم تسمعْ، ورأيتُ ولم ترَ، وعلمتُ ولم تعلمْ.
﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ قرأ ورشٌ عن نافعٍ: (وَالْفُوَادَ) بفتحِ الواوِ بغيرِ همزٍ، والضمير في (عنه) يعودُ على ما ليسَ للإنسانِ به علمٌ، ويكون المعنى: إن اللهَ تعالى يسأَلُ سمعَ الإنسانِ وبصرَهُ وفؤادَهُ عَمَّا قالَ مما لا علمَ له به، فيقعُ تكذيبُه من جوارحِهِ، وتلكَ غايةُ الخِزْيِ، ويحتملُ أن يعودَ الضميرُ في (عنه) على (كُلُّ) التي هي السمعُ والبصرُ والفؤادُ، والمعنى: إنَّ اللهَ يسألُ الإنسانَ عَمَّا حواهُ سمعهُ وبصرُه وفؤادُه، فكأنه قالَ: كلُّ هذهِ كانَ الإنسانُ عنهُ مسؤولًا؛ أي: عما حصلَ لهؤلاءِ من الإدراكاتِ، ووقعَ منها من الخطإِ، فالتقديرُ: عن أعمالِها مسؤولًا، فهو على حذفِ مضافٍ.
...
[٣٧] ﴿وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا﴾ خيلاءَ ﴿إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ﴾ لنْ تقطعَها بكبرِكَ حتى تبلغَ آخِرَها ﴿وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا﴾ أي: لن تقدرَ أن تُجاوزَها أو تسُاويَها بكبرِكَ، وهو تهكُّمٌ بالمختالِ، وملخَّصُه: أنتَ عاجزٌ فلا تتكبَّرْ.
...
﴿كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (٣٨)﴾.
[٣٨] ﴿كُلُّ ذَلِكَ﴾ المذكورِ من المناهي ﴿كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا﴾ قرأ الكوفيون، وابنُ عامرٍ: (سَيِّئُهُ) بضمِّ الهمزةِ والهاءِ وإلحاقِها واوًا في اللفظِ على الإضافة والتذكيرِ، ومعناه: كلُّ الذي ذكرناه من قوله: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ﴾ (كانَ سيئه)؛ أي: سَيِّئ ما عَدَّدْنا عليكَ عندَ رَبِّكَ مَكْروهًا؛ لأن فيما عدَّ أمورًا حسنةً؛ كقولِه: ﴿وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ﴾ ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ﴾ وغير ذلك، وقرأ الباقون: بفتحِ الهمزةِ ونصبِ تاء التأنيثِ معَ التنوين على التوحيدِ (١)، ومعناه: كلُّ الذي ذَكَرْنا من قوله: ﴿وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ﴾ إلى هذا الموضعِ سيئةً، لا حسنةً، والكلُّ يرجعُ إلى المنهيِّ عنه دونَ غيرِه، ولم يقل: مكروهةً؛ لأن فيه تقديمًا وتأخيرًا، تقديرُه: كل ذلكَ كانَ مكروهًا، سيئةً، وقوله: مكروهًا على التكريرِ لا على الصفةِ، مجازُهُ كلّ ذلكَ كانَ سيئةً، وكانَ مكروهًا، أو رجعَ إلى المعنى دونَ اللفظ؛ لأن السيئةَ الذنبُ، وهو مذكَّرٌ.
[٣٩] ﴿ذَلِكَ﴾ المذكورُ من الأحكامِ المتقدمةِ ﴿مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ﴾ وهو الموحى؛ لأنه في غايةِ الإحكام، ثم خوطبَ النبيُّ - ﷺ -، والمرادُ غيرُه بقوله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا﴾ تلومُ نفسَكَ ﴿مَدْحُورًا﴾ مُبْعَدًا عن الخيرِ.
...
﴿أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (٤٠)﴾.
[٤٠] ﴿أَفَأَصْفَاكُمْ﴾ أَخَصَّكُم أيها المشركونَ ﴿رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا﴾ لأنهم كانوا يقولون: الملائكةُ بناتُ اللهِ، والهمزةُ في (أَفَأَصْفَاكُمْ) للإنكارِ.
﴿إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا﴾ بإضافتِكم الأولادَ إليه، وبتفضيلِ أنفسِكم عليه.
...
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (٤١)﴾.
[٤١] ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ نَوَّعْنَا القولَ ﴿فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (لِيَذْكُرُوا) بسكونِ الذالِ وضمِّ الكافِ مخفَّفًا؛ من الذكرِ بعدَ النسيان، وقرأ الباقونَ: بفتحِ الذالِ والكافِ مع تشديدِهما (١)، من التذكُّرِ: التدبُّرِ.
...
﴿قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (٤٢)﴾.
[٤٢] ﴿قُلْ﴾ قلُ يا محمدُ لهؤلاءِ المشركين: ﴿لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وحفصٌ عن عاصمٍ: (يَقُولُونَ) بالغيبِ على أنَّ الخطابَ معَ الرسولِ - ﷺ -، وقرأ الباقون: بالخطاب (١)؛ أي: كما تقولونَ أَيُّها المشركونَ.
﴿إِذًا لَابْتَغَوْا﴾ أي: طلبوا، يعني: الآلهةُ.
﴿إِلَى ذِي الْعَرْشِ﴾ أي: صاحبِ العرشِ.
﴿سَبِيلًا﴾ طريقًا ليغالبوهُ ويقهروهُ؛ كفعلِ ملوكِ الدنيا بعضِهم ببعضٍ.
قرأ أبو عمرٍو: (ذِي الْعَرْش سبِيلًا) بإدغامِ الشينِ في السينِ (٢).
...
﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (٤٣)﴾.
[٤٣] ﴿سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ﴾ قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ:
(١) المصادر السابقة.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٣)، وذكر أنه لم يقع في القرآن إدغام شين في سين إلا في هذا؛ من أجل زيادة الشين بالتفشّي، وينظر: "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢٤).
﴿كَبِيرًا﴾ متباعِدًا عما يقولونَ.
...
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (٤٤)﴾.
[٤٤] ﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾ أي: تنزِّهُهُ السمواتُ والأرضُ ومَنْ فيهنَّ من الملائكةِ والإنسِ والجنِّ عن هذهِ المقالةِ التي لكم، والاشتراك الذي أنتم بسبيلهِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ بخلافٍ عنه: (يُسَبِّحُ) بالياءِ على التذكيرِ؛ لقيامِ (لهُ) مقامَ تاءِ التأنيثِ؛ ولأن تأنيثَ (السمواتِ) غيرُ حقيقيٍّ، وقرأ الباقون: بالتاء مؤنثًا على اللفظ، والقراءتان حسنتان (٢).
﴿وَإِنْ﴾ أي: وما ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من حيٍّ وجمادٍ حتى صريرُ البابِ ﴿إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾ أي: ينزِّهُ اللهَ ويحمَدُهُ ويمجِّدُه ﴿وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ﴾ تفهمونَ ﴿تَسْبِيحَهُمْ﴾ لأنه ليسَ بلغتِكم.
﴿إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا﴾ فلذلكَ أمهلَكُم ﴿غَفُورًا﴾ لمن تابَ منكم.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٨٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٧)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢٥).
[٤٥] وكان المشركونَ يؤذون النبيَّ - ﷺ - مصلِّيًّا، وجاءتْ أُمُّ لهبٍ بحجرٍ لترضَخَ به رأسَه، فلم تَرَهُ، فنزل: ﴿وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا﴾ (١) على قلوبهم عن الفهم ﴿مَسْتُورًا﴾ ساتِرًا.
...
﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (٤٦)﴾.
[٤٦] ﴿وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً﴾ أغطيةً؛ كراهةَ.
﴿أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا﴾ صَمَمًا يمنعُهم عن استماعِه.
﴿وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ﴾ غيرَ مشفوعٍ به آلهتُهم ﴿وَلَّوْا﴾ رجعوا.
﴿عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا﴾ جمعُ نافرٍ؛ أي: نافرينَ. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ من روايةِ الدوريِّ: (أَدْبَارَهُمْ) بالإمالةِ، واختلِفَ عن ابنِ ذكوانَ، ورُوِيَ عن ورشٍ، وحمزةَ بينَ اللفظينِ، وقرأ الباقونَ: بإخلاصِ الفتحِ (٢).
...
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (٤٧)﴾.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٣)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢٥).
﴿إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ﴾ وأنتَ تقرأُ القرآنَ ﴿وَإِذْ هُمْ نَجْوَى﴾ جمعُ نَجِيٍّ، وهم القومُ يتناجَوْن يتحدَّثون.
﴿إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ﴾ المشركونَ، وهم الوليدُ بنُ المغيرةِ وأصحابهُ.
﴿إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا﴾ شَبَّهوا الخيالَ الذي عندَه بزعمِهم، وأقوالَه الوخيمةَ برأيهم بما يكونُ من المسحورِ الذي قد خبَّلَ السحرُ عقلَه، وأفسدَ كلامَه.
...
﴿انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (٤٨)﴾.
[٤٨] ﴿انْظُرْ﴾ يا محمدُ ﴿كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ﴾ مَثَّلوكَ بالشاعرِ والساحرِ والكاهنِ والمجنونِ. وتقدَّمَ اختلافُ القراء في ضَمِّ التنوينِ وكسرِه عندَ قوله: (مَحْظُورًا انْظُرْ)، وكذلك اختلافُهم في قوله: (مَسْحُورًا انْظُرْ).
﴿فَضَلُّوا﴾ في جميعِ ما نَسبوه إليكَ.
﴿فَلَا يَسْتَطِيعُونَ﴾ لا يجدونَ ﴿سَبِيلًا﴾ إلى الهدى، أو إلى إفسادِ أمرِك وإطفاءِ نورِ اللهِ فيكَ بضربِهم الأمثالَ لكَ، واتِّباعِهم كلَّ حيلةٍ في جهتِك.
...
﴿وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٤٩)﴾.
[٤٩] ﴿وَقَالُوا﴾ تعجُّبًا وإنكارًا للبعثِ، واستبعادًا له:
﴿أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا﴾ وهو ما مرَّ عليهِ الزمنُ حتى إنه بلغَ به غايةَ البِلى وَقرَّبه من عالم الترابِ.
...
﴿قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (٥٠)﴾.
[٥٠] ﴿قُلْ﴾ يا محمدُ جوابًا لهم تعجيزًا وتوبيخًا ﴿كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا﴾.
...
﴿أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (٥١)﴾.
[٥١] ﴿أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ﴾ أي: يعظُم في نفوسِكم؛ كالسمواتِ والأرضِ مما لم يقبلِ الحياةَ إن استطعتم هذه الأشياءَ، ثمَّ انظروا بأدلَّةِ العقلِ هل نحن قادرونَ على جعلِ الروحِ فيه؛ لأنا أوجدناكم، ثم أحييناكم، فلا يمتنعُ علينا إيجادُنا الروحَ.
﴿فَسَيَقُولُونَ﴾ استبعادًا ﴿مَنْ يُعِيدُنَا﴾ بعدَ الموتَ؟
﴿قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ﴾ أنشأَكُم ﴿أَوَّلَ مَرَّةٍ﴾ فإنَّ القادَر على الإنشاءِ قادرٌ على الإعادةِ ﴿فَسَيُنْغِضُونَ﴾ أي: يحرِّكونَ.
﴿إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ﴾ استهزاءً بك.
﴿مَتَى هُوَ﴾ أي: الإعادةُ والبعثُ.
...
﴿يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (٥٢)﴾.
[٥٢] ﴿يَوْمَ﴾ تقديرُه: يعيدُكم يومَ ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ من قبورِكم بالنفخِة الآخرةِ ﴿فَتَسْتَجِيبُونَ﴾ فَتُجيبون ﴿بِحَمْدِهِ﴾ بأمرِه، وقيلَ: تُبعثونَ من قبورِكم طائعينَ حامِدين.
﴿وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ﴾ في الدنيا، وفي القبورِ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ لأن الإنسانَ لو مكثَ ألوفًا من السنينَ في الدنيا وفي القبر، عُدَّ ذلكَ قليلًا في مدةِ القيامةِ والخلودِ. قرأ نافعٌ، وابنُ كثيرٍ، وعاصمٌ، ويعقوبُ، وخلفٌ: (لَبِثْتُمْ) و (لَبِثْت) بإظهارِ الثاءِ عندَ التاءِ حيثُ وقعَ، والباقون: بالإدغامِ (١)، وروي عن أبي جعفرٍ: (فَسَيُنْغِضُونَ) بإخفاءِ النونِ عندَ الغينِ، ورُوي عنهُ الإظهارُ، وهو أشهرُ، وتقدَّمَ ذكرُ مذهبه في ذلك مستوفىً في سورةِ النساءِ عندَ تفسيرِ قولِه تعالى: (إِن يَكُنْ غَنِيًّا).
...
﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (٥٣)﴾.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ﴾ يفسِدُ ويهيجُ ﴿بَيْنَهُمْ﴾ المراءَ والشرَّ.
﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا﴾ ظاهرَ العداوة.
...
﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (٥٤)﴾.
[٥٤] ﴿رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ﴾ خطابٌ لكفارِ مكةَ ﴿إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ﴾ يوفِّقْكُم فتؤمنوا ﴿أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ﴾ يُمِتْكُم على الشركِ فَتُعَذَّبوا.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا﴾ حَفِيظًا وكَفِيلًا، قيل: نُسِخَتْ بآيةِ القتالِ.
...
﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (٥٥)﴾.
[٥٥] ﴿وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ أي: هو عالمٌ بهم وبأحوالِهم.
(٢) المرجع السابق، الموضع نفسه.
﴿وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا﴾ تفضيلًا لهُ، كانَ زبورُ داود مئةً وخمسينَ سورةً ليسَ فيها حلالٌ ولا حرامٌ، بل تمجيدٌ وتحميدٌ، ودعاءٌ، صلواتُ اللهِ تعالى وسلامُه عليهم أجمعينَ، وهذا خطابٌ مع الذينَ يعترِفون بتفضيلِ الأنبياءِ، المعنى: إذا اعترفْتُم بتفضيلهِم، فلِمَ تنكرونَ فضلَ محمدٍ - ﷺ -، وهو واحدٌ منهم. قرأ حمزةُ، وخلفٌ: (زُبُورًا) بضمِّ الزاي، والباقون: بفتحها (١).
﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (٥٦)﴾.
[٥٦] ونزلَ فيمن عبدَ غيرَ اللهِ تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ﴾ أَنَّهم أولياؤكم.
﴿مِنْ دُونِهِ﴾ أي: دونِ اللهِ؛ ليكشفوا عنكم البلاءَ والضرَّ، وذلكَ أن المشركينَ أصابَهم قحطٌ شديدٌ، حتى أكلوا الكلابَ والجِيَفَ، فاستغاثوا بالنبيِّ - ﷺ - ليدعوَ لهم، فنزلت. قرأ عاصمٌ، وحمزةُ، ويعقوبُ: (قُلِ ادْعُوا) بكسرِ اللامِ في الوصلِ، والباقون: بالضمِّ (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٤)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٢٧)، ورويت عن الكسائي بضم اللام.
...
﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (٥٧)﴾.
[٥٧] ﴿أُولَئِكَ﴾ أي: الأنبياءُ المذكورونَ في أولِ الآيةِ في قوله: ﴿وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ﴾.
﴿الَّذِينَ يَدْعُونَ﴾ يتضرَّعونَ ﴿يَبْتَغُونَ﴾ يطلبونَ ﴿إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ﴾ القربةَ إليه ﴿أَيُّهُمْ أَقْرَبُ﴾ إلى رحمةِ اللهِ تعالى، يبتغي الوسيلةَ إليهِ بصالحِ الأعمال.
﴿وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ﴾ وأكبرُهم عيسى وأمُّه، وعزيرٌ، والملائكةُ، والشمسُ، والقمرُ والنجومُ، وما عُبِدَ من دونِ اللهِ، وهو مطيعٌ لله، وقيلَ غيرُ ذلكَ.
﴿إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا﴾ لا أمانَ لأحدٍ منه، بل يحذَرُه كلُّ مَلَكٍ مقرَّبٍ، ونبيٍّ مرسَلٍ لشدتِه.
...
﴿وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (٥٨)﴾.
[٥٨] رُوي أنَّ رسولَ الله - ﷺ - خرجَ يومًا على أصحابِه، فقال: "هَلْ
﴿أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا﴾ بالقتلِ وأنواعِ العقابِ إنْ لم يؤمنوا.
﴿كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ﴾ في اللوحِ المحفوظِ ﴿مَسْطُورًا﴾ مكتوبًا.
...
﴿وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (٥٩)﴾.
[٥٩] ﴿وَمَا مَنَعَنَا﴾ أي: وما صرَفَنا.
﴿أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ﴾ التي اقترحَتْها قريشٌ.
﴿إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ﴾ الذين أمثالُهم في الطبع؛ كعادٍ وثمودَ؛ لأنَّ سنةَ اللهِ فيمَنْ تقدَّمَ أنه كانَ إذا أُتِيَ بآيةٍ فلم يؤمنْ أن يهلِكَهُ، وكان تعالى قد حكمَ بإمهالِهم لإتمامِ أمرِ محمدٍ - ﷺ -، فقال تعالى: ﴿بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ﴾ [القمر: ٤٦].
﴿وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً﴾ بَيِّنَةً واضحةً ﴿فَظَلَمُوا بِهَا﴾ أي: جَحَدوا بها أنها من عندِ اللهِ، فعاجلناهم بالعقوبةِ.
﴿وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ﴾ المعجزاتِ ﴿إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ للعبادِ؛ ليؤمنوا.
***
[٦٠] ﴿وَإِذْ قُلْنَا لَكَ﴾ أي: واذكرْ وقتَ إيحائِنا إليك.
﴿إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ﴾ علمَ بمكرِهِمْ بكَ، فهو حافِظُكَ منهم، فأَمْضِ أمَركَ، ولا تَخَفْ أحدًا.
﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ﴾ ليلةَ الإسراءِ ﴿إِلَّا فِتْنَةً﴾ أي: اختبارًا ﴿لِلنَّاسِ﴾، وتقدَّمَ الكلامُ على ذلكَ في أولِ السورةِ عندَ ذكرِ قصةِ المعراجِ. قرأ الكسائيُّ، وخَلَفٌ: (الرُّؤْيَا) بالإمالِة في الوقف فقطْ (١).
﴿وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ﴾ أي: الملعونَ آكلُها، وهي المذكورةُ.
﴿فِي الْقُرْآنِ﴾ وهي الزقُّوم، وقولُه: (وَالشَّجَرَةَ) عطفٌ على قولِه: (الرُّؤْيا)؛ أي: جعلْنا الرؤيا والشجرةَ فتنةً، فكانتِ الفتنةُ في الرؤيا ما تقدَّمَ في قصةِ المعراجِ من ارتدادِ كثيرٍ ممَّنْ أسلمَ، والفتنةُ في الشجرةِ الملعونةِ أنه لما نزلَ أمرُها في سورةِ الصافات، قالَ أبو جهلٍ وغيرُه: هذا محمدٌ يتوعَّدُكم بنارٍ تحرقُ الحجارةَ، ثم يزعُمُ أنها تنُبت الشجرَ، وقد علمتُم أن النارَ تحرقُ الشجرَ، وما نعرفُ الزقُّوم إلا التمرَ بالزُّبْدِ، ثم أمرَ أبو جهلٍ جاريةً له فأحضرَتْ تمرًا وزُبْدًا، وقال لأصحابه: تَزَقَّموا، فافتتن أيضًا بهذهِ المقالةِ بعضُ الضُّعفاءِ، فأخبرَ اللهُ نبيَّه أنما جعلَ الإسراءَ وذكرَ شجرةِ الزقومِ
﴿وَنُخَوِّفُهُمْ﴾ بأنواعِ التخويفِ ﴿فَمَا يَزِيدُهُمْ﴾ تخويفُنا.
﴿إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا﴾ تمرُّدًا وعُتُوًّا عَظيمًا.
...
﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (٦١)﴾.
[٦١] ﴿وَإِذْ قُلْنَا﴾ أي: واذكرْ إِذْ قُلْنا ﴿لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا﴾ أي: خلقتَهُ من طينٍ، وثُصِبَ بنزعِ الخافضِ، وقاسَ إبليسُ في هذهِ النازلةِ فأَخطأَ، وذلك أنه لما رأى الفضيلةَ لنفسِه من حيثُ رأى أن النارَ أفضلُ من الطين، وجهلَ أنَّ الفضائل في الأشياءِ إنما تكونُ حيثُ خَصَّها الله تعالى، ولا يُنْظَرُ إلى أُصولها. واختلافُ القراءِ في: (أَأَسْجُدُ) كاختلافِهم في ﴿أَأَنْذَرْتَهُمْ﴾ في سورةِ البقرةِ [الآية: ٦]، وتقدَّمَ مذهبُ أبي جعفرٍ في ضمِّ التاءِ من قوله (لِلْمَلاَئِكَةُ اسْجُدُوا) في سورةِ البقرةِ.
[٦٢] ولما أُمِرَ الخبيثُ بالسجودِ لآدمَ ﴿قَالَ أَرَأَيْتَكَ﴾ أَخْبِرْني عن.
﴿هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ﴾ أي: فَضَّلْتَ، لِمَ فَضَّلْتَهُ ﴿عَلَيَّ﴾ وأنا خيرٌ منه، وتمَّ سؤالُ الخبيثِ، ثم ابتدأ آتيًا باللامِ الموطِّئَةِ للقسَمِ المحذوفِ فقال:
﴿لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ أثبتَ أبو عمرٍو، ونافعٌ، وأبو جعفرٍ: الياءَ في (أَخَّرْتَنِي) وَصْلًا، وأثبتَها يعقوبُ وَصْلًا ووَقْفًا، وحذفها الباقونَ في الحالين (١).
﴿لأَحْتَنِكَنَّ﴾ لأستأصِلَنَّ ﴿ذُرِّيَّتَهُ﴾ بالإغواءِ ﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ منهم، وهم المستثنَوْنَ بقوله: ﴿إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ﴾ [الحجر: ٤٢].
...
﴿قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (٦٣)﴾.
[٦٣] ﴿قَالَ﴾ اللهُ تهديدًا له، وتحذيرًا منه؛ لئلَّا يُطاعَ:
﴿اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ﴾ من الإنسِ.
﴿فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ﴾ على صنيعِكم ﴿جَزَاءً مَوْفُورًا﴾ موفرًا مُكَمَّلًا. قرأ أبو عمرٍو، والكسائيُّ، وخلادٌ، وحمزهُ: (اذْهَب فمَنْ) بإدغامِ الباءِ في الفاء، والباقون: بالإظهار (٢).
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن =
[٦٤] ﴿وَاسْتَفْزِزْ﴾ اسْتَخِفَّ واسْتَزِلَّ ﴿مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ﴾ يعني: من ذريةِ آدمَ ﴿بِصَوْتِكَ﴾ أي: بالوسوسةِ.
﴿وَأَجْلِبْ﴾ اجمعْ ﴿عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ﴾ جمع راجل، المعنى: اجهدْ جهدَكَ، واجمعْ عليهم مكرَكَ وحيلَك ما أمكَنكَ، فلن أعجزَ عن منعِك ومنعِهم إذا شئتُ، قال أهلُ التفسير: كلُّ راكبٍ وماشٍ في معاصي الله فهو من جُنْدِ إبليسَ. قرأ حفصٌ عن عاصمٍ: (وَرَجِلِكَ) بكسر الجيم، والباقون: بإسكانِها، وهما لغتان (١).
﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ﴾ المحرَّمَةِ؛ كالربا والغُصوب ﴿وَالْأَوْلَادِ﴾ من الزنى، وما كانوا يَئدِونَهُ من البناتِ، ويُهَوِّدونه ويُمَجِّسونه ويُنَصِّرونه من أولادِهم.
﴿وَعِدْهُمْ﴾ بما لا يتمُّ لهم، وبأنهم غَيْرُ مبعوثينَ، فهذهِ مشاركَةٌ في النفوسِ.
﴿وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ باطِلًا؛ لأنه لا يُغْني عنهم شيئًا.
...
(١) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤٠)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٦٩٣)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٠).
[٦٥] ﴿إِنَّ عِبَادِي﴾ يعني: المخلَصينَ ﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ﴾ أي: على إغوائِهم ﴿سُلْطَانٌ﴾ قدرةٌ ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا﴾ حافِظًا لمن اعتمدَ عليه.
****
﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (٦٦)﴾.
[٦٦] ﴿رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي﴾ يسوقُ.
﴿لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ﴾ لتطلبوا من رزقِه.
﴿إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا﴾ حيثُ هَيَّأَ لكم ما تحتاجونَ إليه، وسَهَّلَ عليكم ما يَعْسُرُ من أسبابِه.
...
﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (٦٧)﴾.
[٦٧] ﴿وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ﴾ خوفَ الغرقِ.
﴿ضَلَّ﴾ ذهبَ عن أوهامِكم.
﴿مَنْ تَدْعُونَ﴾ من الآلهةِ ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ فلا تدعونَ في ذلكَ الوقتِ سواهُ.
﴿فَلَمَّا نَجَّاكُمْ﴾ من الغرقِ ﴿إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ﴾ عن الإيمانِ.
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا﴾ للنعمِ، والإنسانُ هنا للجنسِ، وكلُّ واحدٍ لا يكادُ يؤدِّي شكرَ اللهِ كما يجبُ.
***
[٦٨] ﴿أَفَأَمِنْتُمْ﴾ الهمزةُ للإنكار، والفاءُ للعطفِ على محذوفٍ؛ أي: نجوتُم من البحرِ، فَأَمِنتُمْ ﴿أَنْ يَخْسِفَ﴾ نُغَوِّرَ.
﴿بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ﴾ ناحِيَتَهُ عن الأرضِ؛ كقارونَ.
﴿أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا﴾ ريحًا عاصِفًا ترمي بالحصباءِ، وهي الأحجارُ الصغارُ.
﴿ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا﴾ مَنْ يَتَوَكَّلُ بصرفِ ذلكَ عنكم.
...
﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (٦٩)﴾.
[٦٩] ﴿أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ﴾ أي: في البحرِ ﴿تَارَةً﴾ مرةً.
﴿أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ﴾ ريحًا شديدةً تقصفُ الشجرَ.
﴿فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا﴾ أي: تابِعًا مطالِبًا بالثأر. قرأ ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو: (أَنْ نَخْسِفَ) (أَوْ نُرْسِلَ) (أَنْ نُعِيدَكُمْ) (فَنُرْسِلَ عَلَيْكُمْ) (فَنُغْرِقَكُمْ) بالنونِ في الخمسة؛ لقوله: (عَلَيْنَا)، وقرأ الباقون: بالياءِ، سوى أبي جعفرٍ ورويسٍ في قوله: (فَنُغْرِقَكُمْ) لقوله: (إِلَّا إِيَّاهُ)، وقرأ أبو جعفرٍ، ورويسٌ عن يعقوبَ: (فَتُغَرِقَكُم) بالتاء على التأنيث، يعني: الريحَ، ورُويَ عن أبي جعفرٍ وجهُ ثانٍ: (فتُغَرِّقَكُمْ) بفتحِ
...
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (٧٠)﴾.
[٧٠] ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾ جعلْنا لهم شَرَفًا وفَضْلًا، وهذا هو كرمُ نفيِ النقصانِ، لا كرمُ المالِ، قالَ ابنُ عباسٍ: "هو أنَّهم يأكلونَ بالأيدي، وغيرُ الآدميِّ يأكلُ بفيهِ منَ الأرضِ" (٣).
﴿وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ﴾ على الدوابِّ ﴿وَالْبَحْرِ﴾ على السُّفُنِ.
﴿وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ﴾ لذيذِ المطاعمِ والمشاربِ.
﴿وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ وظاهرُ الآيةِ أن فضلَهم على كثيرٍ ممن خلقه، لا على الكُلِّ، وقال قومٌ: فُضِّلوا على جميعِ الخلقِ إلَّا على الملائكةِ، وقيلَ: إلَّا على جبريلَ وميكائيلَ وإسرافيلَ وملكِ الموتِ وأشباهِهم، وفي تفضيلِ الملائكةِ على البشرِ اختلافٌ، والتفضيلُ حقيقةً لا يعلمُه إلا الله ومن شاءَ من خلقِه، وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ عندَ تفسيرِ قولِه
(٢) انظر: "تفسير القرطبي" (١٠/ ٢٩٣)، و"البحر المحيط" لأبي حيَّان (٦/ ٦١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٢).
(٣) انظر: "تفسير البغوي" (ص: ٦٩٦).
...
﴿يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (٧١)﴾.
[٧١] ﴿يَوْمَ﴾ أي: واذكرْ يومَ.
﴿نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ﴾ أي: بمنِ ائْتَمُّوا به من نبيٍّ وغيرِه.
﴿فَمَنْ أُوتِيَ﴾ من المدعُوِّينَ ﴿كِتَابَهُ﴾ أي: كتابَ عملِه.
﴿بِيَمِينِهِ﴾ وهمُ السعداءُ.
﴿فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ﴾ أي: ما فيه من الحسناتِ، ولم يذكرِ الأشقياءَ، وإنْ كانوا يقرؤون كتبَهم أيضًا، لأنهم إذا قرؤوا ما فيها، لم يُفْصِحوا به؛ خوفًا وحياءً، بخلافِ السعداءِ، فإنهم يقرؤون كتبَهم ظاهرًا مشهورًا ويُقْرِئُونها غيرَهم سُرورًا ﴿وَلَا يُظْلَمُونَ﴾ أي: جميعُ المدعوِّينَ ﴿فَتِيلًا﴾ وهو ما في شقِّ النواةِ طولًا، وتقدَّم في سورةِ النساءِ.
...
﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (٧٢)﴾.
[٧٢] ﴿وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ﴾ الدنيا ﴿أَعْمَى﴾ عن الهدايةِ ﴿فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى﴾ عن إثباتِ الحجَّةِ ﴿وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ أَخْطَأُ طريقًا. قرأ حمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ، وورشٌ عن نافعٍ: (أَعْمَى) بالإمالةِ في الحرفينِ؛ لأن أَلفَها طرفٌ؛ لأنها بمعنى عامٍ، وهو من عَمَى
...
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (٧٣)﴾.
[٧٣] ولما طلب المشركونَ من النبيِّ - ﷺ - أن يجعلَ آيةَ رحمةٍ مكانَ آيةِ عذابٍ، وبالعكسِ، وأن يستلمَ آلهتَهم، وأن يطردَ الضعفاءَ والمساكينَ عنه، وأطمعوه في إسلامِهم، قالوا: فمالَ إلى بعضِ ذلكَ بخطراتِ القلبِ مما لا يمكن دفعُه، ولم يكنْ عَزْمًا؛ كَهَمِّ يوسفَ، والقولُ فيهما واحدٌ، وقد عفا الله عن حديثِ النفسِ، فنزل:
﴿وَإِنْ كَادُوا﴾ (٢) المعنى: إن الشأنَ قاربوا.
﴿لَيَفْتِنُونَكَ﴾ لَيَصْرِفونَكَ بخدْعِهم.
﴿عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من القرآنِ ﴿لِتَفْتَرِيَ﴾ لتتقَوَّلَ ﴿عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا﴾ لو فعلْتَ ما طلبوا منكَ ﴿لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا﴾ صديقًا.
...
(٢) انظر: "أسباب النزول" للواحدي (ص: ١٦٥).
[٧٤] ﴿وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ﴾ على الحقِّ بعصمتِنا إياكَ.
﴿لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ﴾ المعنى: لَقاربتَ أن تسكُنَ إلى قولهم.
﴿شَيْئًا قَلِيلًا﴾ دليلٌ على أنه - ﷺ - عُصِمَ ولم يَرْكَنْ إليهم في شيءٍ ما، فبعدَ أن عصمَه خاطبَه تحذيرًا لغيره، وتقديره: ولو رَكَنْتَ.
...
﴿إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (٧٥)﴾.
[٧٥] ﴿إِذًا لأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ﴾ أي: عذابِ الدنيا.
﴿وَضِعْفَ الْمَمَاتِ﴾ في الآخرةِ؛ أي: لعذبناك عذابًا مضاعَفًا في الدارينِ.
﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا﴾ مانِعًا يمنعُ عنكَ عذابَنا.
...
﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (٧٦)﴾.
[٧٦] ﴿وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ﴾ لينتزعونَكَ بسرعةٍ.
﴿مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا﴾ من أرضِ المدينةِ، قالتْ له اليهودُ: ما المدينةُ بأرضِ الأنبياءِ، إنما أرضُهم الشامُ، وهي الأرضُ المقدسةُ، ولكنك تخافُ الرومَ، فإن كنتَ نبيًّا، فاخرجْ إليها؛ فإن اللهَ سيحميكَ كما حَمَى غيرَكَ من الأنبياءِ، فنزلتِ الآيةُ.
﴿إِلَّا قَلِيلًا﴾ أي: بعدَ إِخراجك كُنَّا نُهْلِكُهم. قرأ نافعٌ، وابنُ عامرٍ، وابنُ كثيرٍ، وأبو عمرٍو، وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: (خَلْفَكَ) بفتحِ الخاءِ وإسكانِ اللامِ من غيرِ ألفٍ، وقرأ الباقون: (خِلاَفَكَ) بكسرِ الخاءِ وفتحِ اللام وألفٍ بعدَها، ومعناهما واحدٌ (٢).
...
﴿سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (٧٧)﴾.
[٧٧] ﴿سُنَّةَ﴾ نصبٌ مصدرٌ ﴿مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا﴾ أي: هذه سنتُنا أنَّ الأممَ إذا أَخْرجوا نبيَّهم، أو قتلوهُ، أُهْلِكوا.
﴿وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا﴾ لعادتِنا ﴿تَحْوِيلًا﴾ تغييرًا.
...
﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (٧٨)﴾.
[٧٨] ﴿أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ﴾ ميلِها من الزوالِ إلى الغروبِ، فيتناولُ صلاةَ الظهرِ والعصرِ ﴿إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ﴾ ظلامِه، يتناولُ المغربَ والعشاءَ.
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٣)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧٠١)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٤)، وفيها أن قراءة ابن عامر: "خلافك".
...
﴿وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (٧٩)﴾.
[٧٩] ﴿وَمِنَ اللَّيْلِ﴾ أي: وعليكَ صلاةُ بعضِ الليلِ.
﴿فَتَهَجَّدْ بِهِ﴾ أي: بالقرآنِ، والتهجُّدُ لا يكونُ إلا بعدَ النومِ.
﴿نَافِلَةً لَكَ﴾ زيادةً على الفرائضِ، وكانتْ صلاةُ الليلِ فَرْضًا على النبيِّ - ﷺ - وعلى أُمَّتِه، فَنُسخَ في حقِّ أمتِهِ بالصلواتِ الخمسِ، وبقيَ الوجوبُ في حقِّهِ، وذهبَ قومٌ إلى أنَّ الوجوبَ نُسِخَ في حقِّه كأمتِهِ.
﴿عَسَى﴾ من اللهِ واجبٌ، لأنه لا يدعُ أن يعطيَ عبادَه أو يفعلَ بهم ما أَطمَعَهم فيه.
﴿أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ﴾ يومَ القيامةِ فيقيمَك.
﴿مَقَامًا مَحْمُودًا﴾ هو مقامُ الشفاعةِ، يَغْبِطُهُ به الأولونَ والآخِرون؛ لأنَّ كلَّ مَنْ قُصِدَ من الأنبياءِ للشفاعةِ يحيدُ عنها، ويُحيلُ على غيرِه حتى يأتوا محمدًا - ﷺ - للشفاعة، فيقول: "أَنَا لَهَا" (١)، ثم يشفعُ، فَيُشَفَّعُ فيمن كانَ من أهلِها.
[٨٠] ﴿وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ﴾ المدينةَ ﴿وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ﴾ مكةَ، المعنى: حيثُما أدخلْتَني وأخرجْتَني فليكنْ بالصدقِ مِنِّي، ولا تجعلْني ذا الوجهينِ؛ فإن ذا الوجهينِ لا يجوزُ أن يكونَ أمينًا، نزلتْ حينَ أُمِرَ النبيُّ - ﷺ - بالهجرةِ (١).
﴿وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا﴾ حجةً تنصرُني على المخالِف.
...
﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (٨١)﴾.
[٨١] ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ﴾ الإسلامُ ﴿وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ بطلَ الكفُر.
﴿إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ هالِكًا عند مجيءِ الإسلام.
...
﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (٨٢)﴾.
[٨٢] ﴿وَنُنَزِّلُ﴾ قرأ أبو عمروٍ، ويعقوبُ: بإسكانِ النونِ الثانيةِ، وتخفيفِ الزايِ، والباقون: بفتحِ النونِ وتشديدِ الزاي (٢).
﴿مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ﴾ للقلوبِ من الضلالة، و (مِنْ) يصحُّ أن تكونَ
(٢) انظر: "النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٨)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٥).
﴿وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ لأنه سببُ الرحمة.
﴿وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا﴾ نَقْصًا؛ لأنهم يُنكرونَ القرآنَ فيخسرونَ.
...
﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (٨٣)﴾.
[٨٣] ونزلَ فيمنْ كان يدعو ويلجأُ إلى اللهِ في البلاءِ، ويتركُ ذلكَ في الرخاء: ﴿وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ﴾ بِسَعَةِ الرزقِ وكشفِ البلاءِ ﴿أَعْرَضَ﴾ وَلَّى عن التضرُّعِ.
﴿وَنَأَى بِجَانِبِهِ﴾ بَعُدَ بناحيتِهِ، كأنه مستغنٍ مستبدٌّ بأمرِه. قرأ أبو جعفرٍ، وابنُ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ: (وَنَاءَ) بهمزةٍ بعدَ الألفِ، مثل فاعَ وجاءَ من النَّوْءِ، وهو النهوضُ والقيامُ، والباقون: يجعلونَ الهمزةَ قبلَ الألفِ (٢)،
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧١٠)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري =
﴿وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ﴾ الشدةُ والبلاءُ ﴿كَانَ يَئُوسًا﴾ شديدَ القنوطِ من رحمةِ اللهِ تعالى.
...
﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (٨٤)﴾.
[٨٤] ﴿قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ﴾ طريقتِهِ.
﴿فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا﴾ أوضحُ طريقًا.
...
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (٨٥)﴾.
[٨٥] روى عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ: أنه كانَ مع رسولِ الله - ﷺ -، فمرَّ على حرثٍ بالمدينةِ، وإذا فيه جماعةٌ من اليهودِ، فقالَ بعضُهم لبعضٍ: سلوهُ عن الرُّوحِ، فإن أجابَ فيه، عرفتم أنه ليسَ بنبيٍّ، وذلكَ أنه كانَ عندَهم في التوراةِ أنَّ الروحَ مما انفردَ اللهُ تعالى بعلِمه، ولا يُطْلع عليه أَحَدًا من عبادِه، قال ابنُ مسعودٍ: وقالَ بعضُهم: لا تسألوه؛ لئلَّا يأتيَ فيه بشيء تكرهونه،
(١) انظر: "إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٦)، والمصادر السابقة.
قال الجمهور: وقعَ السؤالُ عن الأرواحِ التي في الأشخاصِ الحيوانيةِ ما هي؟ فالروحُ اسمُ جنسٍ على هذا، وهو الشكلُ الذي لا تفسيرَ له، وفسرَها جمهورُ المتكلمين بجسمٍ لطيفٍ مشتبكٍ بالبدنِ اشتباكَ الماءِ بالعودِ الأخضرِ، وقال كثيرٌ منهم: إنها عَرَضٌ، وهي الحياةُ التي صارَ البدنُ بوجودها حَيًّا، قالَ السَّهْرَوَرْدِيُّ: ويدلُّ للأول وصفُها في الأخبارِ بالهبوطِ والعُروج والتردُّدِ في البرزخ، وقيل: هو جبريلُ، أو ملكٌ أعظمُ منهُ ومن جميعِ الملائكة، وقيل: عيسى عليه السلام، وقيلَ: القرآنُ، قالَ ابنُ عطيةَ: والأولُ أظهرهُا وأصوبُها (٢)، قال الكواشيُّ: واختلفوا فيه، وفي ماهيته، ولم يأتِ أحدٌ منهم على دعواهُ بدليلٍ قطعيٍّ، غيرَ أنه شيءٌ بمفارقتهِ يموتُ الإنسانُ، وبملازمته له يبقى.
ثم أومأ تعالى إلى تعذُّرِ معرفتهِ حقيقةً بقوله: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي﴾ أي: من علمِه ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ﴾ أيُّها المؤمنونَ والكافرونَ.
﴿مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ في جنبِ علمِ اللهِ تعالى، فالخطابُ في هذا لجميعِ العالَم، وهو الصحيحُ.
وحُكِيَ أن عظيمَ الرومِ كتبَ إلى أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطابِ رضي الله عنه يسألهُ عن الروحِ، فكتب لهُ الإمامُ عمرُ الآيةَ الشريفة
(٢) انظر: "المحرر الوجيز" (٣/ ٤٨٢).
...
﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (٨٦)﴾.
[٨٦] ﴿وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ من القرآنِ كما منعْنا علمَ الروحِ عنكَ وعن غيرِكَ، اللامُ في (لَنَذْهَبَنَّ) جوابُ قسمٍ محذوفٍ مع نيابتِه عن جزاءِ الشرطِ، تقديرُه: واللهِ إنْ شِئْنا ذَهَبْنا بالقرآنِ، ومَحَوْناهُ من الصدورِ والمصاحِف.
﴿ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا﴾ أي: من يتوكَلُ بردِّ القرآن إليك.
...
﴿إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (٨٧)﴾.
[٨٧] ﴿إِلَّا رَحْمَةً﴾ استثناء منقطع، أي: لكن لا نشاء ذلك.
﴿مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا﴾ كإنزالِه عليكَ، وإبقائِه في حفظِك.
[٨٨] ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ﴾ متظاهرين.
﴿عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ﴾ في البلاغةِ والإعجازِ.
﴿لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ﴾ لا يقدِرون على ذلكَ.
﴿وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ مُعينًا، نزلتْ حينَ قالَ الكفار: ﴿لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا﴾ [الأنفال: ٣١]، فكذَّبَهم الله عز وجل (١)؛ لأنه في أعلى طبقاتِ البلاغةِ، لا يشبهُ كلامَ الخلقِ؛ لأنه غيرُ مخلوقٍ، ولو كانَ مخلوقًا، لأَتَوا بمثلِه.
...
﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (٨٩)﴾.
[٨٩] ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا﴾ بَيَّنَّا ﴿لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ﴾ من كلِّ معنى هو كالمثلِ في غرابتِه ووقوعِه مَوْقِعًا في الأنفس. قرأ أبو عمرٍو، وحمزةُ، والكسائيُّ، وخلفٌ، وهشامٌ: (ولَقَد صَّرَّفْنَا) وشبهه بإدغامِ الدالِ في الصادِ، والباقون: بالإظهار (٢).
﴿فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا﴾ جُحودًا للحقِّ.
(٢) انظر: "الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٧).
[٩٠] ﴿وَقَالُوا﴾ أي: المشركون تَعَنُّتًا واقتراحًا بعدَما ألزمَهم الحجةَ ببيانِ إعجازِ القرآنِ، وانضمامِ غيره من المعجزاتِ إليه.
﴿لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ﴾ يا محمدُ ﴿حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا﴾ عينًا ينبعُ منها الماءُ. قرأ أبو عمرٍو: (نُؤْمِن لَّكَ) بإدغامِ النونِ في اللام (١)، وقرأ الكوفيون، ويعقوبُ: (تفجُرَ) بفتحِ التاءِ وإسكانِ الفاءِ وضمِّ الجيمِ وتخفيفِها؛ لأنَّ الينبوعَ واحدٌ، وقرأ الباقونَ: بضمِّ التاءِ وفتحِ الفاءِ وكسرِ الجيمِ وتشديدِها؛ من التفجير، واتفقوا على تشديدِ قوله: (فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ) لأنها جمع، والتشديدُ يدلُّ على التكثيرِ، ولقوله: (تَفْجِيرًا) (٢).
...
﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (٩١)﴾.
[٩١] ﴿أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ﴾ بستانٌ ﴿مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا﴾ وَسْطَها ﴿تَفْجِيرًا﴾ تشقيقًا.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٤)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧١٤)، و"النشر في القراءات العشر" لابن الجزري (٢/ ٣٠٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٣٧).
[٩٢] ﴿أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا﴾ قرأ نافع، وأبو جعفرٍ، وابنُ عامرٍ: (كِسَفًا) بفتحِ السينِ جمعُ كِسْفِة؛ أي: قطعة، وقرأ الباقون: بالإسكانِ على التوحيد، جمعُه أكسافٌ وكسوفٌ (١).
﴿أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا﴾ ضَمينًا لصحةِ قولكَ.
﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (٩٣)﴾.
[٩٣] ﴿أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ﴾ ذهبٍ ﴿أَوْ تَرْقَى﴾ تصعَدَ.
﴿فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ﴾ لصعودِك.
﴿حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ﴾ فيهِ تصديقُك.
﴿قُلْ﴾ قرأ ابنُ كثيرٍ، وابنُ عامرٍ: (قَالَ) بالألف إخبارًا عن النبيِّ - ﷺ -، وكذا هو في مصاحفِ أهلِ مكةَ والشامِ، وقرأ الباقون: (قُلْ) بغيرِ ألفٍ على الأمرِ، وكذا هو في مصاحِفِهم؛ أي: قلْ يا محمدُ (٢):
﴿سُبْحَانَ رَبِّي﴾ تنزيهًا للهِ من أن يتحكَّمَ عليه، أو تعجُّبًا من اقتراحاتِهم.
(٢) المصادر السابقة.
...
﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (٩٤)﴾.
[٩٤] ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ﴾ أي: أهلَ مكةَ.
﴿أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى﴾ القرآنُ.
﴿إِلَّا أَنْ قَالُوا﴾ جَهْلًا مهم: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾ ولم يبعثْ مَلَكًا؟ فلا نؤمنُ به.
...
﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (٩٥)﴾.
[٩٥] فردَّ تعالى عليهم بقوله: ﴿قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ﴾ كَمَشْي الإنسِ؛ أي: لو سكنَ الأرضَ ملائكةٌ، واستقرُّوا فيها.
﴿لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾ لأن رسولَ كلِّ قومٍ من جنسِهم؛ لأنَّ القلبَ إلى الجنسِ أميلُ منهُ إلى غيرِ الجنسِ.
...
﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (٩٦)﴾.
[٩٦] ﴿قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ﴾ أني رسولُه إليكم.
...
﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (٩٧)﴾.
[٩٧] ﴿وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ﴾ أثبتَ نافع، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو الياءَ في (المهتدي) وَصْلًا، ويعقوبُ في الحالينِ، وحذفَها الباقونَ فيهما (١).
﴿وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ﴾ يَهْدونهم.
﴿وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ﴾ أي: يُسْحبون عليها في النار، قيلَ للنبيِّ - ﷺ -: كيفَ يمشونَ على وجوهِهِمْ؟ قالَ: "الَّذِي أَمْشَاهُمْ عَلَى أَقْدَامِهِمْ قَادِرٌ أَنْ يُمْشِيَهُمْ عَلَى وُجُوهِهِمْ" (٢) ﴿عُمْيًا﴾ لا يُبْصرون ما يُقِرُّ أعينَهم ﴿وَبُكْمًا﴾ لا ينطقونَ بحجَّةٍ ﴿وَصُمًّا﴾ لا يسمعون ما يلتذُّونَ به.
﴿مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ﴾ سكنَ لهيبُها.
(٢) رواه البخارى (٤٤٨٢)، كتاب: التفسير، باب قوله: ﴿الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ...﴾، ومسلم (٢٨٠٦)، كتاب: صفة القيامة والجنة والنار، باب: يحشر الكافر على وجهه، عن أنس بن مالك -رضي الله عنه-.
...
﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (٩٨)﴾.
[٩٨] ﴿ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا﴾ تقدَّمَ تفسيرُ نظيرِها، والتنبيهُ على مذاهبِ القراء فيها في السورةِ.
...
﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (٩٩)﴾.
[٩٩] فأجابهم اللهُ تعالى بقوله: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ﴾ في عظمها وشدَّتها.
﴿قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ﴾ في صغرِهم وضعفهم.
﴿وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا﴾ وَقْتًا لعذابِهم.
﴿فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا﴾ عِنادًا.
...
﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (١٠٠)﴾.
[١٠٠] ﴿قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ﴾ المعنى: لو مَلَكْتُم ﴿خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي﴾ أي: رزقِهِ. قرأ نافعٌ، وأبو جعفرٍ، وأبو عمرٍو: (رَبِّيَ) بفتحِ الياءِ، والباقون: بإسكانها (١).
﴿إِذًا لأَمْسَكْتُمْ﴾ لَبَخِلْتُم ﴿خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ﴾ والفاقةِ.
﴿وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا﴾ ضَيِّقًا بخيلًا.
...
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا (١٠١)﴾.
[١٠١] ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ﴾ أي: دلالاتٍ واضحاتٍ، وهي في قولِ جمهورِ المفسِّرين: بياضُ اليد، والعصا، والطوفانُ، والجرادُ، والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدَّمُ، وحَلُّ عقدةٍ من لسانِه، وانفلاقُ البحرِ.
﴿فَاسْأَلْ﴾ يا محمدُ مَنْ آمنَ من ﴿بَنِي إِسْرَائِيلَ﴾ كعبدِ اللهِ بنِ سلامٍ وأصحابِه؛ لتحتجَّ بهِ على مَنْ لم يؤمنْ. قرأ ابنُ كثيرٍ، والكسائيُّ، وخلفٌ: (فَسَلْ) بالنَّقْلِ، والباقون: بالهمز (٢).
﴿إِذْ جَاءَهُمْ﴾ موسى. قرأ أبو عمرٍو، وهشامٌ عن ابنِ عامرٍ: (إذ جاءَهُمْ)
(٢) انظر: "البحر المحيط" لأبي حيان (٦/ ٨٥)، و"الغيث" للصفاقسي (ص: ٢٧٦)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٧٦)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٠).
﴿فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لأَظُنُّكَ يَامُوسَى مَسْحُورًا﴾ سُحِرْتَ، فتخبَّطَ عقلُكَ.
...
﴿قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (١٠٢)﴾.
[١٠٢] ﴿قَالَ﴾ موسى: ﴿لَقَدْ عَلِمْتَ﴾: قرأ الكسائيُّ: (عَلِمْتُ) بضم التاء، يخبرُ عن نفسِه أنه ليسَ بمسحورٍ، وأنَّ ما جاء به حقٌّ، وقرأ الباقون: بفتح التاءِ خطابًا لفرعونَ (٢)؛ لأنه كان في حِجْرِهِ، ولم يكنْ رأى منهُ شيئًا يدلُّ على ذلك؛ أي: لقد علمتَ أَني لستُ بمسحورٍ.
﴿مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ﴾ الآياتِ التسعَ ﴿إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾ ولكنَّك عانَدْتَ. واختلافُ القراء في (هَؤُلاَءِ إِلَّا) كاختلافِهم في (هَؤُلاَءِ إِنْ كُنْتُمْ) في سورةِ البقرةِ ﴿بَصَائِرَ﴾ بيناتٍ تبُصِّرُكَ صِدْقي، وانتصابُه على الحال ﴿وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا﴾ هالِكًا ملعونًا.
...
(٢) انظر: "السبعة" لابن مجاهد (ص: ٣٨٥)، و"التيسير" للداني (ص: ١٤١)، و"تفسير البغوي" (٢/ ٧٢٠)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٠ - ٣٤١)، وقراءة نصب التاء أصح في المعنى، وعليه أكثر القرَّاء؛ لأن موسى لا يحتج عليه بعلم نفسه، ولا يثبت عن عليٍّ رضي الله عنه رفع التاء؛ لأنه روي عن رجل من مراد -وهو كلثوم المرداوي وهو مجهول- عن علي، ولم يتمسك بها أحد من القراء غير الكسائي. اهـ كذا قاله البغوي.
[١٠٣] ﴿فَأَرَادَ﴾ فرعونُ ﴿أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ﴾ أي: يخرجَهم: موسى وقومَه.
﴿مِنَ الْأَرْضِ﴾ أرص مصرَ ﴿فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا﴾ تأكيدٌ.
...
﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (١٠٤)﴾.
[١٠٤] ﴿وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ﴾ من بعدِ إهلاكِه.
﴿لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ﴾ أي: أرضَ الشامِ ومصرَ.
﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ﴾ وهي الساعةُ.
﴿جِئْنَا بِكُمْ﴾ من قبورِكم إلى موقفِ القيامةِ ﴿لَفِيفًا﴾ جَمْعًا مختلِطين.
...
﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (١٠٥)﴾.
[١٠٥] ﴿وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ﴾ يعني: القرآنَ، أنزلناهُ بالدينِ القائمِ وبالأمرِ الثابتِ.
﴿وَبِالْحَقِّ﴾ بالأوامرِ والنواهي ﴿نَزَلَ﴾ القرآنُ.
﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا﴾ للمطيعينَ ﴿وَنَذِيرًا﴾ للعاصينَ.
***
[١٠٦] ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ﴾ قراءة العامةِ: (فَرَقْنَاهُ) بتخفيفِ الراء؛ أي: بَيَّنَّاه وأوضَحْناه، وقرأ أبانُ عن عاصمٍ: بتشديد الراء، أي: أنزلناهُ نُجومًا شيئًا بعدَ شيءٍ (١).
﴿لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ﴾ قراءةُ العامةِ: (مُكْثٍ) بضمِّ الميمِ، وقرأ أبانُ عن عاصمٍ: بفتحِ الميمِ، وهما لغتان (٢) معناهما تُؤَدَةٌ وتثَبُّتٌ لِيفهموهُ.
﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾ حسبَ الحوادثِ.
...
﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (١٠٧)﴾.
[١٠٧] ﴿قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا﴾ تهديدٌ ووعيدٌ وتحقيرٌ للكفارِ.
﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ أي: من قبلِ القرآنِ، وهم العلماءُ الذين قرؤوا الكتبَ السابقةَ، وعرفوا حقيقةَ الوحيِ وأمارةَ النبوَّةِ.
﴿إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ﴾ القرآنُ ﴿يَخِرُّونَ﴾ يسقُطونَ ﴿لِلْأَذْقَانِ﴾ أي: عليها، والأذقانُ جمعُ ذَقَنٍ، وهو مجمَعُ اللَّحْيَيْنِ.
﴿سُجَّدًا﴾ تعظيمًا لله تعالى، ونصبهُ على الحال.
(٢) ذكر هذه القراءة العكبري في "إملاء ما منَّ به الرحمن" (٢/ ٥٣)، والفخر الرازي في "تفسيره" (٢١/ ٦٨)، و"معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٢)، عن ابن محيصن، وهي قراءة شاذة.
[١٠٨] ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا﴾ عن خلفِ الموعدِ.
﴿إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ كائِنًا لا محالةَ.
...
﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (١٠٩)﴾.
[١٠٩] ﴿وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ﴾ كَرَّرَ القولَ لتكرُّرِ الفعلِ منهم، وهذه مبالغةٌ ومدحٌ لهم، وذكرَ الذقنَ؛ لأنها أقربُ ما في رأسِ الإنسانِ إلى الأرضِ، لا سيما عندَ سجودِه.
﴿وَيَزِيدُهُمْ﴾ القرآنُ ﴿خُشُوعًا﴾ تَواضُعًا، وهذا محلُّ سجودٍ بالاتِّفاقِ، وتقدَّمَ اختلافُ الأئمةِ في سجودِ التلاوةِ وحكمِه، وسجودِ الشكرِ آخرَ سورةِ الأعرافِ مستوفًى.
...
﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (١١٠)﴾.
[١١٠] قال ابنُ عباسٍ رضي الله عنه: "سجدَ رسولُ الله - ﷺ - بمكةَ ذاتَ ليلةٍ فجعلَ يقولُ في سجودِهِ يا اللهُ يا رَحْمَنُ"، فقال أبو جهلٍ: إن محمدًا ينهانا عن آلِهتنا، وهو يدعو إلهينِ، فأنزل اللهُ: ﴿قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ﴾ (١) المعنى: أنهما اسمانِ لواحدٍ، فإنْ دعوتموهُ باللهِ، فهو ذلكَ،
﴿أَيًّا مَا تَدْعُوا﴾ و (ما) صلةٌ، مجازُه: أَيًّا تَدْعو؛ كقولهِ (عَمَّا قَلِيل) و (جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ)، وتقديرهُ: أيَّ الأسماءِ تدعو به، فأنتَ مصيبٌ، ووقفَ حمزةُ، والكسائيُّ، ورويسٌ عن يعقوبَ على قوله: (أيًّا) دونَ (ما)، وعَوَّضُوا من التنوينِ ألفًا، ويبتدِئون (مَا تَدْعُوا) بتقدير: الذي تدعوهُ، ووقفَ الباقونَ على (ما) (٢).
﴿فَلَهُ﴾ سبحانَه ﴿الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى﴾ التي تقتضي أفضلَ الأوصافِ.
﴿وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ﴾ أي: بقراءتك في صلاتِك، فَيَسُبَّكَ المشركونَ.
﴿وَلَا تُخَافِتْ بِهَا﴾ ولا تُخْفيها عن أصحابِك المصلِّينَ معكَ.
﴿وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ﴾ الفعلِ، وهو الجهرُ، والمخافة.
﴿سَبِيلًا﴾ طريقًا وَسَطًا.
...
﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (١١١)﴾.
(٢) انظر: "التيسير" للداني (ص: ٦١)، و"إتحاف فضلاء البشر" للدمياطي (ص: ٢٨٧)، و "معجم القراءات القرآنية" (٣/ ٣٤٣).
﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ﴾ في الألوهيةِ ﴿وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ﴾ أي: لم يَذِلَّ فيحتاجَ إلى وَليٍّ يتعزَّزُ به، وهو ردٌّ على العربِ في قولهم: لولا أولياءُ الله لَذَلَّ.
﴿وَكَبِّرْهُ﴾ عن أنْ يكونَ له شريكٌ أو وَلِيٌّ ﴿تَكْبِيرًا﴾ قال عمرُ رضي الله عنه: "قَوْلُ العبدِ: اللهُ أكبرُ، خيرٌ من الدنيا وما فيها"، وهي أبلغُ لفظةٍ للعربِ في معنى التعظيمِ والإجلالِ، ثم أَكَّدَها بالمصدر تحقيقًا لها وإبلاغًا في معناها، والله أعلم (٢).
...
(٢) إلى هنا تم الجزء الأول من تجزئة المؤلف لتفسيره، والمكون من جزأين، وجاء في آخره: "قال جامعه عفا لله عنه بكرمه: وكان الفراغ من جمع هذا الجزء عقب صلاة الظهر من يوم الخميس الثالث والعشرين من شهر صفر ختم بالخير والظفر سنة أربع عشرة وتسع مئة من الهجرة الشريفة النبوية المحمدية على صاحبها أفضل الصلاة والسلام والتحية والبركة والإكرام وكان جمعه بالمسجد الأقصى الشريف شرفه الله وعظمة بقبة موسى عمَّرها الله بذكره ووافق الفراغ من تبيضه عقب صلاة الظهر من يوم السبت السابع والعشرين من جمادى الأولى سنة سبع عشرة وتسع مئة، الحمد لله وحده وصلواته على من لا نبي بعده محمد وآله وصحبه وسلامه، حسبنا الله ونعم الوكيل".
* هذا وقد وقع في النسخة الخطية "ش" خرم من قوله: "واستعارة الشفاء للقرآن هو بحسب إزالته للريب، وكشفه غطاء القلب لفهم المعجزات" (ص: ١٢٥) من هذا المجلد إلى هنا.
مكيةٌ في قولِ جميعِ المفسرينَ، ورُويَ عن فرقةٍ أنَّ أولَ السورةِ نزلَ بالمدينةِ إلى قوله: ﴿جُرُزًا﴾ والأولُ أصحُّ، آيها: مئةٌ وعشر (١) آياتٍ، وحروفُها: ستةُ آلافٍ وثلاثُ مئةٍ وستون حرفًا، وَكَلِمُها: ألفٌ وخمسُ مئةٍ وسبعُ وسبعونَ كلمةً، وهي من أفضل سورِ القرآنِ، ورُوي عن رسولِ اللهِ - ﷺ - قال: "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِسُورَةٍ عِظَمُها كَمَا بَيْنَ السَّمَواتِ وَالأَرْضِ، وَلمن جَاءَ بِهَا من الأجر مِثْلَ ذَلِكَ؟ " قالوا: أَيُّ سورةٍ هيَ يا رسولَ اللهِ؟ قالَ: "سُورَةُ الْكَهْفِ، مَنْ قَرَأَ بِهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ الأُخْرَى وَزِيَادَةُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ، ومَنْ قَرَأَ بِهَا، أُعْطِي نُورًا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، وَوُقِيَ بِهَا فِتْنَةَ الدَّجَّالِ (٢) " (٣).
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)﴾.(٢) في "ت": "القبر".
(٣) رواه ابن الضريس في "فضائل القرآن" عن إسماعيل بن أبي رافع بلاغًا، كما ذكر السيوطي في "الدر المنثور" (٥/ ٤٧٥).